روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الأربعاء، 25 مايو 2022

مجلد1.و 2. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

 

مجلد 1. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

مقدمة التفسير للعلامة الزمخشري
(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله بحسب المصالح منجما، وجعله بالتحميد مفتتحا وبالاستعاذة مختتما وأوحاه على قسمين متشابها ومحكما وفصله سورا وسوره آيات.
وميز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفات مبتدئ مبتدع، وسمات منشئ مخترع فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم أنشأه كتابا ساطعا تبيانه، قاطعا برهانه وحيا ناطقا ببينات وحجج، قرآنا عربيا غير ذى عوج مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقا لما بين يديه من الكتب السماوية معجزا باقيا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرا من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء ولم ينبض «1» منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة، وإلقائهم الشراشر «2» على المعازة والمعارة ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر وقد جرد لهم الحجة أولا، والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده، على أن السيف القاضب مخراق لاعب إن لم تمض الحجة حده فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب «3» ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب.
__________
(1) . قوله «ولم ينبض» أى يتحرك كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «الشراشر» في الصحاح: الشراشر الأثقال، الواحدة شرشرة. يقال: ألقى عليه شراشره حرصا ومحبة. وفيه: العرارة شدة الحرب، واسمه للسودد. (ع)
(3) . قوله «فطم على الكواكب» في الصحاح: الكوكب النجم، وكوكب الشيء معظمه، وكوكب الروضة نورها والمعنى الأخير هو المراد هنا، والأول هو ما يأتي. (ع)

(المقدمة/1)


والصلاة [والسلام] على خير من أوحى إليه حبيب الله أبى القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ذى اللواء المرفوع في بنى لؤى. وذى الفرع المنيف في عبد مناف بن قصى المثبت بالعصمة، المؤيد بالحكمة، الشادخ «1» الغرة الواضح التحجيل، النبى الأمى المكتوب في التوراة والإنجيل وعلى آله الأطهار، وخلفائه من الأختان والأصهار، وعلى جميع المهاجرين والأنصار.
اعلم أن متن كل علم وعمود كل صناعة- طبقات العلماء فيه متدانية، وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية، إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطإ يسيرة، أو تقدم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة وإنما الذي تباينت فيه الرتب، وتحاكت فيه الركب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل، حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عد ألف بواحد- ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر، ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر، ومن غوامض أسرار، محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم، وإلا واسطتهم وفصهم، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح «2» من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذى علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ كثير المطالعات، طويل المراجعات قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه فارسا في علم الإعراب، مقدما في حملة الكتاب وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها يقظان النفس دراكا للمحة وإن لطف
__________
(1) . قوله «الشادخ الغرة» في الصحاح: شدخت الغرة، إذا اتسعت. (ع)
(2) . قوله «بما يبهر الألباب القوارح» في الصحاح: قرح الجافر، إذا انتهت أسنانه، وكل ذى حافر يقرح، وكل ذى خف يبزل. (ع)

(المقدمة/2)


شأنها، متنبها على الرمزة وإن خفى مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض «1» بتلقيح بنات الفكر قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه.
ولقد رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية «2» العدلية، الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية، كلما رجعوا إلى في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب، أفاضوا في الاستحسان والتعجب واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك حتى اجتمعوا إلى مقترحين أن أملى عليهم (الكشف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) فاستعفيت، فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد والذي حدانى على الاستعفاء على علمى أنهم طلبوا ما الإجابة إليه على واجبة لأن الخوض فيه كفرض العين ما أرى عليه الزمان من رثاثة أحواله وركاكة رجاله وتقاصر هممهم عن أدنى عدد هذا العلم فضلا أن تترقى إلى الكلام المؤسس على علمى المعاني والبيان، فأمليت عليهم مسألة في الفواتح، وطائفة من الكلام في حقائق سورة البقرة وكان كلاما مبسوطا كثير السؤال والجواب طويل الذيول والأذناب، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم وأن يكون لهم منارا ينتحونه ومثالا يحتذونه، فلما صمم العزم على معاودة جوار الله والإناخة بحرم الله فتوجهت تلقاء مكة، وجدت في مجتازى بكل بلد من فيه مسكة من أهلها- وقليل ما هم- عطشى الأكباد إلى العثور على ذلك المملى، متطلعين إلى إيناسه، حراصا على اقتباسه، فهز ما رأيت من عطفي وحرك الساكن من نشاطي، فلما حططت الرحل بمكة إذا أنا بالشعبة السنية، من الدوحة الحسنية: الأمير الشريف الإمام شرف آل رسول الله أبى الحسن على بن حمزة بن وهاس، ادام الله مجده، وهو النكتة والشامة في بنى الحسن مع كثرة محاسنهم وجموم مناقبهم- أعطش الناس كبدا وألهبهم حشى وأوفاهم رغبة، حتى ذكر أنه كان يحدث نفسه- في مدة غيبتي عن الحجاز مع تزاحم ما هو فيه من المشادة- بقطع الفيافي وطى المهامه والوفادة علينا بخوارزم ليتوصل إلى إصابة هذا الغرض فقلت قد ضاقت على المستعفى الحيل، وعيت به العلل ورأيتنى قد أخذت منى السن، وتقعقع الشن، وناهزت العشر التي سمتها العرب دقاقة الرقاب، فأخذت في طريقة أخصر من الأولى مع ضمان التكثير من الفوائد
__________
(1) . قوله «غير ريض» في الصحاح: ناقة ريض، أول ما ريضت وهي صعبة بعد. (ع)
(2) . قوله «من أفاضل الفئة الناجية» هي التي سماها أهل السنة بالمعتزلة، فقوله «إخواننا في الدين» يقتضى أنه من المعتزلة. ولذا تراه في مسائل الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة يقول بقول المعتزلة، فإذا كان ظاهر الآية يوافقهم أبقاها على ظاهرها، وإذا كان يخالفهم صرفها عن ظاهرها إلى معنى يوافقهم، عفى الله عنه. (ع)

(المقدمة/3)


والفحص عن السرائر، «1» ووفق الله وسدد ففرغ منه في مقدار مدة خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه «2» وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، وما هي إلا آية من آيات هذا البيت المحرم، وبركة أفيضت على من بركات هذا الحرم المعظم أسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه منه سببا ينجيني، ونورا لي على الصراط يسعى بين يدي وبيميني ونعم المسئول.
__________
(1) . قوله «والفحص عن السرائر» لعله «الشرائد» أو «الشدائد» . (ع)
(2) . «قوله ففرغ منه في مقدار خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه: وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة» كانت مدة خلافة أبى بكر رضى الله عنه سنتين وثلاثة أشهر على الصواب وكأنه لمح بذكر الثلاثين إلى حديث سفينة مرفوعا «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» أخرجه الترمذي وغيره. فكأنه قال يقدر تمامه في مدة الخلفاء الراشدين فيسره الله في قدر مدة أولهم وأفضلهم. وكانت أيضا أقصر كل من الثلاثة الذين بعده لأن خلافة عمر رضى الله عنه كانت عشرا وأشهرا، وعثمان رضى الله عنه اثنى عشرة سنة، وعلى رضى الله عنه خمس سنين إلا أشهرا. وقتل على رضى الله عنه بعد النبي صلى عليه وسلم بتسع وعشرين سنة ونصف، وأكمل النصف مدة الحسن بن على رضى الله عنه، والله أعلم،؟؟؟ من تخريج الأحاديث للحافظ ابن حجر.

(المقدمة/4)


بسم الله الرحمن الرحيم (1)

الجزء الأول

سورة فاتحة الكتاب
مكية. وقيل مكية ومدنية لأنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى. وتسمى أم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهى، ومن الوعد والوعيد. وسورة الكنز والوافية لذلك. وسورة الحمد والمثاني لأنها تثنى في كل ركعة. وسورة الصلاة لأنها تكون فاضلة أو مجزئة بقراءتها فيها. وسورة الشفاء والشافية. وهي سبع آيات بالاتفاق، إلا أن منهم من عد أنعمت عليهم دون التسمية، ومنهم من مذهبه على العكس.

[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
قراء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، كما بدأ بذكرها في كل أمر ذى بال، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله، ولذلك يجهرون بها. وقالوا:
قد أثبتها السلف في المصحف مع توصيتهم بتجريد القرآن، ولذلك لم يثبتوا (آمين) فلولا أنها من القرآن لما أثبتوها. وعن ابن عباس: «من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى» «1» .
__________
(1) . موقوف، ليس بمعروف عنه، والذي في الشعب للبيهقي عنه: «من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله» . وتعقب ابن الحاجب ما أورده الزمخشري بأن قال: «الصواب مائة وثلاث عشرة» وبهذا اللفظ ذكر الشهرزوري في المصباح. وزاد: وإنما لم يقل «أربع عشرة» لأن براءة لا بسملة فيها، انتهى. روى البيهقي في الشعب عن أحمد بن حنبل أنه قال: «من لم يقل مع كل سورة بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله تعالى» . قلت: وقفت على سبب الغلط في منقول الزمخشري. وذلك أن الحاكم روى في ترجمة عبد الله بن المبارك بسند له عن على القاشاني قال: «رأيت عبد الله بن المبارك يرفع يديه في أول تكبيرة على الجنازة ثم الثانية أخفض قليلا والصلوات مثل ذلك» . قال على قال عبد الله «من ترك بسم الله الرحمن الرحيم في فواتح السور فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية» . قال عبد الله: وأخبرنا حنظلة بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضى الله عنه قال: «من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله تعالى» . فلما لم يخص ابن عباس سورة حمله ابن المبارك على الكل إلا براءة فكان مائة وثلاث عشرة.

(1/1)


فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ قلت: بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ أو أتلو «1» لأن الذي يتلو التسمية مقروء، كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل فقال: بسم الله والبركات، كان المعنى:
بسم الله أحل وبسم الله أرتحل وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله ب «بسم الله» كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له. ونظيره في حذف متعلق الجار قوله عز وجل: (في تسع آيات إلى فرعون وقومه) ، أى اذهب في تسع آيات. وكذلك قول العرب في الدعاء للمعرس: بالرفاء والبنين، وقول الأعرابى: باليمن والبركة، بمعنى أعرست، أو نكحت. ومنه قوله:
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق نحسد الإنس الطعاما «2»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «الباء في البسملة تتعلق بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ أو أتلو» قال أحمد:
رحمه الله تعالى: الذي يقدره النحاة «أبتدئ» وهو المختار لوجوه: الأول: أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، والعام صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا أو صفة أو صلة أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره، والثاني: أن تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة إذ الغرض منها أن تقع مبدأ فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل، وأنت إذا قدرت «أقرأ» فإنما تعنى أبتدئ القراءة والواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا لكن البسملة غير مشروعة في غير الابتداء. ومنها طهور فعل الابتداء في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) . وقال عليه السلام: «كل أمر خطير ذى بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» . ولا يعارض هذا ما ذكره من ظهور فعل القراءة في قوله تعالى:
(اقرأ باسم ربك) فان فعل القراءة إنما ظهر ثم لأن الأهم هو القراءة غير منظور إلى الابتداء بها. ألا ترى إلى تقدم الفعل فيها على متعلقه لأنه الأهم ولا كذلك في البسملة فان الفعل المقدر كائنا ما كان إنما يقدر بعدها، ولو قدر قبل الاسم لفات الغرض من قصد الابتداء إذا على أنه الأهم في البسملة، فوجب تقديره، وسيأتى الكلام على هذه النكتة.
(2) .
ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار ما أريد بها مقاما
سوى ترحيل راحلة وعين ... أكاليها مخافة أن تناما
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الانس الطعاما
لقد فضلتم في الأكل فينا ... ولكن ذاك يعقبكم سقاما
لسمير بن الحارث الضبي، وقيل لتأبط شرا، وقيل لشمر الغساني، وقيل للفرزدق يصف نفسه بالجرأة واقتحام المخاوف، يقول: ورب نار قد حضأتها بالحاء المهملة: أشعلتها وسعرتها، وقيل هو خضأتها، بالمعجمة، ولا أعلمه وإن ذكره بعض النحاة في باب الحكاية، وبعيد: تصغير بعد، والوهن والموهن: بمعنى الفتور أو النوم أو هدوء الصوت، وقيل: نحو نصف الليل. أى أوقدتها في جوف الليل في مفازة لا أريد إقامة بها سوى تجهيز ما يلزم لراحلتى في السفر ولأجل عين أكاليها أى أساهرها أو أحافظها، فأنا أحفظها من النوم وهي تحفظني من العدو، والضمير في أتوا: لمبهم.
ومنون استفهام، وكان حقه: من أنتم، لأنه لا يأتى بصورة الجمع إلا في الوقف، والأصل في نونه الأخيرة السكون للوزن، على أن إجراء الوصل مجرى الوقف كثير في النظم كما صرحوا به وجعلوا هذا منه، وكأن هناك قول مقدر مثل «جئناك» فحكى إعراب ضمير الفاعل فيه حتى يظهر استشهاد يونس به في الحكاية. فقالوا: نحن الجن. وكان الظاهر:
فقلت عموا. ولكن أتى به مستأنفا جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قلت لهم؟ فقال: قلت عموا، أى تنعموا في وقت الظلام، وعطف قوله «فقلت» بالفاء دلالة على التعقيب، وأما رواية «عموا صباحا» فمن قصيدة أخرى تعزى إلى خديج بن سنان الغساني ومنها:
نزلت بشعب وادى الجن لما ... رأيت الليل قد نشر الجناحا
وشبه الليل بطائر، فأثبت له ما للطائر، أو شبه الظلمة بالجناح. وقوله «إلى الطعام» أى هلموا وأقبلوا إليه. دل المقام على ذلك، فقال زعيم منهم، أى سيد وشريف: نحن نحسد الانس في الطعام أو على الطعام، فهو نصب على نزع الخافض، ويجوز أنه بدل، ويجيء «حسد» متعديا لاثنين، والطعاما: مفعوله الثاني. وقال الجوهري: الأنس هنا بالتحريك: لغة في الانس، ويجوز قراءته «الانس» على اللغة المشهورة. لقد فضلتم عنا في الأكل حال كونكم فينا أى فيما بيننا، ولكن ذاك يلحقكم سقاما في العاقبة. وهذا كله من أكاذيب العرب.

(1/2)


فإن قلت: لم قدرت المحذوف متأخرا؟ «1» قلت: لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله: إياك نعبد، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. والدليل عليه قوله:
(بسم الله مجراها ومرساها) . فإن قلت: فقد قال: (اقرأ باسم ربك) ، فقدم الفعل. قلت:
هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
فإن قلت: ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ «2» قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم، على معنى أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه
__________
(1) . قال محمود: «لم قدرت المحذوف متأخرا.. الخ» قال أحمد رحمه الله: لأنك لو ابتدأت بالفعل في التقدير لما كان الاسم مبتدأ به فيفوت الغرض من التبرك باسم الله تعالى أول نطقك. وأما إفادة التقديم الاختصاص ففيه نظر سيأتى إن شاء الله تعالى.
(2) . قال محمود: «فان قلت ما معنى تعلق اسم الله تعالى بالقراءة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وفي قوله «إن اسم الله هو الذي صير فعله معتبرا شرعا» حيد عن الحق المعتقد لأهل السنة في قاعدتين: إحداهما أن الاسم هو المسمى، والأخرى أن فعل العبد موجود بقدرة الله تعالى لا غير فعلى هذا تكون الاستعانة باسم الله معناها اعتراف العبد في أول فعله بأنه جار على يديه، وهو محل له لا غير وأما وجود الفعل فيه فبالله تعالى أى بقدرته تسليما لله في أول كل فعل والزمخشري رحمه الله لا يستطيع هذا التحقيق لاتباعه الهوى في مخالفة القاعدتين المذكورتين، فيعتقد أن اسم الله تعالى الذي هو التسمية معتبر في شرعية الفعل لا في وجوده إذ وجوده على زعمه بقدرة العبد، فعلى ذلك بنى كلامه.
أقول: دعواه أن عند أهل السنة الاسم غير المسمى ممنوعة، وتحقيقه قد ذكر في غير هذا الكتاب. [.....]

(1/3)


باسم الله فهو أبتر» «1» إلا كان فعلا كلا فعل، جعل فعله مفعولا باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم.
والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات «2» في قوله: (تنبت بالدهن) على معنى: متبركا بسم الله أقرأ، وكذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء والبنين، معناه أعرست ملتبسا بالرفاء والبنين، وهذا الوجه أعرب وأحسن فإن قلت: فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركا باسم الله أقرأ؟ قلت:
هذا مقول على ألسنة العباد، كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره، وكذلك:
الحمد لله رب العالمين- إلى آخره، وكثير من القرآن على هذا المنهاج، ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه. فإن قلت: من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفائه وغير ذلك، فما بال لام الإضافة وبائها بنيتا على الكسر؟
قلت: أما اللام فللفصل بينها وبين لام الابتداء، وأما الباء فلكونها لازمة للحرفية والجر، والاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة، لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن إذا كان دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن، لسلامة لغتهم من كل لكنة وبشاعة، ولوضعها على غاية من الإحكام والرصانة، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شيء. ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن، فقال: سم وسم. قال:
باسم الذي في كل سورة سمه»
__________
(1) . لم أره هكذا. والمشهور فيه حديث أبى هريرة من رواية قرة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه بلفظ «لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع» أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وأصحاب السنن. ولأحمد من هذا الوجه «لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع» وللخطيب في الجامع من طريق مبشر بن إسماعيل عن الزهري بلفظ «لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» والراوي له عن مبشر- مجهول
(2) . قوله «تعلق الدهن بالانبات» هذا يناسب قراءة «تنبت» من أنبت الرباعي: كما يأتى. (ع)
(3) .
باسم الذي في كل سورة سمة ... قد وردت على طريق تعلمه
أرسل فيها بازلا يقرمه ... فهو بها ينحو طريقا يعلمه
لرؤبة بن العجاج يصف إبلا. ولفظ «اسم» من الألفاظ العشرة التي سمع بناء أوائلها على السكون كابن وامرئ، فإذا ابتدءوا بها زادوا همزة الوصل ولا حاجة لها في الدرج، وسمع تحريك أول بعضها كما في سمه بتثليث أوله وباسم متعلق بأرسل وباؤه للملابسة. وضمير وردت للسورة. وضمير تعلمه بالفوقية لله على طريق الالتفات إلى الخطاب، ويمكن أنه لمخاطب مبهم، وعلى روايته بالتحتية فالضمير لله فقط. ويحتمل من بعد أن ضمير وردت للإبل فكذلك تعلمه بالفوقية، وأما بالتحتية فضميره لله أو للراعي. والبازل: الذي انشق نابه من الإبل وذلك في السنة التاسعة وربما يزل في الثامنة، وقرم الى اللحم ونحوه: اشتاق إليه. والتقريم والاقرام: التشويق إليه والجملة حال من الراعي المرسل أو صفة لبازل، وعليه فلم يبرز ضمير الفاعل لأمن اللبس. فهو أى البازل وينحو: أى يقصد بها، والباء للظرفية أو للتعدية إلى المفعول به كذهبت بزيد، ويجوز أن الضمير للراعي فالباء للتعدية فقط. وروى «نزلت» بدل «وردت» وهو يؤيد جعل الضمير للسورة، وروى البيت الثاني قبل الأول.
والمعنى أرسل فيها الراعي ملتبسا بذكر اسم الله بازلا حال كونه يشوقه إليها باعفائه من العمل وحبسه عن الإبل ثم إرساله فيها، فذلك البازل يقصد بها طريق يعرفه وهو طريق الضراب، وعلم ما لا يعقل مجاز عن اهتدائه إلى منافعه، على طريق الاستعارة التصريحية والمجاز المرسل، أو شبهه بالعاقل على طريق المكنية، فالعلم تخييل لذلك التشبيه. وكون اسمه تعالى في كل سورة ظاهر على القول بأن البسملة آية من كل سورة، وإلا ورد مثل سورة العصر. وربما يدفع إيطاء القافية باختلافها في الفاعل وفي معنى المفعول وفي الحقيقة والمجاز.

(1/4)


وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز: كيد ودم، وأصله: سمو، بدليل تصريفه: كأسماء، وسمى، وسميت. واشتقاقه من السمو، لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره، ومنه قيل للقب النبز: من النبز بمعنى النبر، وهو رفع الصوت. والنبز قشر النخلة الأعلى. فإن قلت: فلم حذفت الألف في الخط وأثبتت في قوله: باسم ربك؟ قلت: قد اتبعوا في حذفها حكم الدرج دون الابتداء الذي عليه وضع الخط لكثرة الاستعمال، وقالوا: طولت الباء تعويضا من طرح الألف. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه: طول الباء وأظهر السنات ودور الميم. و (الله) أصله الإله. قال:
معاذ الاله أن تكون كظبية «1»
ونظيره: الناس، أصله الأناس. قال:
إن المنايا يطلع ... ن على الأناس الآمنينا «2»
فحذفت الهمزة وعوض منها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: يا الله بالقطع، كما يقال:
__________
(1) .
معاذ الاله أن تكون كظبية ... ولا دمية ولا عقيلة ربرب
ولكنها زادت على الحسن كله ... كمالا ومن طيب على كل طيب
للبعيث بن حريث في محبوبته أم السلسبيل، يقال: عاذ عياذا وعياذة ومعاذا وعوذا، إذا التجأ إلى غيره، فالمعاذ مصدر نائب عن اللفظ بفعله، والدمية: الصنم والصورة من العاج ونحوه المنقوشة بالجواهر. وعقيلة كل شيء: أكرمه.
والربرب: القطيع من بقر الوحش: شبه محبوبته بالظبية وبالدمية وبالعقلية في نفسه، ثم وجدها أحسن منها فرجع عن ذلك والتجأ إلى الله منه كأنه أثم أو المعنى لا أشبهها بذلك وإن وقع من الشعراء. وأتى بلا المؤكدة لما قبلها من معنى النفي أى ليست كظبية ولا دمية ولا عقيلة ربرب ولكنها زادت كمالا على الحسن المعروف كله، أو زادت على الحسن الحسى كمالا معنويا، وزادت من الطيب على كل طيب.
(2) . شبه المنايا بأناس يبحثون عمن استحق الموت على طريق المكنية والاطلاع تخييل. والمعنى: أن المنايا تأتى الناس على حين غفلة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها. والأناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مأخوذ من الإيناس وهو الأبصار لظهورها، أو من الأنس ضد الوحشة. والآمنون: الغافلون عن مجيء المنايا، فهو مجاز مرسل.

(1/5)


يا إله، والإله- من أسماء الأجناس كالرجل والفرس- اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وكذلك السنة على عام القحط، والبيت على الكعبة، والكتاب على كتاب سيبويه. وأما (الله) بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق، لم يطلق على غيره. ومن هذا الاسم اشتق: تأله، وأله، واستأله. كما قيل:
استنوق، واستحجر، في الاشتقاق من الناقة والحجر. فإن قلت: أاسم هو أم صفة؟ قلت:
بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه ولا تصف به، لا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل.
وتقول: إله واحد صمد، كما تقول: رجل كريم خير. وأيضا فإن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجرى عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال. فإن قلت: هل لهذا الاسم اشتقاق؟ قلت: معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد، وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم: أله، إذا تحير، ومن أخواته: دله، وعله، ينتظمهما معنى التحير والدهشة، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن، ولذلك كثر الضلال، وفشا الباطل، وقل النظر الصحيح. فإن قلت: هل تفخم لامه؟ قلت: نعم قد ذكر الزجاج أن تفخيمها سنة، وعلى ذلك العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
والرحمن فعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك الرحيم فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، «1» ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى.
وقال الزجاج في الغضبان: هو الممتلئ غضبا. ومما طن على أذنى من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟
قلت: بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى، وهو من الصفات الغالبة- كالدبران، والعيوق، والصعق- لم يستعمل في غير الله عز وجل، كما أن (الله) من الأسماء
__________
(1) . قال محمود: «وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: لا يتم الاستدلال بقصر البناء وطوله على نقصان المبالغة وتمامها، ألا ترى بعض صيغ المبالغة كفعل أحد الأمثلة أقصر من فاعل الذي لا مبالغة فيه البتة. وأما قولهم: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، فلا دلالة فيه أيضا على مبالغة رحمن بالنسبة إلى رحيم فان حاصله أن الرحمة منه بالدلالة على إتمامها ألا ترى أن ضاربا لما كان أعم من ضراب، كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا يلزم إذا من خصوص رحيم أن يكون أقصر مبالغة من رحمن لعمومه.

(1/6)


الغالبة. وأما قول بنى حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم فيه:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا «1»
فباب من تعنتهم في كفرهم. فإن قلت: كيف تقول: الله رحمن، أتصرفه أم لا؟ «2» قلت: أقيسه على أخواته من بابه، أعنى نحو عطشان وغرثان وسكران، فلا أصرفه.
__________
(1) .
سموت بالمجد يا بن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
لرجل من بنى حنيفة يمدح مسيلمة الكذاب، يقول: علوت بسبب المجد يا بن الأكرمين من جهة الأب، وليس المراد خصوصه، بل مطلق الأصل، ولو كان المراد خصوصه لأشعر بالذم، وهو تمييز للأكرمين أو تمييز لسماوات، وأنت كالغيث للورى في كثرة النفع، ولا زلت رحمانا: دعا بدوامه رحيما عليهم ورحمن خاص بالله فاطلاقه على غيره جهل أو عناد. وقيل: إن الخاص به المحلى بأل.
(2) . قال محمود رحمه الله تعالى: «فان قلت كيف تقول الله رحمن أتصرفه أم لا ... الخ» ؟ قال أحمد: ليت شعري بعد امتناع فعلانة وفعلى ما الذي عين قياسه على عطشان دون ندمان مع أن قياسه على ندمان معتضد بالأصل في الأسماء وهو الصرف؟ أقول: الذي عينه هو أن باب سكران وعطشان أكثر من باب ندمان، وإذا احتمل أن يكون من كل واحد منهما فحمله على ما هو الأكثر أولى ولأن رحمن وعطشان مشتركان في عدم وجود فعلانة، بخلاف ندمان فلهذا كان حمله على عطشان أولى، ثم قال: وقد نقل غيره خلافا في صرف رحمن مجردا من التعريف، وبناه على تعيين العلة في منع صرف عطشان هل هي وجود فعلى فيصرف رحمن، أو امتناع فعلانة فيمتنع الصرف؟ وهو أيضا نظر قاصر. وأتم منهما أن يقال: امتنع صرف عطشان وفاقا وامتناع صرفه معلل بشبه زيادتيه بألفي التأنيث، والشبه دائر على وجود فعلى وامتناع فعلانة فاما أن يجعل الأمر ان وصفى شبه بهما مجموعهما مستقل، أو كل واحد منهما مستقلا ببيان الشبه، أو أحدهما دون الآخر على البدل فهذه أربع احتمالات. فان كان مقتضى الشبه المجموع أو وجود فعلى خاصة انصرف رحمن، وإن كان كل واحد من الأمرين مستقلا أو الشبه بامتناع فعلانة خاصة منع رحمن من الصرف فلم يبق إلا تعيين ما به حصل الشبه في عطشان بين زيادتيه وبين ألفى التأنيث من الاحتمالات الأربعة، وعليه ينبنى الصرف وعدمه. والتحقيق أن كل واحد من الأمرين المذكورين مستقل باقتضاء الشبه فيمتنع صرف رحمن لوجود إحدى العلتين المتعلقتين في الشبه وهي امتناع فعلانة على هذا التقدير وإنما قلنا ذلك لأن امتناع فعلانة فيه حاصله امتناع دخول تاء التأنيث على زيادتيه كامتناع دخولهما على ألفى التأنيث فحصل الشبه بهذا الوجه.
ووجود فعلى يحقق أن مذكره مختص ببناء ومؤنثه مختص ببناء آخر، فيشبه أفعل وفعلى في اختصاص كل واحد منهما ببناء غير الآخر، فهذا وجه آخر من الشبه. ومن تأمل كلام سيبويه فهم منه ما قررته. فان قيل: محصل ذلك مناسبة كل واحد من الأمرين المذكورين لاقتضاء الشبه، فما الذي دل على استقلال كل واحد منهما علة في الشبه؟ وهلا كان المجموع علة وحينئذ ينصرف رحمن وهو أحد الاحتمالات الأربعة المتقدمة؟ قلت: امتناع صرف عمران العلم يدل علي استقلال كل واحد من الأمرين بالشبه المانع من الصرف إذ عمران علما لا فعلى له وهو غير منصرف وفاقا. أقول: قد عثر هاهنا رحمه الله وإن الجواد قد يعثر لأن اعتبار وجود فعلي أو انتفاء فعلانة إنما كان في الصفة، أما في الاسم فشرطه العلمية لا وجود فعلى ولا انتفاء فعلانة.

(1/7)


الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3)

فإن قلت: قد شرط في امتناع صرف فعلان أن يكون فعلان فعلى واختصاصه بالله يحظر أن يكون فعلان فعلى، فلم تمنعه الصرف؟ قلت: كما حظر ذلك أن يكون له مؤنث على فعلى كعطشى فقد حظر أن يكون له مؤنث على فعلانة كندمانة، فإذا لا عبرة بامتناع التأنيث للاختصاص العارض فوجب الرجوع إلى الأصل قبل الاختصاص وهو القياس على نظائره.
فإن قلت: ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة «1» ومعناها العطف والحنو ومنها الرحم لانعطافها على ما فيها؟ قلت: هو مجاز عن إنعامه على عباده لأن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، كما أنه إذا أدركته الفظاظة والقسوة عنف بهم ومنعهم خيره ومعروفه. فإن قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، «2» والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجودا فياض؟ قلت: لما قال الرحمن فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه الرحيم كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف.

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 3]
الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3)
الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها. تقول: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته.
وأما الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال:
أفادتكم النعماء منى ثلاثة ... يدي ولسانى والضمير المحجبا «3»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: ما معنى وصف الله تعالى بالرحمة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: فالرحمة على هذا من صفات الأفعال ولك أن تفسرها بارادة الخير فيرجع إلى صفات الذات وكلا الأمرين قال به الأشعرية في الرحمة وأمثالها مما لا يصح إطلاقه باعتبار حقيقته اللغوية على الله تعالى فمنهم من صرفه إلى صفة الذات، ومنهم من صرفه إلى صفة الفعل.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه ... إلخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: إنما كان القياس تقديم أدنى الوصفين لأن في تقديم أعلاهما ثم الارداف بأدناهما نوعا من التكرار إذ يلزم من حصول الأبلغ حصول الأدنى فذكره بعده غير مفيد ولا كذلك العكس فانه ترق من الأدنى إلى مزيد بمزية الأعلى لم يتقدم ما يستلزمه، ولذلك كان هذا الترتيب خاصا بالاثبات. وأما النفي فعلى عكسه تقدم فيه الأعلى. تقول: ما فلان تحريرا ولا عالما، ولو عكست لوقعت في التكرار إذ يلزم من نفى الأدنى عنه نفى الأعلى وكل ذلك مستمده في عموم الأدنى وخصوص الأبلغ، وإثبات الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفى الأعم يستلزم نفى الأخص.
(3) .
وما كان شكرى وافيا بنوالكم ... ولكنني حاولت في الجهد مذهبا
أفادتكم النعماء منى ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
أى لم يكن تعظيمي إياكم وافيا بحق عطائكم، ولكنني أردت من الاجتهاد في تعظيمكم مذهبا، وبينه بقوله: إن نعمتكم على إفادتكم من يدي ولساني وجناني، فهي وأعمالها لكم، قال السيد الشريف: هو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، وبيان أنه جعلها جزاء للنعمة، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، فكأنه قال: كثرت نعمتكم عندي فوجب على استيفاء أنواع الشكر لكم، وبالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكا لهم، وقيل: النعماء جمع للنعمة، لكن ظاهر عبارة اليد أنها بمعناها، ورواية البيت الأول بعد الثاني أحسن موقعا وأظهر استشهادا.

(1/8)


والحمد باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر، ومنه قوله عليه السلام: «الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده» «1» وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها، أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفى ويجلى كل مشتبه.
والحمد نقيضه الذم، والشكر نقيضه الكفران، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو لله وأصله النصب «2» الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم: شكرا، وكفرا، وعجبا، وما أشبه ذلك، ومنها: سبحانك، ومعاذ الله، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: (قالوا سلاما قال سلام) ، رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدده وحدوثه. والمعنى: نحمد الله حمدا، ولذلك قيل:
إياك نعبد وإياك نستعين لأنه بيان لحمدهم له، كأنه قيل: كيف تحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. فإن قلت:
ما معنى التعريف فيه؟ قلت: هو نحو التعريف في أرسلها العراك، «3» وهو تعريف الجنس،
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما به مرفوعا، وفيه انقطاع وعن ابن عباس مثله، رواه البغوي في تفسير (سبحان) وفيه نصر بن حماد. وهو ضعيف.
(2) . قال محمود رحمه الله: «الأصل في الحمد النصب ... الخ» قال أحمد: ولأن الرفع أثبت اختار سيبويه في قول القائل: رأيت زيدا فإذا له علم علم الفقهاء: الرفع، وفي مثل: رأيت زيدا فإذا له صوت صوت حمار: النصب، والسر في الفرق بين الرفع والنصب أن في النصب إشعارا بالفعل، وفي صيغة الفعل إشعار بالتجدد والطرو، ولا كذلك الرفع، فانه إنما يستدعى اسما: ذلك الاسم صفة ثابتة، ألا ترى أن المقدر مع النصب نحمد الله الحمد. ومع الرفع الحمد ثابت لله أو مستقر.
(3) . قال محمود رحمه الله: «وتعريف الحمد نحو التعريف في أرسلها العراك وهو تعريف الجنس ومعناه الخ» قال أحمد رحمه الله: تعريف التكرار باللام إما عهدى وإما جنسى، والعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معين من أفراد الجنس باعتبار يميزه عن غيره من الأفراد كالتعريف في نحو (فعصى فرعون الرسول) ، وإما أن ينصرف العهد فيه الى الماهية باعتبار يميزها عن غيرها من الماهيات كالتعريف في نحو «أكلت الخبز، وشربت الماء» ، والجنسي هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، نحو: الرجل أفضل من المرأة، وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقها، وإنما يوجبه الجنسي خاصة فالزمخشرى جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وإن كان قد عبر عنه بتعريف الجنس لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه. وغير الزمخشري جعله للجنس فقضى بافادته، لاستغراق جميع أنواع الحمد وليس ببعيد. [.....]

(1/9)


ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو، والعراك ما هو، من بين أجناس الأفعال. والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم. وقرأ الحسن البصري: (الحمد لله) بكسر الدال لإتباعها اللام. وقرأ إبراهيم بن أبى عبلة: (الحمد لله) بضم اللام لإتباعها الدال، والذي جسرهما على ذلك- والإتباع إنما يكون في كلمة واحدة كقولهم منحدر الجبل ومغيرة- تنزل الكلمتين منزلة كلمة لكثرة استعمالهما مقترنتين، وأشف القراءتين قراءة إبراهيم حيث جعل الحركة البنائية تابعة للإعرابية التي هي أقوى، بخلاف قراءة الحسن.
الرب: المالك. ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن «1» . تقول: ربه يربه فهو رب، كما تقول: نم عليه ينم فهو نم.
ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، وهو في غيره على التقيد بالإضافة، كقولهم: رب الدار، ورب الناقة، وقوله تعالى: (ارجع إلى ربك) ، (إنه ربي أحسن مثواي) . وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: (رب العالمين) بالنصب على المدح، وقيل بما دل عليه الحمد لله، كأنه قيل: نحمد الله رب العالمين.
العالم: اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، «2» وقيل: كل ما علم به الخالق من الأجسام
__________
(1) . موقوف. قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه في قصة حنين. وفيه قول صفوان هذا. ومن طريقه أخرجه ابن حبان في صحيحه. والبيهقي في الدلائل. ورواه جويرية عن مالك عن الزهري مرسلا. وأخرجه الدارقطني في الغرائب.
(تنبيه) وقع فيه أن صفوان قال ذلك لأبى سفيان. والذي في مرسل الزهري أنه قال لابن أخيه. والذي في المغازي: أنه قال لأخيه ابن أمه كلدة. وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن إسحاق.
(2) . قال محمود رحمه الله: «العالم اسم لذوي العلم من الملائكة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: تعليله الجمع بافادة استغراقه لكل جنس تحته فيه نظر فان «عالما» كما قرره: اسم جنس عرف باللام الجنسية، فصار العالم- وهو مفرد- أدل على الاستغراق منه جمعا. قال إمام الحرمين رحمه الله: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور فان التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده إلى تخيل الوجدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب. انتهي كلامه. والتحقيق في هذا وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس: أنه يفيد أمرين: أحدهما أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة. والآخر أنه مستغرق لجميع ما تحته منها لكن المفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد لاستغراق جميعها التعريف ألا ترى أنه إذا جمع مجردا من التعريف دل على اختلاف الأنواع، ثم إذا عرف أفاد استغراقا غير موقوف على الجمعية، إذ هذا حكم مفرده إذا عرف فقول الزمخشري اذا «إن فائدة جمع العالمين الاستغراق» مردود بثبوت هذه الفائدة وإن لم يجمع وقول إمام الحرمين «إن الجمع يؤيد الاشعار بالاستغراق لما نتخيله من الرد إلى الوجدان» مرود بأن فائدة الجمع الاشعار باختلاف الأنواع، واختلافها لا ينافي استغراقها بصيغة المفرد المقر من تعريف الجنس، وإن أراد أن الجمع يخيل الاشارة إلى أنواع محله معهودة فهذا الخيال يعينه من المفرد، فالعالم إذا جمع ليفيد اختلاف الأنواع المندرجة تحته من الجن والانس والملائكة، وعرف ليفيد عموم الربوبية لله تعالى في كل أنواعه وتوضيح هذا التقرير: أنا لو فرضنا جنسا ليس تحته إلا آحاد متساوية وهو الذي يسميه غير النحاة النوع الأسفل، لما جاز جمع هذا بحال، لا معرفا ولا منكرا، وبهذا الفائدة يرد قول إمام الحرمين «إن التمور جمع من حيث اللفظ» لا معنى تحته لجمع الجمع في نحو نوق ونياق وأنيق وأما تعليل الزمخشري جمعه بالواو والنون باشعاره لصفة العلم فيلحق بصفات من يعقل، فصحيح إذا بنى الأمر على أنه لا يتناول إلا أولى العلم: وأما على القول بأنه اسم لكل موجود سوى الله، فيحتاج إلى مزيد نظر في تغليب العاقل في الجمع على غير العاقل

(1/10)


مالك يوم الدين (4)

والأعراض. فإن قلت: لم جمع؟ قلت: ليشمل كل جنس مما سمى به. فإن قلت: هو اسم غير صفة، وإنما تجمع بالواو والنون صفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام.
قلت: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم.

[سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالك يوم الدين (4)
قرئ: ملك يوم الدين، ومالك، وملك بتخفيف اللام. وقرأ أبو حنيفة رضى الله عنه:

(1/11)


إياك نعبد وإياك نستعين (5)

على اختصاص الحمد به وأنه به حقيق في قوله الحمد لله- دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه بما هو أهله.

[سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إياك نعبد وإياك نستعين (5)
(إيا) ضمير منفصل للمنصوب، واللواحق التي تلحقه من الكاف والهاء والياء في قولك: إياك، وإياه، وإياى، لبيان الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، كما لا محل للكاف في أرأيتك، وليست بأسماء مضمرة، وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب: «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعول عليه، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد) ، (قل أغير الله أبغي ربا) . والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة. وقرئ: إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء. قال طفيل الغنوي:
فهياك والأمر الذى إن تراحبت ... موارده ضاقت عليك مصادره «1»
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون «2» من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم،
__________
(1) . لمضرس بن ربعي، وقيل لطفيل، وهياك: أصله إياك، قلبت همزته هاء، وهو في محل نصب بمحذوف وجوبا، والأمر: عطف عليه، والأصل: احذر تلاقى نفسك والأمر فحذف ما عدا ضمير الخطاب وما عطف عليه لكثرة الاستعمال، ولأن مقام التحذير يقتضى السرعة وإيجاز الكلام، وقيل أصله: باعد نفسك من الأمر وباعد الأمر من نفسك، فحذف لذلك، وشبه أسباب الدخول في الأمر بالموارد: أى مواضع الورود إلى نحو الماء، وأسباب الخروج منه بالمصادر: أى مواضع الصدور: أى الرجوع، فكل منهما استعارة تصريحية، وأما تشبيه الأمر بشيء له موارد ومصادر كالماء على طريقة المكنية، فهو خارج عن قانون البيان لأن الأمر يطلق على كل شيء، فتخصيصه بغير نحو الماء ثم تشبيهه به، بالقصد لا بالوضع. ويروى هكذا:
فإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
أى فليس عذر المرء لنفسه حسنا: أى قبوله لاعتذارها بعد وقوعها في الورطة، وقوله: وليس له الخ: جملة حالية وعلى هذا فحقه حرف الراء.
(2) . قوله «في علم البيان قد يكون» لعله وقد، وعبارة النسفي: وهو قد يكون. (ع)

(1/13)


كقوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) . وقوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه) . وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات: «1»
تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد
وذلك من نبإ جاءنى ... وخبرته عن أبى الأسود «2»
وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. فإن قلت: لم قرنت الاستعانة بالعبادة؟
قلت: ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته.
فإن قلت: فلم قدمت العبادة على الاستعانة؟ «3» قلت: لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: يعنى أنه ابتدأ بالخطاب ثم التفت إلى الغيبة، ثم إلى التكلم وعلى هذا فهما التفاتان لا غير، وإنما أراد الزمخشري والله أعلم أنه أتى بثلاثة أساليب: خطاب لحاضر، وغائب، ولنفسه، فوهم بقوله ثلاث التفاتات، أو تجعل الأخير ملتفتا التفاتين عن الثاني وعن الأول فيكون ثلاثا، والأمر فيه سهل.
(2) . لامرئ القيس بن حجر الجاهلى، وقال ابن هشام: هو غلط، وقائله امرؤ القيس بن عابس الصحابي، وقيل لعمرو بن معديكرب، والأثمد كأحمد، وقد تضم ميمه، وقد يروى بكسرها: اسم موضع، والعائر اسم جامد يطلق على قذى تدمع منه العين، وعلى الرمد، وعلى كل ما أعل العين، وفي الشعر ثلاث التفاتات، لكن الأول على مذهب السكاكي فقط: وهو أنه كان الظاهر التعبد بطريق التكلم فالتفت إلى الخطاب وذلك في البيت الأول.
والثاني: عدوله عن الخطاب إلى الغيبة في الثاني. والثالث: التفاته عن الغيبة إلى التكلم في الثالث. والجمهور يجعلون الأول من قبيل التجريد. وأبو الأسود: كنية صاحب الشاعر الذي يرثيه، وقيل هو المخبر واسمه ظالم بن عمرو وهو عم امرئ القيس. وقيل أبى مضاف لياء المتكلم والأسود صفته، ويروى: عن بنى الأسود.
(3) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت لم قدمت العبادة على الاستعانة ... الخ» . قال أحمد: معتقد أهل السنة أن العبد لا يستوجب على ربه جزاء- تعالى الله عن ذلك- والثواب عندنا- من الاعانة في الدنيا على العبادة ومن صنوف النعيم في الآخرة- ليس بواجب على الله تعالى، بل فضل منه وإحسان. وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام قال:
لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» مضافا إلى دليل العقل المحيل أن يجب على الله تعالى شيء، لكن قام الدليل عقلا وشرعا على أنه تعالى لا يجب عليه شيء، فقد قام عقلا وشرعا على أن خبره تعالى صدق ووعده حق، أى يجب عقلا أن يقع، فاما أن يكون الزمخشري تسامح في إطلاق الاستيجاب وأراد وجوب صدق الخبر، وإما أن يكون أخرجه على قواعد البدعية في اعتقاد وجوب الخير على الله تعالى وإن لم يكن وعد.

(1/14)


اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)

ليستوجبوا الإجابة إليها. فإن قلت: لم أطلقت الاستعانة؟ قلت: ليتناول كل مستعان فيه، والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله: اهدنا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض. وقرأ ابن حبيش: نستعين، بكسر النون.

[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهدنا الصراط المستقيم (6)
هدى أصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ، (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) ، فعومل معاملة- اختار- في قوله تعالى: (واختار موسى قومه) .
ومعنى طلب الهداية- وهم مهتدون- طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف، كقوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) ، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) . وعن على وأبى رضى الله عنهما: اهدنا ثبتنا، وصيغة الأمر والدعاء واحدة، لأن كل واحد منهما طلب، وإنما يتفاوتان في الرتبة.
وقرأ عبد الله: أرشدنا.
(السراط) الجادة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، كما سمى: لقما، لأنه يلتقمهم. والصراط من قلب السين صادا لأجل الطاء، كقوله: مصيطر، في مسيطر، وقد تشم الصاد صوت الزاى، وقرئ بهن جميعا، وفصاحهن إخلاص الصاد، وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام، ويجمع سرطا، نحو كتاب وكتب، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل، والمراد طريق الحق وهو ملة الإسلام.

[سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
صراط الذين أنعمت عليهم بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل: (اهدنا الصراط المستقيم) ، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، كما قال: (الذين استضعفوا) لمن آمن منهم. فإن قلت: ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت:
فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره:

(1/15)


صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أولا، ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع. والذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام «1» لأن من أنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه. وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى قبل أن يغيروا، وقيل هم الأنبياء. وقرأ ابن مسعود: (صراط من أنعمت عليهم) غير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أن المنعم عليهم: هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال. فإن قلت: كيف صح أن يقع (غير) صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبنى «2»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: وأطلق الانعام ليشمل كل إنعام. قال أحمد رحمه الله: إن إطلاق الانعام يفيد الشمول كقوله:
إن إطلاق الاستعانة يتناول كل مستعان فيه، وليس بمسلم فان الفعل لا عموم لمصدره، والتحقيق أن الإطلاق إنما يقتضى إبهاما وشيوعا، والنفس إلى المبهم أشوق منها إلى المقيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال
(2) .
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
غضبان ممتلئ على إهابه ... إنى وربك سخطه يرضيني
لرجل من بنى سلول، ويسبني صفة للئيم وإن قرن بأل، لأنه ليس المراد لئيما بعينه بدليل مقام التمدح فأل فيه للعهد الذهني لا الخارجي، ومدخولها في المعنى كالنكرة، فجاز وصفه بالجملة وإن كانت لا يوصف بها إلا النكرة، وهذا يفيد اتصافه بالسب دائما لا حال المرور فقط وهو المراد، وكان الظاهر أن يقول: فأمضى ثم أقول، ولكن أتى بالماضي دلالة على تحقق ذلك منه، وروى: فأعف ثم أقول: أى أكف عنه وعن مكافأته، ويحتمل أنه أراد صررت على صبغه الماضي بالمضارع لحكايه الحال، هذا والظاهر أن الجملة حالية، أى: أمر على اللئيم حال كونه يسبني وأنا أسمع فأعرض عنه وأقول إنه لا يقصدني بذلك السب الذي سمعته منه، وليس المراد وصفه بالسب الدائم، لأنه لا يظهر مع تخصيص السب بوقوعه على ضمير المار، على أنه يمكن جعل الحال لازمة فتفيد الدوام. هو غضبان ممتلئ جلده غضبا على لكن لا أبالى بذلك، فانى وحق ربك غضبه يرضيني، فليدم عليه وليزدد منه، والإهاب: الجلد قبل دبغه بل وقبل سلخه كما هنا.

(1/16)


ولأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في- غير- إذا الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرف، وقرئ بالنصب على الحال وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم، والعامل أنعمت، وقيل المغضوب عليهم: هم اليهود لقوله عز وجل: (من لعنه الله وغضب عليه) . والضالون:
هم النصارى لقوله تعالى: (قد ضلوا من قبل) . فإن قلت: ما معنى غضب الله؟ قلت: هو إرادة الانتقام «1» من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده- نعوذ بالله من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته. فإن قلت: أى فرق بين (عليهم) الأولى و (عليهم) الثانية؟ قلت: الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على الفاعلية.
فإن قلت: لم دخلت لا في ولا الضالين؟ قلت: لما في- غير- من معنى النفي، كأنه قيل:
لا المغضوب عليهم ولا الضالين. وتقول: أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيدا مثل ضارب لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب. وعن عمر وعلى رضى الله عنهما أنهما قرءا: وغير الضالين. وقرأ أيوب السختياني: ولا الضألين- بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد: (ولا جأن) وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأبة، ودأبة.
آمين: صوت سمى به الفعل الذي هو استجب، كما أن «رويد، وحيهل، وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، وأسرع، وأقبل» . وعن ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين «2» فقال: «افعل» وفيه لغتان: مد ألفه، وقصرها. قال:
ويرحم الله عبدا قال آمينا «3»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «ومعنى الغضب من الله تعالى إرادة الانتقام ... الخ» قال أحمد: أدرج في هذا ما يقتضى عنده وجوب وعيد العصاة، وليس مذهب أهل السنة، بل الأمر عندهم في المؤمن العاصي موكول إلى المشيئة: فمنهم من أراد الله تعالى عقوبته والانتقام منه فيقع ذلك لا محالة، ومنهم من أراد العفو عنه وإثابته فضلا منه تعالى، على أن المغضوب عليهم والضالين واقعان على الكفار، ووعيدهم واقع لا محالة ومراد، والله الموفق. أقول: قال الزمخشري رحمه الله: الغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة الخ لا يدل على ما فسره، فان وجوب وعيد العصاة لا يعلم منه.
والغضب من الله عند أهل السنة والمعتزلة: عبارة عما ذكره الزمخشري رحمه الله، إلا أن عند أهل السنة أن الله تعالى إن شاء عذب صاحب الكبيرة وإن شاء غفر له، وعند المعتزلة وجوب عذابه فعند المعتزلة ظاهر أن الغضب عبارة عن إرادة الانتقام، وعند أهل السنة: إن غفر له فلا غضب، وإن لم يغفر له فغضبه عبارة عما ذكره.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى صالح عنه بإسناد واه
(3) .
يا رب إنك ذو من ومغفرة ... ببت بعافية ليل المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما رقدوا ... الساقطين على الأيدى المكبينا
يا رب لا تسلبنى حبها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا
لقيس بن معاذ الملوح مجنون لبلى العامرية، اشتد وجده بها، فأخذه أبوه إلى الكعبة ليدعو الله عسى أن يشفيه، فأخذ بحلقة بابها وقال ذلك. والدعاء لليل المحبين مجاز عقلى، وهو في الحقيقة لهم، وبين أن رقادهم ليس على المعتاد بقوله: الساقطين على الأيدى، المكيين على الوجوه حيرة وسكرة، ثم دعا بأن يديم الله حبها، ودعا لمن يؤمن على دعائه بأن يقول: آمين، وهو اسم فعل، أى استجب يا الله هذا الدعاء، وهو بالمد، ويجوز قصره.

(1/17)


وقال:
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا «1»
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب «2» وقال: إنه كالختم على الكتاب» ، وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.
وعن الحسن: لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبى حنيفة رحمه الله مثله، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيها. وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وعند الشافعي يجهر بها. وعن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: ولا الضالين، قال آمين ورفع بها صوته «4» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم»
__________
(1) .
تباعد عنى فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
لجبير كان قد سأل فطحلا الأسدى فأعرض عنه فدعا عليه، ويروى تباعد منى فطحل وأبى، وأمين: بقصر الهمزة على اللغة العربية الأصلية، وأما بالمد فقيل أعجمي لأنه ليس في لغة العرب فاعيل. وقيل: أصله بالقصر فأشبعت همزته: اسم فعل بمعنى استجب، ورتبته بعد ما بعده. قدمه حرصا على طلب الاجابة ووقوع الدعاء مجابا من أول وهلة. والفاء للسببية عما قبلها، أى: حيثما تباعد عنى فزد ما بيننا بعدا يا الله، وبعدا: يجوز أن يكون تمييزا، وأن يكون منقولا.
(2) . لم أجده هكذا. وفي الدعاء لابن أبى شيبة من رواية أبى ميسرة أحد كبار التابعين قال: «أقرأ جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما قال ولا الضالين قال له قل: آمين. فقال آمين» قلت وعند أبى داود عن أبى زهير قال «آمين مثل الطابع على الصحيفة» وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» وهو في الدعاء للطبراني [.....]
(3) . لم أجده عن واحد منهما
(4) . أخرجه أبو داود من رواية حجر بن عنبسة عنه. وإسناده حسن
(5) . قوله: وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعلم أن صاحب الكتاب التزم أن يذكر آخر كل سورة حديثا لبيان فضلها، ولكن ليست كلها صحيحة فقد قال الجلال السيوطي: اعلم أن السور التي صحت الأحاديث في فضلها:
الفاتحة، والزهراوان، والأنعام، والسبع الطوال مجملا، والكهف، ويس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون. والإخلاص، والمعوذتان. وما عداها لم يصح فيه شيء اه. والزهراوان: البقرة، وآل عمران.
والسبع الطوال: من أول البقرة إلى آخر براءة- بعدها مع الأنفال سورة واحدة- قاله الأجهورى على البيقونية في مصطلح الحديث. (ع)

(1/18)


الم (1)

أنه قال لأبى بن كعب: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ «1» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا «2» فيقرأ صبى من صبيانهم في الكتاب (الحمد لله رب العالمين) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة»

سورة البقرة
مدنية، وهي مائتان وست وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة البقرة (2) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1)
الم اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك- ضاد- اسم سمى به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: را، با: اسمان لقولك:
ره، به وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظا كأساميها وهي حروف وحدان والأسامى عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من رواية عبد الحميد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة. ورواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره «أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبى بن كعب- فذكره» وهو مرسل لأن أبا سعيد هذا تابعي. وهذا الحديث قد أخرجه البخاري من وجه آخر عن أبى سعيد بن المعلى «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلى، فدعاه- فذكر الحديث» ووهم صاحب جامع الأصول فجعلهما واحدا فأخطأ. لأن الأول مكي مولى تابعي. والثاني أنصارى مدنى من أنفسهم. صحابى. قال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك صدر منه صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب مرة، ولسعيد بن المعلى مرة أخرى
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى معاوية عن أبى مالك الأشجعى عن ربعي عنه. قلت: إلا أن دون أبى معاوية من لا يحتج به. وله شاهد في مسند الدارمي عن ثابت بن عجلان قال «كان يقال إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف ذلك عنهم» يعنى بالحكمة: القرآن، وحديث أبى بن كعب رضى الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة. أخرجه الثعلبي من طرق عن أبى بن كعب رضى الله عنه كلها ساقطة. وأخرجه ابن مردويه من طريقين. وأخرجه الواحدي في الوسيط. وله قصة ذكرها الخطيب ثم ابن الصلاح عمن اعترف بوضعه. ولهذا روى عن أبى عصمة أنه وضعه.

(1/19)


على المسمى فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، والحولقة، والحيعلة، والبسملة وحكمها- ما لم تلهها العوامل- أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول: هذه ألف، وكتبت ألفا، ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفا. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالا من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططا. فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالاسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك: «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال، وقام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أن الحرف: ما دل على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: با، تا. وبالتفخيم كقولك: يا، ها. وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف، والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إنى عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوما- وسأل أصحابه-: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف «1» التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف فقال: إنما جئتم بالاسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به. وذكر أبو على في كتاب الحجة في: (يس) : وإمالة يا، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء فأمالوا وإن كان حرفا، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يس أجدر.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وقد سأل الخليل أصحابه كيف ينطقون بالكاف ... الخ» . قال أحمد رحمه الله:
وسألهم أيضا كيف ينطقون بالقاف من يقبل؟ فقالوا: قاف، كقولهم الأول، فأجابهم كجوابه الأول وقال: أما أنا فأقول: اقه، فألحق رضى الله عنه أولا هاء السكت لأن الحرف المنطوق به متحرك، وثانيا همزة الوصل لأنه ساكن.

(1/20)


ألا ترى أن هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أى قبيل هي من الأسماء، أمعربة أم مبنية؟ قلت: بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضية وموجبه. والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء:
أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل: ص، ق، ن مجموعا فيها بين الساكنين. فإن قلت: فلم لفظ المتهجى بما آخره ألف منها مقصورا، فلما أعرب مد فقال هذه باء، وياء، وهاء وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة فإذا جعلتها اسما مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدت حين مسها الإعراب: أن حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت:
فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف ب «باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين:
أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو: كهيعص، والمر. والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسما فردا كص وق ون، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد ك «حم وطس ويس» فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسماء واحد كدارابجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح ابن أوفى العبسي «1»
__________
(1) . قوله «قال قاتل محمد بن طلحة ... الخ» هكذا نسبه البخاري لشريح في تفسير غافر. ولفظه: ويقال إن (حم) اسم. لقول شريح بن أبى أوفى، فذكره. ونسب ذلك لغير شريح، ففي الطبقات لابن سعد والمستدرك للحاكم من رواية الواقدي عن محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال: كان محمد بن طلحة يوم الجمل مع أبيه، فنهى على رضى الله عنه عن قتله وقال: من رأى صاحب البرنس الأسود فلا يقتله- يعنيه- فقتله رجل من بنى أسد بن خزيمة يقال له: طلحة بن مدلج، وقيل: شداد بن معاوية العبسي. وقيل عصام بن متشعر وعليه الأكثر. وهو الذي يقول في قتله. فذكره. قلت: وهو من جملة أبيات. أولها:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

(1/21)


يذكرنى حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم «1»
فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها لاجتماع سببى منع الصرف فيها، وهما: العلمية، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك: دعني من تمرتان، وبدأت بالحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. قال:
وجدنا في كتاب بنى تميم ... أحق الخيل بالركض المعار «2»
__________
(1) .
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شككت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
لشريح بن أوفى العبسي يوم الجمل، حين أمر أبو طلحة محمد بن طلحة أن يبرز للقتال، وكان من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كلما حمل عليه رجل قال: نشدتك بحم لما فيها من آية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) حتى حمل عليه العبسي فقتله وأنشأ يقول: ورب أشعث من أثر العبادة كثير القيام والعمل بآيات ربه، أو القيام في الليل بتلاوتها، قليل الأذى، وروى الكرى: أى النوم، وروى القذى: وهو ما يتساقط في العين فيغمضها: كنى بقلته عن قلة النوم فيما ترى العين: أى في رأى العين، شككت: أى خرقت له بالرمح جيب: أى طوق قميصه، كناية عن طعنه به في صدره أو من خلفه حتى نفذ من صدره، أو نظمت وربطت جيب قميصه بصدره فسقط مطروحا على يديه ووجهه. وعبر بالفم مبالغة في التنكيل ولأنه أول ما يلقى الأرض من الوجه، وذلك بلا سبب غير أنه ليس تابعا لعلى بن أبى طالب، وهكذا حال كل من لا يتبع الحق، وهو أنه يعاقب ويهان. يذكرني حاميم، والحال أن رمحي مختلط في ثيابه وأضلاعه. وقيل المعنى: والحال أن الرماح مختلطة والحرب قائمة، وقوله فهلا، فيه نوع توبيخ: أى كان من حقه أن يذكرني بها قبل التقدم للحرب.
(2) .
وجدنا في كتاب بنى تميم ... أحق الخيل بالركض المعار
يضمر بالأصائل فهو نهد ... أقب مقلص فيه اقورار
كأن سراته والخيل شعث ... غداة وجيفها مسد مغار
كأن حفيف منخره إذا ما ... كتمن الربو كير مستعار
لبشر بن أبى خازم الأسدى، وقيل للطرماح. والركض: ضرب الراكب دابته برجله، وعار الفرس: ذهب هاهنا وهاهنا مرحا عند انفلاته، وأعاره صاحبه فهو معار. قال أبو عبيدة: والناس يرونه أى يظنون المعار من العارية وهو خطأ. ويروى: المعار بكسر الميم. ويروى: يشمر، بدل يضمر. والأصائل جمع أصيل كالآصال وهي أواخر النهار. أى يترك بلا علف من أول النهار فيجوع حتى يكون ضامر البطن في آخره، أو يهيأ ويرسل للقتال في آخر النهار فما بال أوله. والنهد: غليظ الجنبين مرتفع الأضلاع، والأقب، رقيق الخصر، والمقلص- كمعظم على اسم المفعول- المشمر المشرف طويل القوائم، ويجوز جعله على اسم الفاعل بمعنى المتشمر المكتنز اللحم.
يقال: قلصه بالتشديد شمره، فقلص هو أيضا: أى تشمر، ويقال قلصت الناقة كذلك: إذا استمرت على السير.
والاقورار: رقة الجسم ونحافته. والسراة: أعلى الظهر. والوجيف: سرعة سير الخيل. والمسد: الحبل. شبه السراة به في الامتداد والصلابة، وقوله: والخيل شعث، جملة حالية، والشعث جمع أشعث، أو شعث، وغداة: ظرف له.
والحفيف: دوى الجري والطيران. يقال: حف الفرس حفيفا، وأحففته: إذا حملته على الحفيف، وضمير كتمن للخيل. والربو: الزيادة وما ارتفع من الأرض، والنفس العالي، وانتفاخ الفرس من عدو أو فزع. يقال منه:
ربا يربو، إذا أخذه الربو: أى إذا ضاقت مناخر الخيل عن إخراج النفس لعجزها، كان منخر فرسي واسعا كالكير- وهو منفخة الحداد- لعلو نفسه وتردده، وجعله مستعارا ليدل على أنه تداولته الأيدى. يقول: وجدنا في كلام جدودنا هذا الكلام، فأحق مبتدأ، والمعار خبره، والجملة محكية محلها نصب بوجدنا.

(1/22)


وقال ذو الرمة:
سمعت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعى بلالا «1»
وقال آخر:
تنادوا بالرحيل غدا ... وفي ترحالهم نفسى «2»
وروى منصوبا ومجرورا. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت زيدا، من زيدا؟
وقال سيبويه: سمعت من العرب: لا من أين يافتى. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: ص، وق، ون مفتوحات؟ «3» قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر وقد أجاز
__________
(1) . لذي الرمة يمدح بلالا أبا بريدة، وهما لقب وكنية لعامر بن أبى موسى الأشعرى، كان أمير البصرة وقاضيها، وصيدح: اسم ناقة الشاعر. والناس رفع بالابتداء: أى سمعت هذا الكلام فحكاه على ما كان عليه، ولم ينصب الناس، لأنه يقتضى أن فعل الانتجاع مما يسمع وليس كذلك، لأنه بمعنى يرتحلون طالبين غيثا، أو بمعنى يطلبون غيثا أى مطرا أو كلأ نابتا منه. وروى بنصب الناس، فيكون ينتجعون غيثا: بمعنى يتكلمون بطلبه.
وروى رأيت الناس. قال ابن القطاع: ولا يصح معه الرفع، وذلك لأن الروية لا تقع على اللفظ، وشبه تهيئتها وإعدادها للسير إليه ليسوقها أو سوقها إليه بأمره لها بالسير إليه، وطلبه لترتب السير على كل على طريق التصريح، ويجوز أنه شبهها بالعاقل فخاطبها بذلك على سبيل المكنية: أى اطلبى بلالا، فانه أنفع مما يطلبه الناس، ولما سمع بلال ذلك قال: يا غلام اعلف صيدح قتا ونوى، والقت: نوع من النبات الطري.
(2) . روى الرحيل بالرفع على أنه مبتدأ، وغدا- أى في غد- خبره، وبالنصب: مصدر لفعل محذوف، وذلك كله على الحكاية. وروى بالجر على الأصل، وغدا. ظرف للرحيل، وفي ترحالهم: أى مع رحيلهم نفسي- أى روحي- فكأن محبوبه أخذ روحه وغادره ميتا لتعلق قلبه به، ويجوز أنه استعارها لمحبوبه على طريق التصريحية، لأن به حياته وسروره، فكأنه يموت بمفارقته لاغتمامه
(3) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فما وجه من قرأ ص وق ون مفتوحات ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله تعالى:
كلامه على الوجه الأول يوجب كونها معربة، وعلى الوجه الثاني يحتمل أن يكون أراد أن الفتحة- لالتقاء الساكنين- نشأت عن سكون الحكاية، فإنها إنما تحكى ساكنة مجردة من سمة الاعراب، فلا تكون الحركة إذا إعرابا، إذ لا مقتضى له مع الحكاية، ولا بناء إذ هي معربة عنده على هذا التقدير. ويحتمل أن يكون أراد أنها مبنية فتكون الحركة مثلها في أين وكيف حركة بناء، والأول هو الظاهر من مراده إذ حتم قبل أنها معربة، على أن سيبويه نص في كتابه على ما أورده بلفظه قال: وأما (ص) فلا يحتاج إلى أن يجعل اسما أعجميا، لأن وزنه في كلامهم. ولكنه يجوز أن يكون اسما للسورة فلا يصرف. ويجوز أن يكون أيضا (يس وص) اسمين غير متمكنين فيلزمان الفتح كما ألزمت الأسماء غير المتمكنة للحركات نحو: كيف، وأين، وحيث، وأمس اه كلام سيبويه. وفيه رد على الزمخشري رحمه الله في حتمه أن تكون معربة وأن فتحتها نصب أو لالتقاء الساكنين العارض للحكاية على ما ظهر من مقوله آنفا، وسيأتى له أيضا ما يدل على أنه لا يجوز بناؤها البتة. أقول: بعد تسليم أن الأول هو الظاهر من مراده، فما ذكره- حكاية عن سيبويه- غير وارد عليه، لأنه اختار أحد الوجهين.

(1/23)


سيبويه مثل ذلك في: حم، وطس، ويس لو قرئ به. وحكى أبو سعيد السيرافي أن بعضهم قرأ: يس. ويجوز أن يقال: حركت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ: ولا الضالين.
فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ «1» وأنها نصبت قولهم: نعم الله لأفعلن، وآي الله لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة:
ألا رب من قلبى له الله ناصح «2»
وقال آخر:
فذاك أمانة الله الثريد «3»
؟
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «هلا زعمت أنها مقسم بها ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وله البقاء على أنها منصوبة على القسم، وجعل الواو عاطفة على مذهب الخليل وسيبويه في أمثاله، ويسلك حينئذ في العطف سبيل:
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فان المقسم به وإن كان منصوبا لأنه محل يعهد وفيه الخبر، فعطف بالجر رعاية لذلك العهد، وهاهنا أولى بالصحة منه بيت زهير المذكور لأن انتصاب المقسم به إنما نشأ عن حذف حرف الجر الذي هو أصل في القسم، وانتصاب خبر ليس أصل في نفسه، ليس ناشئا عن حذف. غايته أن حرف الجر قد يصحب خبرها دخيلا، فمراعاة الأصل أجدر من مراعاة العارض، فقد تحرر في فتح ص وجهان: أحدهما أن يكون إعرابا وهو إما جرى على الوجه الذي أبداه الزمخشري، أو نصب على الوجه الذي نقلته عن سيبويه، ثانيهما أنه لا إعراب ولا بناء وهو عروضه على الوقف في الحكاية.
(2) .
ألا رب من قلبي له الله ناصح ... ومن قلبه لي في الظباء السوانح
لذي الرمة. و «من» نكرة موصوفة. و «قلبي» مبتدأ. «الله» قسم نصب على حذف الجار وإعمال فعل القسم المقدر. و «ناصح» خبر، والجملة صفة «من» و «السوانح» المسرعات جهة اليمين، كما أن «البوارح» المسرعات جهة الشمال. يقول: رب شخص قلبي له ناصح خالص والله. ورب شخص قلبه لي غير خالص بل نافر عنى كأنه من الظباء المسرعات نفورا. وأعاد الموصوف- وإن كان المقصود ذكر الصفة فقط- تنبيها على استقلال كل من الصفتين بقصد الاخبار به. هذا، ويحتمل أن المعنى: أن قلبه لي ناصح أيضا لأن بعض العرب يتيمن بالسوانح. وفيه تلويح بتشبيه محبوبته بالظبية. [.....]
(3) .
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
«ما» زائده. وأدم يأدم كضرب يضرب، إذا وفق وأصلح، وكذلك آدم بمد الهمزة، فتأدمه: تصلحه وتهيئه للأكل. وأمانة الله رفع على الابتداء، والخبر محذوف، أى: قسمي أو نصب بفعل القسم المقدر بعد حذف الجار، أى: أقسم بأمانة الله أو جر بواو القسم مقدرة، لكن البصريون خصوا هذا بلفظ الجلالة.
يقول: إذا كان الخبز مأدوما باللحم وممزوجا به، فذلك هو الثريد دون ما عداه وحق أمانة الله.

(1/24)


قلت: إن القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عز وجل: (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى) : الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء.
قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر، فيكون كقولك بالله لأفعلن، بالله لأخرجن اليوم. ولا يقوى أن تقول: وحقك وحق زيد لأفعلن. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلن فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت: فقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: الله لأفعلن مجرورا، ونظيره قولهم: لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت:
هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: أقسم الله بهذه الحروف «1» .
فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر «2» ؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرك: أن الوقف لما استمر بهذه الأسامى، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبنيات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء» . فإن قلت: هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوغت لي في
__________
(1) . موقوف رواه البيهقي في الأسماء والصفات، من طريق معاوية بن صالح، عن على بن طلحة عنه بلفظ:
الحروف المقطعة في أوائل السور كلها أقسام أقسم الله بها. ورواه ابن مردويه من هذا الوجه في تفسير طه. قال:
طه وأشباهها قسم أقسم الله بها. وهي من أسماء الله تعالى.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله:
وهذا تحقق لك مخالفته لما نقلته من نص سيبويه من أنها غير متمكنة. ويدلك على أن فتحتها التي قال قبل إنها لالتقاء الساكنين فتحة بناء، أنه إنما أراد السكون العارض في الحكاية لا سكون البناء وهو مخالف لنص سيبويه كما نبهت عليه أيضا.

(1/25)


المعربة «1» من إرادة معنى القسم؟ قلت: لا عليك في ذلك، وأن تقدر حرف القسم مضمرا في نحو قوله عز وجل: (حم والكتاب المبين) ، كأنه قيل: أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين: إنا جعلناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم «حم لا يبصرون» «2» فيصلح أن يقضى له بالجر والنصب جميعا على حذف الجار وإضماره. فان قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل: (قرآنا عربيا) . فان قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف «3» أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت: لأن الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب: اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضا فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «هل تسوغ لي في المحكية ارادة القسم كما سوغت لي في المعربة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وقد منع الزمخشري أن يكون ص منصوبا على القسم لما تقدم، وأجاز أن يكون حم في الحديث المذكور منصوبة على القسم، بخلاف حم في القرآن، فتلك يتعين أن يكون نصبها على إضمار الفعل، أو مجرورة على القسم.
وأما النصب مع القسم فلا يجيزه إلا في الحديث، والفرق عنده أن المانع من إجازته في القرآن مجيء المعطوف بعده مخالفا له في الاعراب، إذ المعطوفات كلها مجرورة، ويتعذر عنده القسم في التواني خوفا من جمع قسمين على مقسم واحد، ولا كذلك الحديث فانه لم يأت بعده ما يأباه فلذلك خص جواز هذا الوجه بالحديث. وأما على الوجه الذي أو صحته فيعم جواز ذلك القرآن والحديث جميعا.
(2) . أخرجه أصحاب السنن الثلاثة، من رواية المهلب عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن بيتكم العدو فليكن شعاركم حم لا يبصرون» قال الحاكم: المبهم هو البراء بن عازب رضى الله عنهما. ثم أخرجه كذلك وهو في النسائي أيضا، وفي الباب عن أنس رضى الله عنه في الأوسط للطبراني. وفي لدلائل لأبى نعيم عنه في غزوة حنين. وعن شيبة بن عثمان في الطبراني أيضا وعن أبى دجانة الأنصارى في آخر الدلائل للبيهقي، في حديث طويل
(3) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صورة الحروف ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: على هذا المعنى من خروج خط المصحف عن قياس الخط اعتمد القاضي رضى الله عنه في كتاب الانتصار، في الجواب عما نقل عن عثمان رضى الله عنه: أن عكرمة لما عرض عليه المصحف وجد فيه حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فان العرب ستقيمها بألسنتها. فلو كان الكاتب من ثقيف والمملل من هذين لم يوجد فيه هذه الحروف، قال القاضي: وإنما قال عثمان رضى الله عنه ذلك لأن ثقيفا كانت أبصر بالهجهاء، وهذيلا كانت تظهر الهمزة، والهمزة إذا ظهرت في لفظ المملل كتبها الكاتب على صورتها فما أراد عثمان رضى الله عنه إلا أن تلك الحروف كتبت على خلاف قياس الخط، مثل كتابة: الصلوة، والزكاة، بالواو لا بالألف قال القاضي: وإنما أخذ الله على الحفظة أن لا يغيروا التلاوة، أما الخط فلم يأخذ عليهم رسما بعينه، حتى لا يسوغ الخروج من قياس رسم خاص من رسوم الخط اه كلامه

(1/26)


وأن اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها «1» وأن بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده: أمنت وقوع اللبس فيها: «2» وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بنى عليها علم الخط والهجاء ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه: المترجم بكتاب الكتاب المتمم: في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني:
أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد «3» كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وبغرابة نظمه وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم «4» عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل «5» في اقتصاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة «6» كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى «7» الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا
__________
(1) . قوله «لا يحلى بطائل منها» في الصحاح: وقولهم لم يحل منه بطائل: أى لم يستفد منه كبير فائدة ولا يتكلم به إلا مع الجحد (ع)
(2) . قوله «أمنت وقوع اللبس فيها» أى تلك الأمور الأربعة، أمنت القارئ وقوع اللبس في الفواتح. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «الوجه الثاني أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد ... الخ» قال أحمد رحمه الله: إنما أردت هذا الفصل في كلام الزمخشري لأنه غاية الصناعة، ونهاية البراعة، لولا الإخلال بلطيفة لو سلكها لتمت فصاحته، وهي أنه بنى أول الكلام على النفي وطول فيه، حتى انتهى إلى الإثبات، فكان أول الكلام رهينا لآخره يفهم على الضد متى ينقضي على البعد، فهو كما انتقد على أبى الطيب قوله في الخيل:
ولا ركبت بها إلا إلى ظفر ... ولا حصلت بها إلا على أمل
فانه صدر الصدر والعجز بما صورته الدعاء على المخاطب في العرض مستدركا بعد، وإنما يؤاخذ بهذا مثل أبى الطيب والزمخشري لأن لهما في مراتب الفصاحة علوا يفطن السامع لمثل هذا النقد
(4) . قوله «ولم تظهر معجزتهم» لعله بفتح الميم والجيم مقابل مقدرة (ع)
(5) . قوله «على التساجل» أى التفاخر بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من السجل: بمعنى الدلو الذي فيه ماء. واقتضاب الخطب: ارتجالها أفاده الصحاح (ع)
(6) . قوله «التي بزت بلاغة» أى غلبت وسلبت (ع)
(7) . قوله «الخارج من قوى» لعله عن (ع)

(1/27)


القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، ولناصره على الأول أن يقول: إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوبا في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به «1» مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة: يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدى أيضا إلى صيرورة الاسم والمسمى واحدا.
فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى رده، أجابك بأن له محملا سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروى: قفا نبك، وعفت الديار.
ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول (الحمد لله) و (براءة من الله ورسوله) و (يوصيكم الله في أولادكم) و (الله نور السماوات والأرض) . وليست هذه الجمل بأسامى هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعنى رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسما واحدا على طريقة حضر موت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا: بتأبط شرا، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمى: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحدا، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحدا حيث كان الاسم مؤلفا والمسمى مفردا. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامى الحروف، فإنه كان مختصا بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغربا مستبعدا من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) . فكان حكم النطق بذلك
__________
(1) . قوله «لم تتجاوز ما سموا به» لعله: بما، أو لعله: فيما. (ع) [.....]

(1/28)


- مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله- حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامى حروف المعجم «1» أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون- في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف.
ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامى حروف المعجم ... الخ» . قال أحمد: بقي عليه من الأصناف الحروف الشديدة، وقد ذكر تعالى نصفها: الهمزة المعبر عنها بالألف، والكاف، والقاف، والطاء. والمطبقة، وقد ذكر تعالى نصفها: الصاد، والطاء.
والمنفتحة، وقد ذكر نصفها: الألف، والحاء، والراء، والسين، والعين، والقاف، والكاف، واللام، والميم، والنون، والهاء، والياء. وحروف الصفير لما كانت ثلاثا: السين، والصاد، والزاى لم يكن لها نصف فذكر منها اثنين: السين، والصاد. وتلك العادة المأنوسة فيما يقصد إلى تنصيفه فلا يمكن فيتم الكسر. ألا ترى طلاق العبد وعدة الأمة ونحو ذلك؟ والحروف اللينة وهي ثلاثة: الألف، والياء، والواو. وذكر منها اثنين: الألف، والياء كحروف الصفير. والمكرر وهو الراء. والهاوي وهو الألف. والمنحرف وهو اللام. وقد ذكرها. ولم يبق من أصناف الحروف خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديد والرخو، فانه لم يقتصر منها على النصف لأن ما ذكر منها زائدا على النصف اندرج في غيرها من الأصناف، فلم يمكن الاقتصار لها كالشديدة والرخوة فلم يكن بها عناية. وأما حروف الذلاقة والمصمتة فالصحيح أن لا يعدا صنفين، ولمن عدهما صنفين متميزين خبط طويل في جهة تميزهما، حتى أبعد الزمخشري في مفصله في تميزهما فقال: حروف الذلاقة التي يعتمد الناطق فيها على ذلق اللسان- أى طرفه- وهو تمييز مردود جدا لأن من جملتها: الميم، والباء، والفاء. ولا مدخل لطرف اللسان فيها، ثم لا يتم على هذا التمييز مطابقتها للمصمتة، إذ المصمتة مفسرة عنده بأنها حروف تكون عن تركيب كلمة رباعية فما زاد منها حتى يدرج معها أحد حروف الذلاقة، فكيف المقابلة بين الخروج من طرف اللسان وبين الصمت؟ فالحق أنهما صنفان ضعيف تميزهما، فلم يعتبر جريانهما على النمط المستمر في غيرهما من الأصناف البين امتيازها. وعد الزمخشري في هذا النمط حروف القلقلة، وذكر أن المذكور منها النصف: القاف، والطاء ووهم فإنها خمسة أحرف، لم يذكر منها في الفواتح سوى الحرفين المذكورين. وعلى الجملة فلا يقدم الناظر تخريج ما لم يحر على هذا النمط من الأصناف على وجه يمكن الاستئناس إليه.

(1/29)


والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون.
ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله. وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد «1» بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم «2» . أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر.
فان قلت: فهلا عددت بأجمعها في أول القرآن؟ ومالها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأن إعادة التنبيه على أن المتحدى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقر له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فان قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف،
__________
(1) . قوله «تغمد» لعله «تعمد» بالعين المهملة. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم أن الألف واللام ... الخ» قال أحمد رحمه الله: الألف المذكورة في الفواتح يحتمل أن يكون المراد بها الهمزة اللينة، وقد اضطرب فيها كلام الزمخشري في هذا الفصل، فعند ما عد الحروف أربعة عشر حرفا في الفواتح قال: إنها نصف حروف العربية، فهذا يدل على أن جملتها ثمانية وعشرون حرفا، فلا بد من سقوط أحد الحرفين من هذا العدد إما اللينة أو الهمزة، وإلا كانت تسعة وعشرين. والظاهر أن الساقط الهمزة وعند ما قال: في تسع وعشرين على عدد الحروف اقتضى هذا دخول الأليين في العدد. والظاهر من كلامه أن الألف عنده هي اللينة، فلذلك على تسميتها بالألف بأن النطق لما تعذر بها أولا استقرت الهمزة مكانها وفاء بمراعاة تلك اللطيفة التي قدمها من جعل مسمى الحرف أول اسمه. وأما عند النحاة فالألف المعدودة في حروف المعجم مفردة هي الهمزة وأما اللينة فهي المعدودة مع اللام حيث يقولون: لام ألف، ويكتبونها على صورة «لا» .

(1/30)


وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت: هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت: فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت: إذا كان الغرض هو التنبيه- والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة- كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيدا والآخر عمرا، لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأن الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ولذلك لا يقال: لم سمى هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟
ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور.
أما الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعد آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعد آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدوا شيئا منها آية. فإن قلت: فكيف عد ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عد الرحمن وحده ومدهامتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا:
(الم الله) أى هذه الم ثم ابتدأ فقال (الله لا إله إلا هو) . فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ «1» قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجر، فلما مر من صحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعددة.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: ما محل هذه الفواتح من الاعراب ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وإنما جاز النصب مع القسم فيما لا يعقبه معطوف مجرور. فأما ما يعقبه معطوف مجرور مثل ص وق ون فانه لا يجيز فيه النصب مع القسم البتة، ويحمله على إضمار فعل، أو على أن الفتح في موضع الجر. وأما على وجه بدئه فيما تقدم فيجوز النصب مع القسم في جميعها فجدد به عهدا. وعلى النصب بإضمار فعل أعربها سيبويه في كتابه.

(1/31)


ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)

[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)
فإن قلت: لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ «1» قلت: وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمتقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدث الرجل بحديث ثم يقول: وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول: فذلك كذا وكذا.
وقال الله تعالى: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) . وقال: (ذلكما مما علمني ربي) ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. وقيل معناه: ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة- والمشار إليه مؤنث وهو السورة-؟ «2» قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحا لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول:
هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني:
نبئت نعمى على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزارى «3»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت لم صحت الاشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله:
ولأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، وبعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم للاشعار بتراخي المراتب، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه وسيأتى أمثاله.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: لم ذكر اسم الاشارة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: ولو مثل ذلك بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أقوم وأسلم من الفرق بما في لفظ «من» من الإبهام الصالح للمذكور والمؤنث. ومثل هذا قوله تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) فيمن وصل الكلام فجعل (هم العدو) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان، وعدل عن أن يقول: هي العدو، نظرا إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة، فذكر وجمع لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى. وقد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري، وتسمى الجملة بالتاء والياء عقيب قوله: والكلام هو المركب من كلمتين- بهذا التوجيه
(3) .
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا يحيون من نؤى وأحجار
لقد أرانى ونعمى لاهيين بها ... والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
نبئت نعمى على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
للنابغة الذبياني. والعوج: عطف رأس البعير بالزمام. ونعم: اسم محبوبته. والدمنة: ما تلبد من البعر والرماد والقمامة، والمراد مطلق الآثار. والنؤى: الحاجز حول الخباء لئلا يدخله الماء. والمراد بالأحجار: الأثافى التي تنصب عليها القدور، أو بقية الجدران، وهم بالشيء: أراده، وأصله الإدغام، وفكه هنا لغة، أى لم يهم كل منهما.
والإمرار: صيرورة الشيء مرا، والاحلاء: صيرورته حلوا، وجعل الطعم مرا، وجعله حلوا، ويروى زارية بدل عاتبة. والزاري: العائب، يقال: زرى عليه يزرى إذا عاب عليه. وقوله ماذا تحيون: استشعار للخطأ في الأمر بالتحية ورجوع عنه لأنه لا يجدى شيئا. و «من» بيان لماذا، وفيه معنى التحقير، ونعمى: عطف على ضمير النصب، والواو للحال، أى والحال أن الدهر والعيش لم يتغير كل منهما إلى البؤس، شبههما بما تصح منه الارادة على طريق الكناية، فأسند لهما الهم تخييلا، أو استعار الهم المشارفة والقرب تصريحا، وشبههما بالمطعوم فأثبت لهما الإمرار، أو استعاره لتكدرهما ونغصهما بجامع كراهية النفس لكل. وعلى الهجران: أى مع هجرانها، أو لأحل هجرانى لها. وسقيا، ورعيا: منصوبان على المصدرية، أى سقاها الله ورعاها. وذلك إشارة إلى الإنسان أو الشخص وهي المراد، ووصفها بما للذكر تعظيما لها وتفخيما لشأنها.

(1/32)


فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلك الكتاب مع (الم) . قلت: إن جعلت (الم) اسما للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلك) . مبتدأ ثانيا، و (الكتاب) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول. ومعناه: أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال:
هم القوم كل القوم يا أم خالد «1»
وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون (الم) خبر مبتدإ محذوف، أى هذه الم، ويكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا، على أن الكتاب صفة، وأن يكون: هذه الم جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف، أى هو- يعنى المؤلف من هذه الحروف- ذلك الكتاب. وقرأ عبد الله: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه. وتأليف هذا ظاهر.
__________
(1) .
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
للأشهب بن رميلة. وقيل لحريث بن مخفض. والذي: أصله الذين، فحذفت النون تخفيفا. وروى: وإن الألى، وهو بمعنى الذين، وهم المذكورون في أول الأبيات وهو:
ألم تر أنى بعد عمرو ومالك ... وعروة وابن الهول لست بخالد
وحانت: أتى حين هلاكها، وهو كناية عن الهلاك. ويقال: حان حينا: هلك، وأحانه الله: أهلكه فهو حقيقة. وفلج- بالفتح- اسم موضع بطريق البصرة، ودماؤهم: نفوسهم. وهم القوم كل القوم: أى هم المختصون بجميع صفات الرجال الحميدة دون غيرهم.

(1/33)


والريب: مصدر رابنى، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها.
ومنه ما روى الحسن بن على قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك «1» فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة» أى فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر. وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن. ومنه: ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه أنه مر بظبي حاقف «2» فقال:
«لا يربه أحد بشيء «3» . فإن قلت: كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت: ما نفى أن أحدا لا يرتاب فيه «4» وإنما المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) ، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن قلت: فهلا قدم الظرف على الريب، كما قدم على الغول في قوله تعالى:
(لا فيها غول) ؟ قلت: لأن القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفى الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: (لا فيها غول) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها
__________
(1) . أخرجه الترمذي في آخر الطب، والحاكم في الأحكام وفي البيوع. والطبراني والبزار. ورواه البيهقي في الشعب بلفظ «فان الشر ريبة والخير طمأنينة»
(2) . قوله «أنه مر بظبي حاقف» لعله: أنه صلى الله عليه وسلم الخ. وفي الصحاح أنه عليه السلام مر بظبي حاتف في ظل شجرة، وهو الذي انحنى وتثنى في نومه اه (ع)
(3) . أخرجه في الموطأ. والنسائي في الحج. وابن حبان من رواية عمر بن سلمة الضمري عن البهرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالاثاية بين الرويثة والعرج، إذا ظبى حاتف في ظل وفيه سهم. فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه. ولإسحاق في مسنده: فقال لبعض القوم: «كن حتى يمر الناس ولا يريبه أحد بشيء» اه. البهرى وقع في مسند أبى يعلى أن اسمه مخول، ولفظه: تبعت حبائل لي بالأبواء فوقع فيها ظبى، فأقلت والحبل في رجله، فخرجت أقفوه فسبقني إليه رجل فاحتضنها، ثم ترافعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعله بيننا نصفين.
(4) . قوله «أن أحدا لا يرتاب فيه» لعله أن أحدا يرتاب فيه. وقد يقال المراد ما نفى الريب على معنى أن أحدا لا يرتاب فيه. (ع)

(1/34)


ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة: وقرأ أبو الشعثاء: (لا ريب فيه) بالرفع: والفرق بينها وبين المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. والوقف على: (فيه) هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على: (لا ريب) ولا بد للواقف من أن ينوى خبرا.
ونظيره قوله تعالى: (قالوا لا ضير) ، وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز.
والتقدير: لا ريب فيه.
فيه هدى الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) .
وقال تعالى: (لعلى هدى أو في ضلال مبين) . ويقال: مهدى، في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطلوع هدى- ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله- ألا ترى إلى نحو:
غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك: فإن قلت: فلم قيل: هدى للمتقين والمتقون مهتدون؟ «1» قلت: هو كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله: (اهدنا الصراط المستقيم) . ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متقين، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه» «2» وعن ابن عباس: «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة، وتكتف الحاجة» «3» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فلم قيل هدى للمتقين والمتقون مهتدون ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: الهدى يطلق في القرآن على معنيين: أحدهما الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) . وعلى هذا يكون الهدى للضال باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أولا.
والآخر خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا. وأما قول الزمخشري: إن القرآن لا يكون هدى للمعلوم بقاؤهم على الضلالة، فإنما يستقيم إذا أريد بالهدى خلق الاهتداء في قلوبهم. وأما إذا أريد معناه الأول، فلا يمتنع أن الله تعالى أرشد الخلق أجمعين، وبين للناس ما نزل إليهم، فمنهم من اهتدى، ومنهم من حقت عليهم الضلالة. هذا مذهب أهل السنة.
(2) . متفق عليه من حديث أبى قتادة. وفيه قصته. وغلط الطيبي فقرأه لأبى داود عن ابن عباس رضى الله عنهما، والذي فيه أنه قال يوم بدر «من قتل قتيلا فله كذا أو كذا» لم يقل «فله سلبه» . [.....]
(3) . موقوف. عزاه الطيبي لأبى داود وحده مرفوعا وقال: ليس فيه الزيادات، يعنى قوله: فيه يمرض إلى آخره. انتهى. والحديث بتمامه عند ابن ماجة، وأحمد وإسحاق في مسنديهما مرفوعا، وفيه أبو إسرائيل المكي، وهو صدوق سيئ الحفظ.

(1/35)


قتيلا ومريضا وضالا. ومنه قوله تعالى: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ، أى صائرا إلى الفجور والكفر. فإن قلت: فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت: لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: هدى للمتقين. وأيضا فقد جعل ذلك سلما إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده.
والمتقى في اللغة اسم فاعل، من قولهم: وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. ومنه: فرس واق، وهذه الدابة تقى من وجاها، إذا أصابه ضلع «1» من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر «2» وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل: يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقى لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق العدل إلا على المختبر.
ومحل (هدى للمتقين) الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع (لا ريب فيه) لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه. ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال إن قوله: (الم) جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و (ذلك الكتاب) جملة ثانية. و (لا ريب فيه) ثالثة. و (هدى للمتقين) رابعة.
__________
(1) . قوله «من وجاها إذا أصابه ضلع» في الصحاح: الوجي: الوجع في الحافر. والضلع: الميل والاعوجاج:
والظلع: غمز في مشية البعير. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «واختلف في الصغائر ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ومن تمنى القدرية على الله تعالى اعتقادهم أن الصغائر ممحوة عنهم ما اجتنبوا الكبائر، وأنه يجب أن يعفو الله عنها لمجتنب الكبائر، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن مرتكب الكبائر، وهذا هو الخطأ الصراح، والمحادة لآيات الله البينات وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم الصحاح. والحق أن غفران الصغائر- وإن اجتنبت الكبائر- موكول إلى المشيئة، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا. ومن لا يعتقد ذلك وهم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فانه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر. ويتحيرون عند قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعا) فانه مصرح بمغفرة الكبائر. أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فان التقييد بالمشيئة في هذه يقضى على الآيتين المطلقتين.

(1/36)


الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)

وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء:
فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السرى، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكرا. والإيجاز في ذكر المتقين.
زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه، وتبيينا لنكت تنزيله، وتوفيقا للعمل بما فيه.

[سورة البقرة (2) : آية 3]
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)
الذين يؤمنون إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير: أعنى الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما مقتطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب (أولئك على هدى) . فإذا كان موصولا، كان الوقف على المتقين حسنا غير تام. وإذا كان مقتطعا، كان وقفا تاما. فإن قلت: ما هذه الصفة، أواردة بيانا وكشفا للمتقين؟
أم مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها؟ أم جاءت على سبيل المدح والثناء كصفات الله الجارية عليه تمجيدا؟ قلت: يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من فعل الحسنات وترك السيئات. أما الفعل فقد انطوى تحت ذكر الإيمان الذي هو أساس الحسنات ومنصبها، وذكر الصلاة والصدقة لأن هاتين أما العبادات البدنية والمالية، وهما العيار على غيرهما. ألم تر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة؟ وسمى الزكاة قنطرة

(1/37)


الإسلام؟ «1» وقال الله تعالى: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) . فلما كانتا بهذه المثابة كان من شأنهما استجرار سائر العبادات واستتباعها. ومن ثم اختصر الكلام اختصارا، بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والذي إذا وجد لم تتوقف أخواته أن تقترن به، مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين. وأما الترك فكذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ؟ ويحتمل أن لا تكون بيانا للمتقين، وتكون صفة برأسها دالة على فعل الطاعات، ويراد بالمتقين الذين يجتنبون المعاصي.
ويحتمل أن تكون مدحا للموصوفين بالتقوى، وتخصيصا للإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهارا لإنافتها على سائر ما يدخل تحت حقيقة هذا الاسم من الحسنات والإيمان: إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيرى. ثم يقال: آمنه إذا صدقه.
وحقيقته: آمنه التكذيب والمخالفة. وأما تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقر وأعترف. وأما ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة- أى ما وثقت- فحقيقته: صرت ذا أمن به، أى ذا سكون وطمأنينة، وكلا الوجهين حسن في (يؤمنون بالغيب) أى يعترفون به أو يثقون بأنه حق. ويجوز أن لا يكون (بالغيب) صلة للإيمان، وأن يكون في موضع الحال، أى يؤمنون غائبين عن المؤمن به. وحقيقته: ملتبسين بالغيب، كقوله: (الذين يخشون ربهم بالغيب) ، (ليعلم أني لم أخنه بالغيب) . ويعضده ما روى «أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وإيمانهم، فقال ابن مسعود: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه. والذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. فإن قلت: فما المراد بالغيب إن جعلته صلة؟ وإن جعلته حالا؟ قلت: إن جعلته صلة كان بمعنى
__________
(1) . أما الحديث الأول، فأخرجه البيهقي في الشعب من طريق عكرمة عن عمر رضى الله عنه في حديث في آخره «والصلاة عماد الدين» قال: وعكرمة لم يسمع من عمر. قال: وأراه عن ابن عمر رضى الله عنهما. وله شاهد من حديث على رضى الله عنه بلفظ «الصلاة عماد الإسلام» أخرجه الأصبهانى في الترغيب. وغفل ابن الصلاح في مشكل الوسيط فقال: هذا حديث غير معروف. قلت: والطيبي عزاه لتخريج الترمذي في حديث معاذ ففيه «وعموده الصلاة» ، ولا يخفى بعده.
وأما الحديث الثاني، فرواه مسلم من حديث جابر رضى الله عنه بلفظ «بين الرجل وبين الكفر تركه الصلاة» .
وأما الحديث الثالث، فرواه إسحاق في مسنده من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه به سواء. وفيه الضحاك ابن حمق. وهو ضعيف.
(2) . موقوف. أخرجه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن زيد «ذكروا عند عبد الله بن مسعود. الخ» وإسناده صحيح.

(1/38)


الغائب، إما تسمية بالمصدر من قولك. غاب الشيء غيبا، كما سمى الشاهد بالشهادة. قال الله تعالى: (عالم الغيب والشهادة) . والعرب تسمى المطمئن من الأرض غيبا. وعن النضر بن شميل: شربت الإبل حتى وارت غيوب كلاها. يريد بالغيب: الخمصة التي تكون في موضع الكلية، إذا بطنت الدابة انتفخت. وإما أن يكون فيعلا فخفف، كما قيل «قيل» وأصله:
قيل: والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه، أو نصب لنا دليلا عليه. ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب. وذلك نحو الصانع وصفاته، والنبوات وما يتعلق بها، والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد، وغير ذلك. وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء، فإن قلت: ما الإيمان الصحيح؟ «1» قلت: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه، ويصدقه بعمله. فمن أخل بالاعناد- وإن شهد وعمل- فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل فهو فاسق.
ومعنى إقامة الصلاة تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود- إذا قومه- أو الدوام عليها والمحافظة عليها، كما قال عز وعلا: (الذين هم على صلاتهم دائمون) ، (والذين هم على صلواتهم يحافظون) من قامت السوق إذا نفقت، وأقامها. قال:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «إن قلت ما معنى الايمان الصحيح ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: يعنى بالفاسق غير مؤمن ولا كافر، وهذا من الأسماء التي سماها القدرية وما أنزل الله بها من سلطان. ومعتقد أمل السنة أن الموحد لله الذي لا خلل في عقيدته مؤمن وإن ارتكب الكبائر. وهذا هو الصحيح لغة وشرعا. أما لغة فان الايمان هو التصديق وهو مصدق. وأما شرعا فأقرب شاهد عليه هذه الآية، فانه لما عطف فيها العمل الصالح على الايمان دل على أن الايمان معقول بدونه. ولو كان العمل الصالح من الايمان لكان العطف تكرارا. وانظر حيلة الزمخشري على تقريب معتقده من اللغة بقوله: المؤمن من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله. فجعل التصديق من حظ العمل حتى يتم له أن من لم يعمل فقد فوت التصديق الذي هو الايمان لغة. ولقد أوضحنا أن التصديق إنما هو بالقلب ولا يتوقف وجوده على عمل الجوارح مما يحقق معتقد أهل السنة أن من آمن بالله ورسوله ثم اخترم قبل أن يتعين عليه عمل من أعمال الجوارح فهو مؤمن باتفاق وإن لم يعمل. وأصدق شاهد على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا فواق ناقة عمل بعمل أهل الجنة فكتب من أهل الجنة» وإنما مثل عليه الصلاة والسلام بفواق الناقة لأنه الغاية في القصر، ومثل هذا الزمان إنما يتصور فيه القصد الصحيح خاصة، ومع ذلك فقد عده من أهل الجنة. وإنما يدخل المؤمن الجنة باتفاق الفريقين، والأدلة على ذلك تجرد كون الشرط فيه شطرا. أقول: تفسير الفاسق بغير مؤمن ولا كافر كما هو مذهب المعتزلة غير موجه والشيء الذي هو لم يصرح به لا يجب علينا تصريحه وتعريفه فان عندنا «الضال» من أخل بالعمل فهو فاسق.

(1/39)


أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا «1»
لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشىء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ويتنافس فيه المحصلون. وإذا عطلت وأضيعت، كانت كالشىء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو التجلد والتشمر لأدائها. وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها. وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه- إذا تقاعس وتثبط- أو أداؤها، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت- والقنوت القيام- وبالركوع وبالسجود. وقالوا: سبح، إذا صلى لوجود التسبيح فيها.
(فلولا أنه كان من المسبحين) .
والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى. وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى: حرك الصلوين لأن المصلى يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه لأنه ينثني على الكاذتين «2» وهما الكافرتان. وقيل للداعي: مصل، تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد.
وإسناد الرزق إلى نفسه «3» للإعلام بأنهم ينفقون الحلال «4» الطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله، ويسمى رزقا منه. وأدخل من التبعيضة صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه. وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة، لاقترانه بأخت الزكاة وشقيقتها وهي الصلاة
__________
(1) . لأيمن بن خزيم. وغزالة: امرأة شيب الخارجي، قتله الحجاج فحاربته سنة كاملة، فسوق الضراب: مجاز عن ميدان المحاربة، أو شبه المطاعنة بالرماح والمضاربة بالسيوف بالأمتعة التي تباع وتشترى في السوق على سبيل المكنية والسوق تخييل. والعراقان: البصرة والكوفة. والقميط: التام نعت مؤكد، ويقال: قمط الطائر أنثاه:
سفدها. والقماط: حبل تشد به الأسرى والأخصاص، فالمادة دالة على الاحاطة والضم.
(2) . قوله «على الكاذتين» في الصحاح: الكاذتان ما نشأ من اللحم في أعالى الفخذ اه (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «أضاف الرزق إلى نفسه للاعلام بأنهم إنما ينفقون من الحلال الطلق ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: فهذه بدعة قدرية، فإنهم يرون أن الله تعالى لا يرزق إلا الحلال، وأما الحرام فالعبد يرزقه لنفسه حتى يقسمون الأرزاق قسمين: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائه. وإذا أثبتوا خالقا غير الله، فلا يأنفون عن إثبات رازق غيره. أما أهل السنة فلا خالق ولا رازق في عقدهم إلا الله سبحانه. تصديقا بقوله تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) أيها القدرية.
(4) . قوله «بأنهم ينفقون الحلال» مبنى على أن الرزق مختص بالحلال، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: الرزق أعم. (ع)

(1/40)


والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)

وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبل الخير، لمجيئه مطلقا يصلح أن يتناول كل منفق.
وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب: نفق الشيء، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء، فدال على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.

[سورة البقرة (2) : آية 4]
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)
فإن قلت: والذين يؤمنون أهم غير الأولين أم هم الأولون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد، وفي قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «1»
وقوله:
يا لهف زيابة للحارث ... الصابح فالغانم فالآيب؟ «2»
قلت: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا، فاشتمل إيمانهم على كل وحى أنزل من عند الله، وأيقنوا بالآخرة إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياما
__________
(1) . الجار والمجرور متعلق بما قبله في الشعر. والقرم- بالفتح- في الأصل: الفحل المكرم الذي يعفى من العمل لتقديمه وتشويقه إلى ضراب الإبل، استعاره للسيد الرئيس أو للفارس المعد للمكاره. وظاهر القاموس أنه بمعنى السيد حقيقة. ووسط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والهمام: العظيم الهمة، النافذ العزيمة.
واستعار لليث للشجاع على طريق التصريح. والكتيبة: الجيش المنضم المنتظم. والمزدحم: المعركة لأنها محل الازدحام، وأصله «مزتحم» من الافتعال قلبت تاؤه دالا.
(2) .
يا لهف زيابة للحارث ... الصابح فالغانم فالآيب
والله لو لاقيته خاليا ... لآب سيفانا مع الغالب
لابن زيابة في جواب الحرث بن هشام حين قال له:
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشد بى أجرد ... مستقدم البركة كالراكب
والعازب- بالزاي- البعيد عن أهله. يعرض بأن زيابة يراع للنعم لا شجاع. والأجرد: المنجرد الشعر. والبركة في البعير والفرس: العظم الناتئ في صدرهما وعظمه ممدوح فيهما، وشبهه بالراكب في طول عنقه وامتداده ويجوز أن المعنى أن راكبه أيضا مستقدم البركة لا متخشع منكمش. يقول: يا حسرة أبى على من أجل الحارث الذي بلغ مراده منى. وفيه ضرب من التهكم فان كان توعده ثم نكص على عقبيه. وقيل: هو على ظاهره، ثم حلف أنه لو وجده لقتله، ولكنه أبرز الكلام في صورة الإيهام للانصاف في الكلام ورجوع السيفين مع الغالب: كناية عن قتل المغلوب واستلاب سلاحه.

(1/41)


معدودات، واجتماعهم على الإقرار «1» بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد، ثم افتراقهم فرقتين: منهم من قال: تجرى حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور، واختلافهم في الدوام والانقطاع، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأولين. ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت: فإن أريد بهؤلاء غير أولئك، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟. قلت: إن عطفتهم على (الذين يؤمنون بالغيب) دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمنى أهل الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على (للمتقين) لم يدخلوا. وكأنه قيل: هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك.
فإن قلت: قوله بما أنزل إليك إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، فلم يكن ذلك منزلا وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضى؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت: المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضى وإن كان بعضه مترقبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، كما بغلب المتكلم على المخاطب، والمخاطب على الغائب فيقال:
أنا وأنت فعلنا، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله، ويدل عليه قوله تعالى: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك:
كل ما خطب به فلان فهو فصيح، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي، لكونه معقودا بعضه ببعض، ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بالآخرة) وبناء (يوقنون) على: (هم) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان: إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وبالآخرة تأنيث الآخر الذي هو
__________
(1) . قوله «واجتماعهم على الإقرار» لعله عطف على مجرور «من» البيانية، باعتبار ما عطف عليه من افتراقهم واختلافهم الآتيين فتدبر. (ع)

(1/42)


أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)

نقيض الأول، وهي صفة الدار بدليل قوله: (تلك الدار الآخرة) وهي من الصفات الغالبة، وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام، كقوله (دابة الأرض) وقرأ أبو حية «1» النميري (يوقنون) بالهمز، جعل الضمة في جار الواو كأنها فيه، فقلبها قلب واو «وجوه» و «وقتت» . ونحوه:
لحب المؤقدان إلى مؤسى ... وجعدة إذ أضاءهما الوقود «2»

[سورة البقرة (2) : آية 5]
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
أولئك على هدى الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ وإلا فلا محل لها. ونظم الكلام على الوجهين: أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف. وذلك أنه لما قيل: (هدى للمتقين) واختص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله: (الذين يؤمنون بالغيب) إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدر. وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم، أى الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم، أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. ونظيره
__________
(1) . قوله «وقرأ أبو حية» لعله: أبو حيوة. (ع) [.....]
(2) . لجرير في مدح هشام بن عبد الملك وموسى ابنه وجعدة بنته، وقيل ابنه أيضا وليس كذلك. واللام للقسم. وحب أصله حبب- كظرف- نقلت حركة الباء إلى الحاء ثم أدغمت في الأخرى. ومعناه: إنشاء المدح كنعم، ويفيد التعجب أيضا ك «مأحبه» . وقد تفتح حاؤه إذا كان فاعله ذا والمؤقدان بالهمز فاعل. ومؤسى بالهمز أيضا. وجعدة المخصوص بالمدح على طريقة: نعم لرجل زيد. و «حب» : محول من «حب» الثلاثي كضرب، وإن كان الكثير «أحب» الرباعي لأنه لا يصاغ للمدح إلا من الثلاثي. فان قلت: أهو محول من «حب» المسند للفاعل، أم من «حب» المبنى للمجهول؟ قلت: إن كان من المسند للفاعل فالمؤقدان محبوبان، وإن كان من المسند للمفعول فالتحويل تقديري. فالظاهر أنه مصوغ من المادة من غير ملاحظة إسناد. ويجوز أن «حب» أصله «حبب» - كضرب مبنى للمجهول- فالمؤقدان نائب فاعل، ومؤسى وجعدة بدل أو بيان. والمعنى على الخبر لا الإنشاء. وروى:
أحب الموقدين، باضافة أفعل التفضيل إلى صيغة الجمع فمؤسى وجعدة خبر. وسوغ قلب واو الموقدين وموسى همزة، ضم ما قبلها، فكأنها مضمومة، وهي إذا ضمت تبدل همزة. ويقال: أضاء المكان وأضاءه السراج. وما هنا من الثاني، فهو متعد بمعنى أنارهما الوقود بالضم: أى توقد نار القرى وتلتهبنها، وأما بالفتح فهو ما توقد.
به. وأصل فعول أنه مبالغة في الفاعل كضروب، وكثر بمعنى ما يفعل به الفعل كوقود وسحور، فيحتمل أنه من قبيل اسم المفعول، وأنه من قبيل اسم الآلة شذوذا. والمعنى: ما أحبهما إلى وقت بأن أظهرتهما النار التي يوقدانها لقرى الأضياف

(1/43)


قولك: أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعا للمتقين، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا. واعلم أن هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقولك: قد أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان. وتارة بإعادة صفته، كقولك: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. فإن قلت: هل يجوز أن يجرى الموصول الأول على المتقين، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره؟ قلت: نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله. وفي اسم الإشارة الذي هو (أولئك) إيذان بأن ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، كما قال حاتم: ولله صعلوك ثم عدد له خصالا فاصلة، ثم عقب تعديدها بقوله:
فذلك إن يهلك فحسبى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما «1»
ومعنى الاستعلاء في قوله: (على هدى) مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به. شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل.
__________
(1) .
ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي وهو مختضب دما
أو الحرب أبدت ناجذيها وشمرت ... وولى هدان القوم أقدم معلما
فذلك إن يهلك فحسبي ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
لحاتم الطائي، يرثى رجلا بأنه عالى الهمة، وإذا كان يوم حرب يذهب إلى صدور الرماح وينزل فيما بينها، والحال أنه مختضب بالدم منها. وقوله «أو الحرب» عطف على قوله «كان يوم كريهة» وإسناد إبداء الناجذ والتشمير عن الساعد مثلا إلى الحرب مجاز عقلى، لأنها سبب في أن الفرسان يفعلون ذلك. ويجوز أنه شبهها في قوتها واشتدادها بشجاع يفعل ذلك على طريق الكناية وإبداء الناجذ والتشمير تخييل. والناجذ: آخر الأضراس وهو ضرس الحلم. والهدان- ككتاب-: الأحمق الثقيل، وجمعه هدون- من الهدنة وهي السكون-. وأقدم: جواب الشرط، معلما للناس بأنه فلان على عادة الفرسان، أو معلما فرسه مسومها. فذلك الموصوف بتلك الصفات المختص بتلك الخصال، هو المستحق لأن يقال فيه إن يهلك ويمت فيكفنى ثناؤه فخرا: أى ذكره بين الناس بالجميل. وقوله «إن عاش» شرط لا يقتضى الوقوع، لكن ذكره دلالة على أنه محمود الفعال على أى حال. وقوله «لم يقعد» قليل المدح في الظاهر كثيره عند أولى البصائر: أى بل يقعد على حاله المشهورة وخصاله الحميدة.

(1/44)


وقد صرحوا بذلك في قولهم: جعل الغواية مركبا، وامتطى الجهل «1» واقتعد غارب الهوى.
ومعنى هدى من ربهم أى منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير، والترقي إلى الأفضل فالأفضل. ونكر (هدى) ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره كأنه قيل: على أى هدى، كما تقول: لو أبصرت فلانا لأبصرت رجلا. وقال الهذلي:
فلا وأبى الطير المربة بالضحى «2» ... على خالد لقد وقعت على لحم «3»
والنون في: (من ربهم) أدغمت بغنة وبغير غنة. فالكسائى، وحمزة، ويزيد، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها. وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو. فقد روى عنه فيها روايتان.
وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلت كل واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها. فإن قلت:
لم جاء مع العاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: (أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) ؟ قلت: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيهم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل
__________
(1) . قوله «وامتطى الجهل» أى اتخذ الجهل مطية، واتخذ الهوى قعودا. والقعود من الإبل: البكر حين يركب. والغارب: ما بين السنام إلى العنق، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله
«وأبى الطير المربة بالضحى»
أى المجتمعة العاكفة. أفاده الصحاح (ع)
(3) .
فلا وأبى الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم
فلا وأبى لا يأكل الطير مثله ... عشية أمسى لا يبين من السلم
لأبى كبير الهذلي يرثى خالد بن زهير. ولا زائدة قبل القسم. واستعظم الطير الواقعة عليه فأقسم بها، وكنى عنها بأبى الطير كما يكنى عن العظيم بأبى فلان. وأصل أبى هنا: أبين، على صيغة جمع المذكر السالم، سقطت نونه للاضافة. ويحتمل أنه مفرد والمراد به النسر لأنه يكنى بأبى الطير. ويجوز أن يريد بأبى الطير خالدا لوقوعها عليه، ويجوز أن يريد به أصلها. ويروى: لعمر أبى الطير المربة غدوة ... الخ. ويروى هذا يرفع الطير. ولعله على الابتداء أو الخبرية لمحذوف، أو على تقدير النداء، وإلى مضاف إلى ضمير المتكلم كالذي بعده.
ويقال: أرب بالمكان وألب به. أقام فيه ولازمه، فالمربة المقيمة العاكفة وقت الضحى على خالد القتيل. والتفت إلى خطاب الطير فقال لها: لقد وقعت. ويروى علقت، على لحم- بالتحريك- على لغة وتنكيره للتعظيم: أى على لحم عظيم. وأنثها لأنها جماعة في المعنى. فان قرئ بفتح التاء فظاهر، وخاطبه لتنزيله منزلة العاقل، ثم أقسم بأبيه أن الطير لا يأكل مثل خالد في العظم عشية أمسى لا يظهر لنا من السلم- وهو شجر العضاه- كناية عن كونه قتيلا فيه والطير حوله على ذلك الشجر. وفي البيتين التفاتان.

(1/45)


إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)

وربهم فصل: وفائدته: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. أو هو مبتدأ والمفلحون خبره، والجملة خبر أولئك.
ومعنى التعريف في المفلحون: الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك، فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أى هو الذي أخبرت بتوبته. أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، وتصوروا بصورتهم الحقيقية، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة. كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيدا هو هو. فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته. اللهم زينا بلباس التقوى، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة. والمفلح: الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. والمفلج- بالجيم- مثله. ومنه قولهم المطلقة: استفلحى بأمرك بالحاء والجيم. والتركيب دال على معنى الشق والفتح، وكذلك أخواته في الفاء والعين، نحو:
فلق، وفلذ، وفلي.

[سورة البقرة (2) : آية 6]
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)
لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهلتهم لإصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدى عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته. فإن قلت: لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: (إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم) وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت: لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف. فإن قلت: هذا إذا زعمت أن الذين يؤمنون جار على المتقين، فأما إذا ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين، ثم عقبته بكلام آخر في صفة أضدادهم، كان

(1/46)


مثل تلك الآي المتلوة. قلت: قد مر لي أن الكلام المبتدأ عقيب المتقين سبيله الاستئناف، وأنه مبنى على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين، وتابع «1» له في المعنى وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في الحقيقة كالجارى عليه.
والتعريف في الذين كفروا يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده «2» وغيرهم، ودل على تناوله للمصرين الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم، وسواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر. ومنه قوله تعالى: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) ، (في أربعة أيام سواء للسائلين) بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لإن، وأ أنذرتهم أم لم تنذرهم
في موضع المرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. كما تقول: إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه.
أو يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء، وسواء خبرا مقدما بمعنى: سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر لإن. فإن قلت: الفعل أبدا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا، من ذلك قولهم:
لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل. والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء «3» وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، يعنى أن هذا جرى على صورة
__________
(1) . قوله «وتابع له في المعنى» لعله واتباع له (ع)
(2) . قوله «بعده وغيرهم» لعله كهؤلاء وغيرهم (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وحاصل هذا النقل استعمال الحرف في أعم معناه، فالهمزة المعادلة لأم موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متبادلين في عدم علم التعين فنقلت إلى مطلق المعادلة وإن لم يكن استفهاما، واستعملت في الجزء الحقيقي. وكذلك حرف النداء موضوع في الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء، ثم نقل إلى مطلق التخصيص ولا نداء، كما يكون المجاز بالتخصيص والقصر مثل تخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دب، فقد يكون بالتعميم والتعدي مثل تسمية الرجل الشجاع أسدا نقلا لهذا الاسم من موصوف بالشجاعة مخصوص وهو الحيوان المعروف، إلى كل موصوف بتلك الصفة غير مقصورة على محلها الأصلى.

(1/47)


ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)

الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إما الإنذار وإما عدمه، ولكن لا بعينه، فكلاهما معلوم بعلم غير معين. وقرئ: (أأنذرتهم) بتحقيق الهمزتين، والتخفيف أعرب وأكثر، وبتخفيف الثانية بين بين، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ (قد أفلح) .
فإن قلت: ما تقول فيمن يقلب الثانية ألفا؟ قلت: هو لاحن خارج عن كلام العرب خروجين: أحدهما الإقدام على جمع الساكنين على غير حده- وحده أن يكون الأول حرف لين والثاني حرفا مدغما نحو قوله: الضالين، وخويصة «1» والثاني: إخطاء طريق التخفيف لأن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها أن تخرج بين بين فأما القلب ألفا فهو تخفيف الهمزة الساكنة المفتوح ما قبلها كهمزة رأس. والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي. فإن قلت: ما موقع لا يؤمنون؟ قلت: إما أن يكون جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبرا لإن والجملة قبلها اعتراض.

[سورة البقرة (2) : آية 7]
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)
الختم والكتم أخوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه.
والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
فإن قلت: ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار؟ قلت: لا ختم ولا تغشية «2» ثم على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل. أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده، وأسماعهم لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه وتعاف استماعه كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلى آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين كأنما غطى عليها وحجبت، وحيل بينها وبين الإدراك.
وأما التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من
__________
(1) . قوله «وخويصة» مسلم من رواية زياد بن رباح عن أبى هريرة رضى الله عنه: «بادروا بالأعمال ستا ... » فذكره. وفيه «وخويصة أحدكم» .
(2) . قوله «لا ختم ولا تغشية» ولا تغطية.

(1/48)


أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعى ختما عليه فقال:
ختم الاله على لسان عذافر ... ختما فليس على الكلام بقادر
وإذا أراد النطق خلت لسانه ... لحما يحركه لصقر ناقر «1»
فإن قلت: فلم أسند الختم إلى الله تعالى «2» وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل
__________
(1) . لرجل من فزارة واستعار الختم المانع من زيادة الكتاب ونقصه للمنع من الكلام. وعذافر- بالضم- اسم رجل. ويطلق على الشديد العظيم، وعلى الأسد. والبيت معناه الاخبار عن حال عذافر، وهو الظاهر من التفريع ويبعد أنه دعاء عليه. وفاعل يحرك لعذافر. شبه لسانه باللحم الذي ينقره الصقر بجامع تحرك كل بغير استقامة مع عدم التلفظ، وهذا مما يدل على أن البيت إخبار لا دعاء.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت فلم أسند الختم إلى الله تعالى ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: هذا أول عشواء خبطها في مهواة من الأهواء هبطها، حيث نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة استبقاء لما كتب عليه من المحنة، فانطوى كلامه هذا على ضلالات أعدها وأردها:
الأولى: مخالفة دليل العقل على وحدانية الله تعالى. ومقتضاه أنه لا حادث إلا بقدرة الله تعالى لا شريك له، والامتناع من قبول الحق من جملة الحوادث فوجب انتظامه في سلك متعلقات القدرة العامة المتعلق بالكائنات والممكنات.
الثانية: مخالفة دليل النقل المضاهي لدليل العقل كأمثال قوله تعالى: (الله خالق كل شيء) ، (هل من خالق غير الله) وهذه الآية أيضا فان الختم فيها مسند إلى الله تعالى نصا. والزمخشري رحمه الله لا يأبى ذلك، ولكنه يدعى الالتجاه إلى تأويلها لدليل قام عنده عليه. فإذا أثبت أن الدليل العقلي على وفق ما دلت عليه، وجب عليه إبقاؤها على ظاهرها بل لو وردت على خلاف ذلك ظاهرا، لوجب تأويلها بالدليل جمعا بين العقل والنقل.
الثالثة: الفرار من نسبة ما اعتقده قبحا إلى الله تعالى تنزيها، على زعمه أن الاشراك به في اعتقاد أن الشيطان هو الذي يخلق الختم والكافر يخلفه لنفسه بقدرته على خلاف مراد ربه. فلقد استوخم من السنة المناهل العذاب وورد من حميم البدعة موارد العذاب.
الرابعة: الغلط باعتقاد أن ما يقبح شاهدا يقبح غائبا، فلما كان المنع من قبول الحق قبيحا في الشاهد وجب على زعمه أن يكون قبيحا من الغائب. وهذه قاعدة قد فرغ من بطلانها في فنها.
الخامسة: اعتقاده أن ذلك لو فرض وجوده بقدرة الله تعالى لكان ظلما، والله تعالى منزه عن الظلم بقوله تعالى (وما أنا بظلام للعبيد) ومن الظلم البين جهل حقيقة الظلم فانه التصرف في ملك الغير بغير إذنه. فكيف يتصور ثبوت حقيقته لله تعالى؟ وكل مفروض محصور بسور ملكه عز وجل: الملك لله الواحد القهار.
السادسة: أنه فر من اعتقاد نسبة الظلم إلى الله تعالى فتورط فيه إلى عنقه لأنه قد جزم بأن المنع من قبول الحق لو كان من فعل الله تعالى لكان ظلما. فيقال له: وقد قام البرهان على أنه من فعل الله تعالى فيلزمك أن يكون ظلما- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- والخيال الذي يدندن حوله هؤلاء: أن أفعال العبد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم ولا قامت حجة الله عليهم. وهذه الشبه قد أجراها في أدراج كلامه المتقدم، فيقال لهم: لم قلتم إنها لو كانت مخلوقة لله لما نعاها على عباده؟ فان أسندوا هذه الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح وقالوا: معاقبة الإنسان بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت المعاقبة من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا. قيل لهم: ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع، ثم يعاقبه على ذلك من القدرة على ردعه ورده من الأول عنها. وأنتم معاشر القدرية تزعمون أن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى، على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك، فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم، وذلك في الشاهد قبيح جزما. فسيقولون: أجل إنه لقبيح في الشاهد، ولكن هناك حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الشاهد والغائب، فحسن من الغائب تمكين عبده من الفواحش مع القدرة على أن لا يقع منه شيء، ولم يحسن ذلك في الشاهد. وفي هذا الموطن تتزلزل أقدامهم وتتنكس أعلامهم، إذا لاحت لهم قواطع اليقين وبوارق البراهين فيقال لهم: ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر الله بها كما فرغتم منه الآن سواء؟ فلم لا يسلك أحدكم الطريق الأعدل وينظر عاقبة هذا الأمر فيصير آخر أول، وليفوض من الابتداء إلى خالقه، ويتلقى حجة الله تعالى عليه بالقبول والتسليم، ويسلك مهتديا بنور العقل ومقتديا بدليل الشرع الصراط المستقيم فان نازعته النفس وحادثته الهواجس ورغب في مستند من حيث النظر يأنس به من مفاوز الفكر، فليخطر بباله ما ذكر عند كل عاقل من التمييز بين الحركة الاختيارية والقسرية، فلا يجد عنده في هذه التفرقة ريبا. فإذا استشعر ذلك فليتنبه فقد لطف به إلى أن انحرف عن مضايق الجبر، فارا أن يلوح به شيطان الضلال إلى مهامه الاعتزال، فليمسك نفسه دونها بزمام دليل الوحدانية على أن لا فاعل ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا وقف لم يقف إلا وهو على الصراط المستقيم والطريقة المثلى، مارا عليها في أسرع من البرق الخاصف والريح العاصف؟ فليتأمل الناظر هذا الفصل، ويتخذه وزره في قاعدة الأفعال، يقف على الحق إن شاء الله تعالى.

(1/49)


إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى عن فعل القبيح «1» علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه.
وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: (وما أنا بظلام للعبيد) ، (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) ، (إن الله لا يأمر بالفحشاء) ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل، فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشىء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟
ويجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ختم الله على قلوبهم مثلا كقولهم: سال به الوادي، إذا هلك. وطارت به العنقاء، إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في
__________
(1) . قوله «والله يتعالى عن فعل القبيح» هذا مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فيجوز عليه تعالى خلق الشر وإرادته كالخير، وإن كان لا يأمر إلا بالخير. والختم على القلوب عندهم. خلق الضلال فيها كما بين في علم التوحيد. (ع)

(1/50)


طول غيبته وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغتام «1» التي هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعبى شيئا ولا تفقه، وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك. ويجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله، فيكون الختم مسندا إلى اسم الله على سبيل المجاز. وهو لغيره حقيقة. تفسير هذا: أن للفعل ملابسات شتى يلابس. الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها للفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه، فيقال في المفعول به: عيشة راضية، وماء دافق. وفي عكسه: سيل مفعم «2» . وفي المصدر: شعر شاعر، وذيل ذائل. وفي الزمان:
نهاره صائم. وليله قائم. وفي المكان: طريق سائر، ونهر جار. وأهل مكة يقولون: صلى المقام. وفي المسبب: بنى الأمير المدينة، وناقة ضبوث «3» وحلوب. وقال:
إذا رد عافى القدر من يستعيرها «4»
__________
(1) . قوله «نحو قلوب الأغتام» الذي في الصحاح: الغتمة العجمة، والأغتم الأعجم الذي لا يفصح شيئا:
والجمع غتم. (ع) [.....]
(2) . قوله «سيل مفعم» في الصحاح: أفعمت الإناء ملأته، وفيه أيضا: يقال: ذيل ذائل، وهو الهوان والخزي. (ع)
(3) . قوله «وناقة ضبوث» في الصحاح: ناقة ضبوث، يشك في سمنها فتضبث، أى تجس باليد. (ع)
(4) .
فلا تسألينى واسألى عن خليقتي ... إذا رد عافى القدر من يستعيرها
فكانوا قعودا فوقها يرقبونها ... وكانت فتاة الحي ممن يعيرها
لعوف بن الأحوص الباهلي. وقيل: للكميت. يقول: فلا تسألينى عن طبيعتي واسألى غيرى عنها، وقت أن يمنع عافى القدر- أى طالب الرزق الذي فيها- من يستعيرها ليطبخ فيها. وإسناد الرد للعافى مجاز عقلى لأن المانع في الحقيقة هو صاحب القدر بسبب طالب الرزق، ولم يسنده إلى نفسه تبرءا من نسبة الرد إليها، إلا أن يراد جنس القدر لا قدره هو فقط فالمعنى: إذا أجدب الزمان على ما سيأتى. وجمع الضمير في قوله «فكانوا» لأن العافي متعدد في المعنى: أى فكأن العفاة قاعدين حولها ينتظرون نضج ما فيها. وكانت فتاة الحي- يعنى حيه- من جملة من يعير القدر. ويجوز أن ضمير «كانوا» لمن يستعيرها. ويحتمل أن «عافى القدر» بقية ما كان فيها من المرق، والاسناد مجازى أيضا على معنى أن من يستعيرها يجدها مشغولة، وهو دليل على كثرة طبخه للضيفان.
ويجوز أن المراد أن الحالة جدب حتى أن صاحب القدر برد المستعير حرصا على ما فيها من بقية المرق ولو قليلة فضمير «كانوا» لمن يستعيرها ويجوز أن عافى القدر: مفعول لم يظهر نصبه للوزن، و «من يستعيرها» فاعل لأنه كان من عادة العرب في الجدب أن برد المستعير بقية من المرق في القدر للمعير، فهو كناية عن الجدب لكن لا تتم مناسبة لما بعده: ويجوز أن يكون المعنى إذا منع مستعير القدر عافيها أى طالب الرزق منها ولبخله وعدم نزول الضيفان عنده، لا يملك لنفسه قدرا، فإذا استعار قدرا ليطبخ فيها مرة منع طالب الرزق منها. وعلى هذا يحتمل أنه جمع حذفت نونه للاضافة فنصبه بالياء، فهذه أربعة وجوه.

(1/51)


فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر، إلا أن الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. ووجه رابع: وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها، لم يبق- بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعا واختيارا- طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم الله ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم، إشعارا بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حد لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغى واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس: وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم: (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) . فإن قلت: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية «1» فعلى أيهما يعول؟ قلت: على دخولها في حكم الختم لقوله تعالى: (وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت: أى فائدة في تكرير الجار في قوله: (وعلى سمعهم) ؟ قلت:
لو لم يكرر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجد للأسماع تعدية على حدة، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. ووحد السمع كما وحد البطن في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك: فرسهم،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ... الخ» . قال أحمد رحمه الله وكان جدي رحمه الله يذكر هذا ويزيد عليه أن الأسماع والقلوب لما كانت محوية كان استعمال الختم لها أولى، والأبصار لما كانت بارزة وإدراكها متعلق بظاهرها كان الغشاء لها أليق.

(1/52)


ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)

وثوبهم، وأنت تريد الجمع رفضوه. ولك أن تقول: السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع. فلمح الأصل يدل عليه جمع الأذن في قوله: (وفي آذاننا وقر) وأن تقدر مضافا محذوفا: أى وعلى حواس سمعهم. وقرأ ابن أبى عبلة: وعلى أسماعهم. فإن قلت: هلا منع أبا عمرو والكسائي من إمالة أبصارهم ما فيه من حرف الاستعلاء وهو الصاد؟ قلت:
لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيها من التكرير كأن فيها كسرتين، وذلك أعون شيء على الإمالة وأن يمال له ما لا يمال. والبصر نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات. كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل. وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
وقرئ (غشاوة) بالكسر والنصب. وغشاوة: بالضم والرفع. وغشاوة: بالفتح والنصب. وغشوة: بالكسر والرفع. وغشوة: بالفتح والرفع والنصب. وعشاوة: بالعين غير المعجمة والرفع، من العشا.
والعذاب: مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول: أعذب عن الشيء، إذا أمسك عنه.
كما تقول: نكل عنه. ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف الملح فإنه يزيده.
ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أى يكسره. وفراتا، لأنه يرفته على القلب. ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا- أى عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا.
تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
اللهم أجرنا من عذابك ولا تبلنا بسخطك يا واسع المغفرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)

(1/53)


افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم. ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا قلوبا وألسنة. ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم:
(مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك استهزاء وخداعا. ولذلك أنزل فيهم (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة.
وأصل (ناس) أناس، حذفت همزته تخفيفا كما قيل: لوقة، في ألوقة «1» . وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس. ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس.
وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أى يبصرون، كما سمى الجن لاجتنانهم. ولذلك سموا بشرا.
ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل، وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال «2» . وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، والإشارة إلى الذين كفروا المار ذكرهم كأنه قيل: ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد الله بن أبى وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك: نزلت ببني فلان فلم يقرونى والقوم لئام.
ومن في من يقول موصوفة، كأنه قيل: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال) إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي) . فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟
قلت: الكفر جمع الفريقين معا وصيرهم جنسا واحدا. وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا
__________
(1) . قوله «كما قيل لوقة في ألوقة» اللوقة والألوقة: الزبدة. أفاده الصحاح (ع)
(2) . قوله «من أسماء الجمع كرخال» الرخل- بالكسر-: الأنثى من ولد الضأن، والجمع رخال بالكسر، وبالضم كذا في الصحاح. (ع)

(1/54)


الجنس- مغايرا للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء- لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس فإن الأجناس إنما تنوعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتى بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهودا، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لقولهم: (عزير ابن الله) . وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) خبثا مضاعفا وكفرا موجها، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان.
فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، وكفرا إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان «1» من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت:
كيف طابق قوله: (وما هم بمؤمنين) قولهم (آمنا بالله وباليوم الآخر) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها. فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأول؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما.
فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من
__________
(1) . قوله «اختاروا الايمان» لعله احتازوا- بالحاء المهملة والزاى- كما في عبارة البيضاوي (ع)

(1/55)


النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حد للوقت بعده.
والخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم: ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أو همه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فإن قلت:
كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح «1» لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا.
ألا نرى إلى قوله:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: هذا الفصل من كلام الزمخشري جمع فيه بين الغث والسمين. ونحن ننبه على ما فيه من الزبد، ليتم للناظر أخذ ما فيه من السنة، آمنا من التورط في وضر البدعة، مستعينين بالله وهو خير معين. فمما خالف فيه السنة قوله: إن الله تعالى عالم بذاته، يريد لا يعلم. وهذا مما وسمت به المعتزلة في المقدمة من أنهم يجحدون صفات الكمال الإلهي، يبغون بذلك زعمهم التوحيد والتنزيه. ومعتقد أهل السنة أن الله تعالى عالم بعلم قديم أزلى، متعلق بكل معلوم واجب أو ممكن أو مستحيل ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. وحسبك هذه الآية مصدقة لمعتقدهم في ثبوت صفة العلم له تعالى وفي عموم نعلقه بالكليات والجزئيات إلى ما وراءها من البراهين الكلامية على ذلك. ولسنا بصدد ذكرها في هذا الكتاب. ومما خالف فيه السنة:
اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مخلوقا لله تعالى لأنه قبيح على زعمه كالمفهوم من الخداع في هذه الآية. وما جره إلى هاتين النزغتين إلا اعتقاده أنه لا يتم استحالة كونه تعالى مخدوعا، إلا بأنه عالم بذاته حتى تعم عالميته كل كائن فلا يخدع إذ نسبة الذات إلى الكائنات نسبة واحدة، ولا يتم استحالة كونه تعالى خادعا إلا باستحالة صدور بعض الكائنات عنه لأنه قبيح على زعمهم. ولقد وقف هذا التنزيه على ما لا توقف عليه ولا شرط فيه.
فنحن معاشر أهل السنة نعتقد أن الله تعالى عالم بعلم، ومع ذلك نعتقد استحالة كونه مخدوعا لأن علمه عندنا عام التعلق كما وصفنا. ونعتقد أنه لا يصدر كائن في الوجود إلا عن قدرته لا غير، ومع ذلك نمنع أن ينسب الخداع إلى الله تعالى لما يوهم ظاهره من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم. هذا هو الموهوم منه في الإطلاق، ولكن حيث أطلقه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم، علمنا أن المراد منه أنه فعل معهم فعلا سماه خداعا مقابلة ومشاكلة وإلا فهو قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم رأى العين فهذا معتقد أهل السنة في هذه الآية وأمثالها لا كالزمخشري وشيعته الذين يزعمون أنهم يوحدون فيجحدون، وينزهون فيشركون. والله الموفق للحق. وكذلك الخداع المنسوب إليهم على سبيل المجاز عن تعاطيهم أفعال المخادع على ظنهم وأصدق شاهد في أنه مجاز نفيه بعقب إثباته في قوله: (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) ففي هذه التتمة نفى احتمال الحقيقة حتى تتعين جهة المجاز. ومما عده البيانيون من أدلة المجاز صدق نفيه فتأمل هذا الفصل فله على سائر الفصول الفضل.

(1/56)


واستمطروا من قريش كل منخدع «1»
وقول ذى الرمة:
إن الحليم وذا الإسلام يختلب «2»
فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت: فيه وجوه. أحدها: أن يقال كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع الله معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني: أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقا لم يكن عارفا بالله ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم، ولا أنه غنى عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفى، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث: أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: قال الملك كذا ورسم كذا
__________
(1) .
واستمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا
كانت العرب إذا أصابها جدب فزعت إلى قريش ليستسقوا لهم، لأنهم ولاة بيت الله وحماة حرمه، كما فعل قوم عاد لما قحطوا. وكذلك استسقى عمر بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. واستسقى أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه واستسقى له مع ما كان بينهما من العداوة. يقول: طلب القوم من كل منخدع من قريش المطر: أى أن بطلب لهم المطر. وقال السيد: واستمطروا، أى استقوا وطلبوا، فأفاد أنه على صيغة الأمر. وفي الصحاح: أى سلوه أن يعطي كالمطر مثلا، وهو يؤيد كلام السيد. ويجوز تشبيه كل منخدع من قريش بالسحاب على سبيل المكنية، فيطلب منه المطر. والمنخدع المغلوب لكرمه، وبينه قوله: إن الكريم. ويروى البيت هكذا
لا خير في الحب لا ترجى نوافله ... فاستمطروا من قريش كل منخدع
ويروى «من فريق» بدل «قريش» . وقوله «لا ترحى الخ» جملة حالية للحب. وفريق موضع بعينه من الحجاز.
(2) .
تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت ... وتخرج العين فيها حين تنتقب
تلك الفتاة التي علقتها عرضا ... إن الحليم وذا الإسلام يختلب
لذي الرمة في محبوبته مى. وسفرت المرأة: كشفت عن وجهها. وروى: إسفارا، بدل إبهاجا. والمراد أن إبهاجها بسفرها لعيني يزداد إذا كشفت عن وجهها. وخرجت العين- كتعبت- حارت. وروى «منها» بدل «فيها» أى من أجلها. وتنتقب: أى ترسل النقاب على وجهها. وعرضا أى من غير قصد ولا شعور. وخلب- من باب قتل-: خدع أى هي الشابة التي اعترضني حبها حيث لا أشعر. ثم تسلى بأن العاقل المسلم كثيرا ما ينخدع.

(1/57)


وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله:
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم) وقوله: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) . والرابع: أن يكون من قولهم: أعجبنى زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من الله بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وكذلك: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) ونظيره في كلامهم: علمت زيدا فاضلا، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه لأنه كان معلوما له قديما كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت: هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت: وجهه أن يقال: عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده قراءة من قرأ: (يخادعون الله والذين آمنوا) وهو أبو حيوة. و (يخادعون) بيان ليقول. ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون. فان قلت: عم كانوا يخادعون؟
قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم- لاختلاطهم بهم- على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت: لم يظهر عليهم لما أحاط به علما من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذريته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشد من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. فإن قلت: ما المراد بقوله: (وما يخدعون إلا أنفسهم) ؟ قلت:
يجوز أن يراد: وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول: فلان يضار فلانا وما يضار إلا نفسه، أى: دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدثهم بالأمانى وأن يراد: وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرئ: وما يخدعون،

(1/58)


ويخدعون من خدع. ويخدعون- بفتح الياء- بمعنى يخدعون. ويخدعون. ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله. والنفس: ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفسا. ثم قيل للقلب:
نفس لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم: المرأ بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح وللدم نفس لأن قوامها بالدم. وللماء نفس لفرط حاجتها إليه: قال الله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه، كقولهم: فلان يؤامر نفسيه- إذا تردد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدرى على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعي النفس، وهاجسى النفس فسموهما: نفسين، إما لصدورهما عن النفس، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم: أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم.
والشعور علم الشيء علم حس «1» من الشعار. ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادى غفلتهم كالذي لا حس له.
واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازا، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول:
في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقا ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) ويتحرقون عليهم حسدا (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) وناهيك مما كان «2» من ابن أبى وقول سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعف عنه يا رسول الله واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «والشعور علم الشيء علم حس ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: إيضاح هذا الكلام على تفسير الشعور كما قال بأنه علم الشيء من ناحية الحس الخ: أنه لما كانت مفسدة النفاق عائدة على المنافق عودا بينا جليا محسوسا، نعى عليهم جهلهم بالمحسوس فنفى شعورهم به ولا كذلك معرفة الحق وتميزه عن الباطل فانه أمر عقلى نظري.
(2) . قوله «وناهيك مما كان» لعله: بما كان. (ع)

(1/59)


ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك «1» . أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور، لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به: أن ريح الإسلام تهب حينا ثم تسكن ولواءه يخفق أياما ثم يقر، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجرامتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبنا وخورا «2» حين قذف الله في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله لهم بالملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» »
. ومعنى زيادة الله إياهم مرضا أنه كلما أنزل على رسوله الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفرا إلى كفرهم، فكأن الله هو الذي زادهم ما ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) لكونها سببا. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد ونقصا من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو في رواية الأصمعى:
مرض، ومرضا، بسكون الراء:
يقال ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع «4»
__________
(1) . متفق عليه من رواية عروة عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فركبه وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة. فذكره مطولا
(2) . قوله «جبنا وخورا» الخور بالتحريك: الضعف، كما في الصحاح. (ع) [.....]
(3) . متفق عليه من حديث جابر رضى الله عنه.
(4) .
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقنى وأصحابى هجوع
وسوق كتيبة دلفت لأخرى ... كأن زهاءها رأس صليع
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
لعمرو بن معديكرب صاحب ريحانة أخت دريد بن الصمة، التمس منه زواجها فأجابه ومطله. وقيل: ريحانة اسم موضع بعينه. والسميع: المسمع على اسم المفعول، أو المسموع، أو المسمع على اسم الفاعل، أو السامع وأصل فعيل أن يكون بمعنى فاعل كعليم. وكذا ما جاء بمعنى مفعول كجريح وقتيل. وندر من الرباعي بمعنى مفعل اسم فاعل كوجيع، وبمعنى مفعل اسم مفعول كسميع بمعنى مسمع اسم مفعول. وكثر سماعا بمعنى مفاعل كجليس وشريك.
وسميع: مبتدأ، خبره يؤرقنى أى هل داعى الشوق من ريحانة يسهرني والحال أن أصحابى نيام؟ والاستفهام للتعجب «وسوق كتيبة» عطف على الداعي أو على ضمير يؤرقنى. والكتيبة: الجماعة المنضمة المنتظمة. ودلف دلفا من باب تعب مشى بتؤدة. وقيل تقدم وأسرع. كان زهاءها: أى مقدارها. والصليع: الذي لا شعر فيه، ولعله شبهها بذلك الرأس في التجرد والانكشاف والظهور والتمام كما يقال: جيش أقرع، وألف أقرع: أى تام مجازا. وخيل: أى وأصحاب خيل قد تقدمت لها بمثلها. والتحية: الدعاء بالحياة، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكم.
وضمير «بينهم» للخيل بمعنى الجيش. وانتقل من ذكر ريحانة إلى ذكر الحرب لأنه كان أغار على دريد في طلبها.

(1/60)


وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)

وهذا على طريقة قولهم: جد جده. والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد.
والمراد بكذبهم قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا) والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن ارتكابها.
والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأما ما يروى عن إبراهيم عليه السلام أنه كذب ثلاث كذبات «1» . فالمراد التعريض. ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به. وعن أبى بكر رضى الله عنه وروى مرفوعا: «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» «2» وقرئ يكذبون، من كذبه الذي هو نقيض صدقه أو من كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل: صدق. ونظيرهما: بان الشيء وبين، وقلص الثوب وقلص. أو بمعنى الكثرة كقولهم: موتت البهائم، وبركت الإبل، أو من قولهم: كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردد في أمره، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام: «مثل المنافق كمثل الشاة «3» العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 16]
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15)
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)
__________
(1) . متفق عليه واللفظ للبخاري من رواية ابن سيرين، عن أبى هريرة رضى الله عنه رفعه «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله عز وجل» الحديث. وأخرجه الترمذي في تفسير الأنبياء، من طريق أبى الزناد عن الأعرج عنه.
(2) . روى مرفوعا وموقوفا على أبى بكر الصديق رضى الله عنه. أما المرفوع فأخرجه ابن عدى من طريق إسماعيل بن أبى خالد عن قيس عنه. قال الدارقطني في العلل: رفعه يحيى بن عبد الملك وجعفر الأحمر وعمر بن ثابت عن إسماعيل. ووقفه غيرهم وهو أصح. ويروى عن أبى أسامة ويزيد بن هرون عنه أيضا مرفوعا. ولا يثبت عنهما اه. وأما الموقوف فأخرجه أحمد وابن أبى شيبة في الأدب كلاهما عن وكيع عن إسماعيل وابن المبارك في الزهد عن إسماعيل كذلك. ولم يجد الطيبي المرفوع فأخرج بدله عن صفوان بن سليم. قيل: يا رسول الله والمؤمن يكون جبانا؟ قال: نعم. يكون بخيلا؟ قال: نعم. يكون كذابا؟ قال: لا. أخرجه مالك وهو مرسل.
(3) . أخرجه مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما: قوله تعير بمهملة أى تتردد.

(1/61)


وإذا قيل لهم معطوف على يكذبون. ويجوز أن يعطف على: (يقول آمنا) لأنك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، كان صحيحا، والأول أوجه.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية.
قال الله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) ، (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) . ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد. وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم علتهم، وذلك مما يؤدى إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لهم: لا تفسدوا، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. و «إنما» لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى إنما نحن مصلحون أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد. وألا مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله: (أليس ذلك بقادر) ؟ ولكونها في هذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدمات اليمين وطلائعها:

(1/62)


أما والذى لا يعلم الغيب غيره «1»
أما والذى أبكى وأضحك «2»
رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين ألا. وإن من التأكيدين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل. وقوله: لا يشعرون أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب وجره إلى الفساد والفتنة. والثاني: تبصيرهم الطريق الأسد من اتباع ذوى الأحلام، ودخولهم في عدادهم فكان من جوابهم أن سفهوهم لفرط سفههم، وجهلوهم لتمادى
__________
(1) .
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ويحيى العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوى الحشا ... محاذرة من أن يقال لئيم
وإنى لأستحيى يمينى وبينها ... وبين فمي داجى الظلام بهيم
لحاتم الطائي. وأصل «أما» مركبة من همزة الاستفهام وما الباقية، فصارت حرفا لاستفتاح القسم وتوكيد الكلام وأقسم بالذي بعلم الغيب والضمائر وهو الله تعالى، لأن جواب القسم من هذا القبيل. وذكر البيض دفعا لتوهم أنها المكية باللحم أو كناية عن طول مدتها عارية عنه، فيشتد بباضها لجفاف دمها وهي رميم بالية. واستواء لمذكر والمؤنث في فعيل بمعنى فاعل كما هنا قليل، والكثير في الذي بمعنى مفعول. لقد كنت أختار القرى: أى جمع الضيفان وإكرامهم. ويجوز أن يروى: أجناز القرى بالجيم والزاى وضم القاف: يصف نفسه بالعفة. ويروى: أختار الجوى بمعنى حرقة القلب من الجوع ونحوه حال كوني عفوفا. وعلى الأولى فالمعنى: حال كوني جائعا، قطي الحشا أى المعدة والأمعاء كناية عن ذلك، وكثر استعمال الطى في هذا المعنى، حتى قيل منه: طوى يطوى كرضى يرضى بمعنى جاع، فهو طيان كجوعان وزنا ومعنى. محاذرة: أى حذرا من قول الناس إنه لئيم لا كريم. وكان يستحى أن يمد يده للطعام إلى فمه، مع أن الليل شديد الظلمة حائل بينهما فيمنعه أن يراها. والبهيم: الذي انبهمت فيه الأشياء لظلمته.
(2) .
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
لأبي صخر عبد الله بن سلمي الهذلي. و «أما» استفتاحية ومقدمة وطليعة لليمين. والواو بعدها للقسم: أى وحق الذي أبكى وأضحك حقيقة، أو الذي سر وضر كناية، وهو أنسب بالمقام. والذي أمره: أى مقدره هو المقدر النافذ، أو الذي أمره إذا أراد شيئا الأمر: أى قوله كن. ويروى «أمر» بلا لام: أى أمر حق عظيم. لقد تركتني جواب القسم: أى صيرتني أحسد الوحش على رؤيتى متآلفين منها، أى الوحش لأنه في معنى الجماعة. لا يروعهما أى لا يخيفهما، لأن الخوف يحل الروع- بالضم- وهو القلب. وذعر ذعرا، كتعب: خاف خوفا. وذعرته ذعرا كضربته ضربا أخفته. أى لا تخيفهما الاخافة. ويجوز أن يراد بالذعر: الأمر المخيف. ويروى: لا يروعهما النفر: أى لا ينفر أحدهما من الآخر فيروعه بذلك.

(1/63)


جهلهم. وفي ذلك تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. فإن قلت: كيف صح أن يسند «قيل» إلى «لا تفسدوا، وآمنوا» وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح؟ قلت: الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل، وهذا إسناد له إلى لفظه، كأنه قيل: وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام. فهو نحو قولك: «ألف» ضرب من ثلاثة أحرف. ومنه: زعموا مطية الكذب «1» .
و «ما» في «كما» يجوز أن تكون كافة مثلها في: (ربما) ، ومصدرية مثلها في: (بما رحبت) .
واللام في «الناس» للعهد، أى كما آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم، أى: كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس أى: كما آمن الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل.
والاستفهام في أنؤمن في معنى الإنكار. واللام في السفهاء مشاربها إلى الناس، كما تقول لصاحبك: إن زيدا قد سعى بك، فيقول: أو قد فعل السفيه. ويجوز أن تكون للجنس، وينطوى تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه. فإن قلت: لم سفهوهم واستركوا عقولهم، وهم العقلاء المراجيح؟
قلت: لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم. أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاطهم من إسلامهم وفت في أعضادهم. قالوا ذلك على سبيل التجلد توقيا من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم. فان قلت: فلم فصلت هذه الآية ب: (لا يعلمون) ، والتي قبلها ب: (لا يشعرون) ؟ قلت: لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة.
وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدى إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوى مبنى على
__________
(1) . أخرجه ابن سعد في الطبقات من رواية الأعمش عن شريح قال: زعموا كنية الكذب. وقد ذكره المصنف مرفوعا في سورة التغابن ولم أجده بهذا اللفظ. والذي في الأدب المفرد للبخاري من حديث أبى مسعود الأنصارى رضى الله عنه مرفوعا: «بئس مطية الرجل زعموا» وكذا أخرجه أحمد وإسحاق وأبو يعلى، وهو من رواية أبى قلابة عنه. وفي رواية البخاري بين أبى قلابة وبين أبى مسعود: أبو المهلب.

(1/64)


العادات، معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسوس المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له. مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أول قصة المنافقين فليس بتكرير، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم. وروى أن عبد الله بن أبى وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم «1» نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله:
انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبى بكر فقال: مرحبا بالصديق سيد بنى تيم وشيخ الإسلام وثانى رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بنى عدى الفاروق القوى في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد على فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بنى هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتمونى فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا، فنزلت.
ويقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه، وهو جارى ملاقى ومراوقى. وقرأ أبو حنيفة: وإذا لاقوا.
وخلوت بفلان وإليه، إذا انفردت معه. ويجوز أن يكون من «خلا» بمعنى: مضى، وخلاك ذم: أى عداك ومضى عنك. ومنه: القرون الخالية، ومن «خلوت به» إذا سخرت منه. وهو من قولك: خلا فلان بعرض فلان يعبث به. ومعناه: وإذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها. كما تقول: أحمد إليك فلانا، وأذمه إليك. وشياطينهم: الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. وقد جعل سيبويه نون الشيطان في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة. والدليل على أصالتها قولهم: تشيطن، واشتقاقه من «شطن» إذا بعد لبعده من الصلاح والخير. ومن «شاط» إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة. ومن أسمائه الباطل.
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب من رواية السدى الصغير. ومحمد بن مروان، عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما. قال: «نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبى وأصحابه. وذلك أنهم خرجوا ذات يوم» فذكره وفي آخره «فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فنزلت» . ومحمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث وسياقه في غاية النكارة.

(1/65)


إنا معكم إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟ «1» قلت: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل.
ألا ترى إلى حكاية الله قول المؤمنين: (ربنا إننا آمنا) . وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد. فإن قلت: أنى تعلق قوله: إنما نحن مستهزؤن بقوله: (إنا معكم) قلت: هو توكيد له، لأن قوله: (إنا معكم) معناه الثبات على اليهودية. وقوله: (إنما نحن مستهزؤن) رد للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم: (إنا معكم) ، فقالوا: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا: (إنما نحن مستهزؤن) .
والاستهزاء: السخرية والاستخفاف، وأصل الباب الخفة- من الهزء وهو القتل السريع- وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فغلبت فظننت لأهز أن على مكاني. وناقته تهزأ به: أى تسرع وتخف. فإن قلت: لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل. ألا ترى إلى قوله: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) ، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأن المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وبنى هذا التقرير على أن الجملة الاسمية أثبت من الفعلية خصوصا مؤكدة بأن مردفة بانما على أنه قد حكى إيمان المؤمنين المخلصين بالجملة الفعلية أيضا في قوله: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول) . وعلي الجملة فلقد أحسن الزمخشري رحمه الله في تقريره ما شاء وأجمل ما أراد.

(1/66)


وإدخال الهوان والحقارة عليه، والاشتقاق كما ذكرنا شاهد لذلك. وقد كثر التهكم في كلام الله تعالى بالكفرة. والمراد به تحقير شأنهم وازدراء أمرهم، والدلالة على أن مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون ويضحك الضاحكون. ويجوز أن يراد به ما مر في: (يخادعون) من أنه يجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، وهو مبطن بادخار ما يراد بهم، وقيل: سمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) . فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: (الله يستهزئ بهم) ولم يعطف على الكلام قبله «1» . قلت: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ، الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء ولا يؤبه له في مقابلته، لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل. وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فان قلت: فهلا قيل الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله: (إنما نحن مستهزؤن) «2» قلت: لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) وما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار، ونزول في شأنهم واستشعار حذر من أن ينزل فيهم (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ، (قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون) . ويمدهم في طغيانهم من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره. وكذلك مد الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها.
ومددت السرج والأرض: إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومده الشيطان في الغى وأمده:
إذا واصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه ويزداد انهما كافيه. فإن قلت: لم زعمت أنه من المدد دون المد في العمر والإملاء والإمهال؟ قلت: كفاك دليلا على أنه من المدد دون المد قراءة ابن كثير وابن محيصن: (ويمدهم) ، وقراءة نافع: (وإخوانهم يمدونهم) على أن الذي بمعنى أمهله
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت: كيف ابتدئ قوله: الله يستهزئ بهم ولم يجعله معطوفا ... الخ» ؟
قال أحمد رحمه الله: فان قال قائل: أفلا يستفاد هذا المعنى من العطف؟ قيل له: لو عطف لأشعر بأن الغرض كل الغرض اجتماع مضمون الجملتين وإعراض عن هذا المعنى الذي ينفرد به الاستئناف
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فهلا قيل الله مستهزئ بهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: ولهذا الفرق بين الفعل والاسم ورد قوله تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة)
لما كان التسبيح من الطوائد متكررا متجددا شيئا فشيئا وحشر الطير معه أمر دائم، ذكر التسبيح بصيغة الفعل، والحشر بصيغة الاسم. وسيأتى إن شاء الله تعالى مزيد تقرير فيه.

(1/67)


إنما هو مد له مع اللام كأملى له. فان قلت: فكيف جاز أن يوليهم الله مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وإخوانهم يمدونهم في الغي) ؟ «1» قلت: إما أن يحمل على أنهم لما منعهم الله ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مددا. وأسند إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
فإن قلت: فما حملهم على تفسير المد في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت: استجرهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى الله ما أسندوا إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدى سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره: في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان: الغلو في الكفر، ومجاوزة الحد في العتو.
وقرأ زيد بن على رضى الله عنه: (في طغيانهم) بالكسر وهما لغتان، كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان. فان قلت: أى نكتة في إضافته اليهم؟ «2» قلت: فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن الله بريء منه ردا لاعتقاد الكفرة القائلين: لو شاء
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت: كيف جاز أن يوليهم الله مددا من الطغيان ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: ما يمنعه أن يقره على ظاهره ويبقيه في نصابه إلا أنه توحيد محض وحق صرف، والقدرية من التوحيد على مراحل
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: ما النكتة في إضافة الطغيان إليهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: كل فعل صدر من العبد اختيارا فله اعتباران: إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص، فانسب ذلك إلى قدرة الله وحده وإرادته لا شريك له. وإن نظرت إلى تميزه عن القسر الضروري فانسبه في هذه الجهة إلى العبد، وهي النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في أمثال قوله تعالى: (فبما كسبت أيديكم) ، وهي المتحققة أيضا إذا عرضت على ذهنك الحركتين الضرورية الرعشية مثلا والاختيارية، فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة. فإذا تقرر تعدد الاعتبار فمدهم في الطغيان مخلوق لله تعالى فأضافه إليه. ومن حيث كونه واقعا منهم على وجه الاختيار المعبر عنه بالكسب أضافه إليهم. ففرع على أصول السنة بحسن ثمار فروعك في الجنة، لا كما تفرع القدرية فإنهم يخبون ولكن على أنفسهم. ألهمنا الله التحقيق وأيدنا بالتوفيق. [.....]

(1/68)


الله ما أشركنا، ونفيا لوهم من عسى يتوهم «1» عند إسناد المد إلى ذاته لو لم يضف الطغيان اليهم ليميط الشبه ويقلعها ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك أنه حين أسند المد إلى الشياطين، أطلق الغى ولم يقيده بالإضافة في قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي) .
والعمه: مثل العمى، إلا أن العمى عام في البصر والرأى، والعمه في الرأى خاصة، وهو التحير والتردد، لا يدرى أين يتوجه. ومنه قوله: بالجاهلين العمه، أى الذين لا رأى لهم ولا دراية بالطرق. وسلك أرضا عمهاء: لا منار بها «2» ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى: اختيارها عليه واستبدالها به، على سبيل الاستعارة، لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر «3» . ومنه:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصرا «4»
وعن وهب: قال الله عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل: «تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة» . فان قلت: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ قلت: جعلوا لتمكنهم منه وإعراضه لهم «5» كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى
__________
(1) . قوله «ونفيا لو هم من عسى ... الخ» يريد الرد على أهل السنة القائلين: إن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة للخير والشر. وينتصر للمعتزلة القائلين بأنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده (ع)
(2) . قوله «وسلك أرضا عمهاء» أى ومنه قولهم سلك ... الخ (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «الشراء يستدعي بذل العوض ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ومن هذا القبيل منع مالك رضى الله عنه أن يشترى إحدى أوزتين مذبوحتين يختارها المشترى منهما، لأنه يعد مختارا لكل واحدة منهما، ثم بائعا لها بالأخرى فيدخله الربا، وهو الذي يعبر عنه متأخرو أصحابه بأن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أولا؟ وربما قالوا: من خير بين شيئين عد منتقلا على أحد القولين.
(4) . «الجمة» : كثيرة الشعر، والباء للبدل، و «زعر» كتعب فهو أزعر، أى قليل الشعر. ويقال للموضع الذي لا نبات فيه. والثنايا: مقدم الأسنان. والمراد الثغر كله. والدردر- بالفتح- منارز الأسنان. والحيدر:
القصير. واشترى: استبدل. والمراد أنه أخذ امرأة عجوزا قبيحة بدل امرأة شابة جميلة، وروى أن حبلة بن الأيهم قد مكة فطاف بالكعبة، فوطئ رجل إزاره، فلطمه فشكى إلى عمر رضى الله عنه فحكم بالقصاص من جبلة، فاستمهله إلى الغد وهرب ليلا إلى الروم، وتنصر بعد الإسلام، ثم ندم على ما فعل فضرب به المثل.
(5) . قوله «وإعراضه لهم» في الصحاح: اعترض لك الخير، إذا أمكنك (ع)

(1/69)


الضلالة فقد عطلوه واستبدلوها به، ولأن الذين القيم هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكل من ضل فهو مستبدل خلاف الفطرة والضلالة الجور عن الفصد وفقد الاهتداء. يقال. ضل منزله، وضل دريص نفقه «1» فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والربح: الفضل على رأس المال، ولذلك سمى:
الشف، من قولك: أشف بعض ولده على بعض، إذا فضله. ولهذا على هذا شف. والتجارة:
صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح. وناقة تاجرة: كأنها من حسنها وسمنها تبيع نفسها. وقرأ ابن أبى عبلة (تجاراتهم) . فإن قلت: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازى، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين. فإن قلت: هل يصح: ربح عبدك وخسرت جاريتك، على الإسناد المجازى؟ قلت: نعم إذا دلت الحال. وكذلك الشرط في صحة:
رأيت أسدا، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح. فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة؟ كأن ثم مبايعة على الحقيقة «2» . قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشح. وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن أذنى قلبه خطلا، وإن جعلوه كالحمار، ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين، وادعوا لهما الخطل «3» ، ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة. ونحوه:
__________
(1) . قوله «وضل دريص نفقه» في الصحاح: الدرص ولد الفأرة واليربوع وأشباه ذلك. وفي المثل «ضل دريص نفقه» أى جحره. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
لما شبهته في الاهتداء به بالعلم المرتفع، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحققه، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر باشتعال النار في رأسه.
(3) . قوله «وادعوا لهما الخطل» أى الاسترخاء. (ع)

(1/70)


ولما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدرى «1»
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فتاكهم في أمه:
فما أم الردين وإن أدلت ... بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصع في قفاها ... تنفقناه بالحبل التوام «2»
أى إذا دخل الشيطان في قفاها استخرجناه من نافقائه بالحبل المثنى المحكم. يريد: إذا حردت «3» وأساءت الخلق اجتهدنا في إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها. استعار التقصيع أولا، ثم ضم إليه التنفق، ثم الحبل التوام. فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه وما يكمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته. فإن قلت: فما معنى قوله (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) . قلت: معناه أن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم
__________
(1) . شبه الشيب بالنسر بجامع البياض، واستعاره له تصريحا. وشبه الشباب بالغراب- وهو ابن داية- بجامع السواد كذلك. وعزه يعزه عزا، كنصره نصرا: إذا غلبه وقهره. والتعشيش في الوكرين ترشيح للاستعارتين، والمراد بهما الرأس واللحية. ويحتمل أن التركيب كله استعارة تمثيلية. يقول: لما رأيت الشيب غلب الشباب وحل محله، تحرك لأجله قلبي واضطرب، فالصدر مجاز. ويروى: جاشت له نفسي.
(2) . دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها. ودلت وأدلت أيضا: تغنجت وتشكلت. والاسم: الدل، والدالة، والدلال. وقيل: هو قريب من معنى الهدى. ومنه: كانوا ينظرون إلى هدى عمر ودله فيتشبهون به. ونفى علمها بأخلاق الكرام: كناية عن إساءتها الخلق. ويروى: بقائله بأخلاق الكرام، أى بمكترثة ولا معتنية بها، أو ليست فاعلة لها والمال واحد. وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه. وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها، وهي الطرف الثاني من الجحر الذي يخرج منه. وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني فاستعار التقصيع الذي هو فعل اليربوع لدخول الشيطان في قفاها، واستعار التنفق لإخراجه منه على طريق التصريحية والثانية ترشيح للأولى وبالعكس. والحبل: جمع حبال جمع حبل ككتب جمع كتاب. والتوام: الثني من الحبل، وجمعه: توائم، وتوام كغراب. أى بالحبل المثناة المفتولة، وهي على رواية الحبل بالافراد، فيخرج على أن التوام ليس جمعا بل اسم جمع يعامل معاملة المفرد، أى بالحبل القوى لأنه مجموع حبال مفتولة، وهذا ترشيح للتنفق وترشيح الترشيح ترشيح، فيكون ترشيحا للتقصيع أيضا، والحبال من ملائمات التنفق في نحو الاصطياد. ويجوز أن يشبه الشيطان باليربوع، فإذا أردنا اصطياده من جهة هرب من جهة أخرى حتى نصطاده بأقوى حيلة، فتكون مكنية والتقصيع والتنفق بالحبل تخييل. وجعل ذلك كله في قفاها لأن الحمق ينسب إليه عادة، أو لأن الشيطان يأتيها من حيث لا تشعر، كأنه من خلفها. ثم إن هذا الكلام كناية أو تمثيل للمراد، وهو أنها إذا أساءت الخلق ترضيناها بالتحيل والترفق.
(3) . قوله «يريد إذا حردت» في الصحاح: الحرد- بالتحريك- الغضب (ع)

(1/71)


مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18)

شيئان: سلامة رأس المال، والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأن رأس ما لهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة. وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح. وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله: قد ربح، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18)
لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميما للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر- شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبى، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال:
مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل.
ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول والقبول، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثم حوفظ عليه وحمى من التغيير. فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد نارا حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكذلك قوله:
(مثل الجنة التي وعد المتقون) أى وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها. ولله المثل الأعلى: أى الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
(مثلهم في التوراة) : أى صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا:
فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: كيف مثلت الجماعة بالواحد؟ قلت: وضع الذي موضع الذين، كقوله: (وخضتم كالذي خاضوا) والذي سوغ

(1/72)


وضع الذي موضع الذين، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران:
أحدهما: أن «الذي» لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة، وتكاثر وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالا بصلته، حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. والثاني: أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون. وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة. ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع، والواحد فيهن واحد. أو قصد جنس المستوقدين. أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا. على أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ونحوه قوله: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) ، وقوله: (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) .
ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها. ومن أخواته: وقل في الجبل إذا صعد وعلا، والنار:
جوهر لطيف مضيء حار محرق. والنور: ضوءها وضوء كل نير، وهو نقيض الظلمة.
واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا، والنور مشتق منها. والإضاءة:
فرط الإنارة. ومصداق ذلك قوله: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) ، وهي في الآية متعدية. ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله. والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة (ضاءت) . وفيه وجه آخر، وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار. ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها، على أن ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة. وحوله نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة. وقيل للعام: حول لأنه يدور. فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أن جوابه ذهب الله بنورهم. والثاني: أنه محذوف كما حذف في قوله: (فلما ذهبوا به) . وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدال عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.
فإن قلت: فإذا قدر الجواب محذوفا فبم يتعلق (ذهب الله بنورهم) ؟ قلت: يكون كلاما مستأنفا. كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال:
ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب الله بنورهم. أو يكون بدلا من

(1/73)


جملة التمثيل على سبيل البيان. فإن قلت: قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني؟ «1» قلت: مرجعه الذي استوقد لأنه في معنى الجمع. وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في: (حوله) ، فللحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله: (ذهب الله بنورهم) ؟ قلت: إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون نارا مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار متقاصرة مدة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله:
(كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) ، وإما نارا حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العبث، فأطفأها الله وخيب أمانيهم. فإن قلت:
كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد؟ قلت: هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره. فإن قلت: هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله: (فلما أضاءت) ؟
قلت: ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا، والغرض إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا.
ألا ترى كيف ذكر عقيبه وتركهم في ظلمات والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه، وكيف جمعها، وكيف نكرها، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله لا يبصرون. فان قلت: فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت: هذا على مذهب قولهم:
للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح.
والفرق بين أذهبه وذهب به، أن معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهبا. ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله: أخذه (فلما ذهبوا به) ، (إذا لذهب كل إله بما خلق) . ومنه: ذهبت به الخيلاء. والمعنى: أخذ الله نورهم وأمسكه، (وما يمسك فلا مرسل له) فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم. وترك: بمعنى طرح وخلى، إذا علق بواحد، كقولهم: تركه ترك ظبى ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة:
__________
(1) . قوله «فما مرجعه في الوجه الثاني» لعله السابق. (ع)

(1/74)


فتركته جزر السباع ينشنه «1»
ومنه قوله: (وتركهم في ظلمات) أصله: هم في ظلمات، ثم دخل ترك فنصب الجزأين.
والظلمة عدم النور. وقيل: عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا:
أى ما منعك وشغلك، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن (ظلمات) بسكون اللام وقرأ اليماني (في ظلمة) على التوحيد. والمفعول الساقط من (لا يبصرون) من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلا، نحو (يعمهون) في قوله: (ويذرهم في طغيانهم يعمهون) . فإن قلت: فيم شبهت حالهم بحال المستوقد؟ قلت: في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة. فان قلت:
وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبدا إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمى بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد. ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق. والأوجه أن يراد الطبع، لقوله: (صم بكم عمي) . وفي الآية تفسير آخر: وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات. وتنكير النار للتعظيم. كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله:
__________
(1) .
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم
لعنترة بن شداد العبسي من معلقته. يقول: فخرقت بالرمح اليابس الصلب ثيابه، أى قلبه وأحشاءه، فهي كناية عنها. أو شككت ثيابه بمعنى نظمتها ببدنه بإدخال الرمح فيها. ويروى: إهابه، أى جلده. وليس الكريم ...
إلى آخره: اعتراض دال على أن عادة الكرام أن يجودوا بكل شيء حتى بالأرواح للرماح. وفيه نوع تهكم.
فتركته: أى صيرته. جزر السباع- بالتحريك- أى نصيبها وطعمتها من اللحم. ونهشه وناشه: تناوله بفمه وكدمه.
وقضمه يقضمه، من بابى علم وضرب: عضه بمقدم أسنانه. فقوله «يقضمن» بدل. وعبر بالحسن عن الشيء الحسن مبالغة: أى يأكلن بنانه الحسن ومعصمه الحسن. ويروى بدل هذا الشطر: ما بين قلة رأسه والمعصم. وما زائدة، و «بين» ظرف للنوش. ويجوز أن «ما» موصولة بدل من ضمير المفعول. وقلة الرأس: أعلاه، كقلة الجبل وقنته.

(1/75)


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا «1»
أصم عما ساءه سميع
أصم عن الشىء الذى لا اريده ... وأسمع خلق الله حين أريد «2»
فأصممت عمرا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار «3»
فإن قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت: طريقة قولهم «هم ليوث» للشجعان، وبحور للأسخياء. إلا أن هذا في الصفات، وذاك في الأسماء، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعا. تقول: رأيت ليوثا، ولقيت صما عن الخير، ودجا الإسلام.
وأضاء الحق. فإن قلت: هل يسمى ما في الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه. والمحققون على
__________
(1) .
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... منى وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
جهلا على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
لقعنب بن أم صاحب بن ضمرة. وضمرة أبوه. وأم صاحب: كنية أمه. يقول: إن يسمعوا. وروى: يأذنوا، كيسمعوا وزنا ومعنى، من جهتى كلمة بهتان وزور أذاعوها، فكأنهم يطيرون بها بين الناس من فرحهم بما تقل عنى.
فالطيران استعارة مصرحة لذلك. قال اين مالك تبعا للفراء: ويجوز إجابة المضارع بالماضي وإن منعه الجمهور في الاختيار. وأى شيء سمعوه من قول صالح كتموه، فالدفن استعارة تصريحية أيضا. وهم صم: أى كالصم، فهو تشبيه بليغ واستعارة على الخلاف. وإن ذكرت عندهم بسوء أذنوا وأنصتوا. ويروى «سبة» بالضم: ما يسب به. وقد يروى: سبأة، بتحتية ساكنة فهمزة. ويروى: وما يسمعوا. ويروى: صموا، على لفظ الماضي، بدل صم. ويروى بسوء كلهم أذن:
أى فكلهم أذن فهو على تقدير الفاء، لأنه جواب الشرط. ويحتمل أنه على التقديم والتأخير: أى كلهم أذن إن ذكرت بسوء وهو أنسب بما قبله. وجعلهم نفس الأذن مبالغة. ويجوز أن الأذن وصف يقع على الواحد والمتعدد، وذلك لجهلهم وبأسهم على، وجبنهم وضعفهم عن عدوهم. وقيل: هو على تقدير جمعوا جهلا. والخلتان الخصلتان. والجبن بضمتين لغة فيه. وفيه إطاب بالتوشع، لأنه أتى بمثنى وفسره باسمين ثانيهما معطوف على الأول وهو حسن. [.....]
(2) . صم صمما، كتعب تعبا. فأصم- بفتح الصاد- فعل مضارع. ولو جعلته اسما على الخبرية لضمير محذوف لكانت مناسبة لأسمع المعطوف عليه. والمعنى أن حالى تكون كحال الأصم فهو مجاز عن ذلك. وأسمع: أى أفعل بمقتضى السماع، فهو مجاز أيضا. ويجوز أنه كناية. يقول: لا أستمع لما أكره. وأسمع كلام خلق الله حين أريده، بأن يكون محبوبا إلى، أو حين أريد السماع.
(3) . يقول: لما أظهرت مفاخرى ومكارمى، أصممت عمرا: أى صيرته كالأصم. وأعميته: أى صيرته كالأعمى فالصمم والعمي: استعارتان مصرحتان. والمراد ألجمته وأسكته عن الكلام في الفخر والجود حين مفاخرتى إياه.
وقيل أصممته وأعميته: وجدته أصم ووجدته أعمى: أى كأنه كذلك على ما مر.

(1/76)


تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:
لدى أسد شاكى السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم «1»
ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحا.
قال أبو تمام:
ويصعد حتي يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء «2»
وبعضهم:
لا تحسبوا أن في سرباله رجلا ... ففيه غيث وليث مسبل مشبل «3»
__________
(1) .
فشد فلم يفزع بيوتا كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم
لزهير بن أبى سلمي من معلقته يمدح حصين بن ضمضم بأنه شد على عدوه بحسن تدبير فلم يفزع بيوتا كثيرة. أو المعنى شد عليه وحده، فلم يفزع بيوتا، أى أهل بيوت تساعده. و «حيث» بدل من «لدى» ويحتمل أن لدى لمكان مبهم مضاف لحيث المعنى بإضافته للجملة. وأم قشعم: اسم للمنية. شبهها بالمسافر على طريق المكنية. والرحل تخييل و «لدى» الثاني بدل من الأول. وجرد من الممدوح لكماله في الشجاعة شخصا آخر، فاستعار له الأسد استعارة تصريحية. وشاكي: أى تام السلاح تجريد لأنه يلائم المشبه. قال الفراء: هو مقلوب شايك: أى ذى شوكة وحدة. ومقذف: أى ضخم، كأنه قذف باللحم ورمى به. له لبد: أى شعور متلبدة على منكبيه. أظفاره لم تقلم:
كل هذا ترشيح لأنه يلائم المشبه به. وفي قوله أظفاره لم تقلم: نوع من الاطناب يسمى الإيغال ختم به البيت للمبالغة في التشبيه، كقول الخنساء في أخيها صخر: كأنه علم في رأسه نار.
(2) . لأبى تمام يمدح خالد بن يزيد الشيباني ويدكر أباه. فضمير «يصعد» ليزيد. واستعار الصعود من العلو الحسى للعلو المعنوي على طريق التصريح، ثم بنى عليه ما ينبنى على العلو في المكان ترشيحا وتتميما للمبالغة في التشبيه، لأن ذلك الظن لا ينبني إلا على رؤيته صاعدا حقيقة. والظن- كالعلم- يتعدى بنفسه تارة وبالحرف أخرى. وخص الجهول ليفيد أن ذلك الظن خطأ، ويشبه أن يكون تجريدا للاستعارة، لكن أخفاه ظهور الترشيح. وأفاد السعد أن ذكر الجهول احتراس من توهم احتياج الممدوح والمقام، لدعوى أنه في غاية الكمال. واشتهرت روايته لظن بالماضي، وهو على تقدير القسم وقد: أى والله لقد ظن الجهول ذلك.
(3) . للزمخشري. شبه الممدوح بالغيث في كثرة الخير والكرم، وبالليث في كثرة الشجاعة، واستعارهما له على طريق الاستعارة التصريحية، وبنى على ذلك نهى الناس عن أن يظنوا أن في ثوبه رجلا، للدلالة على تناسى التشبيه وادعاء الاتحاد. والمسبل: كثير الانسياب، فهو راجع للغيث. والمشبل الذي كثرت أشباله: أى أولاده من الأسود، فهو راجع لليث، ففيه لف ونشر، وفيه شبه التضاد حيث جمع بين ما يخشى وما يرجى. وفيه الجناس اللاحق بين غيث وليث، وبين مسبل ومشبل.

(1/77)


أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)

وليس لقائل أن يقول: طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدإ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج:
أسد على وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر «1»
ومعنى لا يرجعون أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلا عليهم بالطبع. أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟

[سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20]
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)
ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:
__________
(1) .
أسد على وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا كررت على غزالة في الوغي ... بل كان قلبك في جناحي طائر
لعمران بن حطان قاتل الحجاج. روى أن شبيب الخارجي وأمه جهيزة وامرأته غزالة، كانوا في غاية الفراسة فدخلوا الكوفة في ألف وثلاثين فارسا، وفيها حينئذ الحجاج ومعه ثلاثون ألف مقاتل فحاربوه سنة كاملة حتى هرب منهم فعيره عمران بذلك: أى أنت كالأسد، ولا يصح استعارة عند الجمهور لنية ذكر المشبه. وجوزها التفتازاني على أن المذكور فرد هن أفراده لا عينه. و «على» متعلق بأسد، لما فيه من معنى الشجاعة والقوة، و «في الحروب» متعلق بنعامة، لما فيه من معنى الجبن والضعف. وهذا ظاهر على مذهب العلامة، لأن الأسد مستعار لمطلق شجاع، والنعامة لمطلق جبان. وأما على مذهب الجمهور فهما جامدان لبقائهما على حقيقتهما، إلا أن يقال: لما وقع في مقام التشبيه لو حظ فيهما الوصف الذي بنيت عليه المشابهة. ويجوز تعلقهما بمعنى التشبيه، أو بمحذوف حال من المبتدأ المحذوف على رأى سيبويه. والفتخ- بالتحريك- لين وانفراج في الأصابع والأجنحة. والفتخاء: وصف منه.
وتنفر: صفة نعامة، أى تفزع وتهلع خوفا من أدنى صوت تسمعه. وصفها بغاية الضعف ليدل على أن المشبه كذلك ثم وبخه بقوله: هلا كررت على تلك المرأة في الحرب. لم تفعل ذلك بل كان قلبك يخضق ويضطرب، كأنه في جناحي طائر، وهو من التشبيه البليغ. ويروى: هلا برزت إلى غزالة.

(1/78)


يوحون بالخطب الطوال وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء «1»
ومما ثنى من التمثيل في التنزيل قوله: (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات) وألا ترى إلى ذى الرمة كيف صنع في قصيدته؟:
أذاك أم نمش بالوشى أكرعه ... ............... ...
أذاك أم خاضب بالسى مرتعه ... .............. «2» ....
فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما
__________
(1) . أنشده الجاحظ. وروى «يرمون» استعار الرمي لإخراج الكلام من الفم بكثرة على طريق التصريح.
ويقال: وحى له، وإليه وحيا، وأوحى له وإليه إيحاء: إذا ألقى إليه الكلام، أو أشار له به، وألهمه إياه. فالوحى مصدر وحى أو اسم مصدر أوحى، واللحظ: الاشارة بطرف العين يمنة أو يسرة. واللاحظ وصف بحسب الأصل، وهو اسم لطرف العين. ولذلك جمع على لواحظ، ونسب الوحى إليها لأنها آلة. ويجوز أنه جمع لاحظة عنق للنسائى أى يتكلمون بالخطب الطوال تارة عند الأمن، ويوحون وحيا باللواحظ تارة أخرى، لخوفهم من الرقباء، فلكل مقام عندهم مقال.
(2) .
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه ... مسفع الخد عاد ناشط شبب
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
لذي الرمة يصف ناقته شبهها أولا بحمار الوحش، ثم قال: أذاك الحمار تشبهه ناقتي أم تمش. والتمش بالتحريك-:
تفرق اللون. وكحذر: متفرق اللون. والوشي: لون يخالف لون بقية الشيء. والأكرع: جمع كراع وهو الساق والمسفع: الأسود- من السفعة- وهي السواد. والناشط: الخارج من أرض لأخرى. والشبب- كحذر أيضا- المسن من بقر الوحش. ثم قال أذاك الثور يشبهها، أم خاضب؟ وهو الظليم الذي احمرت ساقاه، أو اصفرتا من أكل الربيع. والسى: المستوى من الأرض، واسم موضع بعينه. والمرتع: مصدر أو اسم مكان مظروف في أوسع منه. ومنقلب: راجع من المرعى إلى أفراخه الثلاثين. فيكون أسرع ما يكون، فهي كذلك سريعة السير.
وأكرعه فاعل بالظرف أو فاعل نمش. ومرتعه: فاعله بالظرف، أو مبتدأ والظرف خبر له.

(1/79)


في قوله: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء) ، وفي قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالى؟ «1»
قلت: كما جاء ذلك صريحا فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة، كقوله تعالى:
(وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) ، (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل) . والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه:
أن التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أن العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولا بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب. وكقوله: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدره في المفرق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب
__________
(1) . لامرئ القيس يصف العقاب وهي تأكل صغار الطير إلا قلوبها، فلذلك كثرت عندها، ويصف نفسه بالشجاعة، حيث وصل إلى رؤية ذلك فقال: كأن قلوب الطير حال كونها رطبا بعضها ويابسا بعضها، حال كونها عند وكر العقاب- أى عشها-: العناب، وهو ثمر أحمر رطب، فهو راجع للبعض الرطب. والحشف: الجاف الرديء من التمر البالي الهالك، فهو راجع للبعض اليابس، ففيه لف ونشر مرتب، وفيه طباق التضاد بين الرطب واليابس.
ويجوز أن رطبا ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أى كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. وبدل البعض لا يجب فيه ضمير يرجع للبدل منه، وإن كانت الأولى ذلك.

(1/80)


الراجع في قوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا على أولى حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله: (إنما مثل الحياة الدنيا) الآية، كيف ولى الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع «1»
لم يشبه الناس بالديار، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها، وتركها خلاء خاوية. فان قلت: أى التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت: لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت:
أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) ، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: (أو كصيب) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوب، أى ينزل ويقع.
ويقال للسحاب: صيب أيضا. قال الشماخ:
وأسحم دان صادق الرعد صيب «2»
__________
(1) . لم يرد تشبيه الناس بالديار ذاتها، وإنما أراد تشبيه حالهم مع الدنيا بحال الديار مع أهلها. وقوله:
«وأهلها بها» جملة حالية. و «يوم حلوها» نصب بعامل المجرور قبله المحذوف. و «غدوا بلاقع» أى وهي في غد بلاقع، جمع بلقع: أى قفر خالي. والشائع استعمال «الغد» كاليد، فظهرت واوه هنا على الأصل. وعبر بالغد ومراده به الزمن القريب، كما يقال أفعله بكرة. والمراد بعد أيام قليلة، فالجامع سرعة الفناء والزوال بعد البهجة والنضرة. ولك جعله من تشبيه المفرد بالمفرد بجامع أن الناس تكون فيها الأرواح، فهي زاهية باهية، ثم تنزع منها فتصير خالية خاوية كالدار تكون عامرة بأهلها فتصبح خرابا. وهذا على رفع أهلها. وأما على جره عطفا على الديار فيتعين الأول، ويكون «بها» متعلق بمحذوف حال من أهلها. والباء بمعنى «في» على التقديرين.
(2) .
أرسما جديدا من سعاد تجنب ... عفت روضة الأجداد منه فينقب
عفا آية نسج الجنوب مع الصبا ... وأسحم دان صادق الوعد صيب
للشماخ. وقيل للنابغة الذبياني وقيل للهيثم بن خوار. يقال: جنبه، باعده أو أصاب جانبه. وعفى المنزل:
درس وهلك، وعفته الريح: أهلكته ودرسته. والجد- بالضم- البئر التي في موضع كثير الكلأ. والجدد:
الأرض الصلبة، ضد الحبار. والأجداد جمع للأول أو للثاني. والجدد: الطرائق المنعطفة من الرمل. ويجوز أن الأجداد جمعه أيضا، لكن على روايته «روضة» بالنصب والاضافة للضمير. والأجداد بالرفع. والنقب- كالشعب-: الطريق المطمئن في الجبل. ونقب المكان ينقب: صار ذا نقب. وكذلك يشعب صار ذا شعب.
هذا والمتبادر أنه بالعين بدل القاف، أى يقفر، من النقبة وهي الاقفار. والآي واحده آية، بمعنى العلامات والآثار.
وشبه اختلاف الرياح على وجوه منضبطة بالنسج على طريق التصريحية. والأسحم: الأسود، وهو صفة السحاب.
والداني: القريب. وروى «داج» والداجي المظلم. والصيب: كثير الأمطار. والاستفهام تعجبي. يقول:
أتعجب من مباعدتنا الرسم الجديد من دار سعاد؟ أو أتعجب من مرورنا بجانب رسم سعاد الجديد الذي هلكت آثاره فصار طرقا متسعة؟ والذي محا أثره هو اختلاف الرياح وتتابع الأمطار. فعفا استئناف بيانى. وشبه السحاب برجل صدق وعده على طريق المكنية. والصدق والوعد تخييل. وروى الرعد بالراء، شبه رعده بالخبر الصادق.
وصيب: فيعل من صاب يصوب، إذا نزل مائلا إلى جهة، كسيد من ساد يسود.

(1/81)


وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول.
وقرئ: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه للمظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف.
فان قلت: قوله: (من السماء) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت:
الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء، أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأن كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: (وأوحى في كل سماء أمرها) . الدليل عليه قوله:
ومن بعد أرض بيننا وسماء «1»
والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) .
__________
(1) .
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرض بيننا وسماء
«أوه» بالتشديد مع فتح الواو وكسرها مبنى على السكون. وروى بضم الهمزة وسكون الواو. وفيه لغة ثالثة بابدال الواو ألف مد مبنى فيهما على الكسر: اسم فعل للتوجع. وما زائدة بعد إذا للدلالة على تعميم الأوقات. يقول: أتوجع من تذكر المحبوبة كلما تذكرتها، ومن بعد ما بيننا من قطعة أرض وقطعة سماء تقابل تلك القطعة فأطلق الأرض والسماء على بعض كل منهما، وذكرهما لافادة ذلك، لكن المقرر عندهم أن التنوين إنما يفيد التبعيض في الأفراد لا في الأجزاء، فلا يتم ما تقدم إلا بعد ادعاء أن السماء تطلق على بعض تلك المظلة، والأرض على بعض هذه المقلة ليكون البعض فردا من الأفراد لا جزءا من الأجزاء. وذكر السماء دلالة على تناهى البعد في الأرض، لأنه يظهر فيها قبل ظهوره في السماء. ويجوز أن المراد تشبيه البعد بينهما بالبعد بين السماء والأرض.
وعليه فالتنوين للتهويل والتعظيم.

(1/82)


فان قلت: بم ارتفع ظلمات؟ قلت: بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقا إذا لمع. فان قلت: قد جعل الصيب مكانا للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فان قلت: كيف يكون المطر مكانا للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه.
ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري:
يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده «1»
وكما قيل ظلمات؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد العينان، ولكنهما لما كانا مصدرين في الأصل- يقال: رعدت السماء رعدا وبرقت برقا-، روعي حكم أصلهما بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع. والثاني: أن يراد الحدثان كأنه قيل: وإرعاد وإبراق. وإنما جاءت هذه الأشياء منكرات، لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في يجعلون إلى أصحاب الصيب مع كونه محذوفا قائما مقامه الصيب، كما قال: (أو هم قائلون) ، لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه. ألا ترى إلى حسان كيف عول على بقاء معناه في قوله:
__________
(1) .
يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
إن شئت عدت لأرض تجد عودة ... فحللت بين عقيقه وزروده
لتجود في ربع بمنعرج اللوى ... قفر تبدل وحشة من غيده
للبحترى يخاطب السحاب لأنه شبهه لتكاثفه وتراكمه بإنسان متلفع بثيابه. وإثبات التلفع بالبرود والاختيال تخييل وبنى على ذلك إثبات المشيئة وجمع البرق والرعد مع أنهما مصدر ان للدلالة على الكثرة والتعدد المرات. والعقيق والزرود موضعان بعينهما. والمنعرج- على زنة اسم المفعول- المكان الذي ينعطف فيه السائر يمنة ويسرة. واللوى الرمل الملتوى. والأغيد: الناعم الجميل، مؤنثه غيداء، والغيد- كالبيض- جمعه. والجود: الأمطار.
يلتمس من السحاب المعترض في الأفق أن يمطر في ربع الأحبة بالمكان المنعطف، ثم وصف الربع بأنها قفر لا نبات فيه، وصار فيه وحشة بالوحوش بدل الأنس بالأحبة.

(1/83)


يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل «1»
حيث ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردي، ولا محل لقوله: (يجعلون) لكونه مستأنفا، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول، فكأن قائلا قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم. فان قلت: رأيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن «2» فهلا قيل أناملهم؟ قلت: هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله:
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) ، (فاقطعوا أيديهما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت: فالأصبع التي تسد بها الأذن أصبع خاصة، «3» فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة
__________
(1) .
لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل
لحسان بن ثابت يذكر أيام ملوك الشام الغسانيين. والعصابة: الجماعة على رأى واحد. وجلق- بالتشديد- اسم أعجمى لبلد. «وفي الزمان» متعلق بمحذوف صفة ليوم الواقع ظرفا للمنادمة، وهي المحادثة على الشراب. والبريص اسم واد. ويروى- بفتحتان-: علم لنهر بدمشق وحبل بالحجاز واسم للبحر. ويصفق: أى يمتزج. وقيل «يتصفى» ينقله من إناء إلى آخر. ولعله رواه «يصفى» من التصفية. والرحيق: الصافي. والسلسل: السهل المساغ «ومن ورد» مفعول أول، و «عليهم» قيل متعلق بمحذوف حال من الضمير المنوي في ورد. والظاهر أنه متعلق بورد أى أقبل ونزل. و «بردي» مفعول ثان. و «يصفق» جملة حالية. والمعنى: أن كل من ورد عليهم البريص يسقونه ماء بردي حال كونه يصفق على ما مر. ويجوز أن يكون معناه تتلاطم أمواجه فالباء للملابسة. ويحتمل أن فيه قلبا. والأصل يصفق الرحيق السلسل به، ولعل ذلك كناية عن كرمهم لإكثارهم العطاء. وقيل الرحيق السلسل الخمر الصافية السهلة. والمعنى على التشبيه، أى بماء كأنه الخمر. والظاهر بقاؤه على حقيقته، ويكون ذلك قبل تحريمها وهو أوقع في مقام المدح. فان قلت: «بردي» مؤنث، فلم قال «يصفق» بالتذكير؟ قلت: هناك مضاف مذكر حذف، فقام المضاف إليه مقامه في الاعراب والتذكير. والأصل: ماء بردي. [.....]
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت المجعول من الأصابع في الآذان رءوسها ... الخ» قال أحمد رحمه الله: لأن فيه إشعارا بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.
(3) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فالأصبع التي تسد بها الأذن ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: لا ورود لهذين السؤالين. أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدرا في تلك الحالة بالسبابة ولا بد فإنها حالة حيرة ودهش، فأى أصبع اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة. أو فلعلهم يؤثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى، لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت فلم يلزم اقتصارهم على السبابة. وأما السؤال الثاني فمفرع على الأول، وقد ظهر بطلانه وأيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوى الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات؟ ولعل ألسنتهم ما سبحت الله قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.

(1/84)


فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدعاءة. فان قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد. وقوله من الصواعق متعلق بيجعلون، أى: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة «1» . والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق أى مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى: (وخر موسى صعقا) . وقرأ الحسن: من الصواقع وليس بقلب للصواعق، لأن كلا البناءين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى: حذار الموت، وانتصب على أنه مفعول له كقوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره «2»
والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة الله بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة
__________
(1) . قوله «سقاه من العيمة» هي شهوة اللبن، وقيل شدة شهوته. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذى أود قومته فتقوما
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
لحاتم الطائي. وقيل للأحنف بن قيس. يقول: ورب عوراء، أى كلمة قبيحة، قد أعرضت عن المؤاخذة بها فلم تضرني. ورب ذى أود- أى اعوجاج- كالعصى المعوجة، قومته وعدلته بالمحاربة فتقوم. وقسم الأعراض إلى قسمين: لكل منهما علة مخصوصة فقال: وأغفر عوراء الكريم، أى قبيحته، لأجل ادخارى إياه، فادخاره: مفعول له نصب بأغفر، وإن عرف بالاضافة. وأعرض عن شتمي للرجل اللئيم تكرما منى كى لا أكون مثله. ويجوز أن المعنى: عن مؤاخذة اللئيم لشتمه لي تكرما منى. فتكرما: مفعول نصب بأعرض. والقول بأن تكرما علة لأعرض وأغفر: قول من لم يذق طعم الكلام.

(1/85)


اعتراض لا محل لها. والخطف: الأخذ بسرعة. وقرأ مجاهد (يخطف) بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: يختطف. وعن الحسن: يخطف، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: يخطف، بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن على: يخطف، من خطف. وعن أبى: يتخطف، من قوله: (يتخطف الناس من حولهم) . كلما أضاء لهم استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة، مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق «1» فأعماهم. وأضاء:
إما متعد بمعنى: كلما نور لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى:
كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت:
كيف قيل مع الإضاءة: كلما، ومع الإظلام: إذا؟ قلت لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل، «2» وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: أظلم، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس:
هما أظلما حالى ثمت أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب «3»
__________
(1) . قوله «أو في ضوء البرق» لعله وفي. (ع)
(2) . قوله «منقولا من ظلم الليل» في الصحاح «ظلم الليل بالكسر وأظلم» بمعنى، عن الفراء (ع)
(3) .
أحاولت إرشادى فعقلى مرشدي ... أم استمت تأديبى فدهرى مؤدبى
هما أظلما حالى ثمت أجليا ... ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
شجي في حلوق الحادثات مشرق ... به عزمه في الترهات مغرب
لأبى تمام. ويقال لحبيب بن أوس. وحاول الشيء: أراده وحام حول تحصيله. واستام الشيء: قصده وتتبع سماته وتعرفه بها. ويروى: أم اشتقت. وقوله «عن وجه أمرد أشيب» فيه تجريد، أى عن وجه رجل أمرد كناية عن حسن الخلق. أشيب كناية عن جودة الرأى اللازمة لكمال الرجولية. والأول كناية عن المضي في طرق الهزل. والثاني كناية عن المضي في طرق الجد، فلذلك اجتمعا معا في زمان واحد. ويحتمل أنه شاب مع أنه أمرد من كثرة حوادث الدهر. والشجي: ما نشب في الحلق لا يصعد ولا ينزل. والمشرق المغرب: الذاهب شرقا وغربا. والمراد التعميم. والترهة:
فارسى معرب بمعنى الطريق الصغيرة غير الجادة، والجمع ترهات وتراريه. ثم استعير للباطل وصار اسما له، والمعنى:
إن أردت مرشدي فهو عقلى، أو مؤدبى فدهرى. فالاستفهام بمعنى الشرط مجارا، ويحتمل أنه توبيخي والفاء تعليلية لمحذوف، أى لا ينبغي إرادة إرشادى ولا تأديبى، فان دهري وعقلى تكفلا بذلك. وبين ذلك بقوله «هما أظلما» واستعمال أظلم متعديا لغة رديئة. وحالى: مفعول. والاظلام استعارة لتنغيص العيش وتكدير الخاطر. وأجليا:
أزالا وكشفا ظلاميهما. والظلامان: استعارة للتكدر والتنغص. وقوله «شجى» بدل من الأمرد، أى كالشجى.
وشبه الحوادث بحيوانات لها حلوق على طريق المكنية والحلوق تخييل لذلك. والمعنى أن الحوادث صارت لا تؤثر فيه ومضى به عزمه في جميع طرق الهزل كما مضى به في الجد، وبين مشرق مغرب طباق التضاد.

(1/86)


وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وقام الماء: جمد. ومفعول شاء محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله:
فلو شئت أن أبكى دما لبكيته «1»
وقوله تعالى «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) .
وأراد: ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة: لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله: (ولا تلقوا بأيديكم) . والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه- في ساقة الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية-: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟. والشيء: مذكر، وهو أعم العام: كما أن الله أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض
__________
(1) .
ملكت دموع العين حين رددتها ... إلى ناظري والعين كالقلب تدمع
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
لابن يعقوب إسحاق بن حسان الخذيمى، يرثى أبا الهيذام عامر بن عمار أمير عرب الشام. يقول: غلبت دموع عينى وقدرت عليها حين رددتها إلى مكانها. ويروى «ثم رددتها» والحال أنها تدمع دمعا كالقلب في الحمرة والحرقة، أو بدمع على وجه التبعية للقلب. ويروى «فالعين في القلب» مبالغة في فكره وحزنه المضمر فيه. وذكر مفعول المشيئة مع أنه صار في استعمالهم نسيا منسيا لأنه شيء مستغرب فحسن ذكره. وضمن «أبكى» معنى أدمع، فعداه إلى الدم مع أنه لا يتعدى إلا إلى المبكى عليه. وشبه الصبر بكريم أو ببيت له ساحة على سبيل المكنية. والمراد أنه يترك الجزع ويعدل إلى الصبر فيتصف به.

(1/87)


ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21)

والقديم. تقول: شيء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال فان قلت: كيف قيل على كل شيء قدير وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل «1» وفعل قادر آخر «2» ؟ قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلها، فكأنه قيل: على كل شيء مستقيم قدير. ونظيره: فلان أمير على الناس أى على من وراءه منهم، ولم يدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس. وأما الفعل بين قادرين فمختلف فيه. فإن قلت: مم اشتقاق القدير؟ قلت: من التقدير، لأنه يوقع فعله على مقدار قوته واستطاعته وما يتميز به عن العاجز.

[سورة البقرة (2) : آية 21]
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21)
لما عدد الله تعالى فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم ومصارف أمورهم، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند الله ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات المذكور عند قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) ، وهو فن من الكلام جزل، فيه هز وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إن فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: هذا الذي أورده خطأ على الأصل والفرع. أما على الأصل، فلأن الشيء لا يتناول إلا الموجود عند أهل السنة. وأما على الفرع، فلأنا وإن فرعنا على معتقد القدرية- والشيء عندهم إنما يتناول الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل- إذا على هذا التفريع ما يراده إياه نقضا غير مستقيم على المذهبين. وأما المقدور بين قادرين، فإنها ورطة إنما يستاق إليها القدرية الذين يعتقدون أن ما تعلقت به قدرة العبد استحال أن يتعلق به قدرة الرب، إذ قدرة العبد خالقة فيستغنى الفعل بها عن قدرة خالق آخر- تعالى الله عما يشركون علوا كبيرا- وأما أهل السنة فالقادر الخالق عندهم واحد، وهو الله الواحد الأحد، فتتعلق قدرته تعالى بالفعل فيخلقه، وتتعلق به قدرة العبد تعلق اقتران لا تأثير فلذلك لم يخلق مقدور بين قادرين على هذا التفسير. وقد حشى الزمخشري في أدراج كلامه هذا سلب القدرة القديمة وجحدها، وجعل الله تعالى قادرا بالذات لا بالقدرة، دس ذلك تحت قوله: وفي الأشياء ما لا تعلق به لذات القادر، ولم يقل لقدرة القادر، فليتفطن لدفائنه. وكم من ضلالة استدسها في هذه المقالة والله الموفق. فان قيل: أيها الأشعرية، إذا كان الشيء عندكم هو الموجود، فما معنى القدرة عليه بعد وجوده وبقائه، والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: (إن الله على كل شيء قدير) ؟ قلنا: القدرة تتعلق بمقدورها فتوجده فيكون حينئذ شيئا فلما كان مآل ما تعلقت به القدرة إلى الشيء حتما، صح إطلاق الشيء عليه، وهو من وادى: «من قتل قتيلا فله سلبه» وإذا سموا الشيء باسم ما يؤول إليه غالبا، فما يؤول إليه حتما أجدر.
(2) . قوله «وفعل قادر آخر» لعله مبنى على مذهب المعتزلة أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. ومذهب أهل السنة أن فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى. (ع)

(1/88)


بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجارى أمورك، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازا من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول، وبلغنا بإسناد صحيح عن إبراهيم عن علقمة: أن كل شيء نزل فيه: (يا أيها الناس) «1» فهو مكي، و (يا أيها الذين آمنوا) فهو مدنى، فقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم خطاب لمشركي مكة، و «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه. وأما نداء القريب فله أى والهمزة، ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلا له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنى به جدا. فإن قلت: فما بال الداعي يقول في جؤاره: يا رب، «2» ويا الله، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظان الزلفى وما يقربه إلى رضوان الله ومنازل المقربين، هضما لنفسه وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله، و «أى» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أن «ذو» و «الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل. وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو «أى» والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال «زيد» فلم ينفك من الصفة. وفي هذا التدرج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة التنبيه
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم بهذا. وأخرجه البزار من رواية الأقيس ابن الربيع عن الأعمش موصول بذكر عبد الله بن مسعود فيه. وقال: لا نعلم أحدا أسنده إلا قيس واعترض بما رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل عنه. وابن مردويه في تفسير الحج. كلهم من طريق وكيع أيضا قال: حدثنا أبى عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. (فائدة) هذا محمول على أن المراد بالمكى ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة لأن الغالب على أهل مكة كان الكفر فخوطبوا (يا أيها الناس) . وكان الغالب على أهل المدينة الايمان فخوطبوا: (يا أيها الذين آمنوا) . أفاده الشيخ بهاء الدين ابن عقيل.
(2) . قوله «يقول في جؤاره: يا رب» في الصحاح: جأر الثور يجأر، أى صاح. وجأر الرجل إلى الله عز وجل:
أى تضرع. (ع)

(1/89)


المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين: معاضدة حرف النداء ومكانفته بتأكيد معناه، ووقوعها عوضا مما يستحقه أى من الإضافة. فان قلت: لم كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قلت: لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة: لأن كل ما نادى الله له عباده- من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان- عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون.
فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة من أن يكون متوجها إلى المؤمنين والكافرين جميعا، أو إلى كفار مكة خاصة، على ما روى عن علقمة والحسن، فالمؤمنون عابدون ربهم فكيف أمروا بما هم ملتبسون به؟ وهل هو إلا كقول القائل:
فلو انى فعلت كنت من تسأله ... وهو قائم أن يقوما «1»
وأما الكفار فلا يعرفون الله، ولا يقرون به فكيف يعبدونه؟ قلت: المراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم وثباتهم عليها. وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار. كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرهما وما لا بد للفعل منه، فهو مندرج تحت الأمر به وإن لم يذكر، حيث لم ينفعل إلا به، وكان من لوازمه. على أن مشركي مكة كانوا يعرفون الله ويعترفون به (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) . فان قلت: فقد جعلت قوله: (اعبدوا) متناولا شيئين معا: الأمر بالعبادة، والأمر بازديادها. قلت: الازدياد من العبادة عبادة وليس شيئا آخر. فإن قلت: (ربكم) ما المراد به؟
قلت: كان المشركون معتقدين ربوبيتين: ربوبية الله، وربوبية آلهتهم. فإن خصوا بالخطاب فالمراد به اسم يشترك فيه رب السموات والأرض والآلهة التي كانوا يسمونها أربابا وكان قوله الذي خلقكم صفة موضحة مميزة. وإن كان الخطاب للفرق جميعا، فالمراد به «ربكم»
__________
(1) .
نعمة الله فيك لا أسأل ... الله إليها نعمي سوى أن تدوما
فلو انى فعلت كنت كمن ... تسأله وهو قائم أن يقوما
النعمة بالكسر، والنعمى بالضم، وكذلك النعماء بالفتح بمعنى واحد. يقول: نعمة الله علينا فيك كافية لا نطلب من الله نعمة أخرى منضمة إليها، سوى أن تدوم هي أو أنت أو أنتما. فلو انى- بالنقل للوزن- فعلت، أى سألت الله غيرها كانت حالى مع الله كحالك مع من تسأله القيام وهو قائم، فهو تشبيه مركب، وإلا فهو سائل ومن تسأله مسؤل. يعنى أن السؤال يكون تحصيلا للحاصل، لأنه لا نعمة سواها أعظم منها في ظنه. وفيه مبالغة في تعظيمها.

(1/90)


على الحقيقة. والذي خلقكم: صفة جرت عليه على طريق المدح والتعظيم. ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة، إلا أن الأول أوضح وأصح. والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء. يقال: خلق النعل، إذا قدرها وسواها بالمقياس. وقرأ أبو عمرو: (خلقكم) بالإدغام. وقرأ أبو السميقع: وخلق من قبلكم. وفي قراءة زيد بن على: والذين من قبلكم وهي قراءة مشكلة، ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا، كما أقحم جرير في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم «1»
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في: لا أبالك: ولعل للترجى أو الإشفاق. تقول: لعل زيدا يكرمني. ولعله يهينني.
__________
(1) .
يا تيم تيم عدى لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
تعرضت تيم لي جهلا لأهجوها ... كما تعرض الاست الخارئ الحجر
لجرير، تعرض له عمر بن لجأ، ويقال بن لجام التميمي بالهجو فخاطب قبيلته بذلك. وحذف المضاف إليه مع بقاء المضاف على حالة الاضافة مضطرد، إن اقترن بذكر مثله ليدل عليه وإلا فهو سماعي. ومثل هذا للتركيب يجوز فيه ضم الأول فهو مفرد والثاني مضاف لما بعده، وفتحه على أنه مضاف للمذكور، أو لمحذوف مماثل له، أو على أنهما مركبان اسما واحدا مضافا لما بعدهما فتيم الأول هنا مضاف لعدي، والثاني مقحم بينهما مضاف لعدي محذوفا عند سيبويه أو مضاف للمذكور، والأول مضاف لمحذوف مثل المذكور عند المبرد وتبعه ابن مالك، أو هما معا مركبان كخمسة عشر، مضافان لعدي عند الفراء وتبعه الأعلم. ولو كان الثاني بدلا أو بيانا أو توكيدا والأول مفرد، لضم الأول وهم غير تيم قريش. وقولهم «لا أبا له» دعاء بعدم الأب. وقيل محتمل للذم، أنى لا أبله رشيدا، بل هو ابن زنا. ويحتمل المدح، أى ليس محتاجا إلى الأب بل مفاخره ذاتية، لكن ما هنا من الأول. و «لكم» خبر «لا» عند ابن الحاجب. وخبرها محذوف عند غيره ولكم متعلق بمحذوف صفة. أو اللام زائدة والضمير مضاف إليه. وأما على الأول مبنى على فتح مقدر وحذف تنوينه للبناء. وعلى الثاني منصوب بفتحة مقدرة وحذف تنوينه لشبه الاضافة. وعلى الثالث منصوب بفتحة مقدرة وحذف تنوينه للاضافة. وهذا كله على لغة قصره كفتى.
وأما نصبه بالألف على لغة إعرابه بالحروف فلا يظهر إلا في الثالث، وفيه أن المضاف معرفة و «لا» لا تعمل إلا في النكرات، إلا أن يقال زيادة اللام صيرته في صورة النكرة فعملت فيه. و «لا يلقينكم» نهى عن الإلقاء في المكروه. وروى بالفاء بدل القاف، من ألفى إذا وجد لكن روى «لا يوقعنكم» وهو يؤيد الأول.
والمراد النهى عن إقرار عمر على هجوه الموقع لهم في السوءة وهي هجو جرير لهم. واللام في لأهجوها لام العاقبة.
وقد شبه نفسه- بل فمه- باست الخارئ، أى دبره. ومهد لذلك التشبيه فيما تقدم بالتعبير بالسوءة. ولقد هجا نفسه من حيث لم يشعر. والاست: من الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فزادوها همزة الوصل. [.....]

(1/91)


وقال الله تعالى: (لعله يتذكر أو يخشى) ، (لعل الساعة قريب) . ألا ترى إلى قوله: (والذين آمنوا مشفقون منها) . وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم، إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، لجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به. قال من قال: إن «لعل» بمعنى «كى» ، و «لعل» لا تكون بمعنى «كى» ، ولكن الحقيقة ما ألقيت إليك. وأيضا فمن ديدن الملوك وما عليه أوضاع أمرهم ورسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: عسى، ولعل، ونحوهما من الكلمات أو يخيلوا إخالة. أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، فإذا عثر على شيء من ذلك منهم، لم يبق للطالب ما عندهم شك في النجاح والفوز بالمطلوب. فعلى مثله ورد كلام مالك الملوك ذى العز والكبرياء. أو يجيء على طريق الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد، كقوله: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) . فان قلت: ف «لعل» التي في الآية ما معناها وما موقعها؟ قلت: ليست مما ذكرناه في شيء، لأن قوله: (خلقكم) ، (لعلكم تتقون) ، لا يجوز أن يحمل على رجاء الله تقواهم لأن الرجاء لا يجوز على عالم الغيب والشهادة: وحمله على أن يخلقهم راجين للتقوى ليس بسديد أيضا. ولكن «لعل» واقعة في الآية موقع المجاز «1» لا الحقيقة، لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى «2» . فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم- وهم مختارون بين الطاعة والعصيان- كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله عز وجل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وإنما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار. فإن قلت: كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك، فلم قصره عليهم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «لعل واقعة في الآية موقع المجاز ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: كلام سديد إلا قوله: وأراد منهم التقوى والخير فانه كلام أبرزه على قاعدة القدرية. والصحيح والسنة أن الله تعالى أراد من كل أحد ما وقع منه من خير وغيره، ولكن طلب الخير والتقوى منهم أجمعين. والطلب والأمر عند أهل السنة مباين للارادة، ألهمنا الله صواب القول وسداده.
(2) . قوله «وأراد منهم الخير والتقوى» مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد إلا الخير وإن وقع خلافه.
ومذهب أهل السنة أنه يريد الخير والشر، وكل ما أراده يقع، لإجماع السلف على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. (ع)

(1/92)


الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)

دون من قبلهم؟ قلت: لم يقصره عليهم، ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعا. فان قلت: فهلا قيل تعبدون لأجل اعبدوا؟ «1» أو اتقوا لمكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم. قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدى ذلك إلى تنافر النظم.
وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده. فإذا قال: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة، وأشد إلزاما لها، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يمينى إلا لجر الأثقال. ولو قلت: لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع.

[سورة البقرة (2) : آية 22]
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)
قدم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أولا لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرهم الذي لا بد لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها- أشباه النسل المنتج من الحيوان- من ألوان الثمار رزقا لبنى آدم، ليكون لهم ذلك معتبرا: ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بد لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر. والموصول مع صلته إما أن يكون في محل النصب وصفا كالذي خلقكم، أو على المدح والتعظيم. وإما أن يكون رفعا على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح. وقرأ يزيد الشامي: بساطا. وقرأ
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت فهلا قيل تعبدون ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: كلام حسن إلا قوله خلقكم للاستيلاء على أقصى غاية العبادة فانه مفرع على تلك النزغة المتقدمة آنفا. والعبارة المحررة في ذلك على قاعدة السنة أن يقال: اعبدوا ربكم الذي خلقكم على حالة من حقكم معها أن تستولوا على أقصى غاية العبادة وهي التقوى لما ركب فيكم من العقول، وبينه لكم من البواعث على تقواه، فكان جديرا بكم أن لا تدعوا من جهدكم في التقوى شيئا.

(1/93)


طلحة: مهادا. ومعنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس: أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده. فإن قلت: هل فيه دليل على أن الأرض مسطحة وليست بكرية؟ قلت: ليس فيه إلا أن الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش، وسواء كانت على شكل السطح. أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع، لعظم حجمها واتساع جرمها وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهلا في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل. والبناء مصدر سمى به المبنى- بيتا كان أو قبة أو خباء أو طرافا- وأبنية العرب: أخبيتهم، ومنه بنى على امرأته، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا. فإن قلت: ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت: المعنى أنه جعل الماء سببا في خروجها ومادة لها، كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا مواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجا لها من حال إلى حال، وناقلا من مرتبة إلى مرتبة حكما ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكارا صالحة، وزيادة طمأنينة، وسكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب. و «من» في من الثمرات للتبعيض بشهادة قوله: (فأخرجنا به من كل الثمرات) ، وقوله: (فأخرجنا به ثمرات) . ولأن المنكرين أعنى: ماء، ورزقا. يكتنفانه.
وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل: وأنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات، ليكون بعض رزقكم. وهذا هو المطابق لصحة المعنى، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز أن تكون للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم ألفا. فإن قلت: فيم انتصب رزقا؟
قلت: إن كانت «من» للتبعيض. كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كانت مبنية، كان مفعولا لأخرج. فإن قلت: فالثمر المخرج بماء السماء كثير جم فلم قيل الثمرات دون الثمر والثمار؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره. ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة، لقصيدته. وقولهم للقرية: المدرة، وإنما هي مدر متلاحق. والثاني: أن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية، كقوله: (كم تركوا من جنات) و (ثلاثة قروء) . ويعضد الوجه الأول قراءة محمد بن السميقع:
من الثمرة، على التوحيد. وقبلكم صفة جارية على الرزق إن أريد به العين، وإن جعل

(1/94)


اسما للمعنى فهو مفعول به، كأنه قيل: رزقا إياكم. فإن قلت: بم تعلق فلا تجعلوا؟
قلت: فيه ثلاثة أوجه: أن يتعلق بالأمر. أى اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أندادا لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك. أو بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب، «فأطلع» في قوله عز وجل: (لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى) في رواية حفص عن عاصم، أى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، أو بالذي جعل لكم، إذا رفعته على الابتداء، أى هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء. والند: المثل. ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ. قال جرير:
أتيما تجعلون إلى ندا ... وما تيم لذى حسب نديدا «1»
وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ند ندا إذا نفر. ومعنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد نفى ما يسد مسده، ونفى ما ينافيه. فإن قلت: كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه. قلت: لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادته فقيل لهم ذلك على سبيل النهكم. كما تهكم بهم بلفظ الند، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط. وفي ذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور «2»
__________
(1) . الاستفهام إنكارى. وتيم: اسم رجل واسم قبيلة، وهو مفعول مقدم. و «إلى» متعلق بتجعلون على طريق التضمين، أى تنسبونه إلى أو إلى بمعنى لي. ويحوز تعلقه بندا وهو مفعول ثان. والواو للحال أى والحال أن تيما ليس ندا لصاحب حسب ومآثر، فكيف يكون ندا لي. ويروى: أتيم تجعلون، فهو مبتدأ والمعنى ما تقدم وقبل إلى متعلق بمحذوف حال من تيما أو من ندا. والند: الكفؤ والضد.
(2) .
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير
لعمرو بن زيد بن نفيل بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن ربيعة. والهمزة للاستفهام. وفيه ضرب من التعجب وإظهار الخطأ في عبادة الأرباب وتشنيع على عبادهم. «وربا» مفعول. أدين: أى أطيع. والمراد بالألف الكثرة، لا خصوص ذلك العدد. إذا تقسمت الأمور: أى إذا اتخذت كل طائفة دينا من الأديان. وقوله: اللات العزى: أى وغيرهما من الأصنام لأنه لا فرق بينها. والبصير: المتبصر في الأمر.

(1/95)


وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)

وقرأ محمد بن السميقع: فلا تجعلوا لله ندا. فإن قلت: ما معنى وأنتم تعلمون. قلت:
معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه.
وهكذا كانت العرب، خصوصا ساكن والحرم من قريش وكنانة، لا يصطلى بنارهم «1» في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها. ومفعول (تعلمون) متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة. والتوبيخ فيه آكد، أى أنتم العرافون المميزون. ثم إن ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل. ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أنه لا يماثل. أو: وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت. أو: وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله: (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء)

[سورة البقرة (2) : آية 23]
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)
لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويحققها، ويبطل الإشراك ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك وتصحيحه، وعرفهم أن من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه- عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرفون أهو من عند الله كما يدعى، أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته. فان قلت: لم قيل: (مما نزلنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت:
لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من محازه لمكان التحدي. وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله مخالفا لما يكون من عند الناس، لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على حسب النوازل وكفاء الحوادث «2» وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا، وشيئا فشيئا حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة،
__________
(1) . قوله «لا يصطلى بنارهم» لعله يصطلى بدون «لا» أو لعله: لا يصطلى إلا بنارهم، بزيادة «إلا» فليحرر.
ويمكن أن يراد اختصاصهم بكمال المعرفة، وأن غيرهم لا يصل إلى شيء مما لديهم من ذلك. (ع)
(2) . قوله «وكفاء الحوادث» أى مقابلها ومساويها. أفاده الصحاح. (ع)

(1/96)


ولا يرمى النائر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزله الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة: قال الله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) ، فقيل:
إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجما فردا من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات. وهذه غاية التبكيت، ومنتهى إزاحة العلل. وقرئ (على عبادنا) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. والسورة: الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصلا، فإما أن تسمى بسورة المدينة وهي حائطها، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها، كالبلد المسور، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد، كاحتواء سورة المدينة على ما فيها. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة. قال النابغة:
ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار «1»
لأحد معنيين، لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ: وهي أيضا في أنفسها مترتبة: طوال وأوساط وقصار، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين. وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة، فلأنها قطعة وطائفة من القرآن، كالسؤرة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه. فان قلت: ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا؟ قلت: ليست الفائدة في ذلك واحدة. ولأمر ما أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه على هذا المنهاج مسورة مترجمة السور. وبوب المصنفون في كل فن كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم. ومن فوائده: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان
__________
(1) .
ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... وقرا غداة الروع والانفار
للنابغة الذبياني. والسورة- بالضم-: الرتبة، يقول: ولقوم حراب بن زهير وقد بن مالك درجة في الشرف دائمة العز. وحراب بالراء. وروى بالزاي. وقد بالمهملة. وروى بالمعجمة. وقد وقذ: أخوان. وليس غرابها بمطار استعارة تمثيلية لدوام العز لهم أو كناية عنه، لأن أصله: أنه إذا كثر الشجر والنبات، يقيم فيه الغراب ولا يطيره شيء لحب الخصب وعدم الجدب. والأوجه أن السورة أصلها المرتبة الحسية، فاستعيرت للمعنوية، ثم جرت فيها المكنية حيث شبهت بمكان الخصب، وإثبات الغراب والاطارة تخييل لذلك التشبيه. ثم قال: هم قوم إذا كثر الصياح في الحرب رأيتهم وقرا أى صما، فهو من الوقر أى ثقل الأذن، بمعنى أن كثرة الصياح لا تزعجهم كأنهم صم وقيل من الوقار والسكينة. وغداة الروع والانفار: صبيحة الخوف والافزاع. وقيل: أصله أن الغراب يقع على رأس البعير يتلقط منها الهوام، فلا يحرك رأسه لئلا ينفر الغراب فشبه مرتبتهم برأس البعير على طريق الممكنية.
وقيل لارتفاعها لا يصلها الغراب حتى يضار من فوقها. فالمعنى لا غراب فوقها فيطار.

(1/97)


أحسن وأنبل وأفخم «1» من أن يكون بيانا واحدا. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه، وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر، إذا علم أنه قطع ميلا، أو طوى فرسخا، أو انتهى إلى رأس بريد: نفس ذلك منه ونشطه للسير. ومن ثم جزأ القراء القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة «2» ، اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه ويغتبط به.
ومنه حديث أنس رضى الله عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا «3» » ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل. ومنها أن التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع من مثله متعلق بسورة صفة لها أى بسورة كائنة من مثله. والضمير لما نزلنا «4» ، أو لعبدنا. ويجوز أن يتعلق بقوله: (فأتوا) والضمير للعبد. فإن قلت: وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم. أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك. ولكنه نحو قول القبعثرى للحجاج- وقد قال له: لأحملنك على الأدهم-: مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب. أراد
__________
(1) . قوله «وأنبل وأفخم» أى أفضل وأعظم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «إذا حذق السورة» حذق الشيء، أى مهر فيه. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . هذا طرف من حديث أخرجه أحمد وابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس رضى الله عنه «أن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا- أى عظم: الحديث» . وأخرجه ابن حبان من هذا الوجه بلفظ «عد فينا ذو شأن» وقد ذكره الجوهري في الصحاح من حديث أنس رضى الله عنه بلفظ المصنف. وأصله عند البخاري من رواية عبد العزيز ابن صهيب. وعند مسلم في رواية ثابت، كلاهما عن أنس دون القدر الذي اقتصر عليه المصنف. ولم يصب الطيبي في عزوه له إلى الصحيحين. وعزاه الزمخشري في تفسير الجن إلى رواية عمر رضى الله عنه أيضا كما سيأتى.
(4) . قال محمود رحمه الله: «الضمير يحتمل عوده لما نزلناه ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ومعنى هذا الترجيح أن المتحدى عليهم في التفسير الأوجه جملة المخاطبين، أى أنهم باجتماعهم ومظاهرة بعضهم بعضا، عجزة عن الإتيان بطائفة منه. وأما على التفسير المرجوح، فهم مخاطبون بأن يعينوا واحدا منهم يكون معارضا للمتحدى بأنه يأتى بمثل ما أوتى به أو ببعضه. ولا شك أن عجز الخلائق أجمعين أبهى من عجز واحد منهم. ويشهد لرجحان الأول قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)

(1/98)


من كان على صفة الأمير من السلطان والقدرة وبسطة اليد. ولم يقصد أحدا يجعله مثلا للحجاج. ورد الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) . (فأتوا بعشر سور مثله) ، (على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) ، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيبا.
وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، وهو مسوق إليه ومربوط به، فحقه أن لا يفك عنه برد الضمير إلى غيره. ألا ترى أن المعنى: وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله. فهاتوا أنتم نبذا مما يماثله ويجانسه. وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. ولأنهم إذا خوطبوا جميعا- وهم الجم الغفير- بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم، كان أبلغ في التحدى من أن يقال لهم: ليأتى واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد، ولأن هذا التفسير هو الملائم لقوله: (وادعوا شهداءكم) والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة. ومعنى (دون) أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون، وهو الدنى الحقير، ودون الكتب، إذا جمعها، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال: هذا دون ذاك، إذا كان أحط منه قليلا. ودونك هذا: أصله خذه من دونك. أى من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم. ومنه قول من قال لعدوه «1» وقد رآه بالثناء عليه: أنا دون هذا وفوق ما في نفسك، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم.
قال الله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) أى لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين. وقال أمية:
يا نفس مالك دون الله من واقى «2»
__________
(1) . أخرجه البزار من رواية على بن أبى ربيعة قال: «جاء رجل إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، فجعل يثنى عليه. وكان يبلغه عنه خلاف ذلك. فقال: أنا دون هذا الذي تقوله ولكنى فوق ما في نفسك» .
(2) .
يا نفس مالك دون الله من واق ... ولا للسع بنات الدهر من راق
لأمية بن أبى الصلت يقول: يا نفس ليس لك حافظ دون الله، أى متجاوز الله، أو متجاوزة الله، فهو حال من الواقي أو من النفس. واستعار البنات للحوادث يجامع ملازمة كل لمنشئه على طريق التصريحية، ثم شبه الحوادث بالأفاعى بجامع إيذاء كل لغيره على طريق المكنية ولسعها تخييل. ويجوز أنه استعار اللسع للاصابة على طريق التصريحية.
ولراقى طبيب اللسع. ومن زائدة في الموضعين لتوكيد الاستغراق: أى لا حافظ لك إلا الله، ولا جابر لك إلا هو. [.....]

(1/99)


أى إذا تجاوزت وقاية الله ولم تناليها لم يقك غيره. و (من دون الله) متعلق بادعوا أو بشهدائكم. فإن علقته بشهدائكم فمعناه: ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق. أو ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله من قول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهى دونه «1»
أى تريك القذى قدامها وهي قدام القذى، لرقتها وصفائها. وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن بفصاحته: غاية التهكم بهم. وادعوا شهداءكم من دون الله، أى من دون أوليائه ومن غير المؤمنين، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله. وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأن شهداءهم وهم مدارة القوم، «2» الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة، تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلى في عقولهم إحالته، وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه جائز. وإن علقته بالدعاء فمعناه: ادعوا من دون الله شهداءكم، يعنى لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم. وأن الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثا غير قولهم: الله يشهد أنا صادقون. وقولهم هذا: تسجيل منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة.
__________
(1) .
وساق إذا شئنا كميش بمعشر ... وصهباء زياد إذا ما ترقرق
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
للأعشى في مدح المحلق عبد الرحيم بن خيثم بن شداد. والكميش: السريع. وماضى العزم: أى سريع في سقى الناس ولو كثروا. والزياد- كرمان-: رغوة اللبن ونحوه. والترقرق: الترشرش والانصباب. وترقرق: أصله تترقرق، فحذف منه إحدى التاءين، أى تتحرك. تريك: أى الصهباء وهي الخمر، لأن فيها لون الصهبة. والقذى ما يتساقط في الشراب والعين. دونها: أى قدمها حائلا بينها وبينك، والحال أنها دونه أى قدمه حائلة بينه وبينك إذا ذاقها: أى الخمر، من ذاقها: من أراد ذوقها، يتمطق: أى يصوت بفتح فمه ومص لسانه وشفتيه، أو يطبق فمه ويفتحه تلذذا بها فيصوت. وقيل إن ضمير «تريك» عائد للزجاجة يصفها بالصفاء، فلعله أطلق الصهباء عليه لتلونها بلون الخمرة. وضمير «ذاقها» عائد لها بمعنى الخمرة، فيكون في الكلام استخدام. وروى «وهي فوقه» بدل «دونه» وفيه نوع تأييد لعود الضمير على الخمرة.
(2) . قوله «مدارة القوم» المدارة جلد يدار ويخرز على هيئة الدلو، لكنها تكون واسعة الجوف قصيرة الجوانب لتنغمس في الماء وإن كان قليلا فتمتلئ منه. أفاده الصحاح فهي هنا مجاز. (ع)

(1/100)


فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)

وعن بعض العرب أنه سئل عن نسبه فقال: قرشى والحمد لله. فقيل له: قولك «الحمد لله» في هذا المقام ريبة. أو ادعوا من دون الله شهداءكم: يعنى أن الله شاهدكم لأنه أقرب إليكم من حبل الوريد، وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم. والجن والإنس شاهدوكم فادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى، لأنه القادر وحده على أن يأتى بمثله دون كل شاهد من شهدائكم، فهو في معنى قوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن) ... الآية.

[سورة البقرة (2) : آية 24]
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)
لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسره وامتياز حقه من باطله. قال لهم فإذا لم تعارضوه ولم يتسهل لكم ما تبغون وبان لكم أنه معجوز عنه، فقد صرح الحق عن محضه ووجب التصديق فآمنوا وخافوا العذاب المعد لمن كذب. وفيه دليلان على إثبات النبوة: صحة كون المتحدى به معجزا، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله. فان قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلا جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك. قلت: فيه وجهان:
أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاويه: إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما به. فإن قلت: لم عبر عن الإتيان بالفعل وأى فائدة في تركه إليه؟ قلت: لأنه فعل من الأفعال. تقول: أتيت فلانا، فيقال لك: نعم ما فعلت. والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصارا ووجازة تغنيك عن طول المكنى عنه. ألا ترى أن الرجل يقول: ضربت زيدا في موضع كذا على صفة كذا، وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالا، فتقول: بئسما فعلت. ولو ذكرت ما أنبته عنه، لطال عليك، وكذلك لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله.
ولن تأتوا بسورة من مثله. فإن قلت: ولن تفعلوا ما محلها؟ قلت: لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. فإن قلت: ما حقيقة «لن» في باب النفي؟ قلت: «لا» و «لن» أختان في نفى المستقبل، إلا أن في «لن» توكيدا وتشديدا. تقول لصاحبك: لا أقيم غدا، فإن أنكر عليك قلت:
لن أقيم غدا كما تفعل في: أنا مقيم، وإنى مقيم. وهي عند الخليل في إحدى الروايتين عنه

(1/101)


أصلها «لا أن» وعند الفراء «لا» أبدلت ألفها نونا. وعند سيبويه وإحدى الروايتين عن الخليل: حرف مقتضب لتأكيد نفى المستقبل. فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو به حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به فكان معجزة. فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت:
إنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد فوضع فاتقوا النار موضعه، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث أنه من نتائجه لأن من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطى. يريد: فأطيعونى واتبعوا أمرى، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن، وتهويل شأن العناد بإنابة اتقاء النار منابه وإبرازه في صورته، مشيعا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها.
والوقود: ما ترفع به النار. وأما المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح. قال سيبويه:
وسمعنا من العرب من يقول: وقدت النار وقودا عاليا. ثم قال: والوقود أكثر، والوقود الحطب. وقرأ عيسى بن عمر الهمدانى- بالضم- تسمية بالمصدر، كما يقال: فلان فخر قومه وزين بلده. ويجوز أن يكون مثل قولك: حياة المصباح السليط، أى ليست حياته إلا به فكأن نفس السليط حياته، فإن قلت: صلة «الذي» و «التي» يجب أن تكون قصة معلومة، للمخاطب، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى في سورة التحريم (نارا وقودها الناس والحجارة) فإن قلت: فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم، وهاهنا معرفة؟ قلت: تلك الآية نزلت بمكة، فعرفوا منها نارا موصوفة بهذه الصفة. ثم نزلت هذه بالمدينة «1» مشارا بها إلى ما عرفوه أولا.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «هذه الآية نزلت بالمدينة بعد نزول آية التحريم بمكة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله يعنى بالآية قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) لكنى لم أقف على خلاف بين المفسرين أن سورة التحريم مدنية وما اشتملت عليه من القصة المشهورة أصدق شاهد على ذلك. فالظاهر أن الزمخشري وهم في نقله أنها مكية.

(1/102)


وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)

فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: وقودها الناس والحجارة؟ قلت: معناه أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وبأن غيرها إن أريد إحراق الناس بها أو إحماء الحجارة أو قدت أولا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك- أعاذنا الله منها برحمته الواسعة- توقد بنفس ما يحرق ويحمى بالنار، وبأنها لإفراط حرها وشدة ذكائها إذا اتصلت بما لا تشتعل به نار، اشتعلت وارتفع لهبها. فإن قلت: أنار الجحيم كلها موقدة بالناس والحجارة، أم هي نيران شتى منها نار بهذه الصفة؟ قلت: بل هي نيران شتى، منها نار توقد بالناس والحجارة، يدل على ذلك تنكيرها في قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) ، (فأنذرتكم نارا تلظى) . ولعل لكفار الجن وشياطينهم نارا وقودها الشياطين، كما أن لكفرة الإنس نارا وقودها هم، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب. فإن قلت: لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودا. قلت: لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما وجعلوها لله أندادا أو عبدوها من دونه: قال الله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) وهذه الآية مفسرة لما نحن فيه.
فقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله) في معنى الناس والحجارة، و (حصب جهنم) في معنى وقودها. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم بمكانهم، جعلها الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم، إبلاغا في إيلامهم وإعراقا في تحسيرهم «1» ، ونحوهم ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم. وقيل: هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل وذهاب عما هو المعنى الصحيح الواقع المشهود له بمعاني التنزيل أعدت هيئت لهم وجعلت عدة لعذابهم. وقرأ عبد الله، أعتدت، من العتاد بمعنى الغدة.

[سورة البقرة (2) : آية 25]
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)
__________
(1) . قوله «وإعراقا في تحسيرهم» لعله: وإغراقا، بالغين المعجمة. (ع)

(1/103)


من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب. فإن قلت:
من المأمور بقوله تعالى: وبشر؟ قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام «بشر المشاءين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة «1» » لم يأمر بذلك واحدا بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهى يصح عطفه عليه؟
قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهى يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جمة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشر عمرا بالعفو والإطلاق.
ولك أن تقول: هو معطوف على قوله: (فاتقوا) كما تقول: يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم. وفي قراءة زيد بن على رضى الله عنه: (وبشر) على لفظ المبنى للمفعول عطفا على: (أعدت) . والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حر، فبشروه فرادى، عتق أولهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرنى» «أخبرنى» عتقوا جميعا، لأنهم جميعا أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما (فبشرهم بعذاب أليم) فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألمه واغتمامه، كما يقول الرجل لعدوه: أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك. ومنه قوله:
__________
(1) . أخرجه أبو داود. والترمذي والبزار. من طريق إسماعيل بن سليمان عن عبد الله بن أوس عن بريدة وقال الدارقطني: تفرد به إسماعيل. وله شاهد من رواية ثابت عن أنس وسهل بن سعد رضى الله عنهما، أخرجه ابن ماجة والحاكم. وأخرجه ابن حبان عن أبى الدرداء رضى الله عنه، والطبراني من رواية ابن عباس وابن عمر وزيد بن حارثة وأبى موسى وأبى أمامة رضى الله عنهم بأسانيد ضعيفة. وحديث زيد في الكامل لابن عدى. وحديث أبى موسى عند البزار. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة. وقال: تفرد به قتادة بن الفضل عن الحسن بن على البيروتى. ورواه الطيالسي وأبو يعلى من حديث أبى سعيد وإسناده ضعيف أيضا. ورواه عمر بن شاهين في الترغيب له من حديث حارثة بن وهب الخزاعي.

(1/104)


فأعتبوا بالصيلم «1»
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم. قال الحطيتة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتينى «2»
والصالحات: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة، واللام للجنس.
فإن قلت: أى فرق بين لام الجنس داخلة على المفرد، وبينها داخلة على المجموع؟ قلت: إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه. وإذا دخلت على المجموع، صلح أن يراد به جميع الجنس، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه لأن وزانه في تناول الجمعية في الجنس وزان المفرد في تناول الجنسية، والجمعية في جمل الجنس لا في وحدانه. فإن قلت: فما المراد بهذا المجموع مع اللام؟ قلت:
الجملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه. قال زهير
تسقى جنة سحقا «3»
__________
(1) .
غضبت تميم أن نقتل عامرا ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
لبشر بن أبى حازم الأسدى. وتميم، وعامر: قبيلتان. وهل: استفهام إنكارى. أى ليس المجرب للأمور مثلهما كمن لم يجربها. ويجوز أنه أمره بالسؤال لأن الذي يسأل ويعلم ليس كمن لم يعلم. وأن نقتل: أى من أن نقتل.
وروى: تقتل عامر، بالباء للمجهول. والنسار اسم ماء لبنى عامر، أى غضبت علينا تميم من قتل حلفائهم فكأنها عتبت علينا لضعفها. فأعتبناهم، أى أزلنا عتابهم بالصيلم: وهو السيف الكثير القطع، من صلمه إذا قطعه. وشبه إجابتهم بالمحاربة بالسيف باجابة من يزيل العتاب على سبيل التصريحية التهكمية. لأن الأول مكروه والثاني محبوب.
(2) . للحطيئة واسمه جرول بن أوس بن حومة بن مخذوم بن مالك الغطفاني، حين وفدت العرب على النعمان بن المنذر فأحضر حللا عظيمة وقال: إنى ملبسها غدا لمن شئت، فلما كان الغد تخلف ابن سعدى خوف إلباسها غيره وهو حاضر فطلبه الملك وألبسه الحلل، فحسدته سادات العرب من قومه، وضمنوا للحطيئة مائة بعير لو هجاه، فقال: كيف الهجاء له، والحال أن لا تنفك فعلة صالحة تأتينى من آل لأم حال كوني ملتبسا بظهر الغيب، أو حال كونهم ملتبسين بظهر الغيب. وأقحم الظهر لأن الغائب كأنه وراء الظهر، أو لتقوية الغيب، لأنهم إذا أرادوا تقوية شيء أسندوا له الظهر لقوته، وكثيرا ما يجرون الصفة مجرى الاسم، إما لعدم الاحتياج إلى ذكره كما في صالحة، أو لأنها كافية في تعيين الموصوف إن احتيج إليه.
(3) .
إن الخليط أجدوا البين فافترقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
كأن عينى في غربي مقتلة ... من النواضح تسقى جنة سحقا
لزهير بن أبى سلمى. والخليط المعاشر. والبين: الانفصال والبعد، وأسماء: اسم محبوبته. وأصله من الوسامة وهي علامة الحسن. وقيل أصله جمع اسم. وعلق: مبنى للمجهول. والقلب: نائب فاعل. وما علق- بالتخفيف-:
مفعوله، أى ما تعلق به منها وهو الحب والتحسر والتحزن على سفرها. ولم يعينه دلالة على التكثير والتهويل ولما اشتغل قلبه بها، فكأنها أخذته معها ولذلك ادعى أنها أخذته رهنا على سبيل الاستعارة المصرحة، ورشحها بقوله:
لا فكاك له: وغلق الرهن- بالكسر-: إذا امتلكه الدائن ويأس صاحبه من رجوعه إليه، ثم قال: كأن عينى من شدة البكاء وكثرة الدموع عينان في دلوين عظيمتين ممتلئتين ماء، تحملهما ناقة مقتلة مذللة معتادة على العمل من الإبل النواضح التي يستقى عليها، تسقى تلك الناقة جنة «سحقا» بضمتين: جمع سحوق، أى نخلا طوالا جهة السماء، أو بعيدة عن محل الماء، فهي دائمة ذاهبة آئبة. ولقد خاطب نفسه أولا كأنه يخبرها بسفر أسماء لفرط جزعه، ثم التفت كأنه يشتكى للناس في قوله: كأن عينى.

(1/105)


أى نحلا طوالا. والتركيب دائر على معنى الستر، وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة، من مصدر جنه إذا ستره، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها. وسميت دار الثواب «جنة» لما فيها من الجنان. فإن قلت: الجنة مخلوقة أم لا؟ قلت: قد اختلف في ذلك. والذي يقول إنها مخلوقة يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام، كالنبي والرسول والكتاب ونحوها. فان قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان. فان قلت:
أما يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل الصالح أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية؟ فهلا شرط ذلك؟ قلت: لما جعل الثواب مستحقا بالإيمان والعمل الصالح، والبشارة مختصة بمن يتولاهما، وركز في العقول أن الإحسان إنما يستحق فاعله عليه المثوبة والثناء، إذا لم يتعقبه بما يفسده ويذهب بحسنه، وأنه لا يبقى مع وجود مفسده إحسانا، وأعلم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عليه وأعزهم: (لئن أشركت ليحبطن عملك) ، وقال تعالى المؤمنين: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم) كان اشتراط حفظهما من الإحباط والندم كالداخل تحت الذكر. فان قلت: كيف صورة جرى الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظرا ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية

(1/106)


والنشاط حتى يجرى فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتا، والسرور الأوفر مفقودا، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى:
نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهر» بفتح الهاء. ومدار التركيب على السعة، وإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد المجازى كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق، وصيد عليه يومان. فإن قلت: لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار. قلت: أما تنكير الجنات فقد ذكر. وأما تعريف الأنهار فأن يراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب. أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله: (واشتعل الرأس شيبا) . أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: (فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) - الآية.
وقوله كلما رزقوا لا يخلو من أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا، أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس؟ فقيل إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا، أى أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله. فان قلت:
ما موقع من ثمرة؟ قلت: هو كقولك: كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك.
فموقع (من ثمرة) موقع قولك من الرمان، كأنه قيل: كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو عنبها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك. فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدئ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة. وتنزيله تنزيل أن تقول: رزقني فلان، فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أى ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من رمان. وتحريره أن «رزقوا» جعل مطلقا مبتدأ من ضمير الجنات، ثم جعل مقيدا بالابتداء من ضمير الجنات، مبتدأ من ثمرة، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
ووجه آخر: وهو أن يكون (من ثمرة) بيانا على منهاج قولك: رأيت منك أسدا. تريد

(1/107)


أنت أسد. وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة. فإن قلت:
كيف قيل هذا الذي رزقنا من قبل وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل «1» . وشبهه بدليل قوله وأتوا به متشابها، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا لأن قوله: (هذا الذي رزقنا من قبل) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. ونظيره قوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) أى بجنسى الغنى والفقير لدلالة قوله: غنيا أو فقيرا على الجنسين. ولو رجع الضمير إلى المتكلم به لقيل أولى به على التوحيد. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناسا أخر؟ قلت: لأن الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتا بينه وبين ما عهد بليغا، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنسا لم يعهده وإن كان فائقا، حسب أن ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملى تعجبهم، ويستدعى تبجحهم في كل أوان. عن مسروق: «نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وأنهارها تجرى في غير أخدود، والعنقود اثنتا عشرة
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا من التشبيه بغير الأداة، وهو أبلغ مراتب التشبيه، كقولهم: أبو يوسف أبو حنيفة.

(1/108)


ذراعا» . ويجوز أن يرجع الضمير في: (أتوا به) إلى الرزق، كما أن هذا إشارة إليه، ويكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل، فاللون واحد والطعم مختلف. وعنه صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده»
، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها» فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك. والتفسير الأول هو هو. فإن قلت: كيف موقع قوله: (وأتوا به متشابها) من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأى كذا وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: (وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
والمراد بتطهير الأزواج: أن طهرن مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختص بهن من الأقذار والأدناس. ويجوز لمجيئه مطلقا: أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا، مما يكتسبن بأنفسهن، ومما يأخذنه من أعراق السوء والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة، ومن سائر عيوبهن ومثالبهن وخبثهن وكيدهن. فان قلت: فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان.
يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة. ومنه بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت «2»
__________
(1) . أخرجه الطبراني والبزار والحاكم من حديث ثوبان بلفظ «لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها شيئا إلا أخلف الله مكانها مثلها» ولفظ البزار: «إلا أعيد في مكانها مثليها» على التثنية. وسيأتى في آخر الزخرف.
(2) .
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت
دارت بأرزاق العناة مغالق ... بيدي من قمع العشار الجلة
ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها ... وكفيت جانبها اللتيا والتي
لسلمى بن ربيعة بن جفنة الضبي وشبه استتار الأبكار بالدخان أو سوادهن به باستتارهن بالقناع على طريق التصريح أو شبه الدخان به على طريق المكنية. وملت: شوت المليل بأن تضع اللحم أو الخبز على الجمر فينضج. ويروى «درت» بدل «دارت» أى كثر بذلها. والعفاة: طلاب الرزق. والمغالق: سهام الميسر التي تغلق الحظر وتثبته للغالب. والقمع: قطع السنام جمع قمع. والعشار: النوق التي مضى على حملها عشرة أشهر. والجملة: السمان العظيمات السنام، جمع جليل كصبية جمع صبى، أى إذا جدب الزمان، حتى أن الأبكار مع فرط حيائهن وصونهن، يقبلن على الدخان ويشتوين على الجمر، ويأكلن ولا يصبرن لنضج القدور من الجوع بذلت للناس بكثرة. ويحتمل أن مخدراته تباشر تنضيج قرى الضيفان بأنفسهن فيبذله لهم. والأول أبلغ. ورأيت: أصلحت. والثأى الفساد وكفيت من جنى منها. ويروى «جانبها» بالموحدة الداهية الصغيرة والكبيرة. واللتيا: تصغير التي كغيرها من الموصولات التي سمع تصغيرها، وزيدت الألف في آخرها عوضا عن ضم التصغير، وهي بفتح اللام. وقال الأخفش بضمها على قياس التصغير وإن كان شاذا في الأسماء المبنية كما هنا. واستغنت عن الصلة لنقلها بالتصغير عن معنى الموصولية وحمل عليها «التي» لأنها لما ذكرت في مقابلتها كان معناها الداهية العظيمة فلم يكن قصد إلى معنى الموصولية أيضا. وقيل يجوز حذف الصلة لدليل، فيقدر هنا: اللتيا صغرت، والتي عظمت. ثم إن هذا من قبيل الأمثال السائرة. وأصله أن رجلا تزوج امرأة قصيرة فقاسى منها الشدائد، ثم زوج طويلة أيضا فقاسى ضعف ذلك، فطلقهما وقال: بعد اللتيا والتي لا أتزوج أبدا.

(1/109)


إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)

والمعنى وجماعة أزواج مطهرة «1» . وقرأ زيد بن على: (مطهرات) وقرأ عبيد بن عمير:
مطهرة، بمعنى متطهرة. وفي كلام بعض العرب: ما أحوجنى إلى بيت الله. فأطهر به أطهرة.
أى فأتطهر به تطهرة. فإن قلت: هلا قيل طاهرة؟ قلت: في «مطهرة» فخامة لصفتهن ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهرا طهرهن. وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد بعباده الصالحين أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم.
والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال الله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن مت فهم الخالدون) . وقال امرؤ القيس:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالى ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالى
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال «2»

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)
__________
(1) . قوله «وجماعة أزواج مطهرة» لعل الواو مزيدة من الناسخ. أو لعل أصله ولهم فيها جماعة أزواج. (ع)
(2) . لامرئ القيس. وألا استفتاحية. وأنعم صباحا: تحية الجاهلية، أى طاب عيشك. ويخفف فيقال عم، كما روى هنا. وكذلك «يعمن» روى هنا أيضا. ونعم ينعم كضرب يضرب: ونعم ينعم كسهل يسهل. ونعم ينعم كعلم يعلم. ونعم ينعم بكسر عينهما وهو قليل، بمعنى صار ناعما لينا. وخص الصباح لأنه وقت الغارات. والطلل: ما بقي من آثار الديار. والبالي: الفاني. والمراد تحية أهل الطلل ثم تذكر الخطأ في تحيتهم فقال: لا يتنعم من كان في الزمن الماضي وهو اليوم فان، فالاستفهام إنكارى: والمخلد: طويل العمر بحيث لا يفنى. والأوجال: جمع وجل وهو الخوف، والباء للملابسة. ويجوز أنها للظرفية تخييلا.

(1/110)


سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب، من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهم من المشاهد. فان كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا إلا أمرا تستدعيه حال المتمثل له وتستجره إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية. ألا ترى إلى الحق لما كان واضحا جليا أبلج، كيف تمثل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله تعالى لا حال أحقر منها وأقل، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقل من الذباب وأخس قدرا، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع، ولم يقل للمتمثل: استحى من تمثيلها بالبعوضة، لأنه مصيب في تمثيله، محق في قوله، سائق للمثل على قضية مضربه، محتذ على مثال ما يحتكمه ويستدعيه، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والعمل على العدل والتسوية والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله.
وأن الكفار الذين غلبهم الجهل على عقولهم، وغصبهم على بصائرهم فلا يتفطنون ولا يلقون أذهانهم، أو عرفوا أنه الحق إلا أن حب الرياسة وهوى الألف والعادة لا يخليهم أن ينصفوا، فإذا سمعوه عاندوا «1» وكابروا وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار، وأن ذلك سبب زيادة هدى المؤمنين وانهماك الفاسقين في غيهم وضلالهم. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء
__________
(1) . قوله «فإذا سمعوه عاندوا» لعل زيادة الفاء في خبر أن لشبه اسمها بالشرط. (ع) [.....]

(1/111)


فقالوا: أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد، وأصرد من جرادة «1» ، وأضعف من فراشة، وآكل من السوس. وقالوا في البعوضة: أضعف من بعوضة، وأعز من مخ البعوض. وكلفتنى مخ البعوض. ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة، كالزوان والنخالة «2» وحبة الخردل، والحصاة، والأرضة، والدود، والزنابير. والتمثيل بهذه الأشياء وبأحقر منها مما لا تغنى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ولا متشبث بأمارة ولا إقناع، أن يرمى لفرط الحيرة والعجز عن إعمال الحيلة بدفع الواضح وإنكار المستقيم والتعويل على المكابرة والمغالطة إذا لم يجد سوى ذلك معولا. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
والحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم. واشتقاقه من الحياة.
يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسى وحشى وشظى الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء «3» جعل الحي لما يعتريه من الانكسار والتغير، منتكس القوة منتقص الحياة، كما قالوا: هلك فلان حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء. وذاب حياء، وجمد في مكانه خجلا. فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به «4» ولا يجوز عليه التغير والخوف والذم، وذلك في حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حي كريم «5» يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» . قلت:
__________
(1) . قوله «وأصرد من جرادة» في الصحاح: صرد الرجل بالكسر فهو صرد ومصراد: يجد البرد سريعا (ع)
(2) . قوله «كالزوان والنخالة» في الصحاح: الزوان حب يخالط البر (ع)
(3) . قوله «إذا اعتلت هذه الأعضاء» عرق النسا والحشا والشظى. وفي الصحاح: الشظى عظم مستدق ملزق بالذراع، فإذا تحرك في موضعه قيل: قد شظى الفرس (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت كيف جاز وصف الله تعالى بالاستحيائية ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله:
ولقائل أن يقول: ما الذي دعاه إلى تأويل الآية مع أن الحياء الذي يخشى نسبة ظاهره إلى الله تعالى مسلوب في الآية كقولنا: الله ليس بجسم ولا بجوهر في معرض التنزيه والتقديس. وأما تأويل الحديث فمستقيم، لأن الحياء فيه ثبت لله تعالى. وللزمخشري أن يجيب بأن السلب في مثل هذا إنما يطرأ على ما يمكن نسبته إلى المسلوب عنه. إذ مفهوم نفى الاستحياء عنه في شيء خاص، ثبوت الاستحياء في غيره، فالحاجة داعية إلى تأويله لما أفضى إليه مفهومه.
وإنما يتوجه السؤال لو كان الاستحياء مسلوبا مطلقا، كقولنا: الله لا يحول ولا يزول فان ذلك لا يثبت ومحال، بل يقال: هو مقدس منزه مطلقا،
(5) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديثه بلفظ «إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» قال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم ولم يرفعه. وفي الباب عن أنس رضى الله عنه. أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبان عنه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبان. وأخرجه الحاكم من طريق حفص بن عمر بن عبد الله بن أبى طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله رحيم حى كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم لا يضع فيهما خيرا» وعن جابر أخرجه أبو يعلى. وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر وهو متروك وعن ابن عمر رضى الله عنهما أخرجه الطبراني.

(1/112)


هو جار على سبيل التمثيل مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يرد يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. وكذلك معنى قوله: إن الله لا يستحيي أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيى أن يتمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال. وهو فن من كلامهم بديع، وطراز عجيب، منه قول أبى تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أنى بنيت الجار قبل المنزل؟ «1»
وشهد رجل عند شريح. فقال: إنك لسبط الشهادة. فقال الرجل: إنها لم تجعد عنى. فقال:
لله بلادك، وقبل شهادته. فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة. ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار. وسبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. ولله در أمر التنزيل وإحاطته بفنون البلاغة وشعبها، لا تكاد تستغرب منها فنا إلا عثرت عليه فيه على أقوم مناهجه وأسد مدارجه. وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت «2» في إناء من الورد «3»
__________
(1) . لأبى تمام. وفناء الدار: ما امتد من جوانبها، وجمعه أفنية. ويقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم من أى قبيلة هو، أى من أطرافهم. ويعرب: اسم قبيلة، وبناء الجار: اتخاذه، سماه بناء للمشاكلة التقديرية حيث قرنه بما يبنى وهو المنزل وهو مجاز بجامع مطلق الاتخاذ أو علاقته المجاورة الذهنية أو اللفظية، وهذه العلاقة تجرى في كل مشاكلة. ولم يرتضه بعضهم، واختار أنها إن لم يوجد لها علاقة فهي قسم رابع لا حقيقة ولا مجاز ولا كناية.
(2) . (قوله بسبت في إناء من الورد) في الصحاح: السبت بالكسر جلود البقر المدبوغة بالقرظ اه وهو في البيت مجاز كالإناء من الورد (ع)
(3) .
كفانا الربيع العيس من بركاته ... فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في إناء من الورد
للمتنبي. والعيس: الإبل. والربيع: المطر. والحداء: الغناء للإبل، والاستثناء متصل على تشبيه الرعد بالحداء، وجعله من أفراده، أى: كفانا حاجة العيس لكثرته، حتى كأنه يعرض نفسه على النوق. ويقال: استحي واستحى كما هنا أى إذا خشين من عرض نفسه عليهن، أو امتنعن منه. وروى «استجبن» بالجيم فالموحدة، أى أطعنه في عرض نفسه عليهن. وجملة «يعرض نفسه» حالية. واستعار السبت بالكسر- وهو الجلد المدبوغ بالقرظ- لمشافر النوق على طريق التصريح. وكذلك استعار الإناء من الورد للبركة التي كثر زهرها ونورها، وإن لم يكن ذلك الإناء موجودا و «في» بمعنى «من» . ويجوز أنه جعل الأرض ظرفا للشرب.

(1/113)


وقرأ ابن كثير في رواية شبل (يستحى) بياء واحدة. وفيه لغتان: التعدي بالجار والتعدي بنفسه. يقولون: استحييت منه واستحييته، وهما محتملتان هاهنا.
وضرب المثل: اعتماده وصنعه، من ضرب اللبن وضرب الخاتم. وفي الحديث «اضطرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب» «1» و (ما) هذه إبهامية «2» وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شياعا وعموما، كقولك: أعطنى كتابا ما، تريد أى كتاب كان. أو ضلة للتأكيد، كالتي في قوله: (فبما نقضهم ميثاقهم) كأنه قيل: لا يستحيى أن يضرب مثلا حقا أو البتة، هذا إذا نصبت بعوضة فإن رفعتها فهي موصولة، «3» صلتها
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أنس رضى الله عنه.
(2) . قال محمود رحمه الله: «وما هذه إبهامية ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وفيها وهم إمام الحرمين في تقرير نصوصية العموم في قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ... الحديث» فانه قرر العموم والإبهام في أى، ثم قال: فإذا انضافت إليها ما الشرطية كان ذلك أبلغ في اقتضاء العموم، فاعتقد أن المؤكدة هي الشرطية، وإنما هي حرف مزيد لهذا الغرض. وأما «ما» الشرطية فاسم كمن. والله الموفق.
(3) . قال محمود: «هذا إذا نصبت بعوضة، فان رفعتها فهي موصولة ... إلى قوله: ووجه آخر جميل وهو أن تكون ... الخ» . قال أحمد: حملها على الاستفهامية بالمعنى الذي قرره: فيه نظر لأن قوله تعالى «فما فوقها» في الحقارة فيكون معناه: فما دونها. وإما أن يراد فما هو أكبر منها حجما. وعلى كلا التقديرين يتقدر الاستفهام لأنه إنما يستعمل في مثل: ما دينار وديناران، أى إذا جاد بالكثير فما القليل. وإذا ذهبت في الآية هذا المذهب لم تجد لصحته مجالا، إذ يكون الراد: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بالمحقرات، فما البعوضة وما هو أحقر منها. وقد فرضنا أنها في أحد الوجهين نهاية في المحقرات، وفي الوجه الآخر ليست نهاية، بل النهاية في قوله: (فما فوقها) أى دونها. فإذا حمل ما بعد الاستفهام على النهاية في الوجهين جميعا لم ينتظم التنبيه المذكور، بل ينعكس الغرض فيه إذ المقصود في مثل قولنا: فلان لا يبالى بعطاء الألوف فما الدينار الواحد- التنبيه على أن إعطاء القليل منه محقق بعطائه الكثير بطريق الأولى، ولا يتحقق في الآية على هذا التقدير أنه لا يستحي من ضرب المثل بالمحقرات التي لا تبلغ النهاية، فكيف يستحي من ضرب المثل بما يبلغ النهاية في الحقارة كالبعوضة. هذا عكس لنظم الأولوية، ولو كانت الآية مثلا واردة على غير هذا التكلم كقول القائل: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بالبعوضة التي هي نهاية في الحقارة، فما الأنعام التي هي أبهى من البعوضة أو أبعد منها عن الحقارة بما لا يخفى، لكان تقرير الزمخشري متوجها، وما أراه والله أعلم إلا واهما في هذا الوجه. وما طولت النفس ووسعت العبارة في الاعتراض عليه، إلا أنه محل ضيق ومعنى متعاص لا يخلص إلى الفهم إلا بهذا المزيد من البسط. وناهيك بموضع العكس على فهم الزمخشري بل مع تعود فهمه وإصابة نسجه، خصوصا في تنسيق المعاني وتفصيلها والله الموفق. وما تبجحه بالعثور على الوجه الذي ظن أن رؤبة بن العجاج راعاه في قراءته، فكلام ركيك توهم أن القراءة موكولة إلى رأى القارئ وتوجيهه لها ونصرته بالعربية وفصاحته في اللغة، وليس الأمر كذلك، بل القراءة على اختلاف وجوهها وبعد حروفها: سنة تتبع، وسماع يقضى بنقله، الفصيح وغيره على حد سواء، لا حيلة للفصيح في تعسر شيء منه عما سمعه عليه، وما يصنع بفصاحته في القرآن الذي بدد كل فصاحة وعزل كل بلاغة. فالصحيح والمعتقد أن كل قارئ معزول إلا عما سمعه فوعاه، وتلقنه من الأفواه، فأداه إلى أن ينتهى ذلك إلى استماع من أنصح من نطق بالضاد: سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فتأمل هذا الفصل فان فاهمه قليل

(1/114)


الجملة لأن التقدير: هو بعوضة، فحذف صدر الجملة كما حذف في: (تماما على الذي أحسن) ووجه آخر حسن جميل، وهو أن تكون التي فيها معنى الاستفهام لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال: إن الله لا يستحي أن يضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة مثلا، بله البعوضة فما فوقها، كما يقال: فلان لا يبالى بما وهب ما دينار وديناران. والمعنى:
أن لله أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ وبما لا يدركه «1» لتناهيه في صغره إلا هو وحده بلطفه، أو بالمعدوم، كما تقول العرب:
فلان أقل من لا شيء في العدد. ولقد ألم به قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء) وهذه القراءة تعزى إلى رؤبة بن العجاج، وهو أمضغ العرب للشيح والقيصوم، والمشهود له بالفصاحة، وكانوا يشبهون به الحسن، وما أظنه ذهب في هذه القراءة إلا إلى هذا الوجه، وهو المطابق لفصاحته. وانتصب (بعوضة) بأنها عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب، و (مثلا) حال عن النكرة مقدمة عليه. أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل» . واشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب. يقال: بعضه البعوض. وأنشد:
لنعم البيت بيت أبى دثار ... إذا ما خاف بعض القوم بعضا «2»
ومنه: بعض الشيء لأنه قطعه منه. والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت.
وكذلك الخموش «3» فما فوقها فيه معنيان: أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا، وهو القلة والحقارة، نحو قولك- لمن يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم-:
__________
(1) . قوله «وبما لا يدركه» لعله: أو بما. (ع)
(2) . المراد بالبيت: الكلة التي تمنع البعوض ليالي الصيف عمن فيها: وأبو دثار: اسم رجل. والدثار:
ما يلبس فوق الثياب إذا خاف بعض القوم بعض البعوض، أى قطعه ولسعه. ويحتمل أن المعنى: نعم المأوى والملجأ بيت أبى دثار، أخاف بعض الناس من شر بعضهم. ففيه التورية وهي من بديع الكلام.
(3) . قوله «وكذلك الخموش» في الصحاح: الخموش- بالفتح-: البعوض. (ع) [.....]

(1/115)


هو فوق ذاك، تريد هو أبلغ وأعرق فيما وصف به من السفالة والنذالة. والثاني: فما زاد عليها في الحجم، كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، لأنهما أكبر من البعوضة. كما تقول لصاحبك- وقد ذم من عرفته يشح بأدنى شيء فقال فلان بخل بالدرهم والدرهمين-: هو لا يبالى أن يبخل بنصف درهم فما فوقه، تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان، كأنك قلت: فضلا عن الدرهم والدرهمين. ونحوه في الاحتمالين ما سمعناه في صحيح مسلم عن إبراهيم عن الأسود قال: دخل شباب من قريش على عائشة رضى الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون. فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب. فقالت: لا تضحكوا. إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة» «1» يحتمل فما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة وهي نحو نخبة النملة في قوله عليه الصلاة والسلام:
«ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة «2» » وهي عضتها. ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط. فإن قلت: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ قلت: ليس كذلك، فإن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للدنيا «3» ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها ويبصر بصرها ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وأنشدت لبعضهم:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول «4»
__________
(1) . أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة.
(2) . لم أجده. وأصل الحديث- دون ما في آخره- مروى بطرق كثيرة.
(3) . كأنه يشير إلى حديث سهل بن سعد مرفوعا «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . أخرجه الترمذي.
(4) . للزمخشري، وإن كانت عادته في الكتاب أن لا ينسب شعره لنفسه. يقول: يا الله يا مبصر الخفيات حتى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل. والبهيم: المظلم، لانبهام الأشياء فيه. والأليل: أفعل تفضيل من الليل- وإن كان جامدا- للمبالغة في الظلمة. والنياط: عرق غليظ منوط بالقلب تتصل به عروق رقيقة. والنحر: أسفل العنق والمخ: ما في وسط العظام. والنحل: جمع ناحل، أى دقيق. والفرطات: ذنوبه التي فرطت منه. و «ما كان» مفعول «أغفر» . والزمان الأول: زمن الشباب.

(1/116)


وفأما حرف فيه معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء. وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد. تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيد ذاك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب. ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وهذا التفسير مدل لفائدتين: بيان كونه توكيدا، وأنه في معنى الشرط. ففي إيراد الجملتين مصدرتين به- وإن لم يقل: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون- إحماد عظيم لأمر المؤمنين، واعتداد بعلمهم أنه الحق، ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم وعنادهم ورميهم بالكلمة الحمقاء. والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. يقال: حق الأمر، إذا ثبت ووجب. وحقت كلمة ربك، وثوب محقق: محكم النسج: وماذا فيه وجهان: أن يكون ذا اسما موصولا بمعنى الذي، فيكون كلمتين. وأن يكون (ذا) مركبة مع (ما) مجعولتين اسما واحدا فيكون كلمة واحدة، فهو على الوجه الأول مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته. وعلى الثاني منصوب المحل في حكم (ما) وحده لو قلت: ما أراد الله. والأصوب في جوابه أن يجيء على الأول مرفوعا، وعلى الثاني منصوبا، ليطابق الجواب السؤال. وقد جوزوا عكس ذلك تقول- في جواب من قال: ما رأيت؟ - خير، أى المرئي خير. وفي جواب ما الذي رأيت؟ خيرا، أى رأيت خيرا. وقرئ قوله تعالى: (يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) بالرفع والنصب على التقديرين. والإرادة نقيض الكراهة، وهي مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك. وفي حدود المتكلمين: الإرادة معنى يوجب للحى حالا لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. وقد اختلفوا في إرادة الله، فبعضهم على أن للباري مثل صفة المريد منا التي هي القصد، وهو أمر زائد على كونه عالما غير ساه. وبعضهم على أن معنى إرادته لأفعاله هو أنه فعلها وهو غير ساه ولا مكره. ومعنى إرادته لأفعال غيره أنه أمر بها. والضمير في أنه الحق للمثل، أو لأن يضرب. وفي قولهم (ماذا أراد الله بهذا مثلا) استرذال واستحقار كما قالت عائشة رضى الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاصي «1» يا عجبا لابن عمرو
__________
(1) . هو قطعة من حديث أخرجه مسلم في كتاب الحيض من رواية عبيد بن عمير قال «بلغ عائشة أن عبد الله ابن عمرو بن العاص كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فقالت عائشة: يا عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء ... الحديث» .

(1/117)


هذا؟ مثلا نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث: ماذا أردت بهذا جوابا.
ولمن حمل سلاحا رديا. كيف تنتفع بهذا سلاحا؟ أو على الحال، كقوله: (هذه ناقة الله لكم آية) . وقوله: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا جاز مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلمائهم. فإن قلت: لم وصف المهديون بالكثرة- والقلة صفتهم «1» ، (وقليل من عبادي الشكور) ، (وقليل ما هم) ، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، وجدت الناس أخبر تقله؟ قلت: أهل الهدى كثير في أنفسهم، وحين يوصفون بالقلة إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضا فإن القليل من المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة، فسموا ذهابا إلى الحقيقة كثيرا:
إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا «2»
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب «3» : لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: فان قلت: كيف وصف المهديون بالكثرة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: جوابه صحيح، وتنظيره بالبيت وهم لأن الشاعر إنما ذهب إلى أن عدد الكرام وإن كان قليلا في نفسه فالواحد منهم لعموم نفعه وانبساط كرمه يقوم مقام ألف من جنسه مثلا. وعدد اللئام وإن كثروا فالأكثرون منهم يعدون بواحد من غيرهم، لعل أيديهم وانقباضها عن الجود، وعدم تعدى نفع منهم إلى غيرهم، كقول ابن يزيد:
الناس ألف منهم كواحد ... وواحد كألف ان أمر عرا
وأما الآية فمضمونها أن عدد المهديين كثير في نفسه، ومضمون الآيات الأخر أن عددهم قليل بالنسبة إلى كثرة عدد الضالين، فعبر عنه تارة بالكثرة نظرا إلى ذاته، وتارة بالقلة نظرا إلى غيره، فليس معنى البيت من الآية في شيء.
(2) . القل- بالفتح-: القليل، وهو المراد. وبالضم: بمعنى القلة، ويستعمل بمعنى القليل أيضا. وبالكسر: الارتعاد غضبا. يقول: إن الكرام في الدنيا كثير لكثرة خيرهم، لأن الكريم يقاوم ألف لئيم، والحال أنهم قليل في العدد كما أن غيرهم- يعنى اللئام- قليل في الخير وإن كثروا في العدد. فوجه الشبه اجتماع الكثرة والقلة في كل على التوزيع.
(3) . قال محمود رحمه الله: «ونسبة الإضلال إلى الله تعالى من إسناد الفعل إلى السبب ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: جرى على سنة السببية في اعتقاد أن الاشراك بالله وأن الإضلال من جملة المخلوقات الخارجة عن عدد مخلوقاته عز وجل، بل من مخلوقات العبد لنفسه على زعم هذه الطائفة- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- وانظر إلى ضيق الخناق، فغلبة الحكايات لاطلاقات المشايخ فرتب عليها حقائق العقائد، وهذا من ارتكاب الهوى واقتحام الهلكة. وما أشنع تصريحه بأن الله سبب الإضلال لا خالقه كما أن السلة سبب في وضع القيود في رجلي المحبوس، وإسناد الفعل لله عز وجل مجاز لا حقيقة، كما أن إسناد الفعل إلى البلد كذلك! يا له من تمثيل صار به مثلة، وتنظير صار به حائدا عن النظر الصحيح، مردود على التفصيل والجملة. نسأل الله تعالى العصمة من أمثال هذه الزلة، وهو ولى التوفيق.

(1/118)


واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم. وعن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه وقيد، فقال: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه فرأى سلة. فقال: لمن هذه السلة؟ فقال: لي، فأمر بها تنزل، فإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك:
هذه وضعت القيود على رجلك. وقرأ زيد بن على: يضل به كثير. وكذلك: وما يضل به إلا الفاسقون. والفسق: الخروج عن القصد. قال رؤبة:
فواسقا عن قصدها جوائرا «1»
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين «2» أى بين منزلة المؤمن والكافر، وقالوا إن أول من حد له هذا الحد: أبو حذيفة واصل بن عطاء رضى الله عنه وعن أشياعه «3» . وكونه بين بين أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية: أن الصلاة لا تجزئ خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار: الفسقة. وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله. (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) . يريد اللمز والتنابز (إن المنافقين هم الفاسقون) .
النقض: الفسخ وفك التركيب. فإن قلت: من أين ساغ استعمال النقض في إبطال العهد؟
قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين. ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها، فنخشى إن الله عز وجل أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك»
» وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من
__________
(1) .
فواسقا عن قصدها جوائرا ... يذهبن في نجد وغورا غائرا
لرؤبة بن العجاج، وقيل لذي الرمة، يصف نوفا تمشى في المفاوز، خارجات عن طريق الاستقامة، مجاوزات حده.
وبين ذلك بقوله: يذهبن: وروى: يهوين، أى يسرعن تارة في مكان مرتفع، وتارة في غور: أى في مكان كثير الانخفاض. فغورا: نصب على الظرفية. وغائرا: وصف مؤكد.
(2) . قوله «وهو النازل بين المنزلتين» هذا عند المعتزلة، وأما عند أهل السنة فهو مؤمن، والفسق لا يخرجه عن الايمان. (ع)
(3) . قوله «وعن أشياعه» هم المعتزلة. (ع)
(4) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي في قصة العقبة من رواية كعب بن مالك- فذكر القصة وفيها «فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فذكره بطوله. وأخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الدلائل، كلهم من طريقه.

(1/119)


روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه. ونحوه قولك: شجاع يفترس أقرانه، وعالم يغترف منه الناس، وإذا تزوجت امرأة فاستوثرها. لم تقل هذا إلا وقد نبهت على الشجاع والعالم بأنهما أسد وبحر، وعلى المرأة بأنها فراش «1» والعهد: الموثق. وعهد إليه في كذا: إذا وصاه به ووثقه عليه. واستعهد منه: إذا اشترط عليه واستوثق منه: والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله: أحبار اليهود المتعنتون، أو منافقوهم، أو الكفار جميعا. فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول- يصدقه الله بمعجزاته- صدقوه واتبعوه، ولم يكتموا ذكره فيما تقدمه من الكتب المنزلة عليهم، كقوله: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) . وقوله في الإنجيل لعيسى صلوات الله عليه: «سأنزل عليك كتابا فيه نبأ بنى إسرائيل، وما أريته إياهم من الآيات، وما أنعمت عليهم وما نقضوا من ميثاقهم الذي واثقوا به، وما ضيعوا من عهده إليهم» وحسن صنعه للذين قاموا بميثاق الله تعالى وأوفوا بعهده، ونصره إياهم، وكيف أنزل بأسه ونقمته بالذين غدروا ونقضوا ميثاقهم ولم يوفوا بعهده، لأن اليهود فعلوا باسم عيسى ما فعلوا باسم محمد صلى الله عليهما وسلم من التحريف والجحود وكفروا به كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يبغى بعضهم على بعض، ولا يقطعوا أرحامهم. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود:
العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم، الإقرار بربوبيته «2» وهو قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك) ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وهو قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) وعهد خص به العلماء وهو قوله: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) . والضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه، كما أن الميعاد والميلاد، بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، أى من بعد توثقته عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله. ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل: قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، وقيل قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة
__________
(1) . قوله «وعلى المرأة بأنها فراش» بناء على أن الوثارة لين الفراش خاصة. (ع)
(2) . قوله «الإقرار بربوبيته» لعله من الإقرار. (ع) [.....]

(1/120)


كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (29)

والاتحاد والاجتماع على الحق، في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. فإن قلت: ما الأمر؟ قلت:
طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه. وبه سمى الأمر الذي هو واحد الأمور لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر، تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له شأن. والشأن: الطلب والقصد. يقال: شأنت شأنه، أى قصدت قصده هم الخاسرون لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (29)
معنى الهمزة التي في كيف مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناح، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان. فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في «كيف» حيث كان إنكارا للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكارا لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أن كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله وكنتم أمواتا للحال. فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالا وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، لا أن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على: (كنتم أمواتا) وحده، ولكن على جملة قوله: (كنتم أمواتا) إلى (ترجعون) ، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب

(1/121)


آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم. فإن قلت:
بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها. فإن قلت:
فقد آل المعنى إلى قولك: على أى حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أن معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار. وأن إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قيل «1» . فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: (بلدة ميتا) ، (وآية لهم الأرض الميتة) ، (أموات غير أحياء) . ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس.
فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، وبالرجوع:
النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. فإن قلت: لم كان العطف الأول بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد نراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت- إن أريد به النشور- تراخيا ظاهرا. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا، لأن ما عدده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. لكم لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأما الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة
__________
(1) . قوله «كالأقوال في جمع قيل» ملك من ملوك حمير. وأصله «قيل» بالتشديد. ومن جمعه على أقيال لم يجعل أصله مشددا. كذا في الصحاح. (ع)

(1/122)


من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: (خلق لكم) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها «1» ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟
قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية:
جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وجميعا نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا، من غير أن يلوى على شيء. ومنه استعير قوله: (ثم استوى إلى السماء) ، أى قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء: جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في فسواهن ضمير مبهم. وسبع سماوات تفسيره، كقولهم: ربه رجلا. وقيل الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأول. ومعنى تسويتهن: تعديل خلقهن، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه «ثم» لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: «ثم» هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السماوات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله: (ثم كان من الذين آمنوا) . على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك- أى في تضاعيف القصد إليها-
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «وقد استدل بقوله: (خلق لكم) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ...
الخ» . قال أحمد رحمه الله: هذا استدلال فرقة من القدرية ذهبت إلى أن حكم الله تعالى الاباحة في ذوات المنافع التي لا يدل العقل على تحريمها قبل ورود الرسل تلقيها من العقل وزعموا أنها اشتملت على منافع وحاجة الخلق داعية اليها، فخلقها مع خطرها على العباد خلاف مقتضى الحكمة فوجب عندهم بمقتضى العقل أن يعتقدوا إباحتها في حكم الله عز وجل، وهذا زلل ناشئ عن قاعدة التحسين والتقبيح الباطلة. وأما استدلال الزمخشري لهذه الفرقة بالآية فغير مستقيم، فان دعواهم أن العقل كاف في إباحة هذه الأشياء. فان دلت الآية على الاباحة فنحن نقول بموجبها ويكون إذا إباحة شرعية سمعية. وإن لم تدل على الاباحة لم يبق في الاستدلال بها مطمع.

(1/123)


وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)

خلقا آخر. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) ؟ قلت: لا لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله: (كانتا رتقا) وهو الالتزاق.

[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)
وإذ نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن ينتصب بقالوا. والملائكة: جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. وجاعل من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله في الأرض خليفة فكانا مفعوليه.
ومعناه مصير في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته. فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟
قلت: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كا استغنى بذكر أبى القبيلة في قولك:
مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ: خليقة بالقاف ويجوز أن يريد: خليفة منى، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبى (إنا جعلناك خليفة في الأرض) . فإن قلت: لأى غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة أتجعل فيها تعجب من أن

(1/124)


يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير «1» ولا يريد إلا الخير. فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم: أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة. وقرئ: يسفك، بضم الفاء. ويسفك.
ويسفك، من أسفك. وسفك. والواو في ونحن للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان. والتسبيح: تبعيد الله عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء. وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد. وبحمدك في موضع الحال، أى نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك. أعلم ما لا تعلمون أى أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفى عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله وعلم آدم الأسماء كلها واشتقاقهم «آدم» من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم «يعقوب» من العقب، و «إدريس» من الدرس، و «إبليس» من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمى: وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر وشالخ. وفالغ، وأشباه ذلك (الأسماء كلها) أى أسماء المسميات «2»
__________
(1) . قوله «وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير» هذا وما بعده عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فهو تعالى يفعل الخير والشر ويريدهما (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «أى أسماء المسميات ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهو يفر من اعتقاد أن الاسم هو المسمى، لأن ذلك معتقد أهل السنة، فيعمل الحيلة في إبعاده عن مقتضى الآية بقوله: (أنبئهم بأسمائهم) ويتغافل عن قوله: (ثم عرضهم على الملائكة) فان الضمير فيه عائد إلى المسميات اتفاقا، ولم يجر إلا ذكر الأسماء، فدل على أنها المسميات، ويعرض أيضا عن حكمة التعليم، وأن تعليقه بنفس الألفاظ لا كبير غرض فيه بل الغرض المهم تعليمه لذوات المسميات واطلاعه على حقائقها وما أودع الله تعالى فيها من خواص وأسرار وعلى تسميتها أيضا فان طريق التعليم يميز كل حقيقة باسمها فقد ثبت بهاتين النكتتين أن المراد بالأسماء المسميات. وأما استدلاله بقوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) فغايته إضافة الأسماء إلى الذوات، فلهم أن يقولوا لو كانت الأسماء هي الذوات لزمت إضافة الشيء إلى نفسه، وهذا ما لا مطمع فيه فان هذه الاضافة مثلها في قولك: نفس زيد وحقيقته، فالمراد إذا نبئوني بحقائق هؤلاء، ولا نكير في هذه الاضافة فان الأسماء بمعنى المسميات. والحقائق أعم من هؤلاء المشار إليهم والمضاف إليهم فصحت الاضافة لما بين الأعم والأخص من التغاير، وهذا هو المصحح للاضافة في مثل نفس زيد وأشباهه.
فهذه نبذة من مسألة الاسم والمسمى تختص بهذه الآية. وفيها إن شاء الله كفاية على أنها وإن عدها المتكلمون من فن الكلام، فالعالب عليها أنها مسألة لفظية لا يرجع اختلاف الأشعرية والمعتزلة فيها إلى كثير من حيث الحقيقة،

(1/125)


وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36)

فحذف المضاف اليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لا بدله من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: (واشتعل الرأس) . فان قلت: هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه، وأن الأصل: وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت: لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات لقوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) ، (أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم) فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل: أنبؤنى بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها. فان قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ثم عرضهم أى عرض المسميات. وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت إن كنتم صادقين يعنى في زعمكم أنى أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله (إني أعلم ما لا تعلمون) . وقوله: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) استحضار لقوله لهم (إني أعلم ما لا تعلمون) ، إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح. وقرئ:
وعلم آدم، على البناء للمفعول. وقرأ عبد الله: عرضهن. وقرأ أبى: عرضها. والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها: لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ: أنبيهم، بقلب الهمزة ياء.
وأنبهم، بحذفها والهاء مكسورة فيهما.

[سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 36]
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36)
السجود لله تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة

(1/126)


لآدم، وأبو يوسف «1» وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه.
وقرأ أبو جعفر (للملائكة اسجدوا) بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: (الحمد لله) . إلا إبليس استثناء متصل، لأنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: (فسجدوا) ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعا أبى امتنع مما أمر به واستكبر عنه وكان من الكافرين من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فكذلك أبى واستكبر كقوله: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) . السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. وأنت تأكيد للمستكن في: (اسكن) ليصح العطف عليه.
ورغدا وصف للمصدر، أى أكلا رغدا واسعا رافها. وحيث للمكان المبهم، أى:
أى مكان من الجنة شئتما أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر، وكانت الشجرة فيما قيل «الحنطة» أو «الكرمة» أو «التينة» وقرئ (ولا تقربا) بكسر التاء. وهذى، والشجرة، بكسر الشين. والشيرة بكسر الشين والياء. وعن أبى عمرو أنه كرهها، وقال:
يقرأ بها برابرة مكة وسودانها. من الظالمين من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله فتكونا جزم عطف على: (تقربا) أو نصب جواب للنهى. الضمير في: (عنها) للشجرة. أى فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها. و «عن» هذه، مثلها في قوله تعالى: (وما فعلته عن أمري) . وقوله:
ينهون عن أكل «2» وعن شرب «3»
وقيل: فأزلهما عن الجنة «4» بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زل عن مرتبته. وزل عنى ذاك:
__________
(1) . قوله «لآدم وأبو يوسف» لعله وأبوى يوسف. (ع)
(2) . قوله «وقوله ينهون عن أكل» في الصحاح: جزور نهية- على فعيلة-: أى ضحمة سمينة.
(3) .
يمشون رسما فوق قتته ... ينهون عن أكل وعن شرب
يصف مضيافا أشبع أضيافه، فهم يمشون ويرسمون رسما فوق أعلى الجبل. وقنة الجبل وقلته: أعلاه، حال كونهم متناهين في السمن تناهيا ناشئا عن أكل كثير وشرب كثير.
(4) . قال محمود رحمه الله: «وقيل فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول زل ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ويشهد له قوله تعالى: (كما أخرج أبويكم من الجنة) .

(1/127)


فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)

إذا ذهب عنك وزل من الشهر كذا. وقرئ: فأزالهما. مما كانا فيه من النعيم والكرامة.
أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها. وقرأ عبد الله: فوسوس لهما الشيطان عنها. وهذا دليل على أن الضمير للشجرة، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها. فان قلت: كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعد ما قيل له (فاخرج منها فإنك رجيم) . قلت: يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.
وقيل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون. قيل اهبطوا خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) . ويدل على ذلك قوله: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض مستقر موضع استقرار، أو استقرار ومتاع وتمتع بالعيش إلى حين يريد إلى يوم القيامة. وقيل إلى الموت.

[سورة البقرة (2) : الآيات 37 الى 39]
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)
معنى تلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات: على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. فإن قلت: ما هن؟ قلت: قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا) ... الآية. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: «إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا آدم «1» حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى
__________
(1) . موقوف. أخرجه ابن أبى شيبة في أوائل الصلاة من رواية إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد قال:
قال ابن مسعود: فذكره ولم يقل «ما قال أبونا آدم حين اقترف الخطيئة» .

(1/128)


جدك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فى الروح من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة؟ قال: نعم «1» » واكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. وقد ذكرها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) . فتاب عليه فرجع عليه بالرحمة والقبول. فإن قلت: لم كرر: (قلنا اهبطوا) ؟ قلت: للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله: فإما يأتينكم مني هدى. فإن قلت: ما جواب الشرط الأول؟ قلت: الشرط الثاني مع جوابه كقولك: إن جئتني فان قدرت أحسنت إليك. والمعنى: فإما يأتينكم منى هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم بدليل قوله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) في مقابلة قوله: (فمن تبع هداي) فإن قلت: فلم جيء بكلمة الشك «2» وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت: للإيذان بأن الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب، وأنه إن لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا، كان الإيمان به وتوحيده واجبا لما ركب فيهم «3» من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال. فإن قلت:
الخطيئة التي أهبط بها آدم «4» إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت
__________
(1) . موقوف. أخرجه الحاكم في ترجمة آدم، من فضائل الأنبياء، من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عنه.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت لم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن ... الخ؟» . قال أحمد رحمه الله:
هاتان زلتان زلهما فلزهما في قرن: الأولى: إيراد السؤال بناء على أن الهدى على الله تعالى واجب. والثانية: بناء الجواب على أن الوجوب الشرعي يثبت بالعقل قبل ورود الشرع. والحق أن الله تعالى لا يجب عليه شيء- تعالى عن الإيجاب رب الأرباب-. وإنما يدخل تحت ربقة التكاليف المربوب لا الرب. وأما وجوب النظر في أدلة التوحيد، فإنما يثبت بالسمع لا بالعقل، وإن كان حصول المعرفة بالله وتوحيده غير موقوف على ورود السمع، بل محض العقل كاف فيه باتفاق.
(3) . قوله «واجبا لما ركب فيهم» هذا عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فلا حكم قبل الشرع. (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت الخطيئة التي أهبط بها آدم من الجنة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله تعالى:
مقتضاه تأويل الآي المشعر ظاهرها بوقوع الصغائر من الأنبياء تنزيها لهم عنها. على أن تجويز الصغائر عليهم قد قال به طوائف من أهل السنة. وفي طى وقوعها إلطاف وزيادة في الالتجاء إلى الله تعالى والتواضع له والإشفاق على الخطائين والدعاء لهم بالتوبة والمغفرة، كما نقل عن داود أنه كان بعد ابتلاء الله له يدعو للخطائين كثيرا.
وعلى الجملة فالقدرى يجوز الصغائر على الأنبياء ويقول: إن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر في حق الناس فلا جرم التزم الزمخشري ورود السؤال لأن آدم عليه السلام معصوم من الكبائر باتفاق فيلزم على قاعدة القدرية أن تكون صغيرة واجبة التكفير والمحو، غير مؤاخذ عليها ولا مستوجب بسببها عقوبة ولا شيئا مما وقع. وهذا لا جواب للزمخشري عنه إلا الانصاف والرجوع عن المعتقدات الباطلة والمذاهب الماحلة ولقد شنع السؤال بقوله إن الذي جرى على آدم عليه السلام كالذي جرى على إبليس عليه اللعنة. ومعاذ الله أن يكون الحالان سواء والعاقبتان كما تعلم: أن آدم عليه السلام خالد في النعيم المقيم وأن إبليس خالد في العذاب الأليم.

(1/129)


يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40) وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)

صغيرة، فلم جرى عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء، كما فعل بإبليس ونسبته إلى الغى والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟ قلت: ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال وأعظم الطاعات. وإنما جرى عليه ما جرى، تعظيما للخطيئة وتفظيعا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفا له ولذريته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة. وقرئ: فمن تبع هدى، على لغة هذيل، فلا خوف- بالفتح.

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 41]
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40) وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)
إسرائيل هو يعقوب عليه السلام لقب له، ومعناه في لسانهم: صفوة الله، وقيل عبد الله. وهو بزنة إبراهيم وإسماعيل غير منصرف مثلهما لوجود العلمية والعجمة. وقرئ إسرائل، وإسرائل. وذكرهم النعمة: أن لا يخلوا بشكرها، ويعتدوا بها، ويستعظموها، ويطيعوا ماتحها. وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم: من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق. ومن العفو عن اتخاذ العجل، والتوبة عليهم، وغير ذلك، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا. يقال أوفيت بعهدي، أى بما عاهدت عليه كقوله: (ومن أوفى بعهده من الله) وأوفيت بعهدك: أى بما عاهدتك عليه. ومعنى وأوفوا بعهدي وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بى والطاعة لي، كقوله: (ومن أوفى بما عاهد عليه الله) ، (ومنهم من عاهد الله) ، (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ، أوف بعهدكم

(1/130)


بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم وإياي فارهبون فلا تنقضوا عهدى.
وهو من قولك: زيدا رهبته. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إياك نعبد) . وقرئ (أوف) بالتشديد: أى أبالغ في الوفاء بعهدكم، كقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) .
ويجوز أن يريد بقوله: (وأوفوا بعهدي) ما عاهدوا عليه ووعدوه من الإيمان بنبى الرحمة والكتاب المعجز. ويدل عليه قوله: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به أول من كفر به، أو أول فريق أو فوج كافر به، أو: ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به، كقولك: كسانا حلة، أى كل واحد منا. وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته. ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون اتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) إلى قوله: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) ، (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) . ويجوز أن يراد: ولا تكونوا مثل أول كافر به، يعنى من أشرك به من أهل مكة. أى: ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا، مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له. وقيل: الضمير في «به» لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه فقد كفروا به. والاشتراء استعارة للاستبدال كقوله تعالى: (اشتروا الضلالة بالهدى) وقوله:
كما اشترى المسلم إذ تنصرا «1»
وقوله:
فإنى شريت الحلم بعدك بالجهل «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد صفحة 69 من هذا الجزء فراجعه إن شئت. اه مصححه [.....]
(2) .
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها ... فقلت بلى لولا ينازعني شغلي
جزيتك ضعف الود لولا اشتكيته ... وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي
فان تزعمينى كنت أجهل فيكم ... فانى شريت الحلم بعدك بالجهل
لأبى ذؤيب الهذلي. وزعمت: أى ظنت أنه الحال والشأن لا أحبها، فقلت لها: بلى أحبك لولا ينازعني: أى لولا أن ينازعني شغلي ويصرفني عن مودتك، أو لو لم ينازعني شغلي لوددتك: جزيتك ضعف الود: أى وددتك قدر المعتاد مرتين، أو قدر ودك مرتين، لولا اشتكيته: أى لولا أن مللته وسئمته، أو لو لم تشتكيه لضاعفته وأكثرته، فلولا هنا يحتمل أنها كلمة واحدة فيقدر بعدها «أن» المصدرية، ويحتمل أنها كلمتان بمعنى لو لم، لكنه استعمال نادر. ويجوز في «لولا» الثانية أنها حرف تحضيض وتوبيخ كهلا، يعنى كان الأحق بالشكوى كثرة المودة الموجبة للتهمة، لا كثرة الهجر. و «ما» نافية، و «إن» و «من» زائدتان. وأجهل: فعل مضارع مرفوع.
وقيل: أفعل تفضيل منصوب. فيكم: أى بسببكم، أو فيما بين قبيلتكم. وعبر بضمير جمع المذكر للتعظيم. فانى شريت:
جواب الشرط، واشترى الشيء: أخذه بالثمن، وشراه: باعه به، فالمراد هنا: استبدلت العقل بعد فراقك بالجهل، فهو مجاز مرسل علاقته الإطلاق. والمعنى: أنه اعتذر عن عدم ودها بشغله وشكواها وعقله.

(1/131)


ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)

يعنى ولا تستبدلوا بآياتى ثمنا وإلا فالثمن هو المشترى به. والثمن القليل الرياسة التي كانت لهم في قومهم، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبدلوها- وهي بدل قليل ومتاع يسير- بآيات الله وبالحق الذي كل كثير إليه قليل، وكل كبير إليه حقير، فما بال القليل الحقير. وقيل كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع. وكان ملوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا أو يحرفوا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43]
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)
الباء التي في بالباطل إن كانت صلة مثلها في قولك: لبست الشيء بالشيء خلطته به، كأن المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم، حتى لا يميز بين حقها وباطلكم، وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم، كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه وتكتموا جزم داخل تحت حكم النهى بمعنى: ولا تكتموا. أو منصوب بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، أى ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. فإن قلت: لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين حتى ينهوا عن الجمع بينهما، لأنهم إذا لبسوا الحق بالباطل فقد كتموا الحق «1» ؟ قلت: بل هما متميزان، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين متميزين ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: السؤال غير موجه، لأنه ادعى فيه عدم التميز بين الفعلين. وغاية ما قدره تلازمهما. والمتلازمان متغايران متميزان، إلا أن يعنى بعدم التميز عدم الانفكاك، فلا نسلم له تعذر جمعهما في النهى إذا بل النهى عن أحدهما على هذا التقدير مستلزم للنهى عن الآخر، وإن لم يصرح به.

(1/132)


أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون (46)

من كتابتهم في التوراة ما ليس منها. وكتمانهم الحق أن يقولوا: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو حكم كذا. أو يمحوا ذلك. أو يكتبوه على خلاف ما هو عليه.
وفي مصحف عبد الله: وتكتمون، بمعنى كاتمين وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، وهو أقبح لهم، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه وأقيموا الصلاة يعنى صلاة المسلمين وزكاتهم واركعوا مع الراكعين منهم، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم. وقيل «الركوع» الخضوع والانقياد لما يلزمهم في دين الله. ويجوز أن يراد بالركوع: الصلاة، كما يعبر عنها بالسجود، وأن يكون أمرا بأن يصلى مع المصلين، يعنى في الجماعة، كأنه قيل: وأقيموا الصلاة وصلوها مع المصلين، لا منفردين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون (46)
أتأمرون الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبر سعة الخير والمعروف.
ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير. ومنه قولهم: صدقت وبررت. وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه. وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرقوها خانوا فيها. وعن محمد بن واسع: بلغني أن ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة. قالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها وتنسون أنفسكم وتتركونها من البر كالمنسيات وأنتم تتلون الكتاب تبكيت مثل قوله: (وأنتم تعلمون) يعنى تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل أفلا تعقلون توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه. ونحوه (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) . واستعينوا على حوائجكم إلى الله بالصبر والصلاة أى بالجمع بينهما، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقها وما يجب فيها- من إخلاص القلب، وحفظ النيات، ودفع الوساوس

(1/133)


ومراعاة الآداب، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات، ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه. ومنه قوله تعالى:
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) أو: واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «1» وعن ابن عباس أنه نعى إليه أخوه «قثم» وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشى إلى راحلته وهو يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة» «2» وقيل: الصبر الصوم، لأنه حبس عن المفطرات. ومنه قيل لشهر رمضان:
شهر الصبر. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، وأن يستعان على البلايا بالصبر، والالتجاء إلى الدعاء، والابتهال إلى الله تعالى في دفعه وإنها الضمير للصلاة أو للاستعانة. ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: (اذكروا نعمتي) إلى (واستعينوا) . لكبيرة لشاقة ثقيلة من قولك: كبر على هذا الأمر، (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) . فإن قلت: مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت:
لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أى يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده، ويطمعون فيه. وفي مصحف عبد الله: يعلمون. ومعناه: يعلمون أن لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك. ولذلك فسر «يظنون» بيتيقنون. وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب، كانت عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمراءين بأعمالهم. ومثاله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح صدر ومضاحكة لحاضريه، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «وجعلت قرة عينى في الصلاة» «3» وكان يقول «يا بلال
__________
(1) . أخرجه الطبري في تفسيره من حديث حذيفة بهذا اللفظ. فأخرجه أبو داود وأحمد من رواية عبد العزيز أخى حذيفة عن حذيفة بلفظ «كان إذا حزبه أمر صلى» . وأخرجه البيهقي في الدلائل في قصة الخندق مطولا.
(2) . موقوف. أخرجه سعيد بن منصور. والطبري من طريق عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه «أن ابن عباس ...
فذكره» . وأخرجه البيهقي في الشعب من هذا الوجه
(3) . أخرجه النسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والبزار من حديث أنس رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبب إلى من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عينى في الصلاة» وسيأتى في آل عمران.

(1/134)


يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)

روحنا» «1» والخشوع. الإخبات والتطامن. ومنه: الخشعة للرملة المتطامنة. وأما الخضوع فاللين والانقياد. ومنه: خضعت بقولها إذا لينته.

[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48]
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)
وأني فضلتكم نصب عطف على: (نعمتي) أى اذكروا نعمتي وتفضيلي على العالمين على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى: (باركنا فيها للعالمين) يقال: رأيت عالما من الناس يراد الكثرة يوما يريد يوم القيامة لا تجزي لا تقضى عنها شيئا من الحقوق. ومنه الحديث في جذعة بن نيار: «تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك» «2» وشيئا مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر، أى قليلا من الجزاء، كقوله تعالى: (ولا يظلمون شيئا) ومن قرأ (لا تجزئ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزى نسمة عن نسمة شيئا. وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قلت: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلت: هو محذوف تقديره: لا تجزى فيه. ونحوه ما أنشده أبو على:
تروحى أجدر أن تقيلى «3»
__________
(1) . أخرجه أبو داود من رواية سالم بن أبى الجعد. قال: قال رجل من خزاعة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا بلال أقم الصلاة وأرحنا بها» ورجاله ثقات: لكن اختلف فيه على سالم اختلافا كثيرا. ذكره الدارقطني في العلل. ورواه أحمد من رواية سالم المذكور عن رجل من أسلم به. ورواه أحمد أيضا وأبو داود من وجه آخر عن سالم «أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبى على صهر لنا من الأنصار. فحضرت الصلاة، فذكر قصة.
وفيها. أقم يا بلال، فأرحنا بالصلاة» أخرجه الدارقطني في العلل من رواية سالم عن ابن الحنفية عن على رضى الله عنه. وقال: تفرد أبو خالد القرى عن الثوري هكذا ومن طريق حمزة الثمالي عن ابن الحنفية عن بلال. وأخرجه ابراهيم الحربي من رواية سالم عن ابن الحنفية مرسلا. وقال: معناه: نصلى ونروح إلى منازلنا. وليس من الاستراحة والأثقال وإلا لقال أرحنا منها «انتهى» وبعسكر على هذا أن في رواية أحمد: أن الأنصارى قال يا جارية. ايتيني بوضوئى لعلى أصلى فأستريح.
(2) . متفق عليه من حديث البراء رضى الله عنه. قال «ضحى خال لي يقال له أبو بردة بن نيار- فذكر الحديث»
(3) .
تروحي يا خيرة الغسيل ... تروحى أجدر أن تقيلى
غدا بجنبي بارد ظليل
لأبى على أحيحة بن الجلاح. يقول لناقته: بكرى بالرواح: أو جدي السير فيه. والغسيل: صنوان النخل. شبه ناقته بالمختار منه لعراقتها في الكرم وارتفاعها. وكرر الأمر للتوكيد. هذا ويقال: تروح النبت إذا طال.
فتروحى: أى امتدى وارتفعى. والخطاب لعنعار النخل لا للناقة قاله العيني مخالفا جميع الشراح لهذا الرجز. وقد يؤكده أنه روى بدل «تروحى» الأول «تأبرى» والتأبير: وضع طلع الذكور من النخل في الإناث لتنمو ثمرتها ويمكن أن يقال: إنه ترشيح للتشبيه. والظاهر أنه انتقل من رجز إلى آخر لأحيحة، فقد روى عنه:
تأبرى يا خيرة الغسيل ... تأبرى من حنذ فشولى
إذ ضن أهل النخل بالفحول
هذا هو خطاب الغسيل. وحنذ- بالتحريك- موضع قريب من المدينة. وقيل اسم قرية. وقيل اسم ماء. والمعنى:
أن ريح الصبا تهب من جهته فتحمل طلع الذكور منه إلى الإناث فيغنيها عن التأبير الصناعى. وشولى أى ارتفعى وامتدى، أى تأبرى بنفسك، حيث بخل أهل النخل بطلع الذكور التي تلقح الإناث. وأجدر: نصب بمحذوف، أى وأتى مكانا أجدر وأحق بأن تقيلى فيه وتستريحي من السير. ويجوز نصبه بتروحي، بتضمينه معنى اطلبى. فحذف باء الجر ولفظ فيه لعلمها. وغدا نصب بتقيلى، بجنبي: أى في جنبي، فهو بدل من فيه المحذوفة، أى: في حافتي ماء بارد ظليل، أى مظلل بالأشجار، أو في جانبي مكان ذى ظل لا حر فيه. وحينئذ فالمعنى أجدر أن تقيلى بجانبيه، فأظهر في محل الإضمار لإظهار صفة المكان. وأفعل التفضيل المجرد إن لم تتصل به «من» لفظا فهي متصلة به تقديرا، على أن محل ذلك إذا أريد به التفضيل على معين. والظاهر أن أجدر هنا ليس كذلك، فلا حاجة لتقديرها. ويجوز أن يكون أجدر فعلا ماضيا أى دخل في الجدارة والحقية «أن تقيلى» أى حقت ووجبت قيلولتك، فلا حذف أصلا.
وقال العيني: يجوز أن يكون بارد ظليل على حذف حرف العطف للضرورة، أى بجنب بارد وجنب ظليل.

(1/135)


أى ماء أجدر بأن تقيلى فيه. ومنهم من ينزل فيقول: اتسع فيه، فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار ثم حذف الضمير كما حذف من قوله: أم مال أصابوا. ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزى عن نفس منها شيئا من الأشياء، وهو الإقناط الكلى القطاع للمطامع.
وكذلك قوله: ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل أى فدية لأنها معادلة للمفدى.
ومنه الحديث «لا يقبل منه صرف ولا عدل» «1» أى توبة ولا فدية. وقرأ قتادة: ولا يقبل منها شفاعة، على بناء الفعل للفاعل وهو الله عز وجل، ونصب الشفاعة. وقيل: كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا. فإن قلت: هل فيه دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة «2» ؟ قلت: نعم، لأنه نفى أن تقضى نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل
__________
(1) . متفق عليه من حديث على رضى الله عنه رفعه «المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل- الحديث» ورواه عبد الرزاق وقال في آخره: والصرف والعدل: التطوع والفريضة. واتفقا عليه من حديث أنس نحوه. ولمسلم من حديث أبى صالح عن أبى هريرة رفعه: «بالمدينة حرم، فمن أحدث- فذكره» وغفل الطيبي فعزاه لأبى داود من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، بلفظ «من تعلم صرف الكلام ليسبى به قلوب الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» .
(2) . قال محمود رحمه الله: «هل فيه دليل على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: أما من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها وهم أهل السنة والجماعة، فأولئك يرجون رحمة الله. ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم. وليس في الآية دليل لمنكريها، لأن قوله يوما أخرجه منكرا، ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام. قد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها. منها قوله تعالى: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) مع قوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، متغايرين: أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة

(1/136)


وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49)

أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. فإن قلت: الضمير في (ولا يقبل منها) إلى أى النفسين يرجع؟ قلت: إلى الثانية العاصية غير المجزى عنها، وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا يقبل منها شفاعة: إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها.
ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا تجزى عنها شيئا، ولو أعطت عدلا عنها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون يعنى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة والتذكير بمعنى العباد والأناسى، كما تقول: ثلاثة أنفس.

[سورة البقرة (2) : آية 49]
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49)
أصل آل أهل، ولذلك يصغر بأهيل، فأبدلت هاؤه ألفا. وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، فلا يقال آل الإسكاف والحجام. وفرعون علم لمن ملك العمالقة، كقيصر: لملك الروم، وكسرى: لملك الفرس. ولعتو الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان، إذا عتا وتجبر. وفي ملح بعضهم:
قد جاءه الموسى الكلوم فزاد فى ... أقصى تفرعنه وفرط عرامه «1»
وقرئ: أنجيناكم، ونجيتكم يسومونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن يقر الخسف فينا «2»
__________
(1) . الضمير للصبي. وقيل لذكره. والموسى: آلة الحلق والختان، من أوسى رأسه حلقه. وقال الفراء وغيره هي فعلى ويؤنث. يقال. رجل ماس مثل مال، أى خفيف طياش. وقيل: هو مفعل. وذلك كناية عن ختانه به، لأنه يورث النمو والفتوة. وقيل: عن حلق العانة، لأنه زمن بلوغ الأشد. واختار السعد الأول لأنه أنسب بالمقام. والكلوم: كثير الكلم- أى الجرح- والتفرعن: العتو والتجبر، مأخوذ من فرعون لشهرته بالطغيان والظلم والتكبر. والعرام كغراب: الشدة والحدة والخبث. ويمكن أنه من الفرع، لارتفاعه وعلوه على غيره.
(2) . لعمرو بن كلثوم من معلقته. «وما» زائدة. «والملك» بالسكون: لغة فيه. ويقال: سامه ذلا، إذا أولاه إياه وألحقه به. وقيل: إذا كلفه ما فيه ذل وأكرهه عليه. والخسف- بفتح الخاء وضمها-: الذل. يقول إذا ألحق بالناس الذل منعناه إقرار الذل فينا، ولم ننقد له كسائر الناس، لشجاعتنا على جميع من سوانا.

(1/137)


وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50)

وأصله من سام السلعة إذا طلبها. كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه.
والسوء: مصدر السيئ: يقال أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب- والعذاب كله سيئ-: أشده وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة لي سائره.
ويذبحون: بيان لقوله يسومونكم. ولذلك ترك العاطف كقوله تعالى: يضاهؤن قول الذين كفروا وقرأ الزهري (يذبحون) بالتخفيف كقولك: قطعت الثياب وقطعتها.
وقرأ عبد الله: يقتلون. وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ، وكان ما شاء الله.
والبلاء المحنة إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء.

[سورة البقرة (2) : آية 50]
وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50)
فرقنا فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم. وقرئ: فرقنا، بمعنى فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين، وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنى عشر على عدد الأسباط. فإن قلت: ما معنى بكم؟ قلت: فيه أوجه: أن يراد أنهم كانوا يسلكونه، «1» ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما، وأن يراد فرقناه بسببكم «2» وبسبب إنجائكم، وأن يكون في موضع الحال «3» بمعنى فرقناه ملتبسا بكم كقوله:
تدوس بنا الجماجم والتريبا «4»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «يحتمل أنهم كانوا يسلكون ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: فتكون الباء على هذا الوجه استعانة مثلها في كتبت بالقلم.
(2) . قال محمود رحمه الله: «ويحتمل أن يكون المراد فرقناه بسببكم» . قال أحمد رحمه الله: وهي على هذا الوجه سببية، كما تقول: أكرمتك بإحسانك إلى. [.....]
(3) . قال محمود رحمه الله: «ويحتمل أن يكون في موضع الحال ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهي على هذا الوجه للمصاحبة مثلها في: أسندت ظهري بالحائط، والوجه الأول ضعيف من حيث أن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل. والمنقول بل المنصوص عليه في الكتاب العزيز: أن البحر إنما انفرق بعصا موسى، يشهد لذلك قوله تعالى: (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ، فآلة التفريق العصا، لا بنو إسرائيل
(4) .
كأن خيولنا كانت قديما ... تسقى في قحوفهم الحليبا
فمرت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا
لأبى الطيب المتنبي. وتسقى: بالتضعيف، والقحوف: جمع قحف بالكسر، وقيل بالضم: وهو العظم الذي فوق الدماغ وإناء صغير من خشب. والحليب: اللبن المحلوب، أى كأنها كانت معتادة بهم فمرت عليهم مطمئنة. تدوس جماجمهم: أى رؤسهم ونحن على ظهورها. والتريب: لغة في التراب

(1/138)


وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53) وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54)

أى تدوسها ونحن راكبوها. وروى أن بنى إسرائيل قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال:
سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال: اللهم أعنى على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه: أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصارت فيها كوى. فتراموا وتسامعوا كلامهم وأنتم تنظرون إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 52]
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52)
لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وقيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي. وقرئ (واعدنا لأن الله تعالى وعده الوحى ووعد المجيء للميقات إلى الطور من بعده من بعد مضيه إلى الطور وأنتم ظالمون بإشراككم ثم عفونا عنكم حين تبتم من بعد ذلك من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل لعلكم تشكرون إرادة أن تشكروا «1» النعمة في العفو عنكم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 53 الى 54]
وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53) وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54)
__________
(1) . قال محمود: «ومعناه إرادة أن تشكروا» . قال أحمد رحمه الله: أخطأ في تفسير «لعل» بالارادة لأن مراد الله تعالى كائن لا محالة. فلو أراد منهم الشكر لشكروا ولا بد. وإنما أجراه الزمخشري على قاعدته لفاسدة في اعتقاد أن مراد الرب كمراد العبد، منه ما يقع ومنه ما يتعذر- تعالى الله عن ذلك-، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والتفسير الصحيح في «لعل» هو الذي حرره سيبويه رحمه الله في قوله: (لعله يتذكر أو يخشى) قال سيبويه:
الرجاء منصرف إلى المخاطب كأنه قال: كونا على رجائكما في تذكرته وخشيته وكذلك هذه الآية معناها لتكونوا على رجاء الشكر لله عز وجل ونعمه، فينصرف الرجاء إليهم وينزه الله تعالى.

(1/139)


الكتاب والفرقان يعنى الجامع بين كونه كتابا منزلا، وفرقانا يفرق بين الحق والباطل: يعنى التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة. ونحوه قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا) يعنى الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا: أو التوراة. والبرهان: الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، وقيل الفرقان: انفراق البحر. وقيل: النصر الذي فرق بينه وبين عدوه، كقوله تعالى:
(يوم الفرقان) يريد به يوم بدر. حمل قوله فاقتلوا أنفسكم على الظاهر وهو البخع «1» .
وقيل: معناه قتل بعضهم بعضا. وقيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة. وروى أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: اصبروا، فلعن الله من مد طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهرون وقالا: يا رب، هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة. فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. فإن قلت: ما الفرق بين الفاءات؟ قلت: الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قبل أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم. فيكون المعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم، والثالثة متعلقة بمحذوف، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلق بشرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإما أن يكون خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات. فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.
فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ومتميزا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عباد البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. - في أمثال العرب: أبلد من ثور- حتى عرضوا أنفسهم لسخط
__________
(1) . قوله «وهو البخع» في الصحاح: بخع نفسه بخعا، أى قتلها غما. (ع)

(1/140)


وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)

الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 57]
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)
قيل: القائلون السبعون الذين صعقوا. وقيل قاله عشرة آلاف منهم جهرة عيانا.
وهي مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها، وانتصابها على المصدر، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس، أو على الحال بمعنى ذوى جهرة. وقرئ «جهرة» بفتح الهاء، وهي إما مصدر كالغلبة. وإما جمع جاهر. وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام رادهم القول وعرفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال «1» وأن من استجاز على الله الرؤية فقد جعله من جملة الأجسام «2» أو الأعراض، فرادوه بعد بيان
__________
(1) . قوله «أن يكون في جهة محال» هذا مذهب المعتزلة. ومن استجاز عليه الرؤية هم أهل السنة، والجهة ليست شرطا للرؤية عندهم، فلا يلزم كونه من جملة الأجسام أو الأعراض كما بين في علم التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «فيه دليل على أن موسى عليه السلام رادهم القول، وعرفهم أن رؤية من لا يجوز عليه ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: لقد انتهز الزمخشري ما اعتقده فرصة من هذه الآية التي لا مطمع له عند التحقيق في التشبث بها، فبنى الأمر على أن العقوبة سببها طلب ما لا يجوز على الله تعالى من الرؤية على ظنه، وأنى له ذلك وثم سبب ظاهر في العقوبة سوى ما ادعاه هو كل السبب. وذلك أن موسى عليه السلام لما علم جواز رؤيته تعالى طلبها في آية الأعراف في دار الدنيا، فأخبره الله تعالى أنه لا يراه في الدنيا، وصار ذلك عنده وعند بنى إسرائيل أصلا مقررا، كما هو عندنا الآن معاشر أهل السنة أن الله تعالى لا يرى في دار الدنيا، لأنه أخبر أنه لا يرى والخبر واجب الصدق وكما أخبر أنه لا يرى في دار الدنيا فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة وتخصيص ذلك بالمؤمنين، وبعد استقرار هذا المعتقد طلب بنو إسرائيل الرؤية في الدنيا تعنتا أو شكا في الخبر، فأنزل الله تعالى بهم تلك العقوبة. وكيف تخيل الزمخشري وشيعته أن موسى عليه السلام طلب من الله ما لا يجوز عليه. وهل هو لو كان الأمر على ما تخيل إلا كبني إسرائيل. ومعاذ الله، لقد برأه من ذلك وكان عند الله وجيها.
وأما الأدلة العقلية على جواز رؤيته تعالى عقلا والسمعية على وقوعها في الدار الآخرة، فأكثر من أن تحصى وهي مستقصاه في فن الكلام. وإنما غرضنا في هذا الباب مباحثة الزمخشري والرد عليه من حيث يتمسك على ظنه وأخذه قوما منه. والله الموفق.

(1/141)


وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)

الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل، فسلط الله عليهم الصعقة كما سلط على أولئك القتل تسوية بين الكفرين ودلالة على عظمهما بعظم المحنة. والصاعقة ما صعقهم، أى أماتهم. قيل: نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وقيل: صيحة جاءت من السماء. وقيل: أرسل الله جنودا سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة. وموسى عليه السلام، لم تكن صعقته موتا ولكن غشية، بدليل قوله: فلما أفاق. والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله وأنتم تنظرون. وقرأ على رضى الله عنه فأخذتكم الصاعقة.
لعلكم تشكرون نعمة البعث بعد الموت، أو نعمة الله بعد ما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وظللنا وجعلنا الغمام يظلكم. وذلك في التيه، سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج. من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السمانى فيذبح الرجل منها ما يكفيه كلوا على إرادة القول وما ظلمونا يعنى فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة (وما ظلمونا) عليه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)
القرية بيت المقدس. وقيل أريحاء من قرى الشأم، أمروا بدخولها بعد التيه الباب باب القرية. وقيل هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام. أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا.
وقيل «السجود» أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين، ليكون دخولهم بخشوع وإخبات. وقيل:
طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فلم يخفضوها، ودخلوا متزحفين على أوراكهم حطة فعلة من الحط كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أى مسألتنا حطة، وأمرك حطة.
والأصل: النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة. وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات، كقوله:

(1/142)


وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)

صبر جميل فكلانا مبتلى «1»
والأصل صبرا، على: اصبر صبرا. وقرأ ابن أبى عبلة بالنصب على الأصل. وقيل معناه:
أمرنا حطة، أى أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. فإن قلت: هل يجوز أن تنصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا، على معنى: قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. والأجود أن تنصب بإضمار فعلها، وينتصب محل ذلك المضمر بقولوا. وقرئ (يغفر لكم) على البناء للمفعول بالياء والتاء وسنزيد المحسنين أى من كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا كانت له توبة ومغفرة فبدل الذين ظلموا أى وضعوا مكان حطة قولا غيرها. يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر. لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به، لم يؤاخذوا به.
كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك. وقيل:
قالوا مكان حطة: حنطة. وقيل: قالوا بالنبطية: «حطا سمقاثا» أى حنطه حمراء، استهزاء منهم بما قيل لهم، وعدولا عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا. وفي تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح أمرهم «2» وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم. وقد جاء في سورة الأعراف: (فأرسلنا عليهم) على الإضمار. والرجز: العذاب. وقرئ- بضم الراء- وروى أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفا. وقيل: سبعون ألفا.

[سورة البقرة (2) : آية 60]
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)
__________
(1) .
شكا إلى جملى طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى
يقول: اشتكى بعيري إلى تعبه من طول سير الليل. وصبرا: مصدر قام مقام فعله، أى اصبر يا بعير صبرا جميلا ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. أو التقدير: فقلت له اصبر صبرا، فكل منا مصاب بالبلاء. أو مختبر وممتحن هل يصبر على مشاق السفر أم لا. ويروى: صبر جميل، أى أحق بنا على حذف الخبر. أو أمرنا صبر، فيكون من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لنيابة الخبر عن الفعل. والصبر الجميل: هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق.
(2) . قال محمود رحمه الله: «وفي تكرير (الذين ظلموا) زيادة في تقبيح ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وفيه تهويل لظلمهم من حيث وضع الظاهر موضع المضمر، وهو مفيد لذلك، إذ هو من قبيل الاشهار لهذا المعين مع إمكان الاختصار بالاضمار.

(1/143)


وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)

عطشوا في التيه، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر واللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فقد روى أنه حجر طوري حمله معه، وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا. وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب، فدفعه إليه مع العصا. وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففر به، فقال له جبريل: يقول لك الله تعالى:
ارفع هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وإما للجنس، أى اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه قال:
وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. وروى أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة، فحمل حجرا في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه. وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر، ويضربه بها فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون. وقيل: كان من رخام وكان ذراعا في ذراع. وقيل مثل رأس الإنسان. وقيل: كان من آس الجنة «1» طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار فانفجرت الفاء متعلقة بمحذوف، أى فضرب فانفجرت. أو فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: (فتاب عليكم) وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ. وقرئ (عشرة) بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان كل أناس كل سبط مشربهم عينهم التي يشربون منها كلوا على إرادة القول من رزق الله مما رزقكم من الطعام وهو المن والسلوى ومن ماء العيون. وقيل الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والعثى: أشد الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.

[سورة البقرة (2) : آية 61]
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤ بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)
__________
(1) . قوله «من آس الجنة» : ضبط في بعض النسخ بالضم والتشديد وكتب على هامشه: «كذا بخط جار الله ومعناه الأساس، والصواب ضبطه بالفتح والمد والتخفيف أى شجر الآس لأنه صفة العصا سها فيها المصنف كذا بهامشه» اه عليان. والطاهر أن ضبطه بالضم والتشديد بمعنى الأساس أليق لأن الكلام في وصف الحجر لا العصا. اه مصححه.

(1/144)


كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجموا ما كانوا فيه «1» من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء على طعام واحد أرادوا ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا يراد بالوحدة نفى التبدل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك. ومعنى يخرج لنا يظهر لنا ويوجد والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها. وقرئ (وقثائها) بالضم. والفوم: الحنطة. ومنه فوموا لنا، أى:
اخبزوا. وقيل الثوم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود: وثومها، وهو للعدس والبصل أوفق الذي هو أدنى الذي هو أقرب منزلة وأدون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو دانى المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك فيقال: هو بعيد المحل وبعيد الهمة يريدون الرفعة والعلو. وقرأ زهير الفرقبي: أدنأ بالهمزة من الدناءة اهبطوا مصرا وقرئ اهبطوا، بالضم: أى انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج. وبلاد التيه: ما بين بيت المقدس إلى قنسرين، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ. ويحتمل أن يريد العلم وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث، لسكون وسطه كقوله: ونوحا ولوطا. وفيهما العجمة والتعريف، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد، وأن يريد مصرا من الأمصار. وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش: اهبطوا مصر- بغير تنوين- كقوله: ادخلوا مصر. وقيل هو «مصرائيم» فعرب وضربت عليهم الذلة جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه،
__________
(1) . قوله «فأجموا ما كانوا فيه» أى كرهوا. أفاده الصحاح. (ع)

(1/145)


إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)

فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة «1» إما على الحقيقة، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية وباؤ بغضب من الله من قولك: باء فلان بفلان، إذا كان حقيقا بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أى صاروا أحقاء بغضبه ذلك إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب، أى ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وقد قتلت اليهود- لعنوا- شعيا وزكريا ويحيى وغيرهم: فان قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم. وقرأ على رضى الله عنه ويقتلون بالتشديد ذلك تكرار للإشارة بما عصوا بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم، لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.

[سورة البقرة (2) : آية 62]
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)
إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون والذين هادوا والذين تهودوا. يقال: هاد يهود. وتهود إذا دخل في اليهودية، وهو هائد، والجمع هود. والنصارى وهو جمع نصران. يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، قال: نصرانة لم تحنف. والياء في نصرانى للمبالغة كالتي في أحمرى. سموا لأنهم نصروا المسيح. والصابئين وهو من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام دخولا أصيلا وعمل صالحا فلهم أجرهم الذي يستوجبونه بإيمانهم وعملهم. فإن قلت: ما محل من آمن؟ قلت: الرفع إن جعلته مبتدأ خبره (فلهم أجرهم) والنصب إن جعلته بدلا من اسم إن والمعطوف عليه. فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي وفي الثاني فلهم أجرهم. والفاء لتضمن «من» معنى الشرط.
__________
(1) . قوله «أهل مسكنة ومدقعة» أى متربة. أفاده الصحاح. (ع)

(1/146)


وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66]
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)
وإذ أخذنا ميثاقكم بالعمل على ما في التوراة ورفعنا فوقكم الطور حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة، فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقى عليكم، حتى قبلوا. خذوا على إرادة القول ما آتيناكم من الكتاب بقوة بحد وعزيمة واذكروا ما فيه واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه لعلكم تتقون رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا. ثم توليتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به فلولا فضل الله عليكم بتوفيقكم للتوبة لخسرتم. وقرئ: خذوا ما آتيتكم، وتذكروا، واذكروا «1» والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت، وإن ناسا منهم اعتدوا فيه أى جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت. كما قال: (تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم) فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم: قردة خاسئين خبر ان أى كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصغار والطرد فجعلناها يمنى المسخة نكالا عبرة تنكل من اعتبر بها أى تمنعه. ومنه النكل: القيد لما بين يديها لما قبلها وما خلفها وما بعدها من الأمم والقرون «2» لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين: أو أريد
__________
(1) . قوله «وتذكروا واذكروا» أى بتشديد الذال والكاف، وأصله: وتذكروا. (ع)
(2) . قوله «وما بعدها من الأمم والقرون» لعله: والقرى، نظير قوله الآتي: من القرى والأمم. (ع)

(1/147)


وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)

بما بين يديها: ما بحضرتها من القرى والأمم. وقبل نكالا: عقوبة منكلة لما بين يديها. لأجل ما تقدمها من ذنوبهم وما تأخر منها (وموعظة للمتقين) للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متق سمعها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73]
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)
كان في بنى إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله قالوا أتتخذنا هزوا أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوا بنا، أو الهزو نفسه لفرط الاستهزاء من الجاهلين لأن الهزو في مثل هذا من باب الجهل والسفه. وقرئ «هزؤا» بضمتين. «وهزءا» بسكون الزاى، نحو كفؤا وكفؤا. وقرأ حفص «هزوا» بالضمتين والواو وكذلك «كفوا» . والعياذ واللياذ من واد واحد.
في قراءة عبد الله: سل لنا ربك ما هي؟ سؤال عن حالها وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا، فسألوا عن صفة تلك البقرة المجيبة الشأن الخارجة عما عليه البقر. والفارض: المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض. قال خفاف بن ندبة:

(1/148)


لعمرى لقد أعطيت ضيفك فارضا ... تساق إليه ما تقوم على رجل «1»
وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر: الفتية.
والعوان النصف. قال:
نواعم بين أبكار وعون «2»
وقد عونت «3» . فإن قلت: (بين) يقتضى شيئين فصاعدا «4» فمن أين جاز دخوله على (ذلك) : قلت لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. فإن قلت:
كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذكر وما تقدم، للاختصار في الكلام، كما جعلوا «فعل» نائبا عن أفعال جمة تذكر قبله: تقول للرجل: نعم ما فعلت، وقد ذكر لك أفعالا كثيرة وقصة طويلة، كما تقول له:
ما أحسن ذلك. وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا. قال أبو عبيدة قلت لرؤبة في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه فى الجلد توليع البهق «5»
__________
(1) . لخفاف بن ندبة يهجو العباس بن مرداس بالبخل. والفارض: الناقة المسنة تساق إليه، أى لا تركب، بل تحتاج إلى من يضربها ويسوقها من خلفها. لا تقوم على رجل: أى لا رجل لها قوية تعتمد عليها في قيامها. [.....]
(2) .
ظعائن كنت أعهدهن قدما ... وهن لدى الاقامة غير جون
حصان مواضع القب الأعالى ... نواعم بين أبكار وعون
للطرماح. والظعائن النساء في الهوادج. والضعائن- بالضاد-: المطايا. والضغائن- بالغين-: جمع ضغينة، وهي الحقد والميل والاعوجاج. وضغنته: إذا أخذته في حضنك. وفرس ضاغن: لا يعطى ما عنده من الجري. وناقة ذات ضغن: أى حنين إلى وطنها. وامرأة ذات ضغن تحب غير زوجها. والجون- بالضم جمع جوناء أى سوداء.
والحصان- بالفتح-: المحصنة. والنقب: جمع نقاب، ككتب وكتاب. والعون أصله بضم الواو جمع عوان، وهي النصف- بفتحتين- أى الوسط من النساء والبهائم، فسكن تخفيفا. يقول: تلك النساء ظعائن أى مسافرات غير لونهن السفر، وكنت أعهدهن في قديم الزمان حين الاقامة غير سود وهن محصنات الوجوه، وإذا حفظت حفظن كلهن عادة. والأعالى: صفة للنقب أو المواضع، وهذا لا يكون إلا في النساء كما ترى. وروى بعضهم «ضغائن» بدل «ظعائن» ولعله تحريف. وهن ناعمات، دائرات بين أبكار صغيرات وعون أواسط.
(3) . قوله «وقد عونت» في الصحاح: وتقول منه عونت المرأة تعوينا، وعانت تعون عونا. (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت بين يقتضى شيئين ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد مر نظير هذا عند قوله: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) فجدد به عهدا.
(5) . لرؤبة بن العجاج يصف بقرة وحشية، وقيل فرسا، وقيل خيلا فيها لون السواد ولون البلق- أى البياض- ويروى: من بياض وباق فلعل البياض بياض يرهقه قترة، كأنه: أى ذلك المذكور أو المجتمع منهما، توليع البهق في الجلد. أو كأنه حال كونه في الجلد توليع البهق، أى تخطيطه من البياض المشوب بكدرة الناشئ من البهق، وهو داء يتغير منه لون الجلد. روى أن أبا عبيدة قال له: إن أردت الخطوط فقل: كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما. فقال أردت كأن ذاك، فقد أجرى الضمير مجرى اسم الاشارة في صحة الاشارة بالمفرد منه إلى المتعدد بتأويله بالمذكور ونحوه.

(1/149)


إن أردت الخطوط فقل: كأنها. وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما. فقال: أردت كأن ذاك، ويلك! والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة وكذلك الموصولات. ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع ما تؤمرون أى ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به من قوله أمرتك الخير أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول به بالمصدر، كضرب الأمير.
الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه. يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال أسود حالك وحانك، وأبيض يقق ولهق. وأحمر قانى وذريخى. وأخضر ناضر ومدهام. وأورق خطبانى وأزمك ردانى. فإن قلت: فاقع هاهنا واقع خبرا عن اللون، فلم يقع توكيدا لصفراء قلت: لم يقع خبرا عن اللون إنما وقع توكيدا لصفراء، إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون من سببها وملتبس بها، فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها. فإن قلت: فهلا قيل صفراء فاقعة؟ وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جد جده، وجنونك مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. وعن على رضى الله عنه: «من لبس نعلا صفراء قل همه «1» لقوله تعالى تسر الناظرين» وعن الحسن البصري صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد. ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها تعلوه صفرة. وبه فسر قوله تعالى: (جمالت صفر) . قال الأعشى:
تلك خيلى منه وتلك ركابى ... هن صفر أولادها كالزبيب «2»
__________
(1) . موقوف لم أجده: لكن أخرجه العقيلي والطبراني والخطيب من حديث ابن عباس رضى الله عنهما. قال «من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها» وقال ابن أبى حاتم: سألت أبى عنه: فقال: كذب. موضوع.
(2) .
إن قيس أقيس الفعال أبا ... الأشعث أمست أصداؤه لشعوب
كل عام يمدني بحموم ... عند وضع للضأن أو بنجيب
تلك خيلى منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب
للأعشى في أبى الأشعث بن قيس. والفعال- بالفتح-: فعل الخير. والأصداء: جمع صدى، وهو ذكر البوم.
كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة وتصبح: أدركونى. حتى يؤخذ بثأره. وشعوب: اسم للمنية، ويمكن أنه جمع شعب بمعنى طريق، أى أمست متفرقة في الطرق. وذلك كناية عن قتله. والجمع للتعظيم، أو اعتباري. والجموم: جمع جم بتثليث أوله بمعنى الكثير. والنجيب: الكريم من الخيل والإبل. والركاب: المطايا. هن أى الركاب، صفر: جمع أصفر أو صفراء، أولادها يغلب عليها السواد كالزبيب. والمراد بالصفرة سواد ترهقه صفرة، لأن هذا أعز ألوان الإبل عندهم.

(1/150)


ما هي مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستشكاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، «1» ولكن شددوا فشدد الله عليهم» والاستقصاء شؤم. وعن بعض الخلفاء أنه كتب إلى عامله بأن يذهب إلى قوم فيقطع أشجارهم ويهدم دورهم، فكتب إليه: بأيهما أبدا؟ فقال: إن قلت لك بقطع الشجر سألتنى:
بأى نوع منها أبدأ؟ وعن عمر بن عبد العزيز: إذا أمرتك أن تعطى فلانا شاة سألتنى: أضائن أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني. وفي الحديث «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته» «2» إن البقر تشابه علينا أى إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح. وقرئ: تشابه، بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين. وتشابهت ومتشابهة ومتشابه. وقرأ محمد ذو الشامة: إن الباقر يشابه، بالياء والتشديد. جاء في الحديث «لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» «3» أى: لو لم يقولوا إن شاء الله. والمعنى: إنا لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول، يعنى لم تذلل للكراب «4» وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقى الحروث، و «لا» الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقى. على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: لا ذلول، بمعنى لا ذلول هناك: أى حيث هي، وهو نفى لذلها ولأن توصف به فيقال: هي ذلول. ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان. أى فيهم، أو حيث هم.
__________
(1) . ابن مردويه والبزار وابن أبى حاتم كلهم من طريق الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة مرفوعا وفي سنده عباد بن منصور، وفيه ضعف والطبري من كلام ابن عباس موقوفا. ومن كلام أبى العالية، دون قوله «والاستقصاء شؤم» فليس هو في المرفوع ولا الموقوف قلت قوله «والاستقصاء شؤم» من كلام الزمخشري
(2) . متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.
(3) . قلت: أخرجه ابن جرير من طريق ابن جريج مرفوعا. وهو معضل.
(4) . قوله «لم تذلل للكراب» في الصحاح: كربت الأرض إذا قلبتها للحرث. وفي المثل: الكراب على البقر، ويقال: الكلاب على البقر. (ع)

(1/151)


وقرئ تسقى بضم التاء من أسقى مسلمة سلمها الله من العيوب أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه كقوله:
أو معبر الظهر ينبى عن وليته ... ما حج ربه فى الدنيا ولا اعتمرا «1»
أو مخلصة اللون، من سلم له كذا إذا خلص له، لم يشب صفرتها شيء من الألوان لا شية فيها لا لمعة في نقبتها «2» من لون آخر سوى الصفرة، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لونا آخر، ومنه ثور موشى القوائم جئت بالحق أى بحقيقة وصف البقرة، وما بقي إشكال في أمرها فذبحوها أى فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها. وقوله وما كادوا يفعلون استثقال لاستقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها، وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
وروى أنه كان في بنى إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة «3» وقال: اللهم إنى أستودعكها لابنى حتى يكبر، وكان برا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير
__________
(1) . أنشده سيبويه. ويقال: أعبرت الشاة فهي معبرة، إذا كثر صوفها لتركها سنة من غير جز، فالظهر المعبر: المتروك من الجز فيكثر وبره، أو لأنه لا وبر عليه فيحز. ولعل المراد هنا المتروك من الحمل عليه. وقيل:
المنجرد الشعر. ونبا عنه ينبو: انحرف. وأنبيته: حرفته وأبعدته، فما هنا معناه يمنع غيره عن ركوب وليته.
وظاهر كلام بعضهم أنه يقال: نبى ينبي، كرمى يرمى، إذا انحرف. وأن ما هنا منه، أى ينفر عن وليته: أى برذعته، لأنها تلى الجلد. وربه باختلاس الحركة للوزن، بمعنى صاحبه. والمعنى: أنه بعير متروك من العمل فهو مصعب ينفر من الراكب، لأنه لم يسافر أصلا حتى أن صاحبه لا حج ولا اعتمر: وظاهر كلام بعضهم أن «ربه» هي رب التي هي حرف جر، فتكون جارة للضمير بلا تمييز لتقدم مرجعه، ودالة على تحقيق النفي مجازا عن معنى التكثير وهي اعتراض بين المتعاطفين. وإسناد الفعلين لضمير البعير مجاز عقلى، لأنه من آلات الحج والاعتمار.
وقائل ذلك فسره بأنه منجرد الظهر ينفر من برذعته لدبره من كثرة الأسفار. ما سافر لحج ولا اعتمار، وإنما يسافر إلى الأعداء. ولو جعل معناه كما تقدم لجاز. فالمعنى أنه مصعب لم يركب ولم يسافر أصلا، حتى أنه لم يسافر لحج ولا عمرة وهو ظاهر.
(2) . قوله «لا لمعة في نقبتها» في الصحاح: النقبة اللون والوجه. (ع)
(3) . قوله «فأتى بها الغيضة» في الصحاح: الغيضة الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فيه فينبت فيه الشجر. (ع)

(1/152)


وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. فإن قلت: كانت البقرة التي تناولها الأمر بقرة من شق البقر غير مخصوصة، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة، فما فعل الأمر الأول؟ قلت: رجع منسوخا لانتقال الحكم إلى البقرة المخصوصة، والنسخ قبل الفعل جائز. على أن الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة كما تناول غيرها.
ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له، فكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص وإذ قتلتم نفسا خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم فادارأتم فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا، أى يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح. أو لأن الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضا عن البراءة واتهمه والله مخرج ما كنتم تكتمون مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوما. فإن قلت: كيف أعمل مخرج وهو في معنى المضى؟
قلت: وقد حكى ما كان «1» مستقبلا في وقت التدارؤ. كما حكى الحاضر في قوله: (باسط ذراعيه) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما (فادارأتم) و (فقلنا)
والضمير في اضربوه
إما أن يرجع إلى النفس والتذكير على تأويل الشخص والإنسان، وإما إلى القتيل لما دل عليه من قوله: (ما كنتم تكتمون) . ببعضها
ببعض البقرة. واختلف في البعض الذي ضرب به، فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة بين الكتفين. والمعنى:
فضربوه فحيى، فحذف ذلك لدلالة قوله: (كذلك يحي الله الموتى)
. وروى أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان وفلان لا بنى عمه، ثم سقط ميتا، فأخذا وقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك. كذلك يحي الله الموتى
إما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم: كذلك يحيى الله الموتى يوم القيامة ويريكم آياته
ودلائله على أنه قادر على كل شيء لعلكم تعقلون
تعملون على قضية عقولكم. وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإما أن يكون خطابا للمنكرين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط
__________
(1) . قوله «قلت وقد حكى ما كان» لعله «قد» بدون واو. (ع) [.....]

(1/153)


حكم وفوائد. وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى وارتسامها على الفور، من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء، وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه أن يتنوق «1» في اختيار ما يتقرب به، وأن يختاره فتى السن غير قحم ولا ضرع، حسن اللون بريا من العيوب يونق من ينظر إليه، وأن يغالى بثمنه، كما يروى عن عمر رضى الله عنه أنه ضحى بنجيبة «2» بثلاثمائة دينار، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة. فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قص من قصص بنى إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعا لهم عليها، ولما جدد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: (اضربوه ببعضها)
حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
__________
(1) . قوله «أن يتنوق» في الصحاح: تنوق في الأمر، أى تأنق فيه. ويفيد أيضا أن «القحم» المسن الفاني، و «الضرع» بالتحريك الضعيف النحيف. و «الأنق» الفرح والسرور. (ع)
(2) . أخرجه أبو داود من رواية الجهم بن الجارود عن سالم عن أبيه. قال: «أهدى عمر رضى الله عنه نجيبة فأعطى بها ثلاثمائة دينار. فقال يا رسول الله أفأبيعها وأشترى بثمنها بدنا؟ قال: لا، أنحرها إياها» .

(1/154)


ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)

[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)
معنى ثم قست استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه:
(ثم أنتم تمترون) وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوها عن الاعتبار وأن المواعظ لا تؤثر فيها. وذلك إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة فهي كالحجارة فهي في قسوتها مثل الحجارة أو أشد قسوة منها، وأشد معطوف على الكاف، إما على معنى أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفا على الحجارة. وإما على: أو هي أنفسها أشد قسوة. والمعنى:
أن من عرف حالها شبهها بالحجارة، أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا. أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة. فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب «1» ؟ قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة. وقرئ: قساوة. وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس، كقولك: زيد كريم وعمرو أكرم. وقوله وإن من الحجارة بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة، وتقرير لقوله: (أو أشد قسوة) . وقرئ «وإن» بالتخفيف، وهي «إن» المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة. ومنها قوله تعالى: (وإن كل لما جميع) . والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة. وقرأ مالك بن دينار (ينفجر) بالنون.
يشقق يتشقق. وبه قرأ الأعمش. والمعنى إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا يهبط يتردى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء. والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى، وأنها
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: لم قيل: أشد قسوة ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: ولأن سياق هذه الأقاصيص قصد فيه الأسباب لزيادة التقريع، حتى جعلت القصة الواحدة قصتين كما مر الآن. ولا شك أن قوله (أو أشد قسوة) أدخل في الأسباب من قول القائل: أو أقسى.

(1/155)


أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77)

لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقرئ (يعملون) بالياء والتاء، وهو وعيد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77]
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77)
أفتطمعون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يؤمنوا لكم أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم، كقوله: (فآمن له لوط) يعنى اليهود، وقد كان فريق
طائفة فيمن سلف منهم يسمعون كلام الله وهو ما يتلونه من التوراة ثم يحرفونه كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس. وقرئ: كلم الله، من بعد ما عقلوه من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون. والمعنى: إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك. وإذا لقوا يعنى اليهود قالوا قال منافقوهم «1» آمنا بأنكم على الحق، وأن محمدا هو الرسول المبشر به وإذا خلا بعضهم الذين لم ينافقوا إلى بعض الذين نافقوا قالوا عاتبين عليهم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم بما بين لكم في التوراة من صفة محمد. أو قال المنافقون لأعقابهم يرونهم التصلب في دينهم: أتحدثونهم، إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود ليحاجوكم به عند ربكم ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «قال منافقوهم ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وصح عود الضمير في اللفظ إلى جهة واحدة مع اختلاف المرجوع إليه، لأنهما صنفان مندرجان في الأول. ونظيره قوله تعالى: (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) فالضمير الأول للأزواج، والثاني للأولياء وهو راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين لاشتمالهم على الصنفين جميعا، والله أعلم.

(1/156)


ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)

كتابه، جعلوا محاجتهم به، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله. ألا تراك تقول: هو في كتاب الله هكذا. وهو عند الله هكذا، بمعنى واحد يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.

[سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79]
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)
ومنهم أميون لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها لا يعلمون الكتاب التوراة إلا أماني إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل: إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد. قال أعرابى لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته، أم تمنيته، أم اختلقته «1» وقيل: إلا ما يقرؤن من قوله:
تمنى كتاب الله أول ليلة «2»
والاشتقاق من منى إذا قدر، لأن المتمنى يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه، وكذلك المختلق والقارئ يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وإلا أمانى: من الاستثناء المنقطع. وقرئ: أمانى، بالتخفيف. ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوام الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم. يكتبون الكتاب المحرف بأيديهم «3» تأكيد، وهو
__________
(1) . قوله «أم تمنيته أم اختلفته» لعله أى أم الخ (ع)
(2) .
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
لحسان بن ثابت في مرثية عثمان بن عفان رضى الله عنهما. يقول: تمنى كتاب الله، أى تلاه وتابع في تلاوته كتمني داود عليه السلام الزبور: أى كتلاوته الزبور على رسل بالكسر: أى تؤدة وسكينة. وروى بدل الشطر الثاني
وآخرها لاقى حمام المقادر
والحمام: الموت، لأنه مقدر، من حم الله الشيء: قدره.
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما فائدة قوله بأيديهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وربما قال الزمخشري في مثل هذا: إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت، حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة.

(1/157)


وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)

من محاز التأكيد، كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك هذه. مما يكسبون من الرشا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80) بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82)
إلا أياما معدودة أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل. وعن مجاهد: كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما. فلن يخلف الله متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده. وأم إما أن تكون معادلة بمعنى أى الأمرين كائن على سبيل التقرير، لأن العلم واقع بكون أحدهما. ويجوز أن تكون منقطعة بلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: (لن تمسنا النار) أى بلى تمسكم أبدا، بدليل قوله: (هم فيها خالدون) . من كسب سيئة من السيئات، يعنى كبيرة من الكبائر «1» وأحاطت به خطيئته تلك واستولت عليه، كما يحيط العدو ولم يتفص عنها «2» بالتوبة.
وقرئ: خطاياه، وخطيئاته. وقيل في الإحاطة: كان ذنبه أغلب من طاعته. وسأل رجل الحسن عن الخطيئة قال: سبحان الله: ألا أراك ذا لحية وما تدرى ما الخطيئة، انظر في المصحف فكل آية نهى فيها الله عنها وأخبرك أنه من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.

[سورة البقرة (2) : آية 83]
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)
__________
(1) . قوله «يعنى كبيرة من الكبائر» فسرها بذلك لتنطبق الآية على مذهب المعتزلة، وهو أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد فيها إلا الكافر. وفسروا الخطيئة بالشرك. وفي الخازن قال ابن عباس:
هي الشرك يموت عليه صاحبه اه وهو الذي يحيط بفاعله ويسد أبواب النجاة أمامه في كل جهة. (ع)
(2) . قوله «ولم يتفص عنها» أى يتخلص. (ع)

(1/158)


لا تعبدون إخبار في معنى النهى «1» ، كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهى، لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه وتنصره قراءة عبد الله وأبى (لا تعبدوا) ولا بد من إرادة القول، ويدل عليه أيضا قوله: (وقولوا) .
وقوله وبالوالدين إحسانا إما أن يقدر: وتحسنون بالوالدين إحسانا. أو وأحسنوا. وقيل:
هو جواب قوله: (أخذنا ميثاق بني إسرائيل) «2» إجراء له مجرى القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وقيل: معناه أن لا تعبدوا، فلما حذفت «أن» رفع، كقوله:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى «3»
ويدل عليه قراءة عبد الله (أن لا تعبدوا) ويحتمل (أن لا تعبدوا) أن تكون «إن» فيه مفسرة، وأن تكون أن مع الفعل بدلا عن الميثاق، كأنه قيل: أخذنا ميثاق بنى إسرائيل توحيدهم وقرئ بالتاء حكاية لما خوطبوا به، وبالياء لأنهم غيب. حسنا قولا هو حسن في نفسه «4» لإفراط حسنه. وقرئ حسنا. وحسنى- على المصدر- كبشرى. ثم توليتم على طريقه الالتفات أى توليتم عن الميثاق ورفضتموه. إلا قليلا منكم قيل: هم الذين أسلموا منهم وأنتم معرضون وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن المواثيق، والتولية.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «لا تعبدون إخبار في معنى النهى ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وجه الدليل منه أن الأول لو لم يكن في معنى النهى لما حسن عطف الأمر عليه، لما بين الأمر والخبر المحض من التنافر. ولا كذلك الأمر والنهى لالتقائهما في معنى الطلب.
(2) . قال محمود رحمه الله: «وقيل هو جواب قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: لو قدر القسم مضافا إلى المذكورين لكان أوجه، فيقول (وإذ أقسمتم لا تعبدون إلا الله ... الخ)
(3) .
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
لطرفة بن العبد من معلقته. وألا أداة استفتاح. وحرف النداء محذوف. وأى منادى. واسم الاشارة نعت له.
والزاجر نعت لاسم الاشارة مضاف لياء المتكلم إضافة الوصف لمفعوله. وروى بدله «اللائمي» : وروى «أحضر» منصوبا بإضمار أن، ومرفوعا على إهمالها وحسن حذفها ذكرها فيما بعد. يقول: يا أيها الزاجر لي عن حضور الحرب وشهود لذات النصر والظفر والغنيمة، أو شهود لذات الشراب ومغازلة النساء المستدعين لاتلاف المال، لست مخلدا لي لو طاوعتك. فالاستفهام إنكارى.
(4) . قال محمود: «أى قولا هو حسن في نفسه ... الخ» . قال أحمد: وفيه من التأكيد والتخصيص على إحسان مناولة الناس، أنه وضع الصدر فيه موضع الاسم. وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، كرجل عدل، وصوم وفطر. وقرئ حسنا فهو على هذا من الصفات المشبهة.

(1/159)


وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)

[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)
لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. جعل غير الرجل نفسه. إذا اتصل به أصلا أو دينا. وقيل: إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه، لأنه يقتص منه ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك: فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها. وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ثم أنتم هؤلاء استبعاد لما أسند اليهم «1» من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم. والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعنى أنكم قوم آخرون «2» غير أولئك المقرين تنزيلا، لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله تقتلون بيان لقوله ثم أنتم هؤلاء وقيل: هؤلاء موصول بمعنى الذي «3» . وقرئ (تظاهرون) بحذف التاء وإدغامها، وتتظاهرون بإثباتها، وتظهرون بمعنى تتظهرون: أى تتعاونون عليهم. وقرئ: تفدوهم، وتفادوهم. وأسرى، وأسارى وهو ضمير الشأن. ويجوز أن يكون مبهما تفسيره إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: أدخل ثم استبعادا ... الخ؟ قال أحمد رحمه الله: وهذا نظير ما تقدم آنفا في قوله تعالى:
(ثم قست قلوبكم) الآية. [.....]
(2) . قال محمود رحمه الله: «والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الشاهدون، يعنى أنكم قوم آخرون غير أولئك ...
الخ» . قال أحمد رحمه الله: هو بيان لتغير الصفة الموجب لتنزيلهم منزلة المغايرين لهم بالذات.
(3) . قوله «موصول بمعنى الذي» لعله الذين. (ع)

(1/160)


ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)

أى بالفداء وتكفرون ببعض أى بالقتال والإجلاء. وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا خلفاء الخزرج، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه. فعيرتهم العرب وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم، فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحيى أن نذل حلفاءنا. والخزي: قتل بنى قريظة وأسرهم وإجلاء بنى النضير. وقيل الجزية.
وإنما رد من فعل منهم ذلك إلى أشد العذاب، لأن عصيانه أشد. وقرئ: يردون، ويعملون- بالياء والتاء- فلا يخفف عنهم عذاب الدنيا بنقصان الجزية، ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم. وكذلك عذاب الآخرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 89]
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)
الكتاب التوراة، آتاه إياها جملة واحدة. ويقال: قفاه إذا أتبعه من القفا. نحو ذنبه، من الذنب. وقفاه به: أتبعه إياه، يعنى: وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، كقوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا) وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. وقيل (عيسى) بالسريانية أيشوع. و (مريم) بمعنى الخادم. وقيل: المريم بالعربية من النساء، كالزير من الرجال «1» . وبه فسر قول رؤبة:
قلت لزير لم تصله مريمه «2»
__________
(1) . قوله «كالزير من الرجال» في الصحاح: هو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن. (ع)
(2) .
قلت لزير لم تصله مريمه ... ضليل أهواء الصبا تندمه
لرؤبة بن العجاج يعاتب أبا جعفر الدوانيقي على البطالة ومغازلة النساء. سمى بذلك لأنه زاد في الخراج دوانق أيام خلافته، كذا في الكشف. والزير من يكثر مودة النساء وزيارتهن. والمريم: من تكثر مودة الرجال وزيارتهم.
قال أبو عمرو: من رام بريم، ومعناه بقي أو ذهب. وريمت السحابة تريما: دامت، لدوامها على المودة، أو لخروجها من بيتها. والضليل كثير الضلال. والصبا: الميل إلى الجهل والفتوة. وتندمه: بمعنى ندمه، فهر مصدر مرفوع فاعل ضليل. ولعل معناه أن ندمه ضال ضائع في أهواء الصبا. ويروى «مندمه» بصيغة اسم الفاعل. وضليل:
مرفوع على الابتداء، ومندمه خبره. ولعل معناه أن الرجل كثير الضلال يعنى نفسه هو الذي يندمه ويجعله نادما، أى يأمره بالندم. وقال عبد الحكيم على البيضاوي نقلا عن الكشف: أى قلت له من كثر ضلاله يكون مندم نفسه وموقعها في الندامة. واللام في قوله لزير للتعليل أى قلت ذلك القول لأجله، هذا توجيه ما قيل فيه. ولو جعلت ضليل صفة زير كالوجه الأول، وتندمه فعل أمر مقول القول، حرك بالضم لالتقائه ساكنا مع هاء السكت ولمناسبة القافية لجاز: أى قلت له تندم وتب، لكن فيه تكلف شاذ.

(1/161)


ووزن «مريم» عند النحويين «مفعل» لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير وعليب «1» البينات المعجزات الواضحات والحجج، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات. وقرئ: وآيدناه. ومنه: آجده بالجيم «2» إذا قواه. يقال: الحمد لله الذي آجدنى بعد ضعف، وأوجدنى بعد فقر. بروح القدس بالروح المقدسة، كما تقول: حاتم الجود، ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: (وروح منه) فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. وقيل: لأنه لم تضمه الأصلاب، ولا أرحام الطوامث. وقيل بجبريل. وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن: (روحا من أمرنا) وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيى الموتى بذكره.
والمعنى: ولقد آتينا يا بنى إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم أفكلما جاءكم رسول منهم بالحق استكبرتم عن الإيمان به، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم. ثم وبخهم على ذلك. ودخول الفاء لعطفه على المقدر.
فإن قلت: هلا قيل وفريقا قتلتم؟ «3» . قلت: هو على وجهين: أن تراد الحال الماضية، «4» لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يراد: وفريقا تقتلونهم بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أنى أعصمه منكم. ولذلك سحرتموه وسممتم
__________
(1) . قوله «عثير وعليب» العثير: الغبار. وعليب: اسم واد. (ع)
(2) . قوله «ومنه آجده بالجيم» وأصله ما يقال: ناقة أجد، أى قوية موثقة الخلق أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت هلا قيل وفريقا قتلتم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: والتعبير بالمضارع يفيد ذلك دون الماضي، كقوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) فعبر بالماضي ثم قال: فتصبح الأرض مخضرة، فعدل عنه إلى المضارع إرادة لتصوير اخضرارها في النفس. وعليه قوله ابن معديكرب يصور شجاعته وجرأته:
فانى قد لقيت القرن أسعى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فيهوى ... صريعا لليدين وللجران
(4) . قوله «أن تراد الحال الماضية» لعله: أن تراد حكاية الحال. (ع)

(1/162)


له الشاة. وقال صلى الله عليه وسلم عند موته «ما زالت أكلة خيبر تعادنى، فهذا أوان قطعت أبهرى» «1» غلف جمع أغلف، أى هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن،
__________
(1) . أخرجه البزار وأبو نعيم في الطب وابن عدى في الكامل. من طريق سعيد بن محمد الوراق عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه. وسعيد ضعيف، لكن رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمر بسنده «أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مصلية- فذكر القصة- وفيها: أن هذه الشاة مسمومة، وأن بشر بن البراء مات منها. فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وأخرج هذا القدر أبو داود من رواية خالد الطحان عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة مرسلا. ورواه الطبري من حديث بريدة قال «خرجنا إلى خيبر- فذكر القصة. قال: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى بخيبر- أهدت زينب بنت الحارث إليه شاة- فذكر القصة فيه وقال: يا أم بشر، ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعادني. فهذا أو ان قطعت أبهرى» قلت: من قوله «فلما اطمأن الخ» ليس هو في حديث بريدة، وإنما هو من كلام الطبري. وهو في مغازي ابن إسحاق بهذا اللفظ الأول. وفيه قال ابن إسحاق: فحدثني مروان بن عثمان عن أبى سعيد بن المعلى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم بشر- وقد دخلت عليه: يا أم بشر إن هذا لأوان وجدت انقطاع أبهرى- الحديث» وكذا أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من رواية أبى الأسود عن عروة مختصرا. وذكره الواقدي في المغازي مطولا بغير سند. وذكره ابن سعد في الطبقات عنه بأسانيد وفيه: ورفعها إلى ولاة بشر بن البراء فقتلوها. وروى أبو عبيدة والحربي في غريبهما من حديث أبى جعفر الباقر نحو الأول مرسلا. قال الأصمعى: تعادني من العداد.
وهو الشيء الذي يأتى لوقت دون وقت وذكره البخاري تعليقا من رواية عيينة عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله عنها ووصله البزار والحاكم من هذا الوجه واتفق الشيخان على حديث أنس رضى الله عنه «أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة» فأكل منها الحديث وفيه: فقال: ما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى الله عليه وسلم» وروى أحمد والحاكم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن أم بشر قالت «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه، فقلت: ما يتهم نفسك، فانى لا أتهم بابى إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر. قال: وأنا لا أتهم غيرها. فهذا أو ان انقطع أبهرى» وأخرج البيهقي في الدلائل هذه القصة عن الزهري وفيها قال الزهري: قال جابر: «واحتجم يومئذ على الكاهل وبقي ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفى فيه. قال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر منى» وأخرج أبو داود من رواية الزهري عن جابر كذلك. وروى الطبراني والدارقطني من رواية يحيى بن عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه عن جده لبيبة الأنصارى رضى الله عنه قال «أهدت يهودية إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية مسمومة. فأكل منهما هو وبشر ابن البراء بن مصرور. فمرضا مرضا شديدا- فذكر القصة. وفيها: ثم أمر بها فصلبت» وروى معمر عن الزهري أنه قال: أسلمت. فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال معمر: هكذا قال. والناس يقولون: أنها لم تسلم وإنها قتلت. قال البيهقي: ثم السهيلي: يجمع بينهما بأنه صفح عنها فلم يقتلها، لأنه كان لا ينتقم لنفسه. فلما مات بشر من تلك الأكلة قتلها به قصاصا.

(1/163)


كقولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه. ثم رد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة «1» كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، بأن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين فقليلا ما يؤمنون فإيمانا قليلا يؤمنون. وما مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. وقيل «غلف» تخفيف «غلف» جمع غلاف، أى قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره. وروى عن أبى عمرو: قلوبنا غلف، بضمتين كتاب من عند الله هو القرآن مصدق لما معهم من كتابهم لا يخالفه. وقرئ: مصدقا، على الحال. فإن قلت: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلت: إذا وصف النكرة تخصص فصح انتصاب الحال عنه، وقد وصف «كتاب» بقوله «من عند الله» وجواب لما محذوف وهو نحو:
كذبوا به، واستهانوا بمجيئه، وما أشبه ذلك يستفتحون على الذين كفروا يستنصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم: وقيل معنى (يستفتحون) يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة، أى يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسين في استعجب واستسخر، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم فلما جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة. على الكافرين أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «ثم رد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا من نوائب الزمخشري على تنزيل الآيات على عقائدهم الباطلة، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ألا تراه كيف أخذ من رد الله على هذه الطائفة أن تكون قلوبهم مخلوقة على الكفر، أن الكفر والامتناع من قبول الحق هم خلقوه لأنفسهم، تمهيدا لقاعدته الفاسدة في خلق الأعمال. وسبيل الرد عليه:
أن الله تعالى إنما كذبهم ورد عليهم في ادعائهم عدم الاستطاعة للايمان وسلب التمكن وعللوا ذلك بأن قلوبهم غلف وصدق الله ورسوله في أنه إنما خلقهم على الفطرة والتمكن من الايمان والتأتى والتيسر له. وإنما هم اختاروا الكفر على الايمان فوقع اختيارهم الكفر مقارنا لخلق الله تعالى إياه في قلوبهم بعد ما أنشأهم على الفطرة، بقيام حجة الله تعالى عليهم: بأنه خلقهم متمكنين من الايمان غير مقسورين على الكفر، وذلك لا ينافي توجيه أهل السنة في اعتقاد أن الله تعالى خالق ذلك في قلوبهم على وفق اختيارهم. هذا هو الحق الأبلج والصراط الأبهج والله الموفق. وقول الزمخشري: إن كفرهم إنما خلقوه لأنفسهم بسبب منع ألطاف الله تعالى التي تسبب المؤمنون في حصولها لهم وكانت سببا في خلقهم الايمان في قلوبهم: كل هذا تستر من الاشراك واعتقاد آلهة غير الله تخلق لنفسها ما شاءت من إيمان وكفر تعالى الله عما يشركون علوا كبيرا-.

(1/164)


بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)

اللعنة لحقتهم لكفرهم. واللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس ويدخلوا فيه دخولا أوليا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 90 الى 91]
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤ بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)
بئسما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم أن يكفروا واشتروا بمعنى باعوا بغيا حسدا وطلبا لما ليس لهم، وهو علة اشتروا أن ينزل لأن ينزل أو على أن ينزل، أى حسدوه على أن ينزل الله من فضله الذي هو الوحى على من يشاء وتقتضي حكمته إرساله فباؤ بغضب على غضب فصاروا أحقاء بغضب مترادف، لأنهم كفروا بنبى الحق وبغوا عليه. وقيل كفروا بمحمد بعد عيسى. وقيل بعد قولهم: عزيز ابن الله، وقولهم: يد الله مغلولة، وغير ذلك من أنواع كفرهم بما أنزل الله مطلق فيما أنزل الله من كل كتاب قالوا نؤمن بما أنزل علينا مقيد بالتوراة ويكفرون بما وراءه أى قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الحق مصدقا لما معهم منها غير مخالف له، وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها «1» ثم اعترض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء

[سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93]
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «أنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذه النكتة بعينها هي الموجب لكفر القدرية على أحد قولي مالك والشافعي والقاضي رضى الله عنهم، فان العقائد الصحيحة السنية متلازمة متوافقه يصدق بعضها بعضا، فجحد أحدها كفر به ثم كفر بالجميع، نسأل الله تعالى العصمة.

(1/165)


قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96)

وأنتم ظالمون يجوز أن يكون حالا، أى عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها. وأن يكون اعتراضا بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم. وكرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأول مع ما فيه من التوكيد واسمعوا ما أمرتم به في التوراة قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه قال لهم: اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا: سمعنا، ولكن لا سماع طاعة وأشربوا في قلوبهم العجل أى تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ. وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله: (إنما يأكلون في بطونهم نارا) . بكفرهم بسبب كفرهم بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب (أصلاتك تأمرك) وكذلك إضافة الإيمان إليهم.
وقوله إن كنتم مؤمنين تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.

[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96)
خالصة نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة، أى سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق. يعنى إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون فتمنوا الموت لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب، كما روى عن المبشرين بالجنة ما روى. كان على رضى الله عنه يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين: فقال: يا بنى لا يبالى أبوك على الموت سقط، أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة رضى الله عنه أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم «1» . يعنى
__________
(1) . أخرجه الحاكم من طريق زيد بن سلام عن أبيه عن جده «أن حذيفة لما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة» .

(1/166)


على التمني. وقال عمار بصفين: «الآن ألاقى الأحبة محمدا وحزبه» «1» . وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودى» »
بما قدمت أيديهم بما أسلفوا من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به، وتحريف كتاب الله، وسائر أنواع الكفر والعصيان. وقوله ولن يتمنوه أبدا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، كقوله: (ولن تفعلوا) فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا؟ قلت: لأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذر، وليس أحد منهم نقل ذلك. فإن قلت: التمني من أعمال القلوب وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى، وليت: كلمة التمني، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك فإن قلت: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون. قلت: كم حكى عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب البحت ولم يبالوا، فكيف يمتنعون من أن يقولوا إن التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه، مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كاذبا لأنه أمر خاف لا سبيل إلى الاطلاع عليه والله عليم بالظالمين تهديد لهم ولتجدنهم هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين في قولهم: وجدت زيدا
__________
(1) . أخرجه الطبراني والبزار من رواية ربيعة بن ناجد قال قال لي عمار يوم صفين: «اليوم ألاقى الأحبة:
محمدا وحزبه» ورواه أبو نعيم في الحلية. من رواية أبى سنان قال «رأيت عمار بن ياسر يوم صفين دعا بشراب فأتى بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق الله ورسوله: اليوم ألاقى الأحبة: محمدا وحزبه»
(2) . لم يخرجه. وقد أخرجه الطبري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا. وأخرج البيهقي في الدلائل من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود «إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا. فو الذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه ومات مكانه. قالوا: فأنزل الله (ولن يتمنوه أبدا) وفي البخاري من رواية عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما فال قال أبو جهل «إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو فعل لأخذته الملائكة- زاد الإسماعيلي-: عيانا. قال ابن عباس: ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه مثله. وزاد بعد قوله «لماتوا» «ورأوا مقاعدهم من النار» . [.....]

(1/167)


قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (98)

ذا الحفاظ «1» ومفعولاه «هم أحرص» . فإن قلت: لم قال: على حياة بالتنكير؟ قلت: لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبى (على الحياة) ومن الذين أشركوا محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس. فإن قلت: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت: بلى، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد. ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة أحرص الناس عليه. وفيه توبيخ عظيم: لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ. فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا- لعلمهم بحالهم- أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك. وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملوكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هو قول الأعاجم: زى هزار سال «2» . وقيل (ومن الذين أشركوا) كلام مبتدأ، أى ومنهم ناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله: (وما منا إلا له مقام معلوم) والذين أشركوا- على هذا-: مشار به إلى اليهود، لأنهم قالوا: عزير ابن الله. والضمير في وما هو لأحدهم وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أى: وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره. وقيل: الضمير لما دل عليه يعمر من مصدره، وأن يعمر بدل منه. ويجوز أن يكون «هو» مبهما، و «أن يعمر» موضحة. والزحزحة: التبعيد والإنحاء. فإن قلت: (يود أحدهم) ما موقعه؟ قلت: هو بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف. فإن قلت: كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم. و «لو» في معنى التمني، وكان القياس: لو أعمر، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله: (يود أحدهم) كقولك: حلف بالله ليفعلن.

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين (98)
__________
(1) . قوله «وجدت زيدا ذا الحفاظ» في الصحاح: يقال إنه لذو حفاظ، وذو محافظة، إذا كانت له أنفة. (ع)
(2) . قوله «زى هزار سال» زى بالفارسية بمعنى: عش. وهزار بمعنى: ألف. وسال بمعنى: عام. (ع)

(1/168)


روى أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبريل، فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقد عادانا مرارا، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر، فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا، فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أى حق تقتلونه «1» . وقيل: أمره الله تعالى أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا.
وروى أنه كان لعمر رضى الله عنه أرض بأعلى المدينة، وكان ممره على مدارس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم، فقالوا يا عمر، قد أحببناك، وإنا لنطمع فيك فقال: والله ما أجيئكم لحبكم، ولا أسألكم لأنى شاك في دينى، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا: ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم:
وما منزلتهما من الله تعالى قالوا: أقرب منزلة، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره.
وميكائيل عدو لجبريل. فقال عمر: لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوا لأحدهما كان عدوا للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وافقك ربك يا عمر.
فقال عمر: لقد رأيتنى في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر «2» . وقرئ: جبرئيل، بوزن قفشليل «3» وجبرئل بحذف الياء، وجبريل بحذف الهمزة، وجبريل بوزن قنديل، وجبرال بلام شديدة. وجبرائيل بوزن جبراعيل، وجبرائل بوزن جبراعل. ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل معناه: عبد الله. الضمير في نزله للقرآن. ونحو هذا الإضمار- أعنى إضمار ما لم يسبق ذكره- فيه فخامة لشأن صاحبه، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته على قلبك أى حفظه إياك وفهمكه بإذن الله بتيسيره
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي والواحدي والبغوي فقالوا روى ابن عباس «أن حبرا من أحبار اليهود من فدك يقال له عبد الله بن صوريا فذكره» ولم أقف له على سند. ولعله من تفسير الكلبي عن أبى صالح عنه.
(2) . أخرجه الواحدي في الأسباب من رواية داود بن أبى هند عن الشعبي، قال «كان لعمر، فذكره سواء» وأخرجه الطبري من طريق أسباط عن السدى. قال في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل) الآية قال «كان لعمر بن الخطاب رضى الله عنه أرض بأعلى المدينة- إلى آخره- إلا أنه قال فقال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك» .
(3) . قوله «بوزن قفشليل» في الصحاح: القفشليل المغرفة، فارسى معرب. (ع)

(1/169)


ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99) أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)

وتسهيله. فإن قلت: كان حق الكلام أن يقال: على قلبي «1» . قلت: جاءت على حكاية كلام الله تعالى كما تكلم به، كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك. فإن قلت: كيف استقام قوله: (فإنه نزله) جزاء للشرط «2» ؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد أذيته وأسأت إليه. أفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. وقرئ: ميكال، بوزن قنطار. وميكائيل كميكاعيل. وميكائل كميكاعل. وميكئل كميكعل. وميكئيل كميكعيل. قال ابن جنى: العرب إذا نطقت بالأعجمى خلطت فيه. عدو للكافرين أراد عدو لهم فجاء بالظاهر، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بال الملائكة وهم أشرف «3» والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101]
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99) أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: كان حق الكلام أن يقال على قلبي ... الخ» . قال أحمد رحمه الله:
الحكاية مرة تكون مع التزام اللفظ، ومرة تكون بالمعنى غير متبعة للفظ، فلعل الأمر في هذه الآية توجه على النبي عليه السلام أن يحكى معنى قول الله تعالى له (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) بلفظ المتكلم ونظير هذا قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا) إلى قوله: (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) فانظر ما وقع بعد القول المنسوب إليهم مما يفهم أنه قول الله عز وجل لا على سبيل الحكاية عنهم، إذ هم لا يقولون: فأنشرنا، وإنما يقولون: فأنشر، على لفظ الغيبة ولكن جاء الكلام حكاية على المعنى، لأن معنى قولهم: فأنشر الله، هو معنى قول الله عن ذاته: فأنشرنا، ولا يستتب لك أن يجعل هذا من باب الخروج من الغيبة إلى التكلم الذي يسمى التفاتا، فان في هذا مزيدا. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، الذي جعل لكم الأرض) إلى قوله: (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) فأول الكلام يفهم قول موسى وآخره يفهم قول الله تعالى. والطريق الجامع في ذلك ما قررته والله أعلم.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت كيف استقام قوله فانه نزله جزاء للشرط ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله:
ويكون دخول الفاء في الجزاء على هذا الوجه مستحقا لسببين: أحدهما أنه جملة اسمية. والآخر أنه ماض صحيح.
(3) . قوله «فما بال الملائكة وهم أشرف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فالأنبياء أشرف. (ع)

(1/170)


واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)

إلا الفاسقون إلا المتمردون من الكفرة. وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. وعن ابن عباس رضى الله عنه: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها «1» فنزلت. واللام في: (الفاسقون) للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب أوكلما الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا. وقرأ أبو السمال بسكون الواو على أن الفاسقون بمعنى الذين فسقوا، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة. وقرئ عوهدوا وعهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا. وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) . والنبذ الرمي بالذمام «2» ورفضه. وقرأ عبد الله نقضه فريق منهم وقال فريق منهم، لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون به كتاب الله يعنى التوراة، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها. وقيل: كتاب الله القرآن، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك «3» . يعنى أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم، مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه. وعن الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.

[سورة البقرة (2) : آية 102]
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)
__________
(1) . أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبى محمد حدثني سعيد بن جبير عنه بهذا.
(2) . قوله «بالذمام» في الصحاح: الذمام الحرمة. (ع)
(3) . قوله «لا يدخلهم فيه شك» لعله علما لا يدخلهم فيه شك. (ع)

(1/171)


واتبعوا أى نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين يعنى واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها على ملك سليمان أى على عهد ملكه وفي زمانه. وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا:
إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه تسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره وما كفر سليمان تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به «1» سليمان من اعتقاد السحر والعمل به وسماه كفرا ولكن الشياطين هم الذين كفروا باستعمال السحر وتدوينه يعلمون الناس السحر يقصدون به إغواءهم وإضلالهم وما أنزل على الملكين عطف على السحر، أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل: هو عطف على ما تتلو، أى واتبعوا ما أنزل. هاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس. من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه «2»
__________
(1) . قوله «لما بهتت به» أى قالت عليه ما لم يفعله. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه
لأبى نواس. ومعنى «لكن» هنا. للاضراب الانتقالى. ويمكن أن يتوهم من قوله «لا للشر» أنه لم يعرف الشر لأجل شيء من متعلقاته رأسا فدفع هذا التوهم بقوله: لكن عرفته لتوقيه، فهي للاستدراك، أى عرفته لأجل التحفظ منه. و «من الناس» بيان لمن مؤكد للعموم، ويقع جزم في جواب الشرط، أى من جهل الشر وقع فيه، كالمار إذا جهل البئر المغطاة في طريقه. واستروحوا بذلك لجواز تعلم نحو السحر للتمكن من تجنبه. ويجوز أن «من الناس» صفة للشر، و «من» بيانية أو ابتدائية. ويروى «من الخير» أى من لم يميز الشر من الخير يقع في الشر.

(1/172)


كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) . وقرأ الحسن (على الملكين) بكسر اللام، على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل. وما يعلم الملكان أحدا حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له إنما نحن فتنة أى ابتلاء واختيار من الله فلا تكفر فلا تتعلم معتقدا أنه حق فتكفر فيتعلمون الضمير لما دل عليه من أحد.
أى فيتعلم الناس من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه أى علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد، ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف «1» ابتلاء منه، لا أن السحر له في نفسه بدليل قوله تعالى:
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله لأنه ربما أحدث الله عنده فعلا من أفعاله وربما لم يحدث ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يقصدون به الشر. وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أى استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله ما له في الآخرة من خلاق من نصيب ولبئس ما شروا به أنفسهم أى باعوها. وقرأ الحسن: الشياطون. وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون. وقد ذكر وجهه فيما بعد. وقرأ الزهري (هاروت وماروت) بالرفع على: هما هاروت وماروت. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت- وهو الكسر كما زعم بعضهم- لانصرفا. وقرأ طلحة (وما يعلمان) من أعلم، وقرئ (بين المرء) بضم الميم وكسرها مع الهمز. والمر، بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف، «2» كقولهم: فرج، وإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الأعمش: وما هم بضارى، بطرح النون والإضافة إلى أحد والفضل بينهما بالظرف. فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءا «3» من المجرور. فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله (ولقد علموا) على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله: (لو كانوا يعلمون) ؟ قلت:
معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه.
__________
(1) . قوله «الفرك والنشوز» في الصحاح الفرك بالكسر البغض ولا يستعمل إلا بين الزوجين وقوله لا أن السحر الخ: مبنى على مذهب المعتزلة من أن السحر لا حقيقة له ولا تأثير له. وذهب أهل السنة إلى إثباته وإثبات تأثيره وإن كان تأثير كل شيء في غيره لا يكون إلا باذنه تعالى وهذا هو ظاهر الكتاب وظاهر السنة. (ع) [.....]
(2) . قوله «على تقدير التخفيف والوقف» أى في لغة من وقف بالتضعيف (ع)
(3) . قوله «قلت جعل الجار جزءا» ونظيره لا أبالك. (ع)

(1/173)


ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)

[سورة البقرة (2) : الآيات 103 الى 105]
ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)
ولو أنهم آمنوا برسول الله والقرآن واتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين لمثوبة من عند الله خير وقرئ: لمثوبة، كمشورة ومشورة لو كانوا يعلمون أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم.
فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك، فإن قلت:
فهلا قيل لمثوبة الله خير؟ قلت: لأن المعنى: لشيء من الثواب خير لهم. ويجوز أن يكون قوله (ولو أنهم آمنوا) تمنيا «1» لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل وليتهم آمنوا:، ثم ابتدئ لمثوبة من عند الله خير. كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، أى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه وتحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي «راعينا» فلما سمعوا بقول المؤمنين: راعنا، افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون به تلك المسبة، فهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو انظرنا من نظره إذا انتظره. وقرأ أبى: أنظرنا من النظرة، أى أمهلنا حتى نحفظ وقرأ عبد الله بن مسعود:
راعونا، على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع للتوقير: وقرأ الحسن: راعنا، بالتنوين من الرعن وهو الهوج، أى لا تقولوا قولا راعنا منسوبا إلى الرعن بمعنى رعنيا، كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم: راعينا، وكان سببا في السب اتصف بالرعن واسمعوا وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «ويجوز أن يكون قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا) تمنيا ... الخ» قال أحمد رحمه الله:
التمني مجاز عن إرادة الله تعالى لايمانهم وتقواهم من طراز تفسيره للعل بالارادة والرد عليه على سبيل ثم.

(1/174)


ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (108) ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)

حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعانة وطلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا، أو واسمعوا ما أمرتم به بجد حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه، تأكيدا عليهم ترك تلك الكلمة. وروى أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا: أو لستم تقولونها «1» فنزلت. وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه عذاب أليم من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب، والمشركون كقوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) والثانية مزيدة لاستغراق الخير، والثالثة لابتداء الغاية.
والخير الوحى، وكذلك الرحمة كقوله تعالى: (أهم يقسمون رحمت ربك) والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحى والله يختص بالنبوة من يشاء ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة والله ذو الفضل العظيم إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم كقوله تعالى: (إن فضله كان عليك كبيرا) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 110]
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107) أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل (108) ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في الدلائل من رواية محمد بن مروان السدى عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. في قوله تعالى: (لا تقولوا راعنا) قال «راعنا» بلسان اليهود السب القبيح- فكانت اليهود تقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرا. فلما سمعها أصحابه أعلنوا بها. فكانوا يقولونها ويضحكون منها: فسمعها سعد بن معاذ منهم. قال فذكره. والسدى هذا الصغير متروك. وكذا شيخه.

(1/175)


روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت. وقرئ (ما ننسخ من آية وما ننسخ: بضم النون، من أنسخ. أو ننسأها. وقرئ (ننسها) وننسها بالتشديد. وتنسها وتنسها، على خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ عبد الله. ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها. ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها.
الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها.
ونسؤها، تأخيرها وإذهابها. لا إلى بدل. وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى أن كل آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل نأت بآية خير منها للعباد، أى بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك على كل شيء قدير فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير له ملك السماوات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ. لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره، وقررهم على ذلك بقوله: (ألم تعلم) أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالا عليهم كقولهم: اجعل لنا إلها، أرنا الله جهرة، وغير ذلك ومن يتبدل الكفر بالإيمان ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة، وشك فيها، واقترح غيرها فقد ضل سواء السبيل روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم يروا ما أصابكم. ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال: فإنى قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت: فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما «1» . فنزلت. فإن قلت: بم تعلق قوله: من عند أنفسهم؟ «2» قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بود، على معنى أنهم تمنوا
__________
(1) . لم أجده مسندا. وهو في تفسير الثعلبي كذلك بلا سند ولا راو.
(2) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت: بم تعلق قوله من عند أنفسهم ... الخ؟» . قال أحمد رحمه الله: يبعد الوجه الثاني دخول عند. ويقرب الأول قوله تعالى: (تلك أمانيهم) .

(1/176)


وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)

أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟
وإما أن يتعلق بحسدا، أى حسدا متبالغا منبعثا من أصل أنفسهم فاعفوا واصفحوا فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة حتى يأتي الله بأمره الذي هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم إن الله على كل شيء قدير فهو يقدر على الانتقام منهم من خير من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما تجدوه عند الله تجدوا ثوابه عند الله إن الله بما تعملون بصير عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)
الضمير في وقالوا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه. ونحوه (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) ، والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ، وبازل وبزل. فإن قلت: كيف قيل كان هودا على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ «من» والخبر على معناه، كقراءة الحسن إلا من هو صالوا الجحيم. وقوله: (فإن له نار جهنم خالدين فيها) . وقرأ أبى بن كعب: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. فإن قلت: لم قيل تلك أمانيهم وقولهم (لن يدخل الجنة) أمنية واحدة «1» ؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: لم قيل تلك أمانيهم وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة ... الخ» ؟
قال أحمد رحمه الله: يبعد هذا الجواب قوله تعالى عقيب ذلك: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فان البرهان المطلوب منهم هاهنا إنما هو على صحة دعواهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم. ويحقق هذا قوله: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه) فإنما يعنى الجنة ونعيمها، ردا عليهم في نفى غيرهم عن دخولها ففي هذا دليل بين على أن الأمانى المشار إليها ليس إلا ما طولبوا بإقامة البرهان على صحته وهو أمنية واحدة والله أعلم. والجواب القريب: أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم جمعت، ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك وإن كان مؤداه واحدا. ونظيره قولهم: معا جياع، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد تأكيدا لثبوتها وتمكنها. وهذا المعنى أحد ما روى في قوله تعالى: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) فانه جمع قليلا وقد كان الأصل إفراده، فيقال لشرذمة قليلة كقوله تعالى: (كم من فئة قليلة) لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها. ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبائه زيادته على نظرائه نقلا مجازيا بديعا، فتدبر هذا الفصل فانه من نفائس صناعة البيان والله الموفق.

(1/177)


وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113) ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)

أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهو أمنيتهم «1» أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم: أى تلك الأمانى الباطلة أمانيهم. وقوله (قل هاتوا برهانكم) متصل بقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وتلك أمانيهم:
اعتراض، أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه. والأمنية أفعولة من التمني، مثل الأضحوكة والأعجوبة هاتوا برهانكم هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إن كنتم صادقين في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين. وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت.
و «هات» صوت بمنزلة هاء، بمعنى أحضر بلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة من أسلم وجهه لله من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره وهو محسن في عمله فله أجره الذي يستوجبه. فإن قلت: من أسلم وجهه كيف موقعه؟ قلت: يجوز أن يكون (بلى) ردا لقولهم، ثم يقع (من أسلم) كلاما مبتدأ، ويكون (من) متضمنا لمعنى الشرط، وجوابه (فله أجره) ، وأن يكون (من أسلم) فاعلا لفعل محذوف، أى بلى يدخلها من أسلم، ويكون قوله: (فله أجره) كلاما معطوفا على يدخلها من أسلم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 113 الى 114]
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113) ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)
على شيء أى على شيء يصح ويعتد به. وهذه مبالغة عظيمة، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء «2» ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده «3» . وهذا كقولهم: أقل من لا شيء وهم يتلون الكتاب الواو للحال، والكتاب
__________
(1) . قوله «وهو أمنيتهم» لعله: وهي. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «هذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وتفسيره الشيء مخالف لفريقى أهل السنة والبدعة، فانه عند أهل السنة قاصر على الموجود وعند المعتزلة يطلق على الموجود وعلى المعدوم الذي يصح وجوده، فليس متناولا للمحال بحال عندهما، وقد تقدم له مثله.
(3) . قوله «إلى ما ليس بعده» لعل المعنى: إلى حد ليس بعده حد. (ع)

(1/178)


للجنس. أى قالوا ذلك، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا كذلك أى مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج قال الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم. وروى أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة «1» فالله يحكم بين اليهود والنصارى يوم القيامة بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وعن الحسن: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار أن يذكر ثانى مفعولي منع. لأنك تقول: منعته كذا. ومثله (وما منعنا أن نرسل) ، (وما منع الناس أن يؤمنوا) ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن، ولك أن تنصبه مفعولا له بمعنى كراهة أن يذكر، وهو حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم، والسبب فيه أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا. وقيل أراد به منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. فإن قلت: فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت: لا بأس أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن أذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممن أذى الصالحين. وكما قال الله عز وجل: (ويل لكل همزة لمزة) والمنزول فيه الأخنس بن شريق وسعى في خرابها بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان. وينبغي أن يراد ب «من» منع العموم كما أريد بمساجد الله، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين أولئك المانعون ما كان لهم أن يدخلوها أى ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وقيل ما كان لهم في حكم الله، يعنى أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقويهم حتى
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية ابن إسحاق حدثني محمد بن أبى محمد حدثني سعيد أو عكرمة عن ابن عباس به وفيه «أن قائل اليهود اسمه رافع بن حريملة» .

(1/179)


ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115) وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)

لا يدخلوها إلا خائفين. روى أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة.
وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضربا وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان «1» » وقرأ عبد الله: إلا خيفا، وهو مثل صيم «2» . وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوزه أبو حنيفة رحمه الله، ولم يجوزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقيل: معناه النهى عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) . خزي قتل وسبى، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل: فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية.

[سورة البقرة (2) : آية 115]
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115)
ولله المشرق والمغرب أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها فأينما تولوا ففي أى مكان فعلتم التولية، يعنى تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى:
(فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) . فثم وجه الله أى جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أى بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص إسكانها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان إن الله واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم عليم بمصالحهم. وعن ابن عمر نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وعن عطاء: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل: معناه فأينما تولوا للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة. وقرأ الحسن: فأينما تولوا، بفتح التاء من التولي يريد: فأينما توجهوا القبلة.

[سورة البقرة (2) : آية 116]
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)
وقالوا وقرئ بغير واو، يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله والملائكة بنات الله. سبحانه تنزيه له عن ذلك وتبعيد بل له ما في السماوات والأرض هو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح كل له قانتون منقادون، لا يمتنع شيء منه على
__________
(1) . متفق عليه من رواية حميد بن عبد الرحمن: عن أبى هريرة رضى الله عنه.
(2) . قوله «وهو مثل صيم» في الصحاح: قوم صوم وصيم. (ع)

(1/180)


بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)

تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد. والتنوين في: (كل) عوض من المضاف إليه، أى كل ما في السموات والأرض. ويجوز أن يراد كل من جعلوه لله ولدا له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم. فإن قلت: كيف جاء بما التي لغير أولى العلم مع قوله قانتون؟ قلت: هو كقوله: سبحان ما سخر كن لنا. وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم، كقوله: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) .

[سورة البقرة (2) : آية 117]
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)
يقال بدع الشيء فهو بديع، كقولك: بزع الرجل «1» فهو بزيع. وبديع السماوات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أى بديع سماواته وأرضه. وقيل البديع بمعنى المبدع، كما أن السميع في قول عمرو:
أمن ريحانة الداعى السميع «2»
بمعنى المسمع وفيه نظر كن فيكون من كان التامة، أى أحدث فيحدث. وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم، كما لا قول في قوله:
إذ قالت الأنساع للبطن الحق «3»
وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء.
__________
(1) . قوله «بزع الرجل» بزع بالزاي كظرف وزنا ومعنى. أفاده الصحاح وصرح كقولك بأنه لا يوصف به الأحداث. (ع) [.....]
(2) . مر شرح هذا الشاهد صفحة 60 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
إذا قالت الأنساع للبطن الحق ... قدوما فآضت كالفنيق المحنق
لأبى النجم العجلى. والنسع- بالكسر-: حزام عريض يشد به وسط الدابة وستر الهودج. والحق: فعل أمر، أى التصق يا بطن بالظهر وانضمر. وقدوما: نصب على المصدر بمحذوف أو بما قبله على أنه مفعول له. وآض يئيض أيضا: إذا صار يصير، أو رجع يرجع، أى صارت الناقة كالفنيق. ويروى: فأحنت، أى حقدت واغتاظت الناقة، وأصله بكسر الحاء فسكن تخفيفا كما تقدم في ضجر ودبر. والفنيق: الفحل المنعم المكرم. يقال: أفنقه، إذا نعمه. وجارية فنقة: ناعمة. والمحنق: المغيظ، من الحنق وهو الحقد والغيظ. ويروى «إذ قالت» بدل «إذا قالت» . والحق: بوصل الهمزة وقطعها. والمحنق بسكون الحاء، فيكون من الرجز، لا من الطويل. وقدم قدما، كنصر نصرا، إذا تقدم. والظاهر أن هذه الرواية هي الصواب لكثرة رجز أبى النجم. وإثبات القول للأنساع ومخاطبتها البطن من باب التمثيل. والمعنى أنه شد عليها أدوات السفر فاغتاظت غيظا شديدا، كالفحل المكرم الذي غاظه غيره.

(1/181)


وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120)

أكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. وقرئ (بديع السماوات) مجرورا على أنه بدل من الضمير في له. وقرأ المنصور بالنصب على المدح.

[سورة البقرة (2) : آية 118]
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118)
وقال الذين لا يعلمون وقال الجهلة من المشركين، وقيل من أهل الكتاب، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به: لولا يكلمنا الله هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؟ استكبارا منهم وعتوا أو تأتينا آية جحودا لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات، واستهانة بها تشابهت قلوبهم أى قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى، كقوله: (أتواصوا به) . قد بينا الآيات لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها.

[سورة البقرة (2) : آية 119]
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم (119)
إنا أرسلناك لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك عن أصحاب الجحيم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم، كقوله: (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) وقرئ: (ولا تسئل) على النهى. روى أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواى، فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وقيل: معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان؟ سائلا عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل.
وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله: ولن تسئل، وقراءة أبى: وما تسئل.

[سورة البقرة (2) : آية 120]
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120)
كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا، إقناطا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام، فحكى الله عز وجل كلامهم، ولذلك قال:

(1/182)


الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121) يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)

قل إن هدى الله هو الهدى على طريقة إجابتهم عن قولهم، يعنى أن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى. ألا ترى إلى قوله: ولئن اتبعت أهواءهم أى أقوالهم التي هي أهواء وبدع بعد الذي جاءك من العلم أى من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 123]
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123)
الذين آتيناهم الكتاب هم مؤمنون أهل الكتاب يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرفين ومن يكفر به من المحرفين فأولئك هم الخاسرون حيث اشتروا الضلالة بالهدى

[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 125]
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات اختبره بأوامر ونواه. واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار «1» أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رضى الله عنه وهي قراءة ابن عباس رضى الله عنه: (إبراهيم ربه) رفع إبراهيم ونصب ربه. والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا؟ فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر. قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم. فأما ابتلى إبراهيم ربه، أو ابتلى ربه إبراهيم، فليس واحدا منهما بإضمار قبل الذكر. أما الأول فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكرا ظاهرا. وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدم في المعنى، وليس كذلك: ابتلى ربه إبراهيم. فإن الضمير فيه قد تقدم لفظا ومعنى فلا سبيل إلى
__________
(1) . قوله «تمكينه عن اختيار» لعله من.

(1/183)


صحته. والمستكن في فأتمهن في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى: فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ونحوه (وإبراهيم الذي وفى) وفي الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا. ويعضده ما روى عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله: (رب اجعل هذا بلدا آمنا) ، (واجعلنا مسلمين لك) ، (وابعث فيهم رسولا منهم) . (ربنا تقبل منا) فإن قلت: ما العامل في إذ؟ قلت: إما مضمر نحو: واذكر إذ ابتلى أو وإذا ابتلاه كان كبت وكيت، وإما قال إني جاعلك. فإن قلت: فما موقع قال؟ قلت: هو على الأول استئناف، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال إنى جاعلك للناس إماما. وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها. ويجوز أن يكون بيانا لقوله: (ابتلى) وتفسيرا له فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده. والإسلام قبل ذلك في قوله: (إذ قال له ربه أسلم) وقيل في الكلمات: هن خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن: الختان، والاستحداد، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. وقيل ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهما: عشر في براءة (التائبون العابدون) ، وعشر في الأحزاب (إن المسلمين والمسلمات) ، وعشر في المؤمنون وسأل سائل إلى قوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وقيل هي مناسك الحج، كالطواف والسعى والرمي والإحرام والتعريف وغيرهن. وقيل: ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار والهجرة. والإمام اسم من يؤتم به على زنة الآلة، كالإزار لما يؤتزر به، أى يأتمون بك في دينهم ومن ذريتي عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك:
سأكرمك، فتقول: وزيدا لا ينال عهدي الظالمين وقرئ: الظالمون، أى من كان ظالما من ذريتك. لا يناله استخلافى وعهدى إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم.
وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، كالدوانيقى وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونى على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للامامة، والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم. والبيت

(1/184)


اسم غالب للكعبة، كالنجم للثريا مثابة للناس مباءة ومرجعا للحجاج والعمار، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أى يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم وأمنا موضع أمن، كقوله (حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) ولأن الجاني يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج.
وقرئ: مثابات، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم (سواء العاكف فيه والباد) واتخذوا على إرادة القول، أى وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه. وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام ابراهيم، فقال عمر أفلا نتخذه مصلى- يريد أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركا به وتيمنا بموطئ قدم إبراهيم- فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت» «1» . وعن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) «2» وقيل:
مصلى مدعى. ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم. وعن عمر رضى الله عنه أنه سأل المطلب بن أبى وداعة: هل تدرى أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم. وعن عطاء (مقام إبراهيم) عرفة والمزدلفة والجمار، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها. وعن النخعي:
الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على: (جعلنا) أى واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها عهدنا أمرناهما أن طهرا بيتي بأن طهرا، أو أى طهرا. والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم والعاكفين المجاورين الذين عكفوا عنده، أى أقاموا لا يبرحون، أو المعتكفين. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعنى القائمين في الصلاة، كما قال: (للطائفين والقائمين والركع السجود) ، والمعنى: للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلى.
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم من رواية مجاهد عن ابن عمر «أن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضى الله عنه فمر على المقام فقال له: يا نبى الله هذا مقام ابراهيم؟ قال نعم. قال ألا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) - الآية وقال: غريب من رواية- مجاهد. تفرد به جعفر بن محمد المدائني عن أبيه عن هارون الأعور عن أبان بن تغلب عن الحكم عن مجاهد. وفي الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال: قال عمر رضى الله عنه «وافقنى ربى في ثلاث- فذكر الحديث» وفيه «قلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت» .
(2) . هكذا ذكره. والذي في صحيح مسلم في الحديث الطويل في صفة الحج «أنه قرأ الآية لما فرغ من الطواف ثم صلى»

(1/185)


وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129)

[سورة البقرة (2) : آية 126]
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
أى اجعل هذا البلد أو هذا المكان بلدا آمنا ذا أمن، كقوله: (عيشة راضية) . أو آمنا من فيه، كقوله: ليل نائم. ومن آمن منهم بدل من أهله، يعنى وارزق المؤمنين من أهله خاصة. ومن كفر عطف على من آمن كما عطف (ومن ذريتي) على الكاف في جاعلك فإن قلت: لم خص إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعى، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة له. والمعنى:
وأرزق من كفر فأمتعه. ويجوز أن يكون (ومن كفر) مبتدأ متضمنا معنى الشرط. وقوله (فأمتعه) جوابا للشرط، أى ومن كفر فأنا أمتعه. وقرئ فأمتعه فأضطره «1» فألزه إلى عذاب النار لز المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، وقرأ أبى: فنمتعه قليلا ثم نضطره.
وقرأ يحيى بن وثاب: فاضطره، بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس فأمتعه قليلا ثم اضطره، على لفظ الأمر. والمراد الدعاء من إبراهيم دعا ربه بذلك. فإن قلت: فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت: في: (قال) ضمير إبراهيم، أى قال إبراهيم بعد مسألته اختصاص المؤمنين بالرزق: ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره. وقرأ ابن محيصن: فاطره، بإدغام الضاد في الطاء كما قالوا: اطجع، وهي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف «ضم شفر» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129]
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129)
__________
(1) . قوله «فأضطره» التلاوة: ثم أضطره (ع)

(1/186)


يرفع حكاية حال ماضية. والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة. ومنه قعدك الله، أى أسأل الله أن يقعدك أى يثبتك. ورفع الأساس:
البناء «1» عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء «2» لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه. ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافا فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت- أى استوطأ- يعنى جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء، وروى أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم فبنى على الأساس. وروى أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد: شرقى وغربي، وقال لآدم عليه السلام:
أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا، وتلقته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام «3» وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبريل مكانه. وقيل بعث الله سحابة أظلته: ونودي: أن ابن على ظلها لا نزد ولا تنقص. وقيل: بناه من خمسة أجبل طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وأسسه من حراء. وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء. وقيل: تمخض أبو قبيس فانشق عنه، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتة بيضاء من الجنة، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. وقيل كان إبراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة ربنا أى يقولان ربنا. وهذا الفعل في محل النصب على الحال، وقد أظهره عبد الله في قراءته،
__________
(1) . قوله «ورفع الأساس البناء» لعله الأسس- بضمتين. (ع)
(2) . قوله «المراد بها سافات البناء» قوله «سافات» عبارة أبى السعود. والفخر «ساقات» بالقاف بدل الفاء.
والصواب أنه بالفاء كما في الصحاح في باب الفاء: الساف: كل عرق من الحائط. (ع)
(3) . أخرجه الفاكهي في كتاب مكة من رواية الضحاك هو ابن مزاحم. قال: قال حذيفة: وسلمان الفارسي «سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله أنزل البيت من ياقوتة حمراء نزلت به الملائكة مع آدم، فنزلت به في الحرم ونزل آدم في الهند في جبل يقال له واشب بأرض الهند ونزل إبليس بالحرم فحول الله إبليس إلى أرض الهند وحول آدم إلى الحرم. الحديث. وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه أيضا من طريق ابن إدريس عن أبيه عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل كعبا قال: أخبرنى عن بناء هذا البيت ما كان أمره؟ فقال: إن هذا البيت، أنزله الله من السماء ياقوتة حمراء مجوفة مع آدم» وفي رواية النهاس بن قهم: سمعت عطاء يقول «قال آدم يا رب أين توجهني؟ قال تبنى لي بتهامة بيتا مما يلي البحر يطاف حوله، كما تطوف الملائكة حول عرشي. ويصلى عنده كما تصلى الملائكة عند عرشي. فأقبل نحو البيت. مما يلي الصفا. فطاف بالبيت وصلى عنده. قال النهاس: وحدثني عقيل على بن سفيان. حدثنا عطاء عن عبد الله بن عمرو بمثله وقال الفاكهي في كتاب مكة أيضا: حدثنا ابن عمرو.
حدثنا سفيان عن ابن أبى لبيد قال «حج آدم فتلقته الملائكة فقالوا: أبر نسكك. فقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» وهكذا هو في جامع سفيان بن عيينة.

(1/187)


ومعناه: يرفعانها قائلين ربنا إنك أنت السميع لدعائنا العليم بضمائرنا ونياتنا. فإن قلت: هلا قيل: قواعد البيت، وأى فرق بين العبارتين؟ قلت: في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين مسلمين لك مخلصين لك أوجهنا، من قوله: (أسلم وجهه لله) أو مستسلمين. يقال: أسلم له وسلم واستسلم، إذا خضع وأذعن. والمعنى: زدنا إخلاصا أو إذعانا لك. وقرئ (مسلمين) على الجمع، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر، أو أجريا التثنية على حكم الجمع لأنها منه ومن ذريتنا واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك و (من) للتبعيض أو للتبيين، كقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم) . فإن قلت:
لم خصا ذريتهما بالدعاء؟ قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) ، ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير. ألا ترى أن المقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد، كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل: أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأرنا منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرف. ولذلك لم يتجاوز مفعولين، أى وبصرنا متعبداتنا في الحج، أو وعرفناها. وقيل: مذابحنا. وقرئ: وأرنا، بسكون الراء قياس على فخذ في فخذ. وقد استرذلت، لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها، فإسقاطها إجحاف. وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة. وقرأ عبد الله: وأرهم مناسكهم. وتب علينا ما فرط منا «1» من الصغائر أو استتابا لذريتهما وابعث فيهم في الأمة المسلمة رسولا منهم من أنفسهم. وروى أنه قيل له: قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث الله فيهم محمدا صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام «أنا دعوة أبى إبراهيم وبشرى أخى عيسى ورؤيا أمى «2»
__________
(1) . قوله «وتب علينا ما فرط منا» لعله على تضمين تب معنى اغفر. (ع)
(2) . أخرجه أحمد والبزار وابن حبان. والطبراني والحاكم من حديث العرباض بن سارية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنى عبد الله وخاتم النبيين، وأبى آدم منجدل في طينته وأخبركم عن ذلك. دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى التي رأت- الحديث» ولأحمد من حديث أبى أمامة رضى الله عنه «قلت:
يا رسول الله. ما كان بدؤ أمرك قال: دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمى أنه خرج منها نور أضاءت به قصور الشام» ورواه البيهقي في الشعب. ثم قال «أما دعوة إبراهيم فهي قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) وأما بشارة عيسى فهي قوله تعالى: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . قال: وأما رؤيا أمه فذكر ابن إسحاق في السيرة قال «كانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت» ولأبى يعلى عن شداد بن أوس رفعه «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى ابن مريم، وأن أمى رأت في المنام نورا قالت: فجعلت أتبع بصرى النور فجعل النور يسبق بصرى حتى أضاء لي مشارق الأرض ومغاربها» وللحاكم في المستدرك من طريق ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمى أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» .

(1/188)


ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)

يتلوا عليهم آياتك يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ويعلمهم الكتاب القرآن والحكمة الشريعة وبيان الأحكام ويزكيهم ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 131]
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)
ومن يرغب إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم. ومن سفه في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب، وصح البدل لأن من يرغب غير موجب، كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد (سفه نفسه) امتهنها واستخف بها.
وأصل السفه: الخفة. ومنه زمام سفيه. وقيل انتصاب النفس على التمييز، نحو: غبن رأيه وألم رأسه. ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله:
ولا بفزارة الشعر الرقابا «1»
أجب الظهر ليس له سنام «2»
__________
(1) .
فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقومي- إن سألت- بنو لؤي ... بمكة علموا مضر الصوابا
لحارث بن ظالم المري، يدعى أنه من قريش، وأن أمه خرجت به إلى مرة وهو صغير، فنسب إليهم. وثعلبة وفزارة ومضر: أسماء قبائل، ووصف ثعلبة بابن لها للأصل فانه اسم أبى القبيلة. والشعر: جمع أشعر كحمر وأحمر. والرقاب:
تمييز معرفة على رأى الكوفيين. وأشعر الرقبة يطلق على الأسد، وعلى أغم القفا- وهو المراد. يقول: ليس قومي هؤلاء الأخسة، وإنما أنا من بنى لؤي. وإن سألت: اعتراض بين المبتدأ وخبره. ومضر، والصواب:
مفعولان لعلموا.
(2) .
فان يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذئاب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
النابعة الذبياني يرثى النعمان المعافى بن الحارث الأصغر ملك العرب. وقيل لجرير، وليس بذاك. يقول: فان يتبين هلاك النعمان يتبين هلاك ربيع الناس. شبهه بالربيع وهو المطر، أو النهر، أو فصل الربيع، أو الخصب، في أن كلا يعم خيره الناس. وشبهه بالشهر الحرام في أن كلا أمان للناس من الحروب والمخاوف. وروى: والبلد الحرام.
أى مكة. شبهه بها في الأمان أيضا. ويجوز أن المعنى إن يهلك هو يهلك تبعا له عطاؤه وجاهه الشبيهان بالربيع وبالشهر الحرام في النفع والأمان، وكل ذلك على سبيل الاستعارة التصريحية. ويجوز أنه كان يحفظ لهم ربيعهم عن رعى غيرهم وحرمة شهرهم عن هتكها، بأن يغار عليهم فيه، فلا استعارة إلا في هلاك الشهر. وروى نأخذ: بالحركات الثلاث، وكذلك كل مضارع معطوف على جواب الشرط، فالجزم على العطف، والرفع على الاستئناف. والنصب بإضمار إن لشبه الشرط بالنفي، لكنه قليل. والذناب- بالكسر-: ذنب البعير والفرس، وعقب كل شيء. وشبه العيش الضنك الضيق الناقص ببعير مهزول على طريق المكنية. والذناب، والظهر، والسنام- بالفتح- تخييل، وأجب الظهر: منقطعه، أى ونتمسك بعده بطرف عيش وبقية منه ضيقة قليلة، كالبعير المقطوع الظهر، وبين ذلك بقوله: ليس له سنام. وأجب: صفة مشبهة ممنوع من الصرف، فيجر بالفتحة على الصفة لعيش. وقيل نصب على الحال. وروى بالرفع على الخبرية لمحذوف، ويروى الظهر بالرفع، فاعلا للصفة، أو بدلا من الضمير فيها وفتحه النحاة، وبالنصب تشبيها بالمفعول أو تمييزا على مذهب من ميز بالمعرفة وضعفوه وبالجر باضافة أجب إليه فيجر أجب بالكسرة، وحسنوا هذا.

(1/189)


وقيل معناه: سفه في نفسه، فحذف الجار، كقولهم: زيد ظنى مقيم، أى في ظنى. والوجه هو الأول. وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث «1» «الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس «2» » وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه «3» وتعجيزها، حيث خالف بها كل نفس عاقبة ولقد اصطفيناه بيان لخطإ رأى من رغب عن ملته، لأن من جمع
__________
(1) . أخرجه البزار من رواية ابن إسحاق عن عمرو بن دينار عن ابن عمر «قيل: يا رسول الله، أمن الكبر أن يتخذ الرجل الطعام فيكون عليه الجماعة، يلبس القميص النظيف» قال: ليس ذلك بالكبر. وإنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس» وذكر فيه قصة. وقال: لا نعلم رواه عن عمرو عن ابن عمر إلا ابن إسحاق اه.
وأخرجه الطبراني من رواية ابن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «قلت يا رسول الله أمن الكبر أن ألبس الثوب الحسن؟ قال: لا. قلت: فما الكبر؟ فذكره» ورواه البخاري في الأدب المفرد. من طريق الصعب بن زهير عن زيد بن أسلم قال لا نعلمه إلا عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال «جاء رجل فقال يا رسول الله: الكبر أن يكون لأحدنا حلة يلبسها؟ قال: لا ... الحديث» وأخرجه أيضا من رواية عبد العزير ابن محمد. وأخرجه البزار. من رواية أبى بكر بن أبى سبرة. وأخرجه أحمد في الزهد من رواية هشام بن سعد كلهم عن زيد به. وقال عبد بن حميد في مسنده: أخبرنا عبد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر فذكر حديثا وفيه: فقال معاذ «يا رسول الله أمن الكبر أن يكون لأحدنا الدابة فيركبها، أو النعلان، أو الثياب يلبسها، أو الطعام يجمع عليه أصحابه؟ قال: لا. ولكن الكبر أن يسفه الحق ويغمص المؤمنين» وموسى ضعيف.
وفي الطبراني من رواية عبد الحميد بن سليمان، عن عمارة بن غزية عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. أن عبد الله ابن عمرو قال «يا رسول الله، أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة؟ الحديث» وأخرجه الطبراني في الأوسط، ومسند الشاميين عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر نحوه، وفي الباب عن أبى هريرة: أخرجه ابن حبان وأخاكم من طريق ابن سيرين عنه، وعن ابن مسعود، أخرجه إسحاق وأبو يعلى والحاكم: أن مالك بن مرارة الرهاوي.
قال «يا رسول الله إن لي من الجمال ما ترى، وإنى لا أحب أحدا ان يفضلني بشركين فما فوقهما. أفهذا من البغي؟
قال: لا. الحديث» وعن أبى ريحانة. أخرجه أحمد والطبراني. وعن ثابت بن قيس، أخرجه الدارمي والطبراني.
وعن سوداء بن عمرو والحسين بن على أخرجهما الطبراني. وعن ابن عباس. أخرجه عبد بن حميد وعن عقبة بن عامر أخرجه أبو مسلم في الجامع من السنن له. [.....]
(2) . قوله «وتغمص الناس» أى تستصغرهم وتعيبهم. أفاده الصحاح (ع)
(3) . قوله «في إذالة نفسه» أى إهانتها. أفاده الصحاح (ع)

(1/190)


ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)

الكرامة عند الله في الدارين، بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا وكان مشهودا له بالاستقامة على الخير في الآخرة، لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه إذ قال ظرف لاصطفيناه، أى:
اخترناه في ذلك الوقت. أو انتصب بإضمار «اذكر» استشهادا على ما ذكر من حاله. كأنه قيل:
اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله. ومعنى قال له: أسلم، أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام قال أسلمت أى فنظر وعرف.
وقيل أسلم: أى أذعن وأطع. وروى أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة: إنى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فنزلت.

[سورة البقرة (2) : آية 132]
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)
قرئ: وأوصى، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام. والضمير في بها لقوله أسلمت لرب العالمين على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: (وجعلها كلمة باقية) إلى قوله: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) وقوله: كلمة باقية، دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة ويعقوب عطف على إبراهيم، داخل في حكمه. والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضا.
وقرئ: ويعقوب، بالنصب عطفا على بنيه. ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب يا بني على إضمار القول عند البصريين. وعند الكوفيين يتعلق بوصي، لأنه في معنى القول.
ونحوه قول القائل:
رجلان من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلا عريانا «1»
بكسر الهمزة: فهو بتقدير القول عندنا، وعندهم يتعلق بفعل الإخبار. وفي قراءة أبى وابن مسعود: أن يا بنى اصطفى لكم الدين أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام.
ووفقكم للأخذ به فلا تموتن معناه فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، كقولك: لا تصل إلا وأنت
__________
(1) . رجلان بالسكون للتخفيف والوزن، كما يسكن عضد. وضبة: اسم قبيلة. وروى بدله «من مكة» والاخبار فيه معنى القول، فلذلك كسرت بعده إن على الحكاية، أى قالا لنا ذلك القول وهو: أنا رأينا. ومذهب الكوفيين أن الجملة المحكية في محل نصب بالفعل المذكور. ومذهب البصريين بقول مقدر. وقال بعضهم: الظاهر أنها مفسرة فلا محل لها، وروى بالفتح على حذف الجار، أى بأنا رأينا.

(1/191)


أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)

خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته. فإن قلت: فأى نكتة في إدخال حرف النهى على الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت: النكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، فكأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «1» فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد:
لا تصل إلا في المسجد: وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. وتقول في الأمر أيضا: مت وأنت شهيد. وليس مرادك الأمر بالموت. ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته، وإظهارا لفضلها على غيرها، وأنها حقيقة بأن يحث عليها.

[سورة البقرة (2) : آية 133]
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)
أم كنتم شهداء هي أم المنقطعة «2» . ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والشهداء جمع شهيد، بمعنى الحاضر: أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أى حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك «3» وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحى. وقيل
__________
(1) . أخرجه الدارقطني والحاكم من رواية أبى سلمة. عن أبى هريرة وفيه سليمان بن داود اليماني. وهو ضعيف.
والدارقطني وابن عدى. والعقيلي من حديث جابر. وفيه محمد بن مسكين. وهو ضعيف. وأخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة عمر بن راشد عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة، وقال كان عمر بن راشد يضع الحديث. وقد صح موقوفا عن على رضى الله عنه. أخرجه ابن أبى شيبة
(2) . قوله «هي أم المنقطعة» هي تفسير ببل والهمزة. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «الخطاب فيه للمؤمنين بمعنى ما شاهدتم ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وإنما اختار على هذا التفسير أن تكون متصلة، لأنه لو جعلها منقطعة كالأول، لكان مضمون الكلام نفى شهود المخاطبين وهم اليهود على هذا التفسير الثاني، لوفاة يعقوب والوصية بالإسلام، وحينئذ يكون ذلك كاقامة حجتهم على جحد الإسلام وإنكار أن يكون الأنبياء مسلمين والغرض ضد ذلك. وإنما كان الكلام يقتضى النفي حينئذ، لأن الاستفهام من الله تعالى لا يحمل على ظاهره، فتعين صرفه إلى الإنكار، لأن السياق يقتضيه. ولهذا كان نفيا لشهود المسلمين وفاة يعقوب ووصيته على التفسير الأول، لا سيما والمعتاد خطاب اليهود المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام بما يخاطب به أوائلهم، تنزيلا لعلمهم ورضاهم منزلة حضورهم وتعاطيهم، كقوله تعالى: (وإذ قتلتم نفسا) ، (وإذ قلتم يا موسى) إلى أشباه ذلك، فإذا كانت أم متصلة والخطاب لليهود فقد جرى الأمر في خطابهم على المعتاد، وإذا كانت منقطعة انعكس الأمر.

(1/192)


الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبى إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، يعنى أن أوائلكم من بنى إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ وقرئ (حضر) بكسر الضاد وهي لغة. ما تعبدون أى شيء تعبدون؟ و (ما) عام في كل شيء فإذا علم فرق بما ومن، وكفاك دليلا قول العلماء «من» لما يعقل. ولو قيل: من تعبدون، لم يعم إلا أولى العلم وحدهم. ويجوز أن يقال: (ما تعبدون) سؤال عن صفة المعبود. كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق عطف بيان لآبائك. وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه، لأن العم أب والخالة أم، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما. ومنه قوله عليه السلام «عم الرجل صنو أبيه» «1» أى لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقال عليه الصلاة والسلام في العباس «هذا بقية «2» آبائي» وقال «ردوا على أبى، فإنى أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» «3» وقرأ أبى: وإله إبراهيم، بطرح آبائك. وقرئ: أبيك. وفيه وجهان: أن يكون واحدا وإبراهيم وحده عطف بيان له، وأن يكون جمعا بالواو والنون. قال:
وفديننا بالأبينا «4»
إلها واحدا بدل من إله آبائك، كقوله تعالى: (بالناصية ناصية كاذبة) أو على
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة. في قصة العباس وخالد بن الوليد وابن جميل لما امتنعوا من إعطاء الصدقة.
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا ابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احفظوني في العباس فانه بقية آبائي. وإن عم الرجل صنو أبيه» ورواه الطبراني في الأوسط من رواية موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عن أبيه عن جده عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «احفظوني- فذكر مثله» ورواه في الكبير من حديث ابن عباس من وجهين.
(3) . قال ابن أبى شيبة في المغازي في مصنفه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة. قال: «لما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة الحديث» إلى أن قال «فانطلق العباس فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الشهباء وانطلق إلى قريش ليدعوهم إلى الله فأبطأ عليه. يقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا على أبى فان عم الرجل صنو أبيه. إنى أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود:
دعاهم إلى الله فقتلوه. أما والله لئن ركبوها منه لأضر منها عليهم نارا.
(4) .
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا
يقول لما تبين النساء أصواتنا في الحرب وعرفتها، بكين شفقة علينا ورحمة لنا، وفديننا: أى كل واحدة تقول:
فداكم أبى، أو تقول لصاحبتها: فداك أبى. والأبينا: جمع أب معرب إعراب جمع التصحيح.

(1/193)


تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (134) وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)

الاختصاص، أى نريد بإله آبائك إلها واحدا ونحن له مسلمون حال من فاعل نعبد، أو من مفعوله، لرجوع الهاء إليه في له. ويجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أى ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون.

[سورة البقرة (2) : آية 134]
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134)
تلك إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون. والمعنى:
أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم. ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنى هاشم، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم «1» » ولا تسئلون عما كانوا يعملون ولا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم.

[سورة البقرة (2) : آية 135]
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)
بل ملة إبراهيم بل تكون ملة إبراهيم أى أهل ملته كقول عدى بن حاتم. إنى من دين «2» » يريد من أهل دين. وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ: (ملة إبراهيم) بالرفع، أى ملته ملتنا، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته بمعنى أهل ملته. وحنيفا حال من المضاف إليه، كقولك:
رأيت وجه هند قائمة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. والحنف: الميل في القدمين. وتحنف إذا مال. وأنشد:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل دين «3»
وما كان من المشركين تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدعى اتباع إبراهيم
__________
(1) . لم أجده.
(2) . أخرجه ابن سعد من رواية ابن سيرين عن أبى عبيدة بن حذيفة. قال: قال عدى بن حاتم. فذكر قصة إسلامه. وفيه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم «يا عدى، أسلم تسلم. قال: إنى من دين. قال أنا أعلم بدينك منك»
(3) . الحنف والتحنف: الميل. والحنيف: المائل عن الباطل إلى الحق. يقول: خلقنا حال كوننا مائلا ديننا عن الأديان الباطلة كلها إلى دين أبينا إبراهيم، لأن العرب اتفقت على أنه حق، وذلك من وقت ابتداء خلقنا، فإذا:
ظرف للخلق الأول بعد تقييده بالحال بعده.

(1/194)


قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)

وهو على الشرك قولوا خطاب للمؤمنين. ويجوز أن يكون خطابا للكافرين، أى قولوا لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله: (بل ملة إبراهيم) يجوز أن يكون على: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم، أو كونوا أهل ملته.

[سورة البقرة (2) : الآيات 136 الى 137]
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)
والسبط: الحافد. وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط حفدة يعقوب ذرارى أبنائه الاثني عشر لا نفرق بين أحد منهم لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. و (أحد) في معنى الجماعة «1» . ولذلك صح دخول (بين) عليه بمثل ما آمنتم به من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) فلا يوجد إذا دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقا، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين، فقيل: فإن آمنوا بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أى: فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه أن دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى وما سواه باطل وضلال. ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه. هذا هو الرأى الصواب، فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك. ولكنك تريد تبكيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأى وراءه.
ويجوز أن لا تكون الباء صلة وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم أى فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: بما آمنتم به، وقرأ أبى: بالذي آمنتم به. وإن تولوا عما تقولون لهم ولم ينصفوا فما هم إلا
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وأحد في معنى الجماعة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وفيه دليل على أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا حتى يتنزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله الآحاد مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات. وذلك الدلالة على الماهية. وإنما لزم فيها العموم من حيث أن سلب الماهية يستوجب سلب الافراد لما بين الأعم والأخص من التلازم في جانب النفي، إذ سلب الأعم أخص من سلب الأخص فيستلزمه، فلو كان لفظا ما لا إشعار له بالتعدد والعموم وضعا لما جاز دخول بين عليها. [.....]

(1/195)


صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138) قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (141)

في شقاق أى في مناوأة ومعاندة «1» لا غير، وليسوا من طلب الحق في شيء. أو: وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها فسيكفيكهم الله ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بنى النضير. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وهو السميع العليم وعيد لهم، أى يسمع ما ينطقون به، ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه. أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى: يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق، وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.

[سورة البقرة (2) : آية 138]
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)
صبغة الله مصدر مؤكد منتصب على قوله: (آمنا بالله) كما انتصب (وعد الله) عما تقدمه، وهي «فعلة» من صبغ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ والمعنى: تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقا، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. أو يقول المسلمون. صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة، كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلا يصطنع الكرم ومن أحسن من الله صبغة يعنى أنه يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أو ضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته. وقوله ونحن له عابدون عطف على آمنا بالله. وهذا العطف يرد قول من زعم أن (صبغة الله) بدل من (ملة إبراهيم) أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه، «2» وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام

[سورة البقرة (2) : الآيات 139 الى 141]
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141)
__________
(1) . قوله: «في مناوأة ومعاندة» في الصحاح: ناوأت الرجل مناوأة ونواء، عاديته. وربما لم يهمز.
وأصله الهمز. (ع)
(2) . قوله «واتساقه» في الصحاح: الاتساق الانتظام. وفيه أيضا: التنسيق التنظيم. (ع)

(1/196)


سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)

قرأ زيد بن ثابت (أتحاجونا) بإدغام النون. والمعنى: أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترونكم أحق بالنبوة منا وهو ربنا وربكم نشترك جميعا في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمى دون عربى إذا كان أهلا للكرامة ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم يعنى أن العمل هو أساس الأمر وبه العبرة، وكما أن لكم أعمالا يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك. ثم قال ونحن له مخلصون فجاء بما هو سبب الكرامة، أى ونحن له موحدون نخلصه بالإيمان فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوة، وكانوا يقولون: نحن أحق بأن تكون النبوة فينا، لأنا أهل كتاب والعرب عبدة أو ثان أم تقولون يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون أم معادلة للهمزة في: (أتحاجوننا) بمعنى أى الأمرين تأتون: ألمحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معا، وأن تكون منقطعة بمعنى:
بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضا، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة قل أأنتم أعلم أم الله يعنى أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما) . ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله أى كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ويحتمل معنيين: أحدهما أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم، لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. (ومن) في قوله: (شهادة عنده من الله) مثلها في قولك: هذه شهادة منى لفلان إذا شهدت له، ومثله (براءة من الله ورسوله)

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143]
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم (143)

(1/197)


سيقول السفهاء الخفاف الأحلام وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، وأنهم لا يرون النسخ. وقيل: المنافقون، لحرصهم على الطعن والاستهزاء. وقيل: المشركون، قالوا رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، والله ليرجعن إلى دينهم. فإن قلت: أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه «1» ؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم ما ولاهم ما صرفهم عن قبلتهم وهي بيت المقدس لله المشرق والمغرب أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها يهدي من يشاء من أهلها إلى صراط مستقيم وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة، من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة وكذلك جعلناكم ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا خيارا، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
ونحوه قوله عليه السلام: «وأنطوا «2» الثبجة «3» » يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفا بالثبج وهو وسط الظهر، إلا أنه الحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف. وقيل: للخيار: وسط «4» لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأعوار والأوساط محمية محوطة. ومنه قول الطائي:
كانت هى الوسط المحمى فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا «5»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «أى فائدة في الاخبار بقولهم قبل وقوعه ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله تعالى:
ولهذه النكتة أجرى من حذو النظار في إدراج مناظرتهم العمل بمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فسيقول: درء للمعارض قبل ذكر الخصم له، وهي نكتة بديعة أحسن ما يستدل على صحتها بهذه الآية. فتفطن لها فإنها من الملح.
(2) . قوله «وأنطوا الثبجة» لغة في أعطوا. (ع)
(3) . يأتى في الكوثر
(4) . قال محمود رحمه الله: «وقيل للخيار وسط ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا مما اقتضى المجاز فيه التعميم
(5) .
وغيضة الموت أعنى البذ قدت لها ... عرمرما لخروق الأرض معتسفا
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
لأبى تمام، يخاطب المعتصم. والغيضة: مغيض الماء. يجتمع فيه ثم يغيض ويذهب فينبت فيه الشجر والنبات. والمراد هنا: موضع العسكر. والبذ: اسم قلعة لبابك الخرمى. والعرمرم: الجيش الكثير. وخروق الأرض: طرائقها.
والمعتسف: الحائد عن الطريق لكثرته. شبه ذلك الموضع بالغيضة على سبيل التهكم بأصحابه، لأنها تضاف للماء، فأضافها للموت. وشبه الجيش في الانقياد بالإبل على طريق المكنية وقودهم تخييل، وكنى بالوسط عن التي لا يصل إليها الخلل لأنها محمية بالأطراف فاكتنفت وأحاطت بها الحوادث، يعنى جيوش المعتصم، حتى أصبحت تلك الغيضة طرفا فلحقها الخلل ومكاره الجيش.

(1/198)


وقد اكتريت بمكة جمل أعرابى للحج فقال: أعطنى من سطاتهنه، أراد من خيار الدنانير.
أو عدولا، لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض لتكونوا شهداء على الناس روى «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعد التهم «1» » وذلك قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) . فإن قلت: فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم لا عليهم «2» ؟
قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له، جيء بكلمة الاستعلاء. ومنه قوله تعالى:
(والله على كل شيء شهيد) ، (كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) . وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار ويكون الرسول عليكم شهيدا يزكيكم ويعلم بعدالتكم. فإن قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا «3» ؟ قلت: لأن الغرض في
__________
(1) . موقوف: أخرجه الطبري عن زيد بن أسلم موقوفا. وأخرجه في تفسير النسائي من قول السدى أيضا.
وفي البخاري من حديث أبى سعيد الخدري. قال «يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول:
هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:
محمدا وأمته. فيشهدون أنه بلغ ثم قرأ (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) - الآية ورواه البيهقي في البعث والنشور من رواية أبى معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء النبي يوم القيامة ومعه الثلاثة والأربعة والرجلان، حتى يجيء النبي وليس معه أحد، فتدعى أمة محمد فيشهدون أنهم بلغوا.
فيقال لهم: وما علمكم أنهم بلغوا فيقولون: جاءنا رسولنا بكتاب أخبرنا فيه أنهم قد بلغوا فصدقنا. قال فيقال:
صدقتم. وذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) .
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم لا عليهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وجه الاستدلال بالآية أنه وصف الله تعالى في أولها بالرقيب وفي آخرها بالشهيد على وجه التخصيص أولا ثم التعميم ثانيا: وإنما ينتظم التعميم والتخصيص مع اتحاد مؤدى الرقيب والشهيد، إذ الآية في مثل قول القائل لمن شكره: كنت محسنا إلى وأنت بكل أحد محسن. وكأنه لما قال: (كنت أنت الرقيب عليهم)
وكان ذلك مخصصا لرقيبته تعالى على بنى إسرائيل، أراد أن يصفه بما هو أهله حتى ينفى وهم الخصوصية فقال في التقدير: وأنت على كل شيء كذلك، فوضع «شهيدا» موضع «كذلك» المشار به إلى رقيبيته، فلا يتم الاستدلال بها إلا على هذا الوجه.
وفيه غموض على كثير من الأفهام والله الموفق.
(3) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا ... الخ؟» قال أحمد رحمه الله:
لأن المنة عليهم في الطرفين، ففي الأول بثبوت كونهم شهداء وفي الثاني بثبوت كونهم مشهودا لهم بالتزكية خصوصا من هذا الرسول المعظم ولو قدم شهيدا لانتقل الغرض إلى الامتنان على النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شهيد. وسياق الخطاب لهم والامتنان عليهم يأباه. وإنما أخذ الزمخشري الاختصاص من التقديم لأن فيه إشعار بالأهمية والعناية، وكثيرا ما يجرى أى ذلك في أثناء كلامه، وفيه نظر.

(1/199)


الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم التي كنت عليها ليست بصفة للقبلة إنما هي ثانى مفعولي جعل. يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة فيقول: وما جعلنا القبلة التي تجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة، يعنى: وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه، ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد، كقوله: (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) - الآية ويجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته. يعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لغرض. وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا- وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه «1» . فإن قلت:
كيف قال: (لنعلم) ولم يزل عالما بذلك؟ قلت: معناه: لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودا حاصلا ونحوه: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) . وقيل: ليعلم رسول الله والمؤمنون.
وإنما أسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده. وقيل: معناه لتميز التابع من الناكص، كما قال: (ليميز الله الخبيث من الطيب) فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم به يقع التمييز به وإن كانت لكبيرة هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة. والضمير في: (كانت) لما دل عليه قوله: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) من الردة، أو التحويلة، أو الجعلة. ويجوز أن يكون للقبلة (لكبيرة) لثقيلة شاقة إلا على الذين هدى الله إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف الله بهم وكانوا أهلا للطفه وما كان الله ليضيع إيمانكم أى ثباتكم على الايمان وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم. ويجوز أن يراد: وما كان الله ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل
__________
(1) . أخرجه إسحاق وابن سعد والبزار. والطبراني من رواية مجاهد عن ابن عباس: قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة نحو بيت المقدس. والكعبة بين يديه. وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا» قال البزار لا يعلم رواه عنه إلا الأعمش ولا عنه إلا أبو عوانة.

(1/200)


قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145)

التحويل فصلاته غير ضائعة «1» . عن ابن عباس رضى الله عنه: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة «2» قالوا: كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت. لرؤف رحيم لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم. ويحكى عن الحجاج أنه قال للحسن: ما رأيك في أبى تراب، فقرأ قوله: (إلا على الذين هدى الله) ثم قال: وعلى منهم، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، وأقرب الناس إليه، وأحبهم. وقرئ: إلا ليعلم على البناء للمفعول. ومعنى العلم: المعرفة. ويجوز أن يكون «من» متضمنة لمعنى الاستفهام معلقا عنها العلم، كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو. وقرأ ابن أبى إسحاق (على عقبيه) بسكون القاف. وقرأ اليزيدي (لكبيرة) بالرفع. ووجهها أن تكون «كان» مزيدة، كما في قوله:
وجيران لنا كانوا كرام «3»
والأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إن زيد لمنطلق ثم، وإن كانت لكبيرة وقرئ: ليضيع بالتشديد

[سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 145]
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145)
قد نرى ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية «4» . كقوله:
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي. وصححه الحاكم من رواية سماك عن عكرمة عنه.
(2) . هو في الذي بعده.
(3) .
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
للفرزدق. يقول: فكيف يكون الحال إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كرام، فكانوا: زائدة للدلالة على المضي، وأن الجيران كانوا ثم انقرضوا. وكرام- بالجر-: صفة جيران. [.....]
(4) . قال محمود رحمه الله: «معناه كثرة الرؤية ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا من المواضع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته. ومنه: (ربما يود الذين كفروا) والمراد كثرة مودتهم للإسلام في القيامة وعند معاينة جزائه وثوابه، وكذلك: (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) ومراده إظهار عنادهم بأن علمهم برسالته يقينى مؤكد، ومع ذلك يكفرون به.

(1/201)


قد أترك القرن مصفرا أنامله «1»
تقلب وجهك تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل عليه السلام والوحى بالتحويل فلنولينك فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته واليا له، أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته شطر المسجد الحرام نحوه. قال:
وأظعن بالقوم شطر الملوك
وقرأ أبى: تلقاء المسجد الحرام. وعن البراء بن عازب قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة «2» وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمى المسجد مسجد القبلتين «3» . و (شطر المسجد) نصب على الظرف، أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى في جهته وسمته «4» لأن
__________
(1) .
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد
أو جرته ونواصي الخيل معلمة ... سمر أعاملها من خلفها نادى
للهزلى. وقيل لعبيد بن الأبرص. وقد للتكثير والترك بمعنى التصيير. واصفرار الأنامل: كناية عن الموت.
والفرصاد: ماء التوت، وهو أحمر. والايجار: السقي كرها. ونواصي الخيل: شعور رءوسها. والمعلمة: المشهورة بعلامات. والسمراء: القناة. وعاملها في الأصل: هو ما يلي السنان منها، فاستعاره لما يأتى مبالغة. ويقال:
نأدته الداهية نأدا، إذا فدحته وبلغت منه، وخفف الناد هنا بابدال الهمزة ألفا، أى كثيرا ما أترك قرينى في الشجاعة قتيلا ملطخة أثوابه بدمه أسقيته رمحا عاملها من خلفها شدة ضربي. ويروى: ثادى، بالمثلثة. والثاد- بالهمز وقد يخفف-: الندى والمطر. وأما الثادى- اسم فاعل- فهو السحاب الكثير المطر، أى سقيته، والحال أن نواصي الخيل مسومة رمحا عاملها من خلفها شدة ضربي الشبيهة بالندى أو بالسحاب، وذلك مناسب للإيجاز.
ويروى: سمر، كحمر، فهو خبر ثان. وأعاملها: مضارع. وناد: مفعول أو جرته وفيه نوع التهكم. وروى
لزهير تكميل البيت الأول بقوله ... يميد في الرمح ميد المائح الأسن
أى المنتن. يقال: أسن الماء فهو آسن، بالمد وتركه، إذا أنتن.
(2) . متفق عليه من طريق أبى إسحاق عنه. وفيه «وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت- الحديث» وفي رواية لابن حبان «وكان يحب أن يحول نحو البيت» .
(3) . أخرجه الواقدي في المغازي ونقله عن ابن سعد ثم أبو الفتح اليعمري
(4) . قال محمود رحمه الله: «الشطر النحو والسمت ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وقد نقل أصحابنا المالكية خلافا عن المذهب في الواجب فقيل: الجهة. وقيل: العين، هذا مع البعد. وأما حيث تشاهد الكعبة في المسجد الحرام فمن خرج عن السمت ثم لم تصح صلاته قولا واحدا، ثم لهم على كل واحد من القولين إشكال. أما على قول العين فيلزم أن لا تصح صلاة الصف المستقيم المستطيل زيادة على مسامتة الكعبة شرفها الله تعالى، لأنا نعلم بالضرورة- وإن لم نشاهد- أن بعضهم يصلى إلى غير عينها، إذ لا يفي سمتها بذلك على هذا التقدير. لكن الجواز في مثل هذا مع البعد متفق عليه. وأما على قول الجهة فيلزم تجويز صلاة الكائن في الشمال مثلا إلى الجهات الثلاث، لأنها كلها جهات الكعبة، والسمت غير مراعي على هذا المذهب، وإنما جاء هذا الخبط من عدم التمييز بين مراعاة الجهة والسمت، ولقد ميزهما أبو حامد بمثال هندسي في كتاب الأحياء فلا تطول بذكره. والتحقيق عند الفتوى: أن المعتبر مع البعد الجهة لا السمت.

(1/202)


استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد. وذكر المسجد الحرام دون الكعبة: دليل في أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ليعلمون أنه الحق أن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله أنه يصلى إلى القبلتين يعملون قرئ بالياء والتاء ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. بكل آية بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق، ما تبعوا قبلتك لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق وما أنت بتابع قبلتهم حسم لأطماعهم إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقرئ (بتابع قبلتهم) على الإضافة وما بعضهم بتابع قبلة بعض يعنى أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، كما لا ترجى موافقتهم لك. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وقوله ولئن اتبعت أهواءهم بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله وما أنت بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر إنك إذا لمن الظالمين المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير. واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق. فإن قلت: كيف قال: (وما أنت بتابع «1» قبلتهم) ولهم قبلتان
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت لم جاء على التوحيد وهما قبلتان ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: ومثل هذا ما أجيب به عن قوله تعالى: (لن نصبر على طعام واحد) مع أنه متعدد وهو المن والسلوى، فقيل إنهم أرادوا أنهما من طعام الترفه، وآثروا طعام الفلاحة والأجلاف، فلما اتحد الطعامان المذكوران في الرفاهية جعلوهما طعاما واحدا. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ، لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم (لن نصبر على طعام) حتى أكدوه بقولهم (واحد) وللزمخشري عنه جواب آخر سلف بمكانه.

(1/203)


الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148)

لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 148]
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148)
(يعرفونه) يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص كما يعرفون أبناءهم لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضى الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به منى بابني. قال:
ولم؟ قال: لأنى لست أشك في محمد أنه نبى. فأما ولدى، فلعل والدته خانت، فقبل عمر رأسه.
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع. ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علما معلوما بغير إعلام. وقيل الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة. وقوله: (كما يعرفون أبناءهم) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام. فإن قلت: لم اختص الأبناء «1» ؟ قلت: لأن الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. وقال فريق منهم استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين قالوا: يقال فيهم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب) . الحق من ربك يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدإ محذوف. أى هو الحق. أو مبتدأ خبره (من ربك) وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى الحق الذي في قوله ليكتمون الحق. أى: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره. يعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل. فإن قلت: إذا جعلت الحق خبر مبتدإ فما محل من ربك؟
قلت: يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون حالا. وقرأ على رضى الله عنه: الحق من ربك.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت لم خص الأبناء ولم يقل أولادهم ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: بنى كلامه هذا على أن الإناث لا يدخلن في لفظ الأبناء كما يدخلن في لفظ الأولاد، وليس الأمر كذلك، بل اللفظان سواء في شمول الإناث، ولذلك يدخلن في لفظ الواقف إذا وقف على بنيه وبنى بنيه، كما يدخلن في لفظ الأولاد. هذا مذهب الامام مالك رضى الله عنه.

(1/204)


ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152) ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154)

على الإبدال من الأول، أى يكتمون الحق، الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في أنه من ربك لكل
من أهل الأديان المختلفةجهة
قبلة. وفي قراءة أبى: ولكل قبلةو موليها
وجهه، فحذف أحد المفعولين. وقيل هو لله تعالى، أى الله موليها إياه. وقرئ: لكل وجهة)
على الإضافة. والمعنى وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، أى هو مولى تلك الجهة وقد وليها. والمعنى: لكل أمة قبلة تتوجه إليها، منكم ومن غيركم استبقوا
أنتم خيرات
واستبقوا إليها «1» غيركم من أمر القبلة وغيره.
ومعنى آخر: وهو أن يراد: ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أى جهة يصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية فاستبقوا الخيرات ين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا
للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت، أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.

[سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 154]
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152) يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153)
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154)
ومن حيث خرجت أى ومن أى بلد خرجت للسفر فول وجهك شطر المسجد الحرام
__________
(1) . قوله «واستبقوا إليها» لعله واسبقوا. (ع)

(1/205)


إذا صليت وإنه وإن هذا المأمور به. وقرئ (يعملون) بالتاء والياء. وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده، لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان والحاجة إلى التفصلة بينه وبين البداء، فكرر عليهم ليثبتوا ويعزموا ويجدوا، ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها إلا الذين ظلموا استثناء من الناس، ومعناه، لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أى حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت: كانوا يقولون ماله لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة. ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبى العرب، إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: ألا الذين ظلموا منهم، على أن ألا للتنبيه ووقف على حجة، ثم استأنف منبها فلا تخشوهم فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم واخشوني فلا تخالفوا أمرى وما رأيته مصلحة لكم. ومتعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمامى النعمة عليكم وإرادتى اهتداءكم أمرتكم بذلك أو يعطف على علة مقدرة، كأنه قيل. واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم. وقيل: هو معطوف على: (لئلا يكون) . وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» «1» وعن على رضى الله عنه «تمام النعمة الموت على الإسلام» كما أرسلنا إما أن يتعلق بما قبله، أى: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو بما بعده: أى كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب واشكروا لي ما أنعمت به عليكم ولا تكفرون ولا تجحدوا نعمائي. أموات بل أحياء هم أموات بل هم أحياء ولكن لا تشعرون كيف حالهم في حياتهم.
وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد:
يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة. وقيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر.
__________
(1) . أخرجه أحمد والترمذي والبزار من حديث معاذ وسيأتى في سورة الرحمن.

(1/206)


ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)

[سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157]
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)
ولنبلونكم ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ بشيء بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه وبشر الصابرين المسترجعين عند البلاء لأن الاسترجاع تسليم وإذعان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه» «1» . وروى أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إنا لله وإنا إليه راجعون» فقيل: أمصيبة هي؟ قال «نعم كل شيء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة» «2» وإنما قلل في قوله: (بشيء) ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم وإنما وعدهم ذلك قبل كونه ليوطنوا عليه نفوسهم. (ونقص) عطف على: (بشيء) أو على الخوف، بمعنى: وشيء من نقص الأموال.
والخطاب في: (وبشر) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. وعن الشافعي رحمه الله في الخوف: خوف الله. والجوع: صيام شهر رمضان والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد «3» . وعن النبي صلى الله
__________
(1) . أخرجه الطبري والطبراني والبيهقي في الشعب من رواية على بن أبى طلحة عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة) الآية: إن المؤمن إذا أسلم لأمر الله واسترجع عند المصيبة أحرز ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة. وتحقيق سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استرجع ...
فذكره.
(2) . أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عمران القصير قال طفئ مصباح النبي صلى الله عليه وسلم فاسترجع فقالت عائشة رضى الله عنها: إنما هذا مصباح. فقال: كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة.
(3) . قال محمود رحمه الله: «وعن الشافعي رضى الله عنه: الخوف خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات، ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد» قال أحمد: وفي تفسيره هذا نظر، لأن هذا الابتلاء موعود به في المستقبل، مذكور قبل وقوعه توطنا عليه عند الوقوع، ولعله ما من بلية ذكرها إلا وقد تقدمت لهم قبل نزول الآية، إذ الخوف من الله تعالى لم يزل مشحونا في قلوب المؤمنين، ويبعد أن يعبر عن الصدقة بالنقص وقد عبر عنها الشرع بالزكاة التي هي النمو ضد النقص وورد. ما نقص مال من صدقة» ويمكن أن يقال هي نقص حسا وإنما سميت زكاة باعتبار ما يؤول إليه حال القيام بها من النمو فالعوض المرجو من كرم الله خلف فلما ذكرها الله تعالى في سياق الابتلاء الموعود بها عبر عنها بالزكاة تسهيلا لاخراجها على المكلف لأنه إذا استشعر العوض من الله تعالى ونمو ماله بذلك، هان عليه بذلها وسمحت نفسه لذلك.

(1/207)


إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)

عليه وسلم، إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدى؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدى؟ فيقولون:
حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد «1» . والصلاة:
الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة. كقوله تعالى: (رأفة ورحمة) (لرؤف رحيم) . والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. ورحمة أى رحمة. وأولئك هم المهتدون لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله.

[سورة البقرة (2) : آية 158]
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)
والصفا والمروة: علمان للجبلين، كالصمان والمقطم، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أى من أعلام مناسكه ومتعبداته: والحج: القصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان. وأصل يطوف يتطوف فأدغم. وقرئ (أن يطوف) من طاف. فإن قلت: كيف قيل إنهما من شعائر الله ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت: كان على الصفا أساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن لا يكون عليهم جناح في ذلك، فرفع عنهم الجناح. واختلف في السعى، فمن قائل: هو تطوع بدليل رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك، كقوله: (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) وغير ذلك، ولقوله ومن تطوع خيرا كقوله: (فمن تطوع خيرا فهو خير له) . ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير، وتنصره قراءة ابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. وعن أبى حنيفة رحمه الله أنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وعند الأولين لا شيء عليه. وعند مالك والشافعي: هو ركن، لقوله عليه السلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى» «2» وقرئ: ومن يطوع بمعنى: ومن يتطوع، فأدغم.
__________
(1) . أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وأخرجه أحمد وغيره من حديث. وصححه ابن حبان. ورواه البيهقي في الشعب مرفوعا وموقوفا.
(2) . أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى الله عنهما: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرمل فذكره. رواه الشافعي وأحمد وإسحاق والطبراني والدارقطني والحاكم من رواية عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن ابن مخيس عن عطاء بن أبى رباح عن حبيبة بنت أبى تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم يسعى حتى إنى لأرى ركبتيه من شدة السعى، وهو يقول «اسعوا فان لله كتب عليكم السعى» وعبيد الله ضعيف. وأخرجه الحاكم من طريق آخر عن عبد الله بن شيبه عن جدته صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبى تجراة. قالت: اطلعت بكرة بين الصفا والمروة فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو يسعى، ويقول لأصحابه «اسعوا فان الله كتب عليكم السعى» وأخرجه الطبراني والبيهقي من رواية ابن عيينة عن المثنى بن الصباح عن المغيرة بن حكيم، عن صفية عن تملك العبدرية قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة وهو يقول: «أيها الناس إن الله كتب عليكم السعى فاسعوا» والمثنى ضعيف. وأخرجه الطبراني من رواية حميد بن عبد الرحمن عن المثنى بن الصباح فلم يذكر تملك. [.....]

(1/208)


إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162)

وفي قراءة عبد الله: ومن يتطوع بخير.

[سورة البقرة (2) : آية 159]
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
إن الذين يكتمون من أحبار اليهود ما أنزلنا) في التوراة (من البينات من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم والهدى والهداية بوصفه إلى اتباعه والإيمان به من بعد ما بيناه ولخصناه للناس في الكتاب في التوراة، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون الذين يتأتى منهم اللعن عليهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين.

[سورة البقرة (2) : آية 160]
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)
وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم، وتداركوا ما فرط منهم وبينوا ما بينه الله في كتابهم فكتموه، أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليمحوا سمة الكفر عنهم، ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162)
إن الذين كفروا يعنى الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع عطفا على محل اسم الله، لأنه

(1/209)


وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)

فاعل في التقدير، كقولك: عجبت من ضرب زيد وعمرو، تريد من أن ضرب زيد وعمرو، كأنه قيل: أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة. فإن قلت: ما معنى قوله والناس أجمعين وفي الناس المسلم والكافر. قلت: أراد بالناس من يعتد بلعنه وهم المؤمنون. وقيل: يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا خالدين فيها في اللعنة. وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا ولا هم ينظرون من الإنظار أى لا يمهلون ولا يؤجلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا. ولا ينظر إليهم نظر رحمة.

[سورة البقرة (2) : آية 163]
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163)
إله واحد فرد في الإلهية لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غيره إلها. ولا إله إلا هو تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته الرحمن الرحيم المولى لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه. وقيل كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت.

[سورة البقرة (2) : آية 164]
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار واعتقابهما لأن كل واحد منهما يعقب الآخر، كقوله: (جعل الليل والنهار خلفة) بما ينفع الناس بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله وبث فيها عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله: (فأحيا به الأرض) عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعا كالشىء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة.
ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا «1» . وتصريف الرياح في مهابها: قبولا، ودبورا، وجنوبا، وشمالا. وفي
__________
(1) . قوله «ويعيشون بالحيا» في الصحاح: الحيا- مقصور-: المطر والخصب. (ع)

(1/210)


ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)

أحوالها: حارة، وباردة، وعاصفة، ولينة، وعقما، ولواقح. وقيل تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب والسحاب المسخر سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء لآيات لقوم يعقلون ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون، لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وعن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أى لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. وقرئ: والفلك، بضمتين. وتصريف الريح، على الإفراد

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)
أندادا أمثالا من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدل بقوله إذ تبرأ الذين اتبعوا. ومعنى: يحبونهم يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب كحب الله كتعظيم الله «1» والخضوع له، أى كما يحب الله تعالى، على أنه مصدر من المبنى للمفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أى يسوون بينه وبينهم في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين أشد حبا لله لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة الذين ظلموا إشارة إلى متخذي الأنداد أى لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «يحبونهم كحب الله: يعظمونهم كما يعظم الله ... الخ» قال أحمد: فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول كالأول، ولكن هذا الفاعل مسمى وفعله مبنى للفاعل عند فكه من السبك.

(1/211)


ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)

ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله: (ولو ترى إذ وقفوا) ، وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ: ولو ترى، بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب، أى ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما. وقرئ: إذ يرون، على البناء للمفعول. وإذ في المستقبل كقوله: (ونادى أصحاب الجنة) . إذ تبرأ بدل من (إذ يرون العذاب) أى تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع. وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول، أى تبرأ الأتباع من الرؤساء ورأوا العذاب الواو للحال، أى تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب وتقطعت عطف على تبرأ. والأسباب الوصل التي كانت بينهم: من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحاب، والأتباع، والاستتباع، كقوله:
(لقد تقطع بينكم) (لو) في معنى التمني. ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرة فنتبرأ منهم (كذلك) مثل ذلك الإراءة الفظيع يريهم الله أعمالهم حسرات أى ندامات وحسرات، ثالث مفاعيل أرى: ومعناه أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم وما هم بخارجين هم بمنزلته في قوله:
هم يفرشون اللبد كل طمرة «1» في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «هم هاهنا بمنزلته في قوله هم يفرشون ... الخ» قال أحمد رحمه الله: أشد ما أخفى في هذه الكلمات معتقدا ورب صدره كلمات فهو ينفس عن نفسه خناق الكتمان بما ينفثه منه في بعض الأحيان، وكشف ذلك أن يقال: لما استشعر دلالة الآية لأهل السنة على أنه لا يخلد في النار إلا الكافر. وأما العاصي- وإن أصر على الكبائر- فتوحيده يخرجه منها ولا بد وفاء بالوعد. ووجه الدلالة منها على ذلك أنه صدر الجملة بضمير مبتدأ، ومثل هذا النظم يقتضى الاختصاص والحصر لغة. وستمر للزمخشري مواضع يستدل فيها على الحصر بذلك، فقد قال في قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) أن معناه لا ينشر إلا هم، وأن المنكر عليهم ما يلزمهم من حصر الألوهية فيهم. وكذلك يقول في أمثال قولهم (وهم بالآخرة هم يوقنون) أن معناه الحصر أنه لا يوقن بالآخرة إلا هم، فإذا ابتنى الأمر على ذلك لزم حصر نفى الخروج من النار في هؤلاء الكفار دون غيرهم من الموحدين. لكن الزمخشري يأبى ذلك، فيعمل الحال من معارضة هذه الفائدة بفائدة تتم له على القاعدة، فيجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود إليهم لاختصاصه بهم، وهم عنده بهذه المثابة، لأن العصاة وإن خلدوا على زعمه إلا أن الكفار أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه منهم. فسبحان من امتحنه بهذه المحنة على حذقه وفطنته. والله ولى التوفيق.

(1/212)


وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)

حلالا مفعول كلوا، أو حال مما في الأرض طيبا طاهرا من كل شبهة ولا تتبعوا خطوات الشيطان فتدخلوا في حرام، أو شبهة، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام. و «من» للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول. وقرئ خطوات بضمتين، وخطوات بضمة وسكون، وخطؤات بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو وخطوات بفتحتين، وخطوات بفتحة وسكون. والخطوة: المرة من الخطو. والخطوة: ما بين قدمي الخاطي. وهما كالغرفة والغرفة، والقبضة والقبضة. يقال: اتبع خطواته، ووطئ على عقبه. إذا اقتدى به واستن بسنته مبين ظاهر العداوة لا خفاء به إنما يأمركم بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته. أى لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم بالسوء بالقبيح والفحشاء وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم، وقيل: السوء ما لا حد فيه. والفحشاء: ما يجب الحد فيه وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام، بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه. فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله: (ليس لك عليهم سلطان) ؟
قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ولذلك قال: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) وقال الله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت.

[سورة البقرة (2) : آية 170]
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
لهم الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم، لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون. قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا:
بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وألفينا: بمعنى وجدنا، بدليل قوله: (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أولو كان آباؤهم الواو للحال، والهمزة بمعنى الرد والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب.

[سورة البقرة (2) : آية 171]
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)

(1/213)


ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)

لا بد من مضاف محذوف تقديره. ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذي ينعق أو: ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان- في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار- كمثل الناعق بالبهائم، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعى، كما يفهم العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلخ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف. وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم باطل؟ وقيل معناه: ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع، إلا أن قوله إلا دعاء ونداء لا يساعد عليه، لأن الأصنام لا تسمع شيئا. والنعيق: التصويت. يقال: نعق المؤذن، ونعق الراعي بالضأن. قال الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك فى الخلاء ضلالا «1»
وأما «نغق الغراب» فبالغين المعجمة صم هم صم، وهو رفع على الذم.

[سورة البقرة (2) : آية 172]
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
من طيبات ما رزقناكم من مستلذاته، لأن كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالا «2» واشكروا لله الذي رزقكموها إن كنتم إياه تعبدون إن صح أنكم تخصونه بالعبادة.
وتقرون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إنى والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيرى وأرزق ويشكر غيرى «3» .
__________
(1) . للأخطل. ونعق ينعق نعيقا- بالعين المهملة- إذا صوت بغنمه. ونغق الغراب نغاقا- بالمعجمة- إذا صاح.
أى: صوت لغنمك يا جرير، واكتف بذلك عن المفاخر فلست من أهلها، إنما أنت راعى غنم. منتك: حدثتك نفسك ووعدتك وسولت لك في الفضاء الخالي عن الناس ضلالا وكذبا. لا هدى وصدقا كما تزعم، وذمه جرير بقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
ورد عليه الأخطل بقوله:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
(2) . قوله «كل ما رزقه الله لا يكون إلا حلالا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد يكون حراما، كما بين في موضعه. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في الشعب من رواية بقية، حدثنا صفوان ابن عمر. حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير. وشريح بن عبيد عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال «قال الله عز وجل «إنى والجن والانس ... » فذكره سواء.

(1/214)


إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173) إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)

[سورة البقرة (2) : آية 173]
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
قرئ (حرم) على البناء للفاعل، وحرم على البناء للمفعول، وحرم بوزن كرم أهل به لغير الله أى رفع به الصوت للصنم، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى غير باغ على مضطر آخر بالاستيثار عليه ولا عاد سد الجوعة. فإن قلت: في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان» «1» .؟ قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث- وإن أكل لحما في الحقيقة، قال الله تعالى: (لتأكلوا منه لحما طريا) وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث- وإن سماه الله تعالى دابة في قوله: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) . فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأن الشحم داخل في ذكر اللحم، لكونه تابعا له وصفة فيه، بدليل قولهم: لحم سمين، يريدون أنه شحيم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
في بطونهم ملء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه إلا النار لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار. ومنه قولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة «2»
__________
(1) . أخرجه أحمد والشافعي. وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر رضى الله عنهما،
(2) .
دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودى نعشها ليلة القدر
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
لأعرابى تزوج امرأة فلم توافقه، فقيل له: إن حمى دمشق سريعة في موت النساء، فحملها إليها وقال لها ذلك، ونزل دمشق- وهي مدينة بالشام- منزلة العاقل فناداها. والظاهر أن هذا التنزيل من باب الاستعارة المكنية والنداء تخييل، وكذلك الأمر بالعلم، والمرور: المشي، فاسناده لليلة مجاز عقلى من الاسناد للزمان، وهو في الحقيقة لحملة النعش، أو بمعنى المضي فهو حقيقة والباء للملابسة، وهو كناية عن موتها. والعودان: طرفا النعش. وجعل تلك الليلة كليلة القدر عنده لشدة ترقبها وتمنيها والتشوق إليها، ثم التفت إلى خطابها ودعا على نفسه بقوله: أكلت دما، أى دية، لأنها بدل الدم وأخذها عار عند العرب، لدلالتها على الجبن وحب المال دون الثأر. وإن لم أرعك:
من راعه يروعه إذا أخافه. والمراد أنه يغيظها بتزوج ضرة عليها جميلة طويلة العنق. فبعد مهوى القرط: كناية عن ذلك. والقرط: حلى الأذن. ومهواه: مسقطه من المنكب. والنشر: الرائحة الطيبة. ويحتمل أنه دعا على نفسه بالجدب حتى يحتاج لفصد النوق وأكل دمها، وكذلك كانت تفعل الجاهلية في الجدب. ويحتمل أن المراد: شربت دما، فهو تعليق على الممتنع عنده دلالة على تحقيق التزوج، لأنه يرجع إلى أن عدم التزوج ممتنع كما أن شرب الدم ممتنع. ونظيره ما أنشده أبو إياس:
أمالك عمر إنما أنت حية ... إذا هي لم تقتل تعش آخر العمر
ثلاثين حولا لا أرى منك راحة ... لهنك في الدنيا لباقية العمر
دمشق خذيها لا تفتك قليلة ... تمر بعودى نعشها ليلة القدر
فان أنفلت من عمر صعبة سالما ... تكن من نساء الناس لي بيضة العقر
ولعل «العمر» في القافية الأولى بمعنى الدهر. ولهنك هاؤه بدل من همزة إن عند البصريين، وعند غيرهم أصله:
لله إنك. وبيضة العقر: زعموا أنها بيضة الديك لا يبيض في عمره غيرها. وقيل: هي مثل لما لا وجود له أصلا.
فالمعنى: أنه يتزوج جميلة لا يتزوج غيرها، أو أنه لا يتزوج أصلا. وصعبة هي امرأته.

(1/215)


وقال: «1»
يأكلن كل ليلة إكافا «2»
أراد ثمن الإكاف، فسماه إكافا لتلبسه بكونه ثمنا له ولا يكلمهم الله تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفى الكلام عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على صاحبه فصرمه وقطع كلامه. وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: (اخسؤا فيها ولا تكلمون) . فما أصبرهم على النار تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل: فما أصبرهم، فأى شيء صبرهم. يقال: أصبره على كذا وصبره بمعنى.
__________
(1) .
إن لنا أحمرة عجافا ... يأكلن كل ليلة إكافا
الأحمرة: الحمير. والعجاف: المهازيل. والأكاف: البرذعة، فالمراد: يأكلن كل ليلة علفا مشترى بثمن إكاف، بأن يباع الأكاف ثم يشترى بثمنه علفا لها، فأوقع الأكل على الأكاف بواسطتين، ولعل بيع براذعها لضعفها عن العمل. ويمكن أنه مجرد تقديم، وإنما خص الاكاف لاختصاصه بالحمير.
(2) . قوله «كل ليلة إكافا» هو ما يوضع على ظهر الحمار عند ركوبه أو تحميله. أفاده الصحاح. (ع)

(1/216)


ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)

وهذا أصل معنى فعل التعجب. والذي روى عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضى اليمن بمكة.
اختصم إلى رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على الله، فمعناه: ما أصبرك على عذاب الله ذلك بأن الله نزل أى ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق وإن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب لفي شقاق لفي خلاف بعيد عن الحق، والكتاب للجنس.
أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون، وإن الذين اختلفوا فيه من المشركين- فقال بعضهم: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: أساطير- لفي شقاق بعيد. يعنى أن أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا.

[سورة البقرة (2) : آية 177]
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)
البر اسم للخير ولكل فعل مرضى أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الخطاب لأهل الكتاب «1» لأن اليهود تصلى قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق. وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم. وقيل: ليس البر فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البر، ولكن البر ما نبينه. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «الخطاب فيه لليهود والنصارى ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: هذا منقول عن المبرد، مصمى بسهام الرد، فان فيه إبهاما بأن اختلاف وجوه القراءة موكول إلى الاجتهاد، وأنه مهما اقتضاه قياس اللغة جازت القراءة به لمن يعد أهلا للاجتهاد في العربية واللغة. وهذا خطأ محض، فالقراآت سنة متبعة لا مجال فيها للدراية. على أن ما قاله وقدر أنه الأوجه ليس ببالغ ذروة فصاحة الآية إلا على القراآت المستفيضة، لأن الكلام مصدر بذكر البر الذي هو المصدر قولا واحدا، فلو عدل إلى ذكر البر الذي هو الوصف لا يفك المطابقة ومعنى النظام. ولذلك كان تأويل الآية بحذف المضاف من الثاني على تأويل: بر من آمن، أوجه وأحسن وأبقى على السياق. ومن ظن أنه يشق غبارا أو يتعلق بأذيال فصاحة المعجز للفصحاء، فقد سولت له نفسه محالا ومنته ضلالا.

(1/217)


القبلة، فقيل: ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة بر من آمن وقام بهذه الأعمال. وقرئ: وليس البر- بالنصب على أنه خبر مقدم- وقرأ عبد الله: بأن تولوا، على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك: ليس المنطلق بزيد ولكن البر من آمن بالله على تأويل حذف المضاف، أى بر من آمن، أو يتأول البر بمعنى ذى البر، أو كما قالت:
فإنما هى إقبال وإدبار «1»
وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البر، بفتح الباء. وقرئ: ولكن البار. وقرأ ابن عامر ونافع: ولكن البر بالتخفيف والكتاب جنس كتب الله، أو القرآن على حبه مع حب المال والشح به، كما قال ابن مسعود «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا «2» » . وقيل:
__________
(1) .
فما عجول على بو تطيف به ... لها حنينان إصغار وإكبار
لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجد منى حين فارقنى ... صخر وللدهر إحلاء وإمرار
للخنساء ترئى أخاها صخرا. والعجول: الناقة التي أسقطت حملها قبل تمام شهرين، والتي فقدت ولدها بنحر أو موت والبو: جلد محشو تدر الناقة لأجله. وقيل: ولد الناقة. وطاف به يطوف طوفا وطوافا وطوفانا، إذا دار حوله وطاف عليه يطيف طيفا، إذا أقبل عليه. وقد يستعمل كل موضع الآخر، أى تحرم حوله. ويروى: تحن له.
وإصغار وإكبار: بدل من حنينان. ويروى: إعلان وإسرار. والمعنى واحد، غير أن فيه تقديما وتأخيرا.
أو الاصغار الحنين على الولد الصغير، والإكبار على الكبير، كذا قيل، لكن خير ما فسرته بالوارد. والدهر:
نصب بتسأم أى: لا تمل طول الدهر مما ذكر من الحنين ورجوعه للبو، تأباه جزالة المعنى. ويمكن عوده على الطيف المعلوم من تطيف. ويروى بدل هذا الشطر
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
وأصله اذتكرت أى تذكرت. ويروى
ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت
أى ترعى مدة غفلتها عنه، فإذا تذكرته فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار، أو مقبلة ومدبرة، أو هي نفس الإقبال والأدبار مبالغة. أى تلتفت تارة أمامها وتارة خلفها وتتلهى عن الرعي. وقيل المراد إقبال النهار وإدبار الليل وعكسه. ويمكن أن وجهه استقلال المدة، أى فإنما مدة الدهر إقبال وإدبار دائرين بين الليل والنهار، بالضمير عائد على معلوم من السياق، لكن لا يظهر على الرواية الثانية. ويوما: نصب بأوجد وجاز تقدمه على أفعل التفضيل، لأنه ظرف، وكذاك تنبيها على أن المراد باليوم مطلق الزمن غالبا. وبأوجد:
خبر عجول. ويروى «بأوجع» أى ليست أشد حزنا منى حين فارقني أخي، وحين نصب بأوجد أيضا. ووجهه أنه في معنى عاملين، أى ليس وجدها يوما أشد من وجدي حين الفراق، فالأول للأول، والثاني للثاني، ثم تسلت بقولها: وللدهر إحلاء وإمرار. ويقال: أحلى الشيء وأمر، صار حلوا وصار مرا. ويجوز أنهما متعديان.
والمراد: أن الدهر ينعم العيش تارة ويبئسه أخرى. فالاحلاء والإمرار استعارتان لذلك.
(2) . موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن مرة عنه. قال في قوله تعالى: (وآتى المال على حبه ذوي القربى) قال «أن يؤتيه» فذكره إلى قوله «ويخشى الفقر» ولم يذكر ما بعده. ومن طريقه أخرجه الطبراني والحاكم وذكره أبو نعيم في الحلية. في ترجمة مسعر فأخرجه من طريقه عن زبيد به. وقال هكذا رواه مسعر والناس. عن زبيد موقوفا رواه مخلدين يزيد عن الثوري مرفوعا. وتفرد برفعه ثم ساقه. وأخرجه البيهقي من رواية شعبة عن زبيد موقوفا ومن طريق سلام بن سليم المدائني عن محمد بن طلحة عن زبيد مرفوعا: وسلام ضعيف رواه الطبري من ثلاثة طرق عن زبيد موقوفا. ولم يذكر أحد منهم ولا تمهل وإنما هو في حديث أبى هريرة. اتفق الشيخان عليه بلفظ «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، أى الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» .

(1/218)


على حب الله. وقيل: على حب الإيتاء، يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه. وقدم ذوى القربى لأنهم أحق. قال عليه الصلاة والسلام: «صدقتك على المسكين صدقة. وعلى ذى رحمك اثنتان لأنها صدقة وصلة «1» » وقال عليه الصلاة والسلام «2» : «أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح «3» » . وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعدم الإلباس. والمسكين:
الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر وابن السبيل المسافر المنقطع. وجعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف، لأن السبيل يرعف به «4» والسائلين المستطعمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه «5» وفي الرقاب وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل
__________
(1) . أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي كلهم من حديث سلمان بن عامر بلفظ «الصدقة على المسكين حسنة» الترمذي. وفي الباب عن ابن طلحة وأبى أمامة.
أخرجها الطبراني. [.....]
(2) . أخرجه عبد الرزاق والحاكم والبيهقي والطبراني من رواية ابن عيينة عن الزهري. عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة. ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال من رواية ابراهيم بن يزيد المكي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة. وأخرجه من طريق عقيل عن الزهري مرسلا. لم يذكر أبا هريرة ورواه أحمد من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام ورواه أيضا هو وإسحاق والطبراني من طريق الحجاج بن أرطاة عنه عن حكيم بن بشير عن أبى أيوب. فهذه الطرق كلها تدور على الزهري، مع اختلاف عليه، وأحفظهم سفيان بن عنبسة، وعقيل أحفظ منه. وروايته أشبه بالصواب.
(3) . قوله «ذى الرحم الكاشح» في الصحاح: تقول طوى فلان عن كشحه، إذا قطعك. والكاشح الذي يضمر لك العداوة. (ع)
(4) . قوله «لأن السبيل يرعف به» أى يتقدم به ويبرزه للمقيمين، كما يرعف الأنف بدم الرعاف.
أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه أبو داود من رواية فاطمة بنت الحسين بن على عن أبيها عن على رضوان الله عليه. ومن رواية الحسين بن على، من غير ذكر أبيه. في إسنادهما يحيى بن أبى يعلى وقيل: يعلى بن أبى يحيى: وهو مجهول. وقد رواه إسحاق بن راهويه من طريقه فجعله من رواية فاطمة بنت الحسين عن فاطمة، ورواه الطبراني من حديث الهرماس بن زياد. وفيه عثمان بن فايد. وهو ضعيف: وقال مالك في الموطأ: أخبرنا زيد بن أسلم أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره ووصله ابن عدى من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبى صالح عن أبى هريرة. وعبد الله ضعيف. ورواه أيضا من طريق عمر بن يزيد المدائني عن عطاء عن أبى هريرة. وعمر ضعيف.

(1/219)


ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178) ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون (179)

في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل في فك الأسارى. فإن قلت: قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دل ذلك على أن في المال حقا سوى الزكاة؟ قلت: يحتمل ذلك. وعن الشعبي: أن في المال حقا سوى الزكاة، وتلا هذه الآية. ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة، أو يكون حثا على نوافل الصدقات والمبار. وفي الحديث «نسخت الزكاة كل صدقة» «1» يعنى وجوبها. وروى «ليس في المال حق سوى الزكاة» «2» والموفون عطف على من آمن.
وأخرج. الصابرين منصوبا على الاختصاص والمدح، إظهار الفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ: والصابرون. وقرئ. والموفين، والصابرين. والبأساء الفقر والشدة والضراء المرض والزمانة صدقوا كانوا صادقين جادين في الدين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)
عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وهو مذهب مالك والشافعي «3» رحمة الله عليهم: أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى، أخذا بهذه الآية. ويقولون:
هي مفسرة لما أبهم في قوله: (النفس بالنفس) ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها. وعن سعيد ابن المسيب، والشعبي والنخعي، وقتادة، والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: (النفس بالنفس) والقصاص ثابت بين العبد والحر، والذكر والأنثى. ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . أخرجه الدارقطني والبيهقي، من حديث على رضى الله عنه. وإسناده ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق من قول على موقوفا
(2) . أخرجه ابن ماجة من رواية أبى حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس بهذا. وترجم عليه- باب ما أدى زكاته فليس بكنز- وقال البيهقي: والذي يرويه أصحابنا في التعاليق «ليس في المال حق سوى الزكاة» لا أحفظ له إسنادا وقد رواه الترمذي وأبو يعلى والطبراني من هذا الوجه، بلفظ «إن في المال حقا سوى الزكاة» قال الترمذي: ليس إسناده بذاك. وقد رواه بيان وإسماعيل عن الشعبي قال. وهو أصح.
(3) . قال محمود رحمه الله: «مذهب مالك والشافعي رضى الله عنهما أن الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالأنثى ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهذا من الزمخشري وهم على الإمامين، فإنهما يقتصان من الذكر للأنثى بلا خلاف عنهما. وأما الحر والعبد عندهما فهو الذي وهم الزمخشري عنهما.

(1/220)


«المسلمون تتكافأ دماؤهم «1» » وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس، بدليل أن جماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به. وروى «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد منا، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت، وأمرهم أن يتباوؤا «2» » فمن عفي له من أخيه شيء معناه: فمن عفى له من جهة أخيه «3» شيء من العفو. على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير، وطائفة من السير. ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به، لأن «عفا» لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة. وأخوه: هو ولى المقتول، وقيل له أخوه، لأنه لابسه، من قبل أنه ولى الدم ومطالبه به، كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت: إن عفى يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله: (فمن عفي له) ؟ قلت: يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال الله تعالى: (عفا الله عنك) وقال:
__________
(1) . أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من طريق قيس بن عباد عن على في قصة. ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وزاد «ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجبر عليهم أقصاهم. وهم يد على من سواهم» وفي الباب عن عائشة: رواه البخاري في تاريخه والدارقطني. وعن ابن عباس ومعقل بن يسار في ابن ماجة وعن جابر في المعجم الأوسط للطبراني.
(2) . لم أجده.
(3) . قال محمود رحمه الله: «معنى الآية: فمن عفى له من جهة أخيه ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ويقوى هذا التأويل القول بأن موجب العمد أحد الأمرين من القصاص أو الدية، والخيار إلى الولي. وهو أحد القولين في مذهب مالك رضى الله عنه ومشهورهما. إذ لو جعلنا موجب العمد القود على القول الآخر، لكان في ذلك تضييق على الولي. والآية مشعرة بالتخفيف والسعة وتحتمل الآية وجها آخر، وهو عود الضميرين جميعا إلى الولي، وقالوا على هذا الوجه يكون العفو إعطاء البدل، كأنه قال: فمن أعطى شيئا من أخيه أى بدلا من أخيه. ويكون «من» مثلها في قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) . ونظيره في استعمال العفو في العطاء عندي قوله تعالى: (إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح) إذا حمل الذي بيده العقدة على الزوج. وهو مذهب الشافعي رضى الله عنه. ويقول أصحابه. عفوه على أحد وجهين: إما من استرجاع النصف الواجب إن كان قد سلم جميع المهر، وإما على دفع النصف الآخر الذي سقط عنه إن كان لم يسلمه، فيكون العفو على هذا مستعملا في الإعطاء. ويقوى هذا الوجه في أنه لا قصاص قوله: (فاتباع بالمعروف) لأن المخاطب بالاتباع بالمعروف إنما هو الولي، فإذا جعلنا الضميرين له انساق الكلام سياقة واحدة إلى جهة واحدة، وصار المعنى: فمن أعطى من الأولياء بدلا من أخيه، فليتبع بالمعروف في طلب ما أعطى. ولما خالفه الولي عن التقاضي خاطب القاتل بحسن الأداء، فلينتظم الكلام موجها إلى وجهة واحدة. وأما على الوجه الذي قرره الزمخشري، فالضميران جميعا راجعان إلى القاتل وتقدير الكلام: فمن عفى له من القاتلين عن جنايته شيء من العفو فليتبع الولي هذا القاتل المعفو عنه بالمعروف، فيكون المخاطب أول الآية القاتل، وآخرها الولي، بخلاف الوجه الذي قررته والله أعلم. وكلا الوجهين حسن جيد.

(1/221)


(عفا الله عنها) فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معا قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفى له عند جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية. فإن قلت: هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به؟ قلت: لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت، ولكن أعفاه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وأعفوا اللحى» «1» فإن قلت. فقد ثبت قولهم: عفا أثره إذا محاه وأزاله، فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء؟ قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ- إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها. فإن قلت؟ لم قيل: شيء من العفو؟ قلت:
للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية فاتباع بالمعروف فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا. يعنى فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه ذلك الحكم المذكور من العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو، توسعة عليهم وتيسيرا فمن اعتدى بعد ذلك التخفيف، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل «2» ، أو القتل بعد أخذ الدية. فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله فله عذاب أليم نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية، لقوله عليه السلام «لا أعافى أحدا قتل بعد أخذه الدية» ولكم في القصاص حياة كلام فصيح لما فيه من الغرابة «3» ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأن المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما
(2) . قوله «من قتل غير القاتل» بيان للتجاوز والاعتداء. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «كلام فصيح لما فيه من الغرابة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: قوله جعل أحد الضدين محلا للآخر: كلام إما وهم فيه أو تسامح، لأن شرط تضاد الحياة والموت اجتماعهما في محل واحد تقديرا، ولا تضاد بين حياة غير المقتص منه وموت المقتص، والبلاغة التي أوضحها في الآية بينة بدون هذا الإطلاق.

(1/222)


كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182)

يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أى حياة، أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص فارتدع منه سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء: ولكم في القصاص حياة: أى فيما قص عليكم من حكم القتل. والقصاص. وقيل القصص: القرآن، أى ولكم في القرآن حياة للقلوب: كقوله تعالى: (روحا من أمرنا) ، (ويحيى من حي عن بينة) . لعلكم تتقون أى أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس (لعلكم تتقون) تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182)
إذا حضر أحدكم الموت إذا دنا منه وظهرت أماراته (خيرا) مالا كثيرا. عن عائشة رضى الله عنها أن رجلا أراد الوصية وله عيال وأربعمائة دينار، فقالت: ما أرى فيه فضلا «1» .
وأراد آخر أن يوصى فسألته: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال:
أربعة. قالت: إنما قال الله (إن ترك خيرا) وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك «2» ، وعن على رضى الله عنه: أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة فمنعه «3» . وقال: قال الله تعالى
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور بن صفية حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير «أن عائشة سئلت عن رجل مات وله أربعمائة دينار. وله عدة من الولد. فقالت عائشة: ما في هذا فضل عن ولده» وعن ابن جريج عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه عن عائشة مثله، وزاد «فلامته عائشة، وقالت: إن ذلك لقليل، قلت: منصور ابن عبد الرحمن هو ابن صفية. فكأنه سمعه من أمه ومن عبد الله كلاهما عن عائشة رضى الله عنها. [.....]
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن محمد بن شريك عن ابن أبى مليكة عن عائشة «أن رجلا قال لها: إنى أريد أن أوصى- فذكره» .
(3) . أخرجه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن هشام عن أبيه قال «دخل على رضى الله عنه على مولى له في الموت فقال: ألا أوصى؟ فقال له على: إنما قال الله تعالى: (إن ترك خيرا) وليس لك كثير مال. قال: وكان له سبعمائة درهم» ورواه ابن أبى شيبة عن أبى خالد الأحمر عن هشام به.

(1/223)


ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)

(إن ترك خيرا) والخير هو المال، وليس لك مال. والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى أن يوصى، ولذلك ذكر الراجع في قوله: (فمن بدله بعد ما سمعه) والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث، وبقوله عليه السلام «إن الله أعطى كل ذى حق حقه ألا لا وصية لوارث «1» » وبتلقى الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان من الآحاد، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته. وقيل: لم تنسخ، والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. وقيل: ما هي بمخالفة لآية المواريث.
ومعناها: كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين «2» من قوله تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم) أو كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم بالمعروف بالعدل، وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث حقا مصدر مؤكد، أى حق ذلك حقا فمن بدله فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقا للشرع من الأوصياء والشهود بعد ما سمعه وتحققه فإنما إثمه على الذين يبدلونه فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصى والموصى له، لأنهما بريان من الحيف إن الله سميع عليم وعيد المبدل فمن خاف فمن توقع وعلم، وهذا في كلامهم شائع يقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم جنفا ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية أو إثما أو تعمدا للحيف فأصلح بينهم بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع فلا إثم عليه حينئذ، لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم «3» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184]
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي: وحسنه، وابن ماجة من حديث أبى أمامة، والترمذي أيضا وصححه، والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن خارجة، وابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبى سعيد أنه حدثه عن أنس بن مالك به.
(2) . قوله «من توريث الوالدين والأقربين من» لعله في. (ع)
(3) . قوله «أن كل تبديل لا يؤثم» لعل المعنى أن ليس كل تبديل يؤثم (ع)

(1/224)


كما كتب على الذين من قبلكم على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال على رضى الله عنه: أولهم آدم، يعنى أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم لعلكم تتقون بالمحافظة عليها وتعظيمها لأصالتها وقدمها، أو لعلكم تتقون المعاصي، لأن الصائم أظلف لنفسه «1» وأردع لها من مواقعة السوء. قال عليه السلام: «فعليه بالصوم «2» فإن الصوم له وجاء «3» » أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم. وقيل معناه: أنه كصومهم في عدد الأيام وهو شهر رمضان، كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان، فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده. فجعلوه خمسين يوما. وقيل:
كان وقوعه في البرد الشديد والحر الشديد، فشق عليهم في أسفارهم ومعايشهم فجعلوه بين الشتاء والربيع، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته. وقيل: الأيام المعدودات:
عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر. كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر. ثم نسخت بشهر رمضان. وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا، ثم نسخ ذلك بقوله: (أحل لكم ليلة الصيام) ... الآية. ومعنى معدودات موقتات بعدد معلوم. أو قلائل، كقوله: (دراهم معدودة) وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويتحكر فيه. والكثير يهال هيلا ويحثى حثيا. وانتصاب أياما بالصيام، كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة أو على سفر أو راكب سفر فعدة فعليه عدة. وقرئ بالنصب بمعنى: فليصم عدة وهذا على سبيل الرخصة. وقيل: مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر واختلف في المرض المبيح للإفطار، فمن قائل: كل مرض، لأن الله تعالى لم يخص مرضا دون مرض كما لم يخص سفرا دون سفر، فكما أن لكل مسافر أن يفطر، فكذلك كل مريض. وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه. وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه، فقال: إنه في سعة من الإفطار. وقائل: هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر وعن الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل. واختلف أيضا في القضاء فعامة العلماء على التخيير. وعن أبى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه: «إن الله لم يرخص لكم في
__________
(1) . قوله «لأن الصائم أظلف لنفسه» في الصحاح: ظلف نفسه عن الشيء منعه عنه. وظلفت نفسي عن كذا- بالكسر-: كلست (ع)
(2) . قوله «قال عليه السلام فعليه بالصوم» صدره: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم الخ. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث ابن مسعود

(1/225)


شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)

فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر، وإن شئت ففرق» «1» وعن على وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضى كما فات متتابعا «2» . وفي قراءة أبى: فعدة من أيام أخر متتابعات. فإن قلت:
فكيف قيل (فعدة) على التنكير ولم يقل: فعدتها، أى فعدة الأيام المعدودات؟ قلت: لما قيل: فعدة، والعدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة وعلى الذين يطيقونه وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا فدية طعام مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مد، وكان ذلك في بدء الإسلام: فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. وقرأ ابن عباس: يطوقونه، تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة، أى يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا. وعنه: يتطوقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه. ويطوقونه بإدغام التاء في الطاء. ويطيقونه ويطيقونه بمعنى يتطوقونه، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم: تدير المكان وما بها ديار. وفيه وجهان: أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ.
ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه، أى يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم فمن تطوع خيرا فزاد على مقدار الفدية فهو خير له فالتطوع أخير له أو الخير. وقرئ فمن يطوع، بمعنى يتطوع وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم خير لكم من الفدية وتطوع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضا.
وفي قراءة أبى: والصيام خير لكم.

[سورة البقرة (2) : آية 185]
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)
الرمضان: مصدر رمض إذا احترق- من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علما، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل «ابن داية» للغراب بإضافة الابن إلى داية البعير،
__________
(1) . موقوف: الدارقطني من روايته.
(2) . أخرجه عبد الرزاق عنهما قالا «يقضيه تباعا»

(1/226)


لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت. فإن قلت: لم سمى شهر رمضان؟ قلت: الصوم فيه عبادة قديمة، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته، كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أى يزعجهم إضجارا بشدته عليهم. وقيل لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. فإن قلت: فإذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعا، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا «1» » «من أدرك رمضان فلم يغفر له» «2» . قلت: هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال:
بما أعيا النطاسى حذيما «3»
أراد ابن حذيم، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره الذي أنزل فيه القرآن أو على أنه بدل من الصيام في قوله: (كتب عليكم الصيام) أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من (أياما معدودات) ، أو على أنه مفعول (وأن تصوموا) . ومعنى (أنزل فيه القرآن) ابتدئ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: (كتب عليكم الصيام) كما تقول أنزل في عمر كذا، وفي على كذا. وعن النبي عليه السلام «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين «4» » هدى للناس وبينات نصب على الحال، أى أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى قوله: (وبينات من الهدى) بعد قوله: (هدى للناس) ؟ قلت:
ذكر أولا أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن كان
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه
(2) . أخرجه الترمذي من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبى هريرة رفعه «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له- الحديث» قلت: ليس هذا موافقا للفظ المصنف.
والموافق له ما أخرجه ابن حبان.
(3) .
فهل لكم فيما إلى فاننى ... بصير بما أعيى النطاسي حذيما
يقول: فهل لكم رغبة فيما ينسب إلى من إصابة الرأى، فاننى بصير بحل الأمور المعضلة. وكنى عن ذلك بقوله: بما أعيى حذيما النطاسي، وهو طبيب ماهر حاذق. وحذيم- بكسر فسكون- أراد به ابن حذيم، لأنه كنيته، فحذف جزء الاسم لأمن اللبس. والنطاسي نسبة للنطاس وزان القرطاس، وهو في لغة الروم بمعنى الحاذق الماهر في الطب. وتخفيفه هنا إما من تصرف العرب، وإما لأجل الوزن. وقيل معناه: فهل لكم رأى وتبصر فيما يرجع نفعه إلى، ثم أعرض عن مشاورتهم بقوله: فانى أعلم وأعرف منكم بما أعيى النطاسي، ولا يخفى أنه لا موقع للفاء حينئذ، إلا أن يكون المعنى بأنه يطلب منهم الرشوة.
(4) . أخرجه أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا به. وفي الباب عند أبى داود. وأخرجه الثعلبي في تفسيره. وعن جابر أخرجه أبو يعلى. [.....]

(1/227)


وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)

شاهدا، أى حاضرا مقيما غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر. والشهر: منصوب على الظرف وكذلك الهاء في: (فليصمه) ولا يكون مفعولا به كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر يريد الله أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، وجملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض. ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر، حتى زعم أن من صام منهما فعليه الإعادة. وقرئ: اليسر، والعسر- بضمتين. الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره «1» ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون شرع ذلك يعنى جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: (لتكملوا) علة الأمر بمراعاة العدة (ولتكبروا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر (ولعلكم تشكرون) علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدى إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم.
ومعنى (ولعلكم تشكرون) وإرادة أن تشكروا. وقرئ (ولتكملوا) بالتشديد. فإن قلت: هل يصح أن يكون (ولتكملوا) معطوفا على علة مقدرة، كأنه قيل لتعملوا ما تعلمون، ولتكملوا العدة.
أو على اليسر، كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد بكم لتكملوا، كقوله: (يريدون ليطفؤا) ؟ قلت:
لا يبعد ذلك والأول أوجه. فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم الله والثناء عليه. وقيل:
هو تكبير يوم الفطر. وقيل: هو التكبير عند الإهلال «2» .

[سورة البقرة (2) : آية 186]
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)
فإني قريب تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته، ونحوه (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله عليه الصلاة والسلام: «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم «3» » وروى أن أعرابيا قال لرسول الله
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «الفعل المعلل محذوف تقديره شرع ذلك ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: ولقبه الخاص به في صناعة البديع: رد أعجاز الكلام إلى صدوره. ولقد أحسن الزمخشري في التنقيب عنه فهو منظوم في سلك حسناته.
(2) . قوله «عند الإهلال» أى الإحرام بالنسك. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة. فلما قفلنا أشرفنا على المدينة، فكبر الناس، ورفعوا أصواتهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم. إن ربكم ليس بأصم ولا غائب، هو بينكم وبين رءوس رواحلكم» ورواه الترمذي.

(1/228)


أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه «1» ؟ فنزلت. فليستجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أنى أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم. وقرئ يرشدون ويرشدون، بفتح الشين وكسرها.

[سورة البقرة (2) : آية 187]
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)
كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب «2» والجماع إلى أن يصلى العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إن عمر رضى الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إنى أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت جديرا بذلك يا عمر «3» . فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء، فنزلت. وقرئ: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، أى أحل الله. وقرأ عبد الله:
__________
(1) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والدارقطني في المؤتلف من رواية الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده «أن أعرابيا- فذكره- وزاد» بعد قوله «فنناديه» «فسكت عنه»
(2) . قال محمود رحمه الله: «كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ويشهد لصحة هذا الجواب أنه لما استقرت الاباحة فيه قال: (فالآن باشروهن) فكنى عنه الكناية المألوفة في الكتاب العزيز. وبشكل بقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) فان هذه العبارة استعملت ولم ينقل في الحج ما نقل في الصوم من سبب نزول الآية وهو مواقعة المكروه. ويمكن أن يجاب عنه لما وقع في آية الحج منهيا عنه أريد للشعبة عندهم كيلا يقعوا فيه، فعبر عنه بما هجنه لكون ذلك منفرا لهم عن التورط.
(3) . رواه الطبري من طريق عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) الآية، قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صاموا يطعمون من الطعام فيما بين الماء والعتمة. فإذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام حتى يمسوا من الليلة القابلة وإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله فذكره. ليس فيه «فقام رجال فاعترفوا» وروى الطبري من طريق السدى قال «كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقع على جارية له في ناس من المسلمين لم يملكوا أنفسهم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم» .

(1/229)


الرفوث، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ النيك، وقد أرفث الرجل. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا «1»
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء «2» . وقال الله تعالى: فلا رفث ولا فسوق، فكنى به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من شيء من ذلك. فإن قلت: لم كنى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ، (فلما تغشاها) ، (باشروهن) ، (أو لامستم النساء) ، (دخلتم بهن) ، (فأتوا حرثكم) ، (من قبل أن تمسوهن) ، (فما استمتعتم به منهن) ، (ولا تقربوهن) ؟ قلت: استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. فإن قلت: لم عدى الرفث بإلى؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء. لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه، شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا «3»
فإن قلت: ما موقع قوله: (هن لباس لكم) ؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن تختانون أنفسكم تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة فتاب عليكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور وابتغوا ما كتب الله لكم واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة، أى لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل.
__________
(1) . أنشده ابن عباس في الحج، فقال له أبو العالية: أترفث وأنت محرم؟ فقال إنما الرفث ما كان عند النساء.
وقال بعضهم: قال حصين بن قيس: أخذ ابن عباس بذنب بعيره يلويه وهو يحدو ويقول: وهن ... البيت.
فقلت له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. وهن، أى النوق «يمشين بنا» أى معنا.
والهميس: نوع من السير لا صوت له، نصب بيمشين. وإن تصدق الطير، أى التي تفاء لنا بها حيث طارت جهة اليمين، وشبه الطير بمخبر على طريق المكنية والصدق تخييل. وروى: إن يصدق الظن، والفعل بعده جواب الشرط ولفظ «النيك» هو الحقيقة في إدخال الذكر في الفرج، وما عداه- كالوطء والجماع والملامسة- مجاز في الأصل أو كناية، ولذلك قبح النطق بها دون غيرها. ولميس: اسم امرأة، ولعل ابن عباس ضربه مثلا للظفر بما كان يقصده
(2) . أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق زياد بن الحسين عن أبى العالية «أترفث وأنت محرم؟ فقال:
إنما الرفث ما روجع به النساء» وأخرجه ابن أبى شيبة والطبري من هذا الوجه. والهميس: بفتح الهاء وآخره مهملة: ضرب من السير، لا يسمع له وقع. ذكره ثابت السرقسطي.
(3) . للنابغة الجعدي. و «ما» زائدة. والضجيع: المضاجع. والعطف- بالكسر-: الجانب. تثنت:
بالغث في مطلوبه من التعانق فكانت مشتملة عليه كاللباس، فهو تشبيه بليغ. ويروى: ثنى جيدها، أى عنقها

(1/230)


وقيل: هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر. وقيل: وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم. وعن قتادة: وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر.
وقرأ ابن عباس (واتبعوا) وقرأ الأعمش (وأتوا) وقيل معناه: واطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها، وهو قريب من بدع التفاسير الخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. والخيط الأسود ما يمتد معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال أبو داود «1» :
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا «2»
وقوله من الفجر بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود. لأن بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون «من» للتبعيض: لأنه بعض الفجر وأوله. فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت: قوله: (من الفجر) أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسدا مجاز. فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. فإن قلت: فلم زيد (من الفجر) حتى كان تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؟
قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر (من الفجر) لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد (من الفجر) فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة.
فإن قلت: فكيف التبس على عدى بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود «3» فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك وقال:
«إن كان وسادك لعريضا» ، وروى: «إنك لعريض القفا» «4» إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل» ؟ قلت: غفل عن البيان، ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. وأنشدتنى بعض البدويات لبدوى:
__________
(1) . قوله «قال أبو داود» لعله: دواد. (ع)
(2) . لأبى داود. وأضاء وأنار، يجيئان لازمان كما هنا ومتعديين. والسدفة بياض الفجر يشوبه قليل ظلام. وفي لغة نجد: الظلمة. وأسدفت المرأة القناع: أرسلته. وأسدف الليل: أظلم. وعند غيرهم هي الاضاءة والصبح. وأسدف الصبح. أضاء. وأسدف الباب فتحه. وشبه بياض بعض الصبح بالخيط في امتداده. ويجوز أن «من» بيانية، وجملة أنار صفة خيط، وجواب الشرط فيما بعده.
(3) . متفق عليه من حديث الشعبي عن عدى بن حاتم.
(4) . هذه الرواية في البخاري أيضا من طريق الشعبي عن عدى بن حاتم أيضا.

(1/231)


عريض القفا ميزانه فى شماله ... قد انحص من حسب القراريط شاربه «1»
فإن قلت: فما تقول فيما روى عن سهل بن سعد الساعدي «2» : أنها نزلت ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعنى بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت: أما من لم يجوز تأخير البيان- وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبى على وأبى هاشم- فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوزه فيقول: ليس بعبث. لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد منه ثم أتموا الصيام إلى الليل قالوا: فيه دليل على جواز النية بالنهار «3» في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفى صوم الوصال عاكفون في المساجد معتكفون فيها.
والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ، (فالآن باشروهن) وقيل معناه: ولا تلامسوهن بشهوة، والجماع يفسد الاعتكاف، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل. وعن قتادة كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك. وقالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد. وقيل:
لا يجوز إلا في مسجد نبى وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل: في مسجد جامع. والعامة على
__________
(1) . يصف رجلا بالغباوة على طريق الكناية. فعرض القفا: كناية عن الحمق. وكون ميزانه في شماله: كناية عن البلة. وانحص: أى انحسر شاربه، لكثرة ما يعض على شفته عند الحسب، كناية عن البلادة. [.....]
(2) . متفق عليه من رواية أبى حازم عنه.
(3) . قال محمود رحمه الله: «قالوا فيه دليل على جواز النية بالنهار ... الخ» . قال أحمد: وجه: استدلالهم من الآية على الحكم الأول متعذر، لأن إقران النية بأول الصوم وجودا غير معتبر باتفاق، وتقديمها من الليل وتستصحب معتبر باتفاق، فإذا لا تنافى بين الأكل والشرب إلى الفجر وبين نية الصوم المستقبل من الليل. ووجودها من الليل متقدمة على الصوم مستفاد من دليل دل عليه، وإنما لم يتم لهم الاستدلال بالآية على اعتبار النية في النهار- لو كان الأكل والشرب ليلا إلى الفجر- ينافي صحة استصحاب النية، وكان اقتضاء الآية لجواز الأكل والشرب إلى الفجر يمنع من اعتبار النية من الليل إلى الفجر لوجود المنافى لها ولا بد منها، فيتعين أن يوقع بعد الفجر على هذا التقدير. وذلك التقدير كما علمت متفق على بطلانه. وأما الاستدلال بها على الحكمين الآخرين فصحيح مستند والله أعلم. ولتفطن الزمخشري لبطلان الاستدلال بالآية على الحكم المذكور سلك سبيل النقل عنهم فقال: قالوا، لا يقولها إلا في مثل هذا المعنى، ولم يسعه التنبيه على بطلان الاستدلال لأنه على وفق مذهبه.

(1/232)


ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (188)

أنه في مسجد جماعة. وقرأ مجاهد: في المسجد تلك الأحكام التي ذكرت حدود الله فلا تقربوها فلا تغشوها فإن قلت: كيف قيل «1» فلا تقربوها مع قوله: (فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله) ؟ قلت: من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزى الحق والباطل لئلا يدانى الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدا عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»
» فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصا، لقوله: (ولا تباشروهن) وهي حدود لا تقرب.

[سورة البقرة (2) : آية 188]
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (188)
ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه. ولا تدلوا بها ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام لتأكلوا بالتحاكم فريقا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح، مع العلم بأن المقضى له ظالم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين. «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا، فإن ما أقضى «3» له قطعة من نار» فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال «اذهبا فتوخيا، ثم استهمل، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» «4» وقيل (وتدلوا بها) وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. وتدلوا: مجزوم داخل في حكم النهى، أو منصوب بإضمار أن، كقوله: (وتكتموا الحق) . وأنتم تعلمون أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت كيف قال فلا تقربوها ... الخ» قال أحمد رحمه الله تعالى: وفي هذه الآية دليل بين لمذهب مالك رضى الله تعالى عنه في سد الذرائع والاحتياط للمحرمات لا يدافع عنه.
(2) . متفق عليه. وله ألفاظ.
(3) . قوله «فان ما أقضى» لعله: فإنما. (ع)
(4) . أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، وأحمد، وإسحاق، وابن أبى شيبة، وأبو يعلى، كلهم من رواية أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة. وأصله في الصحيحين بدون الزيادة.

(1/233)


يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)

[سورة البقرة (2) : آية 189]
يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
وروى أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصارى قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت «1» مواقيت معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ولكن البر بر من اتقى ما حرم الله. فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله «2» ؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها- وتمامها معلوم-: أن كل ما يفعله الله عز وجل لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا. ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه
__________
(1) . عزاه الواحدي في الأسباب إلى ابن الكلبي مختصرا وذكره الشعبي، كما ذكره المصنف.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت ما وجه إيصال هذا الكلام ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ومثل هذا من الاستطراد في كتاب الله تعالى قوله: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) ومن كل تأكلون لحما طريا ... ) إلى آخر الآية فانه تعالى بين عدم الاستواء بينهما إلى قوله: (أجاج) وبذلك تم القصد في تمثيل عدم استواء الكافر والمسلم، ثم قوله: (ومن كل تأكلون) لا يتقرر به عدم الاستواء، بل المفاد به استواؤهما فيما ذكر، فهو من إجراء الله الكلام بطريق الاستطراد المذكور. وإنما مثلت هذا النوع الذي نبه عليه الزمخشري لأنه مفرد عن الاستطراد الذي بوب عليه أهل صناعة البديع والمطابق لما بوبوا عليه سواء قوله تعالى:
(لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) . فانه ذم اليهود واستطرد بذلك ذم المشركين المنكرين للبعث على نوع من التشبيه لطيف المنزع وفي البديع التمثيل بقوله:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس وإن كان من جرم
وسيأتى فيه مزيد تقرير إن شاء الله.

(1/234)


وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)

ولم يجسر على مثله. ثم قال وأتوا البيوت من أبوابها أى وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الابهام بمقارفة الشك (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193]
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)
المقاتلة في سبيل الله: هو الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين الذين يقاتلونكم الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين. وعلى هذا يكون منسوخا بقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) . وعن الربيع بن أنس رضى الله عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف.
أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان الرهبان والنساء. أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكم المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل: لما صد المشركون رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء، خاف المسلمون أن لا يفي لهم قريش ويصدوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك نزلت وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك ولا تعتدوا بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان والذين «1» بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة حيث ثقفتموهم
__________
(1) . قوله «والذين» لعله أو الذين. (ع)

(1/235)


الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)

حيث وجدتموهم في حل أو حرم. والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه: رجل ثقف، سريع الأخذ لأقرانه. قال:
فإما تثقفونى فاقتلونى ... فمن أثقف فليس إلى خلود «1»
من حيث أخرجوكم أى من مكة وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح والفتنة أشد من القتل أى المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل. وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل:
لقتل بحد السيف أهون موقعا ... على النفس من قتل بحد فراق «2»
وقيل (الفتنة) عذاب الآخرة (ذوقوا فتنتكم) وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون به المسلمين، فقيل: والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم. وقرئ: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم: جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. يقال: قتلتنا بنو فلان. وقال: فإن تقتلونا نقتلكم فإن انتهوا عن الشرك والقتال، كقوله: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) .
حتى لا تكون فتنة أى شرك ويكون الدين لله خالصا ليس للشيطان فيه نصيب فإن انتهوا عن الشرك فلا عدوان إلا على الظالمين فلا تعدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: (إلا على الظالمين) موضع على المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين، سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، كقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم.

[سورة البقرة (2) : آية 194]
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)
__________
(1) . «إما» هي «أن» الشرطية أدغمت نونها في «ما» الزائدة للتنصيص على التعميم. والثقف:
القبض والضبط. ومنه «الثقاف» وهو الآلة التي تعض الرماح وتقبضها لتقويمها. يقول: إن تدركونى في أى وقت وتغلبوني فاقتلوني، فان من أدركنى منكم ليس مجابا أو منتهيا إلى خلود، بل لا بد من قتله. وهذا من الاشاحة والجد في القتال، وقطع أطماع الصلح من البال.
(2) . يقول: تالله إن القتل بالسيف أهون على النفس وقوعا من القتل بالفراق. وشبهه بالسيف على طريق المكنية، وإضافة الحد إليه تخييل، وحسن الاستعارة مشاكلته لما قبله.

(1/236)


وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)

قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذى القعدة: الشهر الحرام بالشهر الحرام أى هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه، يعنى تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم والحرمات قصاص أى وكل حرمة يجرى فيها القصاص من هتك حرمة أى حرمة كانت، اقتص منه بأن تهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا، وأكد ذلك بقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم، فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم.

[سورة البقرة (2) : آية 195]
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)
الباء في بأيديكم مزيدة مثلها في أعطى بيده للمنقاد. والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أى لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل (بأيديكم) بأنفسكم: وقيل تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب لهلاكها. والمعنى: النهى عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله. أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو. وروى أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصارى: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد «1» . وحكى أبو على في الحلبيات عن أبى عبيدة، التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال: فدل هذا من قول أبى عبيدة على أن
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي أخبرنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم بن عمران- فذكره سواء. وأصله عند أبى داود والنسائي والترمذي من رواية أسلم المذكور. قال «خرجنا من المدينة نريد القسطنطينية. وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فخرج من المدينة صف عظيم من الروم وصففنا لهم صفا عظيما من المسلمين فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم. فصاح الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس، الحديث- وفي رواية الترمذي «وعلى الناس فضالة بن عبيد» وفي رواية النسائي «وعلى أهل مصر عقبة بن خالد» «وعلى أهل الشام فضالة» وكذا أخرجه أحمد وإسحاق، وأبو يعلى، والطبري، وعبد بن حميد، وابن أبى حاتم، وغيرهم.

(1/237)


وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)

التهلكة مصدر. ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان: التنضبة والتنفلة. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما، على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار.

[سورة البقرة (2) : آية 196]
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)
وأتموا الحج والعمرة لله ائتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال:
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام «1»
جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. وقيل: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روى ذلك عن على وابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم. وقيل: أن تفرد لكل واحد منها سفرا كما قال محمد: حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل. وقيل: أن تكون النفقة حلالا. وقيل: أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوعين، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعا، إلا أن تقول:
الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ: وأقيموا الحج والعمرة. والأمر للوجوب في أصله، إلا أن يدل دليل على خلاف الوجوب، كما دل في قوله: (فاصطادوا) ، (فانتشروا)
__________
(1) . لذي الرمة. وخرقاء: اسم محبوبة له من بنى عامر، لأنه لما شغف بها خرق أدواته وقال: إن تمام حجنا أن نزور خرقاء فتقف مطايا رجل مسافر، فأصلحى لي أدواتى. فقالت: والله لا أحسن العمل وإنى لخرقاء أى حمقاء، حولها حال كونها واضعة اللثام عن وجهها حتى أراه. وإضافة الوصف إلى مفعوله لفظية لا تفيده التعريف فصح حالا. وحكى أن بعض السلف الصالح قال لصاحبه: هل نتم حجنا كما قال ذو الرمة، وأنشد البيت.
قيل وحقيقة مراده أنه ينبغي كما قطعنا البراري ووصلنا إلى حرمه، أن نقطع أهواء النفس حتى نشاهد آثار كرمه، فيكون استعماله البيت من باب التمثيل.

(1/238)


ونحو ذلك، فيقال لك: فقد دل الدليل على نفى الوجوب، وهو ما روى أنه قيل: يا رسول الله: العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: «لا، ولكن أن تعتمر خير لك» «1» وعنه «الحج جهاد والعمرة تطوع» «2» . فإن قلت: فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج «3» . وعن عمر رضى الله عنه أن رجلا قال له: إنى وجدت الحج والعمرة مكتوبين على، أهللت بهما جميعا فقال: «هديت لسنة نبيك» «4» وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت: كونها قرينة للحج أن القارن يقرن بينهما، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال: حج فلان واعتمر والحجاج والعمار، ولأنها الحج الأصغر، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب. وأما حديث عمر رضى الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما، وإذا أهل بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر بالتطوع من الصلاة. والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقى الحج وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، في أنك تأمره بفرض وتطوع. وقرأ على وابن مسعود والشعبي رضى الله عنهم (والعمرة لله) بالرفع، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج وهو الوجوب فإن أحصرتم يقال: أحصر فلان، إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز. قال الله تعالى (الذين أحصروا في سبيل الله) . وقال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول «5»
__________
(1) . أخرجه الترمذي من رواية حجاج بن أرطاة عن ابن المنكدر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: لا. وأن تعتمر هو أفضل» ورواه الطبراني من رواية عبيد الله بن المغيرة عن أبى الزبير عن جابر، بلفظ «وأن تعتمر خير لك» ورواه الدارقطني من الوجهين. وضعفه. [.....]
(2) . أخرجه ابن ماجة من رواية إسحاق بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه بهذا. ورواه الطبراني من حديث ابن عباس بنحوه وفيه محمد بن الفضل بن عطية. وهو ضعيف. ورواه ابن أبى داود في المصاحف من رواية عمر بن قيس عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن عمه عن مسعود. قال الدارقطني في العلل: هذا خطأ. ولعله أراد إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه عبس بن طلحة. وإنما يعرف هذا الحديث من رواية معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة. ورواه الحفاظ من أصحاب شعبة عن معاوية بن إسحاق عن أبى صالح عن ماهان مرسلا. وكذلك رواه ابن أبى شيبة عن جرير عن معاوية بن إسحاق. وقال البيهقي: روى عن شعبة هذا الاسناد موصولا. لكن الطريق فيه إلى شعبة ضعيف.
(3) . أخرجه البخاري تعليقا. والشافعي موصولا. من رواية عمرو بن دينار عن طاوس عنه.
(4) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان، من رواية أبى وائل عن الضبي بن مغبديه.
(5) . لتوبة بن حمير، يقول لنفسه: ليس هجر ليلى الأخيلية محبوبتك لتباعدها عنك ولا لأشغال منعتك عنها، بل لخوف الرقباء والوشاة هجرتها. ويجوز أن المعنى: ليس هجرها لك بسبب، وإنما هو لايذائك واحتراق قلبك.

(1/239)


وحصر: إذا حبسه عدو عن المضى، أو سجن. ومنه قيل للمحبس: الحصير. وللملك، الحصير، لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، مثل صده وأصده. وكذلك قال الفراء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبى حنيفة رحمهم الله تعالى، كل منع عنده من عدو كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار. وعند مالك والشافعي منع العدو وحده.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» «1» فما استيسر من الهدي فما تيسر منه. يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب.
والهدى جمع هدية، كما يقال في جدية السرج «2» جدي. وقرئ (من الهدى) بالتشديد جمع هدية كمطية ومطى. يعنى فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة، فإن قلت: أين ومتى ينحر هدى المحصر؟
قلت: إن كان حاجا فبالحرم متى شاء عند أبى حنيفة يبعث به، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار «3» وعندهما في أيام النحر وإن كان معتمرا فبالحرم في كل وقت عندهم جميعا. و «ما استيسر» رفع بالابتداء، أى فعليه ما استيسر. أو نصب على: فاهدوا ما استيسر ولا تحلقوا رؤسكم الخطاب للمحصرين: أى لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدى الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أى مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين وقت وجوب قضائه، وهو ظاهر على مذهب أبى حنيفة رحمه الله. فإن قلت: إن النبى صلى الله عليه وآله وسلم نحر هديه حيث أحصر «4» ؟ قلت:
كان محصره طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة وهو من الحرم، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن وأحمد، وإسحاق، وبن أبى شيبة، والطبراني من حديث عكرمة عن ابن عمرو ابن غزية الأنصارى.
(2) . قوله «في جدية السرج» في الصحاح «الجدية» بتسكين الدال: شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج والرحل. ثم قال: وكذلك الجدية على فعيلة. (ع)
(3) . قوله «على يده يوم أمار» عبارة البيضاوي: يوم أمارة، فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تخلل. وفي الصحاح: قال الأصمعي: الآمار ولأمارة. الوقت والعلامة. (ع)
(4) . أما نحر الهدى حين حصر ففي البخاري من حديث ابن عمر رضى الله عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا. فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية» وأما كونه أسفل مكة فرواه [بياض في الأصل.]
وأما حديث الزهري فلم أجده لكن روى الطبري من حديث ناجية بن جندب الأسلمى» قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد عن البيت. فقلت: يا رسول الله ابعث معى بالهدى فينحر بالحرم. قال: كيف تصنع به؟ قال: أنحدر به في أودية فلا يقدرون عليه. فانطلقت به حتى نحرته في الحرم.

(1/240)


من مكة فمن كان منكم مريضا فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق أو به أذى من رأسه وهو القمل أو الجراحة، فعليه إذا احتلق فدية من صيام ثلاثة أيام أو صدقة على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أو نسك وهو شاة. وعن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، «لعلك أذاك هو امك» ؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة «1» » وكان كعب يقول:
فى نزلت هذه الآية، وروى أنه مر به وقد قرح رأسه «2» فقال: «كفى بهذا أذى» «3» وأمره أن يحلق ويطعم، أو يصوم. والنسك مصدر، وقيل جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك، بالتخفيف فإذا أمنتم الإحصار، يعنى فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة فمن تمتع أى استمتع بالعمرة إلى الحج واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج: انتفاعه بالتقرب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقربه بالحج. وقيل: إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرما عليه إلى أن يحرم من الحج فما استيسر من الهدي هو، هدى المتعة، وهو نسك عند أبى حنيفة ويأكل منه. وعند الشافعي يجرى مجرى الجنايات ولا يأكل منه.
ويذبحه يوم النحر عندنا. وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته فمن لم يجد الهدى فعليه فصيام ثلاثة أيام في الحج أى في وقته وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله. والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم. وعند الشافعي: لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكا بظاهر قوله: في الحج وسبعة إذا رجعتم بمعنى إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: هو الرجوع إلى أهاليهم. وقرأ ابن أبى عبلة (وسبعة) بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام، وكأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما) فإن قلت فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا أو واحدا منهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة.
وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به، ومن جهتين، فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب: علمان خير من علم، وكذلك كاملة تأكيد آخر. وفيه
__________
(1) . متفق عليه. وله طريق وألفاظ في الكتب الستة وغيرها. والأقرب للفظ المصنف ما رواه مالك.
(2) . قوله «وقد قرح رأسه» في الصحاح: قرح جلده- بالكسر- خرجت به القروح. (ع)
(3) . أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني والدارقطني من رواية الزبير بن عدى عن أبى وائل عن كعب بن عجرة قال «لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسى فتناثر القمل. فقال: كفى بهذا أذى، انطلق فاحلق وتصدق على ستة مساكين» وفي رواية إسحاق، قال: «إن هذا لأذى» وأمره أن يحلق وأن ينسك أو يصوم أو يطعم» .

(1/241)


الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب (197)

زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزل: الله الله لا تقصر. وقيل: كاملة في وقوعها بدلا من الهدى.
وفي قراءة أبى: فصيام ثلاثة أيام متتابعات ذلك إشارة إلى التمتع، عند أبى حنيفة وأصحابه.
لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند الشافعي: إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدى أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئا «1» . وحاضرو المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة واتقوا الله في المحافظة على حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف ليكون علمكم بشدة عقابه لطفا لكم في التقوى.

[سورة البقرة (2) : آية 197]
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)
أى وقت الحج أشهر كقولك: البرد شهران. والأشهر المعلومات: شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة «2» عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: تسع ذى الحجة وليلة يوم النحر. وعند مالك: ذى الحجة كله. فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضا عند الشافعي في غيرها. وعند أبى حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه. فإن قلت: فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت: اسم الجمع
__________
(1) . قوله «ولم يوجب عليهم شيئا» أى على حاضري المسجد الحرام. (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «هي شوال وذو القعدة ... الخ» . قال أحمد: الذي نقله عن مالك أحد قوليه وليس بالشهور عنه. وأما استدلاله لهذا القول بكراهية عمر الاعتمار إلى أن يهل المحرم فلا ينهض دليلا لمالك، لأنه يقول: لا تنعقد العمرة في أيام منى خاصة لمن حج، ما لم يتم الرمي ويحل بالافاضة فتنعقد. وجميع السنة ما عدا ما ذكر ميقات للعمرة، ولا تطهر فائدة هذا القول عند مالك إلا في إسقاط الدم عن مؤخر طواف الافاضة إلى آخر ذى الحجة لا غير، وهي الفائدة التي نقلها الزمخشري عن عروة، ولعمري إن هذا القول حسن دليلا، فلا يحتاج إلى مزيد. ولكن ظاهر الآية ومقتضاها: أن جملة الأشهر هي زمان الحج. ألا ترى أن من قال: وعشر من ذى الحجة يحتاج في تنزيل الآية على مذهبه إلى تقرير أن بعض الشهر يتنزل منزلة جميعه، ويستشهد على ذلك بقوله:
ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال
وإنما أحوجه إلى الاستشهاد، خروج مقالته عن ظاهر الآية فالمتمسك بها على ظاهرها في كمال الأشهر الثلاثة واقف مع اقتضائها غير مضطر إلى مزيد عليه.

(1/242)


يشترك فيه ما وراء الواحد. بدليل قوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) فلا سؤال فيه إذن، وإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات. وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنما رآه في ساعة منها. فإن قلت: ما وجه مذهب مالك وهو مروى عن عروة بن الزبير؟ قلت: قالوا إن العمرة غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر فكأنها مخلصة للحج لا مجال فيها للعمرة. وعن عمر رضى الله عنه: أنه كان يخفق الناس بالدرة وينهاهم عن الاعتمار فيهن. وعن عمر «1» رضى الله عنه قال لرجل: إن أطعتنى انتظرت حتى إذا أهللت المحرم «2» خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. وقالوا: لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر معلومات معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه. وإنما جاء مقررا له فمن فرض فيهن الحج فمن ألزمه نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدى وسوقه عند أبى حنيفة وعند الشافعي بالنية فلا رفث فلإجماع لأنه يفسده. أو فلا فحش من الكلام ولا فسوق ولا خروج عن حدود الشريعة وقيل. هو السباب والتنابز بالألقاب ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين «3» : وإنما أمر باجتناب ذلك. وهو واجب الاجتناب في كل حال «4» لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن. والمراد بالنفي وجوب انتفائها، وأنها حقيقة بأن لا تكون. وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع. وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهى، كأنه قيل:
فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك
__________
(1) . قوله «وعن عمر» لعله ابن عمر. (ع) [.....]
(2) . قوله «حتى إذا أهللت المحرم» في الصحاح: أهل الهلال واستهل، على ما لم يسم فاعله. (ع)
(3) . قوله «والمكارين» في الصحاح: الكراء ممدود، لأنه مصدر كاريت. والدليل على ذلك أنك تقول: رجل مكار. ومفاعل: إنما هو من فاعلت اه فالمكارين في عبارة المفسر. جمع للمكارى، على زنة المفاعلين جمعا للمفاعل. (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «إنما أمر باجتناب ذلك في الحج واجتنابه واجب ... الخ» . قال أحمد رحمه الله:
وفيه نكتة تتعلق بعلم البيان، وهي أن تخصيص الحج بالنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يشعر بأنها في غبر الحج وإن كانت منهيا عنها وقبيحة، إلا أن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج كلا قبح بالنسبة إلى وقوعها في الحج فاشتمل هذا التخصيص على هذا النوع من المبالغة البليغة والله أعلم. على أن الرفث إن كان التحدث في أمر الجماع خاصة، فالنهي عنه خاص بالحج وهو جائز في غيره على الوجه الشرعي. وقد نبه مالك رضى الله عنه على أنه لا بأس للحاج بالسعي في أمور النساء، إلا أن ذلك قد يوقع في الوهم أنه يؤدى إلى ترك المحظور، وهذا يدل على تشديد مالك في حظر الرفث للحاج وما يتعلق به والله أعلم. وسمعت الشافعية يلهجون بالاعتراض على إسحاق في قوله من التنبيه: وتحريم الغيبة على الصائم. فيقولون: وعلى المفطر، فلا فائدة في تخصيص الصائم، ويعدون ذلك وهما منه وهم بمعزل عن هذه الآية وأمثالها، فقد أوسعته عذرا في عبارته تلك إذ الكتاب العزيز به تمتحن الفصاحة وصحة العبارات.

(1/243)


ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)

ولا خلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج. واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم «1» ولدته أمه «2» » وأنه لم يذكر الجدال وما تفعلوا من خير يعلمه الله حث على الخير عقيب النهى عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، وينصره قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى أى اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن خير الزاد اتقاؤها. وقيل: كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون:
نحن متوكلون، ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا فيكونون كلا على الناس، فنزلت فيهم.
ومعناه: وتزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس «3» والتثقيل عليهم، فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي يا أولي الألباب يعنى أن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.

[سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 202]
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)
__________
(1) . قوله «خرج كهيئة يوم» لعله «كهيئة» بدون «يوم» . (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.
(3) . قوله «وإبرام الناس» في الصحاح: أبرمه، أى أمله وأضجره. (ع)

(1/244)


فضلا من ربكم عطاء منه وتفضلا، وهو النفع والربح بالتجارة، وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة الداج «1» . ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج. وقيل: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم. وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة، وعن ابن عمر رضى الله عنه: أن رجلا قال له: إنا قوم نكرى في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت فلم يرد عليه، حتى نزل (ليس عليكم جناح) فدعا به فقال: أنتم حجاج «2» . وعن عمر رضى الله عنه أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج «3» . وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: فضلا من ربكم في مواسم الحج. إن تبتغوا في أن تبتغوا «4» أفضتم دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول كما ترك في دفعوا من موضع كذا وصبوا. وفي حديث أبى بكر رضى الله عنه «5» : صب في دقران، وهو يخرش «6» بعيره بمحجنه» ويقال: أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه «7» . وعرفات علم للموقف سمى بجمع كأذرعات. فإن قلت: هلا منعت الصرف وفيها السبيان: التعريف والتأنيث؟ «8»
__________
(1) . قوله «الداج» الدجيج: الدبيب في السير وقالوا: الحاج والداج، فالداج: الأعوان والمكارون كذا في الصحاح. والمكارون: جمع المكاري، كالمغازين جمع المغازي. (ع)
(2) . أخرجه أبو داود وأحمد وابن أبى شيبة والحاكم من طريق العلاء بن المسيب: حدثنا أبو أمامة التيمي قال «كنت أكرى في هذا الوجه وكان قوم يقولون: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر، فقال: ألست بمحرم، ولكن- الحديث»
(3) . أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن مهاجر عن أبى صالح مولى عمر. قال «قلت: يا أمير المؤمنين- فذكره» وفي إسناده مندل بن على. وهو ضعيف.
(4) . قوله «أن تبتغوا» كان الأوجه تقديم هذا على تفسير قوله تعالى: (فضلا من ربكم) . (ع)
(5) . لم أجده. والذي في الغرائب لأبى عبيد الجرمي. وفي مسند الشافعي وطبقات ابن سعد كلهم من حديث ابن عيينة عن ابن المنكدر، وعن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن جبير بن الحويرث قال «رأيت أبا بكر على قزع. وهو يخرش بعيره بمحجنه» : زاد الجرمي عن أبى بكر بن أبى شيبة عن ابن عيينة «كأنى أنظر إلى فخذه وقد انكشفت»
(6) . قوله «دقران» في بعض النسخ: ذفران، بالذال المعجمة والفاء. ولعل الأول بالدال المهملة والفاء، من الدفر بمعنى النتن خاصة. والذفر- بالمعجمة والفاء محركة- ذكاء الرائحة طيبة أو خبيثة، كما في الصحاح. أما الدقر بالمهملة والقاف فبمعنى الشدة والكذب والفحش والنميمة. أفاده الصحاح. وفيه. الخرش مثل الخدش. (ع)
(7) . قوله «وهضبوا فيه» في الصحاح: الهضبة المطرة. وهضب القوم في الحديث واهتضبوا أى أفاضوا فيه. (ع)
(8) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت هلا منعت عرفات الصرف ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: يلزمه إذا سمى امرأة بمسلمات أن لا يصرفه فيقول: هذا مسلمات بغير تنوين، وهو قول ردىء بل الأفصح الصحيح في مسلمات إذا سمى به أن ينون. وإنما بنى الزمخشري كلامه هذا على أن تنوين عرفات للتمكين لا للمقابلة، ولذلك أسقط تنوين المقابلة من أنواع التنوين التي عدها في مفصله، على أنه راجع إلى تنوين التمكين. [.....]

(1/245)


قلت: لا يخلو من التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرة كما في سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح تقدير التاء فيها، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا يقدر تاء التأنيث في بنت، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها. وقالوا: سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما أبصرها عرفها. وقيل إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر أراه إياها فقال: قد عرفت. وقيل: التقى فيها آدم وحواء فتعارفا. وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها والله أعلم بحقيقة ذلك، وهي من الأسماء المرتجلة لأن العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف. وقيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» «1» فاذكروا الله بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات. وقيل: بصلاة المغرب والعشاء والمشعر الحرام قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. وقيل المشعر الحرام: ما بين جبل المزدلفة من مأزمى عرفة «2» إلى وادى محسر، وليس المأزمان ولا وادى محسر من المشعر الحرام. والصحيح أنه الجبل، لما روى جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر يعنى بالمزدلفة بغلس، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر «3» . وقوله تعالى: (عند المشعر الحرام) معناه مما يلي المشعر الحرام قريبا منه، وذلك للفضل، كالقرب من جبل الرحمة، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادى محسر. أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر: المعلم، لأنه معلم العبادة.
ووصف بالحرم لحرمته. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل: سميت المزدلفة وجمعا لأن آدم صلوات الله عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها، أى دنا منها. وعن قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين. ويجوز أن يقال: وصفت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى الله أى يتقربون بالوقوف فيها كما هداكم
__________
(1) . رواه أصحاب السنن والحاكم. واللفظ للنسائى. وزاد «قبل أن يطلع الفجر» كلهم من حديث عبد الرحمن ابن يعمر الديلي رضى الله عنه
(2) . قوله «من مأزمى عرفة» في الصحاح: المأزم المضيق، وموضع الحرب أيضا. (ع)
(3) . أخرجه مسلم في صفة الحج في الحديث الطويل.

(1/246)


ما مصدرية أو كافة. والمعنى: واذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، لا تعدلوا عنه وإن كنتم من قبله من قبل الهدى لمن الضالين الجاهلين، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. وإن هي مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة ثم أفيضوا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة، وذلك لما كان عليه الخمس من الترفع «1» على الناس والتعالي عليهم وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف. وقولهم: نحن أهل الله وقطان حرمه فلا نخرج منه، فيقفون بجمع وسائر الناس بعرفات؟ فإن قلت: فكيف موقع ثم؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، تأتى بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال: ثم أفيضوا لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ. وقيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وهم الخمس، أى من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. وقرئ: من حيث أفاض الناس- بكسر السين- أى الناسي وهو آدم، من قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) يعنى أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه واستغفروا الله من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم فإذا قضيتم مناسككم أى فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم فاذكروا الله كذكركم آباءكم فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم. وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل. فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم.
أو أشد ذكرا في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر «2» في قوله: (كذكركم) كما
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وذلك لما كان عليه الخمس من الترفع على الناس ... الخ» . قال أحمد رحمه الله:
وقد اشتملت الآية على نكتتين:
إحداهما: عطف الافاضتين إحداهما على الأخرى ومرجعهما واحد وهو الافاضة المأمور بها، فربما يتوهم متوهم أنه من باب عطف الشيء على نفسه، فيزال هذا الوهم بأن بينهما من التغاير ما بين العام والخاص، والمخبر عنه أولا الافاضة من حيث هي غير مقيدة، والمأمور به ثانيا الافاضة مخصوصة بمساواة الناس.
والثانية: بعد وضوح استقامة العطف كونه وقع بحرف المهملة وذلك يستدعى التراخي مضافا إلى التغاير، وليس بين الاضافة المطلقة والمقيدة تراخ. فالجواب على ذلك: أن التراخي كما يكون باعتبار الزمان قد يكون باعتبار علو المرتبة وبعدها في العلو بالنسبة إلى غيرها، وهو الذي أجاب به بعد مزيد نشيط وإيضاح
(2) . قال محمود رحمه الله: «أشد معطوف على ما أضيف إليه الذكر ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: فعلى الأول يكون (أشد) واقعا على المذكور المفعول. ومثاله على الأول: أن يضرب اثنان زيدا مثلا، فيقول أيهما أشد ضربا لزيد؟ فيوقعه على الضارب. ومثال الثاني أن يضرب زيد اثنين مثلا فتقول: أيهما أشد ضربا؟ فتوقعه على المضروب. وعلى الوجه الأول يكون التفضيل على الفاعل وهو القياس. وعلى الثاني يكون التفضيل على المفعول وهو خلاف القياس. وقد ذكر الزمخشري في مفصله أنه شاذ بقولهم: أتسبل مرآة التحسين وأنا أسر منك، هذا في أمثلة عددها، فليت شعري كيف حمل الآية عليه وقد وجد غير ذلك سبيلا، وفي الوجهين جميعا يفر من عطف أشد على الذكر الأول، لئلا يكون واقعا على الذكر وقد انتصب الذكر تمييزا عنه، فيكون الذكر ذاكرا وهو محال، لكن أبا الفتح صحح هذا الوجه وألحقه بباب قولهم: شعر شاعر، وجن جنونه، ونحوه مما بالغت العرب فيه حتى جعلت للصفة صفة مثلها تمكينا لثبوتها. ووضح ذلك أن انتصاب الذكر تمييزا يوجب أن لا يقع أشد عليه، ويعين خروجه منه إما بأن يقع على الجثة الذاكرة بتأويل جعله ذاكرا، على ما صار إليه أبو الفتح أنك لو قلت: زيد أكرم أبا، لكان زيد من الأبناء: ولو قلت: زيد أكرم أب، لكان من الآباء. ويحتمل عطفه على الذكر أعنى وجها آخر سوى ما ذهب إليه أبو الفتح، وهو أن يكون من باب ما ذكره سيبويه قال: ويقولون هو أشح الناس رجلا، وهما خير الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين، فالمجرور هنا بمنزلة التنوين، وانتصب الرجل والاثنين، كما انتصب الوجه في قولك: هو أحسن منه وجها، ولا يكون إلا نكرة، كما لا تكون الحال إلا نكرة، والرجل هو الاسم المبتدأ فإنما أراد بذلك أن هذا ليس بمثابة: هو أشجع الناس غلاما فان هذا يجوز أن يكون غلاما هو الاسم المبتدأ كما في المثال الأول، ويجوز أن يكون غيره فالآية على هذا الوجه الذي أوضحته منزلة على المثال الأول، فيكون ذكر المنصوب واقعا على أشد كما كان الرجل المنصوب واقعا على أشح فكأنه قال: أو أشد الأذكار ذكرا، فهذه وجوه أربعة كلها مطروقة، إلا هذا الوجه الذي زدته، فان خاطري أبو عذرته (كخشية الله أو أشد خشية) ولم أقف على كلام الزمخشري فيها بعد.

(1/247)


تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. أو في موضع نصب عطف على آباءكم، بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم، على أن ذكرا من فعل المذكور فمن الناس من يقول معناه أكثروا ذكر الله ودعاءه فإن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أعراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين آتنا في الدنيا اجعل إيتاءنا أى إعطاءنا في الدنيا خاصة وما له في الآخرة من خلاق أى من طلب خلاقى وهو النصيب. أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا.
والحسنتان ما هو طلبة الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير، وطلبتهم في الآخرة من الثواب. وعن على رضى الله عنه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار: امرأة السوء: أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب مما كسبوا أى نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا، كقوله: (مما خطيئاتهم أغرقوا) . أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة. وسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب: بما كسبت أيديكم. ويجوز أن يكون (أولئك) للفريقين جميعا، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا والله سريع الحساب يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.

(1/248)


واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)

روى أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة: وروى في مقدار فواق نافة. وروى في مقدار لمحة.

[سورة البقرة (2) : آية 203]
واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)
الأيام المعدودات. أيام التشريق، وذكر الله فيها: التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار.
وعن عمر رضى الله عنه: أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله، حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف فمن تعجل فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل، واستعجل:
يجيئان مطاوعين بمعنى عجل. يقال: تعجل في الأمر واستعجل: ومتعديين، يقال: تعجل الذهاب واستعجله. والمطاوعة أوفق لقوله: (ومن تأخر) كما هي كذلك في قوله:
قد يدرك المتأنى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل «1»
لأجل المتأنى في يومين بعد يوم النحر يوم القر «2» وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمى الجمار كما يفعل الناس اليوم وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة. وعند أبى حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر ومن تأخر حتى رمى في اليوم الثالث. والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبى حنيفة. وعند الشافعي
__________
(1) .
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأنى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات قوم جل أمرهم ... من التأنى وكان الرأى لو عجلوا
للقطامى وقيل للأعشى. والناس مبتدأ. ومن يلق- يصب- خيرا، شرط حذف صدر جوابه، أى فهم قائلون له، والجملة خبر المبتدأ. ما يشتهى، أى الذي يريده من الدعاء بخير أو من المدح. وروى: ما تشتهي، فلعل معناه يقولون له: ما تشتهيه أنت يا مخاطب. ويجوز أن «ما» استفهامية، أى ما الذي تريده يا من لقيت الخير، لكن تبعده المقابلة. وهبلت المرأة هبلا، كتعبت تعبا: ثكلت ولدها وفقدته فحزنت عليه. أى ويقال لأم المخطئ الثكلى، فهو دعاء عليها بموت ولدها. ثم قال:
قد يدرك المنهل بعض قصده ... وقد يكون مع المتعجل الخطأ
وعجلته فتعجل واستعجل، ويتعديان أيضا فيقال: تعجل الأمر واستعجله. ثم قال: وقد يفوت قوما معظم قصدهم بسبب التأنى وكان الرأى الصواب عجلتهم، فلو مصدرية. والمعنى أن بعض الحاجات يناسبها التمهل، وبعضها التعجل.
ويجوز أن «لو عجلوا» هو اسم كان والرأى بالنصب خبرها. وروى بدله الحزم، والمعنى متقارب. وفي الكلام نوع بديعى يسمى العكس والتبديل، وهو الإتيان بنقيض المعنى المشهور كما هنا، فان مدح التأنى هو المشهور، ومدح العجلة يناقضه. أفاده السيوطي في شرح عقود الجمان.
(2) . قوله «يوم النحر يوم القر» في الصحاح: لأن الناس يقرون في منازلهم. (ع)

(1/249)


ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206)

لا يجوز. فإن قلت: كيف قال فلا إثم عليه عند التعجل والتأخر جميعا؟ قلت: دلالة على أن التعجل والتأخر مخير فيهما، كأنه قيل: فتعجلوا أو تأخروا. فإن قلت: أليس التأخر بأفضل؟
قلت: بلى، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل «1» وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين: منهم من جعل المتعجل آثما، ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفي المأثم عنهما جميعا لمن اتقى أى ذلك التخيير.
ونفى الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقى: لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أن أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند الله. ثم قال واتقوا الله ليعبأ بكم. ويجوز أن يراد ذلك الذي مر ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206]
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206)
من يعجبك قوله أى يروقك ويعظم في قلبك. ومنه: الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.
وهو الأخنس بن شريق كان رجلا حلو المنطق، إذا لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال: يعلم الله أنى صادق. وقيل: هو عام في المنافقين، كانت تحلولي ألسنتهم، وقلوبهم أمر من الصبر، فإن قلت: بم يتعلق قوله في الحياة الدنيا؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إنما نفى الإثم في الطرفين جميعا ليدل على التخيير بين الأمرين الفاضل والأفضل، كما خير المسافر بين الصوم والفطر وإن كان الصوم أفضل» . قال أحمد رحمه الله: قوله- إن التخيير يقع بين الفاضل والأفضل- غير مستقيم، فان التخيير يوجب التساوي في غرض المخير، وينافي طلب أحد الطرفين والأمر به. وكيف يستقيم اجتماع ما يوجب الطلب والترجيح وما يوجب التساوي والتخيير. وقد وقع لإمام الحرمين قريب من هذا، فانه ميز الوجوب من الندب بأن الندب يشتمل على اقتران الأمر بخيرة الترك ولا كذلك الوجوب، ولم يرضه محققو الفن وإنما أخل الزمخشري في تفسيره الآية فلزمه ذلك السؤال الوارد عليه. وبيان عدم التطابق بين تفسيره والآية، أى مضمونها نفى الإثم عن الطرفين جميعا، وهذا القدر مشترك بين الندب والكراهة والاباحة، لكن يتميز الندب بترجيح الفعل على الترك، وتتميز الكراهة والاباحة بالتخيير بينهما فلا تنافى إذا بين الندب إلى التأخير وأنه أفضل، وبين نفى الإثم عن تاركه إلى التعجيل. وحينئذ لا يرد السؤال الذي لزمه فأجاب عنه.

(1/250)


ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207) ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209)

بالقول، أى يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا لأن ادعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظا من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول: فكلامه إذا في الدنيا لا في الآخرة. ويجوز أن يتعلق بيعجبك، أى قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه ويشهد الله على ما في قلبه أى يحلف ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام. وقرئ: ويشهد الله. وفي مصحف أبى: ويستشهد الله: وهو ألد الخصام وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين. وقيل: كان بينه وبين ثقيف «1» خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم. والخصام: المخاصمة. وإضافة الألد بمعنى في، كقولهم: ثبت الغدر. أو جعل الخصام ألد على المبالغة. وقيل الخصام: جمع خصم، كصعب وصعاب، بمعنى وهو أشد الخصوم خصومة وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بثقيف. وقيل (وإذا تولى) وإذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل. وقرئ: ويهلك الحرث والنسل، على أن الفعل للحرث والنسل. والرفع للعطف على سعى. وقرأ الحسن بفتح اللام، وهي لغة. نحو: أبى يأبى. وروى عنه: ويهلك، على البناء للمفعول أخذته العزة بالإثم من قولك: أخذته بكذا، إذا حملته عليه وألزمته إياه، أى حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلى عنه ضرارا ولجاجا. أو على رد قول الواعظ.

[سورة البقرة (2) : آية 207]
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد (207)
يشري نفسه يبيعها أى يبذلها في الجهاد. وقيل: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل، وقيل: نزلت في صهيب بن سنان: أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه، فقال لهم: أنا شيخ كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم، فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالى. فقبلوا منه ماله وأتى المدينة والله رؤف بالعباد حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209]
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209)
__________
(1) . قوله «وقيل كان بينه وبين ثقيف» الضمير للأخنس بن شريق (ع)

(1/251)


السلم) بكسر السين وفتحها. وقرأ الأعمش بفتح السين واللام، وهو: الاستسلام والطاعة، أى استسلموا لله وأطيعوه كافة لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته. وقيل هو الإسلام. والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم.
ويجوز أن يكون كافة حالا من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب. قال:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع «1»
على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها. وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يخلوا بشيء منها. وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله
__________
(1) .
أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فان قومي لم تأكلهم الضبع
إن تك جلمود بصر لا أؤبسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
للعباس بن مرداس يخاطب خفاف بن ندبة. وأما أنت: أصله لأن كنت، فحذفت لام التعليل وكان الناقصة، فانفصل ضميرها ونابت عنها ما، وأدغمت فيها أن المصدرية. وقال الكوفيون تأتى «أن» بالفتح شرطية كان بالكسر، وعلى هذا فلا حاجة لتقدير لام التعليل، والمعنى على الشرط والجواب. والضبع: السنة المجدبة، أو الحيوان المعروف.
والبصر: حجارة تضرب إلى بياض، واحدة بصرة. وقيل هي بمعناه، وأبسه تأبيسا: ذلله وكسره. يقول يا أبا خراشة، لأن كنت صاحب جيش افتخرت على، لا تفعل ذلك فان قومي موجودون كثيرون. وكنى عن ذلك بعدم أكل الضبع إياهم. ويحتمل أن فيه تعريضا أيضا، ثم قال: إن تكن كصخر من الحجارة لا أقدر على تأبيسه وتكسيره لصلابته، أو قد عليه نار الحرب بمعاونة الفرسان لي فأحرقه فينشق وينكسر فالايقاد استعارة مصرحة، والاحماء ترشيح. أو إن لم أغلبك على العادة تحيلت حتى أغلبك، كما يتحيل بكسر الحجر بالنار. وأتى بضمير الغيبة نظرا للخبر، ورفع أحميه وينصدع بعد الشرط المضارع قليل ضعيف، سيما مع عطفهما على المجزوم، ولعله توهم جزمه. والسلم بالفتح وبالكسر: الصلح تأخذ منها ما يكفيك من طول المدة، أو تأخذ منا بسببها. وأما الحرب فيكفيك منها القليل، فتنكير جرع للتقليل. وشبه الحرب بنار منحبسة في ظرف ذى منافذ تخرج منها أنفاس، وشبه الأنفاس بماء على طريق المكنية والأنفاس تخييل للأولى والجرع تخييل للثانية، وفيها نوع تهكم حيث شبه الحار بالبارد، كأنه يسقيه من أنفاسها. ويروى «في السلم تأخذ منا ما رضيت به» أى تأخذ منا شيئا كثيرا في زمن الصلح، ولا تطيق من حربنا إلا قليلا لكن هذه الرواية إنما تدل على تأنيث السلم، بطريق المقابلة للحرب.

(1/252)


هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور (210)

صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت «1» وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل «2» وكافة من الكف، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم فإن زللتم عن الدخول في السلم من بعد ما جاءتكم البينات أى الحج والشواهد على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم حكيم لا ينتقم إلا بحق. وروى أن قارئا قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابى فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. وقرأ أبو السمال: زللتم بكسر اللام وهما لغتان، نحو: ظللت وظللت.

[سورة البقرة (2) : آية 210]
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور (210)
إتيان الله إتيان أمره وبأسه كقوله: و يأتي أمر ربك)
، (جاءهم بأسنا) ويجوز أن يكون المأتى به محذوفا، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فإن الله عزيز) . في ظلل جمع ظلة وهي ما أظلك. وقرئ: ظلال وهي جمع ظلة، كقلة وقلال أو جمع ظل. وقرئ والملائكة بالرفع كقوله: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) وبالجر عطف على ظلل أو على الغمام. فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث. ومن ثمة اشتد على المتفكرين في
__________
(1) . رواه عبد الغنى بن سعيد الثقفي في تفسيره عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال «نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه. وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بشريعته وشريعة موسى، فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا. فأنكر ذلك عليهم المسلمون: فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كتاب الله تعالى: وفي هذا فلنعمل بهما [ (في نسخة «إن التوراة كتاب الله. فدعا فلنعمل بها» .) ] . فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وهي نسخة موضوعة. وقد أخرجه الطبري من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عكرمة. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) الآية قال: نزلت في أناس من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام، وثعلبة، وابن يامين وأسد بن كعب.
وطائفة من يهود، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلا. فأمرهم الله باقامة شعائر الإسلام والرغبة عما عداها. قال فذكر الآية. فهذا أولى. وابن جريج لم يسمع من عكرمة.
(2) . قوله «في صلاته من الليل» لعل بعده سقطا تقديره: فنزلت. (ع)

(1/253)


سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب (212)

كتاب الله قوله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) . (وقضي الأمر) وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه. وقرأ معاذ بن جبل رضى الله عنه: وقضاء الأمر، على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة. وقرئ: ترجع، وترجع، على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما.

[سورة البقرة (2) : آية 211]
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211)
سل أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد. وهذا السؤال سؤال تقريع كما تسئل الكفرة يوم القيامة كم آتيناهم من آية بينة على أيدى أنبيائهم وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام، ونعمة الله آياته، وهي أجل نعمة من الله، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم. كقوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) أو حرفوا آيات الكتب «1» الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟ قلت: تحتمل الأمرين.
ومعنى الاستفهام فيها للتقرير. فإن قلت: ما معنى من بعد ما جاءته. قلت: معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله: ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه: وقرئ: ومن يبدل بالتخفيف.

[سورة البقرة (2) : آية 212]
زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب (212)
المزين هو الشيطان «2» زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها.
ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين له تزيينا، ويدل عليه قراءة من قرأ (زين الذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل ويسخرون من الذين آمنوا
__________
(1) . قوله «أو حرفوا آيات الكتب» لعله عطف على المعنى، أى أنهم جعلوا المعجزات أسباب ضلالهم، وقد جعلها الله أسباب هداهم. أو حرفوا آيات الكتب ... الخ» . (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله «المزين هو الشيطان ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وردت إضافة التزيين إلى الله تعالى وإضافته إلى غيره في مواضع من الكتاب العزيز وهذه الآية تحتمل الوجهين، لكن الاضافة إلى قدرة الله تعالى حقيقة، والاضافة إلى غيره مجاز. على قواعد السنة. والزمخشري يعمل على عكس هذا، فان أضاف لله فعلا من أفعاله إلى قدرته جعله مجازا وإن أضافه إلى بعض مخلوقاته جعله حقيقة. وسبب هذا هو التعكيس باتباع الهوى في القواعد الفاسدة. [.....]

(1/254)


كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)

كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم، أى لا يريدون غيرها. وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها، أو ممن يطلب غيرها والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة لأنهم في عليين من السماء، وهم في سجين من الأرض «1» أو حالهم عالية لحالهم لأنهم في كرامة وهم في هوان. أو هم عالون عليهم متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون الفضل لهم عليهم، (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) . والله يرزق من يشاء بغير حساب بغير تقدير، يعنى أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة. ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم. فإن قلت: لم قال: (من الذين آمنوا) ثم قال: (والذين اتقوا) ؟ قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقى، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 213]
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
كان الناس أمة واحدة متفقين على دين الإسلام فبعث الله النبيين يريد: فاختلفوا فبعث الله. وإنما حذف لدلالة قوله: (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) عليه. وفي قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله. والدليل عليه قوله عز وعلا (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «لأنهم في عليين من السماء، وهم في سجين ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر بصفة أخرى ومثله في كتاب الله كثير، قال الله تعالى: (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) وكان الأصل: ألا إنهم ... الآية، فوضع الظاهر موضع المضمر بصفة أخرى، وضمنه ذكر صفة الظلم بتلو صفة الخسران. وفي كلام الزمخشري طماح إلى قاعدته في وجوب وعيد العصاة. ألا تراه يقول: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقى، إشارة إلى أن غير المتقى وهو المصر على الكبائر شقى حتما كهؤلاء الذين يسخرون من الذين آمنوا، ومنهم من يتمحل فيقول: لأنه جعل المؤمن عين المتقى ومقتضى قاعدته الفاسدة: أن الايمان يستلزم القوى حتى لا يفرض مؤمن إلا متقيا. إذ الايمان فيما فسره هو في تفسيره هذا وفيما فسره أهل بدعته في كتبهم هو تصديق الاعتقاد الصحيح والنطق به بالعمل الصالح، والمخل عندهم بالعمل إما بالإصرار على كبيرة أو بترك مهم من الواجبات فاسق ليس بمؤمن ولا كافر. فمقتضى هذا التقرير على ما ترى أن كل مؤمن متق، وقد علمت من كلامه على هذه الآية ما يأبى ذلك وينقصه.

(1/255)


أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)

وقيل: كان الناس أمة واحدة كفارا، فبعث الله النبيين، فاختلفوا عليهم. والأول الوجه. فإن قلت: متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت: عن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا.
وقيل: هم نوح ومن كان معه في السفينة وأنزل معهم الكتاب يريد الجنس، أو مع كل واحد منهم كتابه ليحكم الله، أو الكتاب، أو النبى المنزل عليه فيما اختلفوا فيه في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق وما اختلف فيه في الحق إلا الذين أوتوه إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، أى ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب، وجعلوا نزول الكتاب سببا في شدة الاختلاف واستحكامه بغيا بينهم حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم. ومن الحق بيان لما اختلفوا فيه، أى فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف.

[سورة البقرة (2) : آية 214]
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)
أم منقطعة، ومعنى الهمزة «1» فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات- تشجيعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له- قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ: أم حسبتم ولما فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات. والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر مثل الذين خلوا حالهم التي هي مثل في الشدة. ومستهم بيان للمثل وهو استئناف، كأن قائلا قال:
كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء وزلزلوا وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع حتى يقول الرسول إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها متى نصر الله أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشهدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهى الأمر في الشدة وتماديه في العظم، لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان
__________
(1) . قوله «أم منقطعة ومعنى الهمزة» تفسر بمعنى بل والهمزة. (ع)

(1/256)


يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215) كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)

ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها ألا إن نصر الله قريب على إرادة القول، يعنى فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. وقرئ (حتى يقول) بالنصب على إضمار أن ومعنى الاستقبال لأن «أن» علم له. وبالرفع على أنه في معنى الحال، كقولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه، إلا أنها حال ماضية محكية.

[سورة البقرة (2) : آية 215]
يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215)
فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال في قوله: قل ما أنفقتم وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت: قد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع «1»
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هم «2» وله مال عظيم فقال:
ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت. وعن السدى: هي منسوخة بفرض الزكاة. وعن الحسن: هي في التطوع.

[سورة البقرة (2) : آية 216]
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)
وهو كره لكم من الكراهة بدليل قوله وعسى أن تكرهوا شيئا ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقولها:
فإنما هى إقبال وإدبار «3»
__________
(1) .
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها ... لله أو لذوي القرابة أو دع
يقول: إن العطية لا تكون عطية حقيقة حتى تكون في موضعها، فكنى باصابة الطريق عن إيصالها إلى المقصد، وهو من يستحقها. وقوله «فاعمد بها» أى اقصد بها. وضمنه معنى اذهب بها، فعداه باللام. ويروى: لذوي القرائب فلعل معناه لأصحاب القرابات القرائب. وقوله «أو دع» أى اترك، لأنه ليس بعد هذين إلا الفخر.
(2) . قوله «وهو شيخ هم وله مال» في الصحاح الهم- بالكسر-: الشيخ الفاني. (ع)
(3) . مر شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 218 فراجعه إن شئت اه مصححه

(1/257)


يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218)

كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له. وإما أن يكون فعلا بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز، أى وهو مكروه لكم. وقرأ السلمى- بالفتح- على أن يكون بمعنى المضموم، كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم. ومنه قوله تعالى: (حملته أمه كرها ووضعته كرها) «1» ، وعلى قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا) جميع ما كلفوه، فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه والله يعلم ما يصلحكم وما هو خير لكم وأنتم لا تعلمون ذلك.

[سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218]
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218)
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة»
قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويبذعر «3» فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى، وعن ابن عباس رضى الله عنه: لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة. والمعنى: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام. وقتال فيه بدل الاشتمال من الشهر. وفي
__________
(1) . قوله «ووضعته كرها وعلى قوله تعالى» أى جميع ما كلفوه جار على قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا ... )
الخ فان النفوس تكرهه وهو خير لهم، وتحب خلافه وهو شر لهم. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير بطوله، ومن طريقه رواه البيهقي في الدلائل، وكذا ذكره ابن لهيعة عن أبى الأسود عن عروة. ومن طريقه الواحدي. وأخرجه الطبراني من حديث جندب بن عبد الله البجلي موصولا.
(3) . قوله «ويبذعر فيه الناس» أى يتفرقون فيه. أفاده الصحاح. (ع)

(1/258)


يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219) في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)

قراءة عبد الله: عن قتال فيه، على تكرير العامل، كقوله: (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه كبير، أى إثم كبير. وعن عطاء: أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام؟
فحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وما نسخت.
وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) . وصد عن سبيل الله مبتدأ وأكبر خبره، يعنى وكبائر قريش من صدهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول الله والمؤمنون أكبر عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن والفتنة الإخراج أو الشرك. والمسجد الحرام: عطف على سبيل الله، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في: (به) . ولا يزالون يقاتلونكم إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم، وحتى معناها التعليل كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أى يقاتلونكم كى يردوكم. وإن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بى فلا تبق على. وهو واثق بأنه لا يظفر به ومن يرتدد منكم ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على رده إليه فيمت على الردة فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة. وبها احتج الشافعي على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها. وعند أبى حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلما. إن الذين آمنوا والذين هاجروا روى أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي، ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت أولئك يرجون رحمت الله وعن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون. وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]
يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219) في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)
نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة «1» : (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة ... الخ» . قال أحمد: ويظهر لي سر واقع مما ذكره في هذا الغرض، وذلك أن السؤال الأول من الأسئلة المقرونة بالواو عين السؤال الأول من الأسئلة المجردة عن الواو. ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم وإن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا وجه مصرفه، ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا، فقيل العفو أى الفاضل من النفقة الواجبة على العيال، أو نحو ذلك حيثما ورد في تفسيره، فتعين إذا اقتران هذا السؤال بالواو ليرتبط بالأول. ويحتمل أنهم لما أجيبوا أولا ببيان جهة المصرف ولم يصرح لهم بالجواب على عين المنفق ما هو، أعاد السؤال لكي يتلقوا جوابه صريحا، فتعين دخول الواو. وأما السؤال الثاني من الأسئلة المقرونة بالواو، فقد وقع عن أحوالهم مع اليتامى وهل يجوز لهم مخالطتهم في النفقة والكسوة والسكنى وقد كانوا يتحرجون من ذلك في الجاهلية؟ فلما كان مناسبا للسؤال عن الإنفاق باعتبار المنفق وباعتبار جهة المصرف، عطف عليه ليكمل لهم بيان المشروعية في النفقة وآدابها الدينية بيانا شافيا، لأنه قد اجتمع في علمهم ما ينفقون، وفيم ينفقون، وعلى أى حالة ينفقون من مخالطة اليتيم والانفراد عنه. وأما السؤال الثالث منها وهو الواقع عن النساء الحيض، فقد ورد أنهم في الجاهلية كانوا يعتزلون الحيض في المؤاكلة والمساكنة يقتدون في ذلك باليهود، فسألوا السؤال المذكور، كما كانوا يعتزلون اليتامى في المساكنة والمؤاكلة تحرجا جاهليا، وكان بين هذين السؤالين تناسب كما ترى، فحسن أن يعطف الآخر على ما قبله تنبيها على ما بينهما من المشاكلة والله أعلم. وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة عن الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة، إذ الأول منها عن النفقة، والثاني عن القتال في الشهر الحرام، والثالث عن الخمر والميسر. فبين هذه الأسئلة من التباين والتقاطع ما لا يخفى، فذكرت كذلك مرسلة متعاطفة غير مربوطة بعضها ببعض، فتنبه لهذا السر فانه بديع لا تجده يراعى إلا في الكتاب العزيز، لاستيلائه على أسرار البلاغة ونكت الفصاحة، ولا يستفاد منه إلا بالتنقيب في صناعة البيان وعلم اللسان. وقد اشتمل جواب الزمخشري المقدم على وهم أنبه عليه، وذلك أنه قال: الأسئلة الثلاثة الأخيرة وقعت في وقت واحد وكانت في حكم السؤال الواحد، فربط بعضها ببعض بالواو، وهذا يقتضى كما ترى أن يقترن السؤال الثاني والثالث بالواو خاصة دون الأول، إذ الواو إنما يربط ما بعدها بما قبلها، فاقترانها بالأول لا يربطه بالثاني وإنما يربطه بما قبله، وعلى هذا تكون الأسئلة التي وقعت في وقت واحد أربعة أسئلة لا ثلاثة خاصة، وقد قال: إن الأسئلة المرتبطة الواقعة في وقت واحد هي الثلاثة الأخيرة، فهو واهم بلا شك وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم.

(1/259)


فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا يا رسول الله، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت: (فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» فقل من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه موضحة، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت (إنما الخمر والميسر) إلى قوله (فهل أنتم منتهون) فقال عمر رضى الله عنه: انتهينا يا رب «1» . وعن على رضى الله عنه: لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها «2» ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي في تفسيره بغير إسناد وسيأتى في تفسير سورة النساء من حديث أبى هريرة معناه.
(2) . لم أجده عنه.

(1/260)


لم أرعه. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعني «1» . وهذا هو الإيمان حقا، وهم الذين اتقوا الله حق تقاته. والخمر: ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم غلى واشتد ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحل شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبى حنيفة. وعن بعض أصحابه: لأن أقول مرارا هو حلال، أحب إلى من أن أقول مرة هو حرام، ولأن أخر من السماء فأتقطع قطعا أحب إلى من أن أتناول منه قطرة. وعند أكثر الفقهاء هو حرام كالخمر، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب. وسميت خمرا لتغطيتها العقل والتمييز كما سميت سكرا لأنها تسكرهما، أى تحجزهما، وكأنها سميت بالمصدر من «خمره خمرا» إذا ستره للمبالغة. والميسر: القمار، مصدر من يسر، كالموعد والمرجع من فعلهما. يقال: يسرته، إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار.
لأنه سلب يساره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال:
أقول لهم بالشعب إذ ييسروننى «2»
أى يفعلون بى ما يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت: كيف صفة الميسر؟ قلت: كانت لهم عشرة أقداح، وهي: الأزلام والأقلام، والفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى والمنيح والسفيح، والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها عشرة أجزاء. وقيل: ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي المنيح والسفيح والوغد. ولبعضهم:
لى فى الدنيا سهام ... ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد ... وسفيح ومنيح «3»
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة عن ابن المبارك عن الأوزاعى عن سليمان بن حبيب أن ابن عمر قال «لو أدخلت أصبعي في خمر ما أحببت أن ترجع إلى.
(2) .
أقول لهم بالشعب إذ ييسروننى ... ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
لسحيم بن وثيل الرياحي. والشعب: اسم مكان. ويقال: يسره، إذا غلبه في لعب الميسر وهو القمار. واليأس هنا بمعنى العلم. وزهدم في الأصل فرخ البازي يسمى به الفرس لسرعته. أى أقول لهم في هذا الموقع وقت أن غلبوني في الميسر وضربونى بسهامه: ألم تعلموا أنى ابن الرجل الشجاع فارس تلك الفرس. والاستفهام للتقرير والتقريع.
وروى: إذ يأسروننى، أى يأخذوننى أسيرا عندهم. ويجوز أن المعنى: ألم تيأسوا وتقطعوا أطماعكم عما تريدون بى لأنى ابن ذلك الفارس المشهور، فالاستفهام للتوبيخ والحث على اليأس من ذلك.
(3) . الأسماء الثلاثة لأقلام الميسر التي لا نصيب لها من الجزور كل اسم لعلم، والوغد في الأصل: الحادم، والدنىء، وثمر الباذنجان بخلاف السبعة الباقية فلها أنصباء. والكلام من باب التمثيل، شبه حاله في الدنيا بحال من خرجت له تلك السهام في الميسر لعدم الظفر بالمرام. ويبعد كونه كناية عن الكرم، حيث يعطى ولا يأخذ.
ويروى بدل «وأساميهن» «إنما سهمي» أى سهامي، بدليل: سهام قبله. [.....]

(1/261)


للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة، ويضعونها على يدي عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها. ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم. وفي حكم الميسر: أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم «1» » وعن على رضى الله عنه: أن النرد والشطرنج من الميسر «2» . وعن ابن سيرين: كل شيء فيه خطر فهو من الميسر.
والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما، بدليل قوله تعالى قل فيهما إثم كبير، وإثمهما وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من نفعهما وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم، وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام «3» . وقرئ: إثم كثير- بالثاء- وفي قراءة أبى: وإثمهما أقرب. ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة العفو نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال:
خذى العفو منى تستديمى مودتى «4»
ويقال للأرض السهلة: العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلا أتاه ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال: خذها منى صدقة، فأعرض عنه رسول الله صلى
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه من حديث سمرة بن جندب. ومن حديث أبى موسى الأشعرى نحوه، ورواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد من وجهين عن أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود بلفظ «اتقوا هاتين اللعبتين المشئومتين اللتين يزجران زجرا فإنهما من ميسر العجم» .
(2) . أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقي والثعلبي من طريق حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه «أن عليا قال في النرد والشطرنج: هما من الميسر» وهو منقطع.
(3) . قوله «والافتخار على الأبرام» جمع للبرم بالتحريك، وهو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. كذا في الصحاح. (ع)
(4) .
خذي العفو منى تستديمى مودتي ... ولا تنطقى في سورتي حين أغضب
فانى رأيت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
ولا تضربينى مرة بعد مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب
لأسماء بن خارجة النزاري أحد حكماء العرب يخاطب زوجته حين بنى عليها. والعفو: السهل اليسير. والسورة:
شدة الغضب. واجتمعا: شارفا الاجتماع. ويذهب: استئناف وقع جواب سؤال مقدر، والضرب مجاز عن الإيذاء، والمغيب عاقبة الأمر، أى خذي السهل من أخلاقى لئلا يذهب حبى إياك ويذهب فيه رائحة الاضراب، أى بل يذهب.

(1/262)


ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون (221)

الله عليه وسلم فأتاه من الجانب الأيمن فقال مثله فأعرض عنه، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فخذفه بها خذفا لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى «1» » في الدنيا والآخرة إما أن يتعلق بتتفكرون، فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما هو أصلح لكم كما بينت لكم أن العفو أصلح من الجهد في النفقة، وتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: (وإثمهما أكبر من نفعهما) لتتفكروا «2» في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا. حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم. وإما أن يتعلق بيبين على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون، لما نزلت (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) اعتزلوا اليتامى وتحاموهم وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، فشق ذلك عليهم وكاد يوقعهم في الحرج، فقيل إصلاح لهم خير أى مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم وإن تخالطوهم وتعاشروهم ولم تجانبوهم (فهم) فإخوانكم في الدين، ومن حق الأخ أن يخالط أخاه، وقد حملت المخالطة على المصاهرة والله يعلم المفسد من المصلح أى لا يخفى على الله من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ولو شاء الله لأعنتكم لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم. وقرأ طاوس: قل إصلاح إليهم. ومعناه إيصال الصلاح وقرئ: لعنتكم، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وكذلك (فلا إثم عليه) «3» . إن الله عزيز غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه حكيم لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم.

[سورة البقرة (2) : آية 221]
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون (221)
__________
(1) . أخرجه أبو داود وابن حبان والبزار، والدارمي، وأبو يعلى، وابن أبى شيبة، وعبد بن حميد، وإسحاق في مسانيدهم: كلهم من رواية محمود بن لبيد عن جابر. ورواه ابن سعد في ترجمة أبى حصين السلمى من رواية عمر ابن الحكم بن ثوبان عن جابر، قال «قدم أبو حصين السلمى بذهب أصابه من معدنهم فقضى منه دينا كان عليه» فذكر الحديث مثل سياق أبى داود. وفي إسناده الواقدي.
(2) . قوله «أكبر من نفعهما لتتفكروا» لعله فيكون المعنى: لتتفكروا. (ع)
(3) . قوله «وكذلك فلا إثم عليه» لعله: كذلك في طرح الهمزة، لا في نقل الحركة، وتطرح ألف المد لالتقاء الساكنين. فليحرر. (ع)

(1/263)


ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)

ولا تنكحوا وقرئ بضم التاء، أى لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن. والمشركات الحربيات، والآية ثابتة. وقيل المشركات الحربيات والكتابيات جميعا، لأن أهل الكتاب من أهل الشرك، لقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله) إلى قوله تعالى: (سبحانه عما يشركون) ، وهي منسوخة بقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) . وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس والأوزاعى.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبى مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق، فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال:
ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوج بى؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره، فاستأمره «1» فنزلت ولأمة مؤمنة خير ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة، وكذلك (ولعبد مؤمن) لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه ولو أعجبتكم ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها، فإن المؤمنة خير منها مع ذلك أولئك إشارة إلى المشركات والمشركين، أى يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال والله يدعوا إلى الجنة يعنى وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم بإذنه بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن: والمغفرة بإذنه- بالرفع- أى والمغفرة حاصلة بتيسيره.

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)
__________
(1) . أورده الواحدي من تفسير الكلبي عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا يقال له: مرثد بن أبى مرثد فذكره» ونزولها في هذه القصة ليس بصحيح فقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «كان رجل يقال له: مرثد بن أبى مرثد الغنوي. وكان رجلا شديدا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة- الحديث بطوله. وفيه حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها على. وقال لا تنكحها وكذا أخرجه أحمد وإسحاق والبزار. وقال لا نعلم أسند مرثد بن أبى مرثد إلا هذا الحديث.

(1/264)


المحيض مصدر. يقال: حاضت محيضا، كقولك: جاء مجيئا وبات مبيتا قل هو أذى أى الحيض شيء يستقذر ويؤذى من يقربه نفرة منه وكراهة له فاعتزلوا النساء فاجتنبوهن يعنى فاجتنبوا مجامعتهن. روى أن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهن فأخرجوهن من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض: فقال عليه الصلاة والسلام: إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم «1» . وقيل: إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين، وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج، وروى محمد حديث عائشة رضى الله عنها: أن عبد الله بن عمر سألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: تشد إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء «2» . وما روى زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم: ما يحل لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها «3» ، ثم قال: وهذا قول أبى حنيفة.
وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك «4» . وقرئ (يطهرن) بالتشديد، أى يتطهرن، بدليل قوله فإذا تطهرن وقرأ عبد الله:
حتى يتطهرن. ويطهرن بالتخفيف. والتطهر: الاغتسال. والطهر: انقطاع دم الحيض. وكلتا
__________
(1) . لم أجده
(2) . هو في الموطأ من رواية محمد بن الحسن: عن. لك عن نافع «أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عائشة يسألها- فذكره» وكذا أخرجه رواة الموطأ عن مالك والشافعي وغيره. وأخرجه عبد الرازق عن ابن جريج عن سلمان ابن موسى عن نافع نحوه
(3) . رواه مالك في الموطأ عنه بهذا مرسلا. ووصله الطبراني من رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم وصفوان ابن مسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. وفي الباب عن حزام بن حكيم عن عمه عبد الله بن سعد «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحل لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار» أخرجه أبو داود. وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه- وزاد: والتعفف عن ذلك أفضل وإسناده ضعيف
(4) . أخرجه الدرامى من رواية أيوب عن رجل عن عائشة أنها قالت لإنسان «اجتنب شعار الدم ولك ما سواه» .

(1/265)


القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت صلاة. وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر، فتجمع بين الأمرين، وهو قول واضح. ويعضده قوله: (فإذا تطهرن) . من حيث أمركم الله من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل إن الله يحب التوابين مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك ويحب المتطهرين المتنزهين عن الفواحش. أو إن الله يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار: كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل، وإتيان ما ليس بمباح، وغير ذلك حرث لكم مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله فأتوا حرثكم أنى شئتم تمثيل، أى فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أى جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أى شق أدرتم بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث. وقوله: (هو أذى، فاعتزلوا النساء) ، (من حيث أمركم الله) ، (فأتوا حرثكم أنى شئتم) من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم. وروى أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال كذبت اليهود «1» ونزلت. وقدموا لأنفسكم ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتكم عنه. وقيل: هو طلب الولد، وقيل: التسمية على الوطء واتقوا الله فلا تجترئوا على المناهي واعلموا أنكم ملاقوه فتزودوا ما لا تفتضحون به وبشر المؤمنين المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات. فإن قلت: ما موقع قوله: (نساؤكم حرث لكم) مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: (فأتوهن من حيث أمركم الله) يعنى أن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث، ترجمة له وتفسيرا، أو إزالة للشبهة، ودلالة على أن الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة. فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض. فإن قلت: ما بال (يسئلونك) جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثا؟
__________
(1) . متفق عليه من طرق عن ابن المنكدر عن جابر: والتقييد لمسلم فقط. ولمسلم من رواية الزهري «إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية. غير أن ذلك في صمام واحد» وهو من قول الزهري. وأخرجه أصحاب السنن والبزار وابن حبان. وليس عند أحد منهم قول «فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم» وأخرجه البزار من طريق خصيف عن ابن المنكدر. وزاد فيه «وإنما الحرث من حيث يخرج الولد» تفرد به خصيف. وهو ضعيف.

(1/266)


ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225)

قلت: كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة، فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن الإنفاق، والسؤال عن كذا وكذا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225)
العرضة: فعلة بمعنى مفعول، كالقبضة والغرفة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضا: المعرض للأمر. قال:
فلا تجعلونى عرضة للوائم «1»
ومعنى الآية على الأولى: أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات، من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد، أو عبادة، ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يمينى، فيترك البر إرادة البر في يمينه، فقيل لهم: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أى حاجزا لما حلفتم عليه.
وسمى المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» «2» أى على شيء مما يحلف عليه. وقوله: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا عطف بيان لأيمانكم، أى للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت: بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت:
بالفعل، أى ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخا وحجازا. ويجوز أن يتعلق ب: (عرضة) لما فيها
__________
(1) .
دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم ... ولا تجعلوني عرضة للوائم
قيل هو لأبى تمام. يقول: اتركوني أنح لما بى من الوجد وحرقة العشق مثل نوح الحمائم. ويروى: لنوح الحمائم، فهو علة للمعلل مع علته. والعرضة: المعرض للأمر، أى: ولا تجعلوني معرضا للوم اللوائم. أو المراد باللوائم: أنواع اللوم مبالغة، على حد: جد جده، لأن اللائم حقيقة فاعل اللوم. [.....]
(2) . أخرجه الأئمة الخمسة من رواية الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة.

(1/267)


للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228)

من معنى الاعتراض، بمعنى لا تجعلوه شيئا يعترض البر، من اعترضني كذا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل، ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة، أى ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. ومعناها على الأخرى: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل فيه (ولا تطع كل حلاف مهين) بأشنع المذام وجعل الحلاف مقدمتها. وأن تبروا علة للنهى، أى إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. اللغو:
الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره. ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل «لغو» واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه. والدليل عليه (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) ، (بما كسبت قلوبكم) واختلف الفقهاء فيه، فعند أبى حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وعند الشافعي: هو قول العرب: لا والله، وبلى والله، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل لواحد منهم:
سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك، ولعله قال: لا والله ألف مرة. وفيه معنيان:
أحدهما (لا يؤاخذكم) أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أى اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس. والثاني (لا يؤاخذكم) أى لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أى بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان، ولم يكن كسب اللسان وحده والله غفور حليم حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 228]
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤ فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228)
قرأ عبد الله: آلوا من نسائهم. وقرأ ابن عباس: يقسمون من نسائهم: فإن قلت: كيف عدى بمن، وهو معدى بعلى؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون

(1/268)


من نسائهم مؤلين أو مقسمين. ويجوز أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كقوله:
لي منك كذا. والإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقليد بالأشهر. أو لا أقربك على الإطلاق. ولا يكون في مادون أربعة أشهر، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة «1» بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز: صح الفيء، وحنث القادر، ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز. وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولى، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله فإن فاؤ فإن فاءوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد الله: فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقا منهن على الولد من الغيل «2» ، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة وإن عزموا الطلاق فتربصوا إلى مضى المدة فإن الله سميع عليم وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول الشافعي رحمه الله معناه: فإن فاءوا، وإن عزموا «3» بعد مضى المدة. فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص؟ «4» قلت: موقع صحيح لأن قوله: (فإن فاؤ) ، (وإن عزموا) تفصيل لقوله: (للذين يؤلون من نسائهم)
والتفصيل
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وحكم ذلك أنه إذا فاء إليها في المدة ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: وهذا التفسير منزل على مذهب أبى حنيفة لأنه لا يرى الفيئة بعد انقضاء الأربعة الأشهر مقيدة إذا وقع الطلاق بنفس مضيها فلا تكون الفيئة معتبرة عنده إلا في أربعة الأشهر خاصة.
(2) . قوله «على الولد من الغيل» في الصحاح: اخترت الغيلة- بالكسر- بولد فلان، إذا أتيت أمه وهي ترضعه، أو حملت وهي ترضعه. والغيل- بالفتح- اسم ذلك الابن. (ع)
(3) . قوله «فان فاءوا وإن عزموا» يعنى أن كلا من الشرطين عند الشافعي بعد مضى المدة. (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انقضاء مدة التربص الخ» قال أحمد رحمه الله: هذا جواب عن سؤال موجه على أبى حنيفة رضى الله عنه لأنه إذا رأى الفيئة في الأشهر الأربعة خاصة لا فيما بعدها والله تعالى عطف الفيئة على تربص أربعة أشهر بالفاء ومقتضاها كما علمت وقوع ما عطفه بعد ما عطفه عليه فيلزم وقوع الفيئة المعتبرة بعد انقضاء الأشهر الأربعة، وأبو حنيفة يأباه فلذلك أجاب عنه الزمخشري بجوابه المتقدم والسؤال عندي يندفع بطريق آخر وهو أن المعطوف عليه التربص وهو حاصل من أول المدة لوقوع الفيئة في المدة بعد التربص فلا يحتاج إلى الجواب بالمثال المذكور وإنما أوقع الزمخشري في التزام السؤال تسليمه لتقدم الفيئة في الأربعة الأشهر على تربصها بناء منه على أنه لا يصدق قول القائل قد تربصت بفلان أربعة أشهر إلا إذا انقضت المدة وليس الأمر كذلك فانه يصدق من الحاكم أن يقول عند ضرب أجل المولى قد تربصت لك أربعة أشهر كما قال الله تعالى لينظر أيفيء أم لا، ويصدق رب الدين في أن يقول لمديانه حالة القرض قد أجلك بهذا الدين سنة وإن كان المقتضى منها حينئذ دقيقة واحدة فلذلك التربص المعطوف عليه في الآية واقع عند ضرب الأجل المذكور فالفيئة الواقعة في الأجل إنما يقع بعده، فالفاء على بابها المعروف.

(1/269)


يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول. فإن قلت: ما تقول في قوله: (فإن الله سميع عليم) «1» وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار، لا يخلو من مقاولة ودمدمة «2» ولا بد له من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان والمطلقات أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجودا. ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل تأكيد. ولو قيل:
ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «فان قلت: ما القول في قوله فان الله سميع عليم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: في هذا الجواب إسلاف جواب عن سؤال آخر يتوجه على أبى حنيفة رضى الله عنه فيقال له: إذا كان مضى الأربعة الأشهر يوجب عندك وقوع الطلاق بنفسه غير موقوف على إيقاع من أحد، فما الذي يسمع إذا؟ وهو أمكن من السؤال الذي قدره الزمخشري، فان لقائل أن يقول: عبر بالعزم عن الإيقاع لأنه يستلزمه غالبا، وفي أثناء كلامه نكتة تحتاج إلى التنبيه عند قوله: والعزم بما يعلم ولا يسمع، والذي ننبه عليه أن قاعدة أهل السنة أن كل موجود يجوز أن يسمع، حتى الجواهر والألوان والمعاني بجملتها، وكذلك يعتقد أن موسى عليه السلام سمع الكلام القديم وليس بحرف ولا صوت، فلا يتوقف السمع عندهم على أن يكون المسموع صوتا ولا نطقا، غير أن المعتاد انقسام الموجودات إلى مسموع ومرئى وملموس ومشموم ومذوق وهو المعلوم بالحس، وإلى معلوم بغير ذلك. وعلى هذا المعتاد جرت عادة خطاب الله تعالى لعبده، وإن كان الزمخشري ثابتا فيما قاله على الأمر العرفي معتقدا ما ذكرناه من حيث المعروف- وما أراه كذلك- فالأمر سهل. وإن كان أخرج كلامه المذكور على قاعدة الاعتزال- وهو الظاهر من حاله في اعتقاد أن ما عدا الأصوات لا يجوز أن يسمع عقلا- فالحذر الحذر من هذه القاعدة الفاسدة والله المستعان. ثم لا بد لنا في مسألة الإيلاء من البصر لما يعتقده من مذهب مالك رضى الله عنه، ومذهب مالك رضى الله عنه هو الذي اقتفاه الشافعي رضى الله عنه في المسألة فنقول: مضى أربعة الأشهر بمجرده لا يوجب وقوع الطلاق على الزوج، لأن الأصل بقاء العصمة، وقد جعل الله له الفيئة بعد تربص الأجل المذكور، ونحن وان بينا أولا أن الآية لا تأبى وقوع الفيئة في الأجل وهي أيضا تأبى وقوعها بعد الأجل، فينتظم من أصليه، أعنى بقاء العصمة. والسلامة من معارضة الآية، وقوع الفيئة المعتبرة بعد الأجل، وبقاء العصمة بعد الأجل، استصحابا للأصل غير معارض بالآية، وهو المطلوب.
(2) . قوله «لا يخلو من مقاولة ودمدمة» في الصحاح: دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض، لكنه غير مناسب هنا، فلعله زمزمة بالزاي. وفي الصحاح: الزمزمة صوت الرعد. والزمزمة: كلام المجوس عند أكلهم. أو رمرمة بالراء، وفي الصحاح: ترمرم، إذا حرك فاه للكلام اه. وهذا أنسب. (ع)

(1/270)


تربص أربعة أشهر؟ وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص. والقروء: جمع قرء أو قرء، وهو الحيض، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «دعى الصلاة أيام أقرائك» «1» وقوله: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» «2» ولم يقل طهران. وقوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار. ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر، ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة. ويقال: أقرأت المرأة، إذا حاضت.
وامرأة مقرئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أى تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن والطلاق الشرعي، إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه: مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهن الحيض الثلاث. فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى:
لما ضاع فيها من قروء نسائكا؟ «3»
قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدة نسائك، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، أى من مدة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات. وأنه تمر على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد من أوقات نسائك،
__________
(1) . أخرجه الطحاوي والدارقطني من حديث فاطمة بنت أبى حبيش «أنها قالت: يا رسول الله إنى امرأة أستحاض فلا أطهر. قال: دعى الصلاة أيام أقرائك ثم اغتسلي وصلى» .
(2) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم من رواية مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة بهذا.
ومظاهر ضعيف. ورواه ابن ماجة والدارقطني من رواية عطية عن ابن عمر نحوه: وفيه عمر بن شبيب وهو ضعيف.
(3) .
أفى كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مؤثلة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
للأعشى، يقول لجاره: أينبغى أن تتجشم وتكلف نفسك في كل عام دخول غزوة واقتحام ما هاهنا، تشد وتوثق عزيمة صبرك، لأقصاما: أى أبعدها وأعلاها أو غايتها ومنتهاها. ومؤثلة أى مؤصلة على اسم الفاعل. ويروى مورثة، أى تورثك تلك الغزوة مالا كثيرا بغنائمها، ورفعة لك في الحي لأجل ما ضاع فيها أى في الأعوام المعلومة من ذكر كل عام، واللام للعاقبة، شبه ضياع القروء المترتب على خروجه للغزو بأمر مرغوب على طريق المكنية ولام العلة تخييل، أو شبه ترتب المرغوب عنه بترتب المرغوب فيه، واستعار له اللام على طريق التصريحية، وفيها نوع توبيخ. ويجوز أن ذلك الاستفهام للتعجب، فقوله «لما ضاع فيها» من تمام العجب. والأقراء التي تضيع على الزوج هي الأطهار، لأنها التي يوطأن فيها، لا الحيض، وضياع ذلك يؤدى إلى انقطاع النسل.

(1/271)


الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)

فإن القرء والقارئ جاءا في معنى الوقت، ولم يرد لا حيضا ولا طهرا. فإن قلت: فعلام انتصب (ثلاثة قروء) ؟ قلت: على أنه مفعول به كقولك: المحتكر يتربص الغلاء، أى يتربصن مضى ثلاثة قروء، أو على أنه ظرف، أى يتربصن مدة ثلاثة قروء. فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية. ألا ترى إلى قوله: (بأنفسهن) وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري: ثلاثة قرو، بغير همزة. ما خلق الله في أرحامهن من الولد أو من دم الحيض. وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت، استعجالا للطلاق. ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر تعظيم لفعلهن، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم. والبعولة: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة. ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك: بعل حسن البعولة، يعنى: وأهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن. وفي قراءة أبى: بردتهن في ذلك في مدة ذلك التربص. فإن قلت: كيف جعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقا فيها؟ قلت: المعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها، إلا أن لها حقا في الرجعة إن أرادوا بالرجعة إصلاحا لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن ولهن مثل الذي عليهن ويجب لهن من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال درجة زيادة في الحق وفضيلة. قيل المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230]
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)

(1/272)


الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أى التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله: (ثم ارجع البصر كرتين) أى كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين. ونحو ذلك من التثانى التي يراد بها التكرير قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك. وقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم. وقيل: معناه الطلاق الرجعى مرتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف أى برجعة، أو تسريح بإحسان أى بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها.
وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروى أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أو تسريح بإحسان» «1» وعند أبى حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لما روى في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة «2» » وعند الشافعي. لا بأس بإرسال الثلاث، لحديث العجلاني الذي
__________
(1) . أخرجه الدارقطني من رواية عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس به. وقال في العلل: وهم فيه ليث بن حماد رواية عن عبد الواحد. والمحفوظ عن إسماعيل بن سميع عن أبى رزين مرسلا. وقد أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى معاوية. وعبد الرزاق عن الثوري كلاهما عن إسماعيل بن سميع. ورواه الدارقطني أيضا من رواية حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس قال قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «إنى أسمع الله يقول: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، هي الثالثة» .
(2) . أخرجه الدارقطني والطبراني من رواية شعيب بن رزين أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد العزيز بن عمير «أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا ابن عمير، ما هكذا أمرك الله. قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء: فأمرنى بمراجعتها. فقال: إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك- الحديث» .

(1/273)


لا عن امرأته فطلقها ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه «1» . روى أن جميلة بنت عبد الله بن أبى كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسى ورأسه شيء، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكنى أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضا، إنى رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. فنزلت، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام «2» . فإن قلت: لمن الخطاب في قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت:
يجوز الأمران جميعا: أن يكون أول الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون مما آتيتموهن مما أعطيتموهن من الصدقات إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها فلا جناح عليهما
__________
(1) . متفق عليه من حديث سهل بن سعد لكن قيل: إن قوله «فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها» من كلام الزهري رواية عن سهل (تنبيه) قال عبد الحق في الأحكام: لم يصح اللفظ بالثلاث إلا في حديث الملاعن. وتعقب بما في مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت «طلقى زوجي ثلاثا فخاصمته ... الحديث» .
(2) . أخرجه الطبري في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيل عن أبى جرير أنه سأل عكرمة «هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبى بن سلول، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره «ولم يسمها» وقد سماها البخاري من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة «أن جميلة- فذكره» ولابن ماجة من رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس «أن جميلة بنت سلول» وكذا أخرجه عبد الرزاق من وجه آخر «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبى» وعند الدارقطني من طريق ابن جريج أخبرنا أبو الزبير «أن ثابت بن قيس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبى. وكان أصدقها حديقة، فكرهته- إلى آخره» فان كان محفوظا فيحتمل أن يكون لها اسمان.
وقد رويت القصة لغيرها. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرو عن حبيبة بنت سهل «أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجدها عند بابه في الغلس. فقال من هذه؟
قالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس» ومن طريقه أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، ولابن ماجة من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت ابن قيس بن شماس، وكان رجلا دميما. فقالت: يا رسول الله لولا مخافة الله لبزقت في وجهه: فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردت عليه حديقته. وفرق بينهما» ولأحمد من حديث سهل بن أبى حثمة قال «كانت بنت سهل- الحديث» . [.....]

(1/274)


فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت فيما افتدت به فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر. والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم. وروى أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضى الله عنه، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقر لعيني منهن. فقال لزوجها: اخلعها ولو بقرطها «1» . قال قتادة: يعنى بمالها كله، هذا إذا كان النشوز منها، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئا. وقرئ إلا أن يخافا، على البناء للمفعول وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود الله. ونحوه (وأسروا النجوى الذين ظلموا) ويعضده قراءة عبد الله (إلا أن تخافوا) وفي قراءة أبى: إلا أن يظنا. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن. يقولون: أخاف أن يكون كذا، وأفرق أن يكون، يريدون أظن فإن طلقها الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى: (الطلاق مرتان) واستوفى نصابه. أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد من بعد ذلك التطليق حتى تنكح زوجا غيره حتى تتزوج غيره، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كما التزوج.
ويقال: فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب. والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة، لما روى عروة عن عائشة رضى الله عنها أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك «2» . وروى أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسنى، فقال لها:
كذبت في قولك الأول، فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» فأتت أبا بكر رضى الله عنه فقالت: أأرجع إلى زوجي الأول، فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعى إليه، فلما قبض أبو بكر رضى الله عنه قالت مثله لعمر رضى الله عنه فقال: إن أتيتينى بعد مرتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة والطبري وإبراهيم الحربي في أواخر الغريب له كلهم من رواية أيوب عن كثير مولى سمرة «أن عمر أتى بامرأة ناشزة فذكره» قال إبراهيم: الناشز التي تعصى زوجها.
(2) . متفق عليه من هذا الوجه.
(3) . قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة- فذكر الحديث. وفيه «فقعدت ما شاء الله. ثم جاءته فأخبرته أنه قد مسها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: اللهم إن كان إثما بها أن يحلها لرفاعة فلا يتم لها نكاحة مرة أخرى. ثم أتت أبا بكر وعمر في خلافتهما فمنعاها» .

(1/275)


وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)

فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعى وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائز عند أبى حنيفة مع الكراهة. وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن المحلل والمحلل له «1» . وعن عمر رضى الله عنه: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما «2» . وعن عثمان رضى الله عنه: لا إلا نكاح رغبة غير مدالسة «3» . فإن طلقها الزوج الثاني. أن يتراجعا أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج إن ظنا إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علما أنهما يقيمان، لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ومن فسر الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 232]
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)
__________
(1) . روى عن ابن مسعود وعلى وجابر وعقبة بن عامر، وأبى هريرة. وابن عباس. قلت: أحال بها على تخريج الهداية وحديث ابن مسعود أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن دقيق العيد على شرط البخاري. وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجة. وحديث على أخرجه أحمد وأبو داود. وحديث أبى هريرة رواه أحمد والبيهقي وحديث عقبة بن عامر أخرجه ابن ماجة. وحديث جابر ذكره الترمذي.
(2) . أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة، من رواية المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر فذكره.
(3) . لم أجده عن عثمان بل وجدته عن ابن عمر. أخرجه الحاكم من رواية عمر بن نافع عن أبيه أنه قال «جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا إلا نكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد روى مرفوعا أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المحلل. فقال:
لا، إلا نكاح رغبة غير دلسة، ولا مستهزئ بكتاب الله تعالى لم يذق العسيلة» وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل ابن أبى حبيبة وهو ضعيف.

(1/276)


فبلغن أجلهن أى آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهى به: أجل، وكذلك الغاية والأمد، يقول النحويون «من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية. وقال:
كل حى مستكمل مدة العمر ... ومود إذا انتهى أمده «1»
ويتسع في البلوغ أيضا فيقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه. ويقال: قد وصلت، ولم يصل وإنما شارف، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضى الأجل لا وجه له، لأنها بعد تقضيه غير زوجة له في غير عدة منه، فلا سبيل له عليها فأمسكوهن بمعروف فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة أو سرحوهن بمعروف وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار ولا تمسكوهن ضرارا كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها، ثم يراجعها لا عن حاجة، ولكن ليطول العدة عليها، فهو الإمساك ضرارا لتعتدوا لتظلموهن. وقيل:
لتلجئوهن إلى الافتداء فقد ظلم نفسه بتعريضها لعقاب الله ولا تتخذوا آيات الله هزوا أى جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزوا ولعبا.
ويقال لمن لم يجد في الأمر: إنما أنت لاعب وهازئ. ويقال: كن يهوديا وإلا فلا تلعب بالتوراة.
وقيل: كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوج ويقول: كنت لاعبا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق «2» والنكاح والرجعة «3» واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها يعظكم به بما أنزل عليكم فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلما وقسرا، ولحمية الجاهلية لا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج. والمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن، وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن.
روى أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول. وقيل: في جابر
__________
(1) . يقال: أودى إذا هلك، وأودى به السبل ونحوه أهلكه وذهب به. والودي كالغنى: الهلاك. ويروى أجله. والأمد والأجل يطلقان على جميع مدة الشيء. وعلى منتهاها، كما تطلق الغاية على جميع المسافة وعلى آخرها.
يقول: كل حى لا بد أنه يستكمل مدة عمره ويهلك إذا انتهت مدته وتسكين العمر لغة فيه.
(2) . قوله «وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة» في أبى السعود: النكاح والطلاق والعتاق. (ع)
(3) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والدارقطني والبيهقي، من حديث أبى هريرة. وفي إسناده ضعف.

(1/277)


والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)

ابن عبد الله حين عضل بنت عم له. والوجه أن يكون خطابا للناس، أى لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه:
عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم نخرج. وأنشد لابن هرمة:
وإن قصائدى لك فاصطنعنى ... عقائل قد عضلن عن النكاح «1»
وبلوغ الأجل على الحقيقة. وعن الشافعي رحمه الله: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين إذا تراضوا إذا تراضى الخطاب والنساء بالمعروف بما يحسن بالدين والمروءة من الشرائط وقيل: بمهر المثل. ومن مذهب أبى حنيفة رحمه الله أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله ذلك يوعظ به؟ قلت: يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد. ونحوه (ذلك خير لكم وأطهر) . أزكى لكم وأطهر من أدناس الآثام: وقيل (أزكى لكم وأطهر) أفضل وأطيب والله يعلم ما في ذلك من الزكاء والطهر وأنتم لا تعلمون) ، أو والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه.

[سورة البقرة (2) : آية 233]
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)
يرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد كاملين توكيد كقوله: (تلك عشرة كاملة) لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: أن يكمل الرضاعة: وقرئ الرضاعة. بكسر الراء. والرضعة. وأن تتم الرضاعة وأن يتم الرضاعة، برفع الفعل تشبيها ل «أن» ب «ما» لتأخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف
__________
(1) . العقائل: جمع عقيلة، وهي المعقولة في خدرها من النساء. يقول: إن قصائدى لك مثل المخدرات، فلك:
حال من القصائد أو العقائل. وقوله «فاصطنعنى» اعتراض، أى فاتخذني مادحا وكافئنى على مدحي إياك بما لا أمدح به غيرك من القصائد. ولما شبه القصائد بالنساء رشح ذلك بالعضل، وهو المنع من النكاح الخاص بالنساء.

(1/278)


اتصل قوله لمن أراد بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: (هيت لك) لك بيان للمهيت به، أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع. وعن قتادة: حولين كاملين، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال لمن أراد أن يتم الرضاعة أراد أنه يجوز النقصان، وعن الحسن:
ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أى يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبى حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق. فان قلت:
فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهن؟ قلت: إما أن يكون أمرا على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن الاستئجار. وقيل: أراد الوالدات المطلقات، وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع وعلى المولود له وعلى الذي يولد له وهو الوالد. و (له) في محل الرفع على الفاعلية، نحو (عليهم) في: (المغضوب عليهم) فإن قلت لم قيل (المولود) له دون الوالد. قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد:
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء «1»
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، وهو قوله تعالى: (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) ، بالمعروف تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا. وقرئ (لا تكلف) بفتح التاء و (لا نكلف) بالنون. وقرئ: لا تضار بالرفع على
__________
(1) .
لا تزرين بفتى من أن يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء
للمأمون بن الرشيد حين كتب إليه أخوه الأمين يوبخه على الخلافة بغير استحقاق، وفي آخره: ابن الأمة ما ألأمه:
فأجابه بذلك. وأزرى به: إذا أوقع به العيب ورماه به. والنون في الفعل للتوكيد. ويروى: لا تزدرين فتى، على خطاب المؤنثة، وكأنه أراد به إسماع أخيه. وزرى عليه: إذا عاب عليه. والازدراء: افتعال منه، أى لا تعيبى، والنون ثابتة بعد النهى شذوذا. والعجماء: التي لا تفصح في كلامها. وشبه النساء بالأوعية التي تودع فيها الأشياء تشبيها بليغا، أو على طريق التصريحية على رأى السعد في كل تشبيه بليغ. وروى: وللأبناء آباء. والمعنى أن الرفعة والضعة من جهة الآباء لا من جهة الأمهات، لأنها كالأوعية للأبناء. لكن هذا التشبيه مبنى على الظاهر. ثم كتب المأمون أيضا في جواب أخيه: القلم بمده، والسيف بحده، والمرء بسعده، لا بأبيه ولا يجده.

(1/279)


الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، وتضارر بفتحها. وقرأ (لا تضار) بالفتح أكثر القراء. وقرأ الحسن بالكسر على النهى، وهو محتمل للبناءين أيضا. ويبين ذلك أنه قرئ لا تضارر، ولا تضارر، بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها.
وقرأ أبو جعفر: لا تضار، بالسكون مع التشديد على نية الوقف. وعن الأعرج (لا تضار) بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يصيره. ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. وعن كاتب عمر بن الخطاب: لا تضرر. والمعنى: لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبى: اطلب له ظئرا، وما أشبه ذلك ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنيا للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد: ويجوز أن يكون (تضار) بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أى لا تضر والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد. فان قلت: كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبى منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد وعلى الوارث عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أى إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبى الذي لو مات الصبى ورثه. واختلفوا، فعند ابن أبى ليلى كل من ورثه، وعند أبى حنيفة من كان ذا رحم محرم منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد. وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم. وقيل: المراد وارث الأب وهو الصبى نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه.
وقيل (على الوارث) على الباقي من الأبوين من قوله: «واجعله الوارث منا» «1» فإن أرادا فصالا صادرا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما
__________
(1) . قوله «واجعله الوارث منا» الرواية المشهورة: منى. (ع)

(1/280)


والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235)

في الفصال وتشاورهما: أما الأب فلا كلام فيه، وأما الأم فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبى. وقرئ (فإن أراد) . استرضع: منقول من أرضع. يقال: أرضعت المرأة الصبى، واسترضعتها الصبى، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى:
أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة) وقرئ: ما أتيتم، من أتى إليه إحسانا إذا فعله. ومنه قوله تعالى: (إنه كان وعده مأتيا) أى مفعولا. وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم، أى ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى. ويجوز أن يكون بعثا على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحا لشأن الصبى واحتياطا في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزا يدا بيد، كأنه قيل: إذا أديتم إليهن يدا بيد ما أعطيتموهن بالمعروف متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشرى الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.

[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 235]
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235)
والذين يتوفون منكم على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. وقيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. وقرئ: يتوفون بفتح الياء «1»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «قرأها علي رضى الله عنه بفتح الياء ... الخ» ، قال أحمد رحمه الله: ولعل السائل لأبى الأسود كان ممن يفهم عنه أنه لا فرق عنده بين الكسر والفتح وهو الظاهر، وعلى ذلك أجابه أبو الأسود، فلا تناقض حينئذ.

(1/281)


أى يستوفون آجالهم، وهي قراءة على رضى الله عنه. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفى- بكسر الفاء، فقال الله تعالى. وكان أحد الأسباب الباعثة لعلى رضى الله عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو، تناقضه هذه القراءة يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل عشرا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام.
تقول: صمت عشرا «1» ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم. ومن البين فيه قوله تعالى: (إن لبثتم إلا عشرا) ثم (إن لبثتم إلا يوما) فإذا بلغن أجلهن فإذا انقضت عدتهن فلا جناح عليكم أيها الأئمة وجماعة المسلمين فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالمعروف بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهن.
وإن فرطوا كان عليهم الجناح فيما عرضتم به هو أن يقول لها إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة ومن غرضي أن أتزوج، وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح، فلا يقول: إنى أريد أن أنكحك، أو أتزوجك، أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد الله بن سليمان عن خالته قالت:
دخل على أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدى على وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك! أتخطبنى في عدتى وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعى، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفى عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة «2» . فإن قلت: أى فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت:
الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كقولك: طويل النجاد والحمائل لطول القامة «3»
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «تقول: صمت عشرا ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ومنه «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر» فغلب الليالي أو كان الصوم غير متصور فيها حتى قالوا: إن شرطة النية وزمانها الليل، فلهذا جعل لها حظا في الصوم وغلبها. [.....]
(2) . هكذا هو في كتاب النكاح لابن المبارك ورواه الدارقطني من رواية محمد بن الصلت عن عبد الرحمن بن سليمان- وهو ابن الغسيل- نحوه بتمامه.
(3) . قوله «لطول القامة» لعله: لطويل. (ع)

(1/282)


وكثير الرماد للمضياف. والتعريض أن تذكر شيأ تدل به على شيء لم تذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم. ولذلك قالوا:
وحسبك بالتسليم منى تقاضيا
وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده أو أكننتم في أنفسكم أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين علم الله أنكم ستذكرونهن لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التوبيخ كقوله: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) . فإن قلت: أين المستدرك بقوله «1» ولكن لا تواعدوهن؟ قلت: هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه، تقديره: علم الله أنكم ستذكرونهن فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا. والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء، لأنه مما يسر. قال الأعشى:
ولا تقربن من جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا «2»
ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح إلا أن تقولوا قولا معروفا
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت أين المستدرك بقوله ولكن ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف، لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الاباحة عقيبها. ونظير هذا النظم قوله تعالى (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن) الآية. ولهذا الحذف سر والله أعلم، وهو أنه اجتنب لأن الاباحة لم تنسحب على الذكر مطلقا، بل اختصت بوجه واحد من وجوهه وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح، فذكرت مستثناة بقوله: (إلا أن تقولوا قولا معروفا) تنبيها على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر والأصل فيه الحظر، ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم فانه أبيح مطلقا غير مقيد، فلذلك صدر الكلام بالاباحة والتوسعة، وجاء النهى عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلوا للاباحة وتبعا في الذكر، لأنها حالة فاذة والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم، ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب وهو الاعتكاف، فتفطن لهذا السر فانه من غرائب النكت.
(2) .
ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
ولا تقربن من جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا
للأعشى ميمون بن قيس. والبائس: الفقير المحتاج. والضرارة: العمى. وإسناد الإخلاد إلى المال مجاز، لأنه سببه على التوهم. وتقرب- بفتح الراء- بمعنى نفعل، فمن زائدة. وجارة: مفعول، وبضمها بمعنى تدنو، فمن أصلية. وروى: ولا تقربن جارة- بتشديد النون- وعلى كل فهو كناية عن النهى عن الوطء. والسر: ضد الجهر، واستعمل هنا في الموطئ مجازا لأنه يقع فيه، أو لأنه مما يسر. والنكاح: عقد الزوجية. ويقال: أبد الوحشي أبودا، وتأبد تأبدا: نفر عن الأنيس، وألفه هنا منقلبة عن نون التوكيد في الوقف، والمراد منه التباعد مجازا، والمخاطب بذلك ليس معينا. ونهاه عن الدنو منها لأنه أبلغ من تهيه عن وطئها، ثم قال: فتزوج أو اعتزل النساء كالوحش.

(1/283)


لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237)

وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. فإن قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهن، أى لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة. أى لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا، أى لا تواعدوهن إلا بالتعريض. ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من (سرا) لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن إلا التعريض. وقيل معناه: لا تواعدوهن جماعا، وهو أن يقول لها إن نكحتك كان كيت وكيت، يريد ما يجرى بينهما تحت اللحاف. إلا أن تقولوا قولا معروفا يعنى من غير رفث ولا إفحاش في الكلام. وقيل لا تواعدوهن سرا: أى في السر على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن، لأن مسارتهن في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به. وعن ابن عباس رضى الله عنهما (إلا أن تقولوا قولا معروفا) ، هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره ولا تعزموا عقدة النكاح من عزم الأمر وعزم عليه، وذكر العزم مبالغة في النهى عن عقدة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ومعناه:
ولا تعزموا عقد عقدة النكاح. وقيل: معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح: وحقيقة العزم: القطع، بدليل قوله عليه السلام «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروى «لمن لم يبيت الصيام «1» » حتى يبلغ الكتاب أجله يعنى ما كتب وما فرض من العدة يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. غفور حليم لا يعاجلكم بالعقوبة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237)
لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب مهر إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ما لم تجامعوهن أو تفرضوا لهن فريضة إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة: تسمية المهر. وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمى لها مهر فلها نصف المسمى، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة. والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله:
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن من حديث حفصة بلفظ «لمن لم يجمع» وقوله: وروى «لمن لم يبيت» هي عند النسائي.

(1/284)


(وإن طلقتموهن) إلى قوله: (فنصف ما فرضتم) فقوله: فنصف ما فرضتم: إثبات للجناح المنفي ثمة، والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبى حنيفة، إلا أن يكون مهر مثلها أقل من ذلك. فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة، ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها. والموسع الذي له سعة. والمقتر الضيق الحال. وقدره مقداره الذي يطيقه، لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. وقرئ بفتح الدال. والقدر والقدر لغتان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها: «أمتعتها» ؟ قال: لم يكن عندي شيء. قال:
«متعها بقلنسوتك «1» » . وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب. متاعا تأكيد لمتعوهن، بمعنى تمتيعا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة حقا صفة لمتاعا، أى متاعا واجبا عليهم. أو حق ذلك حقا على المحسنين على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه «2» » إلا أن يعفون يريد المطلقات. فإن قلت:
أى فرق بين قولك: الرجال يعفون. والنساء يعفون؟ قلت: الواو في الأول ضميرهم، والنون علم الرفع. والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبنى لا أثر في لفظه للعامل وهو في محل النصب «ويعفو: عطف على محله. والذي بيده عقدة النكاح الولى «3»
__________
(1) . لم أجده.
(2) . تقدم في صفحة 35 من هذا الجزء.
(3) . قال محمود رحمه الله: «والذي بيده عقدة النكاح الولي ... الخ» قال أحمد رحمه الله: هذا النقل وهم فيه الزمخشري عن الشافعي رضى الله عنه، فان مذهبه موافق لمذهب أبى حنيفة رضى الله عنه في أن المراد به الزوج.
وإنما ذهب إلى أن المراد الولي الامام مالك رضى الله عنه، وصدق الزمخشري أنه قول ظاهر الصحة، عليه رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه:
الأول: أن الذي بيده عقدة النكاح ثابتة مستقرة هو الولي. وأما الزوج فله ذلك حالة العقد المتقدم خاصة، ثم هو بعد الطلاق، والكلام حينئذ ليس من عقدة النكاح في شيء البتة، فان قيل: أطلق عليه ذلك بعد الطلاق بتأويل «كان» مقدرة، فلا يخفى على المنصف ما في ذلك من البعد والخروج من حد إطلاق الكلام وأصله.
الثاني: أن الخطاب الأول للزوجات اتفاقا بقوله: (إلا أن يعفون) وفيهن من لا عفو لها البتة كالأمة والبكر، فلولا استتمام التقسيم بصرف الثاني إلى الولي على ابنته البكر أو أمته، وإلا لزم الخروج عن ظاهر عموم الأول، وحيث حمل الكلام على الولي صار الكلام بمعنى: إلا أن يعفون كن أهلا للعفو، أو يعفو لهن إن لم يكن أهلا، ولهذا كان الولي الذي يعفو ويعتبر عفوه عند مالك: هو الأب في ابنته البكر. والسيد في أمته خاصة.
الثالث: أن الكتاب العزيز جدير بتناسب الأقسام وانتظام أطراف الكلام، والأمر فيه على هذا المحمل بهذه المثابة، فان الآية حينئذ مشتملة على خطاب الزوجات ثم الأولياء ثم الأزواج بقوله: (ولا تنسوا الفضل بينكم) فتكون على هذا الوجه ملية بالفوائد جامعة للمقاصد.
الرابع: أن المضاف إلى صاحب عقدة النكاح العفو كما هو مضاف إلى الزوجات، والعفو: الاسقاط لغة وهو المراد في الأول اتفاقا، إذ المضاف إلى الزوجات هو الاسقاط بلا ريب، ولو كان المراد بصاحب العقدة الزوج لتعين حمل العفو على تكميل المهر وإعطائه ما لا يستحق عليه، وهذا إنما يطابقه من الأسماء التفضل. ومن ثم قال في خطاب الأزواج (ولا تنسوا الفضل بينكم) لأن المبذول من جهته غير مستحق عليه فهو فضل لا عفو.
ولا يقال: لعل الزوج تعجل المهر كاملا قبل الطلاق وطلق فيجب استرجاع النصف فيسقطه ويعفو عنه وحينئذ يبقى العفو من جانب الزوج على ظاهره وحقيقته، لأنا نقول: حسبنا في رد هذا الوجه ما فيه من الكلفة وتقدير ما الأصل خلافه.
الخامس: أن صدر الآية خطاب للأزواج في قوله: (وإن طلقتموهن) إلى قوله: (فرضتم) فلو جاء قوله (أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح) مرادا به الزوج لكان عدولا والتفاتا من الخطاب إلى الغيبة، وليس هذا من مواضعه، ولأجل هذا جاء قوله: (ولا تنسوا الفضل بينكم) على صيغة الخطاب، لأن المراد به الأزواج لخطابهم أولا السادس: أن قوله: (إلا أن يعفون) وما عطف عليه استثناء من قوله: (فنصف ما فرضتم) وأصل الكلام:
فنصف ما فرضتم واجب عليكم إلا أن يعفو عنه الزوجات فليس بواجب عليكم إذا، فإذا حمل الكلام على الولي استقام، إذ هم لو كملوا المهر لهن فالنصف واجب عليهم ولا يتغير ولا يخالف الحالة المستثناة مما وقع منه الاستثناء، فلا يجرى الاستثناء على حقيقته في المخالفة بين الأول والثاني، إلا أن يقال: مقتضى قوله: (فنصف ما فرضتم) واجب عليكم: أن النصف الآخر غير مؤدى إليهن لأنه ساقط عن الزوج، فإذا عفا بمعنى كمل المهر فقد صار النصف الآخر مؤدى إليهن، ففي هذا التأويل من الكلفة ما يسقط مؤنة رده.

(1/285)


يعنى إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بى فكيف آخذ منه شيئا، أو يعفو الولى الذي يلي عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعي. وقيل هو الزوج، وعفوه أن يسوق إليها المهر كاملا، وهو مذهب أبى حنيفة والأول ظاهر الصحة. وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر، إلا أن يقال كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو سماه عفوا على طريق المشاكلة. وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو. وعنه أنه دخل على سعد بن أبى وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها على فكرهت رده، قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ «1» والفضل التفضل. أى ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤا ولا تستقصوا: وقرأ الحسن: أن يعفو الذي، بسكون الواو. وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه لهما بالألف لأنهما أختاها. وقرأ أبو نهيك: وأن يعفو، بالياء. وقرئ: ولا تنسو الفضل، بكسر الواو.
__________
(1) . أخرجه الطبري من طريق ابن أبى ذئب عن سعيد بن محمد بن جبير عن جده جبير بن مطعم به سواء.

(1/286)


حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)

[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)
الصلاة الوسطى أى الوسطى بين الصلوات، أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط.
وإنما أفردت وعطفت على الصلاة «1» لانفرادها بالفضل وهي صلاة العصر. وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم نارا «2» » وقال عليه السلام «إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» «3» وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فأملت عليه: والصلاة الوسطى صلاة العصر «4» وروى عن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم: والصلاة الوسطى وصلاة العصر «5» بالواو.
__________
(1) . قوله «وعطفت على الصلاة» لعله: على الصلوات. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من رواية شتير بن شكل عن على به. والحديث في الكتب الستة، إلا أن قوله «صلاة العصر» عند مسلم وحده. وأخرجه البخاري في المغازي والجهاد والتفسير وفي الباب عن ابن مسعود رفعه «الصلاة الوسطى صلاة العصر» أخرجه الترمذي. وعنده عن سمرة نحوه.
(3) . أخرجه ابن عدى في الكامل عن على مرفوعا. قال «صلاة الوسطى صلاة العصر التي غفل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» وفي إسناده مقاتل بن سليمان. وهو ساقط، ورواه ابن أبى شيبة من رواية أبى إسحاق عن الحرث ابن على مرفوعا، وهو أشبه بالصواب. وفي الباب عن ابن عباس موقوفا عند الطبري.
(4) . أخرجه الطبري من طريق أبى بشر عن سالم عن حفصة أنها أمرت رجلا فكتب لها مصحفا. فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمنى. فلما بلغ ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) قالت: اكتب: صلاة العصر. وفي رواية له: فقالت له «اكتب فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى هي صلاة العصر» هكذا عند الطبري. والمشهور عن حفصة أنها أملت على الكاتب: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. كذلك رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة فذكره. ورواه ابن حبان من رواية ابن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن على ونافع بن عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما أنه كان يكتب المصاحف في عهد ازواج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاستكتبتنى حفصة مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية من هذه السورة- البقرة- فلا تكتبها حتى تأتينى بها فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها: فقالت لي: اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر. ومن هذا الوجه أخرجه أبو يعلى والطحاوي. ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن حفصة نحوه وكذا رواه الطبري من طريق عبد الله بن عمر عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها: وأخرجه ابن أبى داود في كتاب المصاحف من نحو عشرين طريقا فيها كلها وصلاة العصر بالواو.
(5) . أما عائشة فروى مسلم من طريق أبى يونس مولى عائشة قال: أمرتنى عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذنى. فلما بلغتها آذنتها فأملت على: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وقالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ومالك والشافعي وأحمد من هذا الوجه. وأما ابن عباس فرواه الطبري وابن أبى داود في المصاحف من رواية أبى إسحاق عمر بن مريم عن ابن عباس «أنه كان يقرؤها كذلك» . [.....]

(1/287)


والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240)

فعلى هذه القراءة يكون التخصيص لصلاتين: إحداهما الصلاة الوسطى، إما الظهر، وإما الفجر وإما المغرب، على اختلاف الروايات فيها، والثانية: العصر، وقيل: فضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: هي صلاة الظهر «1» ، لأنها في وسط النهار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحابه منها. وعن مجاهد: هي الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل. وعن قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب، لأنها وتر النهار ولا تنقص في السفر من الثلاث «2» : وقرأ عبد الله: وعلى الصلاة الوسطى: وقرأت عائشة رضى الله عنها (والصلاة الوسطى) بالنصب على المدح والاختصاص. وقرأ نافع: الوصطى، بالصاد وقوموا لله في الصلاة قانتين ذاكرين لله في قيامكم. والقنوت: أن تذكر الله قائما: وعن عكرمة: كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا. وعن مجاهد: هو الركود وكف الأيدى والبصر. وروى أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت، أو يقلب الحصا، أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا فإن خفتم فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره فرجالا فصلوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام، أو رجل. يقال: رجل رجل، أى راجل. وقرئ: فرجالا.
بضم الراء، ورجالا. بالتشديد، ورجلا. وعند أبى حنيفة رحمه الله: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف: وعند الشافعي رحمه الله: يصلون في كل حال، والراكب يومئ ويسقط عنه التوجه إلى القبلة فإذا أمنتم فإذا زال خوفكم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن، واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن.

[سورة البقرة (2) : آية 240]
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240)
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية أبى عقيل زهرة بن معبد أن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة سألوا ابن عمر عن الصلاة الوسطى. فقال: هي الظهر.
(2) . أخرجه الطبري من رواية إسحاق بن أبى فردة عن رحل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب. ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر؟ وإسحاق متروك، وشيخه مجهول.

(1/288)


وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242)

تقديره فيمن قرأ وصية بالرفع: ووصية الذين يتوفون، أو وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم، أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم. وفيمن قرأ بالنصب: والذين يتوفون يوصون وصية، كقولك: إنما أنت سير البريد، بإضمار تسير. أو والزم الذين يتوفون وصية. وتدل عليه قراءة عبد الله: كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول، مكان قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول وقرأ أبى: متاع لأزواجهم متاعا. وروى عنه: فمتاع لأزواجهم. ومتاعا نضب بالوصية، إلا إذا أضمرت يوصون، فإنه نصب بالفعل. وعلى قراءة أبى متاعا نصب بمتاع، لأنه في معنى التمتيع كقولك: الحمد لله حمد الشاكرين، وأعجبنى ضرب لك زيدا ضربا شديدا. وغير إخراج مصدر مؤكد، كقولك:
هذا القول غير ما تقول. أو بدل من متاعا. أو حال من الأزواج، أى غير مخرجات. والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أى ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله: (أربعة أشهر وعشرا) وقيل: نسخ ما زاد منه على هذا المقدار، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى، فعند أبى حنيفة وأصحابه: لا سكنى لهن فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب من معروف مما ليس بمنكر شرعا. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: (سيقول السفهاء) مع قوله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242)
وللمطلقات متاع عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها، وقال حقا على المتقين كما قال ثمة: حقا على المحسنين. وعن سعيد بن جبير وأبى العاليه والزهري: أنها واجبة لكل مطلقة. وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعا. وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة.

(1/289)


ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245)

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 244]
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244)
ألم تر تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين، وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب. روى أن أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه. وقيل: مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى، فأوحى إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن الله، فنادى، فنظر إليهم قياما يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قوم من بنى إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم وهم ألوف فيه دليل على الألوف الكثيرة. واختلف في ذلك، فقيل عشرة، وقيل ثلاثون، وقيل سبعون. ومن بدع التفاسير (ألوف) متألفون، جمع آلف كقاعد وقعود. فإن قلت: ما معنى قوله فقال لهم الله موتوا؟ قلت:
معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل الله لذو فضل على الناس حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثا على الجهاد: ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله واعلموا أن الله سميع يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون عليم بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء.

[سورة البقرة (2) : آية 245]
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون (245)
إقراض الله: مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه. والقرض الحسن: إما المجاهدة في نفسها،

(1/290)


ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (246)

وإما النفقة في سبيل الله أضعافا كثيرة قيل: الواحد بسبعمائة. وعن السدى: كثيرة لا يعلم كنهها إلا الله والله يقبض ويبصط يوسع على عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة وإليه ترجعون فيجازيكم على ما قدمتم.

[سورة البقرة (2) : آية 246]
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (246)
لنبي لهم هو يوشع أو شمعون أو اشمويل ابعث لنا ملكا أنهض للقتال معنا أميرا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره.
وروى أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميرا عليهم نقاتل قرئ بالنون والجزم على الجواب. وبالنون والرفع على أنه حال، أى ابعثه لنا مقدرين القتال. أو استئناف كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: يقاتل بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لملكا. وخبر عسيتم ألا تقاتلوا والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعنى هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل هل مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أن المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه «1» ، كقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان) معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين وهي ضعيفة وما لنا ألا نقاتل وأى داع لنا إلى ترك القتال، وأى غرض لنا فيه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين إلا قليلا منهم قيل كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر والله عليم بالظالمين وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد.
__________
(1) . قوله «وأنه صائب في توقعه» في الصحاح: صاب السهم القرطاس يصيبه، لغة في أصابه. (ع)

(1/291)


وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (247)

[سورة البقرة (2) : آية 247]
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (247)
طالوت اسم أعجمى كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من الطول «فعلوت» منه، أصله طولوت، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق حنطا حنطة، وبشمالا لها رخمانا رخيما بسم الله الرحمن الرحيم، فهو من الطول كما لو كان عربيا، وكان أحد سببيه العجمة لكونه عبرانيا أنى كيف ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له. فإن قلت: ما الفرق بين الواوين في: (ونحن أحق) ، (ولم يؤت) ؟ «1» قلت: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، قد انتظمتهما معا في حكم واو الحال. والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به. وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أحد السبطين، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيرا. وروى أن نبيهم دعا الله تعالى حين طلبوا منه ملكا، فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت قال إن الله اصطفاه عليكم يريد أن الله هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكم الله. ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة.
والظاهر أن المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحى إليه ونبئ، وذلك أن الملك لا بد أن يكون من أهل العلم، فإن الجاهل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيما يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب.
والبسطة: السعة والامتداد. وروى أن الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه يؤتي ملكه من يشاء أى الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء: من يستصلحه للملك والله واسع
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت ما الفرق بين الواوين ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وحاصل هذا أن الواو الأولى أفادت جملتها الحالية بنفسها وأفادت الجملة الثانية الحالية أيضا لكن بواسطة الواو العاطفة. وهذا النظر من السهل الممتنع.

(1/292)


وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (248)

الفضل والعطاء، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر عليم بمن يصطفيه للملك.

[سورة البقرة (2) : آية 248]
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (248)
التابوت صندوق التوراة. وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرون. والسكينة: السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وعن على رضى الله عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة وبقية هي رضاض الألواح وعصى موسى وثيابه وشيء من التوراة، وكان رفعه الله تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت. وقيل: كان مع موسى ومع أنبياء بنى إسرائيل بعده يستفتحون به، فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت، فلما أراد الله أن يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن، فقالوا: هذا بسبب التابوت بين أظهرنا، فوضعوه على ثورين، فساقهما الملائكة إلى طالوت. وقيل كان من خشب الشمشار مموها بالذهب. نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبى وزيد بن ثابت: التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت:
ما وزن التابوت؟ قلت: لا يخلو من أن يكون فعلوتا «1» أو فاعولا، فلا يكون «فاعولا» لقلته، نحو: سلس وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، فهو إذا «فعلوت» من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأما من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده، إلا فيمن جعل هاءه بدلا من التاء، لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف الزيادة. ولذلك أبدلت من تاء التأنيث. وقرأ أبو السمال: سكينة، بفتح السين والتشديد وهو غريب. وقرئ:
يحمله، بالياء. فإن قلت: من آل موسى وآل هارون؟ قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وزن التابوت فعلوت ... الخ» قال أحمد رحمه الله: يريد لأن الفاء تاء واللام كذلك والعرب تستثقل ما فاؤه ولامه حرف واحد لأنه توأم التكرار.

(1/293)


فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249)

لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما. ويجوز أن يراد: مما تركه موسى وهرون. والآل مقحم لتفخيم شأنهما.

[سورة البقرة (2) : آية 249]
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249)
فصل عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون:
فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما. والمعنى: انفصل عن بلده بالجنود روى أنه قال لقومه: لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوج بامرأة لم يبن عليها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجرى الله لهم نهرا، ف قال إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر فمن شرب منه فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه فليس مني فليس بمتصل بى ومتحد معى، من قولهم: فلان منى، كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما. ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعى ومن لم يطعمه ومن لم يذقه، من طعم الشيء، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء، لمذاقه. قال:
وإن شئت لم أطعم نقاخا «1» ولا بردا «2»
ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم. ويقال: ما ذقت غماضا. ونحوه من الابتلاء:
__________
(1) . قوله «لم أطعم نقاخا» هو الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده. والنقخ: النقف. وهو كسر الرأس عن الدماغ. (ع)
(2) .
فان شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
للعرجى. وتاء شئت يحتمل أنها للمتكلم، وأنها للمخاطبة وهو أبلغ. وخاطب الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما.
ولم أطعم: أى لم أتناول. والنقاخ- بالقاف والخاء المعجمة-: الماء العذب البارد. والبرد: النوم، وعن بعض العرب: منع البرد البرد، وهو من باب الجناس التام، والعرجى: هو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، نسبة لعرج الطائف.

(1/294)


ما ابتلى الله به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرعا، بل هو أشد منه وأصعب. وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي. وإن كان نبيا- كما يروى عن بعضهم- فبالوحى. وقرئ (بنهر) بالسكون. فإن قلت: مم استثنى قوله إلا من اغترف؟ قلت: من قوله: (فمن شرب منه فليس مني) «1» والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قدمت للعناية كما قدم (والصابئون) في قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله فشربوا منه أى فكرعوا فيه إلا قليلا منهم وقرئ (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف. وقرأ أبى والأعمش: إلا قليل، بالرفع. وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية.
فلما كان معنى (فشربوا منه) في معنى فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
ونحوه قول الفرزدق:
............... لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف «2»
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «مستثنى من قوله: (فمن شرب منه فليس مني) ... الخ» : قال أحمد رحمه الله: وفي هذه الآية تقوية لمن ذهب إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل لا يتعين عوده إلى الأخيرة لاحتمال عوده إلى ما قبلها.
ورد على من منع ذلك محتجا بامتناع الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بأجنبى من الاستثناء. ولذلك حقق عوده إلى الأخيرة، وتوقف في انعطافه على ما تقدمها، فيجوز عنده أن يعود على الجميع مع الأخيرة. وأما عوده على ما قبل الأخيرة دونها فمتعذر عند هذا القائل فلم يصف في العود إلى الأخيرة لهذه الشبهة. وقد بين القاضي أبو بكر صلاحية عوده إلى ما قبل الأخيرة دونها ردا على هذا القائل، واستشهد بقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) ووجه استشهاده: أن المعنى يأبى انعطاف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ويعين عوده إلى ما قبلها وسيأتى بيان ذلك عند الكلام على الآية.
(2) .
إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... شعوب النوى والهوجل المتعسف
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
للفرزدق. يقول: يا أمير المؤمنين، قذفتنا إليك طرق البعد، لكن الرامي به في الحقيقة دواعي النفس، فاسناد الرمي إلى الشعوب مجاز عقلى: أو شبه الطرق بمن يصح منه الرمي على سبيل المكنية، والمراد بالرمي البعث مجازا، والهوجل: الطويل الأحمق، أى البعير المتعسف الحائد عن سنن الطريق، أو الطريق الطويل المعوج، فهو عطف خاص على عام. وشبه الزمان المجدب بذي ناب على طريق المكنية، وإسناد العض له تخييل. والمسحت: البقية القليلة من الشيء، يقال سحته وأسحته إذا استأصله، والأولى لغة الحجاز، والثانية لغة نجد. والمجلف: المنقرض من جوانبه، يقال جلفه كنصره إذا قشره أو قطعه. والجائفة أبلغ من الجالفة، وقيل: المسحت والمجلف، الذي أخذ منه ماله أو هلك منه، وكان الواجب نصب الاستثناء لأنه لا وجه للرفع، لكن روعي فيه معنى النفي فرفع، أى لم يبق من المال إلا هما. وروى: إلا مسحتا أو مجلف، فرفع الثاني عطفا على المعنى. روى أنه سئل: لم خالفت بينهما فقال: قلت ذلك لتشقى به النحويون. ونداء عبد الملك بن مروان في الموضعين للتعظيم والاستعطاف.

(1/295)


ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252)

رجلا والذين آمنوا يعنى القليل قال الذين يظنون يعنى الخلص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاء الله وأيقنوه. أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله، والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة. وقيل: الضمير في: (قالوا لا طاقة لنا) للكثير الذين انخذلوا، والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما. يظهر أولئك عذرهم في الانخذال، ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به. وروى أن الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش.

[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 251]
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)
وبجالوت جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد، وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل وثبت أقدامنا وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك من الأسباب. كان أيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى إلى اشمويل أن داود بن أيشى هو الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وزوجه طالوت بنته. وروى أنه حسده وأراد قتله ثم تاب وآتاه الله الملك في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود والحكمة والنبوة وعلمه مما يشاء من صنعة الدروع، وكلام الطير والدواب وغير ذلك ولولا دفع الله الناس ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض.

[سورة البقرة (2) : آية 252]
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252)
تلك آيات الله يعنى القصص التي اقتصها، من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم،

(1/296)


تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253) ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254)

وتمليك طالوت وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلبة الجبابرة على يد صبى بالحق باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك وإنك لمن المرسلين حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار.

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 254]
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254)
تلك الرسل إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا بعضهم على بعض لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات منهم من كلم الله منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام.
وقرئ (كلم الله) بالنصب. وقرأ اليماني: كالم الله، من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم الله، بمعنى مكالمه ورفع بعضهم درجات أى ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. والظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم «1» لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منفيا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول:
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «والظاهر أنه أراد محمدا عليه الصلاة والسلام ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وإنما أوردت هذا الفصل من كلامه استحسانا له لفظا ومعنى، وتبركا بإعطاء المصطفى عليه الصلاة والسلام من الفضل بعض حقه. وأصاب الزمخشري في قوله: حيث أوتى النبي عليه الصلاة والسلام من الفضل المنيف على سائر ما أوتيه الأنبياء، على الجميع الصلاة والسلام. وليس كما يقال عن بعض أهل العصر من تفضيل النبي عليه الصلاة والسلام على كل واحد واحد من آحاد الأنبياء. وينبغي الوقوف عن نسبته له، فانه من العلماء الأعلام وعمد دين الإسلام، والوجه التوريك بالغلط على النقلة عنه.

(1/297)


أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولى العزم من الرسل. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا: رسول الله أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء. فدخل عليه السلام فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له. فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها «1» . فإن قلت: فلم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بين أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتى منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها. كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع، اللهم ارزقنا شفاعته يوم الدين ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر «2» ما اقتتل الذين من بعد الرسل، لاختلافهم في الدين، وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضا ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ومنهم من كفر لإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا كرره للتأكيد «3»
__________
(1) . أخرجه إسحاق بن راهويه: أخبرنا أبو عاصم العبادي أخبرنا على بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عنه به. ورواه البزار والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عاصم العبادي به. وهو ضعيف وشيخه مجهول.
(2) . قوله «مشيئة إلجاء وقسر» يعنى أنه أراد عدم الاقتتال، لكن لا إرادة قسر، ولذلك تخلف المراد عنها، وهذا مذهب المعتزلة. وأما عند أهل السنة فليس هناك إرادة يتخلف عنها المراد، بل كل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، كما بين في محله. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «كرر ولو شاء الله للتأكيد» قال أحمد رحمه الله: ووراء التأكيد سر أخص منه، وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها. وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك، وطريق معتد. وكان جدي لأمى أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير يعد في كتاب الله تعالى مواضع في هذا المعنى: منها قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا) ومنها قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم) إلى قوله: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم) وهذه الآية من هذا النمط، لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة. ثم طال الكلام، أو أريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي ناقذة في كل فعل واقع، وهو المعنى المعبر عنه في قوله: (ولكن الله يفعل ما يريد) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام وتعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح السر، والله الموفق. وأى قدم يثبت للاعتزال قبالة هذا؟ لأنه الدائرة القاطعة لدابره، الكافلة بالرد على منتحله وناصره ولذلك جوزها الزمخشري لاغتناصها على تأويله، واعتصامها بالنصوصية من حيله ونحيله.

(1/298)


الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255)

ولكن الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة أنفقوا مما رزقناكم أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به. وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب «1» لم تجدوا شفيعا يشفع لكم في حط الواجبات، لأن الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير «2» والكافرون هم الظالمون أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال (والكافرون) للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج (من كفر) مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) وقرئ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، بالرفع.

[سورة البقرة (2) : آية 255]
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم (255)
الحي الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء، «3» وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «ومعناه: إن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم ... الخ» قال أحمد رحمه الله:
أما القدرية، فقد وطنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة وهم جدير أن يحرموها. وأدلة أهل السنة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى. وما أنكرها القدرية إلا لايجابهم مجازاة الله تعالى للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية إيجابا عقليا على زعمهم. فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة. وقد تقدم جواب عن التمسك بإطلاق مثل هذه الآية في نفى الشفاعة، ونعبده فنقول: أيام القيامة متعددة والشفاعة في بعضها ثابتة، فكل ما ورد مفهما لتفيها حمل على الأيام الخالية منها جمعا بين الأدلة، كما ورد قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) وورد (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) وورد (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) وورد (وقفوهم إنهم مسؤلون) ولا تخلص في أمثال هذه الآي باتفاق إلا الحمل على تعدد أوقات القيامة واختلاف أحوالها وأيامها، وكذلك أمر الشفاعة سواء. رزقنا الله الشفاعة وحشرنا في زمرة السنة والجماعة. [.....]
(2) . قوله «لأن الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير» هذا مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة قد تكون في تخفيف العذاب أيضا. (ع)
(3) . قوله «الحي الباقي الذي لا سبيل عليه ... الخ» المعتزلة يفرون من أن يثبتوا لله صفة وجودية كالحياة التي تنافى الموت فلذا فسر الحي بما قال. (ع)

(1/299)


ويقدر. والقيوم الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وقرئ: القيام، والقيم. والسنة: ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس. قال ابن الرقاع العاملي:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... فى عينه سنة وليس بنائم «1»
أى لا يأخذه نعاس ولا نوم وهو تأكيد للقيوم لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما.
ومنه حديث موسى: أنه سأل الملائكة وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية: أينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام، ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين. فأخذهما، وألقى الله عليه النعاس فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء إنى أمسك السموات والأرض بقدرتي، فلو أخذنى نوم أو نعاس لزالتا «2» من ذا الذي يشفع عنده بيان
__________
(1) .
لولا الحياء وإن رأسى قد عثى ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
لعدي بن الرقاع في تشبيب مدح الوليد بن عبد الملك. وعن الأصمعى: أنه لأحمد بن الرقاع. وعثى يعثى كسعي يسعى، وعاث يعيث كعاش يعيش: سار على وجه الإفساد. وروى «عسى» بالسين أى ظهر وانتشر واشتد، فعسى هنا تامة لا ناقصة. وأم القاسم: كنية محبوبته. وبين النساء: أى دون النساء، وقد روى كذلك أيضا. و «أحور» فاعل «أعار» والحور: صفاء سواد العين وبياضها. والجآذر: جمع جؤذر وهو ولد الظبية. وجاسم: موضع بعينه. ووسنان: نعت أحور. وأقصدت الرجل: إذا طعنته فلم تخطئ مقتله، أى أصابه النعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور والغفلات. ورنق الماء: كدر. وترنق: تكدر. ورنقه وأرنقه: كدره ورنق الطائر ترنيقا، إذا وقف في الهواء صافا جناحه يريد الوقوع. فالمعنى: وقفت في عينه سنة. ويجوز أن المعنى: رنقت عينه سنة، أى كدرتها. وأقحم «في» لأنه جعل العين ظرفا للترنيق، وهذا يشعر بتشبيه العين بالماء في شدة الصفاء. والسنة من وسن فهو وسنان، فهي من باب عدة. وسبب النوم: ريح يقوم في أغشية الدماغ، فإذا وصل إلى العين فترت، وهذا هو الوسن، وإذا وصل إلى القلب وتمكن منه زال إدراك الحواس، وهذا هو النوم فلذلك نفاه مع إثبات السنة.
(2) . قلت قوله «وذلك من قومه كطلب الرؤية» من كلام الزمخشري، أدرجه في الخبر. فقد رواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله عز وجل؟ فذكره» وقد رواه أبو يعلى والطبري والدارقطني في الأفراد وابن مردويه والبيهقي في الصفات، كلهم من طريق إسحاق بن أبى إسرائيل عن هشام بن يوسف عن أمية بن سبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبى هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى عن موسى عليه السلام قال وقع في نفس موسى: هل ينام ربنا؟ فأرسل إليه ملكا فأرقه، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره أن يختفظ بهما.
قال: فجعل ينام ويكاد يداه يلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة. فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلا: إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض» ورواه البيهقي موقوفا وقال:
هذا هو الأشبه. وقال الدارقطني تفرد به الحاكم عن عكرمة وأمه عن الحكم وهشام عن أمية. وقال الخطيب:
رواه معمر عن الحكم عن عكرمة من قوله. ولم يذكر أبا هريرة. ولا النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ورواية عبد الرزاق ترد عليه. لكنها موقوفة. وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية وقال: يشبه أن يكون عكرمة تلقاه عن كتب اهل الكتاب. قال: وقد روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة له عن سعيد بن جبير «أن بنى إسرائيل قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: هل ينام ربنا، قال: وهذا هو الصحيح.

(1/300)


لملكوته وكبريائه، وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم. والضمير لما في السموات والأرض لأن فيهم العقلاء، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء من علمه من معلوماته إلا بما شاء إلا بما علم. الكرسي: ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد. وفي قوله وسع كرسيه أربعة أوجه «1» : أحدها أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، كقوله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه من غير تصور قبضة وطى ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسى. ألا ترى إلى قوله وما قدروا الله حق قدره. والثاني: وسع علمه وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم. والثالث: وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك والرابع: ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعن الحسن: الكرسي هو العرش ولا يؤده ولا يثقله ولا يشق عليه حفظهما حفظ السموات والأرض وهو العلي الشأن العظيم الملك والقدرة. فإن قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي «2» من غير حرف عطف؟ قلت: ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «وفي قوله تعالى «وسع كرسيه السموات والأرض» أربعة أوجه ... الخ» قال أحمد رحمه الله: قوله في الوجه الأول أن ذلك تخييل للعظمة سوء أدب في الإطلاق وبعد في الإضرار، فان التخيل إنما يستعمل في الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق، فان يكن معنى ما قاله صحيحا فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة لا مدخل لها في الأدب الشرعي، وسيأتى له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب.
(2) . عاد كلامه قال: «فان قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي وما بالها لم تعطف بالواو؟ قلت: لأنها كلها في حكم البيان والبيان متحد بالمبين فدخول الواو بينهما- كما تقول العرب- دخول بين العصا ولحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكا لتدبيره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لاحاطته بأحوال الخلق، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها. وقد وردت آثار في تفضيلها. منها قوله عليه السلام «ما قرئت هذه الآية في دار إلا اجتنبتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا على علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها» وعن على رضى الله عنه سمعت نبيكم على أعواد المنبر يقول «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال على أين أنتم من آية الكرسي، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا على، سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال طور سيناء، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي» . وإنما فضلت لما فضلت له سورة الإخلاص، من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى» قال أحمد: وكان جدي رحمة الله عليه يقول: اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل عليه آية من أسماء الله عز وجل وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى، ظاهرا في بعضها ومستكنا في بعض، ويظهر لكثير من العادين منها ستة عشر إلا على بصير حاد البصيرة لدقة استخراجه. الأول الله، الثاني هو، الثالث الحي، الرابع القيوم، الخامس ضمير لا تأخذه، السادس ضمير له، السابع ضمير عنده، الثامن ضمير إلا باذنه، التاسع ضمير يعلم، العاشر ضمير علمه، الحادي عشر ضمير شاء، الثاني عشر ضمير كرسيه، الثالث عشر ضمير ولا يؤده، الرابع عشر وهو، الخامس عشر العلى، السادس عشر العظيم. فهذه عدة الأسماء البينة. وأما الخفي فالضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله: (حفظهما) فانه مصدر مضاف إلى المفعول، وهو الضمير البارز، ولا بد له من فاعل وهو الله، ويظهر عند فك المصدر فيقول: ولا يؤده أن يحفظهما هو. وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبى الفضل المرسى قد رام الزيادة على هذا العدد لما أخبرته به عن الجد رحمه الله فقال: يمكن أن يعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها بآيتين. لأن كل واحد يتحمل ضميرا ضرورة كونه مشتقا، وذلك الضمير إنما يعود إلى الله تعالى، وهي باعتبار ظهورها اسم وقد اشتملت على آخر مضمر، فيكون جملة العدد على هذا النظر أحدا وعشرين اسما، وكنت قد أجريت معه في تعدد الزيادة المذكورة وجها لطيفا، وهو أن الاسم المشتق لا يتحمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح، وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى، ثم ولو فرضناها متحملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزيل، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره. ألا تراك إذا قلت:
زيد كريم، وجدت «كريما» إنما يقع على زيد، لأن فيه ضميره، حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد، بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره، فليس المشتق إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه، فلا يمكن أن يجعل له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين ألبتة، فرضي الشيخ المذكور عن هذا البحث وصوبه والله الموفق للصواب.

(1/301)


البيان لما ترتبت عليه والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا «1» ولحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية لكونه مالكا لما يدبره. والثالثة لكبرياء شأنه. والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى. والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره. فان قلت: لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد منه قوله صلى الله عليه وسلم:
ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا على علمها ولدك وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها «2» وعن على رضى الله عنه:
سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا
__________
(1) . قوله «بين العصا ولحائها» في الصحاح: اللحاء- ممدود- قشر الشجر. وفي المثل: لا تدخل بين العصا ولحائها. (ع)
(2) . لم أجده.

(1/302)


لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)

أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله «1» وتذاكر الصحابة رضوان الله عليهم أفضل ما في القرآن، فقال لهم على رضى الله عنه: أين أنتم عن آية الكرسي، ثم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا على، سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي «2» » قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار. وبهذا يعلم أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم أهل العدل والتوحيد «3» ولا يغرنك عنه كثرة أعدائه:
ف إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا «4»

[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)
لا إكراه في الدين أى لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار. ونحوه قوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين أى لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار قد تبين الرشد من الغي قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة فمن يكفر بالطاغوت
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الشعب من طريق ابن إسحاق عن حبة بن جوين العرفي» سمعت على بن أبى طالب يقول:
فذكره دون قوله «ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد» : وذكر ما بعده. وفي إسناده نهشل بن سعيد وهو متروك. وكذلك حبة العرفي، وأخرجه أيضا من حديث أنس بلفظ «من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي حفظ إلى الصلاة، ولا يحافظ عليها إلا نبى أو صديق أو شهيد» وإسناده ضعيف وصدر الحديث أخرجه النسائي وابن حبان، من حديث أبى أمامة، وإسناده صحيح، وله شاهد عن المغيرة بن شعبة عند أبى نعيم في الحلية من رواية محمد بن كعب القرظي عنه، وغفل ابن الجوزي فأخرجه في الموضوعات.
(2) . لم أجده. وقد ذكره صاحب الفردوس ولم يخرجه ابنه.
(3) . قوله «علم أهل العدل والتوحيد» المعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وعلم التوحيد أشرف العلوم في نفسه لا بقيد إضافته إلى فرقة من أهله، اللهم إلا عند المتعصب. (ع)
(4) . للمغيرة شاعر آل المهلب. وقيل للمهلبية: ما أكثر حسادكم فأنشدوه. والعرانين: الخيار الأشراف و «لن» لتوكيد النفي. ويروى: ولا ترى. ويروى: ما ترى. واللئيم: الخسيس، واللئام جمعه. وحساد- بضم الحاء- جمع حاسد. أى ليس للئيم الناس حاسدا، فهو من مقابلة الجمع بالجمع. وفتحها على أنه مفرد أبلغ من حيث المعنى، حيث نفى الواحد عن الجمع نفيا شموليا.

(1/303)


الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257) ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258) أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259)

فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق المحكم، المأمون انفصامها، أى انقطاعها. وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن به. وقيل: هو إخبار في معنى النهى، أى لا تتكرهوا في الدين. ثم قال بعضهم: هو منسوخ بقوله جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وقيل: هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية. وروى أنه كان لأنصارى من بنى سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصارى: يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما «1»

[سورة البقرة (2) : آية 257]
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257)
الله ولي الذين آمنوا أى أرادوا أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان. والذين كفروا أى صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك. أو الله ولى المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين- إن وقعت لهم- بما يهديهم ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259]
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258) أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259)
__________
(1) . أخرجه الواحدي في أسبابه من قول مسروق، وكذلك البغوي، وقد أخرج الطبري من رواية أبى إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت في رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له. الحصين: كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما، فقال: يا رسول الله، ألا أستكرههما فأنزل الله تعالى: (لا إكراه في الدين) ... الآية.

(1/304)


ألم تر تعجيب من محاجة نمروذ في الله وكفره به أن آتاه الله الملك متعلق بحاج على وجهين «1» :
أحدهما حاج لأن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك، أو على أنه «2» وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه الله الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان لأنى أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون.
والثاني: حاج وقت أن آتاه الله الملك. فان قلت: كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل:
ملكه امتحانا لعباده «3» . وإذ قال نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت
__________
(1) . قال محمود: «إن آتاه متعلق بحاج على وجهين ... الخ» قال أحمد: عفا الله عنه، والوجهان قريبان من حيث المعنى، إلا أن بينهما في الصناعة فرقا، وهو إنما استعمل المصدر في الأول مفعولا من أجله، وفي الثاني ظرفا.
وقد وقعت المصادر ظروفا في مثل: خفوق النجم، ومقدم الحاج، وأمثال ذلك. وإنما وقعت محاجته بهذا الظرف لاشتماله على إيتاء الملك الحامل له على البطر، أو على وضع كفر النعمة فيه مكان شكرها. وهذان المعنيان هما المذكوران في الوجه الأول بعينهما فلهذا نبهت على أن الفرق بين الوجهين صناعى لا معنوي. والله الموفق لمعانى كلامه. [.....]
(2) . قوله «أو على أنه» لعله: أو على معنى أنه. (ع)
(3) . قال محمود: «فان قلت كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟ قلت: ذلك على وجهين: أحدهما آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، فأما التغليب والتسليط فلا. الثاني أن يكون ملكه امتحانا لعباده» قال أحمد: السؤال مبنى وروده على قاعدة فاسدة، وهي اعتقاد وجوب مراعاة ما يتوهمه القدرية صلاحا أو أصلح على الله تعالى في أفعاله، وكل ذلك من أصول القدرية التي اجتثها البرهان القاطع فما لها من قرار. وأما إيراد السؤال على صيغة: لم آتاه الله الملك وهو كافر؟ أولم أفعل كذا وكذا؟ فجواب رده على الإطلاق في قوله تعالى: (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) لو سمع الصم البكم. والله ولى التوفاق. (عاد كلامه) قال ومعنى قوله أنا أحيى وأميت:
أعفو عن القتل وأقتل، وكان الاعتراض عتيدا ولكن إبراهيم عليه السلام لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ولكنه انتقل إلى ما لا يقدر فيه على مثل ذلك ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة» . قال أحمد: وقد التزم غير واحد من العلماء أن هذا الذي صدر من الخليل عليه الصلاة والسلام ليس بانتقال من الحجة، ولكن من المثال. وأما الحجة فهي استدلاله على ألوهية الله تعالى بتعلق قدرته بما لا يجوز تعلق قدرة الحادث به، ثم هذا له أمثلة منها الأحياء والاماتة، ومنها: الإتيان بالشمس من المشرق. والعدول بعد قيام الحجة وتمهيد القاعدة من مثال إلى مثال ليس ببدع عند أهل الجدل والله أعلم.

(1/305)


أنا أحيي وأميت يريد أعفو عن القتل «1» وأقتل. وكان الاعتراض عتيدا ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء.
وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وقرئ (فبهت الذي كفر أى فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة: فبهت، بوزن قرب. وقيل: كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربى الذي يحيى ويميت. أو كالذي معناه: أو أرأيت مثل الذي مر «2» فحذف لدلالة ألم تر عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية. والمار كان كافرا «3» بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك
__________
(1) . قوله «يريد أعفو عن القتل» في الصحاح عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه. وفيه: أعفنى من الخروج معك اى دعني منه. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه أو أرأيت مثل الذي مر ... الخ» قال أحمد: ومثل هذا النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيرا، كقوله:
قال لها كلا أسرعى ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا
يريد لم أر كاليوم فحذف الفعل وحرف النفي. والظاهر حمل الآية على الوجه الأول لوجود نظيره، والله أعلم.
(3) . (عاد كلامه) قال والمار كان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد. وقيل:
كان مؤمنا وهو عزير أو الخضر، وأراد أن يعاين الأحياء كما طلبه إبراهيم. وقوله يوما، بناه على الظن. روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال- قيل النظر إلى الشمس- يوما، ثم التفت فرأى بقية منها فقال: أو بعض يوم، انتهى كلامه. قال أحمد: أما استدلال الزمخشري على أن المار كان كافرا بانتظامه مع نمروذ في سلك واحد، فمعارض بأنه نظمت قصته مع قصة إبراهيم عليه السلام في نسق واحد، فليس الاستدلال على كفره باقتران قصته مع قصة نمروذ، أولى من الاستدلال على إيمانه بانتظامها أيضا مع قصة إبراهيم، إلا أن يقول إن قصة هذا المار معطوفة على قصة نمروذ عطف تشريك في الفعل، منطوقا به في الأولى ومحذوفا من الثانية، مدلولا عليه بذكره أولا، ولا كذلك عطف قصة إبراهيم فإنها مصدرة بالواو التي لا تدخل في كثير من أحوالها للتشريك، ولكن لتحسين النظم حتى تتوسط بين الجمل التي يعلم تعاطفها لذلك الغرض، ولا كذلك عطفها في قصة نمروذ، فانه بأو التي لا تستعمل إلا مشركة، إذ عطف التحسين اللفظي خاص بالواو فنقول: إذا انتهى الترجيح إلى هذا التدقيق فهو معارض بما بين قصة المار وقصة إبراهيم من التناسب المعنوي، لأن طلبتهما واحدة، إذ المار سأل معاينة الأحياء، وكذلك طلبة إبراهيم ثم التناسب المعنوي أرجح من التعلق بأمور لفظية ترد إلى أنحاء مختلفة ويؤيد القول بأن المار كان مؤمنا تحريه في قوله تعالى: (يوما أو بعض يوم) فان ظاهره الاحتراز من التحريف في القول حتى لا يعبر عن جل اليوم باليوم حذرا من إبهام طلبته لجملة اليوم. ومثل هذا التحري لا يصدر عن معطل، والله أعلم.
ولا يقال إنما صدر منه هذا التحري بعد أن حيي وآمن، لأنا نقول إنما آمن على القول بكفره بعد ظهور الآيات، يدل عليه قوله تعالى: (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) وأما التحري المذكور فكان أول القصة قبل الايمان وما قدرت هذا السؤال إلا لنكتة يذكرها الزمخشري الآن تشعر بايراده على الترجيح المذكور. ثم هذه الجرأة التي نقلها الزمخشري في خلال كلامه من أنه إنما قال: أو بعض يوم لما رأى بقية من الشمس لم يكن رآها أول كلامه فاستدرك الأمر، فيها نظر دقيق لم أقف عليه لأحد ممن أورد الحكاية في تفسيره. وذلك أن الأمر إذا كان على ما تضمنته، وكلام المار المذكور بنى أولا على الجزم بأنه لبث يوما ثم جزم آخرا أن لبثه إنما كان بعض يوم لرؤية بقية من الشمس، وكان مقتضى التعبير عن حاله أن يقول: بل بعض يوم، مضربا عن جزمه الأول إلى جزمه الثاني، لأن «أو» إنما تدخل في الخبر إذا انبنى أوله على الجزم ثم عرض في آخره شك، ولا جزم بالنقيض، فالحكاية المذكورة توجب أن يكون الموضع ل «بل» لا ل «أو» إذ موضع «بل» جزم بنقيض الأول، فإذا استقر ذلك فالظاهر من حال المار أنه كان أولا جازما ثم شك لا غير اتباعا لمقتضى الآية، وعدولا عن الحكاية التي لا تثبت إلا بإسناد قاطع، فيضطر إلى تأويل، فتأمل هذا النظر فانه من لطيف النكت، والله الموفق.

(1/306)


ولكلمة الاستبعاد التي هي: أنى يحيى. وقيل هو عزيز أو الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: أنى يحيي اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي. والقرية: بيت المقدس حين خربه بخت نصر. وقيل: هي التي خرج منها الألوف وهي خاوية على عروشها تفسيره فيما بعد. يوما أو بعض يوم بناء على الظن.
روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوما، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وروى أن طعامه كان تينا وعنبا. وشرابه عصيرا أو لبنا، فوجد التين والعنب كما جنيا، والشراب على حاله لم يتسنه لم يتغير، والهاء أصلية أو هاء سكت. واشتقاقه من السنة على الوجهين، لأن لامها هاء أو واو، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل: أصله يتسنن، من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة، كتقضى البازي. ويجوز أن يكون معنى (لم يتسنه) لم تمر عليه السنون التي مرت عليه، يعنى هو بحاله كما كان كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد الله: فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن. وقرأ أبى: لم يسنه، بإدغام التاء في السين وانظر إلى حمارك كيف تفرقت عظامه ونخرت، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن يراد: وانظر إليه سالما في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل: أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة فأخذ يهذها هذا «1» عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفا، فقالوا: هو ابن الله. ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير، فذلك كونه آية. وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخا وهو شاب، فإذا حدثهم بحديث قالوا: حديث مائة سنة وانظر إلى العظام هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم كيف ننشزها كيف نحييها. وقرأ الحسن: ننشرها، من نشر
__________
(1) . قوله «فأخذ يهذها» أى يسرع بها. أفاده الصحاح. (ع)

(1/307)


وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)

الله الموتى، بمعنى: أنشرهم فنشروا، وقرئ بالزاي، بمعنى تحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب.
وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم أن الله على كل شيء قدير فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيدا. ويجوز: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعنى أمر إحياء الموتى. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: فلما تبين له على البناء للمفعول. وقرئ: قال اعلم، على لفظ الأمر: وقرأ عبد الله: قيل اعلم. فإن قلت: فإن كان المار كافرا فكيف يسوغ أن يكلمه الله؟ «1» قلت: كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافرا.

[سورة البقرة (2) : آية 260]
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)
أرني بصرني، فإن قلت: كيف قال له أولم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا «2» ؟
__________
(1) . (عاد كلامه) قال: «فان قلت إذا كان المار كافرا ... الخ» قال أحمد: وهذا سؤال عجيب، والجواب عنه أعجب منه، ومن سلم لهذا السائل أن الله تعالى لا يسوغ أن يكلم الكافر؟ وهل هذا إلا خطب بلا أصل؟
أليس أن إبليس رأس الكفر ومعدنه ومع هذا قال الله تعالى: (فاخرج منها فإنك رجيم ... ) إلى آخر الآية ويقول تعالى للكفار وهم بين أطباقها يعذبون (اخسؤا فيها ولا تكلمون) ولأن هذا الأمر متيقن وقوعه فضلا عن جوازه أول العلماء قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله) بمعنى ولا يكلمهم بما يسرهم وينفعهم. هذا وجه تعجبي من السؤال. وأما الجواب فقد أسلفت آنفا رده بأن إيمان هذا المار على القول بأنه كان كافرا إنما حصل في آخر القصة بعد أن تبينت له الآيات. وأما كلام الله تعالى فمن أول القصة. قلت: الزمخشري كفانا مؤنة هذا الفضل سؤالا وجوابا والله المستعان.
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف قال له (أولم تؤمن) وقد علم ... الخ» ؟ قال أحمد: الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها من الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأى المخمر فما وافق من كلام المصنف ما يذكره فالحمد لله، وما خالفه فالحق فيما ذكرناه والله الموفق. فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له (كيف تحي الموتى) فليس عن شك والعياذ بالله في قدرة الله عن الأحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الأحياء، ولا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الايمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟
فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته، ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية. وقد قطع النبي عليه الصلاة والسلام دابر هذا الوهم بقوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أى ونحن لم نشك، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى. فان قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالايمان ولا تخل به، فما موقع قوله تعالى: (أولم تؤمن) ؟ قلت:
قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله: أن يدعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له:
أرنى كيف محمل هذا، فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن ابراهيم مبرأ منه، أراد بقوله: (أولم تؤمن) أن ينطق إبراهيم بقوله: بلى آمنت، ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى: ليكون إيمانه مخلصا نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فان قلت: قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين، فما موقع قول إبراهيم (ولكن ليطمئن قلبي) وذلك يشعر ظاهرا بأنه كان عند السؤال فاقدا للطمأنينة؟ قلت: معناه ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأنى إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد وجاءت الآية مطابقة لسؤاله، لأنه شاهد صورة حياة الموتى، تقديره: الذي يحيى ويميت، فهذا أحسن ما يجرى لي في تفسير هذه الآية وربك الفتاح العليم. وأما قول الزمخشري: «إن علم الاستدلال يتطرق إليه التشكيك بخلاف العلم الضروري» فكلام لم يصدر عن رأى منور ولا فكر محرر، وذلك أن العلم الموقوف عن سبب لا يتصور فيه تشكيك، ما دام سببه مذكورا في نفس العالم، وإنما الذي يقبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر، وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن ذروة العلم، ولكن للقدماء من القدرية خبط طويل في تميز العلم عن الاعتقاد، حتى غالى أبو هاشم فقال العلم بالشيء والجهل به مثلان. وهذا على الحقيقة جهل حتى لحقيقة الجهل، والزمخشري في قواعد العقائد يقفو آثار هذا القائل أية سلك فلعله من ثم طرق إلى العلم النظري الشك حسب تطرقه إلى الاعتقاد الذي يكون مرة جهلا ومرة مطابقا، والله الموفق.

(1/308)


قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. وبلى إيجاب لما بعد النفي، معناه بلى آمنت ولكن ليطمئن قلبي ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في: (ليطمئن) ؟ قلت: بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب فخذ أربعة من الطير قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة فصرهن إليك) بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهن واضممهن إليك قال:
ولكن أطراف الرماح تصورها «1»
وقال:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليت قنوان الكروم الدوالح «2»
__________
(1) .
وما صيد الأعناق فيهم جبلة ... ولكن أطراف الرماح تصورها
الصير- بالتحريك- اعوجاج العنق. ويقال صاره يصوره ويصيره، بمعنى أماله وقطعه. أى ليس ميل الأعناق طبيعة فيهم ولكن أطراف الرماح لكثرتها فوق رؤسهم تميل أعناقهم. وإسناد الامالة للأطراف مجاز عقلى من الاسناد للسبب. ويجوز أن «فيهم» حال من الصيد لا من جبلة، أى حال كونه فيهم.
(2) . صاره يصيره ويصوره، إذا أماله أو قطعه: وروى: يزين الجيد. والجيد: العنق: والوحف: الكثيف الأسود. والليت: صفحة العنق. والدوالح: المثقلات بالحمل، يصف شعر محبوبته بأنه يميل عنقها لثقله عليه، وشبه غدائره على جانب جيدها بعناقيد الكروم المثقلات بالحمل.

(1/309)


مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (261)

وقرأ ابن عباس رضى الله عنه (فصرهن) بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء، من صره يصره ويصره إذا جمعه، نحو ضره ويضره ويضره. وعنه (فصرهن) من التصرية وهي الجمع أيضا ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا يريد: ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى:
على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل. وعن السدى:
سبعة ثم ادعهن وقل لهن: تعالين بإذن الله يأتينك سعيا ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن: فان قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها «1» ؟ قلت:
ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها «2» لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ولذلك قال: يأتينك سعيا. وروى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رءوسها، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رءوسهن، كل جثة إلى رأسها. وقرئ (جزأ) بضمتين.
وجزا، بالتشديد. ووجهه أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف، إجراء للوصل مجرى الوقف.

[سورة البقرة (2) : آية 261]
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (261)
مثل الذين ينفقون لا بد من حذف مضاف، أى مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف، كأنها ماثلة بين عينى الناظر: فإن قلت: كيف صح هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضى القوية المقلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحا على سبيل الفرض والتقدير: فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلات، على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: (وسبع سنبلات خضر) ؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله: (ثلاثة قروء) من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها والله يضاعف لمن يشاء أى يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: إن قلت ما معنى أمره بضمها ... الخ» ؟ قال أحمد: يريد: ولم يقل طيرانا لأنه إذا كانت ساعية كان أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة، والله أعلم.
(2) . قوله «وهيآتها وحلاها» جمع حلية بالكسر أى صفاتها. أفاده الصحاح. (ع)

(1/310)


الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262)

لتفاوت أحوال المنفقين. أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك.

[سورة البقرة (2) : آية 262]
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (262)
المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم:
وإن امرأ أسدى إلى صنيعة ... وذكرنيها مرة للئيم «1»
وفي نوابغ الكلم: صنوان «2» من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن. وفيها: طعم الآلاء «3» أحلى من المن وهي أمر من الآلاء مع المن. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه: ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وأن تركهما خير من نفس
__________
(1) . يقول: وإن رجلا أعطانى عطية وذكرني بها مرة واحدة، للئيم. أى بليغ في اللؤم والخسة.
(2) . قال محمود: «في نوابغ الكلم صنوان ... الخ» قال أحمد: «ثم» في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك كهذه الآية: وحاصله: أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها: وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الاشعار ببعد الزمن. ولكن معناها الأصلى تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه وعليه حمل قوله تعالى (ثم استقاموا) أى داموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات. وكذلك قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) أى يدومون على تناسى الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الاذاية وتقليد المنن بسببه، ثم يتوبون، والله أعلم. وقريب من هذا أو مثله أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) . وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية (الذي خلقني فهو يهدين) فليس إلى حمل السين على تراخى زمان وقوع الهداية له من سبيل، فيتعين المصير إلى حملها على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخى بقائها وتمادى أمدها. ولعل الزمخشري وأشار إلى هذا المعنى في آية إبراهيم عليه السلام، فأمل هذا الوجه فهو أوجه مما حمل الزمخشري عليه آية البقرة. وهذه الآية أبقى على الحقيقة وأقرب إلى الوضع على أحسن طريقة والله الموفق. [.....]
(3) . قوله «وفيها طعم الآلاء» في الصحاح: الآلاء النعم، واحدها «ألا» بالفتح. وفيه أيضا: الألاء- بالفتح- شجر حسن المنظر مر الطعم اه. واسم النعم على زنة أسباب. والظاهر أن اسم الشجر على زنة سحاب، فليحرر ما في النوابغ. (ع)

(1/311)


قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264) ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265)

الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله: (ثم استقاموا) . فإن قلت: أى فرق بين قوله: لهم أجرهم وقوله فيما بعد: (لهم أجرهم) ؟ قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط. وضمنه ثمة. والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 264]
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264)
قول معروف رد جميل ومغفرة وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل، أو عفو من جهة السائل لأنه إذا رده ردا جميلا عذره خير من صدقة يتبعها أذى وصح الإخبار عن المبتدإ النكرة لاختصاصه بالصفة والله غني لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذى حليم عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخط منه ووعيد له، ثم بالغ في ذلك بما أتبعه كالذي ينفق ماله أى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كابطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة فمثله كمثل صفوان مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان بحجر أملس عليه تراب. وقرأ سعيد بن المسيب: صفوان بوزن كروان فأصابه وابل مطر عظيم القطر فتركه صلدا أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه. ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق لا يقدرون على شيء مما كسبوا كقوله: (فجعلناه هباء منثورا) ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال: أى لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. فإن قلت: كيف قال: (لا يقدرون) بعد قوله: (كالذي ينفق) ؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان، فكأنه قيل: كمن ينفق.

[سورة البقرة (2) : آية 265]
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265)

(1/312)


أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266)

وتثبيتا من أنفسهم وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح. وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها، وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتا لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن يراد: وتصديقا للإسلام، وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه. «ومن» على التفسير الأول للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه، وحرك من نشاطه. وعلى الثاني لابتداء الغاية، كقوله تعالى: (حسدا من عند أنفسهم) . ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه. وتعضده قراءة مجاهد: وتبيينا من أنفسهم. فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله كمثل جنة وهي البستان بربوة بمكان مرتفع. وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا أصابها وابل مطر عظيم القطر فآتت أكلها ثمرتها ضعفين مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل فإن لم يصبها وابل فطل فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها. أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة- بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع- زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. وقرئ: كمثل حبة، وبربوة- بالحركات الثلاث- وأكلها بضمتين.

[سورة البقرة (2) : آية 266]
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266)
الهمزة في أيود للإنكار. وقرئ: له جنات، وذرية ضعاف. والإعصار: الريح التي تستدير في الأرض، ثم تسطع نحو السماء كالعمود. وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغى بها وجه الله. فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم ومنتعشهم، فهلكت

(1/313)


ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (267)

بالصاعقة. وعن عمر رضى الله عنه أنه سأل عنها الصحابة فقالوا: الله أعلم، فغضب وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضى الله عنه: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين «1» . قال: قل يا ابن أخى ولا تحقر نفسك. قال: ضربت مثلا لعمل. قال: لأى عمل؟ قال: لرجل غنى يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها «2» . وعن الحسن رضى الله عنه: هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. فإن قلت: كيف قال (جنة من نخيل وأعناب) ثم قال: (له فيها من كل الثمرات) «3» قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع، خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما- وإن كانت محتوية على سائر الأشجار- تغليبا لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله: (وكان له ثمر) بعد قوله: (جنتين من أعناب وحففناهما بنخل) . فإن قلت: علام عطف قوله وأصابه الكبر؟ قلت: الواو للحال لا للعطف. ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر. وقيل يقال: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر.

[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (267)
من طيبات ما كسبتم من جياد مكسوباتكم ومما أخرجنا لكم من الحب والثمر والمعادن وغيرها. فإن قلت: فهلا قيل: وما أخرجنا لكم، عطفا على: (ما كسبتم) حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت: معناه: ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات ولا تيمموا الخبيث ولا تقصدوا المال الرديء منه تنفقون تخصونه بالإنفاق، وهو في محل الحال. وقرأ عبد الله: ولا تأمموا. وقرأ ابن عباس: ولا تيمموا، بضم التاء. ويممه
__________
(1) . أخرجه البخاري من حديث عبيد بن عمير: أن عمر سأل ... فذكره.
(2) . قوله «أغرق أعماله كلها» في بعض نسخ الجلال: أحرق، بالحاء، وكذلك عبارة النسفي. (ع)
(3) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت: لم ذكر النخيل والأعناب أولا ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وهذا من باب تثنية ذكر ما يقع الاهتمام به مرتين عموما وخصوصا ومثله (فيهما فاكهة ونخل ورمان) إلا أنه في تلك الآية بدأ بالتعميم وفي هذه الآية بدأ بالتخصيص والمقصود هو ما نبهنا عليه، والله أعلم.

(1/314)


الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب (269)

وتيممه وتأممه، سواء في معنى قصده ولستم بآخذيه وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا أن تغمضوا فيه إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه، إذا غض بصره. ويقال للبائع: أغمض، أى لا تستقص، كأنك لا تبصر. وقال الطرماح:
لم يفتنا بالوتر «1» قوم وللضيم رجال يرضون بالإغماض «2»
وقرأ الزهرى: تغمضوا. وأغمض وغمض بمعنى. وعنه: تغمضوا، بضم الميم وكسرها. من غمض يغمض ويغمض. وقرأ قتادة: تغمضوا، على البناء للمفعول، بمعنى إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. وقيل: إلا أن توجدوا مغمضين. وعن الحسن رضى الله عنه: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.

[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (268)
أى يعدكم في الإنفاق الفقر ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا. وقرئ:
الفقر، بالضم. والفقر- بفتحتين- والوعد يستعمل في الخير والشر. قال الله تعالى: (النار وعدها الله الذين كفروا) . ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور.
والفاحش عند العرب: البخيل «3» والله يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم وكفارة لها وفضلا وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو وثوابا عليه في الآخرة

[سورة البقرة (2) : آية 269]
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب (269)
__________
(1) . قوله «لم يفتنا بالوتر قوم» في الصحاح «الموتور» الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. تقول منه: وتره وترا وترة. وكذلك وتره حقه أى نقصه. (ع)
(2) . الباء للملابسة أو بمعنى مع. والوتر- بالكسر- الظلم ونقص بعض الحق، ومثله الترة. والفعل وتر كوعد. والضيم: الظلم، والإغماض: ترك بعض الحق والاعراض عنه، كأنه لا يراه. يقول: لم يسبقنا قوم بالوتر ويظفروا منا به. وقوله: وللضيم رجال: استئناف، يعنى إنا لا نعرض عن حقنا كغيرنا لشجاعتنا دونهم، أو حال، أى والحال أن للظلم ناس يرضون بترك حقوقهم لعجزهم، ويؤول إلى الأول.
(3) . قوله «والفاحش عند العرب البخيل» قال:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد (ع)

(1/315)


وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)

يؤتي الحكمة يوفق للعلم والعمل به. والحكيم عند الله: هو العالم العامل. وقرئ (ومن يؤت الحكمة بمعنى ومن يؤته الله الحكمة. وهكذا قرأ الأعمش. وخيرا كثيرا تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتى أى خير كثير وما يذكر إلا أولوا الألباب يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.

[سورة البقرة (2) : آية 270]
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار (270)
وما أنفقتم من نفقة في سبيل الله، أو في سبيل الشيطان أو نذرتم من نذر في طاعة الله، أو في معصيته فإن الله يعلمه لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه وما للظالمين الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي من أنصار ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.

[سورة البقرة (2) : آية 271]
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)
«ما» في: (نعما) نكرة غير موصولة ولا موصوفة. ومعنى فنعما هي فنعم شيئا إبداؤها. وقرئ بكسر النون وفتحها وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء فهو خير لكم فالإخفاء خير لكم. والمراد الصدقات المتطوع بها، فإن الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: «صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا» «1» وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل، لنفى التهمة، حتى إذا كان المزكى ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل، والمتطوع إن أراد أن يقتدى به كان إظهاره أفضل يكفر وقرئ بالنون مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدإ محذوف، أى ونحن نكفر. أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة، ومجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده، لأنه جواب الشرط. وقرئ: ويكفر، بالياء مرفوعا، والفعل لله أو للإخفاء. وتكفر بالتاء، مرفوعا ومجزوما، والفعل للصدقات. وقرأ الحسن رضى الله عنه بالياء والنصب بإضمار أن. ومعناه: إن تخفوها يكن خيرا لكم، وأن يكفر عنكم.
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية ابن عباس، قال «جعل الله صدقة السر التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وجعل صدقة الفريضة علانيتها تفضل سرها خمسة وعشرين ضعفا، وكذا جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها» .

(1/316)


ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273)

[سورة البقرة (2) : آية 272]
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272)
ليس عليك هداهم لا يجب عليك أن تجعلهم «1» مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب ولكن الله يهدي من يشاء يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهى عما نهى عنه وما تنفقوا من خير من مال فلأنفسكم فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم وما تنفقون وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله ولطلب ما عنده، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وما تنفقوا من خير يوف إليكم ثوابه أضعافا مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. وقيل:
حجت أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما فأتتها أمها تسألها وهي مشركة، فأبت أن تعطيها، فنزلت.
وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين. وروى أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم «2» . وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله، لكان لك ثواب نفقتك. واختلف في الواجب، فجوز أبو حنيفة رضى الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره.

[سورة البقرة (2) : آية 273]
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273)
__________
(1) . قال محمود رحمه الله «لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين ... الخ» . قال أحمد رحمه الله: المعتقد الصحيح أن الله هو الذي يخلق الهدى لمن يشاء هداه، وذاك هو اللطف، لا كما يزعم الزمخشري أن الهدى ليس خلق الله وإنما العبد يخلقه لنفسه. وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى إليه كما في هذه الآية، فهو مؤول على زعم الزمخشري بلطف الله الحامل للعبد على أن يخلق هداه. إن هذا إلا اختلاق، وهذه النزغة من توابع معتقدهم السيئ في خلق الأفعال وليس علينا هداهم، ولكن الله يهدى من يشاء، وهو المسئول أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا،
(2) . قوله «كرهوا أن ينفقوهم» لعله على تضمين الفعل معنى الإعطاء. أو لعله محرف وأصله ينفعوهم من النفع. (ع)

(1/317)


الجار متعلق بمحذوف. والمعنى: اعمدوا الفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، كقوله تعالى (في تسع آيات) ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أى صدقاتكم للفقراء. والذين أحصروا في سبيل الله هم الذين أحصرهم الجهاد لا يستطيعون لاشتغالهم به ضربا في الأرض للكسب.
وقيل هم أصحاب الصفة، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجرى قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد- وهي سقيفته- يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى «1» بالنهار. وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة» «2» يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة تعرفهم بسيماهم من صفرة الوجه ورثاثة الحال. والإلحاف: الإلحاح، وهو اللزوم، وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه. من قولهم: لحفنى من فضل لحافه، أى أعطانى من فضل ما عنده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى يحب الحيى الحليم المتعفف، ويبغض البذى السئال الملحف» «3» ومعناه: أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا وقيل: هو نفى للسؤال والإلحاف جميعا، كقوله:
على لاحب «4» لا يهتدى بمناره «5»
يريد نفى المنار والاهتداء به.
__________
(1) . قوله «ويرضخون النوى» في الصحاح: رضخت الحصى والنوى: كسرته، ورضخت له رضخا، وهو العطاء ليس بالكثير اه. (ع)
(2) . لم أجد،
(3) . أخرجه ابن أبى شببة في الأدب من رواية ميمون بن أبى شبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا إلا أنه قال «ويبغض الفاحش البذيء» وقد روى موصولا، والبزار من طريق محمد بن كثير الملائى عن ليث عن مجاهد عن أبى هريرة به، في حديث أوله «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» وقال: لا نعلمه عن أبى هريرة إلا بهذا الاسناد اه وإسناده ضعيف. وقد رواه الطبراني من حديث ابن مسعود به، وأتم منه وفي إسناده سوار بن مصعب، وهو ضعيف وله طريق أخرى عن أبى هريرة أخرجها إسحاق في مسنده، والطيراني في مسند الشاميين من طريقه قال: أخبرنا كلثوم بن محمد قال حدثنا عطاء بن أبى مسلم الخراساني عن أبى هريرة- فذكره مقتصرا على ما ذكره المصنف بمعناه. وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان وحمزة السهمي في تاريخ جرجان، كلاهما من طريق عيسى بن خالد البلخي عن ورقاء عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة بلفظ «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه، ويكره البؤس والتبؤس ويبغض السائل الملحف، ويحب العفيف المتعفف» .
(4) . قوله «على لا حب» أى طريق واضح. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(5) .
وإنى زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزورا
على لا حب لا يهتدى بماره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
لامرئ القيس. والزعيم الكفيل. والفرانق- بضم الفاء-: رسول يوصل خبر الخوف. والأزور: المائل:
يقول: إن ملكوني عليهم كما كنت فانى متكفل بسفر صعب. واللحب واللاحب: الطريق الواسع، من لحبه إذا وطنه ومر فيه، فأصله ملحوب. والمنار أعلام الطريق. وسافه يسوفه سوفا إذا شمه شما. ومنه المسافة. والعود:
الجمل المسن. ويطلق على الطريق القديم. والسؤدد: القديم. والنباطي: نسبة للنبط، وهم قوم يحلون البطاح بين العرافين يستنبطون منها الماء، كيمانى نسبة لليمن. ويروى: العود الديافي. وداف يدوف إذا خلط، ودياف:
موضع بالجزائر فيه نبط الشام. والديافي نسبة إليه. والجرجرة، صوت يردده البعير في حنجرته، يعنى أنه طريق واسع لا منار فيه يهتدى به، وفيه نوع من البديع يسمونه نفى الشيء بإيجابه، ويفسرونه بأن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفى ما هو من سببه وهو المنفي في الباطن. وفي البيت نفى الاهتداء بالمنار، والمقصود نفى المنار كما ذكره السيوطي في شرح عقود الجمان، إذا شمه الجمل المسن عرف أنه طريق وعر لتجربته الطرق، وجرجر خوفا منه لصعوبته عليه مع تمرنه على السفر، سيما إذا كان من إبل النبط لكثرة رحيلهم. هذا ويحتمل أن السير مجاز عن السياسة كما يشعر به طلب الملك فيكون ما بعده ترشيح للمجاز.

(1/318)


الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274) الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276)

[سورة البقرة (2) : آية 274]
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)
بالليل والنهار سرا وعلانية يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال. وقيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت في على رضى الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية.
وقيل نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276)
الربوا كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها

(1/319)


تشبيها بواو الجمع لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم «1» إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان أى المصروع. وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع.
والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس: الجنون.
ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجنى يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل:
معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. فإن قلت: بم يتعلق قوله من المس؟ قلت: بلا يقومون، أى لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. ويجوز أن يتعلق بيقوم، أى كما يقوم المصروع من جنونه. والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون، إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإيفاض ذلك العقاب بسبب قولهم إنما البيع مثل الربا. فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع «2» ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «يعنى إذا بعثوا من قبورهم ... الخ» قال أحمد: قوله وتخبط الشيطان من زعمات العرب، أى كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك. وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها، لقول أمها: إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» وقوله عليه السلام «التقطوا صبيانكم أول العشاء فانه وقت انتشار الشياطين، أو لقد عوفيت، إنها ساعة مخرجهم وفيها ينتشرون وفيها يكون الخبتة. قال شمر: كان في لسان مكحول لكنة، وانما أراد الخبطة من الشيطان، أى إصابة مس أو جنون. وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث عن شأنه معهم قال: فجاءني طائر كأنه جمل، فتعثرنى، فاحتملني على خافية من خوافيه، إلى غير ذلك مما يطول الكتاب بذكره. واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة، كما أخبر الشرع عنها. وإنما القدرية خصماء العلانية فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم، من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن. وإن اعترفوا بشيء من ذلك، فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
(2) . قال محمود: «إن قلت لم لم يقولوا: إنما الربا مثل البيع ... الخ» قال أحمد: وعندي وجه في الجواب عن السؤال الذي أورده غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوى بينهما طردا، فيقول مثلا: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال فالربا حلال. وله أن يسوى بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس العكس، ومآلهما إلى مقصد واحد، فلا حاجة على هذا التقرير إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه، والله أعلم.

(1/320)


أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت: جيء به على طريق المبالغة، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع. وقوله وأحل الله البيع وحرم الربا إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه فمن جاءه موعظة فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهى عن الربا فانتهى فتبع النهى وامتنع فله ما سلف فلا يؤخذ بما مضى منه، لأنه أخذ قبل نزول التحريم وأمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به ومن عاد إلى الربا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وهذا دليل بين «1» على تخليد الفساق «2» . وذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقى، ولأنها في معنى الوعظ. وقرأ أبى والحسن: فمن جاءته. يمحق الله الربا يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: الربا وإن كثر إلى قل. ويربي الصدقات ما يتصدق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه. وفي الحديث «ما نقصت زكاة من مال قط» «3» كل كفار أثيم تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين.
__________
(1) . قوله «على تخليد الفساق» وهو مذهب المعتزلة ولا يخلدون عند أهل السنة كما بين في محله (ع)
(2) . قال محمود رحمه الله: «في هذه الآية دليل على تخليد الفساق ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهو يبنى على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يساعده على ذلك الظاهر الذي استدل به، فان الذي وقع العود إليه مسكوت عنه في الآية. ألا تراه قال: (ومن عاد) فلم يذكر المعود إليه، فيحمل على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذي سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه، والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك عندنا- أهل السنة والجماعة- أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات بما يتوهمه من الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفرا، وإذا ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل للزمخشري إدا على اعتزاله في هذه الآية، والله الموفق. وإنما هو موكل بتحميل الآيات من المعتقدات الباطلة ما لا تحتمله، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(3) . من رواية العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بلفظ «ما نقصت صدقة من مال ... الحديث» ورواه البزار من هذا الوجه، فزاد فيه «قط» .

(1/321)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277) ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281)

[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281)
أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها.
وروى أنها نزلت في ثقيف وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا.
وقرأ الحسن رضى الله عنه: ما بقي، بقلب الياء ألفا على لغة طيئ: وعنه ما بقي بياء ساكنة. ومنه قول جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضى لكمو ... ماضى العزيمة ما فى حكمه جنف «1»
إن كنتم مؤمنين إن صح إيمانكم، يعنى أن دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك فأذنوا بحرب فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به. وقرئ: فآذنوا، فأعلموا بها غيركم، وهو من الإذن وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن: فأيقنوا، وهو دليل لقراءة العامة. فإن قلت: هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ، لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله. وروى أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدى لنا بحرب الله ورسوله. وإن تبتم من الارتباء فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون المديونين «2» بطلب الزيادة عليها ولا تظلمون بالنقصان منها. فإن قلت: هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم لو لم يتوبوا قلت: قالوا: يكون مالهم فيئا للمسلمين، وروى المفضل عن عاصم: لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار: وقرأ عثمان رضى الله عنه:
__________
(1) . أى هو المعروف بالعدل. أو هو الخليفة الكامل فارضوا ما رضى لكم من الأحكام. وتسكين آخر «رضى» ونحوه: لغة شاذة. ماضى العزيمة: نافذ الحكم، ليس في حكمه جنف: أى ميل عن الحق إلى غيره.
(2) . قوله «المديونين بطلب الزيادة» القياس المدينين، فلعل هذا مسموع شذوذا، وسيعبر به فيما بعد أيضا. (ع)

(1/322)


ذا عسرة على: وإن كان الغريم ذا عسرة. وقرئ: ومن كان ذا عسرة فنظرة أى فالحكم أو فالأمر نظرة وهي الإنظار. وقرئ: فنظرة بسكون الظاء. وقرأ عطاء: فناظره. بمعنى فصاحب الحق ناظره: أى منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب كقولهم: مكان عاشب وباقل، أى ذو عشب وذو بقل. وعنه: فناظره، على الأمر بمعنى فسامحه بالنظرة وياسره بها إلى ميسرة إلى يسار. وقرئ بضم السين، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله:
وأخلفوك عدا الأمر الذى وعدوا «1»
وقوله تعالى: (وأقام الصلاة) . وأن تصدقوا خير لكم ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كقوله تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) وقيل:
أريد بالتصدق الإنظار لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» «2» إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فتعملوا به، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه. وقرئ (تصدقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء ترجعون قرئ على البناء للفاعل والمفعول: وقرئ: يرجعون بالياء على طريقة الالتفات. وقرأ عبد الله: تردون: وقرأ أبى:
تصيرون. وعن ابن عباس أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما. وقيل أحدا وثمانين. وقيل سبعة أيام. وقيل ثلاث ساعات.
__________
(1) .
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا
لأبى أمية الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب. وقيل: لزهير. والخليط: المخالط في العشرة، وهو كالعشير.
يقال للواحد والمتعدد. وأجدوا البين: اجتهدوا في الفراق. وانجردوا. مضوا. وعدا الأمر: أصله عدة الأمر، وأصلها وعد، فعوضت التاء عن الواو، ثم حذفت التاء للاضافة كالتنوين على لغة، واختلف فقيل إنها سماعية.
وقيل إنها قياسية. واشتراطهم للحذف عدم اللبس- فيمتنع في شجرة زيد للبس بشجر زيد- يؤيد كونها قياسية.
وفي المراح: أن حذف تاء التعويض جائز هنا اتفاقا. أما عند سيبويه فلأن التعويض عنده من الأمور الجائزة.
وأما عند الفراء فلأنه لا يوجب التاء إلا عند عدم الاضافة، وهي هنا متحققة فتقوم مقام العوض، وعائد الموصول محذوف، أى الأمر الذي وعدوه إياك.
(2) . رواه ابن ماجة من رواية الأعمش عن أبى داود نفيع عن بريدة رفعه «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة. ومن أنظره بعد حله كان له مثله في كل يوم صدقة» وأبو داود ضعيف وقد اختلف عليه فيه، فرواه عبد الله ابن نمير عن الأعمش هكذا، وخالفه أبو بكر بن عياش فرواه عن الأعمش عن أبى داود عن عمران بن حصين، أخرجه أحمد والطبراني وقد أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي في آخر الشعب كلهم من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة عن ابن بريدة عن أبيه نحوه وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني.

(1/323)


ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282) وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283]
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282) وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)
إذا تداينتم إذا داين بعضكم بعضا. يقال: داينت الرجل عاملته بدين معطيا أو آخذا كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك. قال رؤبة:
داينت أروى والديون تقضى ... فمطلت بعضا وأدت بعضا «1»
__________
(1) . لرؤبة. يقول: عاملت محبوبتى أروى بدين لي عليها من لوازم المودة، فمطلت: أى أخرت بعضا منه وأطالت مدة تأخيره، وقضت بعضا منه- وقوله «والديون تقضى» جملة حالية أو اعتراضية مبينة لظلمها في المطل وأصل المطل: المط والمد.

(1/324)


والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى «1» وأى حاجة إلى ذكر الدين كما قال: داينت أروى، ولم يقل: بدين؟ قلت: ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله فاكتبوه إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن. ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال. فإن قلت: ما فائدة قوله مسمى. قلت:
ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع الحاج، لم يجز لعدم التسمية. وإنما أمر بكتبة الدين، لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلف. وعنه: أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية «2» . بالعدل متعلق بكاتب صفة له، أى كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص. وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع. وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا ولا يأب كاتب ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى تنكير كاتب أن يكتب كما علمه الله مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك) أى ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها. وعن الشعبي: هي فرض كفاية، وكما علمه الله: يجوز أن يتعلق بأن يكتب، وبقوله فليكتب. فإن قلت: أى فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له فليكتب يعنى فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد، وإن علقته بقوله فليكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة وليملل الذي عليه الحق ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به. والإملاء والإملال لغتان قد نطق بهما القرآن (فهي تملى عليه) . ولا يبخس منه من الحق شيئا والبخس: النقص. وقرئ شيا، بطرح الهمزة: وشيا، بالتشديد سفيها محجورا عليه لتبذيره
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل إذا تداينتم ... الخ» ؟ قال أحمد: الأجل المسمى هو المعلوم انتهاؤه، ولعلم الانتهاء طرق منها التحديد بنفس الزمان كالسنة والشهر. ومنها التحديد بما يعتاد وقوعه في زمن مخصوص مضبوط بالعرف. كالحصاد، ومقدم الحاج. وكيفما علم الأجل صح ضربه، فمن ثم أجاز ملك البيع إلى الحصاد لأنه معلوم عندهم، ثم المعتبر زمان وقوع هذه المسميات لا نفس وقوعها حتى لو حل زمن قدوم الحاج فمنعه مانع من القدوم مثلا لم يكن به عبرة وحكمنا بحلول أجل الدين، والله أعلم.
(2) . أخرجه الحاكم من رواية أبى حيان الأعرج عن الأعمش عن ابن عباس، قال «أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله في الكتاب وأذن فيه» وقرأ هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) .

(1/325)


وجهله بالتصرف أو ضعيفا صبيا أو شيخا مختلا أو لا يستطيع أن يمل هو أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعى به أو خرس فليملل وليه الذي يلي أمره من وصى إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى أن يمل هو فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه واستشهدوا شهيدين واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين من رجالكم من رجال المؤمنين. والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء. وعن على رضى الله عنه: لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتى أنها جائزة، ويجوز عند أبى حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل فإن لم يكونا فإن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان فليشهد رجل وامرأتان، وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبى حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص ممن ترضون ممن تعرفون عدالتهم أن تضل إحداهما أن لا تهتدى إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد له. وانتصابه على أنه مفعول له أى إرادة أن تضل. فإن قلت: كيف يكون ضلالها مرادا لله تعالى؟ قلت لما كان الضلال سببا للإذكار، والإذكار مسببا عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت.
ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه.
وقرئ (فتذكر بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. وفتذاكر. وقرأ حمزة: إن تضل إحداهما، على الشرط. فتذكر: بالرفع والتشديد، كقوله: (ومن عاد فينتقم الله منه) وقرئ أن تضل إحداهما على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير: فتذكر، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر إذا ما دعوا ليقيموا الشهادة. وقيل: ليستشهدوا. وقيل لهم شهداء قبل التحمل، تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة: كان الرجل يطوف الحواء «1» العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. كنى بالسأم عن الكسل، لأن الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث: لا يقول المؤمن كسلت» «2» ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتابا، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في تكتبوه للدين أو الحق صغيرا أو كبيرا على أى حال كان الحق من صغر أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن يكتبوه مختصرا أو مشبعا لا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفق
__________
(1) . قوله «يطوف في الحواء» في الصحاح: الحواء جماعة بيوت من الناس مجتمعة. (ع) [.....]
(2) . يأتى في براءة

(1/326)


الغريمان على تسميته ذلكم إشارة إلى أن تكتبوه، لأنه في معنى المصدر، أى ذلكم الكتب أقسط أعدل من القسط وأقوم للشهادة وأعون على إقامة الشهادة وأدنى ألا ترتابوا وأقرب من انتفاء الريب. فإن قلت: مم بنى أفعلا التفضيل، أعنى: أقسط، وأقوم؟ قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذى قسط، وأقوم من قويم. وقرئ: ولا يسأموا أن يكتبوه بالياء فيهما. فإن قلت:
ما معنى تجارة حاضرة وسواء أكانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت. أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد.
والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ: تجارة حاضرة بالرفع على كان التامة. وقيل: هي الناقصة على أن الاسم «تجارة حاضرة» والخبر «تديرونها» وبالنصب على: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب:
بنى أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا «1»
أى إذا كان اليوم يوما وأشهدوا إذا تبايعتم أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا، ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعنى التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل «2» ولا يضار يحتمل البناء للفاعل والمفعول. والدليل عليه قراءة عمر رضى الله عنه: ولا يضارر، بالإظهار والكسر. وقراءة ابن عباس رضى الله عنه: ولا يضارر، بالإظهار والفتح. والمعنى نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما. وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد «3» .
وقرأ الحسن: ولا يضار، بالكسر وإن تفعلوا وإن تضاروا فإنه فإن الضرار فسوق بكم
__________
(1) . من أبيات الكتاب. والمراد من هذا الاستفهام الوعيد والتهديد وتذكير ما سبق أو التقرير، أو هل بمعنى قد. والبلاء: الحرب وكل مكروه. أى يا بنى أسد، هل تعلمون حربنا إذا كان اليوم يوما صاحب كواكب، فاسم كان محذوف. ويجوز أن اسم كان ضمير البلاء، ويوما ظرف متعلق بالخبر المحذوف. وكنى بذي الكواكب عن المظلم، لأن الكواكب المتعددة لا تظهر إلا ليلا، فالمعنى: إذا كان اليوم يشبه الليل في الظلمة من اشتداد الحرب وإثارة الغبار فيحجب الشمس، فكأن النجوم ترى فيه. وأقرب من ذلك أنه استعار الكواكب لأطراف الرماح، وسيوف للمعانها وانتشارها ذلك اليوم كالنجوم على طريق التصريحية، والأشنع: القبيح.
(2) . قوله «على باقة بقل» حزمة منه. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «مؤنة مجيئه من بلد» لعله من بلد بعيد. (ع)

(1/327)


وقيل: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه على سفر مسافرين. وقرأ ابن عباس وأبى رضى الله عنهما كتابا. وقال ابن عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة. وقرأ أبو العالية: كتبا. وقرأ الحسن: كتابا، جمع كاتب (فرهن) فالذي يستوثق به رهن. وقرئ فرهن بضم الهاء وسكونها، وهو جمع رهن، كسقف وسقف. وفرهان. فإن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر «1» وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر «2» . قلت: ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في حال السفر أخذا بظاهر الآية. وأما القبض فلا بد من اعتباره «3» . وعند مالك يصح الارتهان
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر ... الخ» قال أحمد رحمه الله: فالتخصيص بالسفر على هذا جرى على وفق الغالب فلا مفهوم له. وفي هذه الآية دليل بين لمذهب مالك رضى الله عنه في إقامة الرهن عند التنازع في قدر الدين مقام شاهد للمرتهن إلى تمام قيمته، حتى لو تنازعا فقال الراهن:
رهنتكه بمائة، وقال المرتهن: بل الرهن بمائتين، لكان الرهن شاهدا بقيمته. خلافا للشافعي رضى الله عنه فانه يرى القول قول الراهن مطلقا، لأنه غارم، ووجه الدليل لمالك رضى الله عنه من الآية: أن الله تعالى جعل الرهن في التوثق عوضا من الاشهاد والكتابة، وخصه بالسفر لإعوازهما حينئذ، ولو كان القول قول الراهن شرعا لم يكن قائما مقام الاشهاد ولا مفيدا فائدته بوجه، إذ لو لم يكن الرهن لكان القول قول المديان في قدر الدين فلم يزد وجود الرهن فائدة على عدمه باعتبار نيابته عن الاشهاد، ولا يقال: إن فائدته الامتياز به على الغرماء، لأن تلك فائدة الاشهاد حتى يكون نائبا عنه عند تعذره، ولا فائدة إذ ذاك إلا جعل القول قول المرتهن في قدر الدين عند التخالف وهو مذهب مالك المقدم ذكره. ومن ثم لم يجعله شاهدا إلا في قيمته لا فيما زاد عليها، معتضدا بالعادة في أن رب الدين لا يقبل في دينه إلا الموفى بقيمته. فدعوه أن الدين أكثر من القيمة مردودة بالعادة، والمديان أيضا لا يسمح بتسليم ما قيمته أكثر فيما هو أقل، فدعواه أن الدين أقل من القيمة مردودة بالعادة، ولا يبقى إلا النظر في أمر واحد، وهو أن المعتبر عند مالك في القيمة يوم الحكم، حتى لو تصادقا على أن القيمة كانت يوم الرهن أكثر أو أقل لم يلتفت إلى ذلك زادت أو نقصت، وإنما يعتبر يوم القضاء. ولقائل أن يقول: إذا جعلتم الرهن مقام الشاهد عند عدمه لأن العادة تقتضي أن الناس إنما يرهنون في الديون المساوى قيمته لها، فينبغي أن تعتبروا القيمة يوم الرهن غير معرجين على زيادتها ونقصانها يوم القضاء، وعند ذلك يتجاذب أطراف الكلام في أن المقتضى لاقامته مقام الشاهد هو المعنى المتقدم أو غيره. وليس غرضنا إلا أن الآية ترشد إلى إقامته مقام الشهادة في الجملة. وأما تفاصيل المسألة فذلك من حظ الفقه.
(2) . منفق عليه من رواية الأسود بن يزيد عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودى طعاما إلى أجل ورهنه درعا من حديد» وللبخاري من رواية قتادة عن أنس. قال «ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا له بالمدينة عند يهودى، وأخذ منه شعيرا لأهله» اه.
(3) . قال محمود: «وأما القبض فلا بد من اعتباره ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ليس بين مالك والشافعي خلاف في صحة الارتهان بالإيجاب والقبول دون القبض، ولكنه عند مالك رضى الله عنه يصح بذلك، ويلزم الراهن بالعقد تسليمه للمرتهن. وعند الشافعي لا يلزم بالعقد ولكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام، ولا يشترط الشافعي كثيرا من أحكامه عند مالك، وذلك أنهما لو تقاررا على القبض ثم قام الغرماء انتفع بالرهن عند الشافعي وامتاز به، ولم ينتفع به عند مالك وكان أسوة الغرماء فيه، حتى ينضاف إلى الشهادة عليهما بالقبض معاينة البينة لذلك، لأنه يتهمهما بالتواطؤ على إسقاط حق الغرماء فلا يعتبر إقرارهما إلا بانضمام المعاينة، فالقبض من هذا الوجه أدخل في الاعتبار على رأى مالك منه على رأى الشافعي، هذا في الابتداء. وأما في الدوام فمالك رضى الله عنه يشترط بقاءه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أجره منه أو أعاره إياه إعارة مطلقة فقد خرج من الرهن، ولو قام الغرماء وهو بيد الراهن بوجه من الوجوه المذكورة كان أسوة الغرماء فيه، والشافعي رضى الله عنه لا يشترط دوام القبض على هذا الوجه، بل للراهن عند الشافعي أن ينتفع بالرهن ولو كره المرتهن إذا لم يكن الانتفاع مضرا بالرهن، كسكنى الدار، واستخدام العبد. وله أن يستوفى منافعه بنفسه على الصحيح عنده المنصوص عليه في الأم ولا يؤثر ذلك في الرهن بطلانا ولا خللا، فقد علمت أن القبض أدخل في الاعتبار على مذهب مالك ابتداء ودواما، والآية تعضده فان الرهن في اللغة هو الدوام. أنشد أبو على:
فالخبز واللحم لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب
ولعل القائل باشتراط دوام الرهن في يد المرتهن تمسك بما في لفظ الرهن من اقتضاء الدوام، وله في ذلك متمسك.
وما طولت في حكاية مذهب مالك في القبض، إلا لأن المفهوم من كلام الزمخشري إطراح القبض عند مالك لأنه فهم من قول أصحابه أن القبض لا يشترط في صحة الرهن، ولا في لزومه أنه غير معتبر عنده بالكلية، والله أعلم،

(1/328)


بالإيجاب والقبول بدون القبض فإن أمن بعضكم بعضا فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين «1» لحسن ظنه به. وقرأ أبى: فإن أومن، أى آمنه الناس «2» ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله فليؤد الذي اؤتمن أمانته حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدى إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه.
وسمى الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء، فتقول: الذي اؤتمن، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ: الذي اتمن، بإدغام الياء في التاء، قياسا على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح، لأن الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عامى، وكذلك ريا في رؤيا آثم خبر إن. وقلبه رفع بآثم على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدم، والجملة خبر إن. فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فإنه آثم) ؟ وما فائدة ذكر القلب- والجملة هي الآثمة لا القلب وحده-؟ قلت: كتمان الشهادة: هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عينى، ومما سمعته أذنى، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء
__________
(1) . قوله «المديونين لحسن ظنه به» لعله مسموع شاذ، والقياس المدينين، وكذا المديون قياسه المدين. (ع)
(2) . قوله «أى آمنه الناس» الظاهر أنه من الافعال بالكسر، لا من المفاعلة، أى جعل الناس البعض وهو الدائن بحيث يأمن البعض الآخر وهو المدين، وذلك بأن وصفوا له المدين بالأمانة الخ، فصار الدائن بحيث يأمن المدين. (ع)

(1/329)


لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (284)

والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: (فقد حرم الله عليه الجنة) وشهادة الزور، وكتمان الشهادة. وقرئ: قلبه، بالنصب، كقوله: (سفه نفسه) وقرأ ابن أبى عبلة: أثم قلبه، أى جعله آثما «1»

[سورة البقرة (2) : آية 284]
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (284)
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يعنى من السوء يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره ويعذب من يشاء ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أنه تلاها فقال: لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن «2» ، ثم بكى حتى سمع نشيجه «3» فذكر لابن عباس فقال:
يغفر الله لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل (لا يكلف الله) وقرئ: فيغفر ويعذب، مجزومين عطفا على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت:
كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله:
__________
(1) . قوله «أثم قلبه أى جعله آثما» يحتمل أنه بمد الهمزة من الافعال، وأنه بتشديد التاء من التفعيل، فليحرر. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق الزهري عن سعيد بن مرجانة عن ابن عمر به. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عمر
(3) . قوله «حتى سمع نشيجه» في الصحاح: نشج الباكي نشجا ونشيجا، إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. (ع)

(1/330)


آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)

متى تأتنا تلمم بنا فى ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا «1»
ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأن التفصيل أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيدا رأسه، وأحب زيدا عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.

[سورة البقرة (2) : آية 285]
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)
والمؤمنون إن عطف على الرسول كان الضمير- الذي التنوين نائب عنه في كل- راجعا إلى الرسول والمؤمنين، أى كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين «2» . ووقف عليه. وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين. ووحد ضمير كل في آمن على معنى: كل واحد منهم آمن، وكان يجوز أن يجمع، كقوله: (وكل أتوه داخرين) . وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن أو الجنس «3» وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت:
كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس- والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها- لم يخرج منه شيء. فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع لا نفرق يقولون لا نفرق. وعن أبى عمرو: يفرق بالياء، على أن الفعل لكل. وقرأ عبد الله:
لا يفرقون. وأحد في معنى الجمع، كقوله تعالى: (فما منكم من أحد عنه حاجزين) ولذلك دخل عليه بين. سمعنا أجبنا غفرانك منصوب بإضمار فعله. يقال: غفرانك لا كفرانك، أى نستغفرك ولا نكفرك. وقرئ (وكتبه ورسله) بالسكون.
__________
(1) . «تلمم» بدل مما قبله، أى متى تنزل عندنا تجدنا موقدين النار بحطب غليظ، وهذا كناية عن كرمهم.
وتأججا: مسند لضمير الحطب والنار، أى اشتعلا، واستدل بهما. وإسناده للنار حقيقى، وللحطب من باب الاسناد للسبب، فهو مجاز عقلى وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز في الاسناد.
(2) . قوله «ورسله من المذكورين» لعل قبله سقطا تقديره: أى كل من المذكورين. (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكتابه ... الخ» قال أحمد: وقد قال مالك: إن التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور، فان التمر استرسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع وفي صيغة الجمع مضطرب. وهذا الكلام من الامام لو ظفر له بقول ابن عباس هذا لأشهر الفرضية في الاستشهاد به على صحة مقالته هذه فلا نعيده.

(1/331)


لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)

[سورة البقرة (2) : آية 286]
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)
الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بالفتح لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أى لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ «1» قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال. ألا ترى إلى قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سببا للتفريط الذي منه النسيان، ولأنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت النسيان والخطأ متجاوز عنهما ... الخ» قال أحمد: ولا ورود لهذا السؤال على قواعد أهل السنة، لأنا نقول: إنما ارتفعت المؤاخذة بهذين بالسمع كقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» وإذا كان كذلك فلعل رفع المؤاخذة بهما كان إجابة لهذه الدعوة، فقد نقل أن الله تعالى قال عند كل دعوة منها: قد فعلت. وإنما التزم الزمخشري ورود السؤال على قواعد القدرية الذاهبين إلى استحالة المؤاخذة بالخطإ والنسيان عقلا، لأنه من تكليف ما لا يطيق، وهو المستحيل عندهم تفريعا على قاعدة التحسين والتقبيح، وكلها قواعد باطلة ومذاهب ماحلة. فالله تعالى يجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ويلهمنا المعتقد الحق والقول المصيب، إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1/332)


علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه. والإصر: العبء الذي يأصر حامله أى يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاق، من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك. وقرئ: آصارا على الجمع. وفي قراءة أبى: ولا تحمل علينا بالتشديد. فإن قلت: أى فرق بين هذه التشديدة والتي في: ولا تحملنا؟
قلت: هذه للمبالغة في حمل عليه، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكليف. وهذا تكرير لقوله: ولا تحمل علينا إصرا. مولانا سيدنا ونحن عبيدك. أو ناصرنا. أو متولى أمورنا فانصرنا فمن حق المولى أن ينصر عبيده.
أو فإن ذلك عادتك. أو فإن ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات، قيل له عند كل كلمة: قد فعلت» «1» وعنه عليه السلام «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «2» وعنه عليه السلام «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبى قبلي» «3» وعنه عليه السلام «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» «4»
__________
(1) . أخرجه مسلم من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية (إن تبدوا ما في أنفسكم- الآية) قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم. فقال: قولوا: سمعنا وأطعنا- الحديث، وفيه: قد فعلت.
في مواضع، وغفل الحاكم فاستدركه.
(2) . متفق عليه من حديث ابن مسعود. واختلف في معناه. فقيل: كفناه، أجزأتاه عن قيام الليل كما في الذي قبله، وقيل: كفتاه أجرا وفضلا، وقيل: كفتاه من كل شيطان أو من كل آفة.
(3) . هذا طرف من حديث، أوله عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث:
جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي، ولا يعطي منه أحد بعدي: أخرجه النسائي وأحمد والبزار وابن أبى شيبة وابن خزيمة وابن حبان من رواية أبى مالك الأشجعى عن ربعي بن خراش عن حذيفة، وقد أخرجه مسلم، لكن قال في الثالثة وذكر خصلة أخرى: فأبهمها، وذكرها أصحاب المستخرجات وغيرهم من طريق شيخه بإسناده فيه، وغفل الحاكم فذكر في فضائل القرآن في المستدرك: ان مسلما أخرج هذه الجملة، ولعل مسلما إنما أبهمها للاختلاف على ربعي فيها، فقد رواه أحمد وإسحاق من رواية جرير عن منصور عن ربعي عن خراش عن زيد بن ظبيان عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لكن تابع أبا مالك نعيم بن أبى هند، أخرجه الطبراني في الأوسط في المحمدين منه من طريقه.
(4) . أخرجه ابن عدى من حديث ابن مسعود، وفي إسناده الوليد بن عباد وهو مجهول عن أبان بن أبى عياش. وهو متروك.

(1/333)


فإن قلت: هل يجوز أن يقال: قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة. قلت: لا بأس بذلك.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «من آخر سورة البقرة» و «خواتيم سورة البقرة» و «خواتيم البقرة «1» .
وعن على رضى الله عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» .
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من هاهنا- والذي لا إله غيره- رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» «2» .
ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة. وإذا قيل:
قرأت البقرة، لم يشكل أن المراد سورة البقرة كقوله: (وسئل القرية) . وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال: يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة» «3»
__________
(1) . تقدما جميعا قريبا، ولمسلم من حديث مرة بن شراحيل الطبيب عن ابن مسعود: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة- الحديث. وله عن ابن عباس: بينما جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل ملك- الحديث وفيه: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
(2) . متفق عليه من رواية الأعمش: سمعت الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران. والسورة التي يذكر فيها النساء. قال: فذكرته لإبراهيم فقال: حدثني عبد الرحمن ابن يزيد أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة العقبة ... الحديث.
(3) . ذكر أبو شجاع الديلمي في الفردوس. من حديث أبى سعيد الخدري: والمسألة في صحيح مسلم من حديث أبى أمامة مرفوعا: اقرأوا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. قال معاوية أحد رواته:
المعنى أن البطلة السحرة. وفي الباب عن بريدة عند الثعلبي والبغوي.
(تنبيه) المصنف ذكر حديث أبى سعيد مستدلا به ان قال: السورة التي يذكر فيها كذا. ولما قبله على الجواز.
فانه من المرفوع ما رواه الطبراني في الأوسط في المحمدين وابن مردويه في تفسيره من حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رفعه: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران» وكذا القرآن كله، وفي إسناد عيسى بن ميمون أبو سلمة الخواص، وهو ساقط.

(1/334)


الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)

سورة آل عمران
مدنية وهي مائتا آية بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)
(م) حقها أن يوقف عليها كما وقف على ألف ولام، وأن يبدأ ما بعدها كما تقول: واحد اثنان:
وهي قراءة عاصم. وأما فتحها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف. فإن قلت:
كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟ قلت: هذا ليس بدرج، لأن (م) في حكم الوقف والسكون والهمزة في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفا وألقيت حركتها على الساكن قبلها ليدل عليها. ونظيره قولهم:
واحد اثنان، بإلقاء حركة الهمزة على الدال. فإن قلت: هلا زعمت أنها حركة لالتقاء الساكنين؟
قلت: لأن التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبراهيم وداود وإسحاق.
ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم، لالتقاء الساكنين. ولما انتظر ساكن آخر. فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم، لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء اسكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا.
قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن أنه كان يمكنهم أن يقولوا: واحد اثنان، بسكون الدال مع طرح الهمزة، فيجمعوا بين ساكنين، كما قالوا: أصيم، ومديق. فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين. فإن قلت:
فما وجه قراءة عمرو بن عبيد بالكسر؟ قلت: هذه القراءة على توهم التحريك لالتقاء الساكنين وما هي بمقولة. والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان. وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما بتفعلة وأفعيل، إنما يصح بعد كونهما عربيين. وقرأ الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة،

(1/335)


إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6)

وهو دليل على العجمة، لأن أفعيل- بفتح الهمزة- عديم في أوزان العرب. فإن قلت: لم قيل (نزل عليك الكتاب) «1» (وأنزل التوراة والإنجيل) ؟ قلت: لأن القرآن نزل منجما، ونزل الكتابان جملة. وقرأ الأعمش: نزل عليك الكتاب بالتخفيف ورفع الكتاب هدى للناس أى لقوم موسى وعيسى. وقال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا فسره على العموم. فإن قلت: ما المراد بالفرقان؟
قلت: جنس الكتب السماوية «2» ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل، أو الكتب التي ذكرها، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة: وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من كتبه، أو من هذه الكتب، أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور، كما قال: (وآتينا داود زبورا) وهو ظاهر.
أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس، تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله بآيات الله من كتبه المنزلة وغيرها ذو انتقام له انتقام شديد «3» لا يقدر على مثله منتقم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6]
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6)
لا يخفى عليه شيء في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض، فهو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه كيف يشاء من الصور المختلفة المتفاوتة. وقرأ طاوس: تصوركم،
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم قيل في القرآن نزل ... الخ» قال أحمد: يريد لأن «فعل» صيغة مبالغة وتكثير، فلما كان نزول القرآن منجما كان أكثر تنزيلا من غيره لتفرقه في مرار عديدة، فعبر عنه بصيغة مطابقة لكثرة تنزيلاته، وعبر عن الكتابين بصيغة خلية عن المبالغة والتكثير والله أعلم.
(2) . (عاد كلامه) قال: والفرقان يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، أو الكتب التي ذكرها أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور. كما أفرده وأخر ذكره في قوله: (وآتينا داود زبورا) أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل، بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله والله أعلم. قال أحمد: وقد جعل الزمخشري سر التعبير عن نزول القرآن بصيغة «فعل» تفريقه في التنزيل كما تقدم آنفا، ثم حمل الفرقان على أحد تأويلاته على القرآن والتعبير عنه بأفعل كغيره، فان يكن هذا- والله أعلم- فالوجه أنه لما عبر أولا عن نزوله الخاص به، أتى بعبارة مطابقة لقصد الخصوصية، فلما جرى ذكره ثانيا لينعت بصفة زائدة على اسم الجنس» عبر عن نزوله من حيث الإطلاق اكتفاء بتميزه أولا وإجمالا لذلك في غير مقصوده، ومن العبارة السائرة عن هذا المعنى: الكلام يجمل في غير مقصوده، ويفصل في مقصوده.
(3) . قال محمود: «معناه له انتقام شديد ... الخ» . قال أحمد: وإنما يلقى هذا التفخيم من التنكير وهو من علاماته مثله في قوله: (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) .

(1/336)


هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)

أى صوركم لنفسه ولتعبده، كقولك: أثلت مالا، إذا جعلته أثلة، أى أصلا. وتأثلته، إذا أثلته لنفسك. وعن سعيد بن جبير: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا، كأنه نبه بكونه مصورا في الرحم، على أنه عبد كغيره، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله.

[سورة آل عمران (3) : آية 7]
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7)
محكمات أحكمت عبارتها «1» بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه متشابهات مشتبهات
__________
(1) . قال محمود: «المحكمات التي أحكمت عبارتها ... الخ» قال أحمد: هذا كما قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآي على وفق ما يعتقده، وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعا للرأى. وذلك أن معتقده إحالة رؤية الله تعالى بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع الدال على وقوع الرؤية كقوله: (إلى ربها ناظرة) مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التي يدعون أن ظاهرها يوافق رأيهم.
والآية قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) وغرضنا الآن بيان وجوب الجمع بين الآيتين على الوجه الحق، فنقول:
محمل قوله: (لا تدركه الأبصار) في دار الدنيا. ومحمل الرؤية على الدار الآخرة جمعا بين الأدلة. أو نقول:
الأبصار وإن كانت ظاهرة العموم إلا أن المراد بها الخصوص، أى لا تدركه أبصار الكفار كقوله: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ونقول: لا تعارض بين الآيتين، فنقر كل واحدة منها في نصابها. وبيان ذلك: أن الأبصار عام بالألف واللام الجنسيتين، ولا يتم غرض القدرية على زعمهم إلا بالموافقة على عمومها، وحينئذ يكون في العموم مرادفة لدخول كل، لأن كليهما أعنى المعرف والجنسي، وكلا يفيد الشمول والاحاطة، وإذا أثبت ذلك فالسلب داخل على الكلية. والقواعد مستقرة على أن سلب الكلية جزئى لغة وتعقلا. ألا ترى أن القائل إذا قال:
لا تنفق كل الدراهم، كان المفهوم من ذلك الاذن في إنفاق البعض والنهى عن إنفاق البعض، ومن حيث المعقول أن الكلية تسلب بسلب بعض الأفراد ولو واحدا، وحينئذ يكون مقتضى الآية سلب الرؤية عن بعض الأبصار وثبوتها لبعض الأبصار، وهذا عين مذهب أهل السنة، لأنهم يثبتونها للموحدين ويسلبونها عن الكفار كما أنبأ عنه قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فقد ثبت أن هذه الآية إما محمولة على إثبات الرؤية، وإما باقية على ظاهرها، دليلا على ثبوتها على وفق السنة. ولا يقال قد ثبت الفرق بين دخول كل على المعرف تعريف الجنس وبين عدم دخولها. ألا ترى أنهم يقولون إن قولنا: «الإنسان كاتب» مهمل في قوة الجزئية، وإن قولنا «كل إنسان حيوان» كلى لا جزئى، لأنا نقول إنما جارينا القدرية على ما يلزمهم الموافقة فيه، وهم قد وافقوا على تناول الأبصار لكل واحد واحد من أفراد الجنس، ولولا ذلك لما تم لهم مرام، ولكفونا مؤنة البحث في ذلك، وهذا القدر من الكلية المتفق عليها بين الفريقين لا يثبت لما سماه أهل ذلك الفن مهملا، بل هذا هو الكلى عندهم والله الموفق. وأما الآيتان الأخريان اللتان إحداهما قوله تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) والأخرى التي هي قوله تعالى: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)
فلا ينازع الزمخشري في تمثيل المحكم والمتشابه بهما.

(1/337)


محتملات هن أم الكتاب أى أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها، ومثال ذلك (لا تدركه الأبصار) ، (إلى ربها ناظرة) ، (لا يأمر بالفحشاء) . (أمرنا مترفيها)
. فإن قلت:
فهلا كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة في إيقانه الذين في قلوبهم زيغ هم أهل البدع فيتبعون ما تشابه منه فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ابتغاء الفتنة طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم وابتغاء تأويله وطلب أن يأولوه التأويل الذي يشتهونه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أى لا يهتدى إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله «1» وعباده الذين رسخوا في العلم، أى ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع. ومنهم من يقف على قوله إلا الله، ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون.
ويفسرون المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته، كعدد الزبانية ونحوه:
والأول هو الوجه. ويقولون: كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أى بالمتشابه كل من عند ربنا أى كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه وما يذكر إلا أولوا الألباب مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل. ويجوز أن يكون
__________
(1) . قال محمود: معناه لا يهتدى إلى تأويله ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقوله «لا يهتدى إليه إلا الله» عبارة قلقة، ولم يرد إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى، مع أن في هذه اللفظة إيهاما إذ الاهتداء لا يكون في الإطلاق إلا عن جبل وضلال- جل الله وعز- حتى إن الكافر إذا أسلم أطلق أهل العرف عليه: فلان المهتدى، ذلك مقتضى اللغة فيه فانه مطاوع هدى. يقال: هديته فاهتدى، والإجماع منعقد على أن ما لم يرد إطلاقه وكان موهما لا يجوز إطلاقه على الله عز وجل. ولذا أنكر على القاضي إطلاقه المعرفة على علم الله تعالى حيث حد مطلق العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو عليه. فلأن ينكر على الزمخشري إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى أجدر. وما أراها صدرت منه إلا وهما حيث أضاف العلم إلى الله تعالى وإلى الراسخين في العلم، فأطلق الاهتداء على الراسخين، أو عقل عن كونه ذكرهم مضائين إلى الله تعالى في الفعل المذكور والله أعلم. [.....]

(1/338)


ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12)

(يقولون) حالا من الراسخين. وقرأ عبد الله: إن تأويله إلا عند الله. وقرأ أبى: ويقول الراسخون.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 9]
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9)
لا تزغ قلوبنا لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا «1» بعد إذ هديتنا وأرشدتنا لدينك. أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا من لدنك رحمة من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة. وقرئ لا تزغ قلوبنا، بالتاء والياء ورفع القلوب جامع الناس ليوم أى تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم، كقوله تعالى: (يوم يجمعكم ليوم الجمع) : وقرئ: جامع الناس، على الأصل (إن الله لا يخلف الميعاد) معناه أن الإلهية تنافى خلف الميعاد كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله والميعاد: الموعد. قرأ على رضى الله عنه. لن تغنى بسكون الياء، وهذا من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 12]
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11) قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12)
(من) في قوله من الله مثله في قوله: (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) والمعنى: لن تغنى عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله شيئا أى بدل رحمته وطاعته وبدل الحق: ومنه «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أى لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلك، أى بدل طاعتك وعبادتك وما عندك
__________
(1) . قال محمود: «معناه ربنا لا تبلنا ببلايا ... الخ» قال أحمد: أما أهل السنة فيدعون الله بهذه الدعوة غير محرفة، لأنهم يوحدون حق التوحيد، فيعتقدون أن كل حادث من هدى وزيغ مخلوق لله تعالى. وأما القدرية فعندهم أن الزيغ لا يخلقه الله تعالى وإنما يخلقه العبد لنفسه، فلا يدعون الله تعالى بهذه الدعوة إلا محرفة إلى غير المراد بها كما أولها المصنف به، وإن كنا ندعو الله تعالى مضافا إلى هذه الدعوة بأن لا يبتلينا ولا يمنعنا لطفه آمين، لأن الكل فعله وخلقه، ولا موجود إلا هو وأفعاله، التي نحن وأفعالنا منها.

(1/339)


قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13)

وفي معناه قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) وقرئ: وقود، بالضم بمعنى أهل وقودها. والمراد بالذين كفروا من كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: هم قريظة والنضير. الدأب: مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله، والكاف مرفوع المحل تقديره: دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم. ويجوز أن ينتصب محل الكاف بلن تغنى، أو بالوقود. أى لن تغنى عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم، تقول: إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم، وإن فلانا لمحارف كدأب «1» أبيه، تريد كما حورف أبوه كذبوا بآياتنا تفسير لدأبهم ما فعلوا وفعل بهم، على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم قل للذين كفروا هم مشركو مكة ستغلبون يعنى يوم بدر. وقيل: هم اليهود. ولما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قالوا: هذا والله النبى الأمى الذي بشرنا به موسى، وهموا باتباعه.
فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكوا. وقيل: جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بنى قينقاع فقال يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش «2» وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنى نبى مرسل، فقالوا لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت وقرئ: سيغلبون ويحشرون، بالياء، كقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم) على قل لهم قولي لك سيغلبون. فإن قلت: أى فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت: معنى القراءة بالتاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجرى عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم. فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ: ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.

[سورة آل عمران (3) : آية 13]
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13)
__________
(1) . قوله «وإن فلانا لمحارف كدأب أبيه» في الصحاح: رجل محارف- بفتح الراء- أى محدود محروم، وهو خلاف قولك: مبارك. (ع)
(2) . أخرجه أبو داود والطبري، من رواية ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس قال «لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود- الحديث»

(1/340)


قد كان لكم آية الخطاب لمشركي قريش في فئتين التقتا يوم بدر يرونهم مثليهم يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين «1» قريبا من ألفين. أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع: ترونهم، بالتاء أى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال (ويقللكم في أعينهم) . قلت: قللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) وقوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤلون) وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين «2» على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى: (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) ولذلك وصف ضعفهم «3» بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم. وقراءة نافع لا تساعد عليه. وقرأ ابن مصرف: يرونهم، على البناء للمفعول بالياء والتاء، أى يريهم الله ذلك بقدرته. وقرئ: فئة تقاتل وأخرى كافرة، بالجر على البدل من فئتين، وبالنصب على الاختصاص. أو على الحال من الضمير في التقتا رأي العين يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات والله يؤيد بنصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.
__________
(1) . قال محمود: «معناه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ... الخ» قال أحمد: وكذلك آيات الشفاعة المقدمة على رأى أهل السنة.
(2) . (عاد كلامه) قال: «وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين ... الخ» قال أحمد: إنما قال ذلك لأن الخطاب على قراءة نافع يكون للمسلمين، أى ترونهم يا مسلمون، ويكون ضمير المثلين أيضا للمسلمين. وقد جاء على لفظ الغيبة فيلزم الخروج في جملة واحدة من الحضور إلى الغيبة والالتفات وإن كان سائغا فصيحا، إلا أنه إنما يأتى في الأغلب في جملتين. وقد جاء هاهنا الكلام جملة واحدة، لأن مثليهم مفعول ثان للرؤية، ولو قال القائل:
ظننتك يقوم، على لفظ الغيبة بعد الخطاب، لم يكن بذاك، فهذا هو الوجه الذي أعد الزمخشري به بين قراءة نافع وبين هذا التأويل، إلا أنه يلزم مثله على أحد وجهيه المتقدمين آنفا، لأنه قال: معناه على قراءة نافع: ترون يا مشركون المسلمين مثلي عددهم أو مثلي فئتكم الكافرة، فعلى هذا الوجه الثاني يلزم الخروج من الخطاب إلى الغيبة في الجملة بعينها، كما ألزمه هو على ذلك الوجه والله أعلم.
(3) . قوله «ولذلك وصف ضعفهم» لعل هذا في قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) أى وصف ضعف المسلمين وهو الستمائة بالقلة، مع أن ضعف الشيء أكثر منه، فتدبر. (ع)

(1/341)


زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)

[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)
زين للناس المزين هو الله سبحانه وتعالى «1» للابتلاء، كقوله: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) ويدل عليه قراءة مجاهد: زين للناس، على تسمية الفاعل. وعن الحسن: الشيطان.
والله زينها لهم، لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها حب الشهوات جعل الأعيان التي ذكرها شهوات «2» مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها. والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالهيمية، وقال: (زين للناس حب الشهوات) ثم جاء بالتفسير، ليقرر أولا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله. والقنطار: المال الكثير. قيل: ملء مسك ثور. وعن سعيد بن جبير: مائة ألف دينار. ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا.
__________
(1) . قال محمود: «المزين هو الله تعالى ... الخ» قال أحمد: التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إلى الله تعالى حقيقة، لأنه لا خالق إلا هو خالق كل شيء، من جوهر، ومن عرض قائم بالجوهر، حب أو غيره. محمود في الشرع أولا. ويطلق التزيين ويراد به الحض على تعاطى الشهوات والأمر بها، فهو بهذا الاعتبار لا يضاف إلى الله تعالى منه إلا الحض على بعض الشهوات المنصوص عليها شرعا كالنكاح المقترن بقصد التناسل واتباع السنة فيه وما يجرى مجراه. وأما الشهوات المحظورة فتزيينها بهذا المعنى الثاني مضاف إلى الشيطان، تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها. وكلام الحسن رضى الله عنه محمول على التزيين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول، فانه يحاشى أن ينسب خلق الله إلى غير الله. وإنما الزمخشري كثيرا ما يورد أمثال هذه العبارة الملتبسة تنزيلا لها على قواعد القدرية الفاسدة، فتفطن لها وبريء قائلها من السلف الصالح عما يزعم الزمخشري النقل عنه، والله الموفق.
(2) . (عاد كلامه) قال: «جعل الأعيان التي ذكرها شهوات ... الخ» قال أحمد: يريد إلحاقها بباب: رجل صوم وفطر، مما يوضع فيه المعنى موضع الاسم مبالغة.

(1/342)


شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)

والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم: ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة. والمسومة المعلمة، من السومة وهي العلامة. أو المطهمة أو المرعية «1» من أسام الدابة وسومها والأنعام الأزواج الثمانية ذلك المذكور متاع الحياة.
للذين اتقوا عند ربهم جنات كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يتعلق اللام بخير. واختص المتقين، لأنهم هم المنتفعون به. وترتفع (جنات) على: هو جنات. وتنصره قراءة من قرأ (جنات) بالجر على البدل من خير والله بصير بالعباد يثيب ويعاقب على الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم، فلذلك أعد لهم الجنات الذين يقولون نصب على المدح، أو رفع. ويجوز الجر صفة للمتقين أو للعباد. والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كما لهم في كل واحدة منها. وقد مر الكلام في ذلك. وخص الأسحار لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة بعده (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)
وعن الحسن: كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار، هذا نهارهم، وهذا ليلهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 19]
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)
شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه قائما بالقسط مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله: (وهو الحق مصدقا) . فإن قلت:
لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز؟ قلت:
إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز في قوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) أن انتصب نافلة حالا
__________
(1) . قوله «أو المطهمة أو المرعية» عبارة أبى السعود. أو المطهمة التامة الخلق اه. وفي الفخر: قال القفال:
المطهمة المرأة الجميلة المرتبة اه. (ع)

(1/343)


عن يعقوب. ولو قلت: جاءني زيد وهند راكبا جاز لتميزه بالذكورة، أو على المدح. فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك: الحمد لله الحميد. «إنا معشر الأنبياء لا نورث» «1» . إنا بنى نهشل لا ندعى لأب؟ قلت: قد جاء نكرة كما جاء معرفة. وأنشد سيبويه فيما جاء منه نكرة قول الهذلي:
ويأوى إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى «2»
فإن قلت: هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو؟ قلت: لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. فإن قلت: قد جعلته حالا من فاعل شهد، فهل يصح أن ينتصب حالا عن «هو» في: (لا إله إلا هو) ؟ قلت: نعم، لأنها حال مؤكدة والحال المؤكدة لا تستدعى أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقولك: أنا عبد الله شجاعا. وكذلك لو قلت: لا رجل إلا عبد الله شجاعا. وهو أوجه من انتصابه عن فاعل شهد، وكذلك انتصابه على المدح. فإن قلت: هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة وأولى العلم كما دخلت الوحدانية؟ قلت: نعم إذا جعلته حالا من هو، أو نصبا على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
وقرأ عبد الله: القائم بالقسط، على أنه بدل من هو، أو خبر مبتدإ محذوف. وقرأ أبو حنيفة:
قيما بالقسط العزيز الحكيم صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعنى أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله. فإن قلت: ما المراد بأولى العلم الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل «3» والتوحيد. وقرئ (أنه) بالفتح، و (إن الدين) بالكسر على أن الفعل واقع على أنه
__________
(1) . أخرجه أحمد، حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. ورواه النسائي في الكبرى، من رواية ابن عيينة عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: قال عمر لعبد الرحمن وسعد وعثمان وطلحة والزبير «أنشدكم بالله الذي قامت له السموات والأرض، أسمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول- فذكره، وفيه قالوا: اللهم نعم» وأخرجه في الكنى في ترجمة أبى إدريس تلميذ أبى سليمان من رواية عن عبد الملك بن عمر عن أبى هريرة مثله. وأصله متفق عليه من حديث عائشة بلفظ «لا نورث ما تركنا صدقة»
(2) . للهذلى يصف رجلا يصيد ويرجع إلى زوجته وبناته عطل عاريات من الحلي والثياب. وشعثا نصب على الذم، أى وأذم شعثا أى مغبرات الوجوه من الجوع. والعطل: جمع عاطلة. والشعث. جمع شعثاء، كسود وسوداء.
ومراضيع: جمع مرضاع قياسا، أو مرضع سماعا، أى ترضع أولادها مثل السعالى جمع سعلاة وهي أنثى الشياطين، أى كريهات المنظر مثل الأغوال. وهي أقبح شيء عند العرب.
(3) . قوله «والبراهين القاطعة وهم علماء العدل» تلميح بالمعتزلة حيث سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، لكن الانصاف التعميم حتى يشمل أهل السنة والجماعة. (ع)

(1/344)


بمعنى شهد الله على أنه، أو بأنه. وقوله إن الدين عند الله الإسلام جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: (لا إله إلا هو) توحيد، وقوله: (قائما بالقسط) تعديل، فإذا أردفه قوله: (إن الدين عند الله الإسلام) فقد آذن أن الإسلام هو العدل «1» والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين. وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدى إليه كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بين جلى كما ترى. وقرئا مفتوحين، على أن الثاني «2» بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بيانا صريحا، لأن دين الله هو التوحيد والعدل. وقرئ الأول بالكسر والثاني بالفتح، على أن الفعل واقع على إن «3» ، وما بينهما اعتراض مؤكد. وهذا أيضا شاهد على أن دين الإسلام هو العدل والتوحيد، فترى القراءات كلها متعاضدة على ذلك. وقرأ عبد الله: أن لا إله إلا هو. وقرأ أبى: إن الدين عند الله للإسلام، وهي مقوية لقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية. وقرئ: شهداء لله، بالنصب على أنه حال من المذكورين قبله، وبالرفع على هم شهداء الله. فإن قلت: فعلام عطف على هذه القراءة (والملائكة وأولوا العلم) ؟
قلت: على الضمير في شهداء، وجاز لوقوع الفاصل بينهما. فإن قلت: لم كرر قوله: (لا إله إلا هو) ؟ «4» قلت: ذكره أولا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات
__________
(1) . قوله «فقد آذن أن الإسلام هو العدل» تعسف لا يقتضيه النظم الكريم، لكن دعى إليه التعصب. وقوله «وفيه أن من ذهب» الخ تورك على أهل السنة مبنى على ذلك، وتحقيقه في علم التوحيد. وبالجملة فالعدل والتوحيد لم ينحصرا في مذهب المعتزلة. (ع)
(2) . قوله «وقرئا مفتوحتين على أن الثاني» الضمير عائد إلى قوله تعالى: (أنه لا إله إلا هو) وقوله: (إن الدين) اه. (ع) [.....]
(3) . قوله «واقع على إن» أى على إن الدين ... الخ. (ع)
(4) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت ما فائدة تكرار لا إله إلا هو ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: وهذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده. وذلك أن الكلام مصدر بالتوحيد، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به، ثم قوله: (قائما بالقسط) وهو التنزيه، فطال الكلام بذلك، فجدد التوحيد تلو التنزيه ليلي قوله: (إن الدين عند الله الإسلام) ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به والله أعلم. قال: «وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ... الخ» . قال أحمد: هذا تعريض بخروج أهل السنة من ربقة الإسلام بل تصريح، وما ينقم منهم إلا أن صدقوا وعد الله عباده المكرمين على لسان نبيهم الكريم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بأنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، ولأنهم وحدوا الله حق توحيده فشهدوا أن لا اله إلا هو ولا خالق لهم ولأفعالهم إلا هو، واقتصروا على أن نسبوا لأنفسهم قدرة تقارن فعلهم لا خلق لها ولا تأثير غير التمييز بين أفعالهم الاختيارية والاضطرارية، وتلك المعبر عنها شرعا بالكسب في مثل قوله تعالى: (فبما كسبت أيديكم) هذا إيمان القوم وتوحيدهم، لا كقوم يغيرون في وجه النصوص فيجحدون الرؤية التي يظهر أن جحدهم لها سبب في حرمانهم إياها. ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة لله في مخلوقاته، فيزعمون أنهم يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مشيئة ربهم محادة ومعاندة لله في ملكه، ثم بعد ذلك يتسترون بتسمية أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والله أعلم بمن اتقى. ولجبر خير من إشراك، إن كان أهل السنة مجبرة فأنا أول المجبرين. ولو نظرت أيها الزمخشري بعين الانصاف إلى جهالة القدرية وضلالها، لانبعثت إلى حدائق السنة وظلالها، ولخرجت عن مزالق البدع ومزالها، ولكن كره الله انبعاثهم، ولعلمت أى الفريقين أحق بالأمن وأولى بالدخول في أولى العلم المقرونين في التوحيد بالملائكة المشرفين بعطفهم على اسم الله عز وجل. اللهم ألهمنا على اقتفاء السنة شكرك. ولا تؤمنا مكرك إنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون، فليس ينجى من الخوف إلا الخوف. والله ولى التوفيق.

(1/345)


فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)

المتميزة، ثم ذكره ثانيا بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل، للدلالة على اختصاصه بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله: (العزيز الحكيم) لتضمنهما معنى الوحدانية والعدل الذين أوتوا الكتاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل «1» من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه، فثلثت النصارى، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب، وهذا تجويز لله بغيا بينهم أى ما كان ذلك الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسدا بينهم وطلبا منهم للرئاسة وحظوظ الدنيا، واستتباع كل فريق ناسا يطؤن أعقابهم، لا شبهة في الإسلام. وقيل: هو اختلافهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث آمن به بعض وكفر به بعض. وقيل: هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء، فمنهم من آمن بموسى، ومنهم من آمن بعيسى. وقيل هم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام حين احتضر استودع التوراة سبعين حبرا من بنى إسرائيل، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن واختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم علم التوراة بغيا بينهم وتحاسدا على حظوظ الدنيا والرياسة. وقيل: هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله

[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)
فإن حاجوك فإن جادلوك في الدين فقل أسلمت وجهي لله أى أخلصت نفسي وجملتي
__________
(1) . قوله «تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل» مبنى على ما قاله آنفا. (ع)

(1/346)


إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22)

لله وحده لم أجعل فيها لغيره شركا بأن أعبده وأدعوه إلها معه يعنى أن دينى التوحيد وهو الدين القديم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي، وما جئت بشيء بديع حتى تجادلونى فيه. ونحوه (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو حق اليقين الذي لا لبس فيه فما معنى المحاجة فيه؟ ومن اتبعن عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولا معه وقل للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته: هل فهمتها لا أم لك، ومنه قوله عز وعلا (فهل أنتم منتهون) بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام استقصار «1» وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاندة بعد تجلى الحجة ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان «2» ، وكذلك في: هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة. وفي: (فهل أنتم منتهون)
بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطى المنهي عنه فإن أسلموا فقد اهتدوا فقد نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى ومن الظلمة إلى النور وإن تولوا لم يضروك فإنك رسول منبه عليك أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22)
قرأ الحسن: يقتلون النبيين. وقرأ حمزة: ويقاتلون الذين يأمرون. وقرأ عبد الله: وقاتلوا وقرأ أبى. يقتلون النبيين، والذين يأمرون. وهم أهل الكتاب. قتل أولوهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا، وكانوا حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لولا عصمة الله. وعن أبى عبيدة بن الجراح: قلت يا رسول الله، أى الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال:
«رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» ثم قرأها ثم قال: «يا أبا عبيدة، قتلت
__________
(1) . قوله «وفي هذا الاستفهام استقصار» أى عد المخاطب قاصرا. (ع)
(2) . قوله «يضرب أسداد بينه وبين الإذعان» لعله أسدادا، أى حجبا. (ع)

(1/347)


ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)

بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار «1» » في الدنيا والآخرة لأن لهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. فإن قلت: لم دخلت الفاء في خبر إن؟ قلت: لتضمن اسمها معنى الجزاء، كأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم، و «إن» لا تغير معنى الابتداء «فكأن دخولها كلا دخول، ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع إدخال الفاء لتغير معنى الابتداء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)
أوتوا نصيبا من الكتاب يريد أحبار اليهود، وأنهم حصلوا نصيبا وافرا من التوراة.
و «من» إما للتبعيض وإما للبيان، أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم يدعون إلى كتاب الله وهو التوراة ليحكم بينهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أى دين أنت؟
قال: على ملة إبراهيم. قالا: إن إبراهيم كان يهوديا. قال لهما: إن بيننا وبينكم التوراة، فهلموا إليها» «2» فأبيا. وقيل نزلت في الرجم، وقد اختلفوا فيه. وعن الحسن وقتادة: كتاب الله القرآن لأنهم قد علموا أنه كتاب الله لم يشكوا فيه ثم يتولى فريق منهم استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب وهم معرضون وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم. وقرئ (ليحكم) على البناء للمفعول. والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم: وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم، ثم يتولى فريق منهم وهم الذين لم يسلموا. وذلك أن قوله: (ليحكم بينهم) يقتضى أن يكون اختلافا واقعا فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . أخرجه البزار والطبراني وابن أبى حاتم والثعلبي والبغوي من حديثه، وفيه أبو الحسن مولى بنى أسد، وهو مجهول.
(2) . أخرجه الطبري من رواية إسحاق عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما به.

(1/348)


قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27)

ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم «1» على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل كما طمعت المجبرة والحشوية «2» وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون من أن آباءهم هم الأنبياء يشفعون لهم كما غرت أولئك شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم فكيف إذا جمعناهم فكيف يصنعون فكيف «3» تكون حالهم، وهو استعظام لما أعد لهم وتهويل لهم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه والمخلص منه، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون. وروى أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم الله على رؤس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار وهم لا يظلمون يرجع إلى كل نفس على المعنى، لأنه في معنى كل الناس كما تقول: ثلاثة أنفس، تريد ثلاثة أناسى.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27)
الميم في اللهم عوض من يا، ولذلك لا يجتمعان. وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم، وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف، وبقطع همزته في يا الله، وبغير ذلك مالك الملك أى تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون تؤتي الملك من تشاء تعطى من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك وتنزع الملك ممن تشاء النصيب الذي أعطيته منه، فالملك الأول عام شامل، والملكان
__________
(1) . قال محمود: ذلك التولي والاعراض بسبب طمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل كما طمعت الحشوية والمجبرة وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون» قال أحمد رحمه الله: هذا أيضا تعريض بأهل السنة في اعتقادهم تفويض العفو عن كبائر المؤمن الموحد إلى مشيئة الله تعالى وإن مات مصرا عليها ايمانا بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وتصديقا بالشفاعة لأهل الكبائر وينقم عليهم ذلك حتى يجعلهم أصلا يقيس عليهم اليهود القائلين: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) فانظر اليه كيف أشحن قلبه بغضا لأهل السنة وشقاقا، وكيف ملأ الأرض من هذه النزغات نفاقا، فالحمد لله الذي أهل عبيده الفقير إلى التورك عليه، لأن آخذ من أهل البدعة بثأر السنة، فأصمى أفئدتهم من قواطع البراهين بمقومات الأسنة.
(2) . قوله «كما طمعت المجبرة والحشوية» تورك على أهل السنة، حيث ذهبوا الى أن من دخل النار من أهل الكبائر المؤمنين يخرج بالشفاعة أو بعفو الله، كما نطقت به الأحاديث. (ع)
(3) . قوله «فكيف تكون» لعله أو فكيف. (ع)

(1/349)


الآخران خاصان بعضان من الكل: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ «1» هم أعز وأمنع من ذلك. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق «2» عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها «وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون وقال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل عليه السلام أن أمتى ظاهرة على كلها، فأبشروا. فقال المنافقون: ألا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت. فإن قلت: كيف قال بيدك الخير فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحى والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعونى جعلتهم لهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن
__________
(1) . ذكره الواحدي في أسبابه عن ابن عباس وأنس رضى الله عنهم، ولم أجد له إسنادا.
(2) . أخرجه البيهقي. وأبو نعيم في دلائل النبوة لهما من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. قال «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة» قال عمرو بن عوف، فكنت أنا وسليمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة نفر من الأنصار في أربعين ذراعا فذكره مطولا من هذا الوجه. ذكره الواحدي في أسباب النزول والطبري والثعلبي والبغوي. ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة سلمان. قال: أخبرنا ابن أبى فديك عن كثير بن عبد الله به. وقال الواقدي في المغازي: حدثني عاصم ابن عبد الله الحكمي عن عمر بن الحكم قال «كان عمر بن الخطاب يومئذ يضرب بالمعول، إذ صادف حجرا أصلد فضرب ضربة- فذكره بنحوه» ورواه النسائي وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى كلهم من رواية ميمون أبى عبد الله عن البراء بن عازب رضى الله عنهما مختصرا وإسناده حسن.

(1/350)


لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)

توبوا إلى أعطفهم عليكم» وهو معنى قوله عليه السلام «كما تكونوا يولى عليكم» «1» .

[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)
نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن. (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) ، (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) ، (لا تجد قوما يؤمنون بالله) ... الآية. والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان من دون المؤمنين يعنى أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ومن يوالى الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعنى أنه منسلخ من ولاية الله رأسا، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان، قال:
تود عدوى ثم تزعم أننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب «2»
إلا أن تتقوا منهم تقاة إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه. وقرئ: تقية. قيل للمتقى تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير لمضروبه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قشر العصا، كقول عيسى صلوات الله عليه «كن وسطا وامش جانبا» ويحذركم الله نفسه فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد. ويجوز أن يضمن (تتقوا) معنى تحذروا وتخافوا، فيعدى بمن وينتصب (تقاة) أو تقية على المصدر، كقوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) .
__________
(1) . رواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية المبارك بن فضالة عن الحسن عن أبى بكرة، وفي إسناده إلى مبارك مجاهيل.
(2) .
تود عدوى ثم تزعم أننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
فليس أخى من ودنى رأى عينه ... ولكن أخى من ودنى في المغايب
النوك: الحمق. والعازب: البعيد. يقول: إن الصديق من لا يصادق بغيض صديقه، ومن يراعى الأخوة بظهر الغيب، لا برأى العين. ويجوز أن تود على تقدير الاستفهام التوبيخي، وأبرزه في صورة الخبر للتشنيع. ورأى عينه: نصب على الظرف أى حين رأى عينه: والمغايب: أزمان العياب. [.....]

(1/351)


قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير (29) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد (30)

[سورة آل عمران (3) : آية 29]
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير (29)
إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله يعلمه ولم يخف عليه وهو الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض لا يخفى عليه منه شيء قط، فلا يخفى عليه سركم وعلنكم والله على كل شيء قدير فهو قادر على عقوبتكم. وهذا بيان لقوله (ويحذركم الله نفسه) لأن نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس عن بواطن أموره: لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم الذات «1» الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك.

[سورة آل عمران (3) : آية 30]
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد (30)
يوم تجد منصوب بتود. والضمير في بينه لليوم، أى يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا. ويجوز أن ينتصب (يوم تجد) بمضمر نحو: اذكر، ويقع على ما عملت وحده «2» ، ويرتفع (وما عملت) على على الابتداء، و (تود) خبره، أى: والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه.
ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تود. فإن قلت: فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ودت؟ قلت: لا كلام في صحته، ولكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم وأثبت لموافقة قراءة العامة. ويجوز أن يعطف (وما عملت) على: (ما عملت) ويكون (تود) حالا، أى يوم تجد عملها محضرا وادة تباعد ما بينها وبين اليوم
__________
(1) . قوله «فما بال من علم أن العالم الذات» من اضافة الوصف الى مرفوعه كالحسن الوجه، يعنى أن علمه بذاته، لا يعلم زائد على ذاته كعلم الحوادث، وهذا عند المعتزلة. (ع)
(2) . قوله «ويقع على ما عملت وحده» أى يقع فعل الوجدان على ما عملت من خير وحده. (ع)

(1/352)


قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)

أو عمل السوء محضرا، كقوله تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضرا) يعنى مكتوبا في صحفهم يقرءونه ونحوه (فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه) . والأمد المسافة كقوله تعالى: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) وكرر قوله ويحذركم الله نفسه ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه والله رؤف بالعباد يعنى أن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذورا لعلمه وقدرته، مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى: (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
محبة العباد لله مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها. ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم. والمعنى: إن كنتم مريدين لعبادة الله على الحقيقة فاتبعوني حتى يصح ما تدعونه من إرادة عبادته، يرض عنكم ويغفر لكم. وعن الحسن: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه. وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها ويطرب وينعر ويصعق «1» فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله ولا يدرى ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا أنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته، ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصورها، وربما رأيت المنى قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته، وحمقى العامة على حواليه قد ملؤوا أدرانهم بالدموع لما رققهم من حاله. وقرئ: تحبون. ويحببكم. ويحبكم، من حبه يحبه. قال:
أحب أبا ثروان من حب تمره ... وأعلم أن الرفق بالجار أرفق
وو الله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق «2»
__________
(1) . قوله «وينعر ويصعق» في الصحاح: النعرة صوت في الخيشوم. ويقال: ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان، أى نهض. (ع)
(2) . لغيلان بن شجاع النهشلي. يقول: أحب هذا الرجل من أجل حب تمره. ويروى: أبا مروان، وأعلم أن الرفق بالجار أرفق منه بغيره، أى أشد رفقا، وأسند الرفق إلى نفسه مبالغة كجد جده. ويجوز أن المعنى أن الرفق بالجار أحق أو أكمل منه بغيره. وأما لو قرئ «أوفق» بالواو فظاهر. وفيه استعطاف لأبى مروان، وطلب الرفق منه بالشاعر. واللغة الغالبة أحب الرباعي. وحبه يحبه بكسر فاء المضارع من باب ضرب نادر من جهة مجيئه ثلاثيا ومن جهة كسر فاء مضارعه. وقياس مضارع الثلاثي المضاعف المتعدي ضم فائه كيشد ويرد. وقد يجيء حب يحب من باب علم يعلم. ولا كان أدنى، أى أقرب إلى من عبيد ومشرق، وهما ابناه. وفي القافية الاقواء. وروى أبو العباس المبرد بدل الشطر الأخير: وكان عياض منه أدنى ومشرق، أى أقرب إلى من أبى مروان. وعليه فلا إقواء فيها.

(1/353)


إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34) إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37)

فإن تولوا يحتمل أن يكون ماضيا، وأن يكون مضارعا بمعنى: فإن تتولوا، ويدخل في جملة ما يقول الرسول لهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34) إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37)
آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وآل عمران موسى وهرون «1» ابنا عمران ابن يصهر. وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.
وذرية بدل من آل إبراهيم وآل عمران بعضها من بعض يعنى أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض: موسى وهرون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من فاهث، وفاهث من لاوى، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق. وكذلك عيسى ابن مريم
__________
(1) . قال محمود رحمه الله «آل عمران موسى وهرون ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ومما يرجح هذا القول الثاني أن السورة تسمي آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة. وأما موسى وهارون فلم يذكر قصتهما في هذه السورة، فدل ذلك على أن عمران المذكور هاهنا هو أبو مريم والله أعلم.

(1/354)


بنت عمران بن ماثان بن سليمان بن داود «1» بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق. وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل بعضها من بعض في الدين، كقوله تعالى (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) . والله سميع عليم يعلم من يصلح للاصطفاء، أو يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها. وإذ منصوب به.
وقيل: بإضمار اذكر. وامرأة عمران هي امرأة عمران بن ماثان، أم مريم البتول، جدة عيسى عليه السلام، وهي حنة بنت فاقوذ. وقوله إذ قالت امرأت عمران على أثر قوله: (وآل عمران) مما يرجح أن عمران هو عمران بن ماثان جد عيسى، والقول الآخر يرجحه أن موسى يقرن بإبراهيم كثيرا في الذكر. فإن قلت: كانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهرون، ولعمران بن ماثان مريم البتول، فما أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبى مريم التي هي أخت موسى وهرون؟ قلت: كفى بكفالة زكريا دليلا على أنه عمران أبو البتول، لأن زكريا بن آذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد، وقد تزوج زكريا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى ابني خالة. روى أنها كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت، فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد وتمنته، فقالت: اللهم إن لك على نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه، فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل محررا معتقا لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء، وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم. وروى أنهم كانوا ينذرون هذا النذر، فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل. وعن الشعبي (محررا) مخلصا للعبادة، وما كان التحرير إلا للغلمان، وإنما بنت الأمر على التقدير، أو طلبت أن ترزق ذكرا فلما وضعتها الضمير لما في بطني «2» ، وإنما أنث على المعنى لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. فإن قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالا من الضمير في وضعتها وهو كقولك وضعت الأنثى أنثى؟ قلت: الأصل: وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في ما كانت أمك لتأنيث الخبر. ونظيره قوله تعالى: (فإن كانتا اثنتين) وأما على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر، كأنه قيل: إنى وضعت الحبلة أو النسمة
__________
(1) . قوله «ابن ماثان بن سليمان بن داود» قوله: ابن سليمان، أى من نسله. وقوله: ابن يهوذا، أى من نسله، كما صرح به الفخر الرازي. وذكر أبو السعود بين ماثان وسليمان نحو خمسة عشر جدا، وبين إيشا ويهوذا تسعة جدود. (ع)
(2) . قال محمود: «الضمير عائد إلى ما في بطني ... الخ» قال أحمد: الضمير في قوله «وضعتها» يتناول إذا ما نسب إليها الوضع والأنوثة، فالحال واقعة عليها من حيث الجهة العامة وتلك الجهة كونها شيئا وضع لا لخصوص نسبة الأنوثة إليها. وقد مر هذا البحث بعينه عند قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) .

(1/355)


أنثى. فإن قلت: فلم قالت: إنى وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت: قالته تحسرا «1» على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها، فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرا، ولذلك نذرته محررا للسدانة. ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى والله أعلم بما وضعت تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه. ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا، فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس: (والله أعلم بما وضعت) على خطاب الله تعالى لها أى أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلو قدره. وقرئ:
وضعت. بمعنى: ولعل لله تعالى فيه سرا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها.
فإن قلت: فما معنى قوله وليس الذكر كالأنثى؟ قلت: هو بيان لما في قوله: (والله أعلم بما وضعت) من التعظيم للموضوع والرفع منه، ومعناه: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها، واللام فيهما للعهد. فإن قلت: علام عطف قوله وإني سميتها مريم؟ قلت: هو عطف على إنى وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضتان، كقوله تعالى: وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. فإن قلت: فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت: لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة «2» ، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه. وما يروى من الحديث «ما من مولود يولد
__________
(1) . (عاد كلامه) قال: «وإنما أرادت بقولها: وضعتها أنثى التحسر والتأسف ... الخ» قال أحمد: هذا التأويل على أنه من كلام الله تعالى لا حكاية عنها. وقد ذكر أهل التفسير تأويلا آخر، وهو أن يكون هذا القول قولها حكاه الله تعالى عنها، أعنى قوله: (وليس الذكر كالأنثى) ويرشد إليه عطف كلامها عليه وهو قوله: (وإني سميتها مريم ... ) الخ ويوردون على هذا الوجه أن قياس كونه من قولها أن يكون: وليست الأنثى كالذكر، فان مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي عين ما قالوه. ألا ترى إلى قوله تعالى: (لستن كأحد من النساء) فنفى عن الكامل شبه الناقص، مع أن الكمال لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ثابت بالنسبة إلى عموم النساء. وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران والله أعلم. ومنه أيضا (أفمن يخلق كمن لا يخلق) .
(2) . (عاد كلامه) قال: «وفائدة قولها (وإني سميتها مريم) أن مريم في لغتهم العابدة ... الخ» قال أحمد:
أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته، فلا محيص له إذا عن تعطيل كلامه عليه السلام بتحميله ما لا يحتمله جنوحا إلى اعتزال منتزع في فلسفة منتزع في إلحاد ظلمات بعضها فوق بعض. وقد قدمت عند قوله تعالى: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) ما فيه كفاية، وما أرى الشيطان إلا طعن في خواصر القدرية حتى بقرها، ووكر في قلوبهم حتى حمل الزمخشري وأمثاله أن يقول في كتاب الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام بما يتخيل، كما قال في هذا الحديث، ثم نظره بتخييل ابن الرومي في شعره، جراءة وسوء أدب. ولو كان معنى ما قاله صحيحا لكانت هذه العبارة واجبا أن تجتنب، ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بعد أن يكون تمثيلا. وما هو واقع مشاهد فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الضئيل وارتكاب الهوى الوبيل.

(1/356)


إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها» «1» فالله أعلم بصحته. فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد «2»
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه فتقبلها ربها فرضي بها في النذر مكان الذكر بقبول حسن فيه وجهان: أحدهما أن يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء كالسعوط واللدود، لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. وروى أن حنة حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها «3» . فقالوا: لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا- وكانوا سبعة وعشرين- إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتكفلها. والثاني: أن يكون مصدرا على تقدير حذف المضاف بمعنى: فتقبلها بذي قبول حسن،
__________
(1) . قال المصنف: الله أعلم بصحته هكذا قال. والحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة في آخره: قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) .
(2) .
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يهدد
لابن الرومي، يقول: إن بكاء الطفل حين ولادته لأجل ما تشعر به الدنيا من حوادثها فقط، وإن لا يكن بكاؤه لذلك، فأى شيء منها يبكيه، أو فأى شيء يبكيه منها، وإنها أى الدنيا. وروى: وإنه، أى الطفل لأفسح موضعا مما كان فيه من ضيق الرحم وأرغد منه. وعوده على ما يبكيه بعيد، أو غير سديد. ويجوز أنه عائد على فضاء الدنيا المعلوم من المقام، ثم قال: إذا أبصرها صرخ، كأنه يخوف بما سوف يناله من أذاها قبل حصوله.
(3) . قوله «أنا أحق بها عندي خالتها» قوله خالتها: يعنى زوجته ايشاع أخت حنة لكن تقدم أنها أخت مريم وقال صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى هما ابنا خالة وفي أبى السعود قيل في تأويل ذلك أن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت فجرى الحديث على ذلك وقيل إن ايشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب بأن نكح عمران أم حنة فولدت إيشاع ثم نكح حنة ربيبته فولدت مريم بناء على حل نكاح الربائب عندهم. (ع)

(1/357)


أى بأمر ذى قبول حسن وهو الاختصاص. ويجوز أن يكون معنى (فتقبلها) فاستقبلها، كقولك:
تعجله بمعنى استعجله، وتقصاه بمعنى استقصاه، وهو كثير في كلامهم، من استقبل الأمر إذا أخذه بأوله وعنفوانه. قال القطامي:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا «1»
ومنه المثل «خذ الأمر بقوابله» أى فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها. وقرئ: وكفلها زكرياء، بوزن وعملها وكفلها زكريا بتشديد الفاء ونصب زكرياء، «2» الفعل لله تعالى بمعنى:
وضمها إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها. ويؤيدها قراءة أبى: وأكفلها، من قوله تعالى (فقال أكفلنيها) وقرأ مجاهد: فتقبلها ربها، وأنبتها، وكفلها، على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب ربها، تدعو بذلك، أى فاقبلها يا ربها وربها، واجعل زكريا كافلا لها. قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد، أى غرفة يصعد إليها بسلم. وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وروى أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب وجد عندها رزقا كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء أنى لك هذا من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك؟ قالت هو من عند الله فلا تستبعد. قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاع في زمن قحط «3» فأهدت له فاطمة رضى الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها وقال: هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أنى لك هذا؟ فقالت:
هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي
__________
(1) . يقول: خير الأمور هو الذي تستقبله وتنتظره فتأخذه أول إتيانه، وليس خبرها ما تصبر عنه حتى يفوتك ويمضى ثم تتبعه وتذهب وراءه لتدركه، فالباء زائدة في خبر ليس، وهو على تقدير مضاف، أى ذى التتبع.
وتتبعه: أصله تتبعه حذفت منه تاء المضارعة أو تاء التفعل أو التاء التي هي فاء الفعل وهو أولاها، لأن كل من الأوليين جاء لمعنى. وقال الجوهري: وضع الاتباع موضع التتبع اه، فهو اسم مصدر، أو مصدر حذف منه بعض الزوائد، والتفعل أبلغ من الافتعال، فيتعين إرادته هنا لأنه مؤكد.
(2) . قوله «ونصب زكريا الفعل لله تعالى» لعله والفعل. (ع) [.....]
(3) . رواه أبو يعلي من حديث جابر، وهو من رواية ابن لهيعة عن ابن المنكدر عنه. والمتن ظاهر النكارة.

(1/358)


هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (41)

جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها. إن الله يرزق من جملة كلام مريم عليها السلام، أو من كلام رب العزة عز من قائل بغير حساب بغير تقدير لكثرته، أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل بحسب الاستحقاق.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (41)
هنالك في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت، فقد يستعار هنا «1» وثم وحيث للزمان. لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها، رغب في أن يكون له من ايشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة على الله، وإن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت أختها كذلك. وقيل لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر ذرية ولدا. والذرية يقع على الواحد والجمع سميع الدعاء مجيبه. قرئ: فناداه الملائكة. وقيل: ناداه جبريل عليه السلام، وإنما قيل الملائكة على قولهم: فلان يركب الخيل أن الله يبشرك) بالفتح على بأن الله، وبالكسر على إرادة القول. أو لأن النداء نوع من القول.
وقرئ: يبشرك، ويبشرك، من بشره وأبشره. ويبشرك»
، بفتح الياء من بشره. ويحيى إن كان أعجميا وهو الظاهر فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربيا فللتعريف
__________
(1) . قال محمود: فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان ... الخ» قال أحمد: لا يليق بالنبي أن يقف علمه بجواز ولادة العاقر على مشاهدة مثله، فان العقل يقضى بجواز ذلك في قدرة الله تعالى وإن لم يقع نظيره. وأحسن من هذه العبارة وأسلم أن يقال: لما شاهد وقوع هذا الحادث كرامة لمريم امتد أمله إلى حادث يناسبه كرامة له، والله أعلم.
(2) . قوله «ويبشرك» لعل هذه بدون ضمير الخطاب، وإن كانت السابقة من بشره بفتح الباء أيضا. (ع)

(1/359)


ووزن الفعل كيعمر مصدقا بكلمة من الله مصدقا بعيسى مؤمنا به. قيل هو أول من آمن به، وسمى عيسى «كلمة» لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله: (كن) من غير سبب آخر.
وقيل: مصدقا بكلمة من الله، مؤمنا بكتاب منه. وسمى الكتاب كلمة، كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته. والسيد: الذي يسود قومه، أى يفوقهم في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه وفائقا للناس كلهم في أنه لم يركب سيئة قط، ويا لها من سيادة. والحصور: الذي لا يقرب النساء حصرا لنفسه أى منعا لها من الشهوات. وقيل هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمنى ... لا بالحصور ولا فيها بسئار «1»
فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو. وقد روى أنه مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت من الصالحين ناشئا من الصالحين، لأنه كان من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين كقوله: (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) . أنى يكون لي غلام استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم وقد بلغني الكبر كقولهم: أدركته السن العالية. والمعنى أثر فى الكبر فأضعفنى، وكانت له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون كذلك أى يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو كذلك الله مبتدأ وخبر، أى على نحو هذه الصفة الله، ويفعل ما يشاء بيان له، أى يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات آية علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر قال آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولذلك قال: (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت:
ليخلص المدة لذكر الله لا يشتغل لسانه بغيره، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة،
__________
(1) . للأخطل، يقول: رب شارب مشتر للخمر بالثمن الربيح الزائد، نادمنى بالكأس. ويجوز تعلقه بما قبله، ليس حصورا مانعا نفسه من الدخول على القوم في لعب الميسر، ولا سآر على صيغة «فعال» للمبالغة، أى مبقيا في الكأس سؤرا، أى بقية، من أسأر إذا أبقى، وهو شاذ كجبار من أجبر. ويروى بسوار من السورة وهي الوثبة والعربدة، ففي سببية، أى ولا متغير العقل بسببها، ولا عاطفة على مربح، والثانية توكيد، والباء زائدة بعد كل، ونادمنى خبر، فيجوز الرجوع إلى الوصف بعد الاخبار.

(1/360)


وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)

وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن تحبس لسانك «1» إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال. ومنتزعا منه إلا رمزا إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما وأصله التحرك. يقال ارتمز: إذا تحرك. ومنه قيل للبحر الراموز. وقرأ يحيى بن وثاب (إلا رمزا) بضمتين، جمع رموز كرسول ورسل. وقرئ (رمزا) بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم، وهو حال منه ومن الناس دفعة كقوله:
متى ما تلقنى فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا «2»
بمعنى إلا مترامزين، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم. والعشى: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب. والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وقرئ: والأبكار، بفتح الهمزة جمع بكر، كسحر وأسحار. يقال: أتيته بكرا بفتحتين. فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟ قلت: لما أدى مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمى كلاما ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)
يا مريم روى أنهم كلوها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى اصطفاك
__________
(1) . قوله «أن تحبس لسانك» لعله: يحبس. (ع)
(2) .
أحولى تنفض استك مذرويها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا
متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا
وسيفي صارم قبضت عليه ... أصابع لا ترى فيها انتشارا
لعنترة يخاطب عمارة بن زياد العبسي، لما قال لقومه: ليتني لقيته فأرحتكم منه وأعلمتكم أنه عبد، والاست: الدبر، وهي فاعل. ومذرويها: مفعول، وكان قياسه: مذريان بالياء لأنه مقصور زائد على ثلاثة أحرف، وقياس تثنيته كذلك، فمجيئه بالواو شاذ، وسهله أن تثنيته تقديرية لأنه لم يسمع له مفرد. وحكى عن أبى عمرو «مذرى» مفردا، فيكون مثنى حقيقة، وبه قيل. وحكى عن أبى عبيدة مذرى مفردا، ومذريان مثنى بالياء على القياس، وإن نصب الاست كان مفعولا، ومذرويها بدلا منه. والمذروان بالكسر فرعا الأليتين وقرنا الرأس. يقال: جاء ينفض مذرويه يختال ويتبختر، وقوس هتافة المذروين، وهما موقعا الوتر من أعلى وأسفل. أى رنانتهما، وها أنا ذا أصله أنا هذا، فقدمت الهاء مبادرة إلى التنبيه، ثم قال: متى تلاقنى حال كوننا منفردين عن غيرنا، تخف متى فترتعد أطراف أليتيك، فارتعادها كناية عن الخوف. وتستطارا مؤكد بالنون الخفيفة المنقلبة ألفا، والفاعل ضمير المخاطب كأن الخوف يطيره. ويجوز أن الضمير للروانف، أى تنتفض وتنتشر كالطائر. ويروى: روادف، والمراد واحد.

(1/361)


ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51)

أولا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية وطهرك مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود واصطفاك آخرا على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها ثم قيل لها واركعي مع الراكعين بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع.

[سورة آل عمران (3) : آية 44]
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)
ذلك إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعنى أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟
وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحى، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحى مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه (وما كنت بجانب الغربي) ، (وما كنت بجانب الطور) ، (وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم) أقلامهم أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين. وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركا بها إذ يختصمون في شأنها تنافسا في التكفل بها.
فإن قلت: (أيهم يكفل) بم يتعلق؟ قلت: بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم، كأنه قيل: يلقونها ينظرون أيهم يكفل، أو ليعلموا، أو يقولون.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51)

(1/362)


المسيح لقب من الألقاب المشرفة، كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية، ومعناه المبارك، كقوله: (وجعلني مباركا أين ما كنت) وكذلك (عيسى) معرب من أيشوع، ومشتقهما من المسح والعيس، كالراقم في الماء. فإن قلت: (إذ قالت) بم يتعلق؟ قلت: هو بدل من (وإذ قالت الملائكة) ويجوز أن يبدل من (إذ يختصمون) على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. فإن قلت: لم قيل: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم «1» ؟
قلت: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين. فإن قلت: لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم «2» ، وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قيل عيسى ابن مريم والخطاب لمريم ... الخ» قال أحمد: ويحقق هذا الجواب قولها (أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) فانه لم يتقدم في وعد الله لها بالولد ما يدل على أنه من غير أب، إلا أنه لما نسبه إليها دل على أنها فهمت من ذلك كونه من غير أب، والله أعلم.
(2) . (عاد كلامه) قال: «فان قلت لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التقرير خلاص من إشكال يوردونه فيقولون: المسيح في الآية إن أريد به التسمية وهو الظاهر فما موقع قوله عيسى ابن مريم؟
والتسمية لا توصف بالنبوة، وإن أريد بالمسيح المسمي بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله اسمه؟ ويجاب عن الاشكال بأن المسيح خبر عن قوله اسمه، والمراد التسمية، وأما عيسى ابن مريم فخبر مبتدإ محذوف تقديره: هو عيسى ابن مريم، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة، منقطعا عن قول المسيح. والذي قرره الزمخشري لا يرد عليه هذا الاشكال، وهو حسن جدا، والله أعلم.

(1/363)


وجيها حال من (بكلمة) وكذلك قوله: ومن المقربين، ويكلم، ومن الصالحين. أى يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة. والوجاهة في الدنيا: النبوة والتقدم على الناس. وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وكونه من المقربين رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. والمهد: ما يمهد للصبي من مضجعه، سمى بالمصدر.
وفي المهد في محل النصب على الحال وكهلا عطف عليه بمعنى: ويكلم الناس طفلا وكهلا.
ومعناه: يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء. ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي (ونعلمه) عطف على يبشرك، أو على وجيها أو على يخلق، أو هو كلام مبتدأ. وقرأ عاصم ونافع: ويعلمه، بالياء. فإن قلت: علام تحمل: ورسولا، ومصدقا، من المنصوبات المتقدمة، وقوله: (أني قد جئتكم) و (لما بين يدي) يأبى حمله عليها؟ قلت:
هو من المضايق، وفيه وجهان: أحدهما أن يضمر له «وأرسلت» على إرادة القول تقديره: ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم. ومصدقا لما بين يدي. والثاني أن الرسول والمصدق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأنى قد جئتكم، وناطقا بأنى أصدق ما بين يدي وقرأ اليزيدي: ورسول: عطفا على كلمة أني قد جئتكم أصله أرسلت بأنى قد جئتكم، فحذف الجار وانتصب بالفعل، وأني أخلق نصب بدل من أني قد جئتكم أو جر بدل من آية، أو رفع على: هي أنى أخلق لكم، وقرئ: إنى، بالكسر على الاستئناف، أى أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير فأنفخ فيه الضمير للكاف، أى في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا فيصير طيرا كسائر الطيور حيا. وقرأ عبد الله: فأنفخها. قال:
كالهبرقى تنحى ينفخ الفحما «1»
وقيل: لم يخلق غير الخفاش الأكمه الذي ولد أعمى، وقيل هو الممسوح العين. ويقال: لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وروى أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر بإذن الله دفعا لوهم من توهم فيه اللاهوتية. وروى أنه أحيا
__________
(1) .
مولى الريح قرنيه وجبهته ... كالهبرقى تنحى ينفخ الفحما
للنابغة يصف ثورا وحشيا موجها قرنيه وجبهته إلى الريح، فهو مستقبلها برأسه وينفخ في مقابلتها بفمه، فيسمع له صوت، فهو كالهبرقى- وزان جعفري وزبرجى- وهو الحداد والصائغ. ويروى: كالحرقى، أى الحداد، نسبة لحرق النار، شبهه به سال كونه انحاز إلى ناحية ينفخ الفحم المنقد بالنار، فينفخ: حال متداخلة.

(1/364)


فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)

سام بن نوح وهم ينظرون، فقالوا هذا سحر فأرنا آية: فقال يا فلان أكلت كذا، ويا فلان خبئ لك كذا. وقرئ تذخرون، بالذال والتخفيف ولأحل رد على قوله: (بآية من ربكم) أى جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم ويجوز أن يكون (مصدقا) مردودا عليه أيضا، أى جئتكم بآية وجئتكم مصدقا. وما حرم الله عليهم في شريعة موسى: الشحوم والثروب «1» ولحوم الإبل، والسمك، وكل ذى ظفر، فأحل لهم عيسى بعض ذلك. وقيل: أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية «2» له. واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرئ (حرم عليكم) على تسمية الفاعل، وهو ما بين يدى من التوراة، أو الله عز وجل، أو موسى عليه السلام لأن ذكر التوراة دل عليه، ولأنه كان معلوما عندهم. وقرئ: حرم، بوزن كرم وجئتكم بآية من ربكم شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله إن الله ربي وربكم لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه: وقرئ بالفتح على البدل من (بآية) . وقوله فاتقوا الله وأطيعون اعتراض، فإن قلت: كيف جعل هذا القول آية من ربه؟ قلت لأن الله تعالى جعله له علامة يعرف منها أنه رسول كسائر الرسل، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. ويجوز أن يكون تكريرا لقوله: (جئتكم بآية من ربكم) أى جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم، من خلق الطير، والإبراء، والإحياء، والإنباء بالخفايا، وبغيره من ولادتي بغير أب، ومن كلامى في المهد، ومن سائر ذلك. وقرأ عبد الله. وجئتكم بآيات من ربكم، فاتقوا الله لما جئتكم به من الآيات، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه. ثم ابتدأ فقال: إن الله ربى وربكم. ومعنى قراءة من فتح:
ولأن الله ربى وربكم فاعبدوه، كقوله: (لإيلاف قريش.....) ليعبدوا)
ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربى وربكم وما بينهما اعتراض.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54]
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)
فلما أحس فلما علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس. وإلى الله
__________
(1) . قوله «الثروب» الشحوم الرقيقة التي تغشى الكرش والأمعاء. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ما لا صيصية له» الصيصية شوكة كالتي في رجل الديك. أفاده الصحاح. (ع)

(1/365)


إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين (57)

من صلة أنصارى مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله، ينصرونني كما ينصرني، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أى من أنصارى، ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه نحن أنصار الله أى أنصار دينه ورسوله. وحوارى الرجل: صفوته وخالصته. ومنه قيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن، قال:
ففل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح «1»
وفي وزنه الحوالى، وهو الكثير الحيلة. وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم، لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم مع الشاهدين مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون بالوحدانية. وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم شهداء على الناس ومكروا الواو لكفار بنى إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة ومكر الله أن رفع عيسى إلى السماء وألفى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل والله خير الماكرين أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 57]
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين (57)
إذ قال الله ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله إني متوفيك أى مستوفى أجلك.
معناه: إنى عاصمك «2» من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف أنفك لا قتيلا بأيديهم ورافعك إلي إلى سمائي ومقر ملائكتي ومطهرك من الذين كفروا من سوء جوارهم وخبث صحبتهم. وقيل متوفيك: قابضك من الأرض، من توفيت مالى على
__________
(1) . لليشكرى، يقول: فقل للنساء الحضريات الصافيات البياض يبكين غيرنا، كناية عن أنه ليس من أهل التنعم، ثم نهى عن أن يبكيهم أحد إلا الكلاب التي تساق معهم للصيد، أو التي جرت عادتها بأكل قتلاهم في الحرب أو التي تنبحهم إذا أقبلوا على أصحابها، كناية عن أنه من أهل البدو والغزو.
(2) . قوله «أى مستوفى أجلك ومعناه إنى عاصمك» مبنى على أن القتيل يموت قبل استيفاء أجله، وهو مذهب المعتزلة. (ع)

(1/366)


ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)

فلان إذا استوفيته: وقيل: مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن: وقيل:
متوفى نفسك بالنوم من قوله: (والتي لم تمت في منامها) ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى فأحكم بينكم تفسير الحكم قوله فأعذبهم ... ) (فنوفيهم أجورهم) «1» وقرئ فيوفيهم بالياء.

[سورة آل عمران (3) : آية 58]
ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58)
ذلك إشارة إلى ما سبق من نبإ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره (نتلوه) و (من الآيات) خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، ونتلوه صلته. ومن الآيات الخبر: ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر تفسيره نتلوه والذكر الحكيم القرآن، وصف بصفة من هو سببه، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.

[سورة آل عمران (3) : آية 59]
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)
إن مثل عيسى إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم. وقوله خلقه من تراب جملة مفسرة لما له شبه «2» عيسى بآدم أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم، وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟ قلت:
هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.
وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى، قالوا: لأنه لا أب له. قال. فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيى الموتى. قال: فحزقيل أولى، لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص. قال: فجرجيس أولى، لأنه طبخ وأحرق
__________
(1) . قوله «فأعذبهم فنوفيهم» هذا في الذين كفروا. وقوله: فنوفيهم ... الخ، في الذين آمنوا. (ع) [.....]
(2) . قوله «لما له شبه» أى للأمر الذي لأجله كان ذلك التشبيه. (ع)

(1/367)


الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61)

ثم قام سالما. خلقه من تراب قدره جسدا من طين ثم قال له كن أى أنشأه بشرا كقوله (ثم أنشأناه خلقا آخر) . فيكون حكاية حال ماضية.

[سورة آل عمران (3) : آية 60]
الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60)
الحق من ربك خبر مبتدإ محذوف، أى هو الحق كقول أهل خيبر: محمد والخميس «1» .
ونهيه عن الامتراء- وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا- من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفا لغيره.

[سورة آل عمران (3) : آية 61]
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61)
فمن حاجك من النصارى فيه في عيسى من بعد ما جاءك من العلم أى من البينات الموجبة للعلم تعالوا هلموا. والمراد المجيء بالرأى والعزم، كما نقول تعال نفكر في هذه المسألة ندع أبناءنا وأبناءكم أى يدع كل منى ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة ثم نبتهل ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بالفتح، والضم: اللعنة. وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك «أبهله» إذا أهمله. وناقة باهل: لاصرار عليها «2» وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. وروى «أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى خلفها وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران «3» : يا معشر النصارى، إنى لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا
__________
(1) . هو طرف من حديث لأنس متفق عليه، بلفظ «صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وقد خرجوا بالمساحي على أعناقهم فلما رأوه قالوا: هذا محمد والخميس ... الحديث» وسيأتى في سورة الصافات.
(2) . قوله «وناقة باهل لاصرار عليها» في الصحاح صررت الناقة شددت عليها الصرار، وهو خيط يشد فوق الخلف والتودية، لئلا يرضعها ولدها. وفيه الخلف: حلمة ضرع الناقة. وفيه التودية: خشبة تشد عليه. (ع)
(3) . قوله «فقال أسقف نجران يا معشر النصارى» أى حبرهم عبد المسيح اه. (ع)

(1/368)


من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا. قال: «فإنى أناجزكم» فقالوا:
ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفى حلة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك «1» وقال: «والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا» وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم على، ثم قال: «2» (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) فإن قلت. ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده «3» وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، من طريق محمد بن مروان السدى عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس بطوله وابن مروان متروك متهم بالكذب ثم أخرج أبو نعيم نحوه عن الشعبي مرسلا، وفيه «فان أبيتم المباهلة فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فان أبيتم فأعطونا الجزية، كما قال الله تعالى. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا قال: فان أبيتم فانى أنبذ إليكم على سواء، فقالوا: لا طاقة لنا بحرب العرب، ولكن نؤدي الجزية، فجعل عليهم في كل سنة ألفى حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أتانى البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة» رواه الطبري من طريق أبى إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير في قوله: (إن هذا لهو القصص الحق) فذكره مرسلا، وفي سنن أبى داود من حديث ابن عباس «صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفى حلة النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونه إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم» وهو طرف من هذه القصة.
(2) . أخرجه مسلم من طريق صفية بنت شيبة عنها. وغفل الحاكم فاستدركه.
(3) . قوله «وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه» في الصحاح: الفلذ: كبد البعير. والجمع: أفلاذ. والفلذة: القطعة من الكبد واللحم والمال وغيرها، والجمع فلذ اه، فتدبر. (ع)

(1/369)


إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63) قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)

في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63]
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63)
إن هذا الذي قص عليك من نبأ عيسى لهو القصص الحق قرئ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون، لأن اللام تنزل من (هو) منزلة بعضه، فخفف كما خفف عضد. وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها، وإما مبتدأ والقصص الحق خبره، والجملة خبر إن. فإن قلت: لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز، لأنه أقرب إلى المبتدإ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدإ. و «من» في قوله وما من إله إلا الله بمنزلة البناء على الفتح في: (إله إلا الله) في إفادة معنى الاستغراق، والمراد والرد على النصارى في تثليثهم فإن الله عليم بالمفسدين وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله: (زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون)

[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68]
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)
يا أهل الكتاب قيل هم أهل الكتابين. وقيل: وفد نجران. وقيل: يهود المدينة سواء

(1/370)


ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71)

بيننا وبينكم
مستوية بيننا وبينكم، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة قوله ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله يعنى تعالوا إليها حتى لا نقول: عزيز ابن الله، ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله، كقوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) وعن عدى بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال: هو ذاك. وعن الفضيل: لا أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وقرئ (كلمة) بسكون اللام. وقرأ الحسن (سواء) بالنصب بمعنى استوت استواء فإن تولوا عن التوحيد فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما. اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه:
اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم: إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ أفلا تعقلون حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ها أنتم هؤلاء ها للتنبيه، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره. وحاججتم جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم. وعن الأخفش: ها أنتم هو آأنتم على الاستفهام، فقلبت الهمزة هاء. ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم. وقيل (هؤلاء) بمعنى الذين و (حاججتم) صلته والله يعلم علم ما حاججتم فيه وأنتم جاهلون به ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم وما كان إلا حنيفا مسلما وما كان من المشركين كما لم يكن منكم. أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيرا والمسيح إن أولى الناس بإبراهيم إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب للذين اتبعوه في زمانه وبعده وهذا النبي خصوصا والذين آمنوا من أمته. وقرئ: وهذا النبى، بالنصب عطفا على الهاء في اتبعوه، أى اتبعوه واتبعوا هذا النبي. وبالجر عطفا على إبراهيم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71)

(1/371)


وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74)

ودت طائفة هم اليهود، دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وما يضلون إلا أنفسهم وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. أو وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم بآيات الله بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها: أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها. وشهادتهم:
اعترافهم بأنها آيات الله. أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين. أو تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنها حق. قرئ (تلبسون) بالتشديد.
وقرأ يحيى بن وثاب (تلبسون) بفتح الباء أى تلبسون الحق مع الباطل. كقوله: كلابس ثوبي زور. وقوله:
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا «1»

[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74)
__________
(1) .
فلا أب وابنا تمثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
للفرزدق. وابنا: نصب عطفا على موضع الأب، ومثل بالرفع- خبر لا أو نصب صفة لأب وابنا، والخبر محذوف.
وابنه هو عبد الملك. و «إذا هو» أى مروان، لأن مجد الابن بمجد الأب لا العكس، والمراد بالمجد هنا:
الأفعال الحميدة التي تتجدد منه، ثم إنه شبهه باللباس بجامع صون كل لصاحبه على طريق المكنية، والارتداء والتأزر تخييل. ويحتمل أنه شبه الاتصاف به ظاهرا وباطنا بالارتداء والتأزر على طريق التصريحية. ويجوز أن المراد من «إذا» الزمن المستمر، لا المستقبل فقط.

(1/372)


وجه النهار أوله. قال:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار «1»
والمعنى: أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار واكفروا به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم. وقيل: تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار من غير اعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم. وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أول النهار، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة، ولعلهم يقولون: هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون ولا تؤمنوا متعلق بقوله: (أن يؤتى أحد) وما بينهما اعتراض. أى: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام أو يحاجوكم عند ربكم عطف على أن يؤتى «2» . والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع «3» ، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أن المسلمين يحاجونكم
__________
(1) .
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
لربيع بن زياد. يرثى مالك بن زهير العيسى، ووجه النهار: أوله. والحواسر: كاشفات الوجوه، وصرف للوزن. والندبة: رفع الصوت بالبكاء على الميت. والأسحار: مقدم أعالى الأعناق. والباء بمعنى مع.
كانت عادة العرب أن لا يندبوا القتيل إلا بعد أخذ ثأره فضمن الرثاء معنى المدح لهم والتشفي من عدوهم. وقال: من كان شامتا بقتله فليجئ إلى نسائنا في أول النهار يجدهن كاشفات وجوههن يبكين عليه برفع أصواتهن، يضربن أوجههن مع صفاح أعناقهن، يعنى أننا أخذنا ثأره فحل لنسائنا البكاء عليه، وانتقد ابن العميد قوله: فليأت نسوتنا.
ولله در الامام المرزوقي حيث أبدله بقوله: فليأت ساحتنا، لأنه فيه أيضا الفرار من الاظهار موضع الإضمار.
(2) . قال محمود: «أو يحاجوكم معطوف على أن يؤتى ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه من الاعراب إشكال، وهو وقوع أحد في الواجب، لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات، إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الايمان بأن النبوة لا تخص بنى إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين، فهو إثبات محقق. ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقة، فحسن لذلك دخول أحد في سياقه، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع ... الخ» قال أحمد: أى حيث كان نكرة في سياق النفي، كما وصفه بالجمع في قوله: (فما منكم من أحد عنه حاجزين) .

(1/373)


ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76)

يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلت: فما معنى الاعتراض؟ قلت:
معناه أن الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم، أو يزيد ثباته على الإسلام، كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء يريد الهداية والتوفيق. أو يتم الكلام عند قوله: (إلا لمن تبع دينكم) على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم:
إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. وقوله: (أن يؤتى) معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعنى أن ما بكم من الحسد والبغي- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب- دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأن يؤتى أحد بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ، بمعنى: إلا أن يؤتى أحد. فإن قلت: فما معنى قوله أو يحاجوكم على هذا؟ قلت: معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم. ويجوز أن يكون (هدى الله) بدلا من الهدى، و (أن يؤتى أحد) خبر إن، على معنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. وقرئ: إن يؤتى أحد، على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب. أى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعنى ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم. ويجوز أن ينتصب (أن يؤتى) بفعل مضمر يدل عليه قوله: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) كأنه قيل: قل إن الهدى هدى الله، فلا تنكروا ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأن قولهم (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76)
عن ابن عباس من إن تأمنه بقنطار هو عبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه. ومن إن تأمنه بدينار فنحاص بن عازوراء استودعه رجل

(1/374)


من قريش دينارا فجحده وخانه. وقيل: المأمونون على الكثير النصارى، لغلبة الأمانة عليهم.
والخائنون في القليل اليهود، لغلبة الخيانة عليهم إلا ما دمت عليه قائما إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلا عليه بالمطالبة والتعنيف، أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقرئ (يؤده) بكسر الهاء والوصل، وبكسرها بغير وصل، وبسكونها. وقرأ يحيى بن وثاب:
تئمنه، بكسر التاء. ودمت بكسر الدال من دام يدام ذلك إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه لم يؤده، أى تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم ليس علينا في الأميين سبيل أى لا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأميين، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم، لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون:
لم يجعل لهم في كتابنا حرمة. وقيل: بايع اليهود رجالا من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا:
ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمى، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» «1» وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل لكم أكل أموالهم إلا بطيبة أنفسهم «2» . ويقولون على الله الكذب بادعائهم أن ذلك في كتابهم وهم يعلمون أنهم كاذبون بلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أى بلى عليهم سبيل فيهم. وقوله من أوفى بعهده جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدت بلى مسدها، والضمير في بعهده راجع إلى من أوفى، على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه. فإن قلت، فهذا عام يخيل أنه لو وفي أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله. قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء. فإن قلت: فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى من؟ قلت:
__________
(1) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم من طريق يعقوب بن النعمان القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير به مرسلا.
(2) . أخرجه عبد الرزاق والطبري من طريق أبى إسحاق عن صعصعة بن معاوية أنه سأل ابن عباس- فذكره.

(1/375)


إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77) وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78)

عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير. وعن ابن عباس: نزلت في عبد الله بن سلام وبحيرا الراهب ونظرائهما من مسلمة أهل الكتاب

[سورة آل عمران (3) : الآيات 77 الى 78]
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77) وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78)
يشترون يستبدلون بعهد الله بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم وأيمانهم وبما حلفوا به من قولهم. والله لنؤمنن به ولننصرنه ثمنا قليلا متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك. وقيل: نزلت في أبى رافع ولبابة بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب، حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الرشوة على ذلك. وقيل:
جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين، فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا: نعم. قال: لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا.
فقالوا: لعله شبه علينا فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته، ثم رجعوا إليه وقالوا: قد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا، ففرح ومارهم. وعن الأشعث بن قيس:
نزلت فى، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «شاهداك أو يمينه» فقلت إذن يحلف ولا يبالى فقال «من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان» «1» وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. والوجه أن نزولها في أهل الكتاب. وقوله: (بعهد الله) يقوى رجوع الضمير في بعهده إلى الله ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، تريد نفى اعتداده به وإحسانه إليه ولا يزكيهم ولا يثنى عليهم. فإن قلت:
أى فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان
__________
(1) . متفق عليه من حديثه. [.....]

(1/376)


ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)

مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر لفريقا هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيى بن أخطب وغيرهم يلوون ألسنتهم بالكتاب يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف وقرأ أهل المدينة: يلوون، بالتشديد، كقوله: لووا رؤسهم. وعن مجاهد وابن كثير: يلون.
ووجهه أنهما قلبا الواو المضمومة همزة، ثم خففوها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في: (لتحسبوه) ؟ قلت: إلى ما دل عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرف. ويجوز أن يراد: يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وقرئ: ليحسبوه بالياء، بمعنى: يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من الكتاب ويقولون هو من عند الله تأكيد لقوله: هو من الكتاب، وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودلالة على أنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جرامتهم على الله وقساوة قلوبهم ويأسهم من الآخرة. وعن ابن عباس: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)
ما كان لبشر تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى. وقيل: إن أبا رافع القرظي والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله! فما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرنى «1» فنزلت.
وقيل: قال رجل: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال:
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل والطبري من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبى محمد حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله فيهم (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) - الآية قال أبو رافع القرظي ورجل آخر منهم يقال له الرئيس وهو السيد- لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد دعاهم للإسلام- أتريد منا يا محمد- فذكره» وذكر الواحدي في الأسباب من طريق الكلبي وعطاء بن عياش «أن أبا رافع والرئيس من نصارى نجران قالا يا محمد- فذكره»

(1/377)


وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83)

لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله «1» والحكم والحكمة وهي السنة ولكن كونوا ربانيين ولكن يقول كونوا. والربانى: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كما يقال: رقبانى ولحياني، وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته. وعن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات ربانى هذه الأمة. وعن الحسن ربانيين علماء فقهاء. وقيل علماء معلمين. وكانوا يقولون: الشارع الرباني: العالم العامل المعلم بما كنتم بسبب كونكم عالمين «2» وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها: وقرئ: تعلمون، من التعليم. وتعلمون من التعلم تدرسون تقرءون. وقرئ تدرسون، من التدريس. وتدرسون على أن أدرس بمعنى درس كأكرم وكرم وأنزل ونزل.
وتدرسون، من التدرس. ويجوز أن يكون معناه ومعنى تدرسون بالتخفيف: تدرسونه على الناس كقوله: (لتقرأه على الناس) فيكون معناهما معنى تدرسون من التدريس. وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع، حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرئ (ولا يأمركم) بالنصب عطفا على: (ثم يقول) وفيه وجهان أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: (ما كان لبشر) والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بى. والثاني أن تجعل «لا» غير مزيدة. والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح. فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء. والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وتنصرها قراءة عبد الله ولن يأمركم. والضمير في: (ولا يأمركم) و (لا يأمركم) لبشر. وقيل الله، والهمزة في أيأمركم للإنكار بعد إذ أنتم مسلمون دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83)
__________
(1) . لم أجد له إسنادا. ونقله الواحدي في الأسباب عن الحسن البصري «أن رجلا» فذكره.
(2) . قوله «بسبب كونكم عالمين» تفسير لقراءة (تعلمون) من العلم. (ع)

(1/378)


ميثاق النبيين فيه غير وجه: أحدها أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك. والثاني أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول:
ميثاق الله وعهد الله، كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، والثالث: أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف. والرابع: أن يراد أهل الكتاب وأن يرد على زعمهم تهكما بهم، لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. وتدل عليه قراءة أبى وابن مسعود: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب واللام في لما آتيتكم لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف «1» وفي لتؤمنن لام جواب القسم، و «ما» يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا، وأن تكون موصولة بمعنى: للذي آتيتكموه لتؤمنن به. وقرئ: لما آتيناكم وقرأ حمزة: لما آتيتكم. بكسر اللام ومعناه: لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، على أن «ما» مصدرية، والفعلان معها أعنى «آتيتكم» و «جاءكم» في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه، لأجل أنى آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف.
ويجوز أن تكون «ما» موصولة. فإن قلت: كيف يجوز ذلك والعطف على آتيتكم وهو قوله (ثم جاءكم) لا يجوز أن يدخل تحت حكم الصفة، لأنك لا تقول: للذي جاءكم رسول مصدق لما معكم؟ قلت: بلى»
، لأن ما معكم في معنى ما آتيتكم، فكأنه قيل: للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرأ سعيد بن جبير «لما» بالتشديد، بمعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة،
__________
(1) . قال محمود: «اللام في لما آتيتكم لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى القسم ... الخ» قال أحمد: يريد على أن قوله: (رسول) فاعل جاء، لأنه لا يخلو من الضمير وإلا فهذا القول صحيح على أن يكون الفاعل مضمرا، ورسول: خبر الموصول. ولم يرد الزمخشري إلا الأول، وهو ظاهر الآية.
(2) . عاد كلامه، قال مجيبا عن السؤال: «قلت: بلى ... الخ» قال أحمد: يريد أن الكلام وإن خلا من العائد إلا أنه في معنى كلام يتحقق فيه العائد فيجوز دخوله في الصلة، والله أعلم.

(1/379)


قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)

ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته. وقيل: أصله لمن ما، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها فصارت لما.
ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى إصري عهدى.
وقرئ: أصرى، بالضم. وسمى إصرا، لأنه مما يؤصر، أى يشد ويعقد. ومنه الإصار، الذي يعقد به. ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر، كعبر وعبر، وأن يكون جمع إصار فاشهدوا فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على ذلكم من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل:
الخطاب للملائكة فمن تولى بعد ذلك الميثاق والتوكيد فأولئك هم الفاسقون أى المتمردون من الكفار دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة. والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما. ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره (أ) يتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل. وروى: أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» «1» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت: وقرئ: يبغون، بالياء: وترجعون، بالتاء وهي قراءة أبى عمرو، لأن الباغين هم المتولون، والراجعون جميع الناس. وقرئا بالياء معا، وبالتاء معا طوعا بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه وكرها بالسيف، أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بنى إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت «2» فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده. وانتصب طوعا وكرها على الحال، بمعنى طائعين ومكرهين

[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير
__________
(1) . لم أجد له إسنادا، وذكره الواحدي في الأسباب أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(2) . قوله «والإشفاء على الموت» أى الاشراف، كما في الصحاح. (ع)

(1/380)


كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89)

في قل وجمع في آمنا ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه. فإن قلت: لم عدى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت: لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر. ومن قال: إنما قيل (علينا) لقوله: (قل) و (إلينا) لقوله (قولوا) تفرقة بين الرسل والمؤمنين، لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسف. ألا ترى إلى قوله: (بما أنزل إليك) ، (وأنزلنا إليك الكتاب) وإلى قوله: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) . ونحن له مسلمون موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتها ثم قال ومن يبتغ غير الإسلام يعنى التوحيد والإسلام الوجه لله تعالى دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد للشياع. وقرئ: ومن يبتغ غير الإسلام بالإدغام.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89)
كيف يهدي الله قوما كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوة- وهم اليهود- كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات: وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم طعمة ابن أبيرق، ووحوح بن الأسلت، والحرث بن سويد بن الصامت. فإن قلت: علام عطف قوله وشهدوا؟ قلت: فيه وجهان: أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا، كقوله تعالى: (فأصدق وأكن من) وقول الشاعر:
... ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب........ «1» ....
__________
(1) .
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا يبين غرابها
أنشده أبو المهدى. والشؤم: ضد اليمن. والناعب: الصائح، من باب ضرب ونفع. والبين: مصدر بمعنى الانفصال والبعد. وجر ناعب على توهم: ليسوا بمصلحين ولا ناعب، وجعل هذا جمهور النحاة مطردا، ومنعه بعضهم.
وروى «إلا بشؤم» وصوت الغراب كثيرا ما تتشاءم منه العرب. وهو كناية عن تشتت شمل تلك المشائيم وعدم اتفاق كلمتهم.

(1/381)


إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91)

ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار «قد» بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق والله لا يهدي لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم إلا الذين تابوا من بعد ذلك الكفر العظيم والارتداد وأصلحوا ما أفسدوا أو ودخلوا في الإصلاح. وقيل:
نزلت في الحرث بن سويد بعد أن ندم على ردته وأرسل إلى قومه أن سلوا: هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91]
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91)
ثم ازدادوا كفرا هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، ازديادهم الكفر أن قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة تافقنا بإظهار التوبة. فإن قلت: قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى لن تقبل توبتهم؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم. فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين (لن تقبل) بغير فاء، وفي الأخرى (فلن يقبل) ؟ قلت: قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء. وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر. وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم. فإن قلت: فحين كان المعنى (لن تقبل توبتهم)

(1/382)


بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجره إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فإن قلت: فأى فائدة في هذه الكناية، أعنى أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها: ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ذهبا نصب على التمييز. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع ردا على ملء، كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال. فإن قلت: كيف موقع قوله ولو افتدى به «1» ؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى،
__________
(1) . قال محمود رحمه الله: «إن قلت كيف موقع قوله ولو افتدى به ... الخ» قال أحمد: لم يبين تطبيق لفظ الآية على هذا التقدير الذي ذهب إليه بوجه، ونحن نبين السبب الباعث له على إخراج الكلام عن ظاهره، ثم نقرر وجها يطابق الآية، وذلك أن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعى شرطا آخر يعطف عليه الشرط المقتربة به ضرورة، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى، مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه إن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى. ومنه (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) معناه- والله أعلم-: لو كان الحق على غيركم، ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا، لأن قوله: (ولو افتدى به) يقتضى شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، وهذه الحال المذكورة وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى، فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله فنقول:
قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال: منها أن يؤخذ منه على وجه لقهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول. ومنها أن يقول المفتدى في التقدير: أفدى نفسي بكذا، وقد لا يفعل. ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها، تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) والله أعلم.
وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم.
ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمنها إلى في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فانه من السهل الممتنع. والله ولى التوفيق.

(1/383)


لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (92)

كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله «1» ، كقوله: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه) والمثل يحذف كثيرا في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله ولا هيثم الليلة للمطى، وقضية ولا أبا حسن لها، تريد: ولا مثل هيثم، ولا مثل أبى حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت. وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر فكانا في حكم شيء واحد، وأن يراد: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقرئ: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا، على البناء للفاعل وهو الله عز وعلا، ونصب ملء. ومل لرض بتخفيف الهمزتين

[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (92)
لن تنالوا البر لن تبلغوا حقيقة البر، ولن تكونوا أبرارا. وقيل: لن تنالوا بر الله وهو ثوابه حتى تنفقوا مما تحبون حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها كقوله: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. وروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله. إن أحب أموالى إلى بيرحا فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ بخ ذاك مال رابح «2» أو مال رائح وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه. وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الله تعالى قد قبلها «3» منك. وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى أن يبتاع له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءت أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) «4» فأعتقها. ونزل بأبى ذر ضيف فقال للراعي
__________
(1) . (عاد كلامه) قال: «ويجوز أن يكون معنى الكلام ولو افتدى بمثله ... الخ» قال أحمد: وعلى هذا النمط يجرى الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
(2) . متفق عليه من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن انس بن مالك رضى الله عنه.
(3) . أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه: أخبرنا معمر عن أيوب وغيره «أنه لما نزلت (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) جاء زيد بن حارثة بفرس له- فذكره وهو معضل. وأخرجه الطبري من رواية عمرو بن دينار نحوه مرسلا، ورجاله ثقات.
(4) . رواه الطبري من رواية ابن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال «كتب عمر إلى أبى موسى- فذكره» .

(1/384)


كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94)

ائتني بخير إبلى فجاء بناقة مهزولة. فقال: خنتني، قال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وقرأ عبد الله: حتى تنفقوا بعض ما تحبون. وهذا دليل على أن «من» في: (مما تحبون) للتبعيض. ونحوه: أخذت من المال. ومن في من شيء لتبيين ما تنفقوا، أى من أى شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه فإن الله عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 94]
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94)
كل الطعام كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلا، وعز الرجل عزا، وفي حديث عائشة رضى الله عنها: كنت أطيبه لحله وحرمه «1» ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال الله تعالى:
لا هن حل لهم. والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق. كان به عرق النسا، فنذر إن شفى أن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه فحرمه. وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من الله، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) إلى قوله تعالى (عذابا أليما) وفي قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) إلى قوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا «2» مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل،
__________
(1) . متفق عليه من حديثها. [.....]
(2) . قوله «واشمأزوا منه وامتعضوا» أى غضبوا منه وشق عليهم، أفاده الصحاح. (ع)

(1/385)


قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95) إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)

وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم قل فأتوا بالتوراة فاتلوها أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه فمن افترى على الله الكذب
بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة فأولئك هم الظالمون
المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.

[سورة آل عمران (3) : آية 95]
قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)
قل صدق الله تعريض بكذبهم كقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) أى ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)
وضع للناس صفة لبيت، والواضع هو الله عز وجل، تدل عليه قراءة من قرأ (وضع للناس) بتسمية الفاعل وهو الله. ومعنى وضع الله بيتا للناس، أنه جعله متعبدا لهم، فكأنه قال:
إن أول متعبد للناس الكعبة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أول مسجد وضع للناس فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال: «أربعون «1» سنة» . وعن على رضى الله عنه أن رجلا قال له: أهو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة. وأول من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع للناس قال: المسجد الحرام. قلت: ثم؟ قال: بيت المقدس. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد فحيث أدركتك الصلاة فصل» .

(1/386)


العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش. وعن ابن عباس: هو أول بيت حج بعد الطوفان. وقيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات للذي ببكة البيت الذي ببكة، وهي علم للبلد الحرام: ومكة وبكة لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء: ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة «1» . وقيل: مكة: البلد، وبكة: موضع المسجد. وقيل: اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها. وعن قتادة: يبك الناس بعضهم بعضا الرجال والنساء، يصلى بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة. قال:
إذا الشريب أخذته الأكه ... فخله حتي يبك بكه «2»
وقيل: تبك أعناق الجبابرة أى تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى مباركا كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار وهدى للعالمين لأنه قبلتهم ومتعبدهم مقام إبراهيم عطف بيان لقوله (آيات بينات) . فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد «3» ؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) والثاني: اشتماله على آيات «4» لأن أثر
__________
(1) . قوله «وحمي مغمطة ومغبطة» في الصحاح: أغمطت عليه الحمى لغة في أغبطت، أى دامت اه. (ع)
(2) . يقول إذا أخذت «الأكة» وهي سوء الخلق «الشريب» الذي يشرب معك، أو الذي يسقى إبله معك، كأنها ملكته واستولت عليه «فخله» أى اتركه حتى يقتطع من الماء قطعة، أو حتى يزدحم بإبله على الماء مرة، من الازدحام. وهذا وصية بمكارم الأخلاق، والحلم عند الغضب، والسماحة.
(3) . قال محمود: «إن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد ... الخ» ؟ قال أحمد: ونظير هذا التأويل ما تقدم لي عند قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم) قال محمود فيما تقدم «والذي صدر منهم أمنية واحدة، فما وجه جمعها» وبينت فيها هذا بعينه، وهو أن الشيء الواحد متى أريد تمكينه وامتيازه عن غيره من صفة جمع، أفاد الجمع فيه ذلك، وقد لاح لي الآن في جمع الأمانى. ثم وجه آخر، وذلك أن كل واحد منهم صدرت منه هذه الأمنية، فجمعها بهذا الاعتبار تنبيها على تعددها بتعددهم، والعجب أن الجمع في مثل هذا هو الأصل، وأن الافراد إنما يقع فيه على نوع ما من الاختصار. ومنه: كلوا في بعض بطنكم تصحوا.
(4) . عاد كلامه. قال: الوجه الثاني اشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة عدوه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية، ويجوز أن يريد مقام إبراهيم وأمن من دخله، وكثيرا سواهما والله أعلم.

(1/387)


القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعاء. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قبل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما. ونحوه في طى الذكر قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهمو ... من العبيد وثلث من مواليها «1»
ومنه قوله عليه السلام «حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عينى في الصلاة «2» وقرأ ابن عباس وأبى ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة: آية بينة، على التوحيد. وفيها دليل على أن مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان. فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله: (ومن دخله كان آمنا) جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى، لأن قوله: (ومن دخله كان آمنا) دل على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، من دخله كان آمنا صح، لأنه في معنى قولك: فيه آية بينة، أمن من دخله. فإن قلت: كيف
__________
(1) . لجرير يقول: كانت هذه القبيلة منقسمة أثلاثا، فثلثها من العبيد الأرقاء، وثلثها من عتقى القبيلة أو من عتقى العبيد. وعليه فالاضافة على معنى «من» ولم يذكر الثلث الثالث، لأنه من المعلوم أنه لم يبق إلا السادة الأشراف، بدليل الحصر في الأثلاث، والترقي من العبيد إلى العتقى. وهذا يحتمل الذم، وأن ثلث القبيلة فقط كرام والباقي لئام. ويحتمل المدح وأن خدمهم من العبيد كثير.
(2) . قد تقدم أنه أورده عند قوله تعالى: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) مختصرا. وقد تقدم أن النسائي أخرجه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان ومن طريق سلام بن مسكين، كلاهما عن ثابت عن أنس.
ومن طريق سيار. رواه أحمد في الزهد والحاكم في المستدرك. ومن طريق سلام أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وابن سعد والبزار وأبو يعلى، وابن عدى في الكامل، وأعله به، والعقيلي في الضعفاء كذلك. وقال الدارقطني في علله.
رواه أبو المنذر سلام. وسلام بن أبى الصهباء وجعفر بن سليمان، فرووه عن ثابت عن أنس، وخالفهم حماد بن زيد عن ثابت مرسلا. وكذا رواه محمد بن ثابت البصري. والمرسل أشبه بالصواب. وقد رواه عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد عن غير أبيه من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت مرسلا أيضا. ويوسف ضعيف. وله طريق أخرى معلولة عند الطبراني في الأوسط عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن يحيى بن عثمان الحربي عن الهقل بن زياد عن الأوزاعى عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس مثله قلت: ليس في شيء من طرقه لفظ «ثلاث» بل أوله عند الجميع «حبب إلى من دنياكم النساء- الحديث» وزيادة «ثلاث» تفسد المعنى. على أن الامام أبا بكر بن فورك شرحه في جزء مفرد بإثباتها، وكذلك أورده الغزالي في الأحياء واشتهر على الألسنة.

(1/388)


كان سبب هذا الأثر؟ قلت: فيه قولان: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى يغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقى أثر قدميه عليه. ومعنى (ومن دخله كان آمنا) معنى قوله: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام (رب اجعل هذا البلد آمنا) وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضى الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» «1» وعند أبى حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة «2» آمنا» وعنه عليه الصلاة والسلام «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة «3» » وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود: وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة، فقال «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر «4» » وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من صبر على حر مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي «5»
عام» (من)
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق في كتاب الحج من مصنفه وأبو الوليد الأزرقى في تاريخ مكة من طريقه عن ابن جريج، سمعت ابن أبى حسين عن عكرمة بن خالد قال قال عمر بهذا وهذا منقطع.
(2) . قال إسحاق: أخبرنا عيسى ابن يونس حدثنا ثور بن يزيد حدثني شيخ عن أنس به. ورواه البيهقي في الشعب من طريق ابن أبى فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس به وزاد «من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» وأخرجه أبو داود الطيالسي تاما من حديث عمر رضى الله عنه بإسناد فيه ضعف، وهو مجهول، وقال عبد الرزاق في مصنفه، أخبرنا يحيى بن العلاء وغيره، وغالب بن عبيد الله يرفعه، فذكره، ويحيى وغالب ضعيفان جدا وأخرجه الدارقطني من رواية هارون بن أبى قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب بتمامه، وهو معلول «ورواه الطبراني في الأوسط والصغير، من وجهين عن عبد الله بن المؤمل عن أبى الزبير عن جابر دون الزيادة، وأورده ابن عدى في ترجمة عبد الله بن المؤمل: وأخرجه البيهقي في الشعب والطبراني من حديث عبد الغفور ابن سعيد الأنصارى عن أبى هاشم الرماني عن زاذان عن سلمان قال البيهقي عبد الغفور ضعيف، وقد روى بإسناد أحسن من هذا، ثم ذكر طريق عبد الله بن المؤمل، وقد أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق عبد الغفور ونقل عن ابن حبان أنه قال: كان يضع الحديث. قلت: وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه فانه لم يختص بعبد الغفور
(3) . لم أجده.
(4) . لم أجده.
(5) . هكذا ذكره أبو الوليد الأزرقى في تاريخ مكة، لكن بغير إسناد. وقد أخرجه العقيلي في الضعفاء في ترجمة الحسن بن رشيد عن ابن جريج عن عطاه عن ابن عباس رفعه «من صبر في حر مكة ساعة باعد الله منه جهنم سبعين خريفا، وقال هذا باطل، لا أصل له، والحسن بن رشيد يحدث بالمناكير. وأورده أبو شجاع في الفردوس من حديث أنس، بلفظ «تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائة عام» .

(1/389)


استطاع بدل من الناس. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة «1» ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء. وعن ابن الزبير: هو على قدر القوة. ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه. وعنه: ذلك على قدر الطاقة، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة، وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع. وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في إليه للبيت أو للحج. وكل مأتى إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ومنها قوله: (ولله على الناس حج البيت) «2» يعنى أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: (ومن كفر) مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» «3» ونحوه من التغليظ «من ترك الصلاة متعمدا
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة، من حديث عمر، بلفظ السبيل الزاد والراحلة» فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي وهو ضعيف والحاكم من حديث أنس، وهو معلول. وأخرجه الدارقطني والحاكم من رواية قتادة عن أنس، لكن قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا، وأخرجه ابن ماجة عن عباس، وإسناده ضعيف، والصحيح عنه قوله، كما أخرجه ابن المنذر. وقال: لا يثبت مرفوعا. وفي الباب عن على وابن مسعود. وعائشة وجابر وعبد الله ابن عمر. وأخرجها الدارقطني بأسانيد ضعيفة. [.....]
(2) . قال محمود: «وفي الكلام أنواع من التوكيد منها قوله: (ولله على الناس) أى في رقابهم لا ينفكون عنه ...
الخ» قال أحمد: قوله «إن المراد بمن كفر من ترك الحج وعبر عنه بالكفر تغليظا عليه» فيه نظر، فان قاعدة أهل السنة توجب أن تارك الحج لا يكفر بمجرد تركه قولا واحدا، فيتعين حمل الآية على تارك الحج جاحدا لوجوبه، وحينئذ يكون الكفر راجعا إلى الاعتقاد لا إلى مجرد الترك. وأما الزمخشري فيستحل ذلك لأن تارك الحج بمجرد الترك يخرج من ربقة الايمان ومن اسمه ومن حكمه، لأنه عنده غير مؤمن ومخلد تخليد الكفار. وعلى قاعدة السنة يتعين المصير إلى ما ذكرناه، هذا إن كان المراد بمن كفر من ترك الحج. ويحتمل أن يكون استئناف وعيد للكافر، فيبقى على ظاهره والله أعلم.
(3) . أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد الله الباهلي: حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن على رفعه «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» وقال: غريب وفي إسناده مقال.
وهلال بن عبد الله مجهول. والحارث يضعف. وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال: لا نعلمه عن على إلا من هذا الوجه وأخرجه ابن عدى والعقيلي في ترجمة هلال ونقلا عن البخاري أنه منكر الحديث. وقال البيهقي في الشعب:
تفرد به هلال. وله شاهد من حديث أبى أمامة، أخرجه الدرامى بلفظ «من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» أخرجه من رواية شريك عن ليث ابن أبى سليم عن عبد الرحمن بن سابط عنه. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في الشعب. وقد أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى الأحوص عن ليث عن عبد الرحمن مرسلا، لم يذكر أبا أمامة. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن عدى. وابن عدى أورده في الكامل في ترجمة أبى المهزوم يزيد بن سفيان عن أبى هريرة مرفوعا ونحوه. ونقل عن الفلاس أنه كذب أبا المهزم وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه. لأن الطريق إلى أبى أمامة ليس فيه من اتهم بالكذب، فضلا عمن كذب.

(1/390)


فقد كفر» «1» ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله (عن العالمين) وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود، فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب وروى أنه لما نزل قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم «2» فخطبهم فقال، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه، فنزل (ومن كفر) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» «3» وروى «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» «4» وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت
__________
(1) . أخرجه الدارقطني في العلل. من رواية أبى النضر هاشم بن القاسم عن أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس قال: رواه على بن الجعد عن أبى جعفر عن الربيع مرسلا. وهو أشبه بالصواب. ورواه البزار من حديث أبى الدرداء قال «أوصانى ابو القاسم صلى الله عليه وسلم أن لا أشرك بالله شيئا وإن حرقت، ولا أترك صلاة مكتوبة متعمدا. فمن تركها متعمدا فقد كفر، ولا أشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر» أخرجه من رواية راشد الحنانى عن شهر بن حوشب. وقال: راشد بصرى ليس به بأس. وشهر مشهور. والحديث عند الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث بريدة دون قوله «متعمدا» ولفظه «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» قد تقدم في البقرة حديث جابر عند مسلم «بين العبد والكفر ترك الصلاة» وروى الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق قال «كان أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة» وإسناده صحيح. الحاكم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه
(2) . أخرجه الطبري من طريق جويبر عن الضحاك قال: «لما نزلت- فذكره» وهو معضل. وجويبر متروك الحديث ساقط
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة أخبرنا يزيد بن هارون عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني عن عبد الله بن عمر قال «تمتعوا من هذا البيت، فانه- فذكره موقوفا» وقد روى مرفوعا: أخرجه ابن حبان والحاكم والبزار والطبراني من طريق سفيان بن حبيب عن حميد بهذا.
(4) . لم أره هكذا. والذي في الدارقطني في آخر كتاب الحج من السنن من رواية عبد الله بن عيسى الجندي عن محمد ابن أبى محمد عن أبيه عن أبى هريرة- رفعه «حجوا قبل أن لا تحجوا. قالوا: وما شأن الحج يا رسول الله، قال: يفعله أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى الحج أحد» وعبد الله ومحمد مجهولان، قاله العقيلي.

(1/391)


قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99) ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100)

في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت «1» . وعن عمر رضى الله عنه: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا «2» . وقرئ حج البيت بالكسر.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99)
والله شهيد الواو للحال. والمعنى: لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم والحال أن الله شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته. قرأ الحسن: تصدون، من أصده عن سبيل الله عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم. وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله تبغونها عوجا تطلبون لها اعوجاجا «3» وميلا عن القصد والاستقامة. فإن قلت: كيف تبغونها عوجا «4» وهو محال؟ قلت فيه معنيان: أحدهما أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم وأنتم شهداء أنها سبيل الله لا يصد عنها إلا ضال مضل، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار وما الله بغافل وعيد، ومحل تبغونها نصب على الحال.

[سورة آل عمران (3) : آية 100]
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100)
__________
(1) . لم أجده.
(2) . لم أجده. وفي مصنف عبد الرزاق من رواية سالم بن أبى حفصة عن ابن عباس قال «لو ترك الناس زيارة هذا البيت عاما واحدا ما مطروا» وهو منقطع.
(3) . قال محمود: «أى تطلبون لها اعوجاجا ... الخ» قال أحمد: وفي تقديره الجار مع ضمير المفعول حيث قال: تطلبون لها اعوجاجا، تنقيص من المعنى، وأتم من إعرابه معنى أن تجعل الهاء هي المفعول به وعوجا حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجا موقع الاسم. وفي هذا الاعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم، والله أعلم.
(4) . قوله «فان قلت كيف تبغونها عوجا» لعله: كيف قال تبغونها. أو لعله: كيف يبغونها. (ع)

(1/392)


وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101)

قيل مر شاس بن قيس اليهودي «1» - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث «2» وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: أتدعون الجاهلية «3» وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.

[سورة آل عمران (3) : آية 101]
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101)
وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية «4» وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ومن يعتصم بالله ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم فقد هدي فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأن المعتصم
__________
(1) . أخرجه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه بلفظه وأخرجه ابن إسحاق في المغازي، من طريق الطبري أيضا قال: حدثنا الثقة عن زيد بن أسلم مطولا. وذكره ابن هشام فلم يذكر إسناد إسحاق. وزاد في آخره «وكان يومئذ على الأوس حضير بن سماك والدا سيد، وكان على الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعا. وأنزل الله في شاس (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب) - الآية وذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن زيد بن أسلم بغير إسناد.
(2) . قوله «يوم بعاث» بعاث بالضم يوم وقعة للأوس والخزرج. (ع)
(3) . قوله «فقال أتدعون الجاهلية» في الشهاب على البيضاوي أنه محرف والرواية أبدعوى الجاهلية أى أتأخذون بها (ع)
(4) . قوله «على لسان الرسول غضة طرية» في الصحاح: شيء غض، أى طرى، وكل ناضر غض، نحو الشباب وغيره. وفيه شيء طرى، أى غض بين الطراوة. (ع) [.....]

(1/393)


ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)

بالله متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)
حق تقاته واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم، ونحوه (فاتقوا الله ما استطعتم) يريد: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا. وعن عبد الله:
هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى «1» » وروى مرفوعا. وقيل:
هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد ولا تموتن معناه:
ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدو: لا تأتنى إلا وأنت على حصان، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان. قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى:
واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه. أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده وهو الإيمان والطاعة أو بكتابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم» «2» . ولا تفرقوا ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف
__________
(1) . قال المصنف وروى مرفوعا انتهى. فأما الموقوف فأخرجه الحاكم من طريق مسعر عن زيد عن مرة عنه، وكذلك أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبري وابن أبى حاتم والطبراني، وقال أبو نعيم في ترجمة مسعر من الحلية:
حدثنا سليمان بن أحمد، وهو الطبراني- فذكره. ثم قال: هكذا رواه الناس عن زيد موقوفا. ورفعه النضر عن محمد بن طلحة عن زيد ثم ساقه مرفوعا. وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن وهب عن سفيان الثوري عن زيد مرفوعا أيضا. وله شاهد عن ابن عباس مرفوعا. أخرجه البيهقي في الشعب من رواية ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس. لكنه من نسخة عبد الغنى بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني. وهي ساقطة.
(2) . أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، من حديث الحارث الأعور عن على رضى الله عنه مطولا. وفيه قصة وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات. وإسناده مجهول انتهى. وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والدارمي والبزار من طريق الحارث. قال البزار: لا نعلمه إلا من طريق على. ولا نعلمه رواه عنه إلا الحارث انتهى. وله شاهد عن معاذ بن جبل. أخرجه الطبراني من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن ابن إدريس بلفظ «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن فشددها. قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: ما المخرج منها؟
قال: كتاب الله- فذكر الحديث بطوله. ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود مرفوعا أيضا «إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين، والشافع، عصمة لمن تمسك به ... الحديث» أخرجه من طريق صالح بن عمر عن إبراهيم البحري عن أبى الأحوص عنه. وإبراهيم ضعيف.

(1/394)


بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادى بعضكم بعضا ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام. كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام. وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله: وقيل: هم الأوس والخزرج، كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكنتم على شفا حفرة من النار وكنتم مشفين «1» على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر فأنقذكم منها بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا «2» وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة وهو منها كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم «3»
__________
(1) . قوله «وكنتم مشفين» أى مشرفين. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «الضمير للشفا وهو مذكر وإنما أنثه للاضافة ... الخ» قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الحفرة فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها. والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتن بالانقاذ منها حقيقة. وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا فلا يستلزمه الكون على الشفا غالبا، من الهوى إلى الحفرة، فيكون الانقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوى فيها، فاضافة المنة إلى الانقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع، مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو على في التعاليق من ضرورة الشعر.
خلاف رأيه في الإيضاح. نقله ابن يسعون. وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالانقاذ منها، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالانقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا لولا الانقاذ الرباني. ألا ترى إلى قوله عليه السلام «المرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وإلى قوله تعالى: (أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم) وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله: (هار) والله أعلم.
(3) .
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أنى عندكم غير مفحم
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
للأعشى ميمون بن قيس وفيه وجهان: الأول أنه يصف رجلا بإفشاء السر، وأنه لو تحيل لكتمه لم يقدر، أى لو بالغت في الكتمان حتى كأنك كنت في بئر عميق. فالعدد كناية عن ذلك، ثم رقيت من قعره وبلغت أسباب السماء، أى أبوابها. وقوله «بسلم» مبالغة في التشبيه، كأنه صعد حقيقة على سلم «ليستدرجنك» بالنون المخففة، أى ليستنزلنك «القول» من السماء درجة درجة إلى قعر البئر كما كنت ويفسد تحيلك، فتهره أى تقوله. ودرج الصبى:
إذا قارب بين خطاه. ودرج القوم: مات بعضهم إثر بعض. وهر الكلب هريرا إذا صوت. وفيه إشعار بتشبيهه بالكلب النابح. وتعلم، أى وأجيب أنا عن قولك فتعلم انى غير عاجز عن الجواب فيما بينكم. وروى «عنكم» بدل «عندكم» وهي هي. ورجع إلى بيان استدراج القول له فقال: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ونشرته عنى.
وشرق: إذا غص بريقه أو نحوه. وذاع الخبر ذيعا وذيوعا: انتشر. وأذاعه: نشره. أى لم تقدر على ابتلاعه وكتمانه كما لم يبلغ صدر القناة أى الرمح الدم الذي يكون عليه من القتيل. وشبه القول الذي لم يقدر على كتمانه بالشيء الذي لم يقدر على ابتلاعه، فاستعار الشرق للعجز عن الكتمان على طريق التصريحية. وشبه الشرق الأول بالثاني ليفيد ضمنا أن قوله كالدم للمبالغة في عدم إمكان الكتمان. الوجه الثاني أن معناه لو كنت متباعدا عنى كأنك في قعر البئر ورقيت منه إلى السماء ليقربنك القول إلى شيئا فشيئا حتى تهره، أى تكرهه وتبغضه، وتعلم أنى عندكم غير عاجز عن الكلام الذي يقربك إلى، وتشرق بالقول الذي قد أذعته أنا عنك فالتاء على هذا للمتكلم، أى لم تقدر على استماعه ودخوله أذنك كما لم تقدر صدر القناة على ابتلاع الدم. وصدر القناة مذكر. ولكن اكتسب التأنيث من المضاف إليه، فلذلك أنث فعله وقال شرقت، وقيل القناة هنا مجرى الماء، وأين هي من الدم.

(1/395)


ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)

وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة. فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها كذلك مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون إرادة أن تزدادوا هدى.

[سورة آل عمران (3) : آية 104]
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)
ولتكن منكم أمة من للتبعيض «1» ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإنكار عليه عبث،
__________
(1) . قال محمود «من للتبعيض ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) فإنما وجه الخطاب على نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر في معاده، وكذلك قوله: (وتعيها أذن واعية)
حتى ورد في التفسير أن المراد أذن واحدة مخصوصة وهي أذن على بن أبى طالب رضى الله عنه.

(1/396)


كالإنكار على أصحاب المآصر «1» والجلادين وأضرابهم. وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمة تأمرون، كقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون) . وأولئك هم المفلحون هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله وأوصلهم «2» » . وعنه عليه السلام:
«من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه «3» » وعن على رضى الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ومن شنئ الفاسقين وغضب لله، غضب الله له «4» . وعن حذيفة: يأتى على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري. إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب. وأما النهى عن المنكر فواجب كله، لأن جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح. فإن قلت: ما طريق الوجوب؟ قلت: قد اختلف فيه الشيخان، فعند أبى على: السمع والعقل، وعند أبى هاشم: السمع وحده. فإن قلت: ما شرائط النهى؟
قلت: أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح، لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا، لأن الواقع لا يحسن النهى عنه، وإنما يحسن الذم عليه والنهى عن أمثاله، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد في منكراته، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث.
فإن قلت: فما شروط الوجوب؟ قلت: أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب
__________
(1) . قوله «المآصر» جمع مأصر، وهو المحبس أى السجن، أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبري والبيهقي في الشعب من رواية شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن زوج درة بنت أبى لهب قالت «كنت عند عائشة، فجيء برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان ناداه وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أى الناس خير؟ فذكره» .
(3) . أخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة كادح بن رحمة من روايته عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب عن مسلم بن جابر عن عبادة بن الصامت. وكادح ساقط. وله شاهد مرسل أخرجه على بن معبد في كتاب الطاعة عن بقية عن حسان بن سليمان عن أبى نضرة عن الحسن البصري. ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي.
(4) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة على مطولا، من رواية خلاس بن عمرو قال: كنا جلوسا عند على ابن أبى طالب رضى الله عنه إذ أتاه رجل من خزاعة فقال: يا أمير المؤمنين هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الإسلام؟ قال: سمعته يقول: بنى الإسلام على أربعة أركان: الصبر واليقين والجهاد والعدل- فذكره- إلى أن قال: والجهاد أربع شعب: الأمر بالمعروف: والنهى عن المنكر. والصدق في مواطن الصبر. وشنآن الفاسقين.
فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن. ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الكافر. ومن صدق في مواطن الصبر أحرز دينه. وقضى ما عليه. ومن شنئ الفاسقين فقد غضب لله. ومن غضب لله غضب الله له» وهو من طريق إسحاق ابن بشر عن مقاتل. وهما ساقطان. قال: ورواية العلاء بن عبد الرحمن عن قبيصة بن جابر عن على رضى الله عنه.

(1/397)


ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107)

قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة. فإن قلت: كيف يباشر الإنكار؟ قلت: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأن الغرض كف المنكر. قال الله تعالى: فأصلحوا بينهما، ثم قال: فقاتلوا، فإن قلت: فمن يباشره؟ قلت:
كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار، لأنه معلوم قبحه لكل أحد. وأما الإنكار الذي بالقتال، فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها. فإن قلت: فمن يؤمر وينهى؟ قلت: كل مكلف، وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها. فإن قلت: هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه قلت: نعم يجب عليه، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر. فإن قلت. كيف قيل (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) ؟ قلت: الدعاء إلى الخير «1» عام في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خاص، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله، كقوله: (والصلاة الوسطى) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 105 الى 107]
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمت الله هم فيها خالدون (107)
__________
(1) . (عاد كلامه) قال: «وقوله يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صدر الكلام بالدعاء ... الخ» قال أحمد: عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام، كقوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) وكقوله: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) وكقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وشبه ذلك، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات. وأما هذه الآية، فقد ذكر بعد العام فيها جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهى، لا يعدو واحدا من هذين، حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال: فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما، ثم مفصلا. وفي تنبيه أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية والله أعلم، إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري، وما أرى هذا العرف ثابتا، والله أعلم.

(1/398)


تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109)

كالذين تفرقوا واختلفوا وهم اليهود والنصارى من بعد ما جاءهم البينات الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق. وقيل: هم مبتدعو هذه الأمة، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية «1» وأشباههم يوم تبيض وجوه نصب بالظرف وهولهم، أو بإضمار اذكر، وقرئ:
تبيض وتسود، بكسر حرف المضارعة. وتبياض وتسواد، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله أكفرتم فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم.
والظاهر أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه. وعن عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بنى قريظة والنضير. وقيل هم المرتدون. وقيل أهل البدع والأهواء، وعن أبى أمامة: هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء. وخير قتلى تحت أديم السماء: الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب: أشىء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة.
قال: فما شأنك دمعت عيناك، قال: رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية، ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرا. فأعاذك الله منهم «2» . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ففي رحمت الله ففي نعمته وهي الثواب المخلد، فإن قلت: كيف موقع قوله هم فيها خالدون بعد قوله: (ففي رحمت الله) ؟ قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109)
__________
(1) . قوله «وهم المشبهة والمجبرة والحشوية» إن أراد بهم أهل السنة ومن وافقهم كعادته، فقد أفرط في التعصب للمعتزلة. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة بن عمار عن شداد عن أبى أمامة هكذا. ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة، وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبراني كلهم من طريق أبى غالب. بتمامه. وله إسناد آخر أخرجه الطبراني من رواية شهر بن حوشب عن أبى أمامة.

(1/399)


كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111)

تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد نتلوها عليك ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه وما الله يريد ظلما فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ثواب محسن. ونكر ظلما وقال للعالمين على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، فسبحان من يحلم عمن يصفه بإرادة القبائح «1» والرضا بها.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 111]
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111)
«كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: (وكان الله غفورا رحيما) ومنه قوله تعالى كنتم خير أمة كأنه قيل: وجدتم خير أمة، وقيل: كنتم في علم الله خير أمة. وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة، موصوفين به أخرجت أظهرت، وقوله تأمرون كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة، كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وتؤمنون بالله جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله، لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا) والدليل عليه قوله تعالى ولو آمن أهل الكتاب مع إيمانهم بالله لكان خيرا لهم
لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين منهم المؤمنون كعبد الله بن سلام وأصحابه وأكثرهم الفاسقون المتمردون في الكفر لن يضروكم إلا أذى
__________
(1) . قوله «فسبحان من يحلم عمن يصفه بارادة القبائح» يريد أهل السنة القائلين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كما أجمع عليه السلف. (ع) [.....]

(1/400)


ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)

إلا ضررا مقتصرا على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر ثم لا ينصرون ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت لمن أسلم منهم، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأن عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله: (ثم لا ينصرون) ؟ «1» قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت:
لو جزم لكان نفى النصر مقيدا بمقاتلتهم، كتولية الأدبار. وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فما معنى التراخي في ثم؟ قلت: التراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار. فإن قلت: ما موقع الجملتين أعنى (منهم المؤمنون) و (لن يضروكم) ؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاءا من غير عاطف.

[سورة آل عمران (3) : آية 112]
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤ بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)
بحبل من الله في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا جزم المعطوف في قوله ثم لا ينصرون ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقاتلة، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا. ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو، فإنها تستعار هاهنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان وأسمح في رتب الإحسان، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة، والله أعلم.

(1/401)


ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116)

حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعنى ذمة الله وذمة المسلمين، أى لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية وباؤ بغضب من الله استوجبوه وضربت عليهم المسكنة كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله أى ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، ثم قال ذلك بما عصوا أى ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أن الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله، وأن سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه (مما خطيئاتهم أغرقوا) ، (وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 116]
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116)
الضمير في ليسوا لأهل الكتاب، أى ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله من أهل الكتاب أمة قائمة كلام مستأنف لبيان قوله: (ليسوا سواء) كما وقع قوله: (تأمرون بالمعروف) بيانا لقوله: (كنتم خير أمة) ، أمة قائمة: مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، لأنه أبين لما يفعلون وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم «1» ، وقرأ هذه الآية. وقوله يتلون ويؤمنون في محل الرفع صفتان لأمة، أى أمة قائمة تالون مؤمنون، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار، كلهم من رواية عاصم عن زرعة.

(1/402)


مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117)

ساجدين، ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيرا، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم. ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين فلن يكفروه لما جاء وصف الله عز وعلا بالشكر في قوله: (والله شكور حليم) في معنى توفيه الثواب نفى عنه نقيض ذلك. فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين. وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان، فكأنه قيل: فلن تحرموه بمعنى فلن تحرموا جزاءه. وقرئ يفعلوا، ويكفروه، بالياء والتاء والله عليم بالمتقين بشارة للمتقين بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.

[سورة آل عمران (3) : آية 117]
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117)
الصر: الريح الباردة «1» نحو: الصرصر. قال:
لا تعدلن أتاويين تضربهم ... نكباء صر بأصحاب المحلات «2»
__________
(1) . قال محمود: «الصر الريح الباردة ... الخ» قال أحمد: كلها أوجه وجيهة، وهذا الأخير أحسنها وأوجهها، لكن لم يبين الزمخشري وجه الظرفية في الأمثلة المذكورة، ونحن نبينها فنقول: إذا قلت مثلا: إن ضيعتي زيد ففي عمرو بعد الله كاف، فقولك «كاف» أثبت به منكرا مجردا من القيود المشخصة المخصصة، ثم جعلت المعين الذي هو عمرو محلا له، فشخصت ذلك المطلق المجرد بهذا المعنى، فهي ظرفية صحيحة، إذ كل مقيد ظرف لمطلقه، إذ المطلق بعض المقيد، فتنبه لهذه النكتة فإنها لطيفة، والله الموفق.
(2) . الأتاوى: الغريب البعيد، كأنه منسوب إلى الأتاوة وهي الرشوة والخفالة، لأنه قد يبذلها على إقامته في غير وطنه. والنكباء: الريح الشديدة. والصر الحارة، وقيل الباردة. وقال الزجاج: صوت النار في الريح. وقيل:
صوت الريح. وقيل: الجو. وقيل: البرد. وعلى هذا لو روى بالجر على الاضافة لكان وجيها. والمحلات قيل هي أدوات البيت كالفأس والقدر والغربال والدلو. ويجوز أنها البيوت وهو الظل من البيت. يقول: لا تسو بين الغرباء وبين أصحاب البيوت. وروى: لا يعدلن أتاويون، بالبناء للمجهول، وما بعده نائب فاعل. ورواه الجوهري بالبناء الفاعل، وقال: أى لا يعدلن أتاويون أحدا بأصحاب المحلات، فحذف المفعول وهو مدان، وفسر المحلات فحذف الموصول وهو مدان، وفسر المحلات فيه بالأدوات كافة، لأن الأتاوي يستعيرها من أصحابها. وعلى كل فالنون للتوكيد.

(1/403)


كما قالت ليلى الأخيلية:
ولم يغلب الخصم الألد ويملإ ... الجفان سديفا يوم نكباء صرصر «1»
فإن قلت: فما معنى قوله مثل ريح فيها صر
؟ قلت: فيه أوجه: أحدهما أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرة بمعنى فيها قرة صر، كما تقول: برد بارد على المبالغة. والثاني:
أن يكون الصر مصدرا في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث: أن يكون من قوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. قال:
وفى الرحمن للضعفاء كافى «2»
__________
(1) .
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع من المتغور
ولم يغلب الخصم الألد ويملأ ... الجفان سديفا يوم نكباء صرصر
لليلى الأخيلية ترثى صاحبها توبة بن الحمير وتتذكر أحواله وتعد مناقبه. وفتى الفتيان: أى هو الفتى من بينهم وليسوا فتيانا بالنسبة له وإن كانوا فتيانا في أنفسهم، وتوبة بدل. ولم ينخ من أناخ بعيره، خبر كأن، أى كأنه لم ينخ بعيره بمحل مرتفع. ويروى: لم يسر بنجد، ولم يطلع من أطلع بمعنى طلع، أو لم يطلع بعيره من المتغور على اسم المفعول، أى المكان المنخفض ما فيه، وكأنه لم يغلب الخصم الشديد الخصومة. ويروى الخصم الصحاح بفتح الصاد، بمعنى الصحيح، وكأنه لم يملأ الجفان سديفا، أى قطعا بيضا من السنام في زمن الريح الشديدة الباردة، أو كثيرة الصرير وهو التصويت تعنى أنه كان يفعل ذلك كله، ثم كأنه اليوم لم يفعل لموته.
(2) .
لقد زاد الحياة إلى حبا ... بنانى إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صاف
وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولولا هن قد سويت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كافى
لأبى خالد الخارجي. وقيل: لمحمد بن عبد الله الأزدى. وقيل: لعمران بن حطان. وقيل غير ذلك لامه قطري ابن الفجاءة عن التخلف عن الحرب فاعتذر بذلك. وبناتي فاعل زاد. وأحاذر أى أخاف أن يدركهن الفقر بعد موتى، وكنى عن ذلك برؤيتهن له مبالغة، لأنه إذا خاف الرؤية خاف اللحوق. ويروى مخافة أن يذقن البؤس، أى الشدة، فشبهه بمطعوم على سبيل المكنية والذوق تخييل. ورنق الماء كدر، وترنق تكدر، ورنقه وأرنقه كدره، والرنق بالتحريك مصدر كالكدر فسكن وأريد منه الماء الكدر. وروى «زيفا» أى مغشوشا مكدرا، فالمراد واحد، فشبه العيش المنغص به، وشبه العيش الناعم بالماء الصافي على طريق التصريح والشرب ترشيح، وكسى بوزن فرح لازم ضد عرى. ويجوز هنا بناؤه للمجهول، من كسى المتعدي كدعا. وإن للشرط المجرد عن الشك أو بمعنى إذ. وتنبو ترتفع عنهن، كناية عن عدم التزوج بهن. والكرم بالسكون، وقيل- بالكسر- وصف من الكرم يقع على الواحد والمتعدد مذكرا ومؤنثا. ويروى «عن رم» أى باليات، وهو أشبه بالسياق. والعجاف جمع عجفاء، أى مهزولة، أى لا يلتفت إليهن مع كونهن كريمات لهزالهن ورثاثة حالهن. وسويت مهري: وضعت عليه آلات الحرب ومهدته وهيأته لها. ويروى «قد سموت مهري» ولعله بتخفيف الميم بمعنى علوت عليه وركبته وقيل: بمعنى وضعت عليه سمات الحرب، فلعله مقلوب. و «سمت» وروى سومت بالتشديد، وهو الذي يصلح أنه بمعنى جعلت عليه علامات الحرب لا ذاك، وجود من جانب الله عز وجل شخصا كافيا، ولا حجر في المبالغة لا سيما على العرب. وفيه نوع استرجاع إلى الله وتفويض إليه وتوكل عليه، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين.

(1/404)


ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)

شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى الله مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث وم ظلموا أنفسهم
فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأن الهلاك عن سخط أشد وأبلغ. فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه «1» وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح.
قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: (كمثل الذي استوقد نارا) ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ:
تنفقون، بالتاء ما ظلمهم الله
الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أى: وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد، بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد:
ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 119]
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)
__________
(1) . قال محمود «فان قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه ... الخ» قال أحمد: أما إيراد السؤال فلا ترتضي صيغته لما فيها من حيف بالأدب، إذ جزم السائل المقدر بأن كلام الله تعالى غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد عن كتاب الله تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة، لا بصيغة الاعتراض المحضة والعبارة الصحيحة أن يقال: فما وجه مطابقة الكلام للغرض. ولا ينبغي التساهل في ذلك، فان أحدنا لو أورد سؤالا على كلام إمام معتبر بمرأى منه ومسمع، تحيل في أنواع التلطف في إيراده وبعد عن أمثال هذه العبارة. ولعل الاعتراض على ذلك الامام يكون واردا لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب الله تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما يسئل عن كتاب الله تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد وأن يتأدب في الإيراد ثم نعود إلى جواب الزمخشري الثاني وهو قوله «إن المراد مثل إهلاك ما ينفقون» فنقول: لم يكشف الغطاء بهذا الجواب عن المطابقة المسئول عنها، والسؤال باق. وذلك أن الريح المشبه بها ليست الإهلاك وإنما هي المهلكة. ولا مطابقة بين المصدر والاسم إلا بتأويل آخر، وحينئذ يبعد هذا الوجه. وأقرب معه أن يقول: أصل الكلام والله أعلم: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته. ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهو تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله تعالى: (فرجل وامرأتان، ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما ... ) الآية ومثله أيضا: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة، والله الموفق.

(1/405)


بطانة الرجل وولجيته: خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره «1» ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الأنصار شعار والناس دثار «2» » من دونكم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز تعلقه بلا تتخذوا، وببطانة على الوصف، أى بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم لا يألونكم خبالا يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين.
والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال: الفساد ودوا ما عنتم ودوا عنتكم، على أن «ما» مصدرية. والعنت: شدة الضرر والمشقة. وأصله انهياض العظم بعد جبره، أى تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه قد بدت البغضاء من أفواههم لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين.
وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك.
وفي قراءة عبد الله قد بدأ البغضاء قد بينا لكم الآيات الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه إن كنتم تعقلون ما بين لكم فعملتم به. فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت يجوز أن يكون لا يألونكم صفة للبطانة وكذلك قد بدت البغضاء كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم. وأما قد بينا فكلام مبتدأ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة ها للتنبيه. وأنتم مبتدأ. وأولاء خبره. أى أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب. وقوله تحبونهم ولا يحبونكم بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء. وقيل أولاء موصول (تحبونهم) صلته. والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا يحبونكم
__________
(1) . قوله «بشقوره» في الصحاح الشقور بالضم الأمور اللاصقة بالقلب المهمة له الواحد شقر (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني في أثناء حديث طويل، أوله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح جنينا قسم المغانم» .

(1/406)


إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120)

أى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. ونحوه (فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحرث بن ظالم المري:
فأقتل أقواما لئاما أذلة ... يعضون من غيظ رؤس الأباهم «1»
قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار إن الله عليم بذات الصدور فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء، وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها. فإن قلت: فكيف معناه على الوجهين؟ قلت: إذا كان داخلا في جملة المقول فمعناه: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا، وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان خارجا فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعى إياك على ما يسرون فإنى أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم. ويجوز أن لا يكون ثم قول، وأن يكون قوله: (قل موتوا بغيظكم) أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120)
الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة: ما كان ضد ذلك.
وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ «2» قلت: المس
__________
(1) . للحرث بن ظالم المري. وعض الأنامل من الغيظ: كناية عن شدته، وأطلق الأباهم وأراد مطلق الأصابع مجازا مرسلا لأنه لا داعى للتخصيص المخالف للواقع عادة. ويحتمل أنها حقيقة.
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالاصابة ... الخ» قال أحمد: يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الاصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام والله أعلم: إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها، وإن تمكنت الاصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثى الشامت عنده منها فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون، والله أعلم.

(1/407)


وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122)

مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة) ، (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) ، (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) . وإن تصبروا على عداوتهم وتتقوا ما نهيتم عنه من موالاتهم. أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتنقوا الله في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف الله فلا يضركم كيدهم. وقرئ (لا يضركم) من ضاره يضيره. ويضركم على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد، كقولك مد يا هذا. وروى المفضل عن عاصم (لا يضركم) بفتح الراء، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء:
إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك إن الله بما يعملون من الصبر والتقوى وغيرهما محيط ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122)
واذكر إذ غدوت من أهلك بالمدينة وهو غدوه إلى أحد من حجرة عائشة رضى الله عنها. روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبى ابن سلول ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال عبد الله وأكثر الأنصار:
يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. فقال صلى الله عليه وسلم: إنى قد رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي، فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كأنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد:
اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا:
بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحى يأتيه، وقالوا: اصنع يا رسول ما رأيت، فقال: لا ينبغي لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل، فخرج يوم الجمعة بعد صلاة

(1/408)


الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما بقوم بهم القدح «1» . إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر، وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم: «انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» «2» تبوئ المؤمنين تنزلهم. وقرأ عبد الله للمؤمنين، بمعنى تسوى لهم وتهيئ مقاعد للقتال مواطن ومواقف. وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار. واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه قوله تعالى: (في مقعد صدق) ، (قبل أن تقوم من مقامك) من مجلسك وموضع حكمك والله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم إذ همت بدل من (إذ غدوت) أو عمل فيه معنى (سميع عليم) . والطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف، وقيل في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل عبد الله بن أبى بثلث الناس وقال: يا قوم، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصارى فقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم، فقال عبداك:
لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وعن ابن عباس رضى الله عنه: أضمروا أن يرجعوا، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا.
والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه، كما قال عمرو بن الأطنابة:
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدى أو تستريحى «4»
__________
(1) . قوله «كأنما يقوم بهم القدح» في الصحاح: القدح- بالكسر- السهم قبل أن يراش ويركب نصله. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني محمد بن شهاب وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين ابن عبد الرحمن وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث عن غزوة أحد. وكان من حديثهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين يوم أحد «إنى رأيت بقرا وأولتها خيرا. ورأيت في ذباب سيفي ثلما- فذكر الحديث بطوله وفيه: ومات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو. وفيه: ذكرا للأمة وغير ذلك. ومن طريق ابن إسحاق أخرجه البيهقي في الدلائل وأورد منه الطبري من طريقه قطعة. وساقه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة مطولا وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بلفظ المصنف، إلى قوله «وأصبح بالشعب» وبقية ذلك هو من كلام ابن إسحاق «قوله فيه حتى يقوم بها القداح» وقع في رواية الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة، وقد ساقه الواقدي بهذا الاسناد مطولا.
(3) . هو في الذي قبله. وذكره ابن هشام في تهذيب السيرة بتمامه عن ابن إسحاق. [.....]
(4) .
أبت لي عفتي وأبى تلادى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وإقحامى على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح
لعمرو بن الأطنابة وهي أمه، وأبوه يزيد بن مناة بن ثعلبة من باهلة. والتلاد: المال القديم الموروث. ويروى بلائي أى بأسى في الحروب. واستعار الثمن لما يبذله في المكارم على طريق التصريح. والربيح: الزائد. والاقحام:
تكليف الدخول في المكروه. ويروى: وإقدامى. ويروى «وأضرب» بدل «ضربي» وفيه دلالة على تجدد الضرب وإبرازه في صورة إلى أمر المشاهد وهو من عطف المصدر المؤول على المصدر الصريح. ويحتمل أنها جملة حالية والتقدير: وأنا أضرب. والهامة أعلى الرأس. والمشيح: الجاد في القتال، من أشاح إذا جد واجتهد.
وجشأت: تحركت واضطربت، وجاشت: غلت وارتفعت، وكل شيء يغلى فهو يجيش. ومكانك: اسم فعل.
أى الزمى يا نفس مكانك، يحمدك الناس إن ظفرت، أو تستريحي إن مت. ولأدفع: متعلق بالقول أو باسم الفعل أو بأبت لي، أى منعتني عفتي وما عطف عليها من الفرار. وإسناد الفعل لذلك مجاز عقلى من الاسناد للسبب.
وشبه سلامة العرض من الطعن بسلامة البيضة مثلا من الكسر فاستعار لها الصحة على طريق التصريح.

(1/409)


ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127)

حتى قال معاوية: عليكم بحفظ الشعر، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين، فما ثبت منى إلا قول عمرو بن الأطنابة. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، والله تعالى يقول والله وليهما ويجوز أن يراد: والله ناصرهما ومتولى أمرهما، فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله فإن قلت، فما معنى ما روى من قول بعضهم عند نزول الآية. والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا؟ قلت: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها- لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم- كانت سببا لنزولهما. والفشل: الجبن والخور. وقرأ عبد الله: والله وليهم كقوله (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 127]
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127)
أمرهم بألا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل

(1/410)


مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة. والأذلة: جمع قلة والذلان جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم: ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد. وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة «1» . وبدر: اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمى به فاتقوا الله في الثبات مع رسوله لعلكم تشكرون بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. أو لعلكم ينعم الله عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له إذ تقول ظرف لنصركم، على أن يقول لهم ذلك يوم بدر، أو بدل ثان من (إذ غدوت) على أن يقوله لهم يوم أحد. فإن قلت. كيف يصح أن يقول لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا، حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله. ومعنى ألن يكفيكم إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة. وإنما جيء بلن الذي هو لتأكيد النفي، للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآئسين من النصر. وبلى إيجاب لما بعد لن، بمعنى: بل يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية ثم قال إن تصبروا وتتقوا يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسومين للقتال ويأتوكم يعنى المشركين من فورهم هذا من قولك: قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبى حنيفة رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها- ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث. والمعنى: أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد: أن الله يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم.
وقرئ (منزلين) بالتشديد. ومنزلين بكسر الزاى، بمعنى: منزلين النصر. و (مسومين) بفتح الواو وكسرها، بمعنى: معلمين. ومعلمين أنفسهم أو خيلهم. قال الكلبي: معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها. وعن مجاهد:
مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة: كانوا على حيل بلق. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة
__________
(1) . قوله «والشكة والشوكة» في الصحاح: الشكة- بالكسر- السلاح. والشوكة: شدة البأس. (ع)

(1/411)


ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)

الزبير يوم بدر صفراء، فنزلت الملائكة كذلك، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت» «1» وما جعله الله الهاء لأن يمدكم. أى: وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون ولتطمئن به قلوبكم كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم وما النصر إلا من عند الله
لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة، ولكن ذلك مما يقوى به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة، ويربط به على قلوب المجاهدين العزيز الذي لا يغالب في حكمه الحكيم الذي يعطى النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة ليقطع طرفا من الذين كفروا ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم أو يكبتهم أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة فينقلبوا خائبين غير ظافرين بمبتغاهم.
ونحوه (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) ويقال: كبته، بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة. وقيل في قول أبى الطيب:
لأكبت حاسدا وأرى عدوا «2»
هو من الكبد والرئة، واللام المتعلقة بقوله: (ولقد نصركم الله) أو بقوله: (وما النصر إلا من عند الله) . أو يتوب عطف على ما قبله.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 129]
ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا أبو أمامة عن ابن عون. عن ابن عمير، وابن إسحاق بهذا. وهو مرسل وزاد: قال «فهو أول يوم وضع فيه الصوف» ورواه الطبري من وجه آخر عن ابن عون به. وقال الواقدي:
حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر. عن محمود بن لبيد فذكره. قال: فأعلموا بالصوف في مغافرهم» ولم يذكر الزيادة. ورواه ابن سعد من طرق في قصة «وفيه فقال لأصحابه يومئذ: تسوموا فان الملائكة قد تسومت. قال فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم»
(2) .
رويدك أيها الملك الجليل ... تأن وعده مما تنيل
وجودك بالمقام ولو قليلا ... فما فيما تجود به قليل
لأكبت حاسدا وأرى عدوا ... كأنهما وداعك والرحيل
لأبى الطيب. يقول تمهل يا أيها الملك عن السفر، واجعل ذلك التأنى مما تحسن به إلينا، وجودك علينا بالاقامة، ولو كانت قليلة عندك أو في ذاتها فهي كثيرة عندنا، فانه ليس فيما تجود به قليل. وقوله «لأكبت» متعلق بتأن.
وأصله: لأكبد، قلبت الدال تاء لقرب مخرجيهما، أى لأصيب كبد الحاسد بالغيظ. وأرى: أى أصيب رئة العدو به أيضا، كأنهما: أى الحاسد والعدو، شبه الأول بالوداع، والثاني بالرحيل، في أن كلا يحزنه. وخص الثاني بالثاني لأنه أشد كراهة. وفيه لف ونشر مرتب، وهو حسن.

(1/412)


وليس لك من الأمر شيء اعتراض. والمعنى أن الله مالك أمرهم، فإما يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل إن (يتوب) منصوب بإضمار «أن» و «وأن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أو على شيء، أى ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، وقيل «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم. وقيل: شجه عتبة ابن أبى وقاص يوم أحد وكسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وسالم مولى أبى حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول:
كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم «1» ، فنزلت. وقيل: أراد أن يدعو الله عليهم فنهاه الله تعالى، لعلمه أن فيهم من يؤمن. وعن الحسن يغفر لمن يشاء بالتوبة «2» ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين «3» ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق. ومن طريقه الطبري. أخبرنا معمر عن قتادة: أن عتبة. فذكره ومن طريق معمر أخرجه ابن سعد سواء. والحديث في الصحيحين من حديث سهل بن سعد «كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج رأسه. فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله؟
فأنزل الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) قال: وكانت فاطمة تغسل الدم عن وجهه- الحديث» وسيأتى قريبا أن الذي شجه عبد الله بن قمئة. وقال الواقدي: المثبت عندنا أن الذي رمى وجه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن قمئة: والذي رمى شفته وأصاب رباعيته. عتبة بن أبى وقاص. وفي السيرة لابن هشام من حديث أبى سعيد الخدري أن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى. وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في وجهه، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر فأخذ علي بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائما ومص مالك بن سنان أبو أبى سعد الدم عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مس دمه دمى لم تصبه النار» .
(2) . قال محمود: «معناه يغفر لمن يشاء بالتوبة ... الخ» قال أحمد: هذه الآية واردة في الكفار. ومعتقد أهل السنة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الايمان، وليسوا محل خلاف بين الطائفتين وعندهم أن المؤمن النائب من كفره هو المعنى في قوله: (يغفر لمن يشاء) كما قاله الزمخشري. وأما تسلقه من ذلك على تعميم هذا الحكم وتعديته إلى الموحدين، فمن التعامي والتصام حقيقة، وإلا فهو أحذق من ذلك. وأما نسبته إلى أهل السنة التعامى والتصام والهوى والبدعة والافتراء، فالله حسيبه في ذلك والسلام.
(3) . قوله «ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين» هذا عند المعتزلة. (ع)

(1/413)


ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136) قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137)

المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالما. وإتباعه قوله أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون تفسير بين لمن يشاء، وأنهم المتوب عليهم، أو الظالمون، ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامتون ويتعامون «1» عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون على ابن عباس من قولهم. يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132]
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)
لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة نهى عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون «2» .
واتقوا النار التي أعدت للكافرين كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله. ومن تأمل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى، وفي ذكره تعالى «لعل» و «عسى» في نحو هذه المواضع- وإن قال الناس ما قالوا- ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 137]
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136) قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137)
__________
(1) . قوله «ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون» يريد أهل السنة وتحقيق المبحث في علم التوحيد. (ع)
(2) . قوله «مال المديون» لعله المدين، أو هو لغة شاذة. (ع)

(1/414)


في مصاحف أهل المدينة والشام سارعوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبى وعبد الله: وسايقوا. ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به عرضها السماوات والأرض أى عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: (عرضها كعرض السماء والأرض) والمراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه.
وخص العرض، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، كقوله: (بطائنها من إستبرق) . وعن ابن عباس رضى الله عنه: كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض في السراء والضراء في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل، كما حكى عن بعض السلف: أنه ربما تصدق ببصلة. وعن عائشة رضى الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب «1» أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف. وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها. وكظم البعير: إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم» من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا «2» » وعن عائشة رضى الله عنها: أن خادما لها غاظها فقالت: لله در التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء. والعافين عن الناس إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. وروى «ينادى مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» «3» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. وعن النبي صلى
__________
(1) . أخرجه ابن سعد أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق عن ظبية بنت المعلل. قالت «دخلت على عائشة فجاء سائل فأعطته حبة عنب، ثم نظرت إلينا. وقالت: أتعجبين من هذا؟ إن في هذا لمثاقيل كثيرة» .
(2) . أخرجه أبو داود. من رواية ابن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه. قال ابن طاهر: هذا الصحابي هو معاذ بن أنس وابنه هو سهل. ورواه عبد الرزاق وأحمد عنه. والعقيلي من طريقه. قال: أخبرنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل عن عمر له عن أبى هريرة به. وعبد الجليل مجهول.
(3) . أخرجه البيهقي في الشعب. من رواية المبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران بن حصين رفعه «إذا كان يوم القيامة ينادى مناد من بطنان العرش ليقم الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وفي إسناده قصة إبراهيم بن مهدى مع المأمون. ورواه الطبراني من رواية محرز أبى رجاء عن الحسن قال «يقال يوم القيامة ليقم من كان له على أنه أجر فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ (والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) . وذكره أبو شجاع في الفردوس عن أنس رضى الله عنه.

(1/415)


الله عليه وسلم: «إن هؤلاء في أمتى قليل إلا من عصم الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم التي «1» مضت «والله يحب المحسنين يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء والذين عطف على المتقين، أى أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله: (أولئك) إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك فاحشة فعلة متزايدة القبح أو ظلموا أنفسهم أو أذنبوا أى ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة الزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل:
الفاحشة الكبيرة. وظلم النفس الصغيرة ذكروا الله تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه فاستغفروا لذنوبهم فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين «2» ومن يغفر الذنوب إلا الله وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو «3» والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة.
وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ولم يصروا ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين «4» مرة» وروى «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار «5» » وهم يعلمون حال من فعل
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وإسناده إلى مقاتل في أول الكتاب، وفي الفردوس عن أنس نحوه في أول الذي قبله.
(2) . قوله «عازمين» لعله عازمين على عدم العود. (ع) [.....]
(3) . قوله «بأقصى مما يقدر عليه وجب العفو» أما سمعا فباتفاق، وأما عقلا فعند المعتزلة فقط. (ع)
(4) . أخرجه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار. من طريق عثمان بن وافد عن أبى نصيرة عن مولى لأبى بكر رضى الله عنه. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بالقوى. وقال البزار: لا نحفظه إلا من حديث أبى بكر بهذا الطريق. وأبو نصيرة وشيخه لا يعرفان. قلت: له شاهد أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث ابن عباس.
(5) . أخرجه إسحاق بن بشر أبو حذيفة في المبتدأ عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وإسحاق حديثه منكر. ورواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية مكحول. عن أبى سلمة. عن أبى هريرة. وزاد في آخره «فطوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا» وفي إسناده بشر بن عبد الوارث. وهو متروك. ورواه الثعلبي وابن شاهين في الترغيب من رواية بشر بن إبراهيم عن خليفة بن سليمان عن أبى سلمة عن أبى هريرة به.

(1/416)


هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139)

الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معا. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرين «1» . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال أجر العاملين بعد قوله: (جزاؤهم) لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون «2» . وروى أن الله عز وجل أوحى إلى موسى: «ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن رضى الله عنه:
يقول الله تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضى الله عنها أنها كانت تنشد:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس «3»
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات قد خلت من قبلكم سنن يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: (وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل) (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) ، (سنة الله التي قد خلت من قبل) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 138 الى 139]
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139)
__________
(1) . قوله والتائبين منهم دون المصرين يعنى أن الإصرار كبيرة وفاعل الكبيرة يخلد في النار لكن هذا عند المعتزلة، وخالف أهل السنة لأنه مؤمن عندهم والمؤمن لا يخلد فيها وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)
(2) . (قوله وأجر مستحق عليه لا كما يقول المبطلون) يريد بهم أهل السنة حيث قالوا لا يجب على الله شيء. (ع)
(3) .
ما بال نفسك ترضى أن تدنسها ... وثوب نفسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس
للإمام على كرم الله وجهه وقيل: لأبى العتاهية. والبال الشأن والنفس. ويجوز أنها الذات والثوب على ظاهره.
ويجوز أنها الروح والثوب مستعار للجسم، لأنه للروح كالثوب للبدن، أى لا ينبغي تدنيس المظروف مع تنظيف ظرفه. ويجوز أن الأولى الروح والثانية الذات. ويروى ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوب نفسك:
جملة حالية. ويروى: «وثوبك الدهر مغسول» . وترجو النجاة على حذف أداة الاستفهام التوبيخي، أبرزه في صورة الخبر ليصور قبحه، وشبه الأسباب الموصلة للنجاة بالطرق المسلوكة على سبيل التصريحية «ولم تسلك» ترشيح.
وقوله «إن السفينة» تمثيل لحال من يرجو أمرا ولم يأخذ في أسبابه بحال ملاح يريد تسيير السفينة على أرض صلبة لا ماء بها، وفيه تقرير التوبيخ الذي أفاده الاستفهام.

(1/417)


إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141)

هذا بيان للناس إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، يعنى: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم وهدى وموعظة للمتقين يعنى أنه مع كونه بيانا وتنبيها للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين: ويجوز أن يكون قوله: (قد خلت) جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين، ويكون قوله: (هذا بيان) إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين ولا تهنوا ولا تحزنوا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم، يعنى ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، أى لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا، ولا تبالوا به، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح وأنتم الأعلون وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو وأنتم الأعلون شأنا، لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر، ولأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار. أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة، أى وأنتم الأعلون في العاقبة إن جندنا لهم الغالبون)
. إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهى بمعنى: ولا تهنوا إن صح إيمانكم على أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه. أو بالأعلون، أى إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 140 الى 141]
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141)
قرئ (قرح) بفتح القاف وضمها، وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها. وقرأ أبو السمال (قرح) بفتحتين. وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد.
والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال، فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه (فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) وقيل: كان ذلك يوم أحد، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف قيل (قرح مثله) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟
قلت: بلى كان مثله، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) .
وتلك الأيام تلك مبتدأ، والأيام صفته. ونداولها خبره، ويجوز أن يكون (تلك

(1/418)


الأيام)
مبتدأ وخبرا، كما تقول: هي الأيام تبلى كل جديد. والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة، نداولها: نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كقوله وهو من أبيات الكتاب:
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسر «1»
ومن أمثال العرب: الحرب سجال. وعن أبى سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال: أين ابن أبى كبشة، أين ابن أبى قحافة، أين ابن الخطاب. فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال. فقال عمر رضى الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا «2» ، والمداولة مثل المعاورة. وقال:
يرد المياه فلا يزال مداولا ... فى الناس بين تمثل وسماع «3»
يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه وليعلم الله الذين آمنوا فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل. بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء،
__________
(1) .
فلا وأبى الناس لا يعلمون ... فلا الخير خير ولا الشر شر فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
للنمر بن تولب، وهو من أبيات الكتاب. و «لا» زائدة قبل القسم، لأنه في الغالب لنفى شيء. وقيل: إشارة إلى اتضاح القضية المقسم عليها وعدم احتياجها إلى قسم، لكنه إنما يظهر في مثل قوله تعالى: (فلا أقسم) حيث أبرز في صورة النفي المعتادة: و «الناس» مبتدأ خبره «لا يعلمون» ثم بين ذلك بقوله: فليس الخير الذي زعموا أنه خير، خيرا كما زعموا. وليس الشر الذي زعموه شرا كما زعموا. أو ليس الخير خيرا دائما، وليس الشر شرا دائما. فيوم علينا نخذل فيه. ويوم لنا ننصر فيه، ويوم نساء فيه، ويوم نسر فيه. وروى بنصب اليوم. والمعنى:
فيوما تدور الدائرة علينا، ويوما تكون الدولة لنا. ونساء يوما، ونسر يوما. وكل جملتين من هذه الجمل واقعتان موقع البيان مما قبلهما. وفي البيت الثاني: لف ونشر مرتب، وذلك حسن.
(2) . أخرجه أحمد والحاكم والطبراني والبيهقي في الدلائل. من رواية ابن أبى الزناد عن أبيه عن ابن عباس أن أبا سفيان قال يوم أحد فذكره. قلت: وأصله في الصحيح من غير هذا الوجه بغير هذا السياق.
(3) .
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... منى محبرة إلى القعقاع
ترد المياه فلا تزال تداولا ... في الناس بين تمثل وسماع
المحبرة: المحسنة. والقعقاع اسم الممدوح، وهو في الأصل الشيء اليابس الصلب. ترد تلك القصيدة المياه، خصها لكثرة الناس عليها وتغنيهم بالأشعار عندها، أى ترد مواضع المياه فلا تزال متداولة في الناس، أو فلا تزال ذات تداول، أو فلا تزال تتداول تداولا بين الناس دائرة بين تمثل، أى إنشاد لها بأن يضربها الناس أمثالا لأحوالهم، وبين استماع لها لحسنها. وروى يرد المياه فلا يزال مداولا الخ فذكر ضمير القصيدة لأنها بمعنى الشعر.

(1/419)


أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (142)

وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات، والثاني أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه:
وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه ويتخذ منكم شهداء وليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد المستشهدين يوم أحد. أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد، من قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) . والله لا يحب الظالمين اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين في سبيل الله، الممحصين من الذنوب. والتمحيص: التطهير والتصفية ويمحق الكافرين ويهلكهم. يعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 142]
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (142)
أم منقطعة «1» ومعنى الهمزة فيها الإنكار ولما يعلم الله بمعنى ولما تجاهدوا، لأن العلم متعلق بالمعلوم «2» فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد: ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم، إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله. وقرئ (ولما يعلم الله) بفتح الميم. وقيل أراد النون الخفيفة ولما يعلمن «3»
__________
(1) . قوله «أم منقطعة» هي المفسرة ببل والهمزة. (ع)
(2) . قال محمود: «ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ... الخ» قال أحمد: التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى، لأنه يلزم من عدم تعلق علمه بوجود شيء ما، عدم ذلك الشيء، ضرورة أنه لا يعزب عن علمه شيء لعموم تعلقه، فاستقام التعبير عن نفى الشيء بنفي تعلق العلم القديم بوجوده المصحح للملازمة، ولا كذلك علم آحاد المخلوقين، فانه لا يعبر عن نفى شيء بنفي تعلق علم الخلق به، لجواز وجود ذلك الشيء غير معلوم للخلق.
والزمخشري يظهر من كلامه صحة هذا التعبير مطلقا ويعتقد الملازمة المذكورة عامة، فلذلك قال في قول فرعون (ما علمت لكم من إله غيري) أنه عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم، لأنه من لوازمه. وسيأتى بيان أن الزمخشري وهم في هذا الموضع، وإلا فهو يحاشى عن الوقوع في مثله اعتقادا، والله أعلم. وإنما عبر فرعون بذلك تلبيسا على ملئه وتتميما لدعوى ألوهيته الكاذبة بأنه لا يعزب عن علمه شيء، فلو كان إله سواه على دعواه لتعلق علمه به وهذا يعد من حماقات فرعون ودعاويه الفارغة، والله الموفق.
(3) . قوله «ولما يعلمن» لعله أى ولما يعلمن. (ع)

(1/420)


ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)

فحذفها ويعلم الصابرين نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع، كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبى عمرو (ويعلم) بالرفع على أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 143 الى 144]
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143) وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)
ولقد كنتم تمنون الموت خوطب به الذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، «1» وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعنى: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته فقد رأيتموه وأنتم تنظرون أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت: كيف يجوز تمنى الشهادة وفي تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمنى الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيقا لصناعته. ولقد قال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه- حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله «2» :
لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثى ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا «3»
__________
(1) . قوله «في الخروج» لعله وكان رأيهم في الخروج. (ع)
(2) . قوله «وقيل له: ردكم الله» لعله سالمين. (ع) [.....]
(3) . لعبد الله بن رواحة حين خرج إلى غزوة مؤتة فقيل له: ردك الله سالما. وذات فرغ: أى واسعة الثقب. والفرغ: مصب الماء من الدلو بين العرقى. أو طعنة ذات فرغ: أى ذات سعة. ويطلق الفرغ على الدلو أيضا. وتقذف الزبد: تمج الدم الذي يعلوه الزبد- أى الرغوة- لكثرته. وحران: عطشان إلى قتلى، وهو مجاز عن تطلبه إياه. والمجهزة: المدفقة المسرعة التي لا تبقى رمقا. وتنفذ الأحشاء: أى تنفذ فيها. وإن ضممت التاء وكسرت الفاء، فمعناه تثقبها. والكبد: عطف خاص على عام. والجدث: القبر، والتفت إلى الغيبة في قوله:
وقد رشد، على أنه من كلامه. ويجوز أنه من قول الناس. ويحتمل الاخبار والدعاء. ومن غاز: تمييز.

(1/421)


لما رمى عبد الله بن قمئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، أقبل يريد قتله فذب عنه صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمدا.
وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل. وقيل: كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «إلى عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول الله- فديناك بآبائنا وأمهاتنا- أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين «1» . فنزلت. وروى أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين:
__________
(1) . قلت: هذا منتزع من عدة أخبار في وقعة أحد. قال موسى بن عقبة في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب. قال «رمى يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بنى الحرث يقال له عبد الله بن قمئة، ويقال: بل رماه عتبة بن أبى وقاص» وفي الطبراني عن أبى أمامة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رماه عبد الله بن قمئة بحجر يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة» وروى الطبري من طريق أسباط عن السدى فذكر قصة أحد. قال فأتى ابن قمئة الحارثي أحد بنى الحرث بن عبد مناف بن كنانة. فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في رأسه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وجعل يدعوهم: إلى عباد الله. إلى عباد الله. وفشا في الناس أن محمدا قتل» الحديث، وفي المغازي لابن إسحاق ومن طريقه الطبري عن الزهري، ومحمد بن محمد بن حبان وعاصم بن عمر، وغيرهم فذكر قصة أحد. قال «ولم يزل مصعب بن عمير يقاتل دونه ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قمئة وهو يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: لقد قتلت محمدا. وعند الواقدي عن ابن أبى سبرة عن خالد بن رباح عن الأعرج قال «لما صاح الشيطان يوم أحد إن محمدا قد قتل. قال أبو سفيان: أيكم قتل محمدا؟ قال ابن قمئة: أنا. وأما قوله: فلامهم على هربهم إلى آخره فرواه [بياض بالأصل.] قوله أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله ابن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، هو من رواية السدى المتقدمة ولفظه: فقال بعض أصحاب الصخرة ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان. قوله «وقال ناس من المنافقين:
لو كان نبيا ما قتل. ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس: يا قوم إن كان قتل محمد فان رب محمد حى لا يموت. الحديث: هو في آخر رواية السدى المذكورة. قوله وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصارى يتشحط في دمه فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل. فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ. فقاتلوا عن دينكم» رواه الطبري من رواية ابن أبى نجيح عن مجاهد أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط، فذكره في كلام طويل.

(1/422)


ليت عبد الله بن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حى لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين:
أنه مر بأنصارى يتشحط في دمه، فقال يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال: إن كان قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم. والمعنى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل «1» تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه أفإن مات الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوزا عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: (والله يعصمك من الناس) ؟ قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم. والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه «2» فلن يضر الله شيئا فما ضر إلا نفسه، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضار والمنافع وسيجزي الله الشاكرين الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن من الله. وهو على معنيين: أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوض المهالك واقتحم المعارك.
__________
(1) . قوله «من بعثة الرسل» لعله الرسول. (ع)
(2) . قوله «وإسلامه» أى: تركه للعدو. (ع)

(1/423)


وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)

والثاني ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل

[سورة آل عمران (3) : آية 145]
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145)
كتابا مصدر مؤكد، لأن المعنى: كتب الموت كتابا مؤجلا موقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ومن يرد ثواب الدنيا تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد نؤته منها أى من ثوابها وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد. وقرئ: يؤته. وسيجزى، بالياء فيهما.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 148]
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)
قرئ قاتل. وقتل. وقتل، بالتشديد، والفاعل ربيون، أو ضمير النبي. ومعه ربيون حال عنه بمعنى: قتل كائنا معه ربيون. والقراءة بالتشديد تنصر الوجه الأول. وعن سعيد بن جبير رحمه الله: ما سمعنا بنبى قتل في القتال. والربيون الربانيون. وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب. وقرئ: فما وهنوا) بكسر الهاء.
والمعنى: فما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو. وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبى في طلب الأمان من أبى سفيان وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين، هضما لها واستقصارا. والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاء وطهارة وخضوع، وأقرب إلى الاستجابة فآتاهم الله ثواب الدنيا من النصرة

(1/424)


ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين (151)

والغنيمة والعز وطيب الذكر. وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه، وأنه هو المعتد به عنده (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين (151)
إن تطيعوا الذين كفروا قال على رضى الله عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وعن الحسن رضى الله عنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه في الدين، ويقولون:
لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما له ويوما عليه. وعن السدى: إن تستكينوا لأبى سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل هو عام في جميع الكفار، وإن على المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم ولا على مشورتهم حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم بل الله مولاكم أى ناصركم، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته. وقرئ بالنصب على: بل أطيعوا الله مولاكم سنلقي قرئ بالنون والياء. والرعب- بسكون العين وضمها-. قيل: قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة. وقيل:
ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن فاهرون «1» ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم فأمسكوا. بما أشركوا بسبب إشراكهم، أى كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به ما لم ينزل به سلطانا آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة. فإن قلت: كان هناك حجة «2» حتى ينزلها «3» الله
__________
(1) . قوله «فاهرون» لعله فارهون. والفاره: الحاذق بالشيء. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «فان قلت كان هناك حجة» لعله: أكان. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت كان هناك حجة حتى ينزلها الله فيصح لهم الاشراك ... الخ» ؟ قال أحمد: إنما يرد هذا السؤال لو أفهم ظاهر اللفظ أن ثم حجة وليس في ظاهره ما يفهم ذلك، ولو كانت الآية كقول القائل: بما أشركوا بالله ما لم ينزل سلطانه، باضافة السلطان إلى ما أشركوا به، لكان للسائل مقول، ولكان كقول القائل:
على لا حب لا يهتدى بمناره
فانه باضافة المنار إليه يوهم أن فيه منارا، فيحتاج الناظر إلى حمله على معنى لا منار فيه فيهتدى به، ولو أطلق الشاعر فقال: «على لا حب لا يهتدى فيه بمنار» مثلا، لاستغنى عن تأويل الكلام، وكذلك الآية غنية عن التأويل، والله أعلم.

(1/425)


ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154)

فيصح لهم الإشراك؟ قلت: لم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم، لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم عليه حجة، وإنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا، كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر «1»

[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 154]
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154)
ولقد صدقكم الله وعده وعدهم الله النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى: (إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم) ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل: لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من
__________
(1) .
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
لابن أحمر. يقول: لا تخفيف الأرنب أهوال تلك الصحراء، أى لا هول فيها حتى يفزعه، فما في البيت كناية عن ذلك، كقوله: ولا ترى الضب فيها يدخل جحره، أى لا ضب فيها ينجحر. و «ينجحر» حال إن كانت ترى بصرية، ومفعول ثانى إن كانت علمية. ويجوز أن المعنى: لا أرنب فيها تفزعه أهوالها، كما لا ضب فيها يدخل حجره، فهما منفيان. وهذا أوفق بالمقدم.

(1/426)


المؤمنين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا- كانت الدولة للمسلمين أو عليهم- فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. يحسونهم أى يقتلونهم قتلا ذريعا.
حتى إذا فشلوا. والفشل: الجبن وضعف الرأى. وتنازعوا، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فممن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: (ومنكم من يريد الآخرة) ونفر أعقابهم ينهبون، وهم الذين أرادوا الدنيا، فكر المشركون على الرماة، وقتلوا عبد الله بن جبير رضى الله عنه، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دبورا وكانت صبا، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وهو قوله ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها ولقد عفا عنكم لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ذو فضل على المؤمنين يتفضل عليهم بالعفو، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة. فإن قلت: أين متعلق (حتى إذا) ؟ قلت: محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره. ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم إذ تصعدون
نصب بصرفكم، أو بقوله: (ليبتليكم) أو بإضمار «اذكر» والإصعاد. الذهاب في الأرض والإبعاد فيه. يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض. يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة: وقرأ الحسن رضى الله عنه: تصعدون، يعنى في الجبل. وتعضد الأولى قراءة أبى: إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو حيوة: تصعدون، بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم وقرأ الحسن رضى الله عنه: تلون، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها. وقرئ: يصعدون. ويلوون بالياء والرسول يدعوكم كان يقول «إلى عباد الله، إلى عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة» في أخراكم في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أولهم وأولاهم، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى فأثابكم عطف على صرفكم، أى فجازاكم الله غما حين صرفكم عنهم وابتلاكم (ب) سبب (غم) أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له، أو غما مضاعفا، غما بعد غم، وغما متصلا بغم، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر لكيلا تحزنوا لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. ويجوز أن يكون الضمير في: (فأثابكم) للرسول، أى فآساكم في الاغتمام «1» ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما
__________
(1) . قوله «فآساكم في الاغتمام» لعله: فآساكم، أى فصار أسوتكم «أفاده الصحاح» . (ع)

(1/427)


غمه ما نزل بكم، فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره: وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. وأنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. وعن أبى طلحة رضى الله عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. وما أحد إلا ويميل تحت حجفته «1» .
وعن ابن الزبير رضى الله عنه: لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم. والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني «2» : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. والأمنة: الأمن. وقرئ (أمنة) بسكون الميم، كأنها المرة من الأمن نعاسا بدل من أمنة. ويجوز أن يكون هو المفعول، وأمنة حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين، بمعنى: ذوى أمنة، أو على أنه جمع آمن، كبار وبررة يغشى قرئ بالياء والتاء ردا على النعاس، أو على الأمنة طائفة منكم هم أهل الصدق واليقين وطائفة هم المنافقون قد أهمتهم أنفسهم ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان، فهم في التشاكى والتباث غير الحق في حكم المصدر. ومعناه: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به.
وظن الجاهلية بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية. وغير الحق:
تأكيد ليظنون، كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك وظن الجاهلية، كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق: يريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أى لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه هل لنا من الأمر من شيء معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط، يعنون النصر والإظهار على العدو قل إن الأمر كله لله ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) ، إن جندنا لهم الغالبون)
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك معناه: يقولون لك فيما يظهرون: هل لنا من الأمر من شيء سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين
__________
(1) . أخرجه البخاري من رواية قتادة عن أنس به. لكن ليس في آخره «وما أحد إلا ويميل تحت حجفته» وهو بتمامه عند الحاكم. وكذا أخرجه الطبري من رواية ثابت عن أنس رضى الله عنه.
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي. حدثني يحيى بن عباد بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه. عن عبيد الله بن الزبير عن أبيه به. وأخرجه إسحاق والبزار والطبري وابن أبى حاتم وأبو نعيم والبيهقي. كلهم من طريقه.

(1/428)


إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155)

لقولك لهم إن الأمر كله لله لو كان لنا من الأمر شيء أى لو كان الأمر كما قال محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة قل لو كنتم في بيوتكم يعنى من علم الله منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ليكون ما علم الله أنه يكون. والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء، يعنون لم تملك شيئا من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان رأى عبد الله بن أبى وغيره، ولو ملكنا من التدبير شيئا لما قتلنا في هذه المعركة، قل إن التدبير كله لله، يريد أن الله عز وجل قد دبر الأمر كما جرى، ولو أقمتم بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم. وقرئ: كتب عليهم القتال. وكتب عليهم القتل، على البناء للفاعل. ولبرز، بالتشديد وضم الباء وليبتلي الله وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان. فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص. فإن قلت: كيف مواقع الجمل التي بعد قوله وطائفة؟ قلت: (قد أهمتهم) صفة لطائفة. و (يظنون) صفة أخرى أو حال بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظانين. أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها. و (يقولون) بدل من يظنون. فإن قلت: كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظن؟ «1» قلت: كانت مسألتهم صادرة عن الظن، فلذلك جاز إبداله منه. ويخفون حال من يقولون. و (قل إن الأمر كله لله) اعتراض بين الحال وذوى الحال. و (يقولون) بدل من (يخفون) والأجود أن يكون استئنافا.

[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر ... الخ» ؟ قال أحمد: ويلاحظ هذا النظر في قوله تعالى عن الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... ) الآية فان هذا السؤال استفهام، والاستفهام لا يتصف بما يتصف به الخبر من الصدق ونقيضه، ومع ذلك ورد قوله تعالى في خطابهم (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) يعنى في قولكم أتجعل فيها من يفسد فيها. فأجرى استفهامهم مجرى الخبر لاستلزامه الاخبار بأن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن الفساد وسفك الدماء، إلا من عصمه الله تعالى منهم، والله أعلم.

(1/429)


ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون (158)

استزلهم طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ببعض ما كسبوا من ذنوبهم. ومعناه إن الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم، لأن الذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفا فيها. وقال الحسن رضى الله عنه: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. وقيل: (ببعض ما كسبوا) هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه. فجرهم ذلك إلى الهزيمة.
وقيل: ذكرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاء الله معها، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية. فإن قلت: لم قيل (ببعض ما كسبوا) ؟ قلت: هو كقوله تعالى (ويعفوا عن كثير) . ولقد عفا الله عنهم لتوبتهم واعتذارهم إن الله غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون (158)
وقالوا لإخوانهم أى لأجل إخوانهم، كقوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) ومعنى الأخوة: اتفاق الجنس أو النسب إذا ضربوا في الأرض إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها أو كانوا غزى جمع غاز، كعاف وعفى، كقوله: عفى الحياض أجون «1» . وقرئ: بتخفيف الزاى على حذف التاء من غزاة. فإن قلت: كيف قيل:
(إذا ضربوا) مع (قالوا) ؟ قلت: هو على حكاية الحال الماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض فإن قلت: ما متعلق ليجعل؟ قلت: قالوا، أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم على أن اللام مثلها في: (ليكون لهم عدوا وحزنا) . أو لا تكونوا، بمعنى: لا تكونوا مثلهم في
__________
(1) . قوله «وعفى كقوله: عفى الحياض أجون» في الصحاح: العفى- جمع عاف- وهو الدارس. والآجن:
الماء المتغير الطعم واللون. وأجن الماء يأجن ويأجن أجا وأجونا اه. وجمع الآجن على أجون، كالراكع على ركوع، والشاهد على شهود. (ع)

(1/430)


فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)

النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. فإن قلت:
ما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى؟ قلت: معناه أن الله عز وجل عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم، ويضيق صدورهم عقوبة، فاعتقاده فعلهم وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل الله عز وجل كقوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم والله يحيي ويميت رد لقولهم. أى الأمر بيده، قد يحيى المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد كما يشاء. وعن خالد بن الوليد رضى الله عنه أنه قال عند موته: ما فى موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء والله بما تعملون بصير فلا تكونوا مثلهم. وقرئ بالياء، يعنى الذين كفروا لمغفرة جواب القسم، وهو ساد مسد جواب الشرط، وكذلك (لإلى الله تحشرون) كذب الكافرين أولا في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزى لو كان في المدينة لما مات، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد، ثم قال لهم: ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت والقتل في سبيل الله، فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: خير من طلاع الأرض ذهبة «1» حمراء. وقرئ بالياء، أى يجمع الكفار لإلى الله تحشرون لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة، المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم الله تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به، شأن ليس بالخفي. قرئ (متم) بضم الميم وكسرها، من مات يموت ومات يمات.

[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)
«ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ونحوه (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم حتى أثابهم غما بغم وآساهم بالمباثة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه ولو كنت فظا جافيا غليظ القلب قاسيه لانفضوا من حولك لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم فاعف عنهم فيما
__________
(1) . قوله «خير من طلاع الأرض ذهبة» في الصحاح: طلاع الأرض: ملؤها. والذهبة. القطعة من الذهب. (ع) [.....]

(1/431)


إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (162)

يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم وشاورهم في الأمر يعنى في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم. وعن الحسن رضى الله تعالى عنه، قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» «1» وعن أبى هريرة رضى الله عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم «2» . وقيل: كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأى دونهم.
وقرئ: وشاورهم في بعض الأمر فإذا عزمت فإذا قطعت الرأى على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور. وقرئ (فإذا عزمت) بضم التاء، بمعنى فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل على ولا تشاور بعد ذلك أحدا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 160 الى 162]
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (162)
إن ينصركم الله كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم وإن يخذلكم كما خذلكم يوم أحد أحد فمن ذا الذي ينصركم فهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه. ونحوه (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) . من بعده من بعد خذلانه. أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته. وقرأ عبيد بن عمير:
__________
(1) . أعاده في تفسير سورة الشورى عن الحسن قوله وهو المحفوظ. ومن طريقه أخرجه الطبري.
(2) . هذا فيه تحريف. والصواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كذلك أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن الزهري عنه وهو منقطع وهو مختصر من الحديث الطويل في قصة الحديبية وغزوة الفتح، أخرجه ابن حبان من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان. وفيه قال الزهري: وكان أبو هريرة يقول. فذكره. وكذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وعند أحمد وإسحاق، وقد أشار إليه الترمذي في آخر الجهاد فقال: ويروى عن أبى هريرة فذكره.

(1/432)


وإن يخذلكم، من أخذله إذا جعله مخذولا. وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان وعلى الله وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه. يقال غل شيئا من المغنم غلولا وأغل إغلالا، إذا أخذه في خفية. يقال أغل الجازر، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. والغل: الحقد الكامن في الصدر. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه «1» » وقوله صلى الله عليه وسلم «هدايا الولاة غلول «2» » وعنه «ليس على المستعير غير المغل ضمان «3» » وعنه «لا إغلال ولا إسلال «4» » ويقال: أغله إذا وجده غالا، كقولك: أبخلته وأفحمته «5» . ومعنى وما كان لنبي أن يغل وما صح له ذلك، يعنى أن النبوة تنافى الغلول، وكذلك من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأول، لأن معناه: وما صح له أن يوجد غالا، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
وفيه وجهان: أحدهما أن يبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «6» من ذلك وينزه وينبه على عصمته
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن أنيس، أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال عمر «ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: أنه من غل بعيرا. أو شاه أتى به يوم القيامة فقال له عبد الله بن أنيس: بلى» وفي الصحيحين عن أبى حميد الساعدي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عاملا فجاءه العامل حين فرغ من عمله. الحديث: وفيه، فو الذي نفس محمد بيده لا يعمل أحدكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه» ،
(2) . رواه أحمد، والبزار، والطبراني من حديث أبى حميد الساعدي بلفظ «هدايا العمال» وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة عنه. قال البزار: أخطأ فيه إسماعيل سندا ومتنا. وإنما أراد حديث الزهري عن عروة، عن أبى حميد باللفظ الماضي. وكذا عده ابن عدى في منكرات إسماعيل بن عياش. وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن أبان بن أبى عياش عن أبى نصيرة عن جابر بلفظ «الهدايا للأمراء غلول» رواه إسحاق أخبرنا وكيع حدثنا سفيان عمن حدثه عن أبى نضرة به. قال البزار: أبان متروك. ثم ساقه من رواية قيس بن الربيع عن ليث بن أبى سليم. عن عطاء عن جابر به. وأخرجه ابن عدى في ترجمة أحمد بن معاوية الباهلي من روايته عن النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه. وقال: هذا حديث باطل. وذكر الطبراني في الأوسط، أن أحمد بن معاوية تفرد به.
(3) . أخرجه البيهقي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وزاد «وليس على المستودع غير المغل ضمان» قال البيهقي: هذا ضعيف والمحفوظ أنه من قول شريح.
(4) . أخرجه أبو داود وأحمد من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان في حديث. ورواه الدارمي والطبراني وابن عدى من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رفعه «لا نهب ولا إسلال ولا إغلال ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة» ورواه ابن زنجويه في الأموال، وابراهيم الحربي في الغريب من رواية موسى بن عبيدة عن أبان بن سلمة عن أبيه. وموسى ضعيف.
(5) . قوله «كقولك أبخلته وأفحمته» في الصحاح: أفحمته: أى وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(6) . قال محمود: «فيه توجيهان: أحدهما أن يكون ذلك تنزيها لرسول الله عليه الصلاة والسلام ... الخ» قال أحمد رحمه الله: حمل الآية على الوجه الثاني يشهد له ورود هذه الصيغة كثيرا في النهى في أمثال قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ، (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) إلى غير ذلك. على أن الزمخشري حاف في العبارة إذ يقول: عبر عن الحرمان بالغلول تغليظا وتقبيحا، وما كان له أن يعبر عن هذا المعنى بهذه العبارة، فان عادة لطف الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم في التأديب أن يكون ممزوجا بغاية التخفيف والتعطف. ألا ترى إلى قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قال بعض العلماء: بدأه بالعفو قبل العتب. ولو لم يبدأه بالعفو لانفطر قلبه صلى الله عليه وسلم.

(1/433)


بأن النبوة والغلول متنافيان؟ لئلا يظن به ظان شيئا منه وألا يستريب به أحد، كما روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر. فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها «1» .
وروى أنها نزلت في غنائم أحد «2» حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى، فقالوا:
تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال صلى الله عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم: والثاني أن يكون مبالغة في النهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى: أنه بعث طلائع «3» فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع، فنزلت. يعنى: وما كان لنبى أن يعطى قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة «غلولا» تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر، ولو قرئ (أن يغل) من أغل بمعنى غل، لجاز يأت بما غل يوم القيامة يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله كما جاء في الحديث «4» «جاء يوم القيامة يحمله على عنقه «5» » وروى: «ألا لا أعرفن أحدكم يأتى «6» ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء، فينادى يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا فقد بلغتك «7» » وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك، فتليت عليه الآية
__________
(1) . أخرجه الترمذي من حديث خصيف عن مقسم عن ابن عباس بلفظ فقال بعض الناس، وقال حسن. قال وروى عن مقسم ولم يذكر ابن عباس ورواه الطبراني وأبو يعلى وابن عدى والطبري والواحدي كلهم من هذا الوجه.
وأعله ابن عدى بخصيف.
(2) . ذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن الكلبي ومقاتل قال «نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز الخ»
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا وكيع حدثنا سلمة بن نبيط. عن الضحاك، فذكره به وأتم منه. وأخرجه الطبري والواحدي في أسبابه.
(4) . تقدم قبل ستة أحاديث
(5) . قوله: «جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» : لعل صدره: من غل شيئا. (ع)
(6) . قوله: «وروى: ألا لا أعرفن أحدكم يأتى» قوله: «لا أعرفن» بلفظ المنفي المؤكد بالنون، ومعناه النهى. أى لا يغل أحدكم فأعرفه. اه قسطلانى. (ع) [.....]
(7) . رواه على بن المديني في العلل وأبو يعلى والطبري من رواية حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بهذا في حديث طويل، وأصله في الصحيحين عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن أبى هريرة بلفظ «ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ... الحديث»

(1/434)


هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)

فقال: إذا أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. ويجوز أن يراد يأتى بما احتمل من وباله وتبعته وإثمه فإن قلت: هلا قيل: ثم يوفى ما كسب، ليتصل به؟ قلت: جيء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيرا أو شرا مجزى فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهم لا يظلمون أى يعدل بينهم في الجزاء، كل جزاؤه على قدر كسبه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 163 الى 164]
هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)
هم درجات أى هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات كقوله:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالى أم همو درج السيول «1»
وقيل: ذوو درجات. والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين، أو التفاوت بين الثواب والعقاب والله بصير بما يعملون عالم بأعمالهم ودرجاتها فمجازيهم على حسبها لقد من الله على المؤمنين على من آمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه. وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه من أنفسهم من جنسهم عربيا مثلهم. وقيل من ولد إسماعيل كما أنه من ولده، فإن قلت:
مما وجه المنة عليهم في أن كان من أنفسهم؟ قلت: إذا كان منهم كان اللسان واحدا، فسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم، كقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءة فاطمة رضى الله عنها: من أنفسهم، أى من أشرفهم.
لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضى الله عنها- وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر-:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر، وجعلنا حضنة
__________
(1) . أنشده سيبويه عن ابن هدمة، والهمزة للاستفهام، وهو من تجاهل العارف للتعجب والتحزن. والنصب:
الغرض المنصوب يرمى إليه بالسهام، وهو كفلس أوفق بالوزن ويجوز أن أصله كعنق فسكن للوزن، أو ككتب فسكن كذلك. وهذا أوفق بالمعنى. وقد قيل بكل منها. وشبه رجاله به تشبيها بليغا من حيث تتابع إصابة كل بالمكروه. وتعتريهم: جملة حالية. ودرج السيول: محلات انحدارها، شبههم بها لانمحاق كل شيئا فشيئا.

(1/435)


أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165) وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168)

بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وقرئ: لمن من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم. وفيه وجهان: أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم، فحذف لقيام الدلالة، أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما، بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه يتلوا عليهم آياته بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحى ويزكيهم ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر ونجاسة سائر الجوارح بملابسة المحرمات وسائر الخبائث.
وقيل: ويأخذ منهم الزكاة ويعلمهم الكتاب والحكمة القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم وإن كانوا من قبل من قبل بعثة الرسول لفي ضلال إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وتقديره: وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين ظاهر لا شبهة فيه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165) وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167) الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168)
أصابتكم مصيبة يريد: ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم قد أصبتم مثليها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. و (لما) نصب بقلتم. و (أصابتكم) في محل الجر بإضافة (لما) إليه وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. وأنى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله: (ولقد صدقكم الله وعده) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا، أنى هذا: من أين هذا. كقوله تعالى: (أنى لك هذا) لقوله من عند أنفسكم وقوله: (من عند الله)

(1/436)


والمعنى: أنتم السبب فيما أصابكم، لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز.
وعن على رضى الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم إن الله على كل شيء قدير فهو قادر على النصر وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى وما أصابكم يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين (ف) هو كائن (بإذن الله) أى بتخليته، استعار الإذن لتخليته الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده وليعلم وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء وقيل لهم من جملة الصلة عطف على نافقوا، وإنما لم يقل فقالوا لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال، كأنه قيل: فماذا قالوا لهم. فقيل: قالوا: لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على: (نافقوا)
، ويكون (وقيل لهم) كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة «1» دفعا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأسا لنفاقهم ودغلهم «2» وذلك ما روى أن عبد الله بن أبى انخزل مع حلفائه، فقيل له، فقال ذلك. وقيل أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. وعن سهل بن سعد الساعدي- وقد كف بصره-:
لو أمكننى لبعت دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: (أو ادفعوا) أراد: كثروا سوادهم. ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم لو نعلم قتالا لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، لأن رأى عبد الله كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يعنى أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخزال تقوية للمشركين يقولون بأفواههم لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعى قلوبهم منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم والله أعلم بما يكتمون من النفاق، وبما يجرى بعضهم مع بعض من ذم
__________
(1) . قوله «غم الآخرة» لعله هم الآخرة. (ع)
(2) . قوله «ودغلهم» في الصحاح: الدغل- بالتحريك- الفساد، مثل الدخل. (ع)

(1/437)


المؤمنين وتجهيلهم وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك، لأنكم تعلمون بعض ذلك علما مجملا بأمارات، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته الذين قالوا في إعرابه أوجه: أن يكون نصبا على الذم أو على الرد على الذين نافقوا، أو رفعا على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون. ويجوز أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم، كقوله:
على جوده لضن بالماء حاتم «1»
لإخوانهم لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار وقعدوا أى قالوا وقد قعدوا عن القتال: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين معناه:
قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا، يعنى أن ذلك الدفع غير مغن عنكم، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها. وروى أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم «2» بالقعود، فما معنى قوله: (إن كنتم صادقين) ؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل
__________
(1) .
فلما تصافنا الاداوة أجهشت ... إلى غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم
للفرزدق، يعتذر عما وقع منه في السفر مع دليله عاصم العنبري حين ضل الطريق. والتصافن: اقتسام الماء القليل بالصفن، وهو وعاء صغير لنحو الوضوء. والأداوة: ظرف الماء، وجمعها أداوى. وإيقاع التصافن عليها مجاز عقلى لأنها محل الماء الذي اقتسموه. وأقرب منه أنها مجاز مرسل عما فيها. والجهش والإجهاش: تضرع الإنسان إلى غيره وتهيئته للبكاء إليه كالصبي إلى أمه. وغضون الجلد: مكاسره. ويروى: عيون. وإسناد الإجهاش إليها مجاز عقلى، لأنها محل ظهور أثره. والجراضم: واسع البطن كثير الأكل. والمراد بالجلمود: إناء صلب كبير مثل رأسه، أى العنبري. وفيه إشارة إلى حمقه، لأن إفراط الرأس في العظم أمارة البلادة. وفي الصلابة أيضا إشارة إلى ذلك، ليشرب: أى ليأخذ ماء القوم بين الصرائم، جمع صريمة وهي منقطع الرمل، أو قطيع من الإبل إشارة إلى أنهم كانوا بمفازة لا ماء بها على حالة ضنكة، لو ثبت في تلك الحالة أن حاتما في القوم مع جوده المشهور لبخل بالماء. «وعلى» بمعنى «في» ويؤيده رواية المبرد في كامله: «على ساعة» وحاتم- بالجر- بدل من ضمير جوده.
وفيه تنويه بذكر الاسم وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج.
(2) . قال محمود: «إن قلت فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا ... الخ» قال أحمد: السؤال المذكور إنما يرد على معتزلي من مثله، فإنهم يعتقدون أن الموت قد يكون بحلول الأجل، وقد يكون قبله، وأن المقتول لولا القتل لاستوفى أجله المكتوب له الزائد على ذلك، فلا جرم أن الإنسان على زعمهم يدفع عن نفسه العارض قبل حلول الأجل بتوقى الأسباب الموجبة لذلك، فعلى ذلك ورد السؤال المذكور. وأما أهل السنة فمعتقدهم أن كل ميت بأجله يموت، ويقولون: إن الخارجين إلى القتال في المعركة لم يكن بد من موتهم في ذلك الوقت، وأن ذلك الحين هو وقت حينهم في علم الله عز وجل، إيمانا بقوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وخلافا للمنافقين وللموافقين لهم من المعتزلة في قولهم: لو أطاعونا ما ماتوا. ولعمري إنهم في هذا المعتقد مقلدون لنمروذ في قوله: أنا أحيى وأميت، فان الأحمق ظن أنه يقتل إن شاء فيكون ذلك إماتة، ويعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وغاب عنه أن الذي عفا عن قتله إنما حيي لاستيفاء الأجل الذي كتبه الله له، وأن الذي قتله إنما مات لأنه استوفى تلك الساعة أجله، والله الموفق.

(1/438)


ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)

يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره، لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر: إن كنتم صادقين في قولكم:
لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين. وقوله (فادرؤا عن أنفسكم الموت) استهزاء بهم، أى إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت، فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 171]
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)
ولا تحسبن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على:
ولا يحسبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ولا يحسبن حاسب. ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أى ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله أحياء والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليهما. وقرئ: ولا تحسبن بفتح السين، وقتلوا بالتشديد. وأحياء بالنصب على معنى: بل احسبهم أحياء عند ربهم مقربون عنده ذوو زلفى، كقوله: (فالذين عند ربك) . يرزقون مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله فرحين بما آتاهم الله من فضله وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم، من كونهم أحياء مقربين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها. وعن النبي صلى الله عليه

(1/439)


الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)

وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش «1» » ويستبشرون) بإخوانهم المجاهدين بالذين لم يلحقوا بهم أى لم يقتلوا فيلحقوا بهم من خلفهم يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقيل: لم يلحقوا بهم، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم ألا خوف عليهم بدل من الذين. والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة. بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب. وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) من ذكر النعمة والفضل، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع. وقرئ (وأن الله) بالفتح عطفا على النعمة والفضل. وبالكسر على الابتداء وعلى أن الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي. وتعضدها قراءة عبد الله.
والله لا يضيع.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 172 الى 174]
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)
الذين استجابوا مبتدأ خبره (للذين أحسنوا) أو صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح.
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا «2» وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال،
__________
(1) . أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة والحاكم وأبو يعلى والبزار كلهم من حديث ابن عباس به وأتم منه.
قال الدارقطني تفرد به محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، وأصله في مسلم من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، بلفظ «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تمرح في الجنة حيث شاءت- الحديث» .
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه ومن طريقه البيهقي في الدلائل فذكره مطولا

(1/440)


وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت. و «من» في للذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة) لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، لا بعضهم. وعن عروة بن الزبير: قالت لي عائشة رضى الله عنها «إن أبويك لمن الذين استجابوا لله والرسول «1» » تعنى أبا بكر والزبير الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم روى أن أبا سفيان نادى «2»
عند انصرافه من أحد. يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران. فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعى وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم، إنى واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأى. أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريدا، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، فو الله لا يفلت منكم أحد. وقيل: مر بأبى سفيان ركب من عبد القبس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم، فكره المسلمون الخروج. فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد، فخرج في سبعين راكبا «3» وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل- وقيل: هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار- حتى وافوا بدرا وأقاموا بها ثماني ليال، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق. قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. فالناس الأولون: المثبطون.
والآخرون: أبو سفيان وأصحابه. فإن قلت: كيف قيل (الناس) إن كان نعيم هو المثبط وحده؟
قلت: قيل ذلك لأنه من جنس الناس، كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد. أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه، ويصلون جناح كلامه، ويثبطون مثل تثبيطه. فإن قلت: إلام يرجع المستكن في فزادهم؟ قلت: إلى
__________
(1) . متفق عليه ووهم الحاكم فاستدركه.
(2) . ذكره الثعلبي عن مجاهد وعكرمة وسنده إليهما في أول كتابه. وروى ابن سعد في الطبقات بعضه.
(3) . أخرجه ابن سعد من طريق ابن إسحاق. وموسى بن عقبة وغيرهما. وأخرجه الواقدي في المغازي. قال حدثني الضحاك بن عثمان وعبد الله بن جعفر ومحمد بن عبد الله بن مسلم وابن أبى حبيب وغيرهم. قالوا «لما أراد أبو سفيان أن ينصرف من أحد» فذكره مطولا. قوله وقيل هي الكلمة التي قال إبراهيم حين ألقى في النار. رواه البخاري من طريق أبى الضحى عن ابن عباس.

(1/441)


إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)

المقول الذي هو (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيمانا، أو إلى مصدر قالوا، كقولك: من صدق كان خيرا له. أو إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده.
فإن قلت: كيف زادهم نعيم أو مقوله إيمانا؟ قلت: لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام، كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. وعن ابن عمر: قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة. وينقص حتى يدخل صاحبه النار» «1» وعن عمر رضى الله عنه: أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيمانا «2» . وعنه: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به «3» حسبنا الله محسبنا، أى كافينا. يقال: أحسبه الشيء إذا كفاه. والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة لأن إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقة ونعم الوكيل ونعم الموكول إليه هو فانقلبوا فرجعوا من بدر بنعمة من الله وهي السلامة وحذر العدو منهم وفضل وهو الربح في التجارة، كقوله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) . لم يمسسهم سوء لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو واتبعوا رضوان الله بجرأتهم وخروجهم والله ذو فضل عظيم قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. وروى أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 175]
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية على بن عبد العزيز عن حبيب بن عيسى بن فروخ عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن مالك عن نافع عنه.
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة في الايمان من رواية رزين عن عبد الله عنه. ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي. والبيهقي في الشعب.
(3) . أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من رواية هذيل بن شرحبيل عن عمر وإسناده صحيح وروى مرفوعا أخرجه ابن عدى من رواية عبد العزيز بن أبى رواد عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما رفعه «لو وضع إيمان أبى بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها» في إسناده عيسى بن عبد الله بن سليمان وهو ضعيف. قلت: لم ينفرد به بل تابعه عبد الله بن عبد العزيز بن أبى رواد بلفظ «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم» أخرجه ابن عدى أيضا. وحديث عمر الموقوف أخرجه أيضا ابن المبارك في الزهد. ومعاذ بن المثنى في زيادات مسند مسدد. [.....]

(1/442)


ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178)

الشيطان خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلك المثبط هو الشيطان. ويخوف أولياءه: جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو الشيطان صفة لاسم الإشارة. ويخوف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان، أى قول إبليس لعنه الله يخوف أولياءه يخوفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وتدل عليه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه. وقوله: فلا تخافوهم. وقيل: يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإلام رجع الضمير في فلا تخافوهم على هذا التفسير؟ قلت: إلى الناس في قوله: (إن الناس قد جمعوا لكم) فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا وخافون فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به إن كنتم مؤمنين يعنى أن الإيمان يقتضى أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس (ولا يخشون أحدا إلا الله) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 178]
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178)
يسارعون في الكفر يقعون فيه سريعا ويرغبون فيه أشد رغبة، وهم الذين نافقوا من المتخلفين. وقيل: هم قوم ارتدوا عن الإسلام. فإن قلت: فما معنى قوله: (ولا يحزنك) ؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد؟ قلت: معناه: لا يحزنوك لخوف أن أن يضروك ويعينوا عليك. ألا ترى إلى قوله إنهم لن يضروا الله شيئا يعنى أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، وما وبال ذلك عائدا على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة أى نصيبا من الثواب ولهم بدل الثواب عذاب عظيم وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه. فإن قلت: هلا قيل: لا يجعل الله لهم حظا في الآخرة، وأى فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت: فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر، تنبيها على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم إن الذين اشتروا الكفر

(1/443)


بالإيمان
إما أن يكون تكريرا لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم. وإما أن يكون عاما للكفار، والأول خاصا فيمن نافق من المتخلفين، أو ارتد عن الإسلام أو على العكس. وشيئا نصب على المصدر لأن المعنى: شيئا من الضرر وبعض الضرر الذين كفروا فيمن قرأ بالتاء نصب وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل منه: أى ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم، و «أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، كقوله: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون، وما مصدرية، بمعنى: ولا تحسبن أن إملاءنا خير، وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة. ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف. فإن قلت: كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟
قلت: صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى: ألا تراك تقول:
جعلت متاعك بعضه فوق بعض، مع امتناع سكوتك على متاعك. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف على: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم. أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. وهو فيمن قرأ بالياء رفع، والفعل متعلق بأن وما في حيزه.
والإملاء لهم: تخليتهم وشأنهم، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.
وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم. والمعنى: ولا تحسبن أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم أنما نملي لهم «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة، لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه «1» لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك. وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه. فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكان الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية. ولا يحسبن بالياء، على معنى: ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله: (أنما نملي لهم خير لأنفسهم) اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم ... الخ» ؟ قال أحمد: بنى الزمخشري هذا الجواز على شفا جرف هار فانهار، لأن معتقده أن الإثم الواقع منهم ليس مردا لله تعالى بل هو واقع على خلاف الارادة الربانية، فلما وردت الآية مشعرة بأن ازدياد الإثم مرادا لله تعالى إشعارا لا يقبل التأويل، أخذ يعمل الحيلة في وجه من التعطيل التزاما لإتمام الفاسد وضربا في حديد بارد، فجعل ازدياد الإثم سببا وليس بغرض.

(1/444)


ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179)

بتفسيح المدة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت: فما معنى قوله ولهم عذاب مهين على هذه القراءة؟ قلت: معناه: ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين.

[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179)
اللام لتأكيد النفي على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين حتى يميز الخبيث من الطيب حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ: يميز. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير: يميز، من أماز بمعنى ميز. فإن قلت: لمن الخطاب في: (أنتم) ؟ قلت: للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها- من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعا- حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال وما كان الله ليطلعكم على الغيب أى وما كان الله ليؤتى أحدا منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها ولكن الله يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأن في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد:
لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به.
وما كان الله ليطلع أحدا منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعا عليها ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيخبره ببعض المغيبات فآمنوا بالله ورسله بأن تقدروه حق قدره، وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين، لا يعلمون إلا ما علمهم الله، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء. وعن السدى قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر. فنزلت.

(1/445)


ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182)

[سورة آل عمران (3) : آية 180]
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180)
(ولا تحسبن) من قرأ بالتاء قدر مضافا محذوفا، أى ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله، أو ضمير أحد. ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان المفعول الأول عنده محذوفا تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم والذي سوغ حذفه دلالة (يبخلون) عليه، وهو فصل. وقرأ الأغمش بغير هو سيطوقون تفسير لقوله هو شر لهم أى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثالهم: تقلدها طوق الحمامة، إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقيل: يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة «يطوق بشجاع أقرع «1» » وروى بشجاع أسود. وعن النخعي سيطوقون بطوق من نار ولله ميراث السماوات والأرض أى وله ما فيها مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله. ونحوه قوله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) وقرئ (بما تعملون بالتاء والياء فالتاء على طريقة الالتفات، وهي أبلغ في الوعيد والياء على الظاهر.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182)
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، فلا يخلو إما أن يقولوه عن اعتقاد لذلك، أو عن استهزاء بالقرآن، وأيهما كان فالكلمة عظيمة لا تصدر إلا عن متمردين في كفرهم. ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعد له كفاءه من العقاب سنكتب ما قالوا في صحائف الحفظة. أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فإن قلت: كيف قال: (لقد سمع الله) ثم قال: (سنكتب) وهلا قيل: ولقد كتبنا؟ قلت: ذكر وجود
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رفعه «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل ماله بشجاع أقرع له زبيبتان بطوقه يوم القيامة» .

(1/446)


الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)

السماع أولا مؤكدا بالقسم ثم قال: سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبدا إثباته وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء. وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظائم، وأنهم أصلاء في الكفر ولهم فيه سوابق، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبى بكر رضى الله عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا «1» ، فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حين سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت. ونحوه قولهم (يد الله مغلولة) ونقول لهم ذوقوا وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة: ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص. يقال للمنتقم منه: أحس، وذق. وقال أبو سفيان لحمزة «2» رضى الله عنه: ذق عقق «3» وقرأ حمزة: سيكتب، بالياء على البناء للمفعول، ويقول بالياء. وقرأ الحسن والأعرج: سيكتب بالياء وتسمية الفاعل. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا ذلك إشارة إلى ما تقدم من عقابهم وذكر الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بهن، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدى على سبيل التغليب فإن قلت: فلم عطف قوله وأن الله ليس بظلام للعبيد على ما قدمت أيديكم، وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت: معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 183 الى 184]
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤ بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن أبى محمد عن عكرمة عن ابن عباس.
فذكره مطولا
(2) . ذكره ابن إسحاق في المغازي قال: وكان الجليس بن زياد الكناني سيد الأحابيش مر بأبى سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول «ذق عقق» ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الدارقطني في المؤتلف.
(3) . قوله: «لحمزة رضى الله عنه: ذق عقق» في الصحاح: عاق وعقق، مثل عامر وعمر. وذق عقق: أى ذق جزاء فعلك يا عاق. (ع)

(1/447)


كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185)

عهد إلينا أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه الآية الخاصة، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله، كما كان أنبياء بنى إسرائيل تلك آيتهم، كان يقرب بالقربان، فيقوم النبي فيدعو، فتنزل نار من السماء فتأكله، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله، لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان للرسول الآتي به إلا لكونه آية ومعجزة فهو إذن وسائر الآيات سواء فلا يجوز أن يعينه الله تعالى من بين الآيات. وقد ألزمهم الله أن أنبياءهم جاءوهم بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق، وجاءوهم أيضا بهذه الآية التي اقترحوها فلم قتلوهم إن كانوا صادقين أن الإيمان يلزمهم بإتيانها وقرئ (بقربان) بضمتين. ونظيره السلطان. فإن قلت:
ما معنى قوله وبالذي قلتم؟ قلت: معناه، وبمعنى الذي قلتموه من قولكم: قربان تأكله النار.
ومؤداه كقوله: (ثم يعودون لما قالوا) أى لمعنى ما قالوا. في مصاحف أهل الشام: وبالزبر وهي الصحف والكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود.

[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185)
وقرأ اليزيدي ذائقة الموت على الأصل. وقرأ الأعمش (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كقوله:
ولا ذاكر الله إلا قليلا «1»
فإن قلت: كيف اتصل به قوله وإنما توفون أجوركم؟ قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون ولا بد لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور. فإن قلت فهذا يوهم نفى ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة
__________
(1) .
فذكرته ثم عاتبته ... عتابا رقيقا وقولا جميلا
فألقيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
لأبى الأسود الدؤلي، كان يجلس إلى فناء امرأة جميلة بالبصرة فقالت له: هل لك أن أتزوج بك؟ فانى حميدة الخصال وكيت وكيت. فقال: نعم وتزوجها من أهلها، فوجدها بضد ما قالت، فعاتبها وخاطب أهلها بشعر منه ذلك، ثم طلقها أمامهم. وكنى بضمير المذكر عنها استحياء. أى فذكرتها بما قالت وعاتبتها على ما فعلت عتابا حسنا، فوجدتها غير قابلة منى عتابا. ولفظ الجلالة نصب بذاكر، وحذف تنوينه مع أنه غير مضاف تشبيها بحذف نون التوكيد الخفيفة لملاقاة الساكن. أو بتنوين العلم الموصوف بابن مضافا إلى علم. وذاكر: عطف على مستعتب.
و «لا» زائدة لتوكيد النفي، ولم يضف ذاكر إلى الله ليتمحض للتنكير كالذي قبله، وليكون أبلغ في النفي لأن الاضافة قد تفيد أن شأنه الذكر، فيتوهم أن النفي هو الشأنية لا أصل الذكر.

(1/448)


لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)

أو حفرة من حفر النار «1» . قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها «2» يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور. الزحزحة: التنحية والإبعاد تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة فقد فاز فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد. اللهم وفقنا لما ندرك به عندك الفوز في المآب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه «3» » وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد. شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته. والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من يصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.

[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)
والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب.
وفي الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب «4» المطاعن في الدين الحنيف، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص،
__________
(1) . أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد وهو ضعيف. ورواه الطبراني في الأوسط في ترجمة مسعود بن محمد الرملي بإسناده إلى أبى هريرة وقال: لم يروه عن الأوزاعى إلا أيوب بن سويد. تفرد به ولده محمد عنه. قلت:
وهو ضعيف.
(2) . قال محمود: «لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ... الخ» قال أحمد: هذا كما ترى صريح في اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد بما يكون في القبر من نعيم وعذاب. ولقد أحسن الزمخشري في مخالفة أصحابه في هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به، والله الموفق.
(3) . أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث طويل
(4) . قوله «وما يسمعون من أهل الكتاب» بقي ما يسمعون من الذين أشركوا. (ع)

(1/449)


وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187)

ومن بنى قريظة والنضير فإن ذلك فإن الصبر والتقوى من عزم الأمور من معزومات الأمور، أى مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم الله أن يكون، يعنى أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا.

[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187)
وإذ أخذ الله واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب لتبيننه الضمير للكتاب.
أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له.
آلله لتفعلن فنبذوه وراء ظهورهم فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعنى لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد. ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا أحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطيب لنفوسهم. واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية: مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم، وغبرة أن ينسب إليه غيرهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من كتم علما عن أهله ألحم بلجام من نار» «1» وعن طاوس أنه قال
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من رواية على بن الحكم البناني عن عطاء عن أبى هريرة بلفظ «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار» أخرجه أبو داود من رواية حماد بن سلمة، والآخران من رواية عمارة بن زاذان كلاهما عن على، ورجال أبى داود ثقات. لكن له علة. رواه عبد الوارث عن على بن الحكم عن رجل عن عطاء. ويقال: إن هذا المبهم حجاج بن أرطاة، وفي رواية ابن ماجة التصريح بسماع على بن عطاء.
لكن عمارة ضعيف. ولحديث أبى هريرة طريق أخرى حسنها ابن القطان فذكره من رواية قاسم بن أصبغ عن أبى الأحوص وهو العكبري عن ابن السرى عن معتمر عن أبيه عن عطاء به، وابن أبى السرى له أرهام، وكأنه دخل عليه حديث في حديث. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن عطاء به، وجابر ضعيف، وله طرق كثيرة عن أبى هريرة أوردها ابن الجوزي في العلل المتناهية. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم من طريق ابن وهب عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن أبى عبد الرحمن الحبلى عنه، وعن ابن عباس أخرجه الطبراني والعقيلي وفيه معمر بن زائدة قال العقيلي: لا يتابع عليه. وله طريق أخرى قاله أبو يعلى: حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد حدثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وأخرجه ابن الجوزي من طريقين آخرين وضعفهما. وعن أنس، رواه ابن ماجة من طريق يوسف بن ابراهيم سمعت أنسا به وأخرجه ابن الجوزي من طريقين آخرين وضعفهما أيضا. وعن ابن مسعود وطلق بن على كلاهما في الطبراني. وعن جابر وعائشة كلاهما عند العقيلي. وعن ابن عمر عند ابن عدى. وعن أبى سعيد الخدري عن أبى يعلى وأسانيدها كلها ضعيفة. وعن عمرو بن عبسة أخرجه ابن الجوزي بلفظ «فقد بريء من الإسلام» وإسناده ضعيف أيضا. قال الامام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء (تنبيه) ليس في شيء من طرقه «عن أهله»

(1/450)


لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188)

لوهب: إنى أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب. وقال: والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن الله سيعذبك، وعن محمد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه «1» ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن على رضى الله عنه. ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا «2» . وقرئ: ليبيننه. ولا يكتمونه، بالياء، لأنهم غيب. وبالتاء، على حكاية مخاطبتهم، كقوله: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن)

[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188)
لا تحسبن خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحد المفعولين الذين يفرحون والثاني (بمفازة) وقوله فلا تحسبنهم تأكيد تقديره: لا تحسبنهم، فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ:
لا تحسبن. فلا تحسبنهم، بضم الباء على خطاب المؤمنين. ولا يحسبن. فلا يحسبنهم، بالياء وفتح الباء فيهما، على أن الفعل للرسول. وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني، على أن الفعل للذين يفرحون، والمفعول الأول محذوف على: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، وفلا يحسبنهم، تأكيد. ومعنى بما أوتوا بما فعلوا. وأتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل. قال الله تعالى: (إنه كان وعده مأتيا) ، (لقد جئت شيئا فريا) . ويدل عليه قراءة أبى: يفرحون بما فعلوا. وقرئ: آتوا، بمعنى أعطوا. وعن على رضى الله عنه: بما أوتوا. ومعنى بمفازة من العذاب بمنجاة منه. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه «3» ، وأروه أنهم قد صدقوه، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم: أى: لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا- من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه- ناجين من العذاب. ومعنى (يفرحون بما أتوا)
__________
(1) . قوله «على علمه» لعل بعده سقطا تقديره «حتى يعلم» . (ع)
(2) . رواه الحرث بن أبى أسامة أخبرنا عبد الوهاب الخفافى حدثنا الحسن بن عمارة حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الجزار: سمعت عليا يقول فذكره والحسن متروك، ومن طريق الحرث رواه الثعلبي ورويناه في جزء الذراع قال: كتب الحارث بن أسامة فذكره، وذكره ابن عبد البر في العلم. قال: ويروى عن على. وذكره صاحب الفردوس عن على. فكأنه وقف عليه مرفوعا.
(3) . متفق عليه من رواية حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه: يا رافع اذهب إلى ابن عباس فقل له لئن كان امرؤ منا فرح بما أوتى وحمد بما لم يفعل عذب لنعذبن جميعا. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، أتاه اليهود فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه ... الحديث» . [.....]

(1/451)


ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير (189) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191)

بما أوتوه من علم التوراة. وقيل يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهودية وأنهم على دينه. وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قفل اعتذروا إليه بأنهم رأوا المصلحة في التخلف، واستحمدوا إليه بترك الخروج. وقيل: هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين ومنافقتهم وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة لإبطانهم الكفر. ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتى بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 191]
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير (189) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191)
ولله ملك السماوات والأرض فهو يملك أمرهم. وهو على كل شيء قدير، فهو يقدر على عقابهم لآيات لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته لأولي الألباب للذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر. وفي النصائح الصغار: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلهما في جملة هذه العجائب، متفكرا في قدرة مقدرها، متدبرا حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر: وعن ابن عمر رضى الله عنهما: قلت لعائشة رضى الله عنها: أخبرينى بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، «1» فبكت وأطالت، ثم قالت: كل أمره عجب، أتانى في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول الله، إنى لأحب قربك وأحب هواك، قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلى، فقرأ من القرآن فجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكى، ثم رفع يديه فجعل يبكى
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء: دخلت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول كما قال الأول: زر غبا تزدد حبا، فقالت: دعونا من بطالتكم هذه. ثم قال ابن عمر لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث بطوله ورواه عبد بن حميد، والثعلبي وغيرهم من رواية أبى جناب الكلبي عن عطاء قال: دخلت أنا وابن عمر على عائشة فقال لها ابن عمر أخبرينى ... فذكره.

(1/452)


حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا. ثم قال: ومالى لا أبكى وقد أنزل الله على في هذه الليلة (إن في خلق السماوات والأرض) ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروى: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» «1» وعن على رضى الله عنه: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول (إن في خلق السماوات والأرض) «2» . وحكى أن الرجل من بنى إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت له أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك؟ فقال: ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر؟ قال: لعل. قالت:
فما أتيت إلا من ذاك الذين يذكرون الله ذكرا دائبا على أى حال كانوا، من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله، فقال بعضهم: أما قال الله تعالى: (يذكرون الله قياما وقعودا) فقاموا يذكرون الله على أقدامهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله «3» » وقيل: معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب، تومئ إيماء «4» » وهذه حجة للشافعي رحمه الله في إضجاع المريض على جنبه كما في اللحد. وعند أبى حنيفة رحمه الله أنه يستلقى حتى إذا وجد خفة قعد.
ومحل على جنوبهم نصب على الحال عطفا على ما قبله، كأنه قيل: قياما وقعودا ومضطجعين ويتفكرون في خلق السماوات والأرض وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم «5» شأن الصانع
__________
(1) . رواه ابن مردويه في تفسير سورة الروم من رواية أبى جناب عن عطاء عن عائشة قالت «لما نزلت هذه الآية (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويح لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتفكر فيها»
(2) . رواه الثعلبي من طريق حماد عن حجاج عن حبيب بن أبى ثابت عن محمد بن على بن أبى طالب عن على وأصله في المتفق عليه من حديث ابن عباس.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والطبراني من حديث معاذ وفي إسناده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وأخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت، وابن مردويه في تفسير الواقعة.
(4) . أخرجه البخاري وأصحاب السنن، من حديث عمران بن حصين. قال «كانت في بواسير- فذكر الحديث» وليس في آخره يومئ إيماء» وأورده صاحب الهداية- كما أورده الزمخشري.
(5) . قوله «على عظم» لعله من عظم ... الخ، فيكون بيانا لما يدل عليه. (ع)

(1/453)


ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194)

وكبرياء سلطانه. وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشى عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبى صلى الله عليه وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك ربا وخالقا، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له» «1» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر «2» » وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» «3» قالوا:
وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ما خلقت هذا باطلا على إرادة القول. أى يقولون ذلك وهو في محل الحال، بمعنى يتفكرون قائلين. والمعنى: ما خلقته خلقا باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك ولذلك وصل به قوله فقنا عذاب النار لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت:
هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، كأنه قيل: ويتفكرون في مخلوق السموات والأرض، أى فيما خلق منها. ويجوز أن يكون إشارة إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق. كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. وفي هذا ضرب من التعظيم كقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ويجوز أن يكون باطلا حالا من هذا. وسبحانك:
اعتراض للتنزيه من العبث، وأن يخلق شيئا بغير حكمة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 192 الى 194]
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة وفي إسناده من لا يعرف.
(2) . أخرجه ابن حبان في الضعفاء، والبيهقي في الشعب من رواية أبى رجاء محمد بن عبد الله الخرطى من أهل شر عن شعبة عن أبى إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على رضى الله عنه أنه قال لابنه الحسن «يا بنى، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا مال أعوز من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كحسن الخلق، ولا عبادة كالتفكر ... الحديث بطوله» وأبو رجاء، قال البيهقي: ليس بالقوى، وقال ابن حبان يروى عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات.
(3) . لم أجده.

(1/454)


فقد أخزيته فقد أبلغت في إخزائه. وهو نظير قوله فقد فاز. ونحوه في كلامهم: من أدرك مرعى الصمان «1» فقد أدرك، ومن سبق فلانا فقد سبق وما للظالمين اللام إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأن من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها «2» ، تقول:
سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم. فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد، وأن يقال سمعت كلام فلان أو قوله. فإن قلت: فأى فائدة في الجمع بين المنادى وينادى؟ قلت: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادى لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان. ونحوه قولك: مررت بهاد يهدى للإسلام. وذلك أن المنادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك فإذا قلت: ينادى للإيمان، ويهدى للإسلام، فقد رفعت من شأن المنادى والهادي وفخمته. ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وندبه له وإليه، وناداه له وإليه. ونحوه: هداه للطريق وإليه، وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعا، والمنادى هو الرسول (أدعوا إلى الله) ، (ادع إلى سبيل ربك) . وعن محمد بن كعب: القرآن. أن آمنوا أى آمنوا، أو بأن آمنوا ذنوبنا كبائرنا سيئاتنا صغائرنا مع الأبرار مخصوصين بصحبتهم، معدودين في جملتهم. والأبرار: جمع بر أو بار، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب على رسلك على هذه صلة للوعد، كما في قولك: وعد الله الجنة على الطاعة. والمعنى: ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادى للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف، أى ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك (فإنما عليه ما حمل) وقيل: على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل:
النصرة على الأعداء. فإن قلت: كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو هو باب من اللجأ إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك
__________
(1) . قوله «من أدرك مرعي الصمان» في الصحاح: موضع إلى جنب رمل عالج. وعالج: موضع بالبادية به رمل. (ع)
(2) . قوله «فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة، فمن يدخل النار من المؤمنين يخرج بالشفاعة أو بالعفو، كما حقق في محله. (ع)

(1/455)


فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195)

التذلل لربهم والتضرع إليه، واللجأ الذي هو سيما العبودية.

[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195)
يقال استجاب له واستجابه:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «1»
أني لا أضيع قرئ بالفتح على حذف الياء، وبالكسر على إرادة القول. وقرئ:
لا أضيع، بالتشديد من ذكر أو أنثى بيان لعامل بعضكم من بعض أى يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر، أى من أصله، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم. وقيل المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين. وروى أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، إنى أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء «2» . فنزلت فالذين هاجروا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم، كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة، وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم من دار الفتنة، واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشوا بما سامهم «3» المشركون من الخسف وأوذوا في سبيلي من أجله وبسببه، يريد
__________
(1) .
وداع دعا يا من يهيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبى المغوار منك قريب
لكعب بن سعد الغنوي، يرثى أخاه هرم وكنيته أبو المغوار. و «جهرة» مفعول مطلق مؤكد. و «أبى» مجرور بلعل، وهي لغة عقيل. واستعمال لعل في الأمر البعيد- مع أنها للرجاء والقرب- دليل على شدة ولهه وتنزيله البعيد منزلة القريب. وروى: «لعل أبا المغوار» على اللغة المشهورة. يقول: ورب داع إلى المكارم لم يهبه أحد فقلت له: ادع مرة أخرى برفع صوتك، لعل أخي يكون قريبا فيجيبك على عادته، فانه كثيرا ما يطلب معالى الأمور. وهذا من باب التمثيل والتخييل، لأنه لا داعى في الواقع.
(2) . أخرجه الترمذي، من رواية عمرو بن دينار أخبرنى سلمة- رجل من ولد أم سلمة رضى الله عنها- قال قالت أم سلمة.
(3) . قوله «بما سامهم» في الصحاح: يقال سامه الخسف، وسامه خسفا، وخسفا أيضا بالضم: اى أولاه ذلا. (ع) [.....]

(1/456)


لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197)

سبيل الدين وقاتلوا وقتلوا وغزوا المشركين واستشهدوا. وقرئ: وقتلوا، بالتشديد. وقتلوا وقاتلوا- على التقديم- بالتخفيف والتشديد. وقتلوا، وقتلوا، على بناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقتلوا، وقاتلوا، على بنائهما للفاعل ثوابا في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويبا من عند الله لأن قوله: (لأكفرن عنهم....) (ولأدخلنهم) في معنى. لأثيبنهم. وعنده مثل: أن يختص به وبقدرته وفضله، لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه، كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. وهذا تعليم من الله كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرع. وتكرير (ربنا) من باب الابتهال، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة، من احتمال المشاق في دين الله، والصبر على صعوبة تكاليفه، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه، وتسجيل على من لا يرى الثواب «1» موصولا إليه، بالعمل بالجهل والغباوة.
وروى عن جعفر الصادق رضى الله عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية. وعن الحسن: حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات (ربنا) ثم أخبر أنه استجاب لهم، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد من تقديمه بين يدي الدعاء.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197)
(لا يغرنك) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد، أى لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض، وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون وبتدهقنون «2» . وعن ابن عباس: هم أهل مكة. وقيل: هم اليهود. وروى أن أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار
__________
(1) . قوله «وتسجيل على من لا يرى الثواب» يريد أهل السنة القائلين يجوز على الله أن يتفضل على العبد بدون عمل ولا يجب عليه إثابة العامل. وقد حقق في محله. (ع)
(2) . قوله «ويتجرون ويتدهقنون» يتملئون ويتمتعون بلين الطعام وطيب الشراب. أفاده الصحاح، في مادة دهق، ومادة دهقن. والأوفق بما في الصحاح: يتدهمقون، حيث قال: قال الأصمعى: الدهمقة: لين الطعام وطيبة ورقته. وحديث عمر «لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: أذهبتم طيباتكم ... الآية» ولم يذكر الدهقنة بهذا المعنى تصريحا. (ع)

(1/457)


لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198) وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)

به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قيل: لا يغرنكم. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه، كقوله: (ولا تكن مع الكافرين) ، (ولا تكونن من المشركين) ، (فلا تطع المكذبين) وهذا في النهى نظير قوله في الأمر (اهدنا الصراط المستقيم) ، (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) وقد جعل النهى في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأن التقلب لو غره لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ: لا يغرنك بالنون الخفيفة متاع قليل خبر مبتدإ محذوف، أى ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد، أراد قلته في جنب ما فإنهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع «1» » وبئس المهاد وساء ما مهدوا لأنفسهم.

[سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198)
النزل والنزل: ما يقام للنازل. وقال أبو الشعراء الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا «2»
وانتصابه إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف والعامل اللام: ويجوز أن يكون بمعنى مصدر «3» موكد، كأنه قيل: زرقاء، أو عطاء من عند الله وما عند الله من الكثير الدائم خير للأبرار مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش (نزلا) بالسكون. وقرأ يزيد بن القعقاع: لكن الذين اتقوا، بالتشديد.

[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد به.
(2) . لأبى الشعراء الضبي. والجبار: الملك العاتي. وضافه يضيفه: نزل عنده ضيفا، أى إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف. وفيه تهكم به حيث جاء محاربا، فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا، ورشح ذلك التشبيه يجعل الرماح والسيوف المرهفات المسنونات نزلا له، وهو الطعام المعد للضيف
(3) . قوله «ويجوز أن يكون بمعنى مصدر» في قوة: وأما على المصدر، لأنه يجوز ... الخ. (ع)

(1/458)


ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)

وإن من أهل الكتاب عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب. وقيل: في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقيل: في أصحمة النجاشي ملك الحبشة، ومعنى أصحمة «عطية» بالعربية. وذلك أنه لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فخرج إلى البقيع ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه واستغفر له: فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه «1» ، فنزلت. ودخلت لام الابتداء على اسم «إن» لفصل الظرف بينهما كقوله: (وإن منكم لمن ليبطئن) . وما أنزل إليكم من القرآن وما أنزل إليهم من الكتابين خاشعين لله حال من فاعل يؤمن، لأن من يؤمن في معنى الجمع لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم أى ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين)
، (يؤتكم كفلين من رحمته) . إن الله سريع الحساب لنفوذ عمله في كل شيء، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر. ويجوز أن يراد: إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد.

[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)
__________
(1) . ذكره الثعلبي من قول ابن عباس وقتادة. ولفظه «فخرج إلى البقيع. وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة بأبصر سرير النجاشي» والباقي نحوه، وقد ذكر إسناده إليهما آخر الكتاب. وذكره الواحدي بلا إسناد، ورواه الطبري وابن عدى في ترجمة أبى بكر الهذلي، واسمه: سلمى، وهو ضعيف- عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن جابر دون قوله «ونظر إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، وزاد فيه، وكبر أربعا، والطبراني في الأوسط» من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد قال «لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفاة النجاشي قال: اخرجوا فصلوا على أخ لكم لم نره قط فخرج بنا، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ووقفنا خلفه، فصلى وصلينا، فلما انصرفنا قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى: (وإن من أهل الكتاب) .

(1/459)


اصبروا على الدين وتكاليفه وصابروا أعداء الله في الجهاد، أى غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا. والمصابرة: باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصا لشدته وصعوبته ورابطوا وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصدين مستعدين للغزو. قال الله عز وجل: (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر «1» وقيامه، لا يفطر، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم» «2» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس» «3» .
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة من حديث سلمان أتم منه ولابن حبان من حديث سلمان «رباط يوم وليلة في سبيل الله أفضل من صيام شهر وقيامه جاع لا يفطر، وقام لا يفتر» وأصله في مسلم، ووهم الحاكم فاستدركه.
(2) . أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبى بن كعب وسيأتى آخر الكتاب، ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن أبى بن كعب، والواحدي في التفسير الأوسط من حديث أبى أمامة رضى الله عنه.
(3) . أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف.

(1/460)


ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)

سورة النساء
مدنية، وهي مائة وست وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النساء (4) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)
يا أيها الناس يا بنى آدم خلقكم من نفس واحدة فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم «1» . فإن قلت: علام عطف قوله وخلق منها زوجها؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يعطف على محذوف، كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها، وخلق منها زوجها.
وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني: أن يعطف على خلقكم، ويكون الخطاب في: (يا أيها الناس) للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبحث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟ قلت: لأن
__________
(1) . قال محمود: «معناه فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعلام عطف ... الخ» قال أحمد:
وإنما قدر المحذوف في الوجه الأول حيث جعل الخطاب عاما في الجنس، لأنه لولا التقدير لكان قوله: (وبث منهما) تكرارا لقوله: (خلقكم) إذ مؤداهما واحد، وليس على سبيل بيان الأول، لأنه معطوف عليه حينئذ. وأما وهو معطوف على المقدر، فذاك المقدر واقع صفة مبينة، والمعطوف عليه داخل في حكم البيان فاستقام. وأما الوجه الثاني فالتكرار فيه ليس بلازم، إذ المخاطب بقوله: (خلقكم)
الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله (وبث منهما) واقع على من عدا المبعوث إليهم من الأمم، فلا حاجة للتقدير المذكور في الوجه الثاني، والله أعلم.

(1/461)


ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدى إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة. وقرئ: وخالق منها زوجها. وباث منهما، بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدإ محذوف تقديره: وهو خالق تسائلون به تتساءلون به، فأدغمت التاء في السين. وقرئ (تساءلون) بطرح التاء الثانية، أى يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم. فيقول: بالله وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف.
وأناشدك الله والرحم. أو تسألون غيركم بالله والرحم، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع، كقولك: رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ: تسلون به. مهموز أو غير مهموز.
وقرئ (والأرحام بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين: إما على: واتقوا الله والأرحام، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمرا. وينصره قراءة ابن مسعود:
نسألون به وبالأرحام، والجر على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.
فما بك والأيام من عجب «1»
والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقا، وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم، فقيل لهم: اتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام
__________
(1) .
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
للأعشى. وقيل: لعمرو بن معديكرب. وقيل: لخفاف بن ندبة. وقيل: لعباس بن مرداس. يقال: قرب الفرس تقريبا أسرع. يقول: فاليوم دنوت مسرعا في هجونا بعد بطئك عنه. ويروى: قد بت، أى قد صرت تهجونا، فاذهب على طريقتك فإنها سمة اللئام وشيمة الأيام، فلا عجب من ذلك، وهو أمر تخلية ومتاركة. والأيام:
عطف على الضمير المجرور، وهو دليل على جوازه بدون إعادة الجار وإن منعه الجمهور.

(1/462)


وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2)

فلا تقطعوها. أو واتقوا الله الذي نتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم. وقد آذن عز وجل- إذ قرن الأرحام باسمه- أن صلتها منه بمكان، كما قال: (ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) وعن الحسن: إذا سألك بالله فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش «1» ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه «الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت «2» منه» . وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا لنطفكم» «3» فقال: يقول لأولادكم. وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم تسمع قوله تعالى (واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام) وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة «4» ، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله.

[سورة النساء (4) : آية 2]
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2)
(اليتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم. الانفراد. ومنه: الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة. وقيل: اليتم في الأناسى من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت: كيف جمع اليتيم- وهو فعيل كمريض- على يتامى؟ قلت: فيه وجهان: أن يجمع على يتمى كأسرى، لأن اليتم من وادى الآفات والأوجاع، ثم يجمع فعلى على فعالي كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجرى اليتيم مجرى الأسماء، نحو صاحب وفارس، فيقال: يتائم، ثم يتامى على القلب. وحق هذا
__________
(1) . قوله «حجنة عند العرش» في الصحاح: الحجن- بالتحريك- الاعوجاج. وصقر أحجن المخالب معوجها. وحجنة المغزل- بالضم- هي المنعقفة في رأسه. وفيه أيضا: عقفت الشيء فانعقف، أى عطفته فانعطف.
والتعقيف: التعويج (ع)
(2) . أخرجه إسحاق بن راهويه: أخبرنا جرير عن قابوس عن أبيه عنه به. ورواه الحكيم الترمذي من هذا الوجه
(3) . رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني من حديث هشام عن أبيه عن عائشة. قال ابن طاهر: لم يروه عن هشام ثقة. ورواه ابن عدى من طريق عيسى بن ميمون أحد الضعفاء عن القاسم عن عائشة رضى الله عنها ورواه تمام في فوائده وأبو نعيم في الحلية من رواية الزهري عن أنس وفيه عبد العظيم بن إبراهيم السالمى وهو مجهول. ورواه ابن عدى من حديث عمر موقوفا. وفيه سليمان بن عطاء وهو ضعيف وقال ابن طاهر: رواه إسحاق بن الغيض عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء، فمرة قال: عن ابن عباس. ومرة قال: عن عائشة. وهذا أجود طرقه إن كان الاسناد إلى إسحاق قويا. قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه [.....]
(4) . قوله «ويجتنب الدعوة» لعله الدعرة بالراء بدل الواو. وفي الصحاح: الدعر- بالتحريك- الفساد. (ع)

(1/463)


الاسم أن يقع على الصغار «1» والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يتيم أبى طالب، إما على القياس وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له. وأما قوله عليه السلام «لا يتم بعد الحلم» «2» فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. فإن قلت: فما معنى قوله وآتوا اليتامى أموالهم؟ قلت:
إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإتيانهم الأموال: أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة، حتى تأتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإما أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم- إذا بلغوا- بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أن فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار. وقيل:
هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «3» فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع ماله إليه فقال النبي عليه السلام: ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعنى جنته، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر، ثبت الأجر وبقي الوزر: قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا أنه ثبت الأجر
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يراد باليتامى الصغار ... الخ» قال أحمد: والوجه الأول قوى بقوله بعد آيات (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد.
ويقوله أيضا قوله عقيب الأولى (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) ، (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره. وأما على الوجه الآخر فيكون مؤدى الآيتين واحدا، وهو الأمر بالايتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالجملة الثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد، والله أعلم.
(2) . أخرجه أبو داود عن على وإسناده حسن لأن له طريقا أخرى عن على أخرجه عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن جويبر موقوفا. وصوبه العقيلي وقد تابع جويبرا عليه عبد الكريم بن أبى المخارق عن الضحاك. وعبد الكريم متروك أيضا وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن سليمان الصوفي من رواية علقمة بن قيس عن على. ورواه أبو يعلى والطبراني من رواية ذيال بن عبيد بن حنظلة بن جذيم بن حنيفة. سمعت جدي حنظلة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره وفي الباب عن أنس عند البزار وفيه مرثد بن عبد الملك وهو ضعيف. وعن جابر عند عبد الرزاق والطيالسي وابن يعلى من رواية حرام بن عثمان وهو متروك. ومن طريق سعيد بن المرزبان عن يزيد الفقير عن جابر. وسعيد ضعيف جدا
(3) . ذكره الثعلبي عن مقاتل والكلبي. وسنده إليهما مذكور في أول الكتاب.

(1/464)


كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت أجر الغلام، وبقي الوزر على والده ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها «1» والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، منه التعجيل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمة:
فيا كرم السكن الذين تحملوا ... عن الدار والمستخلف المتبدل «2»
أراد: ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل: هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيدا. وعن السدى: أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ولا تنفقوها معها. وحقيقتها: ولا تضموها إليها «3» في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم
__________
(1) . قوله «والتورع منها» لعله: عنها. (ع)
(2) . لذي الرمة. والسكن- بالسكون-: سكان الدار، فهو اسم جمع لساكن، كركب لراكب، وصحب لصاحب. وفي نداء كرمهم معنى التعجب من كثرته، أى يا كرم أصحاب الدار الذين ارتحلوا عنها، ويا لؤم المستخلف المتبدل، على صيغة اسم المفعول فيهما أى ما استخلفته وما استبدلته بعدهم من الوحوش. وقيل: من الذين لا يوفون بالمراد، فالتبدل بمعنى الاستبدال. والمستخلف على تقدير مضاف دل عليه المقام.
(3) . قال محمود: «معناه ولا تضموها إلى أموالكم ... إلخ» : قال أحمد: وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهى عن أدناها تنبيها على الأعلى، كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأى مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهى أن يأكله وهو غنى عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه، حتى يلزم نهى الغنى عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر بوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهى عن الأدنى وإن أفاد النهى عن الأعلى إلا أن للنهى عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهى عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل، فخصص بالنهى تشنيعا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء، دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهى بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كاعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم على أى وجه كان منهى عنه، كان ذلك بالادخار، أو بالتباس، أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهى بالأكل: أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهى به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهى بما هو أعلى قوله تعالى: (لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة) فخص هذه الصورة لأن الطبع على الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهى نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم ... ) الآية كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر باسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا فان النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذى الرحم مطلقا حضر أو غاب، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا النظر في جانب الأمر، والله الموفق.

(1/465)


وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)

قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال- وهم على ذلك يطمعون فيها- كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم، ليكون أزجر لهم. والحوب: الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب «1» » فكأنه قيل: إنه كان ذنبا عظيما كبيرا. وقرأ الحسن (حوبا) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ: حابا. ونظير الحوب والحاب: القول والقال. والطرد والطرد.

[سورة النساء (4) : آية 3]
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)
__________
(1) . أخرجه أبو داود في المراسيل وإبراهيم الحربي في الغريب من رواية أنس بن سيرين قال: بلغني أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا أيوب. إن طلاق أم أيوب لحوب» ورواه يحيى الحماني في مسنده. والطبراني في الأوسط من طريقه. قال: حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن محمد بن سيرين عن ابن عباس وزاد: قال ابن سيرين: والحوب الإثم. وروى الحاكم من رواية على بن عاصم عن حميد عن أنس قال: كان بين أبى طلحة وأم سليم كلاما. فأراد أن يطلقها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن طلاق أم سليم لحوب» .

(1/466)


ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء «1» أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن، فقيل لهم:
إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب، لأنه إنما وجب أن يتحرج من الذنب ويتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل:
كانوا لا يتحرجون من الزنا «2» وهم يتحرجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرمات. وقيل:
كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف- لضعفهن وفقد من يغضب لهن- أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل:
أيامى، والأصل: أيائم ويتائم. وقرأ النخعي (تقسطوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لئلا يعلم) يريد: وإن خفتم أن تجوروا ما طاب ما حل لكم من النساء لأن منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء: ومنه قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها، وهي نكرات يعرفن بلام التعريف. تقول: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن
__________
(1) . قال محمود: «لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء ... الخ» قال أحمد: قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا، ما لم يتب عنها، فمن ثم يقولون: لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب والإصرار على بعضها، لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب، ولا يفيد توحيده ولا شيء من أعماله. هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون: إذا تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه، وكأنه قام ببعض الواجبات وترك القيام ببعضها، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن الله ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، فان كان تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى، فالأمر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة، والله ولى التوفيق.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى ... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل الذي أخرجه جدير بالتقدم وهو الأظهر، وتكون الآية معه لبيان حكم اليتامى، وتحذيرا من التورط في الجور عليهن، وأمرا بالاحتياط. وفي غيرهن متسع إلى الأربع، وأصدق شاهد على أنه هو المراد.

(1/467)


النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ (قلت) : الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم- درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة: أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره: أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم: وثلث وربع، على القصر من ثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فواحدة فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا. فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فواحدة) بالرفع على: فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء، من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهن أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة. من ملكت ذلك إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى أدنى ألا تعولوا أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم:
عال الميزان عولا، إذا مال. وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له: أتعول على. وقد روت عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم «ألا تعولوا: أن لا تجوروا «1» » والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر (ألا تعولوا) أن لا تكثر عيالكم، فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم
__________
(1) . أخرجه ابن حبان وابراهيم الحربي والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من رواية عمر بن محمد بن زيد عن هشام عن أبيه عنها، قال ابن أبى حاتم: الصواب موقوف.

(1/468)


وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)

وأئمة الشرع ورؤس المجتهدين، حقيقى بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا «1» . وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العى، من كلام الشافعي» شاهدا بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرفا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت: كيف يقل عيال من تسرى، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك، لأن الغرض بالتزوج التوالد والتناسل بخلاف التسرى، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسرى مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا، من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى الذي قصده.

[سورة النساء (4) : آية 4]
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)
صدقاتهن مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ: (صدقاتهن) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ: صدقتهن، بضم الصاد والدال على التوحيد، وهو تثقيل صدقة، كقولك في ظلمة ظلمة نحلة من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. ومنه حديث أبى بكر رضى الله عنه: إنى كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية «2» . وانتصابها على المصدر «3»
__________
(1) . أخرجه المحاملي. حدثنا زياد بن أيوب. حدثنا محمد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عن سليمان أن عبدة قال: قال عمر فذكره. وإسناده منقطع ورواه الجوهري في مشيخته والأصبهانى في الترغيب في قصة طويلة أولها عن سعيد بن المسيب قال «وضع عمر بن الخطاب للناس ثمان عشرة كلمة كلها حكمة» فذكر فيها ذلك وفي الاسناد ضعف وروى البيهقي في الشعب من وجه آخر عنه قال «كتب إلى بعض إخوانى من الصحابة أن ضع أمر أخيك على أحسنه- الحديث» موقوف أيضا.
(2) . أخرجه مالك بإسناد صحيح أتم منه.
(3) . قال محمود: «نحلة منصوب على المصدر لأنها في معنى الإيتاء ... الخ» قال أحمد: هذا الفصل بجملته حسن جدا، غير أن في جملة تذكير الضمير في منه على الصداق، ثم تنظيره ذلك بقوله «فأصدق نظرا» وذلك أن المراعى ثم الأصل، وهو عدم دخول الفاء والجزم وتقدير ما هو الأصل، وإعطاؤه حكم الموجود ليس ببدع، ولا كذلك إفراد الصداق المقدر، فانه ليس بأصل الكلام، بل الأصل الجمع: وأما الافراد فقد يأتى في مثله على سبيل الاختصار استغناء عن الجمع بالاضافة، ولا يرد أنهم قد راعوا ما ليس بأصل في قوله:
بدا لي أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلا، إلا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه، فصارت كأن الأصل دخولها في الخبر، والله أعلم. والأمر في ذلك قريب [.....]

(1/469)


لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أى أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أى آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا:
أى يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات، أى دينا من الله شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئا لك النافجة، لمن تولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك أى تعظمه. الضمير في: (منه) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك، كما قال الله تعالى: (قل أأنبئكم بخير من ذلكم) بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كأنه فى الجلد توليع البهق «1»
فقال: أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق، لأنك لو قلت:
وآتوا النساء صداقهن، لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله: (فأصدق وأكن من الصالحين) كأنه قيل:
أصدق. ونفسا تمييز، وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى:
فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم فكلوه فأنفقوه. قالوا: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفسا، وعن الشعبي: أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: رد عليها. فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: (فإن طبن لكم) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة، لأنهن يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتنى طيبة بها نفسها، فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى قضاته: إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بصفحة 149 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي قال كتب عمر نحوه.

(1/470)


ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5)

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة» «1» وروى أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فقال الله تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغا هنيئا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: فإن طبن، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل: إن طبن لكم عن شيء منه، ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد:
لا يجوز تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعى: لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة.
ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا. الهنيء، والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته.
وقيل هو ما ينساغ في مجراه. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو انسياغه، وهما وصف للمصدر، أى أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير، أى كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ مريئا على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.

[سورة النساء (4) : آية 5]
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5)
السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم «2» لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: (ولا تقتلوا أنفسكم) ، (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: (وارزقوهم فيها واكسوهم) . جعل الله لكم قياما أى تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ: قيما، بمعنى قياما، كما جاء عوذا بمعنى عياذا. وقرأ عبد الله بن عمر: قواما، بالواو. وقوام الشيء: ما يقام به، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي في الأوسط من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
(2) . قال محمود: «المراد أموال السفهاء وأضافها إلى الأولياء ... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا المعنى أنه لما أمر باسعاف ذوى القربى على سبيل المواساة قال: وارزقوهم منه، لأن المدفوع إليهم من صلب المال، والله أعلم.

(1/471)


وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)

الله عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكانت له بضاعة يقلبها-: لولاها لتمندل بى بنو العباس «1» . وعن غيره- وقيل له إنها تدنيك من الدنيا-: لئن أدنتنى من الدنيا لقد صانتنى عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك وارزقوهم فيها واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء، قريب أو أجنبى، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده قولا معروفا قال ابن جريج:
عدة جميلة، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظا. وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل: عافانا الله وإياك، بارك الله فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل، فهو معروف. وما أنكرته ونفرت منه لقبحه، فهو منكر.

[سورة النساء (4) : آية 6]
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)
وابتلوا اليتامى واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم «2» ومعرفتهم بالتصرف، قبل البلوغ
__________
(1) . قوله «لتمندل بى بنو العباس» في الصحاح: المنديل معروف، تقول منه: تسندلت بالمنديل، وتمندلت. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه اختبروا أحوالهم ... الخ» قال أحمد: الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضى الله عنه، غير أنه لا يكون عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شيء قبله، وكذلك أحد قولي الشافعي رضى الله عنه، وقوله الآخر كمذهب أبى حنيفة، غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين: أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر العقود بنفسه كالبالغ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم، وتقرير الثمن إذا بلغ الأمر إلى العقد باشره الولي دونه وسلم الصبى الثمن، فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضى الله عنه فيه: هو أن يحرز ماله وينميه، وإن كان فاسقا في حاله. وعند الشافعي: المعتبر صلاح الدين والمال جميعا، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية والله المستعان. فأما منعه من الإيتاء قبل البلوغ- وإن كان ظاهر الآية أن الإيتاء قبله- من حيث جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء، والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة، فيتعين وقوع الإيتاء قبل. ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل البلوغ والله أعلم، فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما، أعنى المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ، لأن المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من مفرديه. ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت: وابتلوا اليتامى بعد البلوغ، حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم، لاستقام الكلام، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعا قبل مجموعهما، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله: إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده، وتنزيله على قوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤ فإن الله غفور رحيم) فجدد به عهدا يتضح لك تناسب النظرين، والله أعلم. وأما اقتصاره رضى الله عنه بالرشد على المال، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا- كما يقوله الشافعي رضى الله عنه- لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعا هو الغاية في الرشد، وليس الجمع بينهما بقيد، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك، إذ الظاهر: فان آنستم منهم رشدا ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه، والله أعلم.

(1/472)


حتى إذا تبينتم منهم رشدا- أى هداية- دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل.
والإيناس: الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد، فالابتلاء عند أبى حنيفة وأصحابه: أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد: التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس: الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي: الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد: الصلاح في الدين، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت: فإن لم يؤنس منه رشد إلى حد البلوغ؟ قلت:
عند أبى حنيفة رحمه الله ينتظر إلى خمس وعشرين سنة، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم بالصلاة لسبع» «1» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه:
لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد. فإن قلت: ما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت: كيف نظم هذا الكلام؟ «2» قلت: ما بعد (حتى) إلى (فادفعوا إليهم أموالهم)
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبوة الجهني عن أبيه عن جده مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» ورواه أبو داود والحاكم من طريق سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعله العقيلي في الضعفاء بسوار. ورواه البزار من رواية محمد بن الحسن بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن عنه وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن وقال: الأولى رواية من رواه عن محمد بن عبد الرحمن مرسلا وذكره ابن حبان في الضعفاء عن عبد المنعم بن نعيم الرياحي عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة ورواه الدارقطني في الأوسط من حديث أنس وفيه داود بن المجير وهو متروك.
(2) . قال محمود رحمه الله: «فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى إلى قوله فادفعوا إليهم أموالهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبى حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية، وقد أسلفنا وجه تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو ومقتضى مذهب أبى حنيفة النظر إلى المفردين، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه، والله أعلم.

(1/473)


جعل غاية للابتلاء، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، كالتي في قوله:
فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتي ماء دجله أشكل «1»
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وقرأ ابن مسعود: فإن أحسيتم بمعنى أحسستم قال:
أحسن به فهن إليه شوس «2»
وقرئ: رشدا، بفتحتين. ورشدا، بضمتين إسرافا وبدارا مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا، فالغنى يستعف من أكلها «3» ولا يطمع، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف، مما يدل على أن للوصي حقا لقيامه عليها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير
__________
(1) . لجرير، يقول: فما زالت تمج، أى تلقى وتخرج دماءها في شاطئ دجلة. وحتى: ابتدائية تقع بعدها الجمل، ولا تخلو من معنى الغاية. وأشكل: خبر المبتدأ، وهو الأبيض المشوب بحمرة. وأظهر في محل الإضمار لقيد التهويل والتعظيم. أى حتى أن ماء ذلك النهر الكبير مختلط بالحمرة.
(2) .
فباتوا يدلجون وبات يسرى ... بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وانحت منهم ... قريبا ما يمس له مسيس
سوى أن العناق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
لأبى زبيد الطائي. والإدلاج: سير أول الليل. والتدليج: سير آخره. والسرى: سير الليل. وبصير: صفة لمحذوف. وبالدجى: متعلق به. والبصير: المتبصر الخبير أو المبصر، فالباء بمعنى في. والدجى الظلم. والهادي:
المراد به المهتدى. والعموس: القوى الشديد. وعرسوا: أى نزلوا. والحت: النتف والفرك والقطع والسرعة.
فانحت: انعزل منهم بسرعة، أو أسرع قريبا منهم ما يمس: أى لا يسمع له مسيس، أى صوت مسه للأرض في المشي. والعتاق: النجائب أو المسنة. وأحسن: أصله أحسسن، نقلت فتحة السين إلى الحاء ثم حذفت. ويروى:
حسين. وفي لغة: حسين، بكسر السين. وأصله حسسن، قلبت السين الثانية حرف علة. وزيادة الباء بعد فعل الحس كثيرة وإن تعدى بنفسه. والشوس: جمع أشوس، أو شوساء وهو الذي ينظر بمؤخر عينه يصف مسافرين والأسد يطلب فريسة منهم، وكثيرا ما يحذفون الموصوف كالأسد هنا، لأن الصفة تعينه، أو لادعاء تعينه.
(3) . قوله «من أكلها» لعله «عن» ، (ع)

(1/474)


متأثل «1» مالا ولا واق مالك بماله» فقال: أفأضربه قال: «مما كنت ضاربا منه ولدك «2» » : وعن ابن عباس: أن ولى اليتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغى ضالتها، وتلوط حوضها، وتهنأ جرباها «3» وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب «4» وعنه: يضرب بيده مع أيديهم، فليأكل بالمعروف، ولا يلبس عمامة فما فوقها. وعن إبراهيم: لا يلبس الكتان والحلل، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة. وعن محمد بن كعب: يتقرم تقرم البهيمة «5» وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بد منه. وعن الشعبي: يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه:
كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضى. وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدى. وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حل. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إنى أنزلت نفسي من مال الله منزلة والى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا
__________
(1) . قوله «غير متأثل مالا» أى: متخذ مالا أصلا، كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق معاوية بن هشام. حدثنا الثوري عن ابن أبى نجيح عن الحسن العرني عن ابن عباس قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن في حجري يتيما» بلفظ المصنف سواء ورواه عبد الرزاق في المصنف وابن المبارك في البر والصلة والطبري عن سفيان بن عيينة عن ابن دينار عن الحسن العرني «أن رجلا قال يا رسول الله» فذكره مرسلا وهو عند ابن أبى شيبة في البيوع عن إسماعيل عن أيوب بن عمرو كذلك. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أجد شيئا وليس لي مال. ولي يتيم له مال. قال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا تق مالك بماله» وروى ابن حبان من رواية صالح بن رستم عن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «مم أضرب يتيمى؟ قال: ما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله. ولا متأثل من ماله مالا» وأخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة صالح بن رستم. وهو أبو عامر الخزان وضعفه عن ابن معين. وقال: لم أجد له حديثا منكرا. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن دينار.
وقال: تفرد به الخزان وهو من ثقات البصريين.
(3) . قوله «وتلوط حوضها وتهنأ جرباها» أى تصلحه بالطين بأن تلزقه به. أفاده الصحاح. وفيه: هنأت البعير أهنؤه إذا طلبته بالهناء وهو القطران اه. ونقل المناوى بهامشه عن الزجاج أنه بضم النون وأنه لم يجئ مضموم العين في مهموز اللام إلا هنأ يهنأ وقرأ يقرأ فليحرر. (ع) [.....]
(4) . أخرجه عبد الرزاق من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد. قال «جاء رجلي إلى ابن عباس» فذكره، إلا أنه قال: بدل تبغى ضالتها «ترد نادتها» وأخرجه الطبري من طريقه والثعلبي والواحدي من وجه آخر عن القاسم. ورواه البغوي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم وهو في الموطأ.
(5) . قوله: «يتقرم تقرم البهيمة» في الصحاح: قرم الصبى والبهيم قرما وقروما وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. وتقرم مثله. (ع)

(1/475)


للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8)

أيسرت قضيت» «1» واستعف أبلغ من عف، «2» كأنه طالب زيادة العفة فأشهدوا عليهم بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدق إلا بالبينة، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضى إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة وكفى بالله حسيبا أى كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب.

[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 8]
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7) وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8)
الأقربون هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم مما قل منه أو كثر بدل مما ترك بتكرير العامل. ونصيبا مفروضا نصب على الاختصاص، بمعنى: أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بد لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله: (فريضة من الله) كأنه قيل: قسمة مفروضة. وروى أن أوس بن الصامت الأنصارى «3» ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه، فقال: «ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله «فنزلت، فبعث إليهما «لا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا ولم يبين حتى يبين» فنزلت (يوصيكم الله) فأعطى أم كحة
__________
(1) . أخرجه ابن سعد وابن أبى شيبة والطبري من رواية إسرائيل وسفيان كلاهما عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر ورواه سعيد بن منصور عن أبى الأحوص عن أبى إسحاق عن البراء قال: قال لي عمر. فذكره
(2) . قال محمود: «استعف أبلغ من عف، وكأنه يطلب زيادة العفة من نفسه» قال أحمد: في هذا إشارة إلى أنه من استفعل بمعنى الطلب وليس كذلك، فان استفعل الطلبية متعدية وهذه قاصرة. والظاهر أنه مما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى، والله أعلم.
(3) . قوله «روى أن أوس بن الصامت الأنصارى» في رواية ابن ثابت. وليحرر اه (ع)

(1/476)


وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9)

الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم «1» وإذا حضر القسمة أى قسمة التركة أولوا القربى ممن لا يرث فارزقوهم منه الضمير لما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بالشيء من رثة المتاع «2» . فحضهم الله على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة. قالوا: ولو كان فريضة لضرب له حد ومقدار كما لغيره من الحقوق، وروى أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضى الله عنها حية؟ فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه، وتلا هذه الآية. وقيل: هو على الوجوب. وقيل: هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير:
أن ناسا يقولون نسخت، وو الله ما نسخت، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول ويقولوا: خذوا بارك الله عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قالوا لهم قولا معروفا، كانوا يقولون لهم:
بورك فيكم.

[سورة النساء (4) : آية 9]
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9)
__________
(1) . هكذا أورده الثعلبي ثم البغوي بغير سند وقال الواحدي في الأسباب: قال المفسرون «إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كحة، وله منها ثلاث بنات. فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما عافجة وسويد فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئا ولا بناته. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير، وإن كان ذكرا. وإنما يورثون الرجال الكبار. وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة فذكره إلى آخره سواء. والظاهر أنه عنى بقوله «المفسرون» الكلبي ومقاتل وأشباههما وقد روى الطبري هذه القصة من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق ولفظه «نزلت في أم كحة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول الله توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث. فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدوا. فنزلت (للرجال نصيب) الآية وروى من طريق السدى قال: في قوله: (يوصيكم الله في أولادكم) - الآية كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من العلمان ولا يورثون إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أبو حسان الشاعر. وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس أخوات. فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) ثم قال في أم كحة (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) - الآية
(2) . قوله «من رثة المتاع» في الصحاح: الرثة: السقط من متاع البيت من الخلقان، والجمع رثث، مثل قربة وقرب. (ع)

(1/477)


«لو» مع ما في حيزه صلة للذين. والمراد بهم: الأوصياء، أمروا بأن يخشوا الله «1» فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى: وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا، فقدم مالك، فيستغرقه بالوصايا، فأمروا بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمرا بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت: ما معنى وقوع لو تركوا وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه:
وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
لقد زاد الحياة إلى حبا ... بناتى إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدى ... وأن يشربن رنقا بعد صافى «2»
وقرئ: ضعفاء. وضعافى، وضعافى. نحو: سكارى، وسكارى. والقول السديد من الأوصياء: أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بنى ويا ولدى، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس «3» » وكان الصحابة رضى الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن
__________
(1) . قال محمود: «المراد الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله ... الخ» قال أحمد: وإنما ألجأه إلى تقدير (تركوا) بقوله: شارفوا أن يتركوا لأن جوابه قوله: (خافوا عليهم) والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم وذلك في دار الدنيا، فقد دل على أن المراد بالترك الاشراف عليه ضرورة، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل، ونظيره (فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) أى شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ولا في الذب عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، والله أعلم.
(2) . تقدم شرح هذه الشواهد بصفحة 404 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص في قصة.

(1/478)


إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10) يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11)

يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.

[سورة النساء (4) : آية 10]
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10)
ظلما ظالمين «1» ، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته في بطونهم ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال:
كلوا فى بعض بطنكموا تعفوا «2»
ومعنى يأكلون نارا: ما يجر إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة. وروى: أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره «3» ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه «4» فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وقرئ (وسيصلون) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها سعيرا نارا من النيران مبهمة الوصف.

[سورة النساء (4) : آية 11]
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11)
__________
(1) . قال محمود: «معناه ظالمين، أو على وجه الظلم ... الخ» قال أحمد: ومثله (قد بدت البغضاء من أفواههم) أى شدقوا بها وقالوها بملء أفواههم. أو يكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع، حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله، خص الأكل لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، والله أعلم.
(2) .
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى لا تملؤها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع- من باب ضرب يضرب. ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن. فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.
(3) . قوله من «قبره» يروى من دبره. ويؤيده ما في الخازن من حديث أبى سعيد الخدري، أنهم يجعل في أفواههم صخر من نار يخرج من أسافلهم اه، فحرره. (ع)
(4) . أخرجه الطبري من طريق السدى قال «يبعث الله آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه وأنفه» إلى آخره وفي صحيح ابن حبان من رواية زناد أبى المنذر عن نافع بن الحرث عن أبى برزة رفعه يبعث الله يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل من هم يا رسول الله؟ فقال: ألم تر أن الله يقول (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) الآية وفي إسناده زناد المذكور. كذبه ابن معين وشيخه نافع بن الحرث ضعيف أيضا وقد أورده ابن عدى في الضعفاء في ترجمة زناد وأعل يه. [.....]

(1/479)


يوصيكم الله يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله للذكر مثل حظ الأنثيين فإن قلت: هلا قيل: للأنثيين مثل حظ الذكر «1» أو للأنثى نصف حظ الذكر قلت: ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله، كما ضوعف حظه لذلك، ولأن قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك:
للأنثيين مثل حظ الذكر، قصد إلى بيان نقص الأنثى. وما كان قصدا إلى بيان فضله، كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث «2» وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان، فكأنه قيل للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أى إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع، أنه أتبعه حكم الانفراد، وهو قوله: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) والمعنى للذكر منهم، أى من أولادكم، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم، كقولهم: السمن منوان بدرهم فإن كن نساء فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا. ليس معهن رجل يعنى بنات ليس معهن ابن فوق اثنتين يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان وأن يكون صفة لنساء أى نساء زائدات على اثنتين (وإن كانت واحدة) وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى فلها النصف وقرئ: واحدة بالرفع على كان التامة والقراءة بالنصب أوفق لقوله: (فإن كن نساء) وقرأ زيد بن ثابت (النصف)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر ... الخ» قال أحمد: لأن الأفضلية حينئذ مدلول عليها بواسطة الاستلزام لا منطوق بها. وأما على نظم الآية، فالأفضلية منطوق بها غير محتاجة إلى ذلك.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ... الخ» قال أحمد: وعلى مقتضى هذا لا يكون حكم الابن إذا انفرد مذكورا في الآية، لأنه حيث ذكره فإنما عنى حالة الاجتماع مع الإناث خاصة على تفسير الزمخشري. هذا ويمكن خلافه، وهو أن المذكور أولا ميراث الذكر على الإطلاق مجتمعا مع الإناث منفردا، أما وجه تلقى حكمه حالة الاجتماع فقد قرره الزمخشري. وأما وجه تلقيه حالة الانفراد فمن حيث أن الله تعالى جعل له مثل حظ الأنثيين، فان كانت معه فذاك، وإن كانت منفردة عنه فقد جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل. والله أعلم.

(1/480)


بالضم. والضمير في ترك للميت لأن الآية لما كانت في الميراث، علم أن التارك هو الميت.
فإن قلت: قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله: (فإن كن نساء) وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت:
وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعا، فلذلك صح أن يقال: (فإن كن نساء) : فإن قلت. هل يصح أن يكون الضميران في «كن» و «كانت» مبهمين، ويكون «نساء» و «واحدة» تفسيرا لهما، على أن كان تامة؟ قلت: لا ابعد ذلك. فإن قلت: لم قيل (فإن كن نساء «1» ) ولم يقل: وإن كانت امرأة؟
قلت: لأن الغرض ثمة خلوصهن إناثا لا ذكر فيهن، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) وبين انفرادهن. وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها. فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما، وما باله لم يذكر؟ قلت: أما حكمهما فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة «2» ، لقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف. وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة، والذي يعلل به قولهم: أن قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) قد دل على أن حكم الأنثيين حكم الذكر، وذلك أن الذكر كما يجوز الثلثين مع الواحدة، فالأنثيان كذلك يجوزان الثلثين، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قيل (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) على معنى: فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: فان قلت لم قيل فان كن نساء، ولم يقل: وإن كانت امرأة ... الخ» قال أحمد:
يريد أن حكم البنتين حال اجتماعهما مع الابن مذكور في قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) وأن حكم البنات منفردات مذكور في قوله: (فإن كن نساء) وأن حكم البنت منفردة مذكور في قوله: (وإن كانت واحدة فلها النصف) وبقي عليه أن ذكر الابن في حال الانفراد مستفاد من قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) إذا ضممته إلى قوله: (وإن كانت واحدة فلها النصف) على التقرير الذي قدمته.
(2) . عاد كلامه. قال في الجواب «أما حكمها فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة ... الخ» قال أحمد: ومحز النظر أن ابن عباس أجرى التقييد بالصفة، وهي قوله: (فوق اثنتين) على ظاهره من مفهوم المخالفة، غير أنه ما كان يقتضى اللفظ أن يقتصر لهما على النصف لأجل تعارض المفهومين، إذ مفهوم (فلهن ثلثا ما ترك) أن تكون الأنثى أقل من الثلثين، ومفهوم (وإن كانت واحدة فلها النصف) أن تكون الأنثيين أزيد من النصف، فيكون نصيبهما مترددا فيما بين النصف والثلثين بقدر مجمل. وأما غيره فأظهر للتقييد فائدة جلية سوى المخالفة، وتلك الفائدة رفع الفرق المتوهم بين الأنثيين وما فوقهما. ومتى ظهرت للتخصيص فائدة جلية سوى المخالفة وجب المصير إليها وسقط التعلق بالمفهوم، وكأنه على القول المشهور لما علم أن الأنثيين يستوجبان الثلثين بالطرق المذكورة، وكان الوهم قد يسبق إلى أن الزائد على الأنثيين يستوجبن أكثر من فرض الأنثيين، لأن ذلك مقتضى القياس. رفع هذا الوهم، بإيجاب الثلثين لما فوق الأنثيين كوجوبه لهما، والله أعلم.

(1/481)


ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل: إن الثنتين أمس رحما بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحما منهما.
وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان ولأبويه الضمير للميت. ولكل واحد منهما بدل من (لأبويه) «1» بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل:
ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: فهلا قيل:
ولكل واحد من أبويه السدس: وأى فائدة في ذكر الأبوين أولا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت:
لأن في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.
والسدس: مبتدأ، وخبره: لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السدس) بالتخفيف، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكرا اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس. فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث «2» مع الولد ثم حكمهما مع
__________
(1) . قال محمود «لكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل ... الخ» قال أحمد: وفي إعرابه بدلا نظر، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء، وهما كعين واحدة، ويكون أصل الكلام:
والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ويقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس، كما قال: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) فاقتضى اشتراكهن فيه، فيقتضى البدل- لو قدر إهدار الأول- إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل، لأنه يلزم في هذا النوع أن يكون مؤدى المبدل والبدل واحدا. وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى، فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة، وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الاعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل. فالوجه- والله أعلم- أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا، فصله بقوله: (لكل واحد منهما السدس) وساغ حذف المبتدإ لدلالة التفصيل عليه ضرورة، إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما للسدس استحقاقهما، والله أعلم. ولا يستقيم على هذا الوجه أيضا جعله من بدل التقسيم. ألا نراك لو قلت: الدار كلها لثلاثة:
لزيد، ولعمرو، ولخالد: كان هذا بدلا وتقسيما صحيحا، لأنك لو حذفت المبدل منه فقلت: الدار لزيد ولعمرو ولخالد، ولم تزد في البدل زيادة، استقام. فلو قلت: الدار لثلاثة: لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها، لم يستقم بدل تقسيم إذ لو حذفت المبدل منه لصار الكلام: الدار لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها. فهذا كلام مستأنف، لأنك زدت فيه معنى تمييز ما لكل واحد منهم، وذلك لا يعطيه المبدل ولا سبيل في بدل الشيء من الشيء إلى زيادة معنى.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت قد بين حكم الأبوين والإرث ... الخ» قال أحمد: ومذهب ابن عباس أن الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه مع وجود الأب، فعلى هذا يكون فائدة قوله: (وورثه أبواه) الاحتراز مما لو ورثه الاخوة مع الأبوين، فان الأم لها حينئذ السدس، وكأنه قيل: وورثه أبواه ولم يكن ثم إخوة فلأمه الثلث، فان كان له إخوة فلأمه السدس. ولا يمكن جعله على مذهب ابن عباس مقيدا بعدم الزوجين، لأن ثلث الأم عنده لا يتغير بوجود واحد منهما، والله الموفق.

(1/482)


عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأى فائدة في قوله: (وورثه أبواه) ؟ قلت:
معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: (لكل واحد منهما السدس مما ترك) لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس. والمعنى: أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أن الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين فإن كان له إخوة فلأمه السدس الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس «1» . وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم. فإن قلت:
فكيف صح أن يتناول الإخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه. وقرئ: فلإمه، بكسر الهمزة اتباعا للجرة: ألا تراها لا تكسر في قوله (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) . من بعد وصية متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرئ (يوصي بها بالتخفيف والتشديد. و (يوصي بها) على البناء للمفعول مخففا: فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت:
معناها الإباحة: وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت: لم قدمت الوصية على الدين «2» والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: «ويستوي في حجب الأم الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس ... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في هذا التقرير ما لم يحسن كثير من حذاق الأصوليين، ويريد متلقى في تغاير وصفى الجمع والتثنية، إذ الجمع يتناول الاثنين ويتناول أزيد منهما. ولك هذا. وأما التثنية فقاصرة على الاثنين فبينهما على هذا العموم والخصوص، فكل تثنية جمع، وليس كل جمع تثنية.
(2) . قال محمود: «إن قلت: لم قدمت الوصية على الدين ... الخ» ؟ قال أحمد: الوصية على ضربين: لغير معين، فلا يطالب بها إلا الامام إن عثر عليها. ولمعين، فله المطالبة. ولكن يتباينان في القوة بين مطالبة رب الدين بدينه والموصى له بوصيته، لأن رب الدين يطالب بحق مستقر في الذمة سبق له به الفضل على مديانه، والموصى له إنما يطلب صدقة تفضل بها عليه الميت، لا عن استحقاق سابق، فاكتفى بما لرب الدين من القوة عن تقديمه في الذكر، وعضد ضعف الموصى له بتقديمه في الذكر عونا له على حصول رفق الوصية، ويمكن في دفعه طريق آخر فأقول: لم يخالف ترتيب الآية الواقع شرعا فلا يرد السؤال، وذلك أن أول ما يبدأ به إخراج الدين، ثم الوصية، ثم اقتسام ذوى الميراث. فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا، تلو إخراج الوصية، تلو الدين، فوافق فولنا:
قسمة المواريث بعد الوصية والدين، صورة الواقع شرعا. ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام: أخرجوا الميراث والوصية والدين، لما أمكن ورود السؤال المذكور، والله أعلم.

(1/483)


ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12)

كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله آباؤكم وأبناؤكم أى لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أمن لم يوص؟ يعنى أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة، إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى. وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه، سأل أن يرفع إليه ابنه.
فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل:
الأب يجب عليه «1» النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضى أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم فريضة نصبت نصب المصدر المؤكد، أى فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما بمصالح خلقه حكيما في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.

[سورة النساء (4) : آية 12]
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12)
__________
(1) . قوله «عليه» : لعله «له» فتدبر اه مصححه

(1/484)


فإن كان لهن ولد منكم أو من غيركم. جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج، كما جعلت كذلك بحق النسب. والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن وإن كان رجل يعنى الميت.
ويورث من ورث، أى يورث منه وهو صفة لرجل. وكلالة خبر كان، أى وإن كان رجل موروث منه كلالة، أو يجعل يورث خبر كان، وكلالة حالا من الضمير في يورث. وقرئ يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، وكلالة حال أو مفعول به. فإن قلت:
ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ثلاثة على من لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة، كما تقول: ما صمت عن عى، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء. قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة «1»
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذى كلالة. كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوى قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق «2» . فإن قلت: فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟ قلت: على أنها مفعول له أى يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره
__________
(1) .
وأما إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا لا يغيب وفرقدا
فآليت لا أرثى لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقى محمدا
للأعشى، يصف ناقته وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فصده المشركون ومات باليمامة. وأدلجت: سارت ليلا. وجديا، وفرقدا: بدل مما قبلهما. وهذا كناية عن طول ليلها، بل عن مللها من السير. فآليت. أى حلفت، لا أرثى: لا أرق لها، من أجل ملالة وسآمة. والوجى: ضرر الخف ونحوه من السير. ويروى بدله «فما لك عندي مشتكى من كلالة ولا من حفا» والمشتكى: الشكوى. والحفا: الوجى. يقول: إذا سارت ناقتي ليلا طال ليلها، وحلفت لا أرق لها من أجل تعب ولا ضرر، حتى ألاقى بها محمدا صلى الله عليه وسلم. وأسند الفعل إليها، دلالة على أنها تعرفه، فهي السائرة إليه.
(2) . قوله «كالهجاجة والفقاقة للأحمق» في الصحاح: رجل هجاجة أى أحمق. وفيه رجل فقاقة أى أحمق هذر.
وفيه أيضا: الهذر- بالتحريك-: الهذيان. والرجل هذر. بكسر الذال. (ع)

(1/485)


لأجلها، فإن قلت: فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث، فما وجهه؟ قلت: الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. فان قلت: فالضمير في قوله: (فلكل واحد منهما) إلى من يرجع حينئذ؟ قلت: إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته، وعلى الأول إليهما. فان قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سويت بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، أنه سئل عن الكلالة فقال:
أقول فيه برأيى، فان كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله منه بريء.
الكلالة: ما خلا الولد والوالد «1» . وعن عطاء والضحاك: أن الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن جبير: هو الوارث. وقد أجمعوا على أن المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبى: وله أخ أو أخت من الأم. وقراءة سعد بن أبى وقاص: وله أخ أو أخت من أم. وقيل: إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أن للأختين الثلثين وأن للإخوة كل المال، فعلم هاهنا- لما جعل للواحد السدس، وللاثنين الثلث، ولم يزادوا على الثلث شيئا- أنه يعنى بهم الإخوة للأم، وإلا فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات «2» وغيرهم غير مضار حال، أى يوصى بها وهو غير مضار لورثته وذلك أن يوصى بزيادة على الثلث، أو يوصى بالثلث فما دونه، ونيته مضارة ورثته ومغاضبتهم لا وجه الله تعالى. وعن قتادة: كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن:
المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار وصية من الله مصدر مؤكد، أى يوصيكم بذلك وصية، كقوله: (فريضة من الله) ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار، أى لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: (غير مضار وصية من الله) بالاضافة والله عليم بمن جار أو عدل في وصيته حليم عن الجائر لا يعاجله. وهذا وعيد. فإن قلت: في: (يوصى) ضمير الرجل إذا جعلته الموروث، فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟ قلت:
كما عملت في قوله تعالى: (فلهن ثلثا ما ترك) لأنه علم أن التارك والموصى هو الميت. فان قلت:
فأين ذو الحال فيمن قرأ (يوصى بها) على ما لم يسم فاعله؟ قلت: يضمر يوصى فينتصب عن فاعله
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والطبري وسعيد بن منصور. ومن رواية الشعبي قال: قال أبو بكر. وفي رواية سعيد والطبري كلام عمر أيضا.
(2) . قوله «سائر الاخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات» في الصحاح: إخوة أخياف، إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى. والأعيان: الاخوة بنو أب واحد وأم واحدة. وبنو العلات: أولاد الرجل الواحد من أمهات شتى اه ملخصا من مواضع. (ع)

(1/486)


تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14) واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)

لأنه لما قيل (يوصى بها) علم أن ثم موصيا، كما قال: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) على ما لم يسم فاعله، فعلم أن ثم مسبحا، فأضمر يسبح فكما كان رجال فاعل ما يدل عليه يسبح، كان غير مضار حالا عما يدل عليه يوصى بها.

[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)
تلك إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدودا، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق يدخله قرئ بالياء والنون، وكذلك (يدخله نارا) وقيل: يدخله، وخالدين حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالدين وخالدا على الحال. فان قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات ونارا؟ قلت: لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بد من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالدا هو فيها.

[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) والذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)
يأتين الفاحشة يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها بمعنى. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح فأمسكوهن في البيوت قيل معناه: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، وكان ذلك عقوبتهن في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: (الزانية والزاني ... ) الآية ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن في البيوت، بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال أو يجعل الله لهن سبيلا هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح. وقيل: السبيل هو الحد، لأنه لم يكن مشروعا ذلك أوقت. فإن قلت: ما معنى يتوفاهن الموت- والتوفي والموت بمعنى واحد، كأنه قيل: حتى يميتهن الموت-؟ قلت: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: (الذين تتوفاهم الملائكة)

(1/487)


إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)

(إن الذين توفاهم الملائكة) ، (قل يتوفاكم ملك الموت) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن والذان يأتيانها منكم يريد الزاني والزانية فآذوهما فوبخوهما وذموهما وقولوا لهما: أما استحييتما، أما خفتما الله فإن تابا وأصلحا وغيرا الحال فأعرضوا عنهما واقطعوا التوبيخ والمذمة، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب، ويحتمل أن يكون خطابا للشهود العاثرين على سرهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عنهما ولا تتعرضوا لهما. وقيل: نزلت الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين. وقرئ: واللذان بتشديد النون. واللذان: بالهمزة وتشديد النون.

[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)
التوبة من تاب الله عليه إذا قبل توبته وغفر له، يعنى إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى «1» لهؤلاء. بجهالة في موضع الحال أى يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل. وعن مجاهد:
من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته من قريب من زمان قريب. والزمان القريب:
__________
(1) . قال محمود: «يعنى إنما القبول والغفران واجب على الله ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم في مواضع أن إطلاق مثل هذا من قول القائل: يجب على الله كذا. مما نعوذ بالله منه- تعالى عن الإلزام والإيجاب رب الأرباب- وقاعدة أهل السنة أن الله تعالى مهما تفضل فهو لا عن استحقاق سابق، لأنهم يقولون: إن الأفعال التي يتوهم القدرية أن العبد يستحق بها على الله شيئا، كلها خلق الله، فهو الذي خلق لعبده الطاعة وأثابه عليها، وخلق له التوبة وقبلها منه، فهو المحسن أولا وآخرا وباطنا وظاهرا، لا كالقدرية الذين يزعمون أن العبد خلق لنفسه التوبة بقدرته وحوله، ليستوجب على ربه المغفرة بمقتضى حكمته التي توجب عليه- على زعمهم- المجازاة على الأعمال إيجابا عقليا، فلذلك يطلقون بلسان الجرأة هذا الإطلاق. وما أبشع ما أكد الزمخشري هذا المعتقد الفاسد بقوله: يجب على الله قبول التوبة، كما يجب على العبد بعض الطاعات. فنظر المعبود بالعبد، وقاس الخالق على الخلق. وإنه لإطلاق يتقيد عنه لسان العاقل ويقشعر جلده استبشاعا لسماعه، ويتعثر القلم عند تسطيره. على أن من لطف الله تعالى أن لم يجعل حاكى الكفر كافرا، ولا حاكى البدعة لضرورة ردها والتحذير منها مبتدعا. وما بلغ الزمخشري في هذا الإطلاق إلا اغتناما لفرصة التمسك على صحته بصيغة «على» المشعرة بالوجوب، فجعلها ذريعة لاستباحة هذا الإطلاق، ولم يجعل الله له فيها مستروحا، فانا نقول معاشر أهل السنة قد وعدنا الله قبول التوبة المستجمعة لشرائط الصحة ووقوع هذا الموعود واجب ضرورة صدق الخبر، فمهما ورد من صيغ الوجوب فمنزل على وجوب صدق الوعد. ومعنى قولنا «صدق الخبر واجب» كمعنى قولنا «وجود الله واجب» لأن أحدا لا يستوجب على الله شيئا. ألهمنا الله الأدب في حق جلاله، وعصمنا من زيغ القول وضلاله. [.....]

(1/488)


ما قبل حضرة الموت. ألا ترى إلى قوله: (حتى إذا حضر أحدهم الموت) فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن النخعي: ما لم يؤخذ بكظمه.
وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» وعن عطاء: ولا قبل موته بفواق ناقة. وعن الحسن: أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده. فقال تعالى: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر «2» فإن قلت: ما معنى (من) في قوله: (من قريب) ؟ قلت: معناه التبعيض، أى يتوبون بعض زمان قريب، كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا، ففي أى جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. فإن قلت: ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله: إنما التوبة على الله لهم؟ قلت: قوله: (إنما التوبة على الله) إعلام بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: (فأولئك أتوب عليهم) عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة كما يعد العبد الوفاء بالواجب ولا الذين يموتون عطف على الذين يعملون السيئات. سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل واحد منهما أو ان التكليف والاختيار أولئك أعتدنا لهم في الوعيد نظير قوله: (فأولئك يتوب الله عليهم) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. فإن قلت: من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد الكفار، لظاهر قوله: (وهم كفار) . وأن يراد الفساق، لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: (وهم كفار) واردا على سبيل التغليظ كقوله: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)
__________
(1) . لم أجده من حديث أبى أيوب الأنصارى على ما يتبادر إلى الفهم من هذا الإطلاق وإنما أورده الطبري من طريق قتادة عن العلاء بن زياد عن أبى أيوب بشير بن كعب فذكره. وبشير تابعي معروف وهو بالموحدة والمعجمة مصغر، ولقتادة فيه إسناد آخر أخرجه الطبري أيضا بالإسناد المذكور إليه. قال عن قتادة عن عبادة بن الصامت ومن هذا الوجه أخرجه إسحاق بن راهويه وهو منقطع بين قتادة وعبادة. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وأبو يعلى والطبراني وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف فيه، وعن أبى هريرة أخرجه البزار وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو ضعيف لكن له طريق أخرى أخرجها ابن مردويه عن صحابى معهم أخرجه أحمد والحاكم من رواية عبد الرحمن السلماني قال اجتمع أربعة من الصحابة فذكر الحديث فقال الرابع «وأنا سمعته أى النبي صلى الله عليه وسلم يقول لي: إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يغرغر بنفسه» .
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. قلت وله شاهد من حديث أبى سعيد الخدري وأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.

(1/489)


ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)

وقوله «فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» «1» «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر «2» » لأن من كان مصدقا ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة، حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت.

[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)
كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم، فزجروا عن ذلك: كان الرجل إذا مات له قريب من أب أو أخ أو حميم «3» عن امرأة، ألقى ثوبه عليها وقال أنا أحق بها من كل أحد «4» ، فقيل لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أى أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك: أو مكرهات. وقيل: كان يمسكها حتى تموت، فقيل:
لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثوا منهن وهن غير راضيات بإمساككم. وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر، لتفتدى منه بمالها وتختلع، فقيل: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وهي النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، أى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. ويدل عليه قراءة أبى: إلا أن يفحشن عليكم. وعن الحسن: الفاحشة الزنا، فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع. وقيل: كانوا إذا أصابت امرأة فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وعن أبى قلابة ومحمد بن سيرين: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها.
وعن قتادة: لا يحل أن يحبسها ضرارا حتى تفتدى منه، يعنى وإن زنت. وقيل: نسخ ذلك بالحدود، وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وعاشروهن بالمعروف وهو النصفة في
__________
(1) . تقدم في الكلام على آية الحج في آل عمران.
(2) . تقدم في البقرة.
(3) . قوله «أخ حميم» في الصحاح «حميمك» قريبك الذي تهتم لأمره. (ع)
(4) . قال محمود: «كان الرجل إذا مات له قريب ألقى ثوبه على امرأته وقال أنا أحق بها من كل أحد ... الخ» قال أحمد: وخص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهى، تنبيها بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهيا عن استعادة شيء يسير حقير منها على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيا عن استعادته بطريق الأولى. ومعنى قوله: (وآتيتم) والله أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية.

(1/490)


وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21)

المبيت والنفقة، والإجمال في القول فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك، ولكن للنظر في أسباب الصلاح.

[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21)
وكان الرجل إذا طمحت عينه «1» إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها «2» بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج غيرها. فقيل: وإن أردتم استبدال زوج الآية. والقنطار: المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته. ومنه القنطرة، لأنها بناء مشيد. قال:
كقنطرة الرومى أقسم ربها ... لتكتنفن حتي تشاد بقرمد «3»
وعن عمر رضى الله عنه أنه قام خطيبا فقال: أيها الناس، لا تغالوا بصدق النساء «4» ، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنى عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين، لم تمنعنا حقا جعله الله لنا والله يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا) فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعوننى أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه على حتى ترد على امرأة ليست من أعلم النساء «5» . والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت
__________
(1) . قوله «إذا طمحت عينه» أى ارتفعت إلى استحسان امرأة للتمتع بها بدل امرأته. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ورماها» أى بما ليس فيها كما يؤخذ مما يأتى. (ع)
(3) . لطرفة بن العبد من معلقته يشبه ناقته بقنطرة الرجل الرومي. أو النهر الرومي، وهو أنسب بلام العهد وبذكر الاسم الظاهر بعده. وأقسم: جملة حالية، أى: حلف لا تحاط بالقرمد، أى الجبس، حتى تشاد وترفع بالآجر، أو ليحيط بها الفعلة حتى ترفع بالجبس. وتكتنفن: مضارع مبنى المجهول مؤكد بالنون.
(4) . قوله «لا تغالوا بصدق النساء» جمع صداق، كسحب جمع سحاب. (ع)
(5) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وأحمد والدارمي وابن أبى شيبة والطبراني كلهم من طريق محمد ابن سيرين عن أبى العجفاء قال خطبنا عمر فذكره دون ما في آخره. وأخرجه الحاكم من أوجه أخرى عن عمر كذلك.
وذكر الدارقطني في العلل لهذا الحديث اختلافا كثيرا، ورواه عبد الرزاق من الوجه الأول وزاد فيه: فقامت امرأة فقالت له ليس ذلك لك يا عمر، وإن الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآية. فقال إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة شريح من طريق أشعث بن سوار عن الشعبي عن شريح قال قال عمر ... فذكره بلفظ السنن واستغربه من هذا الوجه. وأخرجه إسحاق من رواية عطاء الخراساني عن عمر، وهو منقطع وزاد فيه «ثم إن عمر خطب أم كلثوم- أى بنت على وأصدقها أربعين ألفا» وروى أبو يعلى من طريق ابن إسحاق. حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: ركب عمر المنبر ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء، وقد كانت الصدقات فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة. قال: نعم، قالت: أما سمعت الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا) ... الآية فقال عمر: اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: من شاء أن يعطي من ماله ما أحب.

(1/491)


ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22)

عند ذلك، أى يتحير. وانتصب بهتانا على الحال، أى باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضا، كقولك: قعد عند القتال جبنا. والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقا غليظا، أى بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل: هو قول الولى عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: استوصوا «1» بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم «2» أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.

[سورة النساء (4) : آية 22]
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22)
وكانوا ينكحون روابهم «3» ، وناس منهم يمقتونه «4» من ذى مروآتهم، ويسمونه نكاح
__________
(1) . هذا مركب من حديثين. الأول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص.
قال شهدت حجة الوداع- فذكر حديثا- وفيه «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم» وفي البخاري ومسلم من حديث أبى حازم عن أبى هريرة في أثناء حديث واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع- الحديث» .
والثاني أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج فقال فيه «واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وروى أبو يعلى والبزار والطبري من رواية موسى بن عبيدة الربذي أحد الضعفاء عن صدقة بن يسار عن ابن عمر رفعه «أيها الناس، النساء عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. (فائدة) العوان: جمع عانية، وهي الأسيرة.
(2) . قوله «فإنهن عوان في أيديكم» في الصحاح: العاني الأسير. وقوم عناة، ونسوة عوان. (ع)
(3) . قوله «ينكحون روابهم» في الصحاح. الراب زوج الأم. والرابة: امرأة الأب. وربيب الرجل:
ابن امرأته من غيره. ونكاح المقت: كان في الجاهلية أن يتزوج امرأة أبيه. اه في موضعين. (ع) [.....]
(4) . قال محمود فيه: «كانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه ... الخ» قال أحمد: وعندي في هذا الاستثناء سر آخر وهو أن هذا المنهي عنه- لفظاعته وبشاعته عند أكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع- جدير أن يمتثل النهى فيه فيجتنب، فكأنه قد امتثل النهى عنه حتى صار مخبرا عن عدم وقوعه، وكأنه قيل: ما يقع نكاح الأبناء المنكوحات للآباء ولا يؤخذ منه شيء إلا ما قد سلف. وأما في المستقبل بعد النهى فلا يقع منه شيء البتة، ومثل هذا النظر جار في مثل قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) فأجراه مرفوعا على أنه خبر وإن كان المراد نهيهم عن عبادة غير الله، ولكن لما كان هذا المنهي جديرا بالاجتناب وكأنه اجتنب، عبر عن النهى فيه بصيغة الخبر ورفع الفعل. وقد مضى هذا التقدير بعينه ثم لم يجر مثله في هذه الآية والله أعلم.

(1/492)


حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23)

المقت. وكان المولود عليه يقال له المقتى. ومن ثم قيل ومقتا كأنه قيل: هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء، على أن ترثوا بمعنى الوراثة. وكرها- بالفتح، والضم- من الكراهة والإكراه. وقرئ (بفاحشة مبينة) من أبانت بمعنى تبينت أو بينت، كما قرئ (مبينة) بكسر الياء وفتحها. و (يجعل الله) بالرفع، على أنه في موضع الحال: (وآتيتم إحداهن) بوصل همزة إحداهن، كما قرئ (فلا اثم عليه) . فإن قلت: تعضلوهن، ما وجه إعرابه؟ قلت: النصب عطفا على أن ترثوا. و (لا) لتأكيد النفي. أى لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن. فإن قلت: أى فرق بين تعدية ذهب بالباء، وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدى بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى (فلما ذهبوا به) وأما الإذهاب فكالإزالة. فإن قلت: (إلا أن يأتين) ما هذا الاستثناء؟ قلت:
هو استثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة. أو: ولا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. فإن قلت:
من أى وجه صح قوله: (فعسى أن تكرهوا) جزاء للشرط؟ قلت: من حيث أن المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه فإن قلت كيف استثني ما قد سلف مما نكح آباؤكم؟ قلت: كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره.
وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.

[سورة النساء (4) : آية 23]
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23)
معنى حرمت عليكم أمهاتكم تحريم نكاحهن «1» لقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)
__________
(1) . قال محمود: «معناه تحريم نكاحهن ... الخ» قال أحمد: وهذا تفريع على القول بعموم المشترك في معانيه فاستقام تعليق الجار المذكور بهما، والله أعلم

(1/493)


ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. وقرئ (وبنات الأخت) بتخفيف الهمزة. وقد نزل الله الرضاعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أما للرضيع، والمراضعة أختا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، لأن المانع في النسب وطؤه أمها. وهذا المعنى غير موجود في الرضاع والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع، لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع من نسائكم متعلق بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله وأمهات نسائكم؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق بهن وبالربائب، فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعا. وإما أن يتعلق بهن دون الربائب، فتكون حرمتهن غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة، فلا يجوز الأول، لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين، خلاف معناه مع الآخر. ألا تراك أنك إذا قلت: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فقد جعلت «من» لبيان النساء، وتمييز المدخول بهن من غير المدخول بهن. وإذا قلت وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإنك جاعل «من» لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، وليس بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان. ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به، ما لم يعترض أمر لا يرد، إلا أن تقول:
أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل «من» للاتصال، كقوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) فإنى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى: وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن «2» كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. هذا وقد
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة وابن عباس.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعترض أمر لا يرد إلا أن تقول: أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال، كقوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) فانى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى. وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن ... الخ» قال أحمد: يعنى أن لهذا الاعراب وجها في الصحة، وتكون «من» على هذا مستعملة في معنى واحد من معانيها وهو الاتصال، فيستقيم تعلقها بهما. وقد نقل ذلك عن ابن عباس مذهبا. ونقل أيضا قراءة عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: والله ما نزل إلا هكذا انتهى نقل الزمخشري. والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم المرأة، ويقيد تحريم الربيبة بدخول الأم كما هو ظاهر الآية.
ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ومخاطبات ومساورات، فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم، فانه بعيد عن مخاطبة ابنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة.
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، والله أعلم.

(1/494)


اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب، على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه قال «لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها» «1» وعن عمر وعمران بن الحصين رضى الله عنهما: أن الأم تحرم بنفس العقد. وعن مسروق: هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل الله. وعن ابن عباس: أبهموا ما أبهم الله، إلا ما روى عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: أنهم قرءوا: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: والله ما نزل إلا هكذا. وعن جابر روايتان. وعن سعيد بن المسيب عن زيد: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمها. وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل: أقام الموت مقام الدخول في ذلك، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة، لأنه يربهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما. فإن قلت: ما فائدة قوله في حجوركم «2» ؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة، وجعل الله بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا
__________
(1) . أخرجه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في السنن قال ذكر المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
رفعه «أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها. وان لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها. وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» وأخرجه أبو يعلى والبيهقي من طريق ابن مبارك عن المثنى به. والمثنى ضعيف لكن رواه الترمذي والبيهقي أيضا من طريق ابن لهيعة عن عمرو به وقال: لا يصح، وإنما يرويه المثنى وابن لهيعة وهما ضعيفان. انتهى. ويشبه أن يكون ابن لهيعة أخذه عن المثنى لأن أبا حاتم قال لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئا. فلهذا لم يرتق هذا الحديث إلى درجة الحسن.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما فائدة قوله في حجوركم ... الخ» قال أحمد: وهذا مما قدمته من تخصيص أعلى صور المنهي عنه بالمنهى، فان النهى عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهى لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جمع صوره، والله أعلم.

(1/495)


أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. وعن على رضى الله عنه: أنه شرط ذلك في التحريم. وبه أخذ داود. فإن قلت: ما معنى دخلتم بهن؟ قلت: هي كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب يعنى أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية واللمس. ونحوه يقوم مقام الدخول عند أبى حنيفة. وعن عمر رضى الله عنه أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له فقال: إنها لا تحل لك. وعن مسروق أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما إنى لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدى من اللمس والنظر. وعن الحسن في الرجل يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها: أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء وحماد بن أبى سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها. وعن الأوزاعى: إذا دخل بالأم فعراها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر، فلا يحل له نكاح ابنتها. وعن ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار: أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده الذين من أصلابكم دون من تبنيتم. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة «1» ، وقال عز وجل (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) . وأن تجمعوا في موضع الرفع عطف على المحرمات، أى وحرم عليكم الجمع بين الأختين. والمراد حرمة النكاح، لأن التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين، فعن عثمان وعلى رضى الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية «2» يعنيان هذه الآية وقوله: (أو ما ملكت أيمانكم) فرجح على التحريم، وعثمان التحليل «3» . إلا ما قد سلف «4» ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله إن الله كان غفورا رحيما
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس بغير هذا اللفظ.
(2) . أما حديث عثمان ففي الموطأ عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب «أن عثمان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى» وأخرجه الشافعي عن مالك وابن أبى شيبة من طريق مالك والدارقطني من طريق معمر عن الزهري وهو أشبه بلفظ المصنف. وأما حديث على فرواه البزار وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية أبى صالح الحنفي قال قال على للناس: سلوني فقال ابن الكواء حدثنا يا أمير المؤمنين عن الأختين المملوكتين. قال: أحلتهما آية وحرمتها أخرى وإنى لا أحله ولا أنهى عنه ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي.
(3) . أما عثمان فلم أجد عنه التصريح بالتحليل وإنما توقف، وأما على ففي رواية الموطأ ثم خرج السائل فلقى رجلا من الصحابة قال الزهري أحسبه قال على فسأله فقال له. ولكنى أنهاك ولو كان لي سبيل على فعله لجعلته نكالا.
(4) . قال أحمد: موقع هذا الاستثناء كموقع نظيره المقدم ذكره عند قوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء على الوجه الذي بينت، وهو أن هذا النهى لكونه جديرا بأن يمتثل أجرى مجرى الاخبار عن امتثاله، حتى كأنه قيل: لا يقع شيء من هذه المحرمات إلا السالف منها لا غير. أو على الوجه الذي بينه الزمخشري فيما تقدم، وهو أن يكون المراد إلا ما قد سلف فانه غير محرم فتعاطوه إن كان ممكنا، من باب التعليق على المحال بتا للتحريم، إلا أن الزمخشري لم يسلك هذا المسلك هاهنا لأن قوله: (إن الله كان غفورا رحيما) يرشد إلى أن المراد إلا ما قد سلف فانه مغفور لاستثنائه في الآية الأولى لأنه عقبه ثم بقوله: (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) فقدر في كل آية ما يناسب سياقها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/496)


والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)

[سورة النساء (4) : آية 24]
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)
والمحصنات القراءة بفتح الصاد. وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ بكسر الصاد. وهن ذوات الأزواج، لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج، فهن محصنات ومحصنات إلا ما ملكت أيمانكم يريد: ما ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن محصنات. وفي معناه قول الفرزدق:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبنى بها لم تطلق «1»
كتاب الله عليكم مصدر مؤكد، أى كتب الله ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا، وهو تحريم ما حرم. فإن قلت: علام عطف قوله وأحل لكم؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب (كتاب الله) أى كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب الله عليكم، وأحل لكم. وروى عن اليماني: كتب الله عليكم، على الجمع والرفع أى هذه فرائض الله عليكم. ومن قرأ: وأحل لكم، على البناء للمفعول، فقد عطفه على حرمت.
أن تبتغوا مفعول له بمعنى بين لكم ما يحل مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والأموال: المهور وما يخرج في المناكح. فإن قلت: أين مفعول تبتغوا؟ قلت: يجوز أن يكون مقدرا وهو النساء. والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون (أن تبتغوا) بدلا من (وراء ذلكم) والمسافح الزاني، من السفح وهو صب المنى. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحينى وماذينى من المذي فما استمتعتم به منهن فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد
__________
(1) . للفرزدق، أنشده في مجلس الحسن البصري حين سئل رضى الله عنه عن سبى المرأة والتسرى بها ولها حليل، فقال: كنت أراك أشعر، فإذا أنت أشعر وأفقه. أى: ورب صاحبة حليل تسببت الرماح في تزويجها، فاسناد الانكاح إلى الرماح مجاز عقلى، حلال: خبر ذات حليل، والبناء عليها: كناية عن الدخول بها، لأن الزوج يبنى لها بيتا عند الدخول عادة «لم تطلق» جملة حالية من ضمير بها.

(1/497)


عليهن فآتوهن أجورهن عليه، فأسقط الراجع إلى «ما» لأنه لا يلبس، كقوله: (فإن ذلك من عزم الأمور) بإسقاط منه. ويجوز أن تكون «ما» في معنى النساء، و «من» للتبعيض أو البيان، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به، وعلى المعنى في: (فآتوهن) وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فريضة حال من الأجور بمعنى مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد، أى فرض ذلك فريضة فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره. وقيل فيما تراضياه به من مقام أو فراق وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام «1» حين فتح الله مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غير ذلك، ويقضى منها وطره ثم يسرحها. سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. وعن عمر:
لا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة «2» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباحها، ثم أصبح يقول «يا أيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء: ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة» «3» وقيل: أبيح مرتين وحرم مرتين. وعن ابن عباس هي محكمة «4» يعنى لم تنسخ، وكان يقرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهم إنى أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف «5»
__________
(1) . قوله «في المتعة التي كانت ثلاثة أيام» أى أبيحت هذه المدة ثم نسخت. (ع)
(2) . أخرجه مسلم وابن حبان من طريق جابر عنه في أثناء حديث.
(3) . أخرجه مسلم من رواية الربيع بن ميسرة عن أبيه (فائدة) «قوله ثم أصبح» لم يرد أنه قال ذلك صبيحة الليلة التي أباحه قبلها بيوم، بل أراد أنه قال ذلك صباحا. [.....]
(4) . لم أجده.
(5) . أما رجوعه عن المتعة فرواه الترمذي بسند ضعيف عنه. وأما قوله «اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة» فلم أجده. وأما قوله «أتوب إليك من قولي بالصرف» فروى عنه معنى ذلك من أوجه: منها ما رواه أبو يعلى من طريق عبد الرحمن بن أبى نعيم قال: جاء أبو سعيد إلى ابن عباس فذكر مناظرته إياه في الصرف وفيه فقال: فسمعته بعد ذلك يقول: اللهم إنى أتوب إليك مما كنت أفتى به الناس في الصرف. وللنسائى في الكنى من وجه آخر عن ابن عباس رضى الله عنهما. أنه سمعه يقول «أستغفر الله وأتوب إليه من قولي في الصرف» ولابن عدى من رواية داود بن على عن أبيه عن جده أنه ترك قوله في الصرف حين سمع أبا سعيد يروى النهى عنه. ولابن ماجة من رواية أبى الجوزاء سمعت ابن عباس يأمر بالصرف ثم بلغني أنه رجع. ثم لقيته بمكة فقال نعم إنما كان رأيا منى. وللحاكم من طريقه نحوه. وللطبراني من رواية بكر بن عبد الله الزنى مطولا. وفيه «وإنى أستغفر الله وأتوب إليه» وللبخاري في التاريخ من رواية ابن سيرين قال أشهد على اثنى عشر من أصحاب ابن مسعود أنهم شهدوا ابن عباس تاب من قوله في الصرف:
منهم عبيدة السلماني. وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن أبى هشام الواسطي عن زياد قال: كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما.

(1/498)


ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25)

[سورة النساء (4) : آية 25]
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25)
الطول: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول أى زيادة وفضل. وقد طاله طولا فهو طائل. قال:
لقد زادنى حبا لنفسى أننى ... بغيض إلى كل امرىء غير طائل «1»
ومنه قولهم: ما حلا منه بطائل، أى بشيء يعتد به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة «2» يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة. قال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء»
وهو الظاهر، وعليه مذهب الشافعي رحمه الله. وأما أبو حنيفة رحمه الله فيقول:
الغنى والفقير سواء في جواز نكاح الأمة، ويفسر الاية بأن من لم يملك فراش الحرة، على أن
__________
(1) .
لقد زادني حبا لنفسي أننى ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
إذا ما رآني قطع الطرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهل
للطرماح بن حكيم، يقول: لقد زادني بغضي لغير المحسن حبى لنفسي، لأنى إذا كرهته لبخله علمت أني بضده، وأن نفسي كريمة فأحببتها، إذا رآني غض بصره عنى، فكأنه قطع امتداده بيني وبينه كما يفعل العارف بالشيء المتغافل عنه، كراهة لرؤيتى، أو استحياء منى.
(2) . قال محمود: «معناه ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة ... الخ» قال أحمد: وعلى هذا يكون الطول عند أبى حنيفة: وجود الحرة تحته، وهو أحد القولين لمالك رضى الله عنه، لكن يبعد هذا المعنى، لأن الطول عند مالك في أحد قوليه: القدرة بالمال على نكاح الحرة خاصة، حتى لو كانت الحرة تحته فأراد نكاح الأمة عجزا عن حرة أخرى جاز له ذلك. وفي القول الآخر: الطول أحد الأمرين، إما القدرة بالمال على نكاح الحرة، وإما وجود الحرة تحته حتى لا يجوز له نكاح أمة على حرة إن كان عاجزا عن حرة أخرى. ومقتضى ما نقله المصنف عن أبى حنيفة: أنه لا يجوز لمن تحته حرة نكاح أمة. وأنه يجوز لمن ليست تحته حرة أن ينكح الأمة ولو كان غنيا، وهو قول لا يساعده ظاهر الآية، لأن الاستطاعة تثبت وإن لم يفعل المستطيع بمقتضاها- فالمستطيع لنكاح الحرة:
ذو الطول، وإن لم يكن تحته الحرة. وتفسير الاستطاعة على مذهب أبى حنيفة بعيد جدا.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية النزال بن سبرة عنه بهذا.

(1/499)


النكاح هو الوطء، فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: ومما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسرا. وكذلك قوله من فتياتكم المؤمنات الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهو مذهب أهل الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به، مع علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق، ولكنه أفضل. فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وقوله من فتياتكم أى من فتيات المسلمين، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين. فإن قلت: فما معنى قوله والله أعلم بإيمانكم؟ قلت: معناه أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه بعضكم من بعض أى أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان، لا يفضل حر عبدا إلا برجحان فيه بإذن أهلهن اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن «1» . ويحتج به لقول أبى حنيفة أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم وآتوهن أجورهن بالمعروف وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز. فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي. أو على أن أصله: فآتوا مواليهن، فحذف المضاف المحصنات عفائف.
والأخدان: الأخلاء في السر، كأنه قيل: غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له فإذا أحصن بالتزويج. وقرئ: أحصن نصف ما على المحصنات أى الحرائر من العذاب من الحد كقوله: (وليشهد عذابهما) و (يدرؤا عنها العذاب) ولا رجم عليهن، لأن الرجم لا يتنصف ذلك إشارة إلى نكاح الإماء لمن خشي العنت لمن خاف الإثم الذي يؤدى إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وقيل: أريد به الحد، لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيحد فيتزوجها
__________
(1) . قال محمود: «هذا اشتراط لاذن الموالي في نكاحهن ... الخ» قال أحمد: وليس في الآية اشتراط إذن المولى لمن يتولى عقد نكاح أمته، ومتولى العقد ومباشرته مسكوت عنه في الآية، فيحمل على إذنه لوكيله في العقد على أمته، ولا يلزم أن تكون الأمة هي المباشرة، ولا دليل في الآية على ذلك، والله أعلم.

(1/500)


يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)

وأن تصبروا في محل الرفع على الابتداء، أى وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم وعن النبي صلى الله عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت» «1»

[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)
يريد الله ليبين لكم أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في: لا أبالك، لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ويتوب عليكم ويرشدكم إلى طاعات إن قمتم بها كانت كفارات لسيئاتكم فيتوب عليكم ويكفر لكم والله يريد أن يتوب عليكم أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم ويريد الفجرة الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات. وقيل: هم اليهود. وقيل: المجوس: كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت. يقول تعالى: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم يريد الله أن يخفف عنكم إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص وخلق الإنسان ضعيفا لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء، فقد أتى على ثمانون سنة وذهبت إحدى عينى وأنا أعشو بالأخرى. وإن أخوف ما أخاف على فتنة النساء. وقرئ: أن يميلوا بالياء. والضمير للذين يتبعون الشهوات. وقرأ ابن عباس (وخلق الإنسان) على البناء للفاعل ونصب الإنسان وعنه رضى الله عنه: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي. حدثنا أحمد بن يوسف العجلى. حدثنا يونس بن مرداس خادم أنس. قال «كنت مع أنس وأبى هريرة فقال أنس: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر. وقال أبو هريرة سمعته يقول: الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت. أو قال هلاك البيت» قلت: في إسناده أحمد بن محمد وهو متروك وكذبه أبو حاتم ويونس لا أعرفه.

(1/501)


ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)

وغربت: «1» (يريد الله ليبين لكم) ، (والله يريد أن يتوب عليكم) ، (يريد الله أن يخفف عنكم) (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) ، (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) و (من يعمل سوءا أو يظلم نفسه)
، (ما يفعل الله بعذابكم) .

[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)
بالباطل بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا إلا أن تكون تجارة إلا أن تقع تجارة. وقرئ تجارة على: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم والاستثناء منقطع. معناه: ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض منكم.
أو ولكن كون تجارة عن تراض غير منهى عنه. وقوله: (عن تراض) صفة لتجارة، أى تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر، لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
والتراضي رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى. وعند الشافعي رحمه الله تفرقهما عن مجلس العقد متراضيين ولا تقتلوا أنفسكم من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. وعن عمرو بن العاصي: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم «2» . وقرأ على رضى الله عنه (ولا تقتلوا)
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الشعب في الباب السابع والأربعين من رواية صالح المزي عن قتادة، قال ابن عباس «ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس: أولهن (يريد الله ليبين لكم) فذكره وهو عند الطبري من هذا الوجه. وصالح ضعيف وقتادة عن ابن عباس منقطع.
(2) . أخرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن جبير عن ابن العاص قال «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إنى سمعت الله يقول (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا» وعلقه البخاري فقال: يذكر عن عمرو بن العاص، وهذا الحديث اختلف فيه على يزيد بن أبى حبيب عن عمران بن أنس عن عبد الرحمن فرواه عنه يحيى بن أيوب هكذا وخالف عمرو بن الحارث سندا ومتنا: أما السند فزاد بين عبد الرحمن وعمر وأبا قيس مولى عمرو، وأما المتن فقال بدل التيمم: فتوضأ وغسل مغابنه» ووافق يحيى بن أيوب عليه ابن لهيعة عند إسحاق بن راهويه وأخرجه أحمد بالسند الأول، وأخرجه ابن حبان بالسند الثاني، وأخرجه بالسندين الحاكم والدارقطني.

(1/502)


إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)

بالتشديد إن الله كان بكم رحيما ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل: معناه أنه أمر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة ذلك إشارة إلى القتل، أى ومن يقدم على قتل الأنفس عدوانا وظلما لا خطأ ولا اقتصاصا. وقرئ (عدوانا) بالكسر. ونصليه بتخفيف اللام وتشديدها. و (نصليه) بفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى، أو لذلك، لكونه سببا للصلى نارا أى نارا مخصوصة شديدة العذاب وكان ذلك على الله يسيرا لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه

[سورة النساء (4) : آية 31]
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)
كبائر ما تنهون عنه وقرئ: كبير ما تنهون عنه، أى ما كبر من المعاصي التي ينهاكم الله عنها والرسول نكفر عنكم سيئاتكم نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم، وتجعلها كأن لم تكن، لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها، على عقاب السيئات. والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما «1» . والتكفير: إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد، أو بتوبة.
والإحباط: نقيضه، وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة. وعن على رضى الله عنه: الكبائر سبع: الشرك، والقتل، والقذف، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة «2» . وزاد ابن عمر: السحر، واستحلال البيت الحرام. وعن ابن عباس: أن رجلا قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار «3» . وروى إلى سبعين. وقرئ: يكفر، بالياء.
و (مدخلا) بضم الميم وفتحها، بمعنى المكان والمصدر فيهما.
__________
(1) . قوله «أو ثواب فاعلهما» أى جزائه. ويمكن أن أصل العبارة «ثواب تاركهما» فحرفها الناسخ فلتحرر. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن خيثمة عن أبيه، قال «إنى لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلى يخطب» فذكره. وقوله: «وزاد ابن عمر استحلال البيت الحرام، أخرجه أبو داود من طريقه مرفوعا، وأخرجه الثعلبي موقوفا.
(3) . قال عبد الرزاق، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال قيل لابن عباس: الكبائر سبع. قال: هي إلى السبعين أقرب. وروى الطبري من رواية قيس ابن سعد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن رجلا سأله عن الكبائر أسبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب لأنه لا صغيرة......» إلى آخره.

(1/503)


ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما (32) ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا (33)

[سورة النساء (4) : آية 32]
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما (32)
ولا تتمنوا نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علما بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يحسد أخاه على حظه للرجال نصيب مما اكتسبوا جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسبا له وسئلوا الله من فضله ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا الله من خزائنه التي لا تنفد. وقيل: كان الرجال قالوا: إن الله فضلنا على النساء في الدنيا: لنا سهمان ولهن سهم واحد، فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على الأعمال ولهن أجر واحد، فقالت أم سلمة ونسوة معها: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فنزلت.

[سورة النساء (4) : آية 33]
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا (33)
مما ترك تبيين لكل، أى: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه: أو ولكل قوم جعلناهم موالي، نصيب مما ترك الوالدان والأقربون على أن (جعلنا موالي) صفة لكل، والضمير الراجع إلى كل محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله، أى حظ من رزق الله، أو: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أى وراثا مما ترك، على أن «من» صلة موالي، لأنهم في معنى الوراث، وفي: (ترك) ضمير كل، ثم فسر الموالي بقوله: (الوالدان والأقربون) كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم مبتدأ ضمن معنى الشرط. فوقع خبره مع الفاء وهو قوله فآتوهم نصيبهم ويجوز أن يكون منصوبا على قولك: زيدا فاضربه. ويجوز أن يعطف على الوالدان، ويكون المضمر في: (فآتوهم) للموالي، والمراد بالذين عاقدت أيمانكم: موالي الموالاة

(1/504)


الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34)

كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك «1» ، وثأرى ثأرك، وحربى حربك، وسلمى سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بى وأطلب بك، وتعقل عنى وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يوم الفتح فقال «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام «2» » وعند أبى حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي. وقيل: المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت أيمانكم: عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عقدت) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم.

[سورة النساء (4) : آية 34]
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34)
قوامون على النساء يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قوما لذلك. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا، يعنى إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال، على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوة، والكتابة- في الغالب، والفروسية، والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم وبما أنفقوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهن من أموالهم في المهور
__________
(1) . قوله «دمى دمك وهدمي هدمك» في الصحاح الهدم- بالتحريك-: ما تهدم من جوانب البئر فسقط فيها. ويقال: دماؤهم بينهم هدم: أى هدر. وهدم أيضا بالتسكين، إذا لم يودوا. (ع)
(2) . هو مركب من حديثين أخرجهما الطبري من حديث قيس بن عاصم «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به» ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: فوا بالحلف، فانه لا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» وفي الباب عن جبير بن مطعم رفعه: «لا حلف في الإسلام» أخرجاه. [.....]

(1/505)


والنفقات. وروى أن سعد بن الربيع وكان نقيبا من نقباء الأنصار نشرت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
أفرشته كريمتي فلطمها فقال: «لتقتص منه» فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم: «أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير» «1» ، ورفع القصاص. واختلف في ذلك، فقيل لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها، ولكن يجب العقل. وقيل: لا قصاص إلا في الجرح والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا قانتات مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج حافظات للغيب الغيب خلاف الشهادة، أى حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظهن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج والبيوت والأموال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية «2» وقيل (للغيب) لأسرارهم بما حفظ الله بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: «استوصوا بالنساء خيرا» «3» أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهن بالعذاب الشديد على الخيانة. و «ما» مصدرية.
وقرئ (بما حفظ الله) بالنصب على أن ما موصولة، أى حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانة الله، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقرأ ابن مسعود: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن. نشوزها ونشوصها: أن تعصى زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج في المضاجع في المراقد. أى لا تدخلوهن تحت اللحد أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: في المضاجع: في بيوتهن التي يبتن فيها. أى
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي والواحدي عن مقاتل به. ولأبى داود في المراسيل وابن أبى شيبة والطبري عن الحسن أن رجلا لطم وجه امرأته: فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه. فقال: القصاص. فنزلت (الرجال قوامون على النساء) ولابن مردويه عن على بإسناده أو نحوه. ولم يقل «القصاص» وزاد «أردت أمرا وأراد الله غيره» .
(2) . أخرجه أبو داود والحاكم والترمذي من رواية مجاهد عن ابن عباس «لما نزلت الذين يكنزون الذهب والفضة، الحديث- وفيه ألا أخبركم بخير ما يكنز: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته» وللنسائى من رواية سعيد المقبري عن أبى هريرة قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير النساء فقال: التي تطيع إذا أمر وتسر إذا نظر. وتحفظه في نفسها وماله» وإسناده حسن. وأخرجه البزار والحاكم والطبري وغيرهم من طرق عن سعيد. وفي الباب عن أبى أمامة عند ابن ماجة وإسناده ساقط. وعن عبد الله بن سلام عند الطبراني. وعن ثوبان وغيرهم.
(3) . متفق عليه من حديث أبى حازم عن أبى هريرة. وقد تقدم من وجه آخر.

(1/506)


لا تبايتوهن. وقرئ: في المضجع، وفي المضطجع. وذلك لتعرف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز. أمر بوعظهن أولا «1» ، ثم هجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقيل: معناه أكرهوهن «2» على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شده بالهجار.
وهذا من تفسير الثقلاء. وقالوا: يجب أن يكون ضربا غير مبرح لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ويجتنب الوجه. وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «علق سوطك حيث يراه أهلك» «3» وعن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب «4» حتى يكسره عليها «5» . ويروى عن الزبير أبيات منها:
ولولا بنوها حولها لخبطتها
فلا تبغوا عليهن سبيلا فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز إن الله كان عليا كبيرا فاحذروه واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم.
ويروى أن أبا مسعود الأنصارى رفع سوطه ليضرب غلاما له، فبصر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاح به: أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه، فرمى بالسوط وأعتق الغلام «6» . أو إن الله كان عليا كبيرا وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجيء عليكم إذا رجع.
__________
(1) . قال محمود: «أمر الله بوعظهن أولا ... الخ» قال أحمد: وهذا الترتيب بين هذه الأفعال المعطوفة غير متلقى من صيغة لفظية، إذ العطف بالواو وهي مسلوبة الدلالة على الترتيب متمحضة الاشعار بالجمعية فقط. وإنما يتلقى الترتيب المذكور من قرائن خارجة عن اللفظ مفهومة من مقصود الكلام وسياقه.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «وقيل معناه أكرهوهن ... الخ» قال أحمد: ولعل هذا المفسر يتأيد بقوله (فإن أطعنكم) فانه يدل على تقدم إكراه على أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع. وإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الافراط.
(3) . أخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث ابن عباس، وفيه ابن أبى ليلى القاضي وفيه ضعف. وفي الباب عن ابن عمرو أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة الحسن بن صالح من روايته عن عبد الله بن دينار عنه، بلفظ «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم الله رجلا يعلق السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم الله رجلا يعلق في بيته سوطا يؤدب به أهله» وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف.
(4) . قوله «ضربها بعود المشجب» في الصحاح: المشجب الخشبة التي تلقى عليها الثياب. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها بهذا وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن هشام عن أبيه قال «كان الزبير شديدا على النساء ويكسر عليهن عيدان المشاجب» وقال ابن أبى شيبة حدثنا حفص بن غياث، حدثنا هشام به.
(6) . أخرجه مسلم من حديثه نحوه وقال في آخره «أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار» .

(1/507)


وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)

[سورة النساء (4) : آية 35]
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)
شقاق بينهما أصله: شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على طريق الاتساع، كقوله: (بل مكر الليل والنهار) وأصله: بل مكر في الليل والنهار. أو على أن جعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين، على قولهم: نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر ذكرهما لجرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء حكما من أهله رجلا مقنعا رضيا يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما، وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته وما يزويانه عن الأجانب ولا يحبان أن يطلعوا عليه. فإن قلت: فهل يليان الجمع بينهما والتفريق إن رأيا ذلك؟ قلت: قد اختلف فيه، فقبل: ليس إليهما ذلك إلا بإذن الزوجين. وقيل: ذلك إليهما، وما جعلا حكمين إلا وإليهما بناء الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما. وعن عبيدة السلماني: شهدت عليا رضى الله عنه وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما فئام «1» من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما «2» . فقال على رضى الله عنه للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال على: كذب والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلى. وعن الحسن: يجمعان ولا يفرقان. وعن الشعبي: ما قضى الحكمان جاز. والألف في إن يريدا إصلاحا للحكمين. وفي يوفق الله بينهما للزوجين أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودة والرحمة. وقيل: الضميران للحكمين، أى إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق الله بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد. وقيل: الضميران للزوجين. أى: إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلبا الخير وأن يزول عنهما الشقاق يطرح الله بينهما الألفة، وأبدلهما بالشقاق وفاقا وبالبغضاء مودة. إن الله كان عليما خبيرا يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) .

[سورة النساء (4) : آية 36]
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)
__________
(1) . قوله «فئام من الناس» في الصحاح: الفئام الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه اه. (ع)
(2) . أخرجه الشافعي من رواية ابن سيرين عنه. وعبد الرزاق والدارقطني والطبري وغيرهم من طريقه.

(1/508)


الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37)

وبالوالدين إحسانا وأحسنوا بهما إحسانا وبذي القربى وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما والجار ذي القربى الذي قرب جواره والجار الجنب الذي جواره بعيد. وقيل الجار: القريب النسيب، والجار الجنب: الأجنبى. وأنشد لبلعاء ابن قيس:
لا يجتوينا مجاور أبدا ... ذو رحم أو مجاور جنب «1»
وقرئ: والجار ذا القربى، نصبا على الاختصاص. كما قرئ (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحق الجوار والقربى والصاحب بالجنب هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب: المرأة وابن السبيل المسافر المنقطع به. وقيل الضيف، والمختال: التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يتحفى بهم «2» ولا يلتفت إليهم. وقرئ:
والجار الجنب، بفتح الجيم وسكون النون.

[سورة النساء (4) : آية 37]
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37)
الذين يبخلون بدل من قوله: (من كان مختالا فخورا) أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعا عليه، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون، أحقاء بكل ملامة. وقرئ (بالبخل) بضم الباء وفتحها. وبفتحتين. وبضمتين: أى يبخلون بذات أيديهم، وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد. وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. قال:
__________
(1) . لبلغان بن قيس. ويروى: بلعاء. والرحم: القرابة. والجنب: صفة مشبهة بمعنى الأجنبى، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمتعدد. يقول: لا يكرهنا الجار النسيب، ولا الجار الجنيب أبدا، لحسن عشرتنا.
(2) . قوله «فلا يتحفى بهم» في الصحاح: تحفيت به، أى بالغت في إكرامه وإلطافه. (ع)

(1/509)


وإن امرا ضنت يداه على امرىء ... بنيل يد من غيره لبخيل «1»
ولقد رأينا ممن بلى بداء البخل، من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد، شخص «2» به وحل حبوته، واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله وكسرت خزانته، ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده. وقيل: هم اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وقد عابهم الله بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى والتفاقر إلى الناس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته على عبده» «3» وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره، فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه. وقيل: نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) .
سأقطع أرسان القباب بمنطق ... قصير عناء الفكر فيه طويل
وإن امرأ ضنت يداه على امرئ ... بنيل يد من غيره لبخيل
لأبى تمام. وقيل للبحترى. والأرسان: الحبال. والقباب التي لها أرسان: البيوت المنسوجة، جمع قبة وهي الخيمة.
وهودج مقبب: فوقه قبة. والمراد أنه يتسبب في ارتحال قوم بخلاء، ففيه مجاز عقلى حيث أسند القطع إلى سببه، وكناية حيث عبر عن الارتحال بقطع حبال البيوت. ويجوز أن المراد أنه يسكت قوما يدعون الفخر، ويهدم شرفهم وعظمتهم، ويظهر ضعتهم وخستهم، فشبه تلك الحال بحال قطع حبال البيوت المرتفعة المطنبة، فتنخفض بعد ارتفاعها وتخر ساقطة بعد انتصابها، على سبيل الاستعارة التمثيلية، وهذا أقرب إلى المقام، ويجوز أنه شبه المفاخر بالقباب بجامع العظم ومطلق الشرف والعلو في كل على طريق التصريح، وإثبات الأرسان لها ترشيح، أى: سأبطل دعوى من يدعى المفاخر وليس من أهلها بقول قصير ولكن تعب الفكر فيه طويل المدة. وفيه الطباق بين القصير والطويل. وبين ذلك المنطق بقوله «وإن امرأ بخلت يداه» وأسند البخل إلى اليد لأنها آلة الإعطاء، فكأن المنع منها بنيل يداي نعمة، ويحتمل أن اليد حقيقة، وأضاف النيل إليها لأنها آلته «لبخيل» أى لبليغ في البخل، فالتنوين للتعظيم. [.....]
(2) . قوله «شخص به وحل حبوته» في الصحاح: يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به. (ع)
(3) . أخرجه ابن حبان والحاكم من رواية أبى إسحاق عن أبى الأحوص عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في هيئة سيئة فقال: أما لك مال؟ فقال: من كل المال آتاني الله. قال: فهلا عليك. إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه» وللترمذي عن همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وللطبراني من حديث عمران بن حصين نحوه ولأحمد وإسحاق من رواية ابن وهب عن أبى هريرة رفعه «ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه» ولأبى يعلى والبيهقي في الشعب من رواية عطية عن أبى سعيد رفعه «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أنه يرى نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتبؤس» ولابن عدى عن جابر رفعه «إن الله ليحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وفيه عصمة بن محمد الأنصارى وهو منكر الحديث وللطبراني في مسند الشاميين عن أنس رفعه «إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وهو من رواية عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عنه. ورواه في الأوسط من رواية موسى بن عيسى القرشي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر نحوه.

(1/510)


والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42)

[سورة النساء (4) : الآيات 38 الى 39]
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39)
رئاء الناس للفخار، وليقال: ما أسخاهم وما أجودهم، لا ابتغاء وجه الله. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فساء قرينا حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر. ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار وماذا عليهم وأى تبعة ووبال عليهم في الايمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك. وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت. وللعاق:
ما كان يرزؤك لو كنت بارا، وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة في العفو والبر. ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة وكان الله بهم عليما وعيد.

[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42)
الذرة: النملة الصغيرة. وفي قراءة عبد الله: مثقال نملة. وعن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره، أو زاده في العقاب لكان ظلما، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة وإن تك حسنة وإن يكن مثقال ذرة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال «1» لكونه مضافا إلى مؤنث. وقرئ- بالرفع- على كان التامة يضاعفها يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير
__________
(1) . قال محمود: «وإنما أنث الضمير وهو للمثقال ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم له مثل ذلك في قوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) وقد بينا ثم أن عوده إلى الحفرة جائز، بل أولى. وكذلك عوده هاهنا إلى الذرة. ولا يمنع ذلك كون المضاف إليه غير مخبر عنه، لأن عود الضمير لا يستلزم الاخبار عنه في الكلام الأول.
ويجوز: كانت دابتك، وكل ذلك أسهل من اكتساب المضاف للتأنيث من المضاف إليه. فقد نص أبو على في التعاليق على أنه شاذ.

(1/511)


ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)

المتناهية. وعن أبى عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة:
لا، بل سمعته يقول «إن الله تعالى يعطيه ألفى ألف حسنة» «1» ثم تلا هذه الآية. والمراد: الكثرة لا التحديد ويؤت من لدنه أجرا عظيما ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما وسماه (أجرا) لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. وقرئ: يضعفها بالتشديد والتخفيف، من أضعف وضعف: وقرأ ابن هرمز: نضاعفها بالنون فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) . وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «حسبنا» «2» لو تسوى بهم الأرض لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. وقيل: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء وقيل: تصير البهائم ترابا، فيودون حالها ولا يكتمون الله حديثا ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال، أى يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثا. ولا يكذبون في قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض: وقرئ: تسوى، بحذف التاء من تتسوى. يقال: سويته فتسوى نحو: لويته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين، كقوله: يسمعون، وماضيه أسوى كأزكى.

[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)
__________
(1) . أخرجه أحمد والبزار والطبري وابن أبى شيبة من رواية على بن زيد بن جدعان عن أبى عثمان. ولفظه بلغني أن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يضعف الحسنة لعبده المؤمن ألف ألف حسنة فانطلقت فلقيت أبا هريرة، فقلت: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعطى بالحسنة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: بل سمعته يقول: إن الله يعطيه ألفى ألف حسنة ثم تلا (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) - إلى قوله (أجرا عظيما) فمن يدرى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجرا عظيما» لم يرفعه ابن أبى شيبة قال البزار لا نعلمه يروى عن أبى هريرة إلا بهذا الاسناد. كذا قال. وقد أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في الزهد من طريق زياد الجصاص عن أبى عثمان نحوه. وأخرجه عبد الرزاق عن أبان عن أبى العالية قال: جئت أبا هريرة فذكره موقوفا. وأبان متروك.
(2) . متفق عليه من رواية عبيدة السلماني عنه، وقال في آخره «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان» .

(1/512)


روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلى بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت. فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها «1» . ومعنى لا تقربوا الصلاة لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها. كقوله: (ولا تقربوا الزنى) ، (لا تقربوا الفواحش) . وقيل معناه:
ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم «2» » وقيل: هو سكر النعاس وغلبة النوم، كقوله:
............ ورانوا ... بسكر سناتهم كل الريون «3»
وقرئ: سكارى، بفتح السين. وسكرى، على أن يكون جمعا، نحو: هلكى، وجوعى،
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري نحوه دون قوله «فكانوا لا يشربون الخ. كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن على. واختلف على عطاء في اسم الداعي، وفي اسم المصلى. ففي رواية أبى جعفر الرازي عنه عند الترمذي: صنع لنا عبد الرحمن، وكذا الحاكم من طريق خالد الطحان عنه. وعند أبى داود «أن رجلا دعاه وعبد الرحمن. وللحاكم من رواية الثوري عن عطاء «دعانا رجل من الأنصار» . وللترمذي عن على «فقدموني» ولأبى داود «فقدموا عليا» وللنسائى من طريق أبى جعفر أيضا «فقدموا عبد الرحمن بن عوف» وأبهمه البزار. وكذا الحاكم. وللطبري عن الثوري. وللطبري أيضا عن حماد بن سلمة وللحاكم عن خالد (تنبيه) قوله «فكانوا لا يشربون إلى آخره» لم أجده.
(2) . أخرجه ابن عدى من حديث أبى هريرة وفيه عبد الله بن محرور هو بمهملات وقرن محمد، وهو ضعيف وفي الباب عن ثوبان ومعاذ وأبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة. فحديث ثوبان في ابن ماجة بلفظ «جنبوا مساجدنا صبيانكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم، ورفع أصواتكم ... الحديث» وحديث معاذ رواه عبد الرزاق من رواية مكحول عنه وهو منقطع. وحديث الباقين رواه الطبراني والعقيلي وابن عدى من رواية مكحول عنهم وفيه العلاء ابن كثير وهو ضعيف.
(3) . رانوا: تغطت قلوبهم بالسكر كما يغطى الحديد بالصدإ. والسنات: جمع سنة من وسن كعدة من وعد، وهي فتور العين وغفلة القلب أول النوم. والريون: جمع رين، وهو على القلب كالصدإ على الحديد، ورأيت في الأساس للطرماح ما يشبه أن يكون أصل ذلك وهو قوله:
وركب قد بعثت إلى ردايا ... طلائح مثل أخلاق الجفون
مخافة أن يرين النوم فيهم ... بسكر سناته كل الريون
والردايا جمع ردية، كقضايا وقضية، التي أصابها الردى. والطلائح- جمع طليحة أو طليح-: المهازيل. وأخلاق:
جمع خلق، كسبب وهو الشيء البالي. وأضاف السنة لضمير النوم، لأنها أوله فنسبت إليه.

(1/513)


لأن السكر علة تلحق العقل. أو مفردا بمعنى: وأنتم جماعة سكرى، كقولك: امرأة سكرى، وسكرى بضم السين كحبلى. على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى، بالفتح والضم ولا جنبا عطف على قوله: (وأنتم سكارى) لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب: يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إلا عابري سبيل استثناء من عامة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها، وهي حال السفر. وعبور السبيل: عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة، لقوله (جنبا) أى ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل، أى جنبا مقيمين غير معذورين. فإن قلت:
كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب: الذين لم يغتسلوا كأنه قيل:
لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين، حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال: من فسر الصلاة بالمسجد معناه: لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه. وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فرخص لهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا لعلى رضى الله عنه، لأن بيته كان في المسجد «1» فإن قلت: أدخل في حكم الشرط أربعة: وهم المرضى، والمسافرون، والمحدثون، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم. قلت: الظاهر أنه تعلق بهم جميعا وأن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا، وكذلك السفر إذا عدموه، لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض «2» ، ترابا كان أو غيره. وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب
__________
(1) . أصل هذا الحديث في الترمذي بغير هذا اللفظ. أخرجه من طريق سالم بن أبى حفصة عن عطية عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى «يا على، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيرى وغيرك» قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد سمعه منى محمد بن إسماعيل اه وقد أخرجه البزار من رواية الحسن بن زياد عن خارجة بن سعد عن أبيه سعد مثله سواء. وقال: لا نعلمه عن سعد إلا بهذا الاسناد، ثم أخرجه من حديث أبى سعيد كالترمذي. وقال: كان سالم شيعيا، لكنه لم يترك ولم يتابع على هذا ومعناه: أنه صلى الله عليه وسلم كان منزله في المسجد. وفي الباب عن أم سلمة، أخرجه الطبري بلفظ «لا ينبغي لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلى» وروى أبو يعلى من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سد أبواب المسجد إلا باب على» فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره» .
(2) . قال محمود: «الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ... الخ» قال أحمد: هذا إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد، وثم وجه آخر، وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: (وإن كنتم مرضى) إلى آخرها، فان المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال سفر أو مرض أو مجيء من الغائط أو ملامسة النساء، فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه. يقال: تيممت من الجنابة. وموقع «من» على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الاعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.

(1/514)


ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45)

المتيمم يده عليه ومسح. لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبى حنيفة رحمة الله عليه. فإن قلت:
فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) أى بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت. قالوا إن «من» لابتداء الغاية. فان قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب، إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء إن الله كان عفوا غفورا كناية عن الترخيص والتيسير، لأن من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسرا غير معسر. فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين «1» ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب، فخص أول من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. وقرئ: من غيط، قيل هو تخفيف غيط، كهين في هين. والغيط بمعنى الغائط

[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 45]
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45)
ألم تر من رؤية القلب، وعدى بإلى، على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟ أوتوا نصيبا من الكتاب حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود يشترون الضلالة يستبدلونها بالهدى، وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين والمجنبين ... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا من ذكر المعتنى به خاصا ومندرجا في العموم تنبيها بذكره على وجهين مختلفين، لأن المرض والسفر مندرجان في عموم المحدثين والمجنبين، والله أعلم.

(1/515)


من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)

صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل ويريدون أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ: أن يضلوا، بالياء بفتح الضاد وكسرها والله أعلم منكم بأعدائكم وقد أخبركم بعداوة هؤلاء، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم، فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.

[سورة النساء (4) : آية 46]
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)
من الذين هادوا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأنهم يهود ونصارى. وقوله:
(والله أعلم) ، (وكفى بالله) ، (وكفى بالله) جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيرا، أى ينصركم من الذين هادوا، كقوله (ونصرناه من القوم الذين كذبوا) ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، على أن يحرفون صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح «1»
أى فمنهما تارة أموت فيها يحرفون الكلم عن مواضعه يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها، وأزالوه عنها. وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» «2» مكانه، ونحو تحريفهم «الرجم»
__________
(1) .
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وكلتاهما قد خط لي في صحيفة ... فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح
لتميم بن عقيل، يقول: ليس الدهر إلا تارتين ومرتين، فتارة أموت بها، وتارة أطلب العيش حال كوني أكدح، أى أجد وأتعب وأسرع في طلبه، والمراد بالصحيفة: اللوح المحفوظ، ثم قال: ليس العيش أحب إلى لما فيه من النصب، وليس الموت أروح لي لأن النفس تكرهه.
(2) . قوله «طوال» هو بالضم: الطويل. وبالكسر: جمعه. وبالفتح مصدر، أفاده الصحاح. (ع)

(1/516)


بوضعهم «الحد» بدله: فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عن مواضعه) وفي المائدة (من بعد مواضعه) قلت: أما (عن مواضعه) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما (من بعد مواضعه) فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره، والمعنيان متقاربان. وقرئ: يحرفون الكلام. والكلم- بكسر الكاف وسكون اللام-: جمع كلمة تخفيف كلمة. قولهم غير مسمع حال من المخاطب «1» . أى اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذم أى اسمع منا مدعوا عليك- بلا سمعت- لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم- لا سمعت- دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جوابا «2» يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غير مسمع) مفعول اسمع، أى اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوا عنه. ويحتمل المدح، أى اسمع غير مسمع مكروها، من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وكذلك قولهم راعنا يحتمل راعنا نكلمك، أى ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية «3» أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام ليا بألسنتهم فتلا بها وتحريفا، أى يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعنا) موضع (انظرنا)
__________
(1) . قال محمود: «غير مسمع حال من المخاطب ... الخ» قال أحمد: مراده بذلك أنه لما فسر غير مسمع بالدعاء وهو إنشاء وطلب وقد أوقعه حالا والحال خبر، أراد أن يبين أوجه صحة التعبير على الخبر بالانشاء بواسطة أن هؤلاء كانوا يظنون دعاءهم مستجابا مخبرا بوقوع المدعو فيه. ونظيره ورود الأمر بصيغة الخبر تنبيها على تحقق وقوعه. [.....]
(2) . قال محمود «ومعناه غير مسمع جوابا ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به في هذه السورة مثل «غير مسمع» و «راعنا» ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: (يحرفون) وبين قوله: (ليا بألسنتهم) والمراد أيضا: تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر- والله أعلم- أن المراد فيها بالكلم الأحكام وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد. ألا تراه عقبه بقوله: (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) الاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أى ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه فصار وطنه ومستقره إلى غير الموضع، فبقى كالغريب المتأسف عليه، الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل «راعنا» «وغير مسمع» وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا (يحرفون الكلم عن مواضعه) غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.
(3) . قوله «ويحتمل شبه كلمة عبرانية» عبارة النسفي: ويحتمل شبه كلمة عبرانية، إلى آخر ما هنا. (ع)

(1/517)


ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)

و (غير مسمع) موضع: لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فان قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. وقرأ أبى: وأنظرنا، من الإنظار وهو الإمهال. فان قلت:
إلام يرجع الضمير في قوله لكان خيرا لهم؟ قلت: إلى (أنهم قالوا) لأن المعنى. ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا. لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأقوم وأعدل وأسد ولكن لعنهم الله بكفرهم أى خذلهم بسبب كفرهم، وأبعدهم عن ألطافه فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أى ضعيفا ركيكا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره، أو أراد بالقلة العدم، كقوله:
قليل التشكى للمهم يصيبه «1»
أى عديم التشكي، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا.

[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)
أن نطمس وجوها أى نمحو تخطيط صورها، من عين وحاجب وأنف وفم فنردها على أدبارها فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين: أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى
__________
(1) .
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يظل بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك
لتأبط شرا، يمدح شمس بن مالك من رؤساء العرب. وقيل لأبى كبير الهذلي يمدح تأبط شرا. والمعنى: أنه عديم التشكي ليظهر المدح. أى لا يشتكى لأجل المهم حال كونه يصيبه. كثير هوى النفس. والشت كالشتات في الأصل مصدر، ويستعملان بمعنى المتفرق المنتشر. وروى نشر النوى، وهو بمعناه. وروى شتى النوى وهو جمع شتيت، أى متفرق مختلف، أى نواه ومسالكه شتى أى كثيرة مختلفة. والنوى: اسم جمع نواة، وهي نية المسافر، ويطلق على البعد أيضا فهو مذكر، ويطلق على نية المسافر فيؤنث. والموماة: المفازة لا ماء بها. والجحيش: الفريد الوحيد والاعروراء: ركوب الجواد عريان الظهر. وعبر بيمسى دون يبيت، إشارة إلى أنه يديم السير ولا ينزل في الليل.
وبقوله «يعرورى» إشارة إلى أنه يقتحم المكاره بلا وقاية عنها. ولقد شبه المهالك بما يصح ركوبه على طريق المكنية، وأثبت لها الظهور تخييلا. وفيه إشارة إلى أنه غير مكترث بها، بل يسرع إليها بغير استعداد كاسراع الفارس إلى فرسه وعدم صبره حتى يسرجه. وفيه إشارة إلى أنه يظهر ويظفر حيث عبر بما يفيد الاستعلاء عليها.

(1/518)


إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)

أن نطمس وجوها فننكسها، الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدام. ووجه آخر: وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة. وبالوجوه، رؤسهم ووجهاؤهم أى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاءوا منه. وهي: أذرعات الشام، يريد: إجلاء بنى النضير. فإن قلت: لمن الراجع في قوله: (أو نلعنهم) ؟ قلت: للوجوه إن أريد الوجهاء، أو لأصحاب الوجوه. لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى (الذين أوتوا الكتاب) على طريقة الالتفات أو نلعنهم أو نجزيهم بالمسخ، كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت: فأين وقوع الوعيد. قلت:
هو مشروط بالايمان «1» . وقد آمن منهم ناس. وقيل: هو منتظر، ولا بد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة، ولأن الله عز وجل أوعدهم بأحد الأمرين، بطمس وجوه منهم، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم، أو إجلائهم إلى الشام، فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن، فإنهم ملعونون بكل لسان، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) . وكان أمر الله مفعولا فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.

[سورة النساء (4) : آية 48]
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)
فإن قلت: قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة «2» . فما وجه قول الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء «3» ؟ قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى
__________
(1) . قوله «هو مشروط بالايمان» لعله: مشروط بعدم الايمان. (ع)
(2) . قوم «لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فتغفر بها، وبالشفاعة، وبمجرد الفضل. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه ... الخ» قال أحمد رحمه الله:
عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة. وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفر له. هذا مع عدم التوبة. وأما مع التوبة فكلاهما مغفور. والآية إنما وردت فيمن لم يتب، ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق الله تعالى نفى مغفرة الشرك، وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ولا يشاء الله أن يغفرهما إلا للتائبين. فإذا عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك. وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة. فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة. وتعليقها بالآخر مطلقا، إذ هما سيان في استحالة المغفرة. وإما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك: إنه لا يغفر، والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة، ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده، فيحملها أمرين لا تحمل واحدا منهما: أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة، ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء. الثاني أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعا للرأى، نعوذ بالله من ذلك. وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليهم المثل السائر «السيد يعطى والعبد يمنع» لأن الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح، ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق.

(1/519)


ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50)

قوله تعالى: (لمن يشاء) كأنه قيل إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد: لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله فقد افترى إثما أى ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه.

[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50]
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا (50)
الذين يزكون أنفسهم اليهود والنصارى، قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وقيل: جاء رجال من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: لا. قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار «1» . فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. فإن قلت: أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إنى لأمين في السماء أمين في الأرض» «2» ؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد الله له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم بل الله يزكي من يشاء إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها، لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكى من يشاء: يزكى المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به ولا يظلمون فتيلا أى الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم. أو
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن الكلبي قال: نزلت هذه الآية في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم- فذكره» وسنده إلى الكلبي في أول الكتاب.
(2) . لم أجده.

(1/520)


ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)

من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم. ونحوه (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) : كيف يفترون على الله الكذب في زعمهم أنهم عند الله أزكياء وكفى بزعمهم هذا إثما مبينا من بين سائر آثامهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52]
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)
الجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون الله: والطاغوت: الشيطان. وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد. فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، ونسقي الحاج، ونقرى الضيف، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا.

[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55]
أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)
وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شر خصلتين: يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة غيرهم فقال أم لهم نصيب من الملك على أن أم منقطعة «1» ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ثم قال فإذا لا يؤتون أى لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم: والنقير: النقرة في ظهر النواة
__________
(1) . قوله «على أن أم منقطعة» أى تفسر ببل والهمزة. (ع)

(1/521)


إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56)

وهو مثل في القلة، كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك: إما ملك أهل الدنيا، وإما ملك الله كقوله تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) وهذا أوصف لهم بالشح، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن. ويجوز أن يكون معنى الهمزة في أم: لإنكار أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك، وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحدا مما يملكون شيئا. وقرأ ابن مسعود: فإذا لا يؤتوا، على إعمال إذا عملها الذي هو النصب، وهي ملغاة في قراءة العامة، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيرا إذا أم يحسدون الناس بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه. وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم فقد آتينا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه.
وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان. وقيل: استكثروا نساءه فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ فمنهم فمن اليهود من آمن به أى بما ذكر من حديث آل إبراهيم ومنهم من صد عنه وأنكره مع علمه بصحته. أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أنكر نبوته. أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر، كقوله: (فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) .

[سورة النساء (4) : آية 56]
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56)
بدلناهم جلودا غيرها أبدلناهم إياها. فإن قلت: كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعص؟ قلت: العذاب للجملة الحساسة، وهي التي عصت لا للجلد. وعن فضيل:
يجعل النضيج غير نضيج. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «تبدل جلودهم كل يوم سبع مرات» «1» وعن الحسن: سبعين مرة يبدلون جلودا بيضاء كالقراطيس ليذوقوا العذاب
ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزك الله، أى أدامك على عزك وزادك فيه
__________
(1) . لم أجده. ولابن عدى والطبراني عن ابن عمر: قرأ رجل عند عمر (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا) فقال معاذ: تبدل كل ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفيه نافع ابن يوسف السلمى وأبو هرمز وهو ضعيف. وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: سئل فضيل بن عياض عن هذه الآية، فأخبرنا عن هشام عن الحسن قال: تبدل جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة.

(1/522)


والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58) ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)

عزيزا لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حكيما لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.

[سورة النساء (4) : الآيات 57 الى 58]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58)
ظليلا صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه. كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك. وهو ما كان فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجسجا «1» لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا الله بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله: سيدخلهم بالياء أن تؤدوا الأمانات الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.
وقيل نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى على ابن أبى طالب رضى الله عنه يده، وأخذه منه وفتح، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلى: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا «2» . وقيل هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل. وقرئ: الأمانة، على التوحيد نعما يعظكم به «ما» إما أن تكون منصوبة موصوفة بيعظكم به. وإما أن تكون مرفوعة موصولة به، كأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به. أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف، أى نعما يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وقرئ (نعما) بفتح النون.

[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)
__________
(1) . قوله «فينانا» أى طويلا ممتدا. والجوب: الخرق والقطع. والسجسج: المتوسط. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد. وكذا ذكره الواحدي في الوسيط والأسباب. وقال فيه «ما دام هذا البيت، فان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان» .

(1/523)


ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63)

لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولى الأمر منكم: أمراء الحق لأن- أمراء الجور- الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله: (وأولي الأمر منكم) قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقيل: هم أمراء السرايا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميرى فقد أطاعنى ومن يعص أميرى فقد عصاني» «1» وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. (فإن تنازعتم في شيء) فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين، فردوه إلى الله ورسوله، أى: ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولى الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخرا بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم:
اللصوص المتغلبة ذلك إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأصلح وأحسن تأويلا وأحسن عاقبة. وقيل: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم.

[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63)
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة. والبخاري من رواية الأعرج. ومسلم من رواية الأعرج وأبى سلمة كلاهما عنه.

(1/524)


روى أن بشرا المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب. فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول الله فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الفاروق «1» . والطاغوت: كعب بن الأشرف، سماه الله «طاغوتا» لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه. أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان، بدليل قوله: (وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم) . وقرئ (بما أنزل ... وما أنزل) على البناء للفاعل. وقرأ عباس بن الفضل: أن يكفروا بها، ذهابا بالطاغوت إلى الجمع، كقوله: (أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم) وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفا «2» ، كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في: (آية) إن أصلها «آيية» فاعلة، فحذفت اللام، فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت، فصار (تعالوا) ، نحو: تقدموا. ومنه قول أهل مكة: تعالى، بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني:
__________
(1) . ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى عاصم عن ابن عباس في هذه الآية: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر. وإسناده إلى الكلبي في خطبة كتابه. وذكره الواحدي أيضا. ولابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية وهب عن ابن لهيعة عن أبى الأسود «اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقضى بينهما. فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر. فانطلقا إليه. فضرب عنق الذي قال: ردنا إلى عمر. فجاء الآخر فأخبره فقال: ما كنت أظن عمر يجترئ على قتل مؤمن. فأنزل الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون) - الآية فأهدر دمه» [.....]
(2) . قوله «من تعاليت تخفيفا» لعله عند إسناده إلى واو الجمع. فليحرر. (ع)

(1/525)


تعالى أقاسمك الهموم تعالى «1»
والوجه فتح اللام فكيف يكون حالهم، وكيف يصنعون؟ يعنى أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمرا ولا يوردونه إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم ثم جاؤك حين يصابون فيعتذرون إليك يحلفون ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا إحسانا لا إساءة وتوفيقا بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك، ففرج عنا بدعائك وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم. ولا يغنى عنهم الاعتذار عند حلول بأس الله. وقيل: جاء أولياء المنافق
__________
(1) .
أقول وقد ناحت بقربى حمامة ... أيا جارتا هل بات حالك حالى
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ... وما خطرت منك الهموم ببال
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالى أقاسمك الهموم تعالى
تعالى ترى روحا لدى ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكى طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالى
لقد كنت أولى منك بالدمع والبكا ... ولكن دمعي في الشدائد غالى
للهمدانى بالهاء. وبعضهم يرويه بالحاء، وكان أسيرا. وبات: أى صار حالك كحالي في الضيق والحزن، والاستفهام إنكارى. ويروى بدله «هل تعلمين بحالي» ونسبة العلم إليها لتنزيلها منزلة العاقل كما في ندائها. وقال «معاذ الهوى» كما يقال «معاذ الله» لعظمة الهوى عنده، وهو مصدر نائب عن فعله، أى ألتجئ إلى الهوى، من دعوى أنك مثلي، «ما ذقت» يا حمامة «طارقة» الفراق وشبهها بمطعوم مكروه والذوق تخييل. «وما خطرت الهموم ببال» أى بقلب منك. وأيا: حرف نداء. و «جارتا» أصله جارتى، فقلبت الياء ألفا لرفع الصوت.
وتكرير النداء فيه معنى التحسر. وادعاء بلادتها بعد تنزيلها منزلة العاقل بعيد «ما أنصف الدهر بيننا» حيث أطلقك وأسرك وأسرنى وأحزننى. والقياس في تعالى- أمر للمؤنثة، وفي تعاليا للمثنى، وفي تعالوا لجمع الذكور- فتح اللام على أصلها لأنها عين الفعل، والضمير تال للامه المقدرة، وأهل مكة يكسرون الأولى لمناسبة الياء، ويضمون الثانية لمناسبة الواو تنزيلا لها منزلة لام الفعل. ومنه قوله «أقاسمك الهموم» فلي النصف ولك الآخر. فان قيل: إن قائل هذا الشعر مولد فلا يستشهد بكلامه. قلت: أجيب بأن إيراده من قبيل الاستثناء لا من قبيل الاستبدال.
ومذهب الزمخشري أن «هات» بالكسر بمعنى ناولني، و «تعالى» بالفتح دائما على اللغة المشهورة بمعنى أقبل إلى، كلاهما اسم فعل لا فعل أمر، ولعله لعدم تصرفها في هذين المعنيين. وأغرب منه ما نقله السيوطي عن بعضهم: أن أدوات النداء أسماء أفعال متجملة لضمير المتكلم بمعنى أدعو. وقوله «ترى» بفتح الراء على اللغة الأولى، وبكسرها على الثانية. وتكرير الأمر كتكرير النداء. ومعنى ضعف الروح: عجز حواسها عن الإدراك. و «تردد» أصله:
تتردد «بالي» أى نحيل. وقوله «أيضحك» استفهام تعجبي بالنسبة للجملة الأولى، وتوبيخي بالنسبة للثانية، وكذلك المصراع الثاني. ويجوز أنه تعجبي في الجميع، أو توبيخي في الجميع وهو أبعدها، ويعنى بالمأسور والمحزون نفسه. وبالطليقة والسالى الحمامة. ويجوز أنه أراد العموم ويدخلان فيه دخولا أوليا. و «المأسور» المحبوس وحزنه: لغة قريش. وأحزنه: لغة تميم. ومحزون من الأول. والندبة: رفع الصوت بالبكاء، والمراد به النوح السابق. والسالى: الصابر وقليل الهموم. والدمع: ماء العين ونزوله منها. والمراد الثاني. وروى «بالدمع مقلة» فمقلة تمييز، والأصل: لقد كانت مقلتي أولى من مقلتك بالدمع. و «غالى» مرتفع وممتنع لتجلد الشامتين.

(1/526)


وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)

يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به فأعرض عنهم لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار. فإن قلت: بم تعلق قوله: (في أنفسهم «1» ) ؟ قلت: بقوله: (بليغا) أى: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف. أو يتعلق بقوله: (قل لهم) أى قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا، وأن الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يغنى عنكم إبطانه. فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق، وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشرا من ذلك وأغلظ. أو قل لهم في أنفسهم- خاليا بهم، ليس معهم غيرهم، مسارا لهم بالنصيحة، لأنها في السر أنجع، وفي الإمحاض أدخل- قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)
__________
(1) . قال محمود «إن قلت: بم تعلق قوله في أنفسهم ... الخ» ؟ قال أحمد: ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة. أما الأول فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم وسياق التهديد في قوله: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك) يشهد له، فانه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد. وأما الثاني فيلائمه من السياق قوله: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) يعنى ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل. ثم أمره بوعظهم والاعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم، ثم جاء قوله: (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) كالشرح للوعظ، ولذكر أهم ما يعظهم فيه، وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذام، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به. وأما الثالث: فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم، حتى عد حذيفة رضى الله عنه صاحب سره عليه الصلاة والسلام، لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم، وتسميتهم له بأسمائهم، وأخباره في هذا المعنى كثيرة

(1/527)


وما أرسلنا من رسول وما أرسلنا رسولا قط إلا ليطاع بإذن الله بسبب إذن الله في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه، لأنه مؤد عن الله، فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله من يطع الرسول فقد أطاع الله ويجوز أن يراد بتيسير الله وتوفيقه في طاعته ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤك تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فاستغفروا الله من ذلك بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفرا لوجدوا الله توابا لعلموه توابا، أى لتاب عليهم. ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه «1» إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان فلا وربك معناه فو ربك، «2» كقوله تعالى فو ربك لنسئلنهم و «لا» مزيدة
__________
(1) . قال محمود: وإنما لم يقل واستغفرت لهم لأنه عدل به ... الخ» قال أحمد: وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة، والله الموفق.
(2) . قال محمود «معناه فو ربك و «لا» مزيدة لتأكيد ... الخ» قال أحمد: يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم وإن لم يكن المقسم به، دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا، تعين جعلها لتأكيد القسم، طردا للباب. والظاهر عندي والله أعلم: أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم، حيث يكون بالفعل، مثل (لا أقسم بهذا البلد) ، (لا أقسم بيوم القيامة) ، (فلا أقسم بالخنس) ، (فلا أقسم بمواقع النجوم) (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير الله تعالى، ولذلك سر يأبى كونها في آية النساء لتأكيد القسم. ويعين كونها للتوطئة، وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها، تأكيد تعظيم المقسم به، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامى لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام، يعنى أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم وللاقسام بها، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور. وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله: (لا أقسم بيوم القيامة) على وجه مجمل هذا بسطه وإيضاحه، فإذا بين ذلك، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله مندفع في الأقسام بالله، فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم فيتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت. وأما دخولها في القسم وجوابه نفى فكثير مثل:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعى القوم أنى أفر
وكقوله:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزننى فلا بك ما أبالى
وقوله:
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أقاما
وقوله:
فخالف فلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وهو أكثر من أن يحصى فتأمل هذا الفصل فانه حقيق بالتأمل.

(1/528)


لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: (لئلا يعلم) لتأكيد وجود العلم. ولا يؤمنون جواب القسم فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر (فلا) في: (لا يؤمنون) ؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم) فيما شجر بينهم فيما اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه حرجا ضيقا، أى لا تضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكا، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين ويسلموا وينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك، لا يعارضوه بشيء، من قولك:
سلم الأمر لله وأسلم له، وحقيقة سلم نفسه وأسلمها، إذا جعلها سالمة له خالصة، وتسليما تأكيد للفعل بمنزلة تكريره. كأنه قيل: وينقادوا لحكمه انقيادا لا شبهة فيه، بظاهرهم وباطنهم. قيل:
نزلت في شأن المنافق واليهودي. وقيل: في شأن الزبير وحاطب بن أبى بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، كانا يسقيان بها النخل، فقال «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» «1» فغضب حاطب وقال: لأن كان ابن عمتك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك، ثم أرسله إلى جارك» كان قد أشار على الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه فلما أحفظ»
رسول الله صلى الله عليه وسلم، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم، ثم خرجا فمرا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصارى: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. ففطن يهودى كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم، وايم الله، لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى، فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا
__________
(1) . قال ابن أبى حاتم: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب- قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون) - الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبى بلتعة: اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل» وأصله في الصحيحين أتم من هذا من غير تسمية حاطب. أخرجاه من طريق الزهري عن عروة قال «اختصم الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول الله، إن كان ابن عمتك؟
فتلون وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعب الزبير حقه في صريح الحكم. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك (فلا وربك لا يؤمنون) الآية وروى أنهما لما خرجا مرا على المقداد: فقال قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتهمونه على قضاء يقضى بينهم، وايم الله لقد أذنبنا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس:
أما والله إن الله يعلم منى الصدق، لو أمرنى أن أقتل نفسي لقتلتها» ذكره الثعلبي في تفسيره بغير سند عن الصالحي، وإسناده إليه أول الكتاب.
(2) . قوله «فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم» أى أغضب، أفاده الصحاح. (ع)

(1/529)


ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68) ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)

سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم منى الصدق، لو أمرنى محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «1» . وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا، والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك، فنزلت الآية في شأن حاطب، ونزلت في شأن هؤلاء.

[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا ناس قليل منهم وهذا توبيخ عظيم. والرفع على البدل من الواو في: (فعلوه) . وقرئ: إلا قليلا، بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى لكان خيرا لهم في عاجلهم وآجلهم وأشد تثبيتا
لإيمانهم وأبعد من الاضطراب فيه وإذا جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت، فقيل:
وإذا لو ثبتوا لآتيناهم لأن إذا جواب وجزاء من لدنا أجرا عظيما كقوله: (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) في أن لمراد العطاء المتفضل به من عنده وتسميته أجرا، لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته (ولهديناهم) وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.

[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)
الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبى بكر الصديق رضى الله
__________
(1) . لم أجده هكذا، وإنما ذكره الثعلبي عن الحسن ومقاتل قالا: لما نزلت هذه الآية قال عمر، وعمار وابن مسعود «والله لو أمرنا الله لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا» فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال- فذكره

(1/530)


عنه وصدقوا في أقولهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده وحسن أولئك رفيقا فيه معنى التعجب كأنه قيل:
وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ: وحسن، بسكون السين. يقول المتعجب:
حسن الوجه وجهك! وحسن الوجه وجهك! بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق: كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفردا، بين به الجنس في باب التمييز.
وروى أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول الله، ما بى من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين «1» .» وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة ذلك مبتدأ والفضل صفته ومن الله الخبر، ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ، والفضل من الله خبره، والمعنى: أن ما أعطى المطيعون من الأجر «2» العظيم
__________
(1) . ذكره الثعلبي بغير سند، ونقله الواحدي في الأسباب عن الكلبي لكن لم يقل في آخره «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إلى آخره» حكى ذلك عن جماعة من الصحابة قال سعيد بن جبير: حدثنا خلف بن خليفة عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال «جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنت أحب إلى من نفسي وولدى وأهلى ومالى، ولولا أنى أتيتك فأراك لكنت، أى سأموت وبكى الأنصارى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت أنك ستموت مع النبيين عليهم الصلاة والسلام ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (ومن يطع الله) - الآية فقال له: أبشر» ومن طريقه أخرجه البيهقي في الشعب ووصله الطبراني وعنه ابن مردويه، ومن طريق خالد بن عبد الرحمن عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن عباس نحوه، ورواه الطبري من طريق يعقوب القمي عن جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير نحوه مرسلا، ورواه الطبراني في الصغير والواحدي موصولا من طريق عبد الله بن عمران العابدي عن فضيل بن عياض عن منصور بن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضى الله عنها قالت «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، والله إنك لأحب إلى من نفسي- الحديث بنحوه، وأخرجه الواحدي من طريق أخرى عن مسروق قال قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- فذكره مختصرا ومن طريق روح عن قتادة كذلك مرسلا.
(2) . قال محمود: «والمعنى أن ما أعطى المطيعون من الأجر ... الخ» قال أحمد: عقيدة أهل السنة: أن المطيع لا يستحق على الله بطاعته شيئا، وأنه مهما أثيب به من دخول الجنة والنجاة من النار، فذاك فضل من الله لا عن استحقاق ثابت، فهم يقرون هذه الآية في رجائها، وأما القدرية: فيزعمون أن المطيع يستوجب على الله ثواب الطاعة، وأن المقابل لطاعته من الثواب أجر مستحق كالأجرة على العمل في الشاهد، ليس بفضل، وإنما الفضل ما يزاده العبد على حقه من أنواع الثواب وصنوف الكرامة، فلما وردت هذه الآية ناطقة بأن جملة ما يناله عباد الله فضل من الله، اضطر الزمخشري إلى ردها إلى معتقده، فجعل الفضل المشار إليه هو الزيادة التابعة للثواب، يعنى المستحق، ثم اتسع في التأويل فذكر وجهها آخر وهو: أن يكون المشار إليه، مزايا هؤلاء المطيعين في طاعتهم وتمييزهم بأعمالهم، وجعل معنى كونها فضلا من الله أنه وفقهم لاكتسابها ومكنهم من ذلك لا غير، يعنى وأما إحداثها فبقدرهم. وهذا من الطراز الأول، والحق أن الكل أيضا فضل من الله بكل اعتبار، لأن معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق الله تعالى وفعله، وأن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها، فالطاعة إذا من فضله وثوابها من فضله، فله الفضل على كل حال والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله ورحمته» قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة»

(1/531)


ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73)

ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم تبعا لثوابهم وكفى بالله عليما بجزاء من أطاعه أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله، لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه وكفى بالله عليما بعباده فهو يوفقهم على حسب أحوالهم

[سورة النساء (4) : آية 71]
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71)
خذوا حذركم الحذر والحذر بمعنى، كالإثر والأثر، يقال: أخذ حذره، إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى: احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم فانفروا إذا نفرتم إلى العدو. إما ثبات جماعات متفرقة سرية بعد سرية، وإما جميعا أى مجتمعين كوكبة واحدة، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وقرئ: فانفروا بضم الفاء

[سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73]
وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73)
اللام في: (لمن) للابتداء بمنزلتها في قوله: (إن الله لغفور) وفي ليبطئن جواب قسم محذوف تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن، والقسم وجوابه صلة من، والضمير الراجع منها إليه ما استكن في: (ليبطئن) والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمبطئون منهم المنافقون لأنهم كانوا يغزون معهم نفاقا. ومعنى (ليبطئن) ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد وبطأ. بمعنى: أبطأ كعتم بمعنى: أعتم «1» ، إذا أبطأ، وقرئ (ليبطئن) بالتخفيف يقال: بطأ على فلان وأبطأ على وبطؤ
__________
(1) . قوله «كعتم بمعنى أعتم» في الصحاح «العتم: الإبطاء» . (ع)

(1/532)


فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)

نحو: ثقل، ويقال: ما بطأ بك، فيعدى بالباء، ويجوز أن يكون منقولا من بطؤ، نحو؟ ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله ابن أبى، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد فإن أصابتكم مصيبة من قتل أو هزيمة «1» فضل من الله من فتح أو غنيمة ليقولن وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (من) لأن قوله (لمن ليبطئن) في معنى الجماعة وقوله كأن لم تكن بينكم وبينه مودة اعتراض بين الفعل الذي هو (ليقولن) وبين مفعوله وهو يا ليتني والمعنى كأن لم تتقدم له معكم موادة، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم. لأنهم كانوا أعدى عدو للمؤمنين وأشدهم حسدا لهم، فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم. وقرئ: فأفوز بالرفع عطفا على كنت معهم لينتظم الكون معهم، والفوز معنى التمني، فيكونا متمنيين جميعا، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، بمعنى فأنا أفوز في ذلك الوقت

[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)
يشرون بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ:
وشريت بردا ليتنى ... من بعد برد كنت هامه «2»
__________
(1) . قال محمود فيه: «المراد بالمصيبة القتل والهزيمة ... الخ» قال أحمد: وفي هذه القراءة نكتة غريبة، وهي الاعادة إلى لفظ من بعد الاعادة إلى معناها، وهو مستغرب أنكر بعضهم وجوده في الكتاب العزيز لما يلزم من الإجمال بعد البيان، وهو خلاف قانون البلاغة، إذ الاعادة إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها، بل تناوله للمعنى مجمل مبهم، فوقوعه بعد البيان عسر، ومنهم من أثبته وعد موضعين، وهذه الآية على هذه القراءة ثالث، وسيأتى بيان شاف إن شاء الله تعالى
(2) .
وشربت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه
يا هامة تدعو صدى ... بين المشرق فاليمامه
لابن مفرغ. باع غلامه بردا عند انصرافه من سجستان إلى البصرة، فندم على ذلك ودعا على نفسه بالقتل. ويقال:
اشتراه إذا أخذه ودفع ثمنه. وشراه إذا دفعه وأخذ ثمنه. وكانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير هامة، أى بومة تزقو وتصيح: أدركونى، أدركونى حتى يؤخذ بثأره. والصدى: ذكر البوم. والمشرق- كمعظم- واليمامة: موضعان بعينهما بينهما مفازة. فقوله «كنت هامه» كناية عن أن يكون قتيلا. ويا للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف وهامة بيان أو بدل من هامة الأولى، وغايرتها بانضمام الصفة إليها وهي قوله «تدعو صدى» أى تصيح على ذكرها. وهذا من المبالغة في الاشارة واللطف في العبارة، حيث ضرب عن جانب المعنى المراد صفحا، حتى كأنه يتكلم في هامة حقيقية تزقو على ذكرها، بل أنها هامة تطير وتصيح مع الهامات في المفاوز، وبعد هذا فالكلام مجاز عن شدة تحسره وتحزنه وندمه على ما فعل.

(1/533)


فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد، والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل في سبيل الله ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله والمستضعفين فيه وجهان أن يكون مجرورا عطفا على سبيل الله أى في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، ومنصوبا «1» على اختصاص يعنى واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدى الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا، قال ابن عباس:
كان ينصر الضعيف من القوى حتى كانوا أعز بها من الظلمة. فإن قلت: لم ذكر الولدان؟ قلت:
تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء، وعن ابن عباس:
كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان، ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء، لأن العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة، وقيل للولدان
__________
(1) . قال محمود: «يجوز أن يكون المستضعفين مجرورا- إلى قوله- ومنصوبا ... الخ» قال أحمد: وفيه على هذا مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين: إحداهما- التخصيص بعد التعميم فانه يقتضى إضمار الناصب الذي هو اختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق. [.....]

(1/534)


ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)

والولائد «الولدان» لتغليب الذكور على الإناث كما يقال الآباء والإخوة. فإن قلت: لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث «1» ؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها، فأعطى إعراب القرية لأنه صفتها، وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي ظلم أهلها، ولو أنث فقيل: الظالمة أهلها، لجاز لا لتأنيث الموصوف، ولكن لأن الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت:
هل يجوز من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت: نعم، كما تقول: التي ظلموا أهلها، على لغة من يقول أكلونى البراغيث، ومنه (وأسروا النجوى الذين ظلموا) . رغب الله المؤمنين ترغيبا وشجعهم تشجيعا بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله. فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولى لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه.

[سورة النساء (4) : آية 77]
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)
(كفوا أيديكم) أى كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فلما كتب عليهم القتال بالمدينة كع فريق منهم «2» لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفورا عن الإخطار بالأرواح وخوفا من الموت كخشية الله من إضافة المصدر «3» إلى المفعول، فإن قلت: ما محل (كخشية الله)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث ... الخ» ؟ قال أحمد: ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز كقوله: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) إلى قوله: (فكفرت بأنعم الله) وقوله: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) وأما هذه القرية في سورة النساء فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى.
(2) . قوله «كع فريق منهم» أى جبن. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «قوله تعالى: (كخشية الله) من إضافة المصدر ... إلخ» قال أحمد: وقد مر نظير هذه الآية في الاعراب وهو قوله تعالى: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) وقد قرأ الزمخشري ثم ما أذعن له هنا وهو الجر عطفا على الذكر، وبينا ثم جوازه بالتأويل الذي ذكره الزمخشري هاهنا، وهو إلحاقه بباب جد جده، وأصل هذا الاعراب لأبى الفتح، وقد بينت جواز الجر عطفا على الذكر من غير احتياج إلى التأويل المذكور، وأجرى مثله هاهنا وهو وجه حسن استنبطته من كتاب سيبويه، فان أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمنى، والله الموفق. الذي ذكر سيبويه جواز قول القائل- زيد أشجع الناس رجلا- ثم قال سيبويه فرجل واقع على المبتدأ ولك أن تجره فتقول- زيد أشجع رجل- وهو الأصل انتهي المقصود من كلام سيبويه. وإذا بنيت عليه جاز أن تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب الخشية وأنت تريد المصدر، كأنك قلت خشي فلان خشية أشد خشية، فتوقع خشية الثانية على الأولى، وإن نصبتها فهو كما قلت: زيد أشجع رجلا، فأوقعت رجلا على زيد وإن كنت نصبته فهو على الأصل أن تقول أشد خشية فتجرها، كما كان الأصل أن تقول زيد أشجع رجل فتجره، وما منع الزمخشري من النصب مع وقوعه على المصدر إلا أن مقتضى النصب في مثله خروج المنصوب عن الأول، بخلاف المجرور، ألا تراك تقول زيد أكرم أبا، فيكون زيد من الأبناء وأنت تفضل أباه، وتقول زيد أكرم أب، فيكون من الآباء وأنت تفضله، فلو ذهبت توقع أشد على الخشية الأولى وقد نصبت مميزها، لزم خروج الثاني عن الأول وهو محال، إذ لا تكون الخشية خشية فتحتاج إلى التأويل المذكور، وهو جعل الخشية الأولى خاشية حتى تخرجها عن المصدر المميز لها، وقد بينا في كلام سيبويه جواز النصب مع وقوع الثاني على الأول، كما لو جررت، فمثله يجوز في الآية من غير تأويل والله أعلم. وقد مضت وجوه من الاعراب في آية البقرة يتعذر بعضها هنا لمنافرة المعنى والله الموفق. ومثل هذه الأنواع من الاعراب منزل من العربية منزلة اللب الخالص، فلا يوصل إليها إلا بعد تجاوز جملة القشور، وربك الفتاح العليم.

(1/535)


أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79)

من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في (يخشون) أى يخشون الناس مثل أهل خشية الله، أى مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية الله، وأشد معطوف على الحال. فإن قلت: لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر يخشون خشية مثل خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ قلت: أبى ذلك قوله: (أو أشد خشية) لأنه وما عطف عليه في حكم واحد، ولو قلت يخشون الناس أشد خشية؟ لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية وذات خشية، على قولهم جد جده فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية الله، أو خشية أشد خشية من خشية الله، ويجوز على هذا أن يكون محل (أشد) مجرورا عطفا على: (كخشية الله) تريد كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر، كقوله: (لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق) . ولا تظلمون فتيلا ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا عنه، وقرئ: ولا يظلمون، بالياء.

[سورة النساء (4) : الآيات 78 الى 79]
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79)

(1/536)


قرئ (يدرككم) بالرفع وقيل: هو على حذف الفاء، «1» كأنه قيل: فيدرككم الموت، وشبه بقول القائل
من يفعل الحسنات الله يشكرها «2»
ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع (أينما تكونوا) ، وهو أينما كنتم، كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» «3» وهو ليسوا بمصلحين، فرفع كما رفع زهير:
يقول لا غائب مالى ولا حرم «4»
__________
(1) . قال محمود: «قرئ يدرككم بالرفع. وقيل: هو على حذف الفاء ... الخ» قال أحمد: أما الوجه الذي ألحقه بتوجيه سيبويه في الشعرين المذكورين ففيه نظر. أما قوله «ولا ناعب» فمختار، فان دخول الباء في خبر ليس أمر مطرد غالب، والخبر وطن معروف لها، فإذا قدرت فيه حيث تسقط، روعي هذا التقدير في المعطوف، لما ذكرناه من الغلبة التي تقتضي إلحاق دخولها بالأصل الواجب الذي يعتبر، نطق به أو سكت عنه. وأما تقدير (أينما تكونوا) في معنى كلام آخر، يرتفع معه قوله: (يدرككم) ، فذلك تقدير لم يعهد له نظير، ولم يغلب هذا المقدر فيلتحق بغلبة دخول الباء في الخبر، فلا يلزم من مراعاة ما يقتضيه غالب الاستعمال ومعهوده مراعاة ما لم يسبق به عهد.
وأما البيت الآخر لزهير، فالمنقول عن سيبويه حمله أو حمل مثله على التقديم والتأخير، كقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
فليس من قبيل «ولا ناعب» والله الموفق. وفي الوجه الأخير الذي أبداه الزمخشري حجة واضحة على أن القتل في المعارك والملاحم لا يعترض على الأجل المقدر بنقص، وأن كل مقتول فبأجله مات، لا كما يزعمه القدرية، والله الموفق.
(2) .
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... الشر بالشر عند الله مثلان
فإنما هذه الدنيا وزينتها ... كالزاد لا بد يوما أنه فان
لعبد الرحمن بن حسان. وقيل: لعبد الله بن حسان. وقيل: لكعب بن مالك الأنصارى. يقول: من يفعل الحسنات فالله يشكرها، أى يجازيه عليها أضعافا، فأسقط الفاء من جواب الشرط وهو قليل. وقيل: مخصوص بالشعر. وعن المبرد منه مطلقا، وزعم أن الرواية «من يفعل الخير فالرحمن يشكره» والشر ملتبس بالشر أو حاصل به، ثم قال: هما متماثلان عند الله لا يزيد الجزاء على الذنب. أو الباء بمعنى مع، أى الشر مع الشر مثلان عند الله، لكن الأول الذنب، والثاني جزاؤه. وسمى شرا مشاكلة. وروى «سيان» بدل «مثلان» فان زينة الدنيا من المال والبنون ليست إلا مثل الزاد الذي يتزود به إلى بلوغ المعاد. ولا بد من فنائه يوما من الأيام، فلا بد من فنائها. فيوما: ظرف لفان.
(3) . قوله كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» هو من قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا يبين غرابها
(ع)
(4) .
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فينظلم
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم
لزهير بن أبى سلمى، يمدح هرم بن سنان. والسائل: العطاء. وعفوا: حال منه، أى سهلا عليه، أى قليلا عنده وإن كثر في الواقع، أو بغير سؤال. ويظلم: أى يسأل فوق طاقته فيتكلف ويعطى. ويروى: فيظلم، وأصله:
يظتلم، مطاوع ظلمه. قلبت تاؤه طاء على الأصل في تاء الافتعال بعد المطبقة، ثم قلبت الطاء ظاء معجمة على خلاف الأصل في القلب للادغام، وأدغمت فيها الأولى. وروى «فيطلم» وأصله: يظتلم أيضا، قلبت التاء طاء مهملة، ثم قلبت الظاء طاء مهملة أيضا على القياس وأدغمت في الثانية وروى «فيظطلم» بهما معا. وقوله «أحيانا» فيه نوع احتراس من توهم وصفه بالعقر المستمر. «وإن أتاه خليل» أى متصف بالخلة- بالفتح- وهي الفقر والفاقة يبيح له أمواله ولا يتعلل. فقوله «يقول ... إلى آخره» كناية عن ذلك، وهو جواب الشرط. ورفع لأن الشرط ماض لم يؤثر العامل في لفظه الجزم، وقد يرفع جواب الشرط المضارع لتخيل أنه ماض، كمسئلة العطف على التوهم. وقيل إنه على تقدير الفاء، أى فهو يقول. وقيل: التقدير يقول: لا غائب مالى إن أتاه خليل فالجواب محذوف دل عليه المذكور، وهو قول سيبويه، وما قبله قول الكوفيين، وروى عنه أيضا. و «المسغبة» الجوع. و «حرم» كحذر، مصدر حرمه إذا منعه. والمراد به المفعول، أى ليس محروما وممنوعا عن السائلين. ويجوز أنه صفة مشبهة، كحذر وفرح بمعنى صنع. ولو قرئ «حرم» بالفتح بمعنى حرام، كزمن وزمان لجاز. وغايته أن يكون في القافية السناد.

(1/537)


وهو قول نحوى سيبوى. ويجوز أن يتصل بقوله: (ولا تظلمون فتيلا) أى ولا تنقصون شيئا مما كتب من أجالكم. أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ثم ابتدأ قوله: (يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) والوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج: الحصون. مشيدة مرفعة. وقرئ (مشيدة) من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص. وقرأ نعيم بن ميسرة (مشيدة) بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازا كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر فارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية. والحسنة على النعمة والطاعة. قال الله تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) وقال: (إن الحسنات يذهبن السيئات) . والمعنى: وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله، وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك، وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى الله عن قوم موسى: (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) وعن قوم صالح: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) وروى عن اليهود- لعنت- أنها تشاءمت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فرد الله عليهم قل كل من عند الله يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح لا يكادون يفقهون حديثا فيعلموا أن الله هو الباسط القابض، وكل ذلك صادر عن حكمة وصواب ثم قال ما أصابك يا إنسان خطابا عاما من حسنة أى من نعمة وإحسان فمن الله تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وما أصابك من سيئة أى من بلية ومصيبة فمن عندك، لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) وعن عائشة رضى الله عنها: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما

(1/538)


من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81)

يعفو الله أكثر وأرسلناك للناس رسولا أى رسولا للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) ، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) . وكفى بالله شهيدا على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.

[سورة النساء (4) : آية 80]
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)
من يطع الرسول فقد أطاع الله لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة لله. وروى أنه قال: «من أحبنى فقد أحب الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله» «1» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت ومن تولى عن الطاعة فأعرض عنه فما أرسلناك إلا نذيرا، لا حفيظا ومهيمنا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله: (وما أنت عليهم بوكيل) .

[سورة النساء (4) : آية 81]
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81)
ويقولون إذا أمرتهم بشيء طاعة بالرفع أى أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة. وهذا من قول المرتسم: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. ونحوه قول سيبويه:
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأنى حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه. كان على الفعل والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها بيت طائفة زورت طائفة وسوت غير الذي تقول خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطلوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. والتبييت: إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها والله يكتب ما يبيتون يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد. أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغنى عنهم فأعرض عنهم ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم وتوكل على الله في شأنهم، فإن
__________
(1) . لم أجده.

(1/539)


أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83) فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84)

الله يكفيك معرتهم «1» وينتقم لك منهم إذا قوى أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ (بيت طائفة) بالإدغام وتذكير الفعل، لأن تأنيث الطائفة غير حقيقى، ولأنها في معنى الفريق والفوج.

[سورة النساء (4) : آية 82]
أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)
تدبر الأمر: تأمله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن قلت: أليس نحو قوله: (فإذا هي ثعبان مبين) ، (كأنها جان) ، (فو ربك لنسئلنهم أجمعين) ، (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.

[سورة النساء (4) : الآيات 83 الى 84]
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83) فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84)
هم ناس من ضعفة المسلمين «2» الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور.
__________
(1) . قوله «معرتهم» أى إثمهم. وعبارة النسفي «مضرتهم» فحرر. (ع)
(2) . قال محمود: «هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ... الخ» قال أحمد: وفي اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر، لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى عند الزمخشري قوله في الوجه الثاني: فعلوا الاذاعة ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة، ثم في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره. ولقد جربنا ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد- طهرها الله من دنسه، وصانها عن رجسه ونجسه، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر.

(1/540)


كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لعلمه لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر، أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السر، وأذاع به. قال:
أذاع به فى الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب «1»
ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ (لعلمه) بإسكان اللام كقوله:
فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه «2»
والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وإنباطه واستنباطه: إخراجه واستخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته
__________
(1) .
أمنت على السر امرءا غير حازم ... ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
لأبى الأسود الدؤلي. والحازم: السديد الرأى. ويقال: أذاعه إذا أفشاه وأظهره، ويضمن معنى التحدث أيضا فيقال: أذاع به أى تحدث به فأظهره. والعلياء: الأرض المرتفعة. والثقوب: آلة تثقب بها النار فتشتعل. يقول:
وضعت السر عند من لا يصونه، وغرني صدق نصحه فأفشاه بين الناس. حتى كأنه نار في أكمة عالية أشعلت بالثقوب، فتكون أشد ظهورا.
(2) . ضجر البعير: كثر رغاؤه من ثقل الحمل. والبازل البعير الذي انشق نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة.
والأدم: الشديدات البياض: جمع آدم أى شديد البياض، وربما علته صفرة، وزان حمر وأحمر، خصها لرقة جلودها. والدبر: الانجراح والانتقاب من الرحل. والغارب: العظم الناشز في الظهر. وضجر، ودبر: فعلان ماضيان من باب تعب، سكن وسطهما تخفيفا. يقول: إن أذمه يتضجر كتضجر ذلك البعير من حمله.

(1/541)


وهو إرسال الرسول، وإنزال الكتاب «1» ، والتوفيق لاتبعتم الشيطان لبقيتم على الكفر إلا قليلا منكم. أو إلا اتباعا قليلا، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال: فقاتل في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها وحرض المؤمنين وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم والله أشد بأسا من قريش وأشد تنكيلا تعذيبا.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «ومعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته: ولولا إرسال الرسول وإنزال الكتاب ... الخ» قال أحمد: وفي تفسير الزمخشري هذا نظر، وذلك أنه جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناء على ظاهر الاعراب» وأغفل المعنى، وذلك أنه يلزم على ذلك جواز أن ينتفل الإنسان من الكفر إلى الايمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله عليه في ذلك فضل. ومعاذ الله أن يعتقد ذلك. وبيان لزومه أن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة، فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالايمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر، بأنفسهم لا بفضل الله. ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليك: لولا مساعدتى لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله. ومن المحال أن يعتقد موحد مسلم أنه عصم في شيء من الأشياء من اتباع الشيطان إلا بفضل الله تعالى عليه. أما قواعد أهل السنة فواضح أن كل ما يعد به العبد عاصيا للشيطان من إيمان وعمل خير، مخلوق لله تعالى، وواقع بقدرته، ومنعم على العبد به. وأما المعتزلة فهم وإن ظنوا أن العبد يخلق لنفسه إيمانه وطاعته إلا أنهم لا يخالفون في أن فضل الله منسحب عليه في ذلك، لأنه خلق له القدرة التي بها خلق العبد ذلك على زعمهم ووفقه لارادة الخير، فقد وضح لك تعذر الاستثناء من الجملة الأخيرة على تفسير الزمخشري، وما أراه إلا واهما مسترسلا على المألوف في الاعراب، وهو إعادة الاستثناء إلى ما يليه من الجمل، مهملا للنظر في المعنى. ومن ثم اتخذ القاضي أبو بكر رضى الله عنه الاستثناء في هذه الآية إلى ما قبل الجملة الأخيرة فطنة منه ويقظة، ولأنه إمام مؤيد في نظره مسود في فكره، ثم اتخذ القاضي رضى الله عنه هذه الآية وزره في الرد على من زعم الجزم بعود الاستثناء المتعقب للجمل إلى الأخيرة، ظنا منه أن ذلك واجب لا يسوغ سواه. ثم يقف في عوده إلى ما تقدم خاصة. وقد بينت عند قوله تعالى: (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) أن الاستثناء في هذه الآية أيضا يتعين عوده إلى الأولى، ويتعذر رده إلى الأخيرة، لأن المعنى يأباه، وهي مؤازرة للقاضي في الرد على من حتم عود الاستثناء إلى الأخيرة، والله الموفق.

(1/542)


من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85)

[سورة النساء (4) : آية 85]
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85)
الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغى بها وجه الله ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق. والسيئة: ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم، لأنها في معنى الشفاعة إلى الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له «1» قال له الملك: ولك مثل ذلك، فذلك النصيب» والدعوة على المسلم بضد ذلك مقيتا شهيدا حفيظا. وقيل: مقتدرا. وأقات على الشيء، «2» قال الزبير بن عبد المطلب:
وذى ضغن نفيت السوء عنه ... وكنت على إساءته مقيتا «3»
وقال السموأل:
ألى الفضل أم على إذا حو ... سبت إنى على الحساب مقيت «4»
واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها.
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى الدرداء، بلفظ «قالت الملائكة: آمين، ولك بمثله» . [.....]
(2) . قوله «وأقات على الشيء» لعل بعده سقطا تقديره: اقتدر عليه. (ع)
(3) . للزبير بن عبد المطلب. والضغن: الحقد. والاقاتة: الاقتدار. وروى الصاغاني: أقيت. وروى بعده:
يبيت الليل مرتفقا ثقيلا ... على فرش الفتاة وما أبيت
وطن إلى منه مؤذيات ... كما تؤذى الجذامير البروت
والمرتفق: المتكئ على مرفقه. وتعن: تسرع وتظهر. والجذمار: ما بقي من أصل السعفة. والبروت: الفأس، وهي فاعل تؤذى.
(4) .
ليت شعري وأشعرن إذا ما ... قربوها منشورة ودعيت
ألى الفضل أم على إذا حو ... سبت إنى على الحساب مقيت
ينفع الطيب القليل من الرز ... ق ولا ينفع الكثير الخبيث
للسموأل الغساني اليهودي. وأشعرن: اعتراض، أى لا حاجة إلى ثمين الشعور، فانى أعلم أن من عمل خيرا يره، ومن عمل شرا يره وتوكيد الفعل المثبت الخبر كما هنا نادر جدا، لأنه ليس من مواضع التوكيد المنكورة في النحو.
و «ما» زائدة. وضمير قربوها للصحف. وضمير الفاعل للملائكة. ويروى «الغور» بدل الفضل. وإنى: بالكسر والفتح. المقيت: المقتدر. والشهيد: الحفيظ، وأصله من القوت لأنه يقوى النفس ويحفظها. والخبيت بالمثناة:
الخبيث بالمثلثة. وحق بلاغة المعنى: تقديم القليل على الطيب، لكن أخرته الضرورة.

(1/543)


وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا (86)

[سورة النساء (4) : آية 86]
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا (86)
الأحسن منها أن تقول «وعليكم السلام ورحمة الله» إذا قال «السلام عليكم» وأن تزيد «وبركاته» إذا قال «ورحمة الله» وروى أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك، فقال «وعليك السلام ورحمة الله» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال «وعليك» «1» فقال الرجل: نقصتنى، فأين ما قال الله؟ وتلا الآية، فقال «إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. أو ردوها أو أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره، وجواب التسليمة واجب، والتخيير إنما وقع بين الزيادة وتركها. وعن أبى يوسف رحمه الله: من قال لآخر: أقرئ فلانا السلام، وجب عليه أن يفعل.
وعن النخعي: السلام سنة والرد فريضة. وعن ابن عباس: الرد واجب. وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، جهرا ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. وعن أبى يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب رد السلام على طهارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام «2» . قالوا:
ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته، ولا يسلم على أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر.
وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبى حنيفة: لا تجهر بالرد يعنى الجهر الكثير. وعن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . أخرجه الطبراني والطبري من رواية هشام بن عاصم الأحول عن أبى عثمان عن سلمان. وقال ابن الجوزي في العلل:
ترك حديث هشام. ورواه الطبراني أيضا من رواية عكرمة عن ابن عباس. والراوي له عن عكرمة أبو هريرة عن نافع عن هرمز. وهو ضعيف.
(2) . أخرجه البخاري من رواية عمير مولى ابن عباس قال «أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبى الجهيم بن الحرث ابن الصمة الأنصارى. فقال أبو الجهيم: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أتى على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام» ورواه مسلم معلقا. ولأبى داود عن ابن عمير «مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه. فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب يده على الحائط ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنى لم أكن على طهارة» .

(1/544)


الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)

«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم «1» » أى وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. وروى «لا تبتدئ اليهودى بالسلام، وإن بدأك فقل. وعليك» . وعن الحسن: يجوز أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله. فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟
وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم.
وروى ذلك عن النخعي. وعن أبى حنيفة: لا تبدأه بسلام في كتاب ولا غيره. وعن أبى يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه على كل شيء حسيبا أى يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.

[سورة النساء (4) : آية 87]
الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87)
لا إله إلا هو إما خبر للمبتدإ. وإما اعتراض والخبر (ليجمعنكم) . ومعناه: الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أى ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام، كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال الله تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) . ومن أصدق من الله حديثا لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب. وذلك أن الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه. ووجه قبحه، الذي هو كونه كذبا وإخبارا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ليجر منفعة أو يدفع مضرة. أو هو غنى عنه إلا أنه يجهل غناه. أو هو جاهل بقبحه. أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالى بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال:
لولا أنى صادق في قولي «لا» لقلتها. فكان الحكيم الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجات العالم بكل معلوم، منزها عنه، كما هو منزه عن سائر القبائح.

[سورة النساء (4) : آية 88]
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)
فئتين نصب على الحال، كقولك: مالك قائما؟ روى أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس رضى الله عنه.

(1/545)


ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)

راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال بعضهم: هم كفار. وقال بعضهم: هم مسلمون. وقيل: كانوا قوما هاجروا من مكة، ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وقيل.
هم قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم رجعوا. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا بسارا. وقيل هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه:
ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقا ظاهرا وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم والله أركسهم أى ردهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه، لما علم من مرض قلوبهم أتريدون أن تهدوا أن تجعلوا من جملة المهتدين من أضل الله من جعله «1» من جملة الضلال، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضل. وقرئ: ركسهم. وركسوا فيها.

[سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 91]
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)
فتكونون عطف على: (تكفرون) ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى: ودوا
__________
(1) . قال محمود: «معناه من جعله ... الخ» قال أحمد: هو بهذين الوجهين يفر من الحق والحقيقة. أما الحق، فلأن الله هو الذي خلق الضلال لمن ضل إذ لا خالق إلا الله. وأما الحقيقة، فلأنها- أعنى الآية- اقتضت نسبة الأصل إلى فعل الله تعالى، فالتخيل في تحريف الفاعلية إلى التسبيب عدول عن الحقيقة إلى المجاز. وقد علمت الباعث له على هذا المعتقد فلا نعيده.

(1/546)


كفركم فكونكم معهم شرعا «1» واحدا فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي لله ورسوله- لا لغرض من أغراض الدنيا- مستقيمة ليس بعدها بداء ولا تعرب. فإن تولوا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة، فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحل والحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم إلا الذين يصلون استثناء من قوله (فخذوهم واقتلوهم) ومعنى (يصلون إلى قوم) ينتهون إليهم ويتصلون بهم. وعن أبى عبيدة:
هو من الانتساب. وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتميت إليه. وقيل: إن الانتساب لا أثر له في منع القتال، فقد قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من هو من أنسابهم، والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح أو جاؤكم لا يخلو من أن يكون معطوفا على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذين، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم والوجه العطف على الصلة لقوله: فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا بعد قوله: (فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم)
فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأن الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: (فإن اعتزلوكم) تقريرا لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبى: بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم، بغير أو. ووجهه أن يكون (جاؤكم) بيانا ليصلون، أو بدلا أو استئنافا، أو صفة بعد صفة لقوم. حصرت صدورهم في موضع الحال بإضمار قد. والدليل عليه قراءة من قرأ: حصرة صدورهم. وحصرات صدورهم. وحاصرات صدورهم. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف على: أو جاؤكم قوما حصرت صدورهم. وقيل: هو بيان لجاؤكم، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين. والحصر الضيق والانقباض أن يقاتلوكم عن أن يقاتلوكم. أو كراهة أن يقاتلوكم. فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا
__________
(1) . قوله «شرعا» أى طريقا. وفي الصحاح: أنه يحرك ويسكن. (ع)

(1/547)


وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)

لقذف الله الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: فلقتلوكم، بالتخفيف والتشديد فإن اعتزلوكم فإن لم يتعرضوا لكم (وألقوا إليكم السلم) أى الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين فما جعل الله لكم عليهم سبيلا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم ستجدون آخرين هم قوم من بنى أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كلما ردوا إلى الفتنة كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أركسوا فيها قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو حيث ثقفتموهم حيث تمكنتم منهم سلطانا مبينا حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)
وما كان لمؤمن وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: (وما كان لنبي أن يغل) ، (وما يكون لنا أن نعود فيها) . أن يقتل مؤمنا ابتداء غير قصاص إلا خطأ إلا على وجه الخطإ. فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أى ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ، وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلا خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافرا فيصيب مسلما، أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: خطاء- بالمد- وخطا، بوزن عمى- بتخفيف الهمزة- وروى أن عياش بن أبى ربيعة- وكان أخا أبى جهل لأمه- أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه

(1/548)


وهو في أطم «1» فقتل منه أبو جهل في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبر أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحارث: هذا أخى، فمن أنت يا حارث؟ لله على إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم، وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء- ولم يشعر بإسلامه- فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه «2» ، فنزلت فتحرير رقبة فعليه تحرير رقبة. والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحر الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم «عبد» وفلان عبد الفعل: أى لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار مسلمة إلى أهله مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضى منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثا فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «أنا وارث من لا وارث له» «3» وعن عمر رضى الله عنه أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله فقال: لا أعلم لك شيئا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورثها عمر «4» ، وعن ابن مسعود:
__________
(1) . قوله «وهو في أطم فقتل منه» الأطم: الحصن، أفاده الصحاح. وفيه: ما زال فلان يقتل من فلان في الذروة والغارب، أى يدور من وراء خديعته. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى بتغيير يسير، ولم يسم الحرث. فقال: ومعه رجل من بنى عامر وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني نافع عن ابن عمر عن أبيه قال «أبعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص: لما أردنا الهجرة. فأصبحت أنا وعياش.
وحبس عنا هشام وفتى. وخرج أبو جهل وأخوه الحرث إلى عياش بالمدينة فكلماه وقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط، فذكر القصة بطولها.
(3) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث المقدام بن معديكرب به، وأتم منه.
(4) . أخرجه أصحاب السنن من رواية سعيد بن المسيب «أن عمر رضى الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع عمر رضى الله عنه.

(1/549)


يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين، ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فان قلت) : على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إلا أن يصدقوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: (إلا أن يعفون) ونحوه (وأن تصدقوا خير لكم) وعن النبي صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة «1» » ، وقرأ أبى: إلا أن يتصدقوا. فإن قلت: بم تعلق أن يصدقوا، وما محله؟ قلت: تعلق بعليه، أو بمسلمة، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا.
ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين من قوم عدو لكم من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم ثم يأتى قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافرا مثلهم وإن كان من قوم كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين فمن لم يجد رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها (ف) عليه فصيام شهرين متتابعين توبة من الله قبولا من الله ورحمة منه، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعنى شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد «2» أمر عظيم وخطب غليظ. ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة «3» . وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا:
__________
(1) . أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضى الله عنه.
(2) . قال محمود: «في هذه الآية من التهديد والوعيد والإبراق ... الخ» قال أحمد: وكفى بقوله تعالى في هذه السورة (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) دليلا أبلج على أن القاتل الموحد- وإن لم يتب- في المشيئة وأمره إلى الله، إن شاء آخذه وإن شاء غفر له. وقد مر الكلام على الآية، وما بالعهد من قدم.
وأما نسبة أهل السنة إلى الأشعبية، فذلك لا يضيرهم لأنهم إنما تطفلوا على لطف أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ولم يقنطوا من رحمة الله، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الظالمون. [.....]
(3) . متفق عليه من رواية سعيد بن حبيب عن ابن عباس في قوله: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) قال:
لا توبة له» وفي رواية لهما عنه «قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا» (فائدة) قال ابن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا أبو مالك الأشجعى عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلى النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، قد كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة. فما بال هذا اليوم؟ قال: إنى أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال:
فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك» .

(1/550)


لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم «1» وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه «2» » وفيه «إن هذا الإنسان بنيان الله. ملعون من هدم بنيانه» وفيه «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب «3» بين عينيه آيس من رحمة الله «4» » . والعجب من قوم يقرؤن «5» هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة.
ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها؟ ثم ذكر الله سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمر. ومثله بلفظ «من قتل رجلا مسلما» وروياه موقوفا. وهو أصح. ورواه البزار وقال: لا نعلم أسنده عن شعبة إلا ابن أبى عدى.
ورواه ابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية الثوري عن يعلى بن عطاء به مرفوعا وأخرجه النسائي من وجه آخر مرفوعا.
وفي الباب عن بريدة، أخرجه النسائي وابن عدى. والبيهقي في الشعب، بلفظ، ولقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» وفيه بشر بن المهاجر وفيه ضعف وعن البراء بن عازب رضى الله عنهما أخرجه ابن ماجة، والبيهقي بلفظ «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن- وزاد: والمؤمن أكرم عند الله من الملائكة الذين عنده» وفي إسناده أبو المهزم يزيد بن سفيان.
(2) . لم أجده.
(3) . قوله «مكتوب» لعله مكتوبا. (ع)
(4) . أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى والعقيلي وابن عدى من حديث أبى هريرة مثله. وإسناده ضعيف. ورواه ابن حبان في الضعفاء من رواية عمرو بن محمد الأعلم عن نجم بن سالم الأفطس عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر به وقال. إنه حديث موضوع، لا أصل له من حديث الثقات، وعمرو، والأفطس لا يجوز الاحتجاج بهما بحال.
وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية، وترجمه خلف بن حويشب من روايته عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب به وقال غريب تفرد به حكيم بن نافع عن خلف. وحكيم ضعيف إلا أنه يرد على كلام ابن حبان وفي الباب أيضا عن ابن عمر. أخرجه البيهقي في الشعب، في السادس والثلاثين. وعن ابن عباس، أخرجه الطبراني من رواية عبد الله ابن حراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عنه.
(5) . قوله «والعجب من قوم يقرءون» فيه انتصار للمعتزلة وتشنيع على أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه يجوز غفران الكبائر بالتوبة أو بالشفاعة أو بمجرد فضل الله، تمسكا بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) كما حقق في علم التوحيد وفي الصحاح: أشعب اسم رجل كان طماعا. وفي المثل «أطمع من أشعب» اه فالأشعبية: الخصلة التي تنسب إلى أشعب، وهي الطمع الشديد. (ع)

(1/551)


ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (94)

فيه حسم للأطماع وأى حسم، ولكن لا حياة لمن تنادى. فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب «1» من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل وهو تناول قوله: (ومن يقتل) أى قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله.

[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (94)
فتبينوا وقرئ: فتثبتوا، وهما من التفعل بمعنى الاستفعال- أى اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه من غير روية «2» . وقرئ: السلم. والسلام وهما الاستسلام. وقيل: الإسلام. وقيل: التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام لست مؤمنا وقرئ (مؤمنا) بفتح الميم من آمنه، أى لا نؤمنك، وأصله أن مرادس بن نهيك «3» رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول «4» من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي. قال فكيف بلا إلا إلا الله، قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق «5» رقبة تبتغون عرض الحياة الدنيا تطلبون الغنيمة
__________
(1) . قوله «دليل على خلود من لم يتب» هو مذهب المعتزلة. وذهب أهل السنة إلى خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما في حديث الشفاعة وقد تقرر في محله. (ع)
(2) . قوله «ولا تتهوكوا فيه» أى تتحيروا أو تخبطوا بلا مبالاة. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «مرداس» في الصحاح: ردست القوم ورادستهم: إذا رميتهم بحجر. والمرداس: حجر يرمى به في البئر ليعلم أن فيها ماء أولا. ومنه سمى الرجل. (ع)
(4) . قوله «إلى عاقول» في الصحاح: العاقول من النهر والوادي والرمل: الموج منه. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بتغيير يسير.

(1/552)


لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)

التي هي حطام سريع النفاد، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله كذلك كنتم من قبل أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله وقد حرمهما الله وقوله فتبينوا تكرير للأمر بالتبين ليؤكد عليهم إن الله كان بما تعملون خبيرا فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)
غير أولي الضرر قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة للقاعدون، والنصب استثناء منهم أو حال عنهم، والجر صفة للمؤمنين. والضرر: المرض، أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها. وعن زيد بن ثابت: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سرى عنه فقال: اكتب فكتبت في كتف (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون) فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى: يا رسول الله، وكيف بمر لا يستطيع الجهاد من المؤمنين. فغشيته السكينة كذلك، ثم قال:
اقرأ يا زيد، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) فقال غير أولى الضرر. قال زيد: أنزلها الله وحدها، فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف «1» .
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترقع بنفسه عن انحطاط
__________
(1) . أخرجه البخاري من رواية ابن الحكم عن يزيد بن ثابت نحوه، وأبو داود وأحمد والحاكم من رواية خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت باللفظ المذكور.

(1/553)


إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99)

منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به «1» إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولى الضرر لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف وكلا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وعد الله الحسنى أى المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم «2» وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم «3» وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره. فإن قلت: قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية. فإن قلت: لم نصب (درجة) و (أجرا) و (درجات) ؟ قلت: نصب قوله: (درجة) لوقوعها موقع المرة من التفضيل، كأنه قيل فضلهم تفضيلة واحدة. ونظيره قولك:
ضربه سوطا، بمعنى ضربه ضربة. وأما (أجرا) فقد انتصب بفضل، لأنه في معنى أجرهم أجرا ودرجات، ومغفرة، ورحمة: بدل من أجر. أو يجوز أن ينتصب (درجات) نصب درجة، كما تقول: ضربه أسواطا بمعنى ضربات، كأنه قيل: وفضله تفضيلات. ونصب (أجرا عظيما) على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى:
وغفر لهم ورحمهم، مغفرة ورحمة.

[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99)
__________
(1) . قوله «ليهاب» الظاهر أنه من الهوب وهو وهج النار، أى توقدها، كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه البخاري وأبو داود من رواية حميد عن أنس. ونحوه عند مسلم من حديث جابر رضى الله عنه. [.....]
(3) . قوله «ونصحت جيوبهم» في الصحاح: تقول: إنه لحسن الجيبة- بالكسر- أى الجواب. ورجل ناصح الجيب: أى أمين. (ع)

(1/554)


توفاهم يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: توفتهم. ومضارعا بمعنى تتوفاهم، كقراءة من قرأ: توفاهم، على مضارع وفيت، بمعنى أن الله يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ظالمي أنفسهم في حال ظلمهم أنفسهم قالوا قال الملائكة للمتوفين فيم كنتم في أى شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت: كيف صح وقوع قوله كنا مستضعفين في الأرض جوابا عن قولهم (فيم كنتم) ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى (فيم كنتم) للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة- حقت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» «1» . اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإنى لست من المستضعفين، وإنى لأهتدى الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة.
فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم «2» . فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد «3» ، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء
__________
(1) . أخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت من رواية عباد بن منصور الناجي عن الحسن مرسلا.
(2) . ذكره الثعلبي بغير سند هكذا. وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) فلما قرأها المسلمون قال جندب بن ضمرة الليثي وكان شيخا كبيرا: احملوني فذكره. وأخرجه أبو يعلى والطبراني من هذا الوجه مختصرا.
(3) . قال محمود: «الاستثناء من المتوعدين في قوله: (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) ... الخ» قال أحمد: قوله «إن المراهقين من الولدان يكلفون إلحاقا بالبالغين» مردود بقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يحتلم» فجعل البلوغ نفسه مناط التكليف. وهذا مذهب الجماهير، ولم يبلغنا خلافه. وقال الزمخشري: أراد الحديثى العهد بالصبي وإن بلغوا، تسمية لهم بالاسم السالف لقرب عهدهم به، كما قال: (وآتوا اليتامى أموالهم) فسماهم يتامى وإن بلغوا، إذ لا تدفع أموالهم حتى يبلغوا، لأنهم حديثو عهد باليتم.
والغرض تعجيل دفع الأموال لهم إذا رشدوا، وإن قرب عهدهم باليتم حتى أنهم لذلك يعبر عنهم باليتامى، ولا يماطلوا ولو قال الزمخشري في الولدان كذلك، لكان قولا سديدا، والله أعلم.

(1/555)


ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100) وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)

لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلا؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك. وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك، فلا يتوجه عليهم وعيد لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت: الجملة التي هي لا يستطيعون ما موقعها؟
قلت: هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه، كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبنى «1»
فإن قلت: لم قيل (عسى الله أن يعفو عنهم) بكلمة الإطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عنى، فكيف بغيره.

[سورة النساء (4) : الآيات 100 الى 101]
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100) وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)
مراغما مهاجرا وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أى يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم:
الذل والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام- وهو التراب- يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم والمذهب «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد ص 16 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . للنابغة الجعدي. والطود: الجبل العظيم. ويلاذ: يتحصن. والرغم: التصاق الأنف بالرغام أى التراب، وهو كناية عن الذل والهوان. وفي سلوك سبيل المهاجرة مراغمة للخصم مفارقة له على رغم أنفه. والمراغم- على اسم المفعول- الطريق، لأنه مكان المراغمة. واسم المكان من غير الثلاثي المجرد على زنة اسم المفعول منه، وكمساجد جمعه. «والمذهب» روى بدله «المهرب» والثاني أخص. يشبه رجلا بالجبل في الالتجاء إليه والتحصن بجاهه.

(1/556)


وقرئ: مرغما. وقرئ (ثم يدركه الموت) بالرفع «1» على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقيل:
رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله:
من عنزي سبنى لم أضربه «2»
وقرئ (يدركه) بالنصب على إضمار أن، كقوله:
وألحق بالحجاز فأستريحا «3»
فقد وقع أجره على الله فقد وجب ثوابه عليه: وحقيقة الوجوب: الوقوع والسقوط (فإذا وجبت جنوبها) ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه «4» . وروى في قصة جندب بن ضمرة: أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا، وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت. وقالوا: كل هجرة لغرض دينى- من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على الله
__________
(1) . قال محمود: «قرئ يدركه برفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف ... الخ» قال أحمد: توجيه الرفع على إضمار المبتدأ فيه عطف الاسمية على الفعلية، والأولى خلافه ما وجد عنه سبيل. وأما الوجه الثاني من إجراء الوصل مجرى الوقف ففيه شذوذ بين، على أن الأفصح في الوقف خلاف نقل الحركة، وقد زاد شذوذا بإجراء الوصل مجرى الوقف، فكيف وعندي وجه حسن خالص من الشذوذ مرتفع الذروة في الفصاحة، وهو العطف على ما يقع موقع «من» مما يكون الفعل الأول معه مرفوعا، كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجرا ثم يدركه الموت وهو الذي ذكره الزمخشري عند قوله: (أينما تكونوا يدرككم الموت) فيمن قرأ بالرفع، وقال ثم: هو وجه نحوى سيبوى، وإجراؤه هاهنا أقرب وأصوب منه ثمة، والله أعلم.
(2) .
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه
قوله «والدهر كثير عجبه» جملة اعتراضية. والعنزي: نسبة لعنزة أبو حى من ربيعة. وقيل العنزي: القصير، نسبة إلى العنزة، وهي الرمح الصغير. والأصل سكون ياء أضربه للجزم، ولكنها عاورت الهاء للوزن. ويروى يا عجبا والدهر كثر عجبه من عنزي.
(3) .
سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا
للمغيرة بن حنين الحنظلي، وألحق كأكرم على الأفصح، وكأفتح على لغة. ونصبه بتقدير «أن» وإن لم يكن في جواب شيء من الأشياء الثابتة المعروفة في النحو، لأن المضارع قبله فيه معنى الأمر لنفسه، أو رائحة التمني، أو لأنه عطف على تعليل محذوف، أى لأنجو منهم وألحق بالحجاز فأستريح من شر عشرتهم. ولو رفع لفات ذلك وكان إخبار باللحوق والاستراحة فقط، لكن نص النحويون على أن النصب بعد الخبر المثبت الخالي من الشرط ضرورة، وهذا منه.
(4) . قوله «يثيبه وذلك واجب عليه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فلا يجب عليه شيء. (ع)

(1/557)


الضرب في الأرض: هو السفر. وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبى حنيفة:
مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن سير الإبل ومشى الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه. فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن في يوم، قصر. ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام، لم يقصر. وعند الشافعي. أدنى مدة السفر أربعة برد مسيرة يومين. وقوله فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل. وإلى التخيير ذهب الشافعي. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر «1» . وعن عائشة رضى الله عنها: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب على «2» . وكان عثمان رضى الله عنه يتم ويقصر «3» . وعند أبى حنيفة رحمه الله: القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره. وعن عمر رضى الله عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم «4» . وعن عائشة رضى الله عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر «5» . فإن قلت: فما تصنع بقوله: (فليس عليكم جناح أن تقصروا) قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ: تقصروا من أقصر. وجاء في الحديث إقصار الخطبة بمعنى تقصيرها «6» . وقرأ الزهري (تقصروا) بالتشديد. والقصر
__________
(1) . أخرجه الشافعي وابن أبى شيبة والبزار والدارقطني والبيهقي من طرق عن عطاء عن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» لفظ الدارقطني. وقال إسناده صحيح
(2) . أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن الأسود عنها وحسنه. وأورده من طريق أخرى عن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه عن عائشة. وقال الأول متصل وعبد الرحمن أدرك عائشة. ورواه البيهقي من الوجهين
(3) . متفق عليه من حديث سالم عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى وعرفة وغيرها صلاة المسافر ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان صدرا من خلافته، ثم أتمها أربعا» وأخرجاه عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقيل لابن مسعود، فاسترجع- الحديث.
(4) . أخرجه النسائي وابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى الله عنه. ورواه البزار من هذا الوجه. وحدث به يزيد بن زياد بن أبى الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة. وهذا الطريق أخرجه ابن ماجة. وأخرجه البزار من طريق أخرى عن زيد بن وهب عن عمر وفيه ياسين الزيات. وهو ضعيف. [.....]
(5) . متفق عليه.
(6) . أخرجه أبو داود والحاكم وأبو يعلى والبزار من رواية أبى راشد عن عمار بن ياسر «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باقصار الخطبة» قال أبو داود: لا نعلم روى أبو راشد عن عمار إلا هذا الحديث. وفي ابن حبان من حديث جابر في قصة صلاة الخوف قال «وأنزل الله إقصار الصلاة. وفي أبى يعلى عن يعلى بن أمية:
قلت لعمر: فيم إقصار الصلاة ... الحديث.

(1/558)


وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)

ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة، وهو قوله (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وأما في حال الأمن فبالسنة، وفي قراءة عبد الله: من الصلاة أن يفتنكم ليس فيها (إن خفتم) على أنه مفعول له، بمعنى: كراهة أن يفتنكم. والمراد بالفتنة: القتال والتعرض بما يكره

[سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 103]
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث شرط كونه فيهم: وقال من رآها بعده: إن الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر، قوام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولا لكل إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف، عليه أن يؤمهم كما أم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها. والضمير في: (فيهم) للخائفين فلتقم طائفة منهم معك فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم الضمير إما للمصلين «1» وإما لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا: يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما. وإن
__________
(1) . قال محمود: قيل المأمور بأخذ الأسلحة المصلون ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك. أما المصدر فهم في مظنة طرح الأسلحة، لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة، لضرورة الخوف وخشية الغرة. وأيضا فصنيع الآية يعطى ذلك، لأنه قال:
فلتقم طائفة منهم معك، وعقب ذلك بقوله: (وليأخذوا أسلحتهم) فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم، بدلالة قوة الكلام عليهم وإن لم يذكروا.

(1/559)


كان لغيرهم فلا كلام فيه فإذا سجدوا فليكونوا يعنى غير المصلين «1» من ورائكم يحرسونكم وصفة صلاة الخوف عند أبى حنيفة: أن يصلى الإمام بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين- والأخرى بإزاء العدو- ثم تقف هذه الطائفة بإزاء العدو وتأتى الأخرى فيصلى بها ركعة ويتم صلاته. ثم تقف بإزاء العدو، وتأتى الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتى الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. والسجود على ظاهره عند أبى حنيفة. وعند مالك بمعنى الصلاة، لأن الإمام يصلى عنده بطائفة ركعة ويقف قائما حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب، ثم يصلى بالثانية ركعة ويقف قاعدا حتى تتم صلاتها، ويسلم بهم.
ويعضده ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك. وقرئ: وأمتعاتكم: فإن قلت:
كيف جمع بين الأسلحة وبين الحذر في الأخذ «2» . قلت: جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، وجعلا مأخوذين. ونحوه قوله تعالى: (والذين تبوؤا الدار والإيمان) جعل الإيمان مستقرا لهم ومتبوأ لتمكنهم فيه فلذلك جمع بينه وبين الدار في التبوء فيميلون عليكم فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر أو يضعفهم من مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر قوله إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه، لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله كما قال: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) . فإذا قضيتم الصلاة فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فاذكروا الله فصلوها قياما مسايفين ومقارعين وقعودا جاثين على الركب مرامين وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم فأقيموا الصلاة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج
__________
(1) . عاد كلامه. قال «والمراد بقوله فليكونوا من ورائكم غير المصلين» قال أحمد: والظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة. وقد عبر عنها بالسجود كثيرا والمراد: فإذا صلت الطائفة أى أتمت صلاتها، فليكونوا من ورائكم.
وفيه دليل لمشهور مذهب مالك من أن الطائفة الأولى تتم صلاتها والامام منتظر للطائفة الأخرى. وقوله: (ولتأت طائفة أخرى) يعنى إذا أتمت الأولى صلاتها ووقفت من ورائكم، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل بعد شيئا فليصلوا معك. وفيه دليل بين أيضا لأحد القولين في مذهب مالك، من أن الامام ينتظر الثانية حتى تتم صلاتها ويسلم بهم، لأن ظاهر المعية المطلقة يوجب ذلك، إذ لو كانوا يقضون بعد سلامه لم يكونوا مصلين معه على الإطلاق، والله أعلم. فهذه الآية منطبقة على أكثر مشهور مذهبه في تفاصيل صلاة الخوف، والله الموفق للصواب.
(2) . عاد كلامه. قال «فان قلت كيف جمع بين الأسلحة ... الخ» ؟ قال أحمد: وحسن هذا المجاز وبلغ به ذروة الفصاحة، عطف الحقيقة عليه.

(1/560)


ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما (104) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)

إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا محدودا بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أى حال كنتم، خوف أو أمن. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي رحمه الله في إيجابه الصلاة على المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء. وأما عند أبى حنيفة رحمه الله فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: معناه فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر الله مهللين مكبرين مسبحين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإن ما أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر الله ودعائه واللجأ إليه (فإذا اطمأننتم) فإذا أقمتم (فأقيموا الصلاة) فأتموها.

[سورة النساء (4) : آية 104]
ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما (104)
ولا تهنوا ولا تضعفوا ولا تتوانوا في ابتغاء القوم في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم، ثم ألزمهم الحجة بقوله: إن تكونوا تألمون أى ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، مع أنكم أولى منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة. وقرأ الأعرج: أن تكونوا تألمون، بفتح الهمزة، بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون. وقوله: (فإنهم يألمون كما تألمون) تعليل. وقرئ: فإنهم ييلمون كما تيلمون.
وروى أن هذا في بدر الصغرى، كان بهم جراح فتواكلوا وكان الله عليما حكيما لا يكلفكم شيئا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به مما يصلحكم.

[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106]
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)
روى أن طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلى طعمة، وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك وافتضح وبريء اليهودي، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب

(1/561)


ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110)

اليهودي. وقيل: هم أن يقطع يده «1» فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله بما أراك الله بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضى الله عنه: لا يقولن أحدكم قضيت بما أرانى الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن ليجتهد «2» رأيه، لأن الرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيبا، لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف ولا تكن للخائنين خصيما ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء، يعنى لا تخاصم اليهود لأجل بنى ظفر واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي.

[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 110]
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110)
يختانون أنفسهم
يخونونها بالمعصية. كقوله: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها: لأن الضرر راجع إليهم. فإن قلت: لم قيل (للخائنين) ويختانون أنفسهم
وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين، أحدهما: أن بنى ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه. فإن قلت: لم قيل خوانا أثيما
على المبالغة؟ قلت: كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك
__________
(1) . ذكره الثعلبي من رواية أبى صالح عن الكلبي عن ابن عباس. ونقله الواحدي عن المفسرين في الأسباب. ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان من الأنصار من بنى ظفر سرق درعا لعمه، كانت وديعة عنده ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له: زيد بن السمين- فذكر القصة. وأخرجه الترمذي والحاكم مطولا من رواية محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان. وقال الترمذي: غريب، ولا نعلم أسنده عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة. ورواه يونس وغير واحد عن ابن إسحاق عن عاصم مرسلا.
(2) . قوله «ولكن ليجتهد رأيه» عبارة الخازن: ليجهد. (ع)

(1/562)


ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112)

خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة «1» يستخفون
يستترون من الناس
حياء منهم وخوفا من ضررهم ولا يستخفون من الله
ولا يستحيون منه وهو معهم
وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح يبيتون
يدبرون ويزورون «2» وأصله أن يكون بالليل ما لا يرضى من القول
وهو تدبير طعمة أن يرمى بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته. فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؟
قلت: لما حدث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته، وتوريكه «3» الذنب على اليهودي ها أنتم هؤلاء
ها للتنبيه في أنتم.
وأولاء: وهما مبتدأ وخبر. وجادلتم
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم، تجود بمالك، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون (أولاء) اسما موصولا بمعنى الذين، وجادلتم صلته. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. وقرأ عبد الله: عنه، أى عن طعمة وكيلا
حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه ومن يعمل سوءا
قبيحا متعديا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أو يظلم نفسه
بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه.

[سورة النساء (4) : الآيات 111 الى 112]
ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112)
(فإنما يكسبه على نفسه)
أى لا يتعداه ضرره إلى غيره فليبق على نفسه من كسب السوء
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «ويزورون» في الصحاح «زورت الشيء» حسنته وقومته. والتزوير: تزيين الكذب. (ع)
(3) . قوله «وتوريكه الذنب» في الصحاح «ورك فلان ذنبه على غيره» أى ترفه به. وفيه أيضا «هو يقذف بكذا» أى يرمى به ويتهم به. (ع)

(1/563)


ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113) لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)

خطيئة
صغيرة أو إثما
أو كبيرة ثم يرم به بريئا
كما رمى طعمة زيدا فقد احتمل بهتانا وإثما
لأنه بكسب الإثم «آثم» وبرمي البريء «باهت» فهو جامع بين الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضى الله عنه: ومن يكسب، بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب.

[سورة النساء (4) : آية 113]
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)
ولولا فضل الله عليك ورحمته
أى عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرهم لهمت طائفة منهم
من بنى ظفر أن يضلوك
عن القضاء بالحق وتوخى طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة وما يضلون إلا أنفسهم
لأن وباله عليهم وما يضرونك من شيء
لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك وعلمك ما لم تكن تعلم
من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في: (منهم)
إلى الناس. وقيل: الآية في المنافقين.

[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)
لا خير في كثير من نجواهم من تناجي الناس إلا من أمر بصدقة إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدل من كثير، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقة، ففي نجواه الخير. وقيل:
المعروف القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل هو عام في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله» «1» وسمع سفيان رجلا يقول: ما أشد هذا الحديث. فقال: ألم تسمع الله يقول (لا خير في كثير من نجواهم)
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم وأبو يعلى والطبراني من حديث أم حبيبة. ومداره على محمد بن يزيد ابن حبيش رواية سفيان الثوري، وفيه رواية الحاكم بزيادة فيه من كلام الثوري وأنه استشهد بهذه الآية وغيرها.

(1/564)


ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا (116) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (121)

فهو هذا بعينه. أو ما سمعته يقول (والعصر إن الإنسان لفي خسر) فهو هذا بعينه وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوى فاعل الخير عبادة الله والتقرب به إليه، وأن يبتغى به وجهه خالصا، لأن الأعمال بالنيات. فإن قلت: كيف قال: (إلا من أمر) ثم قال: (ومن يفعل ذلك) قلت: قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله، لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: ومن يفعل ذلك فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال، وقرئ: يؤتيه، بالياء.

[سورة النساء (4) : الآيات 115 الى 121]
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا (116) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119)
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (121)
ويتبع غير سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين، وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول عليه الصلاة والسلام. قوله نوله ما تولى نجعله واليا لما تولى من الضلال، بأن نخذله ونخلى بينه وبين ما اختاره ونصله جهنم وقرئ:
ونصله، بفتح النون، من صلاه. وقيل: هي في طعمة وارتداده وخروجه إلى مكة إن الله لا يغفر أن يشرك به تكرير للتأكيد، وقيل: كرر لقصة طعمة: وروى: أنه مات مشركا. وقيل:
جاء شيخ من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى شيخ منهمك في الذنوب، إلا أنى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة

(1/565)


على الله ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا، وإنى لنادم تائب مستغفر، فما ترى حالى عند الله؟ «1» فنزلت. وهذا الحديث ينصر قول من فسر (لمن يشاء) بالتائب من ذنبه «2» إلا إناثا هي اللات والعزى ومناة. وعن الحسن لم يكن حى من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات الله. وقيل: المراد الملائكة. لقولهم: الملائكة بنات الله. وقرئ أنثا، جمع أنيث أو أناث. ووثنا. وأثنا، بالتخفيف والتثقيل جمع وثن، كقولك أسد وأسد وأسد. وقلب الواو ألفا نحو «أجوه» في وجوه. وقرأت عائشة رضى الله عنها: أوثانا وإن يدعون وإن يعبدون بعبادة الأصنام إلا شيطانا لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة. ولعنه الله وقال لأتخذن صفتان بمعنى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا فرضته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقه. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعين إلى النار ولأمنينهم الأمانى الباطلة «3» من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله للمجرمين بغير توبة «4» والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك. وتبتيكهم الآذان فعلهم بالبحائر، كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق الله: فقء عين الحامى وإعفاؤه عن الركوب. وقيل: الخصاء، وهو في قول عامة العلماء مباح في البهائم. وأما في بنى آدم فمحظور. وعند أبى حنيفة: يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم، لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقيل: فطرة الله التي هي دين الإسلام. وقيل للحسن: إن عكرمة يقول هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين الله. وعن
__________
(1) . هو منقطع.
(2) . قوله «ينصر قول من فسر من يشاء ... الخ» هو قول المعتزلة. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد الأماني الباطلة ... الخ» قال أحمد: هو تعريض بأهل السنة الذين يعتقدون أن الموحد ذا الكبائر غير التائب أمره يرجأ إلى الله تعالى، والعفو عنه موكول إلى مشيئته إيمانا وتصديقا بقوله في الآية المعتبرة في هذا (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والعجب أن هذه الآية تكررت في هذه السورة مرتين على أذن الزمخشري، وهو مع ذلك يتصام عنها، ويجعل العقيدة المتلقاة منها من جملة الأمانى الشيطانية، نعوذ بالله من إرسال الرسن في اتباع الهوى، وكذلك أيضا عرض بأهل السنة في اعتقادهم صدق الوعد الصادق بالشفاعة المحمدية، وعد ذلك أيضا أمنية شيطانية، وما أرى من جحد الشفاعة ينالها. فلا حول ولا قوة إلا بالله، لقد مكر بهذا الفاضل، فلا يأمن بعده عاقل. إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. [.....]
(4) . قوله: «للمجرمين بغير توبة» بل بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. وهو مذهب أهل السنة. (ع)

(1/566)


والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122) ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124)

ابن مسعود: هو الوشم. وعنه: لعن الله الواشرات والمتنمصات «1» والمستوشمات المغيرات خلق الله «2» . وقيل التخنث.

[سورة النساء (4) : آية 122]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122)
وعد الله حقا مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره ومن أصدق من الله قيلا توكيد ثالث بليغ. فإن قلت: ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيه الباطلة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبا للعباد في إيثار ما يستحقون به تنجز وعد الله، على ما يتجرعون في عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان.

[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 124]
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124)
في ليس ضمير وعد الله، أى ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا ب أماني أهل الكتاب والخطاب للمسلمين لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله. وعن مسروق والسدى: هي في المسلمين. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل له. وقيل: إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فنزلت. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا (لأوتين مالا وولدا) ، (إن لي عنده للحسنى) وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. ويعضده
__________
(1) . قوله «الواشرات والمتنمصات» الواشرات: المرققات أسنانهن. والمتنمصات: الناتفات للشعر، والمتنقشات أيضا. اه صحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من رواية علقمة بزيادة «المتفلجات» وفيه قصة.

(1/567)


ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)

تقدم ذكر أهل الشرك قبله. وعن مجاهد: إن الخطاب للمشركين. قوله: من يعمل سوءا يجز به وقوله: ومن يعمل من الصالحات بعد ذكر تمنى أهل الكتاب، نحو من قوله: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) وقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) عقيب قوله: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وإذا أبطل الله الأمانى وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل، وأن من أصلح عمله فهو الفائز. ومن أساء عمله فهو الهالك: تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأمانى وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح. ولكنه نصح لا تعيه الآذان ولا تلقى إليه الأذهان. فإن قلت: ما الفرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، أراد:
ومن يعمل بعض الصالحات لأن كلا لا يتمكن من عمل كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة، وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال. والثانية لتبيين الإبهام في: (من يعمل) فإن قلت: كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك «1» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (ولا يظلمون) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا. والثاني أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، فكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل

[سورة النساء (4) : آية 125]
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)
أسلم وجهه لله أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (ولا يظلمون) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا. والثاني: أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، وكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل» قال أحمد: مدار هذا التطويل بالسؤال والجواب على بث المعتقد الفاسد في أن الله تعالى يجب عليه أن يثيب على الطاعات، وأن الثواب منقسم إلى واجب ليس بفضل، وإلى زيادة على الواجب وهي الفضل خاصة، وهذا المعتقد هو الذي يصدق عليه أن الشيطان مناه للقدرية، حتى زعموا أن لهم على الله واجبا- تعالى الله عن ذلك- إن الله لغنى عن عمل يوجب عليه حقا، جل الله وعز. لقد نفخ الشيطان بهذه الأمنية في آذان القدرية. اللهم لا عمدة لنا إلا فضلك، فأجزل نصيبنا منه يا كريم

(1/568)


ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا (126) ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127)

وهو محسن وهو عامل للحسنات تارك للسيئات حنيفا حال من المتبع، أو من إبراهيم كقوله: (بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) وهو الذي تحنف أى مال عن الأديان كلها إلى دين الإسلام واتخذ الله إبراهيم خليلا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: المخال، وهو الذي يخالك أى يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقك، من الخل: وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك كما تسد خلله، أو يداخلك خلال منازلك وحجبك. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم:
......... والحوادث جمة «1»
فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته. ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها لم يكن لها معنى. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال خليله: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت، ولكنه يريدها للأضياف، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس. فلما أخبروا إبراهيم عليه السلام ساءه الخبر، فحملته عيناه وعمدت امرأته إلى غرارة منها فأخرجت أحسن حوارى، واختبزت واستنبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز، فقال: من أين لكم؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري. فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلا.

[سورة النساء (4) : آية 126]
ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا (126)
ولله ما في السماوات وما في الأرض متصل بذكر العمال الصالحين والصالحين. معناه: أن له ملك أهل السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم وكان الله بكل شيء محيطا فكان عالما بأعمالهم فمجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.

[سورة النساء (4) : آية 127]
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127)
__________
(1) .
يا ليت شعري والحوادث جمة ... هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة، جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. «وأمرى مجمع» أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون أو خبرها، وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.

(1/569)


ما يتلى في محل الرفع. أى الله يفتيكم والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى، يعنى قوله (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) وهو من قولك: أعجبنى زيد وكرمه. ويجوز أن يكون.
(ما يتلى عليكم) مبتدأ و (في الكتاب) خبره على أنها جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيما للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله. ونحوه في تعظيم القرآن: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) ويجوز أن يكون مجرورا على القسم، كأنه قيل:
قل الله يفتيكم فيهن، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم أيضا لمعنى التعظيم، وليس بسديد أن يعطف على المجرور في: (فيهن) ، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى، فإن قلت بم تعلق قوله في يتامى النساء؟ قلت: في الوجه الأول هو صلة (يتلى) أى يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون (في يتامى النساء) بدلا من (فيهن) وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير. فإن قلت:
الإضافة في: (يتامى النساء) ما هي؟ قلت: إضافة بمعنى «من» كقولك: عندي سحق عمامة.
وقرئ: في ييامى النساء، بياءين على قلب همزة أيامى ياء لا تؤتونهن ما كتب لهن وقرئ: ما كتب الله لهن، أى ما فرض لهن من الميراث. وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها «1» . فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها وترغبون أن تنكحوهن يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، وعن أن تنكحوهن لدمامتهن. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان إذا جاءه ولى اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة ولا مال لها قال:
تزوجها فأنت أحق بها «2» والمستضعفين مجرور معطوف على يتامى النساء، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء كقوله: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) وأن تقوموا مجرور كالمستضعفين بمعنى: يفتيكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين. وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحدا يهتضمهم.
__________
(1) . قوله «ومالها الخ» عبارة النسفي: ولعل أصله ومالها إلى ماله. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق إبراهيم أن عمر بن الخطاب- فذكره مرسلا.

(1/570)


وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128)

[سورة النساء (4) : آية 128]
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128)
خافت من بعلها توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته. والنشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسب أو ضرب والإعراض: أن يعرض عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب من طعن في سن، أو دمامة، أو شيء في خلق أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما. وقرئ: يصالحا. ويصلحا، بمعنى: يتصالحا، ويصطلحا. ونحو أصلح: أصبر في اصطبر يصلحا في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة. ومعنى الصلح:
أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها «1» . وكما روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد، فقالت:
لا تطلقني ودعني أقوم على ولدى وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلى، فأقرها. أو تهب له بعض المهر، أو كله، أو النفقة فإن لم تفعل فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها والصلح خير من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة. أو هو خير من الخصومة في كل شيء. أو الصلح خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله وأحضرت الأنفس الشح ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ولا تنفك عنه، يعنى أنها مطبوعة عليه والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها وبغير قسمتها «2» ، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدى إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا وهو يثيبكم عليه. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم بنى آدم، وامرأته من أجملهم،
__________
(1) . أخرجه الحاكم من حديث عائشة وهو في الصحيحين من رواية عروة عن عائشة قالت «ما رأيت امرأة أحب أن أكون مسلاجها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة- الحديث» .
(2) . قوله «وبغير قسمتها» لعله «غير قسمتها» ، كالفرقة والنفقة والمهر. وعبارة النسفي: تسمح بقسمتها والرجل ... الخ، فحرر. (ع)

(1/571)


ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129)

فأجالت في وجهه نظرها يوما ثم تابعت الحمد لله، فقال: مالك؟ قالت: حمدت الله على أنى وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين «1»

[سورة النساء (4) : آية 129]
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129)
ولن تستطيعوا ومحال أن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حد الظلم (وما ربك بظلام للعبيد) وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول «هذه قسمتى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك «2» » يعنى المحبة لأن عائشة رضى الله عنها كانت أحب إليه. وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حدا يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتى من ورائه، فهو كالخارج من حد الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن فلا تميلوا كل الميل فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضى منها، يعنى: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ فتذروها كالمعلقة وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال:
هل هى إلا حظة أو تطليق ... أو صلف أو بين ذاك تعليق «3»
وفي قراءة أبى: فتذروها كالمسجونة. وفي الحديث: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء
__________
(1) . لم أجده.
(2) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية أبى قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة، وفيه يعنى القلب» .
(3) . لبنت الحمارس. والاستفهام إنكارى، أى ليست حالة الزوجة مع زوجها إلا حظة صغيرة بحظوة الزوج بها، أو تطليق لها مع الزوج، أو صلف- أى عدم حظوة من الزوج بها- وصلفت صلفا من باب تعب. ونساء صالفات وصلائف، لم يحظهن الزوج، أو تعليق بين ذلك المذكور من الأحوال. وتسبيغ مشطور الرجز بزيادة ساكن في آخره- كما هنا- قليل.

(1/572)


وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130) ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133)

يوم القيامة وأحد شقيه ماثل» «1» وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضى الله عنها: أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهن بغيره، «فقالت:
ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعا «2» وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد «3» وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وتتقوا فيما يستقبل، غفر الله لكم.

[سورة النساء (4) : آية 130]
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)
وقرئ: وإن يتفارقا، بمعنى وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه يغن الله كلا يرزقه زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشه. والسعة الغنى. والمقدرة: والواسع: الغنى المقتدر.

[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 133]
ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133)
من قبلكم متعلق بوصينا، أو بأوتوا وإياكم عطف على الذين أوتوا الكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية أن اتقوا بأن اتقوا. وتكون أن المفسرة، لأن التوصية في معنى القول: وقوله وإن تكفروا فإن لله عطف على اتقوا: لأن المعنى:
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية بشير بن نهيك عن أبى هريرة. قال الترمذي:
لا يعرف مرفوعا إلا من حديث همام.
(2) . لم أجده هكذا، وفي مسند أحمد من رواية باسرة بن سمين: سمعت عمر بن الخطاب يقول: وهو يخطب الناس يوم الجابية «إن الله جعلني خازنا لهذا المال وقاسما له، ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا بادىء أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض لأزواجه عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة. فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بينا. فعدل بينهن عمر- الحديث» أورده في سنن أبى عمرو بن حفص في مسند المكيين [.....]
(3) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة معاذ من رواية الليث عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل- فذكره- وزاد: فأسهم بينهما أيهما تقدم وهذا مرسل.

(1/573)


من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134) ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)

أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله. والمعنى: إن لله الخلق كله وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصى. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا الله، يعنى أنها وصية قديمة ما زال يوصى الله بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم:
وإن تكفروا فإن لله في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده ويعبده ويتقيه وكان الله مع ذلك غنيا عن خلقه وعن عبادتهم جميعا، مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم وتكرير قوله لله ما في السماوات وما في الأرض تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله إن يشأ يذهبكم يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم وأنشأكم ويأت بآخرين ويوجد إنسا آخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس وكان الله على ذلك من الإعدام والإيجاد قديرا بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده، وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره. وقيل: هو خطاب لمن كان يعادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب. أى: إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه. ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» «1» يريد أبناء فارس.

[سورة النساء (4) : آية 134]
من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)
من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما، لأن من جاهد لله خالصا لم تخطئه الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا شيء. والمعنى: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط.

[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سهيل عن أبيه عن أبى هريرة بهذا وقال «يعنى عجم الفرس» .

(1/574)


ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)

قوامين بالقسط مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا شهداء لله تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها ولو على أنفسكم ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. فإن قلت: الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول: أشهد أن لفلان على والدى كذا، أو على أقاربى. فما معنى الشهادة على نفسه؟ قلت: هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالأعلى أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره إن يكن إن يكن المشهود عليه غنيا فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلبا لرضاه أو فقيرا فلا تمنعها ترحما عليه فالله أولى بهما بالغنى والفقير أى بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها، لأنه أنظر لعباده من كل ناظر. فإن قلت: لم ثنى الضمير في: (أولى بهما) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: (إن يكن غنيا أو فقيرا) لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير، كأنه قيل: فالله أولى بجنسى الغنى والفقير، أى بالأغنياء والفقراء، وفي قراءة أبى: فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك. وقرأ عبد الله: إن يكن غنى أو فقير، على «كان» التامة أن تعدلوا يحتمل العدل والعدول، كأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى، كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق وإن تلووا أو تعرضوا وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرئ: وإن تلوا، أو تعرضوا، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها فإن الله كان بما تعملون خبيرا وبمجازاتكم عليه.

[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)
يا أيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين. ومعنى آمنوا اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه والكتاب الذي أنزل من قبل المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، والدليل عليه قوله: (وكتبه) قرئ: وكتابه على إرادة الجنس. وقرئ: نزل.
وأنزل، على البناء للفاعل. وقيل: الخطاب لأهل الكتاب، لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض. وروى أنه لعبد الله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب. وثعلبة

(1/575)


إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137)

ابن قيس، وسلام بن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه السلام: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» فقالوا: لا نفعل، فنزلت، فآمنوا كلهم «1» . وقيل:
هو للمنافقين، كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا. فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب (والكتاب الذي أنزل من قبل) وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله، ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيمانا به، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة، فلم يكن إيمانهم إيمانا. وهذا الذي أراد عز وجل في قوله: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) . فإن قلت: لم قيل (نزل على رسوله) و (أنزل من قبل) ؟ قلت:
لأن القرآن نزل مفرقا منجما في عشرين سنة، بخلاف الكتب قبله، ومعنى قوله ومن يكفر بالله الآية: ومن يكفر بشيء من ذلك فقد ضل لأن الكفر ببعضه كفر بكله. ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعا.

[سورة النساء (4) : آية 137]
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137)
لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا نفى للغفران والهداية «2» وهي اللطف على سبيل
__________
(1) . ذكره الثعالبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وذكره الواحدي في الأسباب عن الكلبي بغير سند.
(2) . قال محمود: «نفى للغفران والهداية ... الخ» قال أحمد: وليس في هذه الآية ما يخالف ظاهر القاعدة المستقرة على أن التوبة مقبولة على الإطلاق، لأن آخر ما ذكر من حال هؤلاء ازدياد الكفر، ولو كان المذكور في آخر أحوالهم التوبة والايمان لاحتيج إلى الجمع بين الآية والقاعدة إذا، وإنما يقع هذا الفصل الذي أورده الزمخشري موقعه في آية آل عمران، وهو قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) وقد ظهر الآن في الجمع بين هذه الآية والقاعدة وجه آخر سوى ما تقدم في آل عمران، وهو أن يكون المراد: لن يصدر منهم توبة فلن يكون قبول، من باب على لا حب لا يهتدى بمناره وعلى هذا يكون خبرا لا حكما، والمخبر عنهم من سبق في علم الله أنه لا يتوب من المرتدين، والله أعلم. وفي قول الزمخشري «إن الناكث للتوبة العائد إليها يغلب من حاله أنه يموت بشر حال» نظر، فقد ورد في الحديث «المؤمن مفتن تواب» قال الهروي:
معناه يقارف الذنب لفتنته، ثم يعقبه بالتوبة.

(1/576)


بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139) وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140) الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)

المبالغة التي يعطيها اللام، والمراد بنفيهما نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت. والمعنى:
إن الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع، لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على شر حال وأسمج صورة. وقيل: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى. ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 139]
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139)
بشر المنافقين وضع (بشر) مكان: أخبر، تهكما بهم. والذين نصب على الذم أو رفع بمعنى أريد الذين، أو هم الذين. وكانوا يمايلون الكفرة «1» ويوالونهم ويقول بعضهم لبعض: لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود. فإن العزة لله جميعا يريد لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

[سورة النساء (4) : الآيات 140 الى 141]
وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140) الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)
__________
(1) . قوله «يمايلون الكفرة» : لعله «يمالئون» . (ع)

(1/577)


أن إذا سمعتم هي أن المخففة من الثقيلة. والمعنى أنه إذا سمعتم، أى نزل عليكم أن الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها، و «أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع بنزل، أو في موضع النصب بنزل، فيمن قرأ به. والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة من قوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم إنكم إذا مثل الأحبار في الكفر إن الله جامع المنافقين والكافرين يعنى القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت: الضمير في قوله فلا تقعدوا معهم إلى من يرجع؟ قلت:
إلى من دل عليه يكفر بها ويستهزأ بها كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر. فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم الذين يتربصون إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم (يتربصون بكم) أى ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق «1» ألم نكن معكم مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة ألم نستحوذ عليكم ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيبا لنا بما أصبتم. وقرئ (ونمنعكم) بالنصب بإضمار أن، قال الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بينى ... وبينكم المودة والإخاء «2»
فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحا، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيسا لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم «3» تفتح لهم أبواب
__________
(1) . قوله «أو إخفاق» في الصحاح: أخفق الرجل إذا غزا ولم يغنم. (ع)
(2) . للحطيئة يخاطب الزبرقان، وهم بنو عوف بن كعب، وكان جارهم ثم انتقل إلى بنى رفيع، فذكر الزبرقان بحق الجوار، وأنه ينبغي أن لا يقاطعونه. والاستفهام للتقرير: أى أقروا بحق الجوار، فيكون بينا تمام المودة والمؤاخاة، أى الموافقة في العسر واليسر، والبأساء والضراء.
(3) . قال محمود: «سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين ... الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فان الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما مطابق أيضا للواقع، والله أعلم.

(1/578)


إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143)

السماء حتى ينزل على أوليائه. وأما ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنى ولمظة من الدنيا «1» يصيبونها.

[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143)
يخادعون الله
يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وهو خادعهم
وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم معصومى الدماء والأموال في الدنيا وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع: اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.
وقيل: يعطون على الصراط نورا كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين، فينادون: انظرونا نقتبس من نوركم كسالى
قرئ بضم الكاف وفتحها، جمع كسلان، كسكارى في سكران، أى يقومون متثاقلين متقاعسين، كما ترى من يفعل شيئا على كره لا عن طيبة نفس ورغبة يراؤن الناس
يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة «2» ولا يذكرون الله إلا قليلا
ولا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل أيضا لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام
__________
(1) . قوله «ولمظة من الدنيا» في الصحاح: لمظ يلمظ- بالضم- لمظا، إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه.
واللمظة- بالضم- كالنكتة من البياض. (ع)
(2) . قال محمود: «لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا أو لا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ولا يجوز أن يراد بالقلة العدم» انتهى كلامه. قلت: وإنما منع من أن يراد بها العدم لأنه خبر فيجب صدقه، وقد كانوا يذكرون الله في بعض الأحيان فلا يمكن أن يسلب ذكر الله مطلقا، وإذا بنينا على أن المراد بالذكر الصلاة وهو الظاهر، فالمراد أيضا الصلاة المعتبرة التي يذكر بها الإنسان حق الله عليه فينتهى عن الفحشاء والمنكر. والصلاة في هذا الوجه مسلوبة عن المنافقين مطلقا، فيجوز إذا حمل القلة على العدم بهذا التفسير، والله أعلم.

(1/579)


ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)

والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قلت: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟
قلت: فيها وجهان، أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسانه. والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل، فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم، كقولك: نعمه وناعمه، وفنقه وفانقه «1» وعيش مفانق. روى أبو زيد: رأت المرأة المرأة الرجل، إذا أمسكتها لترى وجهه. ويدل عليه قراءة ابن أبى إسحاق: يرأونهم بهمزة مشددة: مثل. يرعونهم، أى يبصرونهم أعمالهم ويراءونهم كذلك مذبذبين إما حال نحو قوله: (ولا يذكرون)
عن واو يراؤن، أى يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم. ومعنى (مذبذبين) ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم مترددون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أى يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان «2» ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس (مذبذبين) بكسر الذال، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو بمعنى يتذبذبون. كما جاء: صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد الله. متذبذبين. وعن أبى جعفر: مدبدبين، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة: الطريقة ومنها: دبة قريش. وذلك إشارة إلى الكفر والإيمان لا إلى هؤلاء لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين ولا إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين.

[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)
لا تتخذوا الكافرين أولياء لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطانا حجة بينة، يعنى أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة ابن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر فان الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
__________
(1) . قوله «وفنقه وفانقه» في الصحاح أنهما بمعنى: أى نعمه. (ع)
(2) . قوله «يرمى به الرحوان» في الصحاح الرحى معروفة، والألف منقلبة من الياء. تقول: هما رحيان. وفيه أيضا، رحت الحية ترحو، إذا استدارت. والرحي: قطعة من الأرض تستدبر وترتفع على ما حولها. ورحى القوم: سيدهم. والأرحاء: الأضراس. والأرحاء: القبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها اه. وظاهره أن الرحى هنا وادى، فليحرر. (ع)

(1/580)


إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147)

[سورة النساء (4) : الآيات 145 الى 146]
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146)
الدرك الأسفل الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم. فإن قلت: لم كان المنافق أشد عذابا من الكافر؟ قلت لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم «1» وأصلحوا ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق واعتصموا بالله ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص وأخلصوا دينهم لله لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه فأولئك مع المؤمنين فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت: من المنافق؟
قلت. هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ، كقوله «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «2» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان «3» » وقيل لحذيفة رضى الله عنه: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعده من النفاق. وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه «4» ، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفا، يعنى الحجاج.

[سورة النساء (4) : آية 147]
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147)
ما يفعل الله بعذابكم أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثار، أم يستجلب به نفعا، أم يستدفع به ضررا كما يفعل الملوك بعذابهم، وهو الغنى الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما
__________
(1) . قوله «ومداجاتهم» في الصحاح: المداجاة: المداراة. (ع)
(2) . تقدم في آل عمران والبقرة. [.....]
(3) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «آية المنافق ثلاث إلى آخره، وفي رواية «من علامات المنافق ثلاث» .
(4) . قوله «وهو مقروع فيه» لعله يريد القرع بالعصا. وفي الصحاح «القارعة» الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية، يقال: قرعتهم قوارع الدهر، أى أصابتهم. وقرعت رأسه بالعصا، مثل قرعت. (ع)

(1/581)


لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149) إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)

هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب وكان الله شاكرا مثيبا موفيا أجوركم عليما بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره.

[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149)
إلا من ظلم إلا جهر من ظلم «1» استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (ولمن انتصر بعد ظلمه) وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه، فأصبح شاكيا، فعوتب على الشكاية فنزلت، وقرئ (إلا من ظلم) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا يحبه الله فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (من ظلم) مرفوعا، كأنه قيل: لا يحب الله الجهر بالسوء، إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا «2» للعفو، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا «3» . والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فإن الله كان عفوا قديرا أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله.

[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)
__________
(1) . قال محمود: «تقديره لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه ... الخ» قال أحمد: «ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السموات أو في الأرض، فاستحال دخوله في المستثنى منه. وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك:
ما جاءني زيد إلا عمرو. وكلام الزمخشري في هذا الفصل لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته، والله أعلم بمراده.
(2) . قوله «تشبيها» لعله محرف وأصله «تنبيها» فحرر (ع)
(3) . قوله «وسطا» أى متوسطا. (ع)

(1/582)


والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152) يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154) فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)

جعل الذين آمنوا بالله وكفروا برسله أو آمنوا بالله وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين بالله ورسله جميعا لما ذكرنا «1» من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا: أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) أى طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان «2» ولذلك قال أولئك هم الكافرون حقا أى هم الكاملون في الكفر. و (حقا) تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقا، أى حق ذلك حقا، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أى هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه،

[سورة النساء (4) : آية 152]
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)
فإن قلت: كيف جاز دخول بين على أحد وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت: إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بنى فلان، وإلا بنات فلان فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى: (لستن كأحد من النساء) ، (سوف يؤتيهم أجورهم) معناه: أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا،

[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154) فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)
__________
(1) . قوله «لما ذكرنا» أى في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ... ) الخ» . (ع)
(2) . قوله «فانه لا واسطة بين الكفر والايمان» هذا عند أهل السنة. أما عند المعتزلة ففاعل الكبيرة الذي يموت بلا توبة لا هو مؤمن ولا كافر، بل منزلة بين المنزلتين. فتدبر. (ع)

(1/583)


روى أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى «1» . فنزلت. وقيل: كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول الله، وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية فقد سألوا موسى جواب لشرط مقدر «2» . معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى
__________
(1) . لم أجده هكذا. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى قال «قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن كنت صادقا أنك رسول الله فائتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى. فنزلت.
(2) . قال محمود: «فقد سألوا موسى: جواب لشرط مقدر ... الخ» قال أحمد: وهذا من المواضع التي استولى عليه فيها الاغفال، ولوح به اتباع هواه إلى مهواة الضلال، لأنه بنى على أن الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد كونهم طلبوا الرؤية وهي محال عقلا دنيا وآخرة على زعم القدرية، لما يلزم عندهم لو قيل بجوازها من اعتقاد التشبيه، فلذلك سمي أهل السنة المعتقدين لجوازها ووقوعها في الآخرة وفاء بالوعد الصادق مشبهة، وغفل عن كون اليهود اقترحوا على موسى عليه السلام خصوصية علقوا إيمانهم بها، ولم يعتبروا المعجز من حيث هو كما يجب اعتباره فقالوا (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فهذا الاقتراح والتعنت يكفيهم ظلما. ألا ترى أن الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء، أو حتى تفجر الأرض، أو يكون لك بيت من زخرف، كيف هم من أظلم الظلمة؟ وإن كانوا إنما طلبوا أمورا جائزة، ولكنهم اقترحوا في الآيات على الله، وحقهم أن يسندوا إيمانهم إلى أى معجز اختاره الله- دل ذلك دلالة يلجأ على أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم، لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا. والعجب بتنظير هذا السؤال لو كان المسئول جائزا كسؤال إبراهيم عن إحياء الموتى على زعم الزمخشري، غفلة منه عما انطوى عليه سؤال ابراهيم عليه السلام من صريح الايمان حيث قال له تعالى: (أولم تؤمن قال بلى) وعما انطوى عليه سؤال هؤلاء الملاعين من محض الكفر والإصرار عليه في قولهم: لن نؤمن لك. فصدروا كلامهم بالجحد والنفي. وأما دعاء الزمخشري على أهل السنة بالتب والصواعق، فالله أعلم أى الفريقين أحق بها، ويكفيه هذه الغفلة التي تنادى عليه باتباع الهوى الذي يعمى ويصم، نسأل الله العصمة من الضلالة والغواية.

(1/584)


أكبر من ذلك وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت جهرة عيانا بمعنى أرناه نره جهرة بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق «1» آتينا موسى سلطانا مبينا تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين بميثاقهم بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه وقلنا لهم والطور مطل عليهم ادخلوا الباب سجدا ولا تعدوا في السبت، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ: لا تعتدوا. ولا تعدوا، بإدغام التاء في الدال فبما نقضهم فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ «2» قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: (حرمنا عليهم) على أن قوله: (فبظلم من الذين هادوا) بدل من قوله (فبما نقضهم ميثاقهم) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أن العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف «3» الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله بل طبع الله عليها فيكون التقدير:
__________
(1) . قوله «فنبا للمشبهة ورميا بالصواعق» يعنى أهل السنة، حيث أجازوا على الله الرؤية كما حقق في محله، وغفر الله للمؤمن يسيء المؤمنين. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله: (فبما نقضهم ميثاقهم) قلت: إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله: (حرمنا عليهم) على أن قوله: (فبظلم من الذين هادوا) بدل من قوله: (فبما نقضهم) انتهى كلامه» . قلت: ولذكر البدل المذكور سر، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فبما نقضهم) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا، قوى ذكره بقوله: (فبظلم من الذين هادوا) حتى يلي متعلقه، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله، لأن جميع ما تقدم من النقض، والقتل، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر والله الموفق.
(3) . عاد كلامه. قال: «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: (بل طبع الله عليها) فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: (بل طبع الله عليها بكفرهم) رد وإنكار لقولهم (قلوبنا غلف) فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قلوبنا غلف) أن الله خلقها غلفا، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) وكمذهب المجبرة أخزاهم الله، فقيل لهم: بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على الله حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق ولا متمكنة من قبوله، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وذلك هو المعبر بالتمكن، وبخلقهم ميسرين للايمان، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة الله، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة، فقد قامت الحجة وتبلجت، ألا لله الحجة البالغة، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر، وافق ذلك مشيئة الله أولا، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة الله تعالى، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة، القائلين بأن الله تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها، وتسميتهم لذلك مجبرة، ويجعل قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها، وهي: أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على الله، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) فأوضح الله تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم: إن الله لو شاء لهداكم أجمعين، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على الله بقوله: (فلله الحجة البالغة) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي، نعوذ بالله منه.

(1/585)


فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم، بل طبع الله عليها بكفرهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: (بل طبع الله عليها بكفرهم) رد وإنكار لقولهم (قلوبنا غلف) فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قلوبنا غلف) أن الله خلق قلوبنا غلفا، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى الله عن المشركين وقالوا (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) وكمذهب المجبرة «1» أخزاهم الله، فقيل لهم: بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفا غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت: علام عطف قوله وبكفرهم؟ قلت: الوجه أن يعطف على: (فبما نقضهم) ويجعل قوله: (بل طبع الله عليها بكفرهم) كلاما تبع قوله: (وقالوا قلوبنا غلف) على وجه الاستطراد، يجوز عطفه على ما يليه من قوله: (بكفرهم) . فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفا على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: (وكفرهم بآيات الله) وقوله: (بكفرهم) ؟
قلت: قد تكرر منهم الكفر، لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات الله عليهم، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل:
فيجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم
__________
(1) . قوله «وكمذهب المجبرة أخزاهم الله» يريد بهم أهل السنة وحاشاهم أن يريدوا بمذهبهم ما أراده الكفار بما قالوا. وتحقيقه في علم التوحيد. وغفر الله لمن تعدى حد الشرع من المؤمنين ولا أخراهم يوم الدين. (ع)

(1/586)


بين كفرهم وبهتهم «1» مريم، وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية. فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) ؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: (ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا) . روى أن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم «اللهم أنت ربى وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلا ينافق عيسى، فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت: شبه مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور وهو قولهم كقولك خيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله: إنا قتلنا يدل عليه، كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه إلا اتباع الظن استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، يعنى: ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين «2» ، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا، فذاك وما قتلوه يقينا وما قتلوه قتلا يقينا. أو ما قتلوه متيقنين، كما ادعوا
__________
(1) . قوله «وبهتهم مريم» أى رميها بما ليس فيها، وهو التزنية. أى الرمي بالزنا. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح ... الخ» قال أحمد: وليس في هذا الجواب شفاء للغليل. والظاهر والله أعلم أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرفعون إلى العلم فيه البتة وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن البتة، والله أعلم.

(1/587)


ذلك في قولهم (إنا قتلنا المسيح) أو يجعل (يقينا) تأكيدا لقوله: (وما قتلوه) كقولك: ما قتلوه حقا أى حق انتفاء قتله حقا. وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا تبلغ فيه علمك. وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق. ثم قيل: وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما بهم ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. ونحوه: (وما منا إلا له مقام معلوم) ، (وإن منكم إلا واردها) والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى، وبأنه عبد الله ورسوله، يعنى: إذا عاين قبل أن تزهق روحه «1» حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آية ما قرأتها «2» إلا تخالج في نفسي شيء منها «3» يعنى هذه الآية، وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدو الله، أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبى. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله، فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إلى وقال: ممن؟ قلت: حدثني محمد بن على بن الحنفية، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية، أو من معدنها. قال الكلبي: فقلت له: ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن على بن الحنفية. قال: أردت أن أغيظه، يعنى بزيادة اسم على، لأنه مشهور بابن الحنفية.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك، فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن «4» به. وتدل عليه قراءة أبى: إلا ليؤمنن به قبل موتهم، بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأن أحدا يصلح للجمع. فإن
__________
(1) . قال محمود: «يعنى إذا عاين قبل أن تزهق روحه ... الخ» قال أحمد: كقول فرعون لما عاين الهلاك:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها ... الخ» . قال أحمد:
ويبعد هذا التأويل قوله: (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) فان ظاهره التهديد، ولكن ما أريد بقوله في حق هذه الأمة (ويكون الرسول عليكم شهيدا) والله أعلم.
(3) . لم أجده. قلت: هو في تفسير الكلبي، رواه عن شهر. ورأيته قديما في كتاب المبتدإ وقصص الأنبياء لوثيمة بسنده من هذا الوجه.
(4) . لم أجده هكذا. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى قال: قال ابن عباس رضى الله عنهما «ليس من يهودى يموت حتى يؤمن بعيسى بن مريم. فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار أو يأكله السبع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الايمان بعيسى عليه الصلاة والسلام

(1/588)


فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (162)

قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم، وكذلك قوله ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله. وقيل:
الضميران لعيسى، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روى أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه «1» . ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضمير في: (به) يرجع إلى الله تعالى. وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (162)
فبظلم من الذين هادوا فبأى ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه، وهو ما عدد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرمت عليهم: ما ذكره
__________
(1) . أخرجه ابن حبان وأبو داود من رواية همام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبى هريرة في حديث أوله «الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إخوة أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإنى أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبى، وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه، فانه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يمسه بلل، بين محصرين، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يملكه الله في زمانه الملك كلها إلا الإسلام إلى آخره» وأما قوله في أوله هنا «لا يبقى أحد من أهل الأرض إلا يؤمن به» فرواه الطبري من قول ابن عباس رضى الله عنهما.

(1/589)


إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)

في قوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) وحرمت عليهم الألبان، وكلما أذنبوا ذنبا صغيرا أو كبيرا حرم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ناسا كثيرا أو صدا كثيرا بالباطل بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب لكن الراسخون يريد من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، والراسخون في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون والمؤمنون يعنى المؤمنين منهم، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. ويؤمنون خبره. والمقيمين نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل:
هو عطف على: (بما أنزل إليك) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله: والمقيمون، بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي.

[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)
إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب ورسلا نصب بمضمر في معنى:
أوحينا إليك وهو: أرسلنا، ونبأنا، وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبى: ورسل

(1/590)


قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب: أنهما قرءا (وكلم الله) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم «1» ، وأن معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن رسلا مبشرين ومنذرين الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل «2» ، وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد «3» مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا:
لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى:
__________
(1) . قال محمود: ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم ... الخ» قال أحمد: وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام، لا بذات الله تعالى، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف، حتى المشرك الذي قال الله فيه (حتى يسمع كلام الله) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح، وصدق الزمخشري وأنصف: إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم، والله الموفق
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل ... الخ» قال أحمد: قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام الله تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا، فيوجبون بعقولهم، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع: النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع، فقد ترك واجبا استحق به التعذيب، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له، فقالوا: المراد أن الرسل تتمم حجة الله وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل، كما أجاب به الزمخشري، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله: إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة، إذ المعرفة باتفاق، والتوحيد بإجماع، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي، بل الحكم وجوب النظر، والمعرفة متلقاة من العقل المحض، والوجوب متلقى من النقل الصرف، وبه تقوم الحجة، وعليه يرتب الجزاء. والله سبحانه ولى التوفيق والمعونة.
(3) . قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة: لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)

(1/591)


إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169)

لكن الله يشهد، بالتشديد. فإن قلت: الاستدراك لا بد له من مستدرك «1» فما هو في قوله: (لكن الله يشهد) ؟ قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله: (إنا أوحينا إليك) قال: لكن الله يشهد، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد. وقيل: لما نزل (إنا أوحينا إليك) قالوا: ما نشهد لك بهذا، فنزل (لكن الله يشهد) ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة:
شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت: بم يجابون لو قالوا: بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟
قلت: يجابون بأنه يعلم بشهادة الله، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته لأن شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت: ما معنى قوله أنزله بعلمه وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت: معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل: أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه.
ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك، كما قال في آخر سورة الجن. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وأحاط بما لديهم) والإحاطة بمعنى العلم وكفى بالله شهيدا وإن لم يشهد غيره، لأن التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقا (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) .

[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169)
كفروا وظلموا جمعوا بين الكفر والمعاصي «2» ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك ... الخ» قال أحمد: ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.
(2) . قال محمود: «أى جمعوا بين الكفر والمعاصي ... الخ» قال أحمد: يعدل من الظاهر، لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة، وأنهم مخلدون تخليد الكفار. وقد تكرر ذلك منه. وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد، فانه جعل الفعلين أعنى الكفر والظلم كليهما صلة للموصول المجموع، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت: الزيدون قاموا، فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، والله الموفق.

(1/592)


ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170) ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)

أصحاب كبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما «1» إلا بالتوبة ولا ليهديهم طريقا لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم يوم القيامة طريقا إلا طريقها يسيرا أى لا صارف له عنه.

[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 171]
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
فآمنوا خيرا لكم وكذلك (انتهوا خيرا لكم) انتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث، علم أنه يحملهم على أمر فقال: (خيرا لكم) أى اقصدوا، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد لا تغلوا في دينكم غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته، حيث جعلته مولودا لغير رشدة «2» . وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها ولا تقولوا على الله إلا الحق وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد (إنما المسيح) بوزن السكيت. وقيل لعيسى (كلمة الله) (وكلمة منه) لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له: روح الله، وروح منه، لذلك، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذى روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحى وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته خالصة. ومعنى ألقاها إلى مريم أوصلها إليها وحصلها فيها ثلاثة خبر مبتدإ محذوف، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس. وأنهم يريدون بأقنوم الأب: الذات، وبأقنوم الابن: العلم، وبأقنوم روح القدس: الحياة، فتقديره الله ثلاثة وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة. والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح
__________
(1) . قوله «في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد تغفر الكبيرة بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. (ع)
(2) . قوله «مولودا لغير رشدة» أى لزنية، وفي الصحاح: تقول «هو لرشدة» خلاف قولك «لزنية» . (ع)

(1/593)


لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)

ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) ، (وقالت النصارى المسيح ابن الله) والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون: في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله: (إنما المسيح عيسى ابن مريم) فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتها، وأن اتصاله بالله تعالى من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من غير أب، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله: (سبحانه أن يكون له ولد) وحكاية الله أوثق من حكاية غيره.
ومعنى سبحانه أن يكون له ولد سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة ورفع النون: أى سبحانه ما يكون له ولد. على أن الكلام جملتان له ما في السماوات وما في الأرض بيان لتنزهه عما نسب إليه، يعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن صفات الأجسام والأعراض وكفى بالله وكيلا يكل إليه الخلق كلهم أمورهم، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه.

[سورة النساء (4) : آية 172]
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)
يستنكف المسيح
لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة «1» من نكفت الدمع. إذا
__________
(1) . قال محمود معناه لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة ... الخ قال أحمد: وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء. وذهب القاضي أبو بكر منا والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري. ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:
أحدها: أن سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، وبين طائفتنا في هذا الطرف خلاف.
السؤال الثاني: أن قوله: لا الملائكة المقربون) صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضى كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح. وفي هذا السؤال أيضا نظر لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزم القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول. ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة. والأحاديث متوافرة بذلك. وحينئذ لا يخلو، إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه. لا سبيل إلى الأول، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني- وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع- ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا.
الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبدا يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابنى على هذا الأمر زيد ولا عمرو.
قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فان هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانيا، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة.
وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.
ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة النائى عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر، فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا لله غير مستنكف من العبودية، لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذا بقوله: لا الملائكة المقربون) إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز، لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال: ذاك من خواصه، احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا، فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذميا، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهى، إذ يساوى الذمي في سبب الاحترام وهو الانسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم. فان قلت: ولا مسلما، لم تحدد له فائدة ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والأنهار، لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ولما اقتضى الانصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام، مستندين إلى كونه أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلب عاليها سافلها، فيكون تفضيل الملائكة إذا بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش، وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء. وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا أى موجودا من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله، بل ولا الملائكة المخلوقين من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته
بالأعجب إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب ولذلك قال: (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد، فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، والله أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله ببعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون، ومن ثم ينشئ ظهور من فصل القول في الملائكة والأنبياء، فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء، بل فضل ثم فصل. وليس الغرض إلا ذكر محامل الآية، لا البحث في اختلاف المذاهب، والله الموفق. [.....]

(1/594)


نحيته عن خدك بإصبعك لا الملائكة المقربون
ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا

(1/595)


وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. فإن قلت: من أين دل قوله: لا الملائكة المقربون)
على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أن علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟
ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة.
ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم ... ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره «1»
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج: ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ على رضى الله عنه: عبيدا لله، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) . «يلتج» أى تضطرب لجته وهي معظم مائه. و «الزاخر» المرتفع. يقول: وليس مثل ممدوحى من الناس الذين يجاودهم حاتم، ولا من الذين يجاودهم البحر الزاخر، أى يضاهيهم في الجود. فالبحر: عطف على «حاتم» بالغ في وصف ممدوحه بأن مثله لا يضاهي في الكرم، فيلزم أنه هو لا يضاهي أيضا، فنفى المضاهاة عن المثل كناية عن نفيها عن الممدوح. وفيه مبالغة أيضا من جهة ترقيه من نفى مجاودة أكرم الناس إلى نفى مجاودة أنفع الأشياء. والفعل بالنسبة للبحر مجاز أو مشاكلة. أو شبه البحر بإنسان وأثبت له المجاورة على طريق المكنية وهذا على أن «يجاود» مبنى للفاعل، فان كان مبنيا للمجهول فالمعنى أن حاتم ليس مثله ممن يضاهي في الجود، كما أن البحر لا يضاهي في النفع. فقد شبهه بالبحر ضمنا.

(1/596)


فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)

لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأى شيء أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله. قال: إنه ليس بعار «1» أن يكون عبدا لله. قالوا: بلى، فنزلت: أى لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به. فإن قلت: علام عطف قوله: لا الملائكة)
؟ قلت: لا يخلو إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم «يكون» أو على المستتر في: بدا)
لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، كقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه. فإن قلت: قد جعلت الملائكة وهم جماعة عبدا لله في هذا العطف، فما وجهه؟ قلت: فيها وجهان: أحدهما أن يراد: ولا كل واحد من الملائكة أو ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبادا لله، فحذف ذلك لدلالة (عبد الله) عليه إيجازا. وأما إذا عطفتهم على الضمير في: بدا)
فقد طاح هذا السؤال. قرئ سيحشرهم)
بضم الشين وكسرها وبالنون.

[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 175]
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)
فإن قلت: التفصيل غير مطابق للمفصل «2» لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصل على فريق واحد. قلت: هو مثل قولك: جمع الإمام الخوارج، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين، أحدهما: أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه،
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن الكلبي.
(2) . قال محمود: «إن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل ... الخ» قال أحمد: المراد بالمفصل: من لم يستنكف ومن استنكف لسبق ذكرهما. ألا ترى أن المسيح والملائكة المقربين ومن دونهم من عباد الله لم يستنكفوا عن عبادة الله وقد جرى ذكرهم. ويرشد إليه تأكيد الضمير بقوله: ميعا) فكأنه قال فسيحشر إليه المقربين وغيرهم جميعا. ووقوع الفعل المتصل به الضمير جزاء لقوله: من يستنكف)
لا يعين اختصاص الضمير بالمستنكفين لأن المصحح لارتباط الكلام قد وجد مندرجا في طى هذا الضمير الشامل لهم ولغيرهم. وحينئذ يكون المفصل مشتملا على الفريقين، وتفصيله منطبق عليه، والله أعلم.

(1/597)


يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم (176)

ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به والثاني، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله. البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز في رحمة منه وفضل في ثواب مستحق وتفضل ويهديهم إليه إلى عبادته صراطا مستقيما وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم.

[سورة النساء (4) : آية 176]
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم (176)
روى أنه آخر ما نزل من الأحكام «1» . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع، فأتاه جابر بن عبد الله فقال: إن لي أختا، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ «2» وقيل: كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى كلالة فكيف أصنع في مالى؟ «3» فنزلت إن امرؤ هلك ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى: إن هلك امرؤ غير ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم، لأن الله تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال فللذكر مثل حظ الأنثيين وأما الأخت للأم فلها السدس
__________
(1) . قوله «روى أنه آخر ما نزل من الأحكام» أى قوله تعالى: (يستفتونك ... ) الخ. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس.
(3) . متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه. وأخرجه أصحاب السنن، لكن ليس في رواية أحد منهم فنزلت (إن امرؤ هلك) إلا عند مسلم، من رواية ابن عيينة عنه بلفظ فنزلت (يستفتونك) - الآية (فائدة) روى النسائي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) - الآية وفي البخاري من رواية الشعبي عن ابن عباس «آخر آية نزلت آية الزنا» وروى الطبري من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبى بن كعب قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) - الآية.

(1/598)


في آية المواريث مسوى بينها وبين أخيها وهو يرثها وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إن لم يكن لها ولد أى ابن لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت: الابن لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت:
بين حكم انتفاء الولد، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة، وهو قوله عليه السلام «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» «1» والأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد: ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع «2» في قوله فإن كانتا اثنتين وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله: فان كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكورا وإناثا: وإنما قيل: فان كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه، والمراد بالإخوة. الإخوة لا الأخوات، تغليبا لحكم الذكورة أن تضلوا مفعول له. ومعناه:
كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثا، وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا، وبريء من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم «3» .
__________
(1) . متفق عليه، من حديث ابن عباس بلفظ «فلأولى رجل ذكر» وأخرجه كذلك الترمذي والحاكم وأبو يعلى والبزار (فائدة) قال ابن الجوزي: لفظ «عصبة» لا يحفظ في هذا الحديث
(2) . قال محمود: «إن قلت إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع ... الخ» ؟ قال أحمد: وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أسلم إذ في لفظ «من» من الإبهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع. ومثل الآية سواء قوله تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) فيمن جعل الجملة مفعولا ثانيا للحسبان، فان أصل الكلام: هي العدو، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة، ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر، والله أعلم.
(3) . تقدم الكلام على أسانيده في آخر سورة آل عمران.

(1/599)


ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1)

سورة المائدة
مدنية [إلا آية 3 فنزلت بعرفات في حجة الوداع] وهي مائة وعشرون آية [نزلت بعد الفتح] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة المائدة (5) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1)
يقال وفى بالعهد وأوفى به «1» ومنه: والموفون بعهدهم. والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا «2»
وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها. والظاهر
__________
(1) . قال المصنف: «يقال وفي بالعهد وأوفى به ومنه الموفون بعهدهم» قال أحمد: ورد في الكتاب العزيز (وفى) بالتضعيف في قوله تعالى: (وإبراهيم الذي وفى) وورود أو في كثير. ومنه (أوفوا بالعقود) وأما (وفى) ثلاثيا فلم يرد إلا في قوله تعالى: (ومن أوفى بعهده من الله) لأنه بنى أفعل التفضيل من وفي، إذ لا يبنى إلا من ثلاثي
(2) .
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
للحطيئة. والعناج- ككتاب-: حبل يشد في أسفل الدلو، ثم في العراقي جمع عرقوة، وهي الخشبة التي في فم الدلو. والكرب- كسبب-: حبل يشد على طرف العرقوة والعناج ليربطهما. وهذا استعارة تمثيلية شبه حالهم في توثيقهم العهد بوجوه متعددة بحال من يوثق الدلو بحبال متعددة. أو شبه حال عهدهم في وثاقته الزائدة بحال الدلو الموثقة «وأنف الناقة» لقب جعفر بن قريع، ذبح والده ناقة لنسائه فأرسلته أمه ليأخذ نصيبها فلم يجد إلا الرأس، فقال والده: عليك به، فجعل يجره من الأنف فلقب بذلك، فكانت قبيلته تأنف من ذلك اللقب، فاستعار الشاعر الأنف: للخيار العالين المقدار على طريق التصريح. أو شبه القوم به تشبيها بليغا، وشبه غيرهم بالذنب في الخسة والضعة. والاستفهام إنكارى، أى لا أحد يسوى بين الأنف والذنب في الدفعة، فصار هذا اللقب مدحا من حينئذ.
وفيه تورية في غاية الحسن.

(1/600)


ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)

أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل وهو قوله أحلت لكم وما بعده. البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا محرم ما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله: (حرمت عليكم الميتة) ، وإلا ما يتلى عليكم آية تحريمه. والأنعام: الأزواج الثمانية. وقيل «بهيمة الأنعام» الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه غير محلي الصيد نصب على الحال من الضمير في: (لكم) أى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد. وعن الأخفش أن انتصابه عن قوله: (أوفوا بالعقود) وقوله وأنتم حرم حال عن محلى الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون، لئلا تحرج عليكم إن الله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. والحرم: جمع حرام وهو المحرم.

[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)
الشعائر جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر، أى جعل شعارا وعلما للنسك، من مواقف الحج ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسعى، والحلق، والنحر. والشهر الحرام: شهر الحج. والهدى: ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك. وهو جمع هدية، كما يقال جدي في جمع جدية السرج «1» .
والقلائد: جمع قلادة، وهي ما قلد به الهدى من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر «2» ، أو غيره.
وآموا المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة
__________
(1) . قوله «يقال جدي في جمع جدية السرج» في الصحاح: الجدية- بتسكين الدال: شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج والرحل. والجمع جدي وجديات. (ع)
(2) . قوله «أو لحاء شجر» أى قشر اه. (ع)

(1/601)


الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. وأما القلائد ففيها وجهان، أحدهما:
أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن، وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى، كقوله: (وجبريل وميكال) كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثاني أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى، على معنى:
ولا تحلوا قلائدها فضلا أن تحلوها، كما قال: (ولا يبدين زينتهن) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها ولا آمين ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام يبتغون فضلا من ربهم وهو الثواب ورضوانا وأن يرضى عنهم، أى لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. قيل: هي محكمة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها «1» » وقال الحسن: ليس فيها منسوخ. وعن أبى ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ. وقيل: هي منسوخة. وعن ابن عباس:
كان المسلمون والمشركون يحجون جميعا، فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله (لا تحلوا) ثم نزل بعد ذلك (إنما المشركون نجس) ، (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) وقال مجاهد والشعبي: (لا تحلوا) نسخ بقوله: (واقتلوهم حيث وجدتموهم) . وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأن المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله، فوصفهم الله بظنهم. وقرأ عبد الله: ولا آمى البيت الحرام، على الإضافة. وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون، بالتاء على خطاب المؤمنين فاصطادوا إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقرئ: وإذا أحللتم، يقال حل المحرم وأحل. «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين. تقول: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا. وعليه قراءة عبد الله: ولا يجرمنكم بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني (أن تعتدوا) . وأن صدوكم بفتح الهمزة، متعلق بالشنآن بمعنى العلة، والشنآن: شدة البغض. وقرئ بسكون النون. والمعنى:
ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه. وقرئ: إن صدوكم، على «إن»
__________
(1) . أخرجه الحاكم من طريق جبير بن نفير. قال «دخلت على عائشة. فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟
فقلت نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأشار الترمذي إلى أن المراد بقولها «والفتح» إذا جاء نصر الله. قال: وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما. [.....]

(1/602)


حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)

الشرطية. وفي قراءة عبد الله. إن يصدوكم. ومعنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام: منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم وتعاونوا على البر والتقوى على العفو والإغضاء ولا تعاونوا على الإثم والعدوان على الانتقام والتشفي. ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى وكل إثم وعدوان، فيتناول بعمومه العفو والانتصار.

[سورة المائدة (5) : آية 3]
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)
كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في المباعر «1» ، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له وما أهل لغير الله به أى رفع الصوت به لغير الله، وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه والمنخنقة التي خنقوها حتى ماتت، أو انخنقت بسبب والموقوذة التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت والمتردية التي تردت من جبل أو في بئر فماتت والنطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح وما أكل السبع بعضه إلا ما ذكيتم إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب أوداجه. وقرأ عبد الله: والمنطوحة. وفي رواية عن أبى عمرو (السبع) بسكون الباء. وقرأ ابن عباس:
وأكيل السبع وما ذبح على النصب كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها، تسمى الأنصاب، والنصب واحد. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا «2»
__________
(1) . قوله «وهو الدم في المباعر» المباعر: الأمعاء يجعل فيها الدم بعد فصده ويشوى للضيف. وقولهم «لم يحرم ... الخ» جار مجرى الأمثال. و «فزد» مبنى للمجهول، أصله «فصد» فسكنت صاده تخفيفا ثم قلبت زايا. انتهى. (ع)
(2) .
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا
وصل على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
للأعشى. و «النصب» كضرب وكشرب. وفي لغة: كسبب. وفي لغة كعنق. ويحتملها ما هنا: العلم المنصوب.
والمراد به هنا الصنم وأحد الحجارة التي كانت منصوبة حول البيت يذبحون لأجلها الهدى يتقربون به إليها. و «ذا» اسم إشارة نصب بمحذوف يفسره المذكور على طريقة الاشتغال. وجعله الجوهري على تقدير: إياك وهذا النصب فهو منصوب على التحذير ويروى لا تنسكنه بدل تعبدنه. ويروى «المثرين» بدل «الشيطان» أى الأغنياء.
ويروى بدل الشطر الثاني «والله ربك فاعبدا» و «لعاقبة» أى لطلب عاقبة. وتقديم المعمول لافادة الحصر ولزيادة الفاء. ويجوز أنه على تقدير: والزم الله ربك فهو نصب على الإغراء، والفاء عاطفة على المقدر. و «اعبدا» مؤكد بالنون المبدلة ألفا للوقف. و «على» بمعنى «في» وروى «سبح» بدل «صل» والمعنى واحد، أى صل الصلوات وقت الضحى والعشيات. واحمدا كاعبدا.

(1/603)


وقيل: هو جمع، والواحد نصاب. وقرئ (النصب) بسكون الصاد وأن تستقسموا بالأزلام وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام أى بالقداح. كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربى، وعلى بعضها: أمرنى ربى، وبعضها غفل فإن خرج الآمر مضى لطيته «1» ، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عودا. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل: هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة ذلكم فسق الإشارة إلى الاستقسام: أو إلى تناول ما حرم عليهم لأن المعنى حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا.
فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال: (لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه «2» ، وقوله: أمرنى ربى، ونهاني ربى: افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم- فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر اليوم لم يرد به يوما بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن» في قوله:
الآن لما ابيض مسربتى ... وعضضت من نابى على لجذم «3»
__________
(1) . قوله «فان خرج الآمر مضى لطيته» بكسر الطاء، أى لنيته التي انتواها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وإلى استنباطه» لعل بعده سقطا تقديره: سبيلا خطأ وضلال. (ع)
(3) .
الآن لما ابيض مسربتي ... وعضضت من نابي على جذم
حلبت هذا الدهر أشطره ... وأتيت ما آتى على علم
للذهلى. وقيل: لأبى العلاء المعرى. و «الآن» الزمن الحاضر. و «المسربة» بضم الراء- وقد تفتح-:
الشعرات التي تنبت وسط الصدر دقيقة مستطيلة إلى أسفل السرة، وهي آخر ما يشيب من الإنسان، فبياضها كناية عن بلوغه غاية الشيب، وأما المسربة بالفتح فقط فهي مخرج الغائط. و «من نابي» حال مقدمة. و «من» تبعيضية. و «الجذم» أصل الشيء، كأن أنيابه تفتتت حتى لم يبق إلا أصولها. ويجوز أن المعنى: أنها سقطت وبقي محلها من اللحم، وهو أيضا كناية عما تقدم توكيد له في المعنى. و «حلبت هذا الدهر» أى جمعت ما فيه من الحوادث وجربتها. و «أشطره» نواحيه وجوانبه فكأنه شبه الزمان بمكان له جوانب على طريق الكناية، وإثبات الأشطر تخييل، وهو نصب على البدلية. والشطر أيضا: نصف ضرع الناقة: فيه خالفان، وفي النصف الآخر خالفان. فشبه الدهر بناقة على طريق المكنية، وإثبات الأشطر تخييل. وحلبها ترشيح. وهذا أوجه وأقرب من الأول. وأشطره: نصب على البدلية أيضا. ويمكن أن حلب مضاعف للتعدية لا للمبالغة. فالمعنى:
جعلت الدهر يحلب لي أشطره ويجمع لي ما فيها من الغرائب والعجائب. وقيل: المراد بأشطره أنواع الخير والشر.
وأتيت: أى فعلت لأن من يفعل الشيء لا بد من توجه جسمه وقلبه إليه. والمعنى: صارت عادتى أنى أفعل ما أفعله على علم عندي، من طول تجربتى لحوادث الدهر.

(1/604)


يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4)

وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع يئس الذين كفروا من دينكم يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله عز وجل وفي بوعده من إظهاره على الدين كله فلا تخشوهم بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعد ما كانوا غالبين واخشوني وأخلصوا لي الخشية أكملت لكم دينكم كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد وأتممت عليكم نعمتي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام ورضيت لكم الإسلام دينا يعنى اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ، (إن هذه أمتكم أمة واحدة) . فإن قلت: بم اتصل قوله فمن اضطر؟ قلت: بذكر المحرمات. وقوله: (ذلكم فسق) اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل. ومعناه: فمن اضطر إلى الميتة أو إلى غيرها في مخمصة في مجاعة غير متجانف لإثم غير منحرف إليه، كقوله: (غير باغ ولا عاد) . فإن الله غفور لا يؤاخذه بذلك.

[سورة المائدة (5) : آية 4]
يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4)

(1/605)


في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحل لهم. وإنما لم يقل: ماذا أحل لنا، حكاية لما قالوه لأن يسألونك بلفظ الغيبة، كما تقول أقسم زيد ليفعلن. ولو قيل: لأفعلن وأحل لنا، لكان صوابا. و «ماذا» مبتدأ، و (أحل لهم) خبره كقولك: أى شيء أحل لهم؟ ومعناه: ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها، فقيل: أحل لكم الطيبات أى ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. وما علمتم من الجوارح عطف على الطيبات «1» أى أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية، وجوابها (فكلوا) والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه قوله عليه السلام «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك «2» » فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضاريا به. وانتصاب مكلبين على الحال من علمتم. فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه مدربا فيه، موصوفا بالتكليب. وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة «3» وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل.
فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله مما علمكم الله من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
__________
(1) . قال محمود رحمه الله تعالى: «وما علمتم عطفا على الطيبات ... الخ» قال أحمد رحمه الله تعالى: ولقد أحسن في التنبيه على هذا السر الخفي غير أن الحال بأصالتها منتقلة غير لازمة ومقتضى هذا التقرير جعلها من الصفات اللازمة لمعلم الجوارح الثابتة له.
(2) . هو طرف من حديث أخرجه الحاكم. وسيأتى بتمامه في سورة النجم.
(3) . عاد كلامه قال: «وفي قوله تعلمونهن مما علمكم الله فائدة جليلة ... الخ» قال أحمد: وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم لأن تعليمها معناه لغة تحصيل العلم لها بطرقه خلافا لمنكري ذلك.

(1/606)


اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)

وقرئ (مكلبين) بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيرا. والإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه، لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم «وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه» «1» وعن على رضى الله عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل «2» . وفرق العلماء، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها تؤدب بالضرب، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلا ولم يفرق بين إمساك الكل والبعض. وعن سلمان، وسعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة رضى الله عنهم: إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم الله عليه فكل «3» . فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله واذكروا اسم الله عليه؟ قلت. إما أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح. أى سموا عليه عند إرساله.

[سورة المائدة (5) : آية 5]
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
طعام الذين أوتوا الكتاب قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك جميع النصارى. وعن على رضى الله عنه: أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر «4» ، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس «5» . وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة
__________
(1) . متفق عليه من حديث عدى بن حاتم.
(2) . لم أجده.
(3) . حديث سلمان أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن سلمان في الكلب يرسل على الصيد إن أكل ثلثيه فكل الثلث الباقي. وحديث أبى هريرة كذلك رواه ابن أبى شيبة من طريق الشعبي عنه قال «إذا أرسلت كلبك فأكله فكل وإن أكل ثلثه» وحديث سعد ابن أبى وقاص كذلك أخرجه ابن أبى شيبة من رواية بكر بن الأشج عن حميد بن مالك عن سعد في الصيد يرسل عليه الكلب قال: كله وإن لم يبق منه إلا بضعة منه.
(4) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية إبراهيم النخعي عن على. وهو منقطع. وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق موصولا من رواية عبيدة عن على رضى الله عنه.
(5) . أخرجه في الموطأ عن ثور عن ابن عباس بهذا. وهو منقطع. ثور لم يلق ابن عباس. وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك. وروى ابن أبى شيبة من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس. قال «كلوا ذبائح بنى تغلب وتزوجوا نساءهم» .

(1/607)


ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)

وأصحابه. وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه: هم صنفان: صنف يقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة. وصنف لا يقرؤن كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد روى عن أبى المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر اسم الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء وطعامكم حل لهم فلا عليكم أن تطعموهم «1» ، لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. المحصنات الحرائر أو العفائف. وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق، وكذلك نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات، فعند أبى حنيفة: هن كالمسلمات، وخالفه الشافعي، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويحتج بقوله «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن» ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد أكثر الله المسلمات، وإنما رخص لهم يومئذ محصنين أعفاء ولا متخذي أخدان صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى ومن يكفر بالإيمان بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم.

[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
__________
(1) . قال محمود: «معناه فلا عليكم أن تطعموهم ... الخ» قال أحمد: وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التحليل حكم، وقد علقه بهم في قوله: (وطعامكم حل لهم) كما علق الحكم بالمؤمنين.
وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) فان لقائل أن يقول في تلك الآية: نفى الحكم ليس بحكم، ولا يستطيع ذلك في آية المائدة هذه: لأن الحكم فيها مثبت والله أعلم. ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة، أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أى لا جناح عليكم أيها المسلمون أن تطعموا أهل الكتاب، كما رأيته في كلامه أيضا. [.....]

(1/608)


إذا قمتم إلى الصلاة كقوله «فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله» «1» وكقولك: إذا ضربت غلامك فهون عليه، في أن المراد إرادة الفعل. فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت:
لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه، فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أى لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: (نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) يعنى إنا كنا قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم: كما تدين تدان، عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه. وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها لأن من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له لا محالة، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة «2» محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة «3» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات «4» . وعنه عليه السلام: أنه كان يتوضأ لكل صلاة «5» . فلما كان يوم الفتح مسح
__________
(1) . قال محمود: «قوله إذا قمتم كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ... الخ» قال أحمد هذا الكلام يستقيم وروده من السنى، كما يستقيم من المعتزلي لأنا نقول: الفعل يوجد بقدرة العبد ملتبسا بها ومقارنا لها، والمعتزلي يقوله ويعنى مخلوقا بها وناشئا عن تأثيرها، فالعبارة مستعملة في المذهبين ولكن باختلاف المعنى، والله الموفق.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم ... الخ» قال أحمد: الزمخشري أنكر أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع، وقد سبق له إنكار ذلك ومن جوز إرادة جميع المحامل أجاز ذلك في الآية، ومن المجوزين لذلك الشافعي رحمه الله تعالى. وناهيك بإمام الفن وقدوته. هذا إذا وقع البناء على أن صيغة «أفعل» مشتركة بين الوجوب والندب صح تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين، وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
(3) . أخرجه البخاري من رواية عمرو بن عامر عن أنس بلفظ «عند كل» وزاد «قلت: كيف كنتم تصنعون قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث، والترمذي من رواية حميد عن أنس نحوه، وزاد «طاهرا وغير طاهر» ولمسلم من حديث يزيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تكن تفعله، قال: قد فعلته يا عمر» وسيأتى بعد قليل، ولأبى داود والحاكم وأحمد من حديث أسماء بنت زيد بن الخطاب عن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك» وقوله: «وكان الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم يتوضئون لكل صلاة: أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية أبى عوانة عن محمد بن سيرين قال: «كان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم يتوضئون لكل صلاة» .
(4) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر رضى الله عنهما. قال الترمذي: إسناده ضعيف.
(5) . تقدم التنبيه عليه وأن مسلما أخرجه دون ذكر المسح. وكذلك أخرجه أصحاب السنن.

(1/609)


على خفيه وصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر: صنعت شيئا لم تكن تصنعه. فقال:
«عمدا فعلته يا عمر» يعنى بيانا للجواز؟ فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب. قلت: لا، لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجبا أول ما فرض، ثم نسخ. (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: (فنظرة إلى ميسرة) لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسرا وموسرا. وكذلك (ثم أتموا الصيام إلى الليل) لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله إلى المرافق و (إلى الكعبين) لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه «1» . وامسحوا برؤسكم المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح، كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روى: أنه مسح على ناصيته «2» .
وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة (وأرجلكم) بالنصب «3» ، فدل على أن الأرجل مغسولة
__________
(1) . أخرجه الدارقطني من حديث جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» وإسناده ضعيف.
(2) . أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في قصة فيها «ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه» وللطبراني من حديثه «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته» .
(3) . قال محمود: «قرأ جماعة (وأرجلكم) بالنصب ... الخ» قال أحمد: ولم يوجه الجر بما يشفى الغليل.
والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما إمساس بالعضو فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم، كقوله:
متقلدا سيفا ورمحا و ... علفتها تبنا وماء باردا
ونظائره كثيرة. وبهذا وجه الحذاق، ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منها الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار. وتوكيد الفائدة بما ذكره الزمخشري وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه، كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد باشراكه الأرجل مع الممسوح، ونبه بهذا التشريك- الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا- على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة، وهذا تقرير كامل لهذا المقصود، والله أعلم.

(1/610)


فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل إلى الكعبين فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. وعن على رضى الله عنه: أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزا، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلا ويدلكونها دلكا. وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للأعقاب من النار «1» » وفي رواية جابر «ويل للعراقيب «2» » وعن عمر أنه رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه «3» . وعن عائشة رضى الله عنها لأن تقطعا أحب إلى من أن أمسح على القدمين بغير خفين «4» . وعن عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين «5» . وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح.
وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين. وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن:
وأرجلكم، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ (فاطهروا أى
__________
(1) . متفق عليه من طريق يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال «خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة فأدركنا- فذكره- وفيه: وأعقابهم تلوح» ولمسلم «رجعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة» ولأبى نعيم في المستخرج «وأعقابهم تلوح» ولمسلم «رجعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ولأبى نعيم في المستخرج: وأعقابهم بيض تلوح (تنبيه) لم أره من حديث ابن عمر، وكأنه تحرف على صاحب الكتاب، أو بعض من أخذه عنه.
(2) . أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن سعيد بن أبى كريب عن جابر وهي عند مسلم من حديث أبى هريرة. وللنسائى في حديث عبد الله بن عمرو المذكور ولأبى يعلى من حديث عائشة. ولسعيد بن منصور من حديث أبى ذر رضى الله عنه
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية أبى قلابة «أن عمر رأى رجلا يتوضأ فبقى في رجله قدر ظفر. فقال: أعد الوضوء» وهو منقطع. ورواه البيهقي موصولا من طريق الثوري عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر «أن عمر رأى رجلا» فذكره بلفظ «لمعة» وقد روى مرفوعا. أخرجه أحمد وأبو داود من رواية خالد بن معدان عن بعض الصحابة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقال الأثرم عن أحمد: إسناده جيد. وقال أبو داود: هو مرسل. وتعقبه ابن دقيق العبد بأن عدم ذكر اسم الصحابي حدثه. وهو موصوف بكثرة الإرسال (تنبيه) قوله «تغليظا عليه» من كلام صاحب الكشاف. وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بقوله «أعد الوضوء» أى اغسل رجليك من إطلاق الكل وإرادة البعض. وأما الذي في المرفوع فيحتمل أن يكون الأمر المذكور بعد أن أحدث الرجل
(4) . أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية من رواية القاسم عنها دون قوله «بغير خفين» وفي إسناده محمد ابن مهاجر البغدادي، رادعي ابن الجوزي أنه وضعه.
(5) . لم أجده.

(1/611)


واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7) ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10)

فطهروا أبدانكم، وكذلك ليطهركم. وفي قراءة عبد الله: فأموا صعيدا ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج في باب الطهارة، حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء وليتم نعمته عليكم وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه لعلكم تشكرون نعمته فيثيبكم.

[سورة المائدة (5) : آية 7]
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7)
واذكروا نعمة الله عليكم وهي نعمة الإسلام وميثاقه الذي واثقكم به أى عاقدكم به عقدا وثيقا هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان.

[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10]
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10)
عدى يجرمنكم بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدى به، كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: (أن تعتدوا) بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام:
«من اتبع على مليء فليتبع «1» » لأنه بمعنى أحيل. وقرئ (شنآن بالسكون. ونظيره في المصادر «ليان» والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما «2» في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك اعدلوا هو أقرب للتقوى نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء
__________
(1) . متفق عليه من حديث الأعرج عن أبى هريرة بلفظ «وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع» وفي رواية لأحمد «وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل» وبهذا اللفظ أخرجه البزار من حديث ابن عمر رضى الله عنهما. [.....]
(2) . قوله «وتتشفوا بما في قلوبكم» لعله مما. (ع)

(1/612)


ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)

على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: (هو أقرب للتقوى) أى العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ لهم مغفرة وأجر عظيم بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدم لهم وعدا فقيل: أى شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل وعد واقعا على الجملة التي هي لهم مغفرة، كما وقع (تركنا) على قوله: (سلام على نوح) كأنه قيل: وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم.
وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.

[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)
روى أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا، وذلك بعسفان في غزوة ذى أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم، فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف «1» . وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلى رضى الله عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية النضر بن عمر عن عكرمة عن ابن عباس بتغير فيه، ولفظه قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة. فلقى المشركين بعسقلان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد قال بعضهم لبعض:
كان فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علوا بكم قال قائل منهم: فان لهم صلاة أخرى» والباقي نحوه. وأصله في مسلم من رواية أبى الزبير عن جابر «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة فقاتلونا قتالا شديدا فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فقالوا: إنهم سيأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولى فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما حضرت العصر صففنا صفين- الحديث» وللترمذي والنسائي من طريق عبد الله بن شقيق عن أبى هريرة نحوه.

(1/613)


ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13)

صفة وهموا بالفتك به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبره، فخرج «1» . وقيل: نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها، فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابى فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله، قالها ثلاثا، فشام الأعرابى السيف «2» فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم، وأبى أن يعاقبه «3» . يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) ومعنى «بسط اليد» مدها إلى المبطوش به. ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع، ومديد الباع، بمعنى.
فكف أيديهم عنكم فمنعها أن تمد إليكم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13]
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13)
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل. قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو براد عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره مطولا- وفيه قال «ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم في القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فيما حدثني يزيد بن رومان قال: كان بين بنى النضير وبنى عامر عقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم قالوا: نعم، اجلس يا أبا القاسم فجلس إلى جانب جدار من بيوتهم ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا. من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيقتله بها فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك منهم عمرو بن جحاش بن كعب، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال- ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلى، فأتاه جبريل من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة، ثم أمر بحربهم والمسير إليهم. فسار الناس» (تنبيه) في كلام صاحب الكشاف «أنهما كانا مسلمين» ولم أجد ذلك في شيء من طرقه بل صرح موسى بن عقبة في المغازي أنهما كانا كافرين، وكان لهما عهد وفي الدلائل لأبى نعيم من حديث ابن عباس: فلقى عمرو بن أمية رجلين من بنى كلاب معهما أمان ولم يعلم به فقتلهما» .
(2) . قوله «فشام الأعرابى السيف» في الصحاح. شمت السيف أغمدته. وشمته: سللته وهو من الأضداد. (ع)
(3) . متفق عليه من رواية أبى سلمة عن جابر نحوه. وللبخاري من وجه آخر.

(1/614)


لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إنى كتبتها لكم دارا قرارا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإنى ناصركم، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون، فرأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف، وكانا من النقباء.
والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها، كما قيل له: عريف، لأنه يتعرفها إني معكم أى ناصركم ومعينكم عزرتموهم نصرتموهم ومنعتموهم من أيدى العدو. ومنه التعزير، وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد. وقرئ بالتخفيف يقال: عزرت الرجل إذا حطته وكنفته. والتعزير والتأزير من واد واحد. ومنه: لأنصرنك نصرا مؤزرا، أى قويا. وقيل معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثنى عشر ملكا يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. واللام في لئن أقمتم موطئة للقسم وفي لأكفرن جواب له، وهذا الجواب ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا بعد ذلك بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم. فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل. قلت:
أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم، لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى لعناهم طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وقيل:
مسخناهم. وقيل: ضربنا عليهم الجزية وجعلنا قلوبهم قاسية خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد الله: قسية، أى ردية مغشوشة، من قولهم: درهم قسى وهو من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة، والقاسي والقاسح- بالحاء- أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرئ: قسية، بكسر القاف للإتباع يحرفون الكلم بيان لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه ونسوا حظا وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا مما ذكروا به من التوراة، يعنى أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه:
قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية «1» . وتلا هذه الآية. وقيل تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا
__________
(1) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. قال: أخبرنا عبد الرحمن المسعودي عن القاسم عن عبد الله قال «إنى لأحسب الرجل ينسى العلم يعلمه بالخطيئة يعملها» وهذا منقطع وكذا أخرجه الدارمي والطبراني.

(1/615)


ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)

به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته ولا تزال تطلع أى هذه عادتهم وهجيراهم وكان عليها أسلافهم كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ينكثون عهودك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون بالفتك بك وأن يسموك على خائنة على خيانة، أو على فعلة ذات خيانة، أو على نفس، أو فرقة خائنة. ويقال: رجل خائنة، كقولهم: رجل راوية للشعر للمبالغة. قال:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مضل الأصبع «1»
وقرئ على خيانة منهم إلا قليلا منهم وهم الذين آمنوا منهم فاعف عنهم بعث على مخالفتهم. وقيل هو منسوخ بآية السيف. وقيل: فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.

[سورة المائدة (5) : آية 14]
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
أخذنا ميثاقهم أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى، أى مثل ميثاقهم بالإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير. وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم بذلك. فإن قلت:
فهلا قيل: من النصارى؟ «2» قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعد: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية. أنصارا
__________
(1) .
أقرين إنك لو رأيت فوارسى ... بعمايتين إلى جوانب صلفع
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مضل الأصبع
للكلابى، يخاطب ضيفا نزل عنده فطمع في جاريته. والهمزة للنداء و «عمايتين» اسم جبلين. و «صلفع» اسم موضع. أى ياقرين لو رأيت فوارسى بهذين الجبلين ممتدين إلى جوانب صلفع، لحدثت نفسك بوفاء العهد خوفا منى كما هو الواجب عليك، ولم تكن لأجل العدو. أو ولم تكن مجعولا للغدر خائنة، على أنه خبر بعد خبر، أى كثير الخيانة، فالتاء للمبالغة كرواية. ولعله كان قد أشار للجارية بإصبعه، فسمى الاشارة به للخيانة إضلالا له:
ويروى مغل الأصبع بالغين وغل وأغل إذا سرق شيئا تافها، كأنه جعل أصبعه غالا، أى سارقا، للاشارة به.
(2) . قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل من النصارى ... الخ» قال أحمد: وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) فالوجه في ذلك والله أعلم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة، وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها، والله أعلم.

(1/616)


ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)

للشيطان «1» فأغرينا فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره.
ومنه الغراء الذي يلصق به بينهم بين فرق النصارى المختلفين. وقيل: بينهم وبين اليهود.
ونحوه (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) ، (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
يا أهل الكتاب خطاب لليهود والنصارى مما كنتم تخفون من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نحو الرجم ويعفوا عن كثير مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته «2» مما لا بد من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يريد القرآن، لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافيا عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز من اتبع رضوانه من آمن به سبل السلام طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله.

[سورة المائدة (5) : آية 17]
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)
قولهم إن الله هو المسيح معناه بت القول، على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير. قيل:
كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدى إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم فمن يملك من الله شيئا فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا إن أراد أن يهلك من دعوه إلها من المسيح وأمه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف (من في الأرض) على: (المسيح ابن مريم وأمه) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما
__________
(1) . قوله «وملكانية أنصارا للشيطان» في الخازن فرقة رابعة وهي المرقوسية اه. (ع)
(2) . قوله «إلا اقتضاء حكم وصفته» لعل هنا سقطا أو تحريفا أوجب خفاء المعنى فليحرر. (ع)

(1/617)


وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19)

وبينهم في البشرية يخلق ما يشاء أى يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى «1» ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم. أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك. فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده.

[سورة المائدة (5) : آية 18]
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18)
أبناء الله أشياع ابني الله عزير والمسيح «2» ، كما قيل لأشياع أبى خبيب وهو عبد الله بن الزبير «الخبيبون» وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك. ولذلك قال مؤمن آل فرعون: لكم الملك اليوم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياما معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء الله، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءه، لما عصيتموه ولما عاقبكم بل أنتم بشر من جملة من خلق من البشر يغفر لمن يشاء وهم أهل الطاعة ويعذب من يشاء وهم العصاة «3» .

[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19)
يبين لكم إما أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع، وحذفه لظهور ما ورد الرسول
__________
(1) . قوله «كما خلق عيسى» في النسفي: ويخلق من ذكر من غير أنثى، كما خلق حواء من آدم. (ع)
(2) . قال محمود: «معنى قولهم أبناء الله أشياع ابني الله عزير ... الخ» قال أحمد: ومنه قول الملائكة لأنهم خواص عباد الله (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم) إلى قوله: (إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) فأضافوا التقدير إليهم، وفي الحقيقة المقدر الله «وكذلك قول الدابة- لأنها من خواص آيات الله-: (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) فيمن جعله من قول الدابة، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «يعنى أهل الطاعة (ويعذب من يشاء) قال: يعنى العصاة» قال أحمد رحمه الله: بل مشيئة الله تعالى تسع التائب المنيب، والعاصي المصر إذا كان موحدا. والزمخشري أخرج هذا التفسير على قاعدته المتكررة في غير ما موضع، وهي القطع بوعيد العصاة المصرين الموحدين، وأن المغفرة لهم محال.

(1/618)


وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين (20) ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24)

لتبيينه. أو يقدر ما كنتم تخفون، وحذفه لتقدم ذكره. أو لا يقدر ويكون المعنى. يبذل لكم البيان، ومحله النصب على الحال، أى مبينا لكم. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أى جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحى أن تقولوا كراهة أن تقولوا فقد جاءكم متعلق بمحذوف، أى لا تعتذروا فقد جاءكم. وقيل: كان بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما خمسمائة وستون سنة. وقيل: ستمائة. وقيل: أربعمائة ونيف وستون. وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبى وبين عيسى ومحمد صلوات الله عليهم أربعة أنبياء.
ثلاث من بنى إسرائيل، وواحد من العرب: خالد بن سنان العبسي. والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحى أحوج ما يكون إليه، ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله، وفتح باب إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 24]
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمت الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين (20) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24)
جعل فيكم أنبياء لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء «1»
__________
(1) . قال محمود: «لم يبعث في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء ... الخ» قال أحمد: والحامل على تفسير الملك بهذه التفاسير أن الله تعالى أنبأ في ظاهر الكلام أنه جعل الجميع ملوكا بقوله: (وجعلكم ملوكا) ولم يقل (وجعل فيكم ملوكا) كما قال: (جعل فيكم أنبياء) فلما عمم الملك فيهم، ولا شك أن الملك- المعهود هو الاستيلاء العام- لم يثبت لكل أحد منهم، فيتعين حمل الملك على ما كان ثابتا لجميعهم أو لأكثرهم من الأبعاض المذكورة.
هذا هو الباعث على تفسير الملك بذلك، والله أعلم. وهذا المعنى وإن لم يثبت لكل واحد منهم إلا أنه كان ثابتا لملوكهم وهم منهم، إذ إسرائيل لأب الأقرب يجمعهم، فلما كانت ملوكهم منهم وهم أقرباؤهم وأشياعهم وملتبسون بهم، جاز الامتنان عليهم بهذه الصنيعة، والمعنى مفهوم. وهذا بعينه هو التقرير السالف آنفا في قول اليهود والنصارى (نحن أبناء الله وأحباؤه) وما بالعهد من قدم. فان قلت: فلم لم يقل إذ جعلكم أنبياء لأن الأنبياء منهم كما قلت في الملوك؟ قلت: النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة فان درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك، والله أعلم. [.....]

(1/619)


(وجعلكم ملوكا لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه، وبعد الجبابرة ملكهم ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: كانوا مملوكين في أيدى القبط فأنقذهم الله، فسمى إنقاذهم ملكا. وقيل:
الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار. وقيل: من له بيت وخدم. وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق ما لم يؤت أحدا من العالمين من فلق البحر، وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمى زمانهم الأرض المقدسة يعنى أرض بيت المقدس. وقيل: الطور وما حوله. وقيل:
الشام. وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. وقيل: سماها الله لإبراهيم ميراثا لولده حين رفع على الجبل، فقيل له. انظر، فلك ما أدرك بصرك، وكان بيت المقدس قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين كتب الله لكم قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم ولا ترتدوا على أدباركم ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا، وقيل: لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر. وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن يراد:
لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم: فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. الجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد قال رجلان هما كالب ويوشع من الذين يخافون من الذين يخافون الله ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين. ويجوز أن تكون الواو لبنى إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره: من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم.: وقراءة من قرأ: يخافون، بالضم شاهدة له: وكذلك أنعم الله عليهما، كأنه قيل: من الخوفين. وقيل: هو من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من الله بالتذكرة والموعظة. أو يخوفهم وعيد الله بالعقاب. فإن قلت: ما محل أنعم الله عليهما؟ قلت: إن انتظم مع قوله «من الذين يخافون» في حكم الوصف لرجلان فمرفوع. ==

مجلد 2. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل  أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26)

وإن جعل كلاما معترضا فلا محل له. فإن قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك. وقوله تعالى كتب الله لكم وقيل، من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة.
والباب: باب قريتهم لن ندخلها نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس.
وأبدا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. وما داموا فيها بيان للأبد فاذهب أنت وربك يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب «1» ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجيبنى، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية الله عز وجل جهرة. والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أن موسى وهرون عليهما السلام خرا لوجوههما قدامهم لشدة ما ورد عليهما، فهموا برجمهما. ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 25 الى 26]
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26)
لما عصوه وتمردوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هرون قال رب إني لا أملك لنصرة دينك «2» إلا نفسي وأخي وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ولكن ... الخ» قال أحمد رحمه الله: يريد الزمخشري سألوا رؤية الله جهرة وهي محال عقلا تعنتا منهم. وقد مر له ذلك، وبينا ان تلبسهم بذلك كان لعدم فهم الايمان به على التعيين اقتراحا وتقاعسا عن الحق في قوله: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) .
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «قال رب إنى لا أملك لنصرة دينك إلا نفسي ... الخ» قال أحمد: وفي قول موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الاسراء لنبينا عليه الصلاة والسلام: إنى جربت بنى إسرائيل وخبرتهم، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فان أمتك لا تطيق ذلك. وتكريره هذا القول مرارا مصداق لما ذكره الزمخشري. وأما إن كان المراد بالرجلين غير يوشع وكالب- وكانا من العماليق الذين خافهم بنو إسرائيل- ويكون معنى يخافون أى يخافهم بنو إسرائيل- فالضمير على هذا يرجع إلى بنى إسرائيل، والعائد محذوف وهو المفعول. فعلى هذا لا شك أن هذين الرجلين ليسا من بنى إسرائيل المكتوب عليهم قتال العمالقة. وإنما عنى موسى عليه السلام: إنى لا أملك من بنى إسرائيل المفروض عليهم القتال أمر أحد إلا نفسي وأخى، والله أعلم.

(1/621)


ونحوه قول يعقوب عليه السلام نما أشكوا بثي وحزني إلى الله)
. وعن على رضى الله عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء «1» . ودعا لهما وقال: أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب «أخى» وجوه: أن يكون منصوبا عطفا على نفسي أو على الضمير في «إنى» ، بمعنى: ولا أملك إلا نفسي «2» وإن أخى لا يملك إلا نفسه. ومرفوعا عطفا على محل إن واسمها، كأنه قيل: أنا لا أملك إلا نفسي، وهرون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في لا أملك. وجاز للفصل. ومجرورا عطفا على الضمير في نفسي، وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور «3» إلا بتكرير الجار. فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟
قلت: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره.
ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد: ومن يؤاخينى على دينى فافرق فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: (فإنها محرمة عليهم) على وجه التسبيب، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم «كقوله: (ونجني من القوم الظالمين) فإنها فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم لا يدخلونها ولا يملكونها، فان قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله (التي كتب الله لكم) ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم. والثاني: أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض صلوات الله عليه. وقيل: لما مات موسى بعث يوشع نبيا، فأخبرهم بأنه نبى الله، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبنى إسرائيل. وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: (إنا لن ندخلها) وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما (محرمة) وإما (يتيهون) ومعنى يتيهون في الأرض يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقا. والتيه: المفازة التي يتاه فيها. روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم
__________
(1) . قوله «فتنفس الصعداء» في الصحاح: الصعداء بالضم والمد تنفس ممدود اه. (ع)
(2) . قوله «بمعنى لا أملك إلا نفسي» لعله بمعنى إنى لا أملك. وعبارة النسفي. أى إنى لا أملك ... الخ. (ع)
(3) . قوله «على ضمير المجرور» لعله على الضمير. (ع)

(1/622)


واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (31) من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)

من حر الشمس، ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم، وينزل عليهم المن والسلوى، ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله. فإن قلت: فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره وهم معاقبون؟ قلت: كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركا لهم «1» ، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة. ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه. فإن قلت: هل كان معهم في التيه موسى وهرون عليهما السلام؟
قلت: اختلف في ذلك، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقابا، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة، لا عقوبة، كالنار لإبراهيم، وملائكة العذاب. وروى أن هرون مات في التيه، ومات موسى بعده فيه بسنة.
ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر. ومات النقباء في التيه بغتة، إلا كالب ويوشع فلا تأس فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم، فقيل: إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب، فلا تحزن ولا تندم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين (31)
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)
__________
(1) . قوله «عركا لهم» في الصحاح: عركت الشيء دلكته. وعرك البعير جنبه بمرفقه. وفيه أيضا: الدعك مثل الدلك. وقد دعكت الأديم والخصم: لبنته. (ع)

(1/623)


هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى الله إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها «إقليما» فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم: قربا قربانا، فمن أيكما تقبل زوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسدا وسخطا، وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بنى إسرائيل بالحق تلاوة ملتبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين، أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه.
أو اتل عليهم وأنت محق صادق. وإذ قربا نصب بالنبإ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت.
ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.
والقربان: اسم ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة، كما أن الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى.
يقال: قرب صدقة وتقرب بها، لأن تقرب مطاوع قرب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع «1» فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله إنما يتقبل الله من المتقين جوابا لقوله: (لأقتلنك) ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟
ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إنى أسمع الله يقول (إنما يتقبل الله من المتقين) . ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأن الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد وغيره إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمى على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.
__________
(1) . قوله «تقربوا قرف القمع» في الصحاح: القرف القشر. والقمعة رأس السنام، والجمع قمع. والقمع أيضا: بثرة تخرج في شفر العين. (ع)

(1/624)


ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم «1» » على أن البادي عليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه، لأنه مكافئ مدافع عن عرضه. ألا ترى إلى قوله «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حد المكافأة واعتدى لم يسلم. فإن قلت: فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت:
هو مقدر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر، كأنه قال: إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو بسطت يدي إليك. وقيل (بإثمي) بإثم قتلى (وإثمك) الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه «2» بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد.
ألا ترى إلى قوله تعالى وذلك جزاء الظالمين وإذا جاز أن يريده الله، جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن «3» . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل «4» والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله:
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة. وللبخاري في الأدب المفرد عن أنس نحوه.
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه ... الخ» قال أحمد: وهذا من دسه للمعتقد الفاسد في بيان كلامه، والفاسد من هذا اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مرادا لله تعالى وتلك القبائح بجملتها، فإنها على زعمه واقعة على خلاف المشيئة الربانية، وهذا هو الشرك الخفي فإياك أن تحوم حول شركه والعياذ بالله فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب، ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين: إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ولم تكن حينئذ مشروعة فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة، وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر، وبين أن يختم له بالايمان فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا، أعنى بقي الإثم على قاتله أو حبط عنه إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه فدل على أنه أمر لازم تبع لا مقصود. والله أعلم.
(3) . قوله «لأنه لا يريد إلا ما هو حسن» هذا مذهب المعتزلة أما عند أهل السنة، فالله يريد كل كائن حسنا كان أو قبيحا كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «فان قلت: لم جاء الشرط بصيغة الفعل والجزاء باسم الفاعل ... الخ» قال أحمد:
وإنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث أن صيغة الفعل لا تعطى سوى حدوث معناه من الفاعل لا غير. وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه اسم الفاعل. ومن ثم يقولون: قام زيد فهو قائم، فيجعلون اتصافه بالقيام ناشئا عن صدوره منه، ولهذا المعنى قوله تعالى: (لتكونن من المرجومين) عدولا عن الفعل الذي هو لنرجمنك إلى الاسم تغليظا. يعنون أنهم يجعلون هذه لثبوتها ووقوعها به كالسمة والعلامة الثابتة، ولا يقتصرون على مجرد إيقاعها به.

(1/625)


(لئن بسطت.....)
(ما أنا بباسط) ؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي، فطوعت له نفسه قتل أخيه فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: فطاوعت. وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك:
حفظت لزيد ماله. وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فبعث الله غرابا روى أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ويروى أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك. وروى أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. ليريه ليريه الله. أو ليريه الغراب، أى ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز سوأة أخيه عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال:
يا لقوم للسوأة السوآء «1»
أى للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها فأواري بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف من النادمين على قتله، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين من أجل ذلك بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا. ومنه قوله:
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قدم احتربوا فى عاجل أنا آجله «2»
__________
(1) . قوله «يا لقوم» يروى يا لقومي. (ع)
(2) .
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
فأقبلت في الباغين أسأل عنهم ... سؤالك بالأمر الذي أنت جاهله
لخوات بن جبير، يصف نفسه بأنه مهياج للشرور والحروب، يقول: ورب أهل خباء، أى بيوت متلاصقة كأنها بيت واحد. أو كنى به عن تقاربهم في النسب صالح ذات بينهم. أى الحال التي بينهم صالحة، قد تحاربوا بسبب شر عاجل أنا آجله أى جانبه قبل الحرب ومهيجه. وفيه شبه التضاد. ويقال: أجل الشر أجلا إذا جناه وهيجه، فمحاربتهم كانت من أجله وبسببه، فانخذل الباغون للشر، فأقبلت أسأل عنهم، كسؤالك بالأمر: أى عن الأمر الذي أنت جاهله، أفاد بالتشبيه أنه كان ليس جاهلا بهم حين سؤاله، وإنما كان يريهم أنه معهم ومحب لهم لا لعدوهم.

(1/626)


إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)

كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أى من أن جررته بمعنى جنيته. وذلك إشارة إلى القتل المذكور، أى من أن جنى ذلك القتل الكتب وجره كتبنا على بني إسرائيل و «من» لابتداء الغاية، أى ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك. ويقال: فعلت كذا لأجل كذا. وقد يقال: أجل كذا، بحذف الجار وإيصال الفعل قال: أجل أن الله قد فضلكم. وقرئ: من اجل ذلك، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر: من إجل ذلك، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها بغير نفس بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص أو فساد عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد في الأرض وهو الشرك.
وقيل: قطع الطريق ومن أحياها ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت:
لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب الله، والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعا أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سولته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحدا بعد ذلك بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات لمسرفون يعنى في القتل لا يبالون بعظمته

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)

(1/627)


ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35)

يحاربون الله ورسوله يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته ويسعون في الأرض فسادا مفسدين، أو لأن سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة: ويفسدون في الأرض فانتصب فسادا. على المعنى، ويجوز أن يكون مفعولا له، أى للفساد. نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وقد مر بهم قوم يريدون رسول الله فقطعوا عليهم. وقيل: في العرنيين، فأوحى إليه أن من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أفرد القتل قتل. ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال، ورجله لإخافة السبيل. ومن أفرد الإخافة نفى من الأرض. وقيل: هذا حكم كل قاطع طريق كافرا كان أو مسلما. ومعناه أن يقتلوا من غير صلب، إن أفردوا القتل أو يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ. قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله، يصلب حيا، ويطعن حتى يموت أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال أو ينفوا من الأرض إذا لم يزيدوا على الإخافة. وعن جماعة منهم الحسن والنخعي: أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل. والنفي: الحبس عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: النفي من بلد إلى بلد، لا يزال يطلب وهو هارب فزعا، وقيل: ينفى من بلده، وكانوا ينفونهم إلى «دهلك» وهو بلد في أقصى تهامة، و «ناصع» وهو بلد من بلاد الحبشة خزي ذل وفضيحة إلا الذين تابوا استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة. وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء، إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا استوفوا. وعن على رضى الله عنه: أنه الحرث بن بدر «1» جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق، فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة.

[سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35)
الوسيلة: كل ما يتوسل به أى يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. وأنشد للبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... ألا كل ذ لب إلى الله واسل «2»
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية مجالد عن الشعبي. قال: كان حارثة بن بدر التميمي قد أفسد في الأرض وحارب، فذكر قصة هذا فيها. [.....]
(2) .
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... ألا كل ذى لب إلى الله واسل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
للبيد بن ربيعة العامري. وهمزة الاستفهام التي بعدها النفي للتحضيض على الفعل، أى: سلاه وقولا له: ما الذي تريده وتجهد نفسك في تحصيله؟ وعبر بلفظ الغيبة نظرا للفظ المرئي. وخطاب المثنى عادة جارية على لسان العرب، وإن كان المراد غيره. وقوله «أنحب» بدل «ما» والنحب: النذر والحمد والسرعة، كما أن النعب- بالعين-: السرعة، أى أغرض صحيح فيقضى له، أم باطل فلا ينبغي؟ أو المعنى: أشى أوجبه على نفسه فهو يسعى في قضائه، أم ضلال؟
وعلى كل فلا ينبغي: وقوله «ما قدر أمرهم» أى ما الذي هم فيه من شئون الدنيا وسرعة فنائها. و «ألا» استفتاحية «كل ذى لب» أى عقل «واسل» إلى الله لا إلى غيره، أى متوسل به ومتلجئ إليه من شر الدنيا وشر من لا يعقل، أو متقرب إليه بما ينفعه. ويروى «بلى كل» وهي أوقع معنى، لأنها رد لدعوى تعميم السابقة. ويروى «واصل» بالصاد، أى صائر أو متوجه بكليته. ويجوز فيه وفي واسل أنهما بمعنى متقرب إلى الله بالطاعة، لا مشتغل بالدنيا الفانية كغيره من الجهال. و «باطل» خبر كل شيء. و «زائل» خبر كل نعيم. و «لا محالة» اعتراض مؤكد.
و «الدويهية» تصغير الداهية وهي المنية، بقرينة ما بعد. وتصغيرها للتعظيم والتهويل، أو للتحقير على زعم الغافلين المتهاونين،

(1/628)


إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37)

[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37)
ليفتدوا به ليجعلوه فدية لأنفسهم. وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدى به، فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك «1» » و «لو» مع ما في حيزه خبر «أن» . فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (ليفتدوا به) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله:
فإنى وقيار بها لغريب «2»
__________
(1) . متفق عليه من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.
(2) .
دعاك الهوى والشوق لما ترنحت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوبها ورق أصخن لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فانى وقيار بها لغريب
لضابئ بن الحرث البرجمي حين حبسه عثمان بن عفان لما هجا بنى نهشل. والترنح: التمايل. ويروى «ترنمت» أى تغنت بحسن صوتها. وهتفت الحمامة إذا غردت، فهي هتوف أى مفردة. و «بين» ظرف للترنح. و «طروب» مبالغة في الطرب، يوصف به المذكر والمؤنث، كهتوف. وهو فاعل، وهتوف حال وإضافته لا تفيده التعريف في المعنى. ويجوز رفعه على أنه فاعل، وطروب نعته لأنه وصف مضاف فلا تعريف له في اللفظ أيضا.
و «الورق» جمع ورقاء نوع من الحمام. و «أصخن» ملن واستمعن. ويروى «أرعن» ولم أجد في كتب اللغة «رعن» إلا بمعنى زكى ونمى، فلعل معناه نشطن على المجاز. وروى «ومن يك» بالواو. ومرفوع «أمسى» ضمير «من» .
وجملة «بالمدينة رحله» خبره، والجملة خبر يكن. ويجوز أن مرفوعه هو رحله، وجواب الشرط محذوف، أى ومن أمسى رحله بالمدينة حسن حاله، بخلاف حالى، فانى غريب لأن رحلي- أى منزلي- ليس فيها، وإنما فيها أنا وفرسي فقط. و «قيار» اسم فرسه. وقيل جمله. وقيل غلامه. وهو مبتدأ أو معطوف على محل اسم «إن» حذف خبره اختصارا لدلالة المذكور عليه، فالعطف من عطف الجمل أو المفردات. وفيه العطف قبل تمام المعطوف عليه، لكنه على نية التقديم والتأخير، وهو سماعي لا يجوز القياس عليه، ولا يجوز جعل الغريب خبرا عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، ولا جعله خبرا عن قيار لأن لام الابتداء لا تدخل على الخبر المؤخر. والبيت لفظه خبر، ومعناه إنشاء التحسر والتحزن، لكونه غريبا وحيدا.

(1/629)


والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير (40)

أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في: (مثله) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه؟ قلت:
بما يستدعيه «لو» من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض. قرأ أبو واقد (أن يخرجوا) بضم الياء من أخرج. ويشهد لقراءة العامة قوله: (بخارجين) . وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار «1» وقد قال الله تعالى: (وما هم بخارجين منها) فقال: ويحك «2» ، اقرأ ما فوقها. هذا للكفار.
فمما لفقته المجبرة «3» وليس بأول تكاذيبهم وفراهم. وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده «4» من بنى عبد المطلب وهو حبر الأمة وبحرها ومفسرها، بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية.

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير (40)
__________
(1) . قال محمود: «وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمي القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار ... الخ» قال أحمد: في هذا الفصل من كلامه وتمشدقه بالسفاهة على أهل السنة ورميهم بما لا يقولون به من الأخبار بالكذب والتخليق والافتراء ما يحمي الكبد المملوء بحب السنة وأهلها على الانتصاب للانتصاف منه، ولسنا بصدد تصحيح هذه الحكاية، ولا وقف الله صحة العقيدة على صحتها.
(2) . لم أجده. وقد أنكره صاحب الكشاف وقال: هذا مما لفقه المجبرة. وليس أول تكاذيبهم إلى آخر كلامه
(3) . قوله «فمما لفقته المجبرة «يعنى أهل السنة القائلين بخروج صاحب الكبيرة من النار لأنه مؤمن خلافا للمعتزلة القائلين لا مؤمن ولا كافر بل واسطة. وتحقيق المبحث في علم التوحيد. (ع)
(4) . قوله «وأنضاده» في الصحاح: أنضاد الرجل، أعمامه وأخواله المتقدمون في الشرف. (ع)

(1/630)


والسارق والسارقة رفعهما على الابتداء والخبر محذوف «1» عند سيبويه، كأنه قيل:
وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أى حكمهما. ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر فاقطعوا أيديهما ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط، لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأن «زيدا فاضربه» أحسن من «زيد فاضربه» (أيديهما) يديهما، ونحوه (فقد صغت قلوبكما) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف. وأريد باليدين
__________
(1) . قال محمود: «رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه كأنه ... الخ» قال أحمد: المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح. وجدير بالقرآن أن يجرى على أفصح الوجوه، وأن لا يخلو من الأفصح وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها.
وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح، واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه- في ترجمة باب الأمر والنهى، بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب-: وملخصها أنه متى بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال: كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب. وأما قوله عز وجل: (والسارق والسارقة فاقطعوا ... ) الآية وقوله: (الزانية والزاني فاجلدوا ... ) فان هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله: (مثل الجنة التي وعد المتقون) ثم قال بعد (فيها أنهار) فيها كذا ... قلت: يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيها مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه، فلا يلزم فيه اختيار النصب. عاد كلامه. قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكر بعده فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار والله أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه (سورة أنزلناها وفرضناها) قال في جملة الفرائض (الزانية والزاني) ثم جاء (فاجلدوا) بعد أن مضى فيها الرفع. قلت: يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بنى على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا. عاد كلامه. قال: كما جاء
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك (والسارق والسارقة) وفيما فرض عليكم السارق والسارقة، فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس (السارق والسارقة) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، قلت: يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل، غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعنى أنه قوى بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فانه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف. وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب فالنصب أرجح من الرفع، حيث ينبنى الاسم على الفعل والرفع متعين، لا أقول أرجح حيث بنى الاسم على كلام متقدم، ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء ويجعل الأمر خبره كما أعربه الزمخشري، فالملخص على هذا أن النصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوى بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع وأحدهما قوى والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوى كما أعربه سيبويه رضى الله عنه. والله تعالى أعلم.

(1/631)


ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41)

اليمينان، بدليل قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم، والسارق في الشريعة:
من سرق من الحرز: والمقطع. الرسغ. وعند الخوارج: المنكب. والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبى حنيفة، وعند مالك والشافعي رحمهما الله ربع دينار. وعن الحسن درهم وفي مواعظه: احذر من قطع يدك في درهم جزاء ونكالا مفعول لهما فمن تاب من السراق من بعد ظلمه من بعد سرقته وأصلح أمره بالتفصى عن التبعات فإن الله يتوب عليه ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه من يشاء من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقطه عن المسلم «1» : لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (ولكم في القصاص حياة) . فإن قلت: لم قدم التعذيب على المغفرة «2» ؟ قلت: لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.

[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41)
قرئ (لا يحزنك) بضم الياء. ويسرعون. والمعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أى في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإنى ناصرك عليهم وكافيك شرهم. يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع
__________
(1) . قوله «ولا يسقطه عن المسلم» لعله «ولا يسقط» أو «ولا تسقطه» . (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت لم قدم التعذيب على المغفرة ... الخ» قال أحمد: هو مبنى على أن المراد بالمغفور لهم التائبون، وبالمعذبين السراق. ولا يجعل المغفرة تابعة للمشيئة إلا بقيد التوبة، لأن غير التائب على زعمه لا يجوز أن يشاء الله المغفرة له، فلذلك ينزل الإطلاق على المتقدم ذكره. ونحن نعتقد أن المغفرة في حق غير التائب من الموحدين تتبع المشيئة، حتى أن من جملة ما يدخل في عموم قوله: (ويغفر لمن يشاء) السارق الذي لم يتب. وعلى هذا يكون تقديم التعذيب لأن السياق للوعيد فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر والله أعلم.

(1/632)


فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. وآمنا مفعول قالوا: وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا ومن الذين هادوا منقطع مما قبله خبر لسماعون، أى: ومن اليهود قوم سماعون. ويجوز أن يعطف على: (من الذين قالوا) ويرتفع سماعون على: هم سماعون. والضمير للفريقين. أو للذين هادوا. ومعنى سماعون للكذب قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه «سمع الله لمن حمده» سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغ من العداوة، أى قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل: السماعون: بنو قريظة. والقوم الآخرون: يهود خيبر يحرفون الكلم يميلونه ويزيلونه من بعد مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق واعملوا به وإن لم تؤتوه وأفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال. وروى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا: إن أمركم محمد بالجلد والتحميم «1» فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم وهو أعلم يهودى على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمى العربي الذي بشر به المرسلون، وأمر رسول الله صلى
__________
(1) . قوله «والتحميم» أى التسويد. وفي الصحاح «الحمة» بالضم: السواد. (ع)

(1/633)


سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)

الله عليه وسلم الزانيين «1» فرجما عند باب مسجده «2» ومن يرد الله فتنته تركه مفتونا «3» وخذلانه «4» فلن تملك له من الله شيئا فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله) (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 43]
سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)
للسحت كل ما لا يحل كسبه، وهو من- سحته- إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى: (يمحق الله الربا) والربا باب منه. وقرئ (للسحت) بالتخفيف والتثقيل. والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته. والسحت، بفتحتين. والسحت، بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بنى إسرائيل إذا أتاه
__________
(1) . قوله «الزانيين» لعله بالزانيين. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني ابن شهاب سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبى هريرة- فذكره، دون أوله، ودون قوله فيه: فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور، يسكن فدك. ودون ما في آخره. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري مطولا- زاد فيه قصة الملك الذي كان زنى منهم فلم يرجموه، وأصله في الصحيحين من حديث أبى هريرة وغيره مختصرا.
(3) . قال محمود: «معنى ومن يرد الله فتنته: ومن يرد تركه مفتونا ... الخ» قال أحمد رحمه الله: كم يتلجلج والحق أبلج هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الايمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها، لو أراد الله أن يطهر قلوبهم من وضر البدع. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله أن يمنحهم ألطافه، لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟ وليس وراء الله للمرء مطمع. [.....]
(4) . قوله «تركه مفتونا وخذلانه» قدر هذا بناء على أنه تعالى لا يريد الشر عند المعتزلة لكن عند أهل السنة يريد الشر والخير كما حقق في محله. (ع)

(1/634)


أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وحكى أن عاملا قدم من عمله فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة «1» وجعل يحدثهم بما جرى له في عمله، فقال أعرابى من القوم: نحن كما قال الله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى «2» به» قيل:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا- إذا تحاكم إليه أهل الكتاب- بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا. وقيل: هو منسوخ بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) وعند أبى حنيفة رحمه الله: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئا أقيم عليه الحد. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم الحدود. ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية فلن يضروك شيئا لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم، شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه، فأمن الله سربه بالقسط بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم وكيف يحكمونك تعجيب من تحكيمهم
__________
(1) . قوله «فقدم إليهم العراضة» في الصحاح: العراضة- بالضم-: ما يعرض المائر، أى يطعمه من الميرة.
ويقال: اشتر عراضة لأهلك، أى هدية وشيأ تحمله إليهم. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم من رواية زيد بن أرقم عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» وأخرجه ابن عدى في ترجمة عبد الواحد بن زمعة وضعف به وفي الباب عن معمر عند الطبراني وابن عدى في أثناء حديث وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي. وهو ضعيف.
وعن حذيفة أخرجه إسحاق بن راهويه من طريق كردوس قال «خطب حذيفة بالمدائن- فذكر الخطبة. وفيها الحديث، بلفظ «ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنة» وأخرجه الطبراني في الأوسط من رواية أيوب بن سويد عن الثوري عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بلفظ «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به» قال أبو حاتم في العلل: أخطأ أيوب بن سويد فيه. والصواب موقوف. وعن ابن عمر أخرجه الطبراني والحارثي في الغريب.
وابن مردويه في الغريب من طريق عمر بن حمزة عنه. ورجاله ثقات إلا أن عمر لم يسمع من ابن عمر. وعن ابن عباس أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين ضعيفين. وروى الترمذي من حديث كعب بن عجرة في حديث طويل في آخره «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا وكانت النار أولى به، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وسألت محمدا عنه فاستغربه. وقال أبو يعلى من وجه آخر عن كعب بن عجرة، وله شاهد فيه ابن حبان من رواية عبد الله بن خيثمة عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
يا كعب بن عجرة- فذكر مثله سواء» وأخرجه أحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى والحاكم من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة. فذكر مثل حديث كعب بن عجرة «أنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عبد الرحمن» وسعيد بن بشير ضعيف.

(1/635)


إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)

لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به ثم يتولون من بعد ذلك ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به وما أولئك بالمؤمنين بكتابهم كما يدعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم. فإن قلت: فيها حكم الله ما موضعه من الإعراب؟ قلت: إما أن ينتصب حالا من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله وإما أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول:
عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت: لم أنثت التوراة؟ قلت:
لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب. فإن قلت: علام عطف ثم يتولون؟
قلت: على يحكمونك.

[سورة المائدة (5) : آية 44]
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)
فيها هدى يهدى للحق والعدل ونور يبين ما استبهم من الأحكام الذين أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح «1» ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة
__________
(1) . قال محمود: «قوله أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ... الخ» قال أحمد: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم ذكرها، فمن ثم حملها على المدح. وفيه نظر فان المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه.
والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فان أقل متبعيه كذلك. فالوجه والله أعلم أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون تنويها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة، قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) وأمثاله، تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة الأنبياء وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) فأخبر عن الملائكة المقربين بالايمان تعظيما لقدر الايمان، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنين ليس إلا، ولهذا قال: (ويستغفرون للذين آمنوا) يعنى من البشر لثبوت حق الاخوة في الايمان بين الطائفتين، فكذلك- والله أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به. ولقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلا أن النبوة أشرف وأجل، لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس. ألا ترى أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال. وعن الدر إلى الزبرجد، في سياق المدح، فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها، والله الموفق للصواب.

(1/636)


والتوضيح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. وقوله: الذين أسلموا للذين هادوا مناد على ذلك والربانيون والأحبار والزهاد والعلماء من ولد هارون، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود بما استحفظوا من كتاب الله بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة، أى بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل.
و (من) في: (من كتاب الله) للتبيين وكانوا عليه شهداء رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبى وعيسى للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في: (استحفظوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من الله، أى كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم «1» فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء ولا تشتروا ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه ثمنا قليلا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة فهلكوا ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون: وصف لهم بالعتو في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة. وتمردوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أن الكافرين والظالمين والفاسقين: أهل الكتاب.
__________
(1) . قوله «وادهانهم فيها» في الصحاح: المداهنة- كالمصانعة. والادهان مثله. (ع)

(1/637)


وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)

وعنه: نعم القوم أنتم، ما كان من حلو فلكم، ومن كان من مر فهو لأهل الكتاب، من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق. وعن الشعبي: هذه في أهل الإسلام، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. وعن ابن مسعود: هو عام في اليهود وغيرهم.
وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل: لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة «1» ، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا؟

[سورة المائدة (5) : آية 45]
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)
في مصحف أبى: وأنزل الله على بنى إسرائيل فيها. وفيه: وأن الجروح قصاص. والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة. تقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها.
ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: إن النفس بالنفس، بالكسر لكان صحيحا. أو للاستئناف.
والمعنى: فرضنا عليهم فيها أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وكذلك العين مفقوءة بالعين والأنف مجدوع بالأنف والأذن مصلومة بالأذن والسن مقلوعة بالسن والجروح قصاص ذات قصاص، وهو المقاصة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت فمن تصدق من أصحاب الحق به بالقصاص وعفا عنه فهو كفارة له فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر الله من سيئاته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد الله بن عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به، وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه، وفي قراءة أبى: فهو كفارة له يعنى فالمتصدق كفارته له أى الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل، كقوله تعالى: (فأجره على الله) وترغيب في العفو.

[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)
__________
(1) . قوله «والقذة بالقذة» القذة. ريشة السهم اه. (ع)

(1/638)


وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)

قفيته مثل عقبته، إذا أتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت، هو محذوف والظرف الذي هو على آثارهم كالساد مسده لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) . وقرأ الحسن: الإنجيل بفتح الهمزة فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية، كما خرج هابيل وآجر ومصدقا عطف على محل (فيه هدى) ومحله النصب على الحال وهدى وموعظة يجوز أن ينتصبا على الحال. كقوله: (مصدقا) وأن ينتصبا مفعولا لهما، كقوله: (وليحكم) كأنه قيل. وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. فإن قلت: فإن نظمت (هدى وموعظة) في سلك مصدقا، فما تصنع بقوله وليحكم قلت: أصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولا لهما، فأقدر: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه. وقرئ: وليحكم على لفظ الأمر بمعنى: وقلنا ليحكم. وروى في قراءة أبى: وأن ليحكم، بزيادة «أن» مع الأمر على أن «أن» موصولة بالأمر، كقولك: أمرته بأن قم كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل. وقيل: إن عيسى عليه السلام كان متعبدا بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) يرد ذلك، وكذلك قوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وإن ساغ لقائل أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة.

[سورة المائدة (5) : آية 48]
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)
فإن قلت: أى فرق بين التعريفين في قوله وأنزلنا إليك الكتاب وقوله لما بين يديه من الكتاب؟ قلت: الأول تعريف العهد، لأنه عنى به القرآن. والثاني تعريف الجنس، لأنه

(1/639)


وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)

غنى به جنس الكتب المنزلة: ويجوز أن يقال: هو للعهد لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن ومهيمنا ورقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. وقرئ (ومهيمنا عليه) بفتح الميم، أى هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) والذي هيمن عليه الله عز وجل أو الحفاظ في كل بلد، لو حرف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد، ولاشمأزوا رادين ومنكرين. ضمن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذلك عدى بعن كأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لكل جعلنا منكم أيها الناس شرعة شريعة. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين ومنهاجا وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه. وقيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لجعلكم أمة واحدة جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوى أمة واحدة أى دين واحد لا اختلاف فيه ولكن أراد ليبلوكم في ما آتاكم من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها مذغنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ فاستبقوا الخيرات فابتدروها وتسابقوا نحوها إلى الله مرجعكم استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فينبئكم فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل.

[سورة المائدة (5) : آية 49]
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)
فإن قلت: وأن احكم بينهم معطوف على ماذا؟ قلت: على: (الكتاب) في قوله (وأنزلنا إليك الكتاب) كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» وصلت بالأمر، لأنه فعل كسائر الأفعال: ويجوز أن يكون معطوفا على: (بالحق) أى أنزلناه بالحق وبأن احكم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك أن يضلوك عنه ويستزلوك: وذلك أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم

(1/640)


أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)

يعنى بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه. ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها «1»
أراد نفسه: وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفسا أى نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض لفاسقون المتمردون في الكفر معتدون فيه، يعنى أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر.

[سورة المائدة (5) : آية 50]
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)
أفحكم الجاهلية يبغون فيه وجهان، أحدهما: أن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى: وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك «2» فنزلت: والثاني: أن يكون تعبيرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحى من الله تعالى: وعن الحسن: هو عام في كل من يبغى غير حكم الله: والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية: وقرئ:
تبغون، بالتاء والياء: وقرأ السلمى: أفحكم الجاهلية يبغون، برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع يبغون خبرا وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في: (أهذا الذي بعث الله رسولا) وعن الصفة في: الناس رجلان: رجل أهنت، ورجل أكرمت. وعن الحال في «مررت بهند يضرب زيد» وقرأ قتادة (أفحكم الجاهلية) على أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما
__________
(1) .
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
للبيد بن ربيعة من معلقته. يقول: أنا كثير ترك الأمكنة إذا لم أرض الاقامة بها. أو يربط ويحتبس بعض النفوس، يعنى نفسه «حمامها» أى موتها المقدر لها فإذا رضيتها أو احتبسني الموت فيها فكيف أتركها؟ فقوله «يرتبط» بالجزم، عطف على المجزوم قبله. وقيل «أو» بمعنى «إلا» لكن كان حقه النصب حينئذ. ولعله سكن للضرورة. وكما أن التنوين يفيد معنى التعظيم، فكذلك كل ما فيه إبهام كالبعضية هنا، فعبر عن نفسه ببعض النفوس دلالة على التعظيم.
بل ربما ادعى أنها كل النفوس مبالغة.
(2) . لم أجده هكذا، وفي ابن أبى شيبة من طريق الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال- فذكر قصة فيها: فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «القتلى بواء» أى سواء.

(1/641)


ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (53)

يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. اللام في قوله لقوم يوقنون للبيان كاللام في: (هيت لك) أى هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (53)
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهى بقوله بعضهم أولياء بعض أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم ومن يتولهم منكم فإنه من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» «1» ومنه قول عمر رضى الله عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله «2» : وروى أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعنى هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره إن الله لا يهدي القوم الظالمين يعنى الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر «3» يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتا لهم يسارعون فيهم ينكمشون في موالاتهم
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جرير «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود- الحديث» وفيه: وقال «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: ولم؟
قال: لا تراءى ناراهما» وصله أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عنه. وأرسله غيره من أصحاب إسماعيل كعبدة بن سليمان ووكيع وهشيم ومروان وتابعه حجاج بن أرطاة عن إسماعيل موصولا. وحجاج ضعيف ورجح البخاري وغيره المرسل. وخالف الجميع حفص بن غياث فرواه عن إسماعيل عن قيس عن خالد بن الوليد أخرجه الطبراني.
(2) . أخرجه البيهقي في أدب القاضي من السنن الكبير مطولا دون ما في آخره، فلينظر.
(3) . قوله «بموالاة الكفر» لعله الكفرة. (ع)

(1/642)


ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54)

ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أى صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم. وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي موالي من يهود كثيرا عددهم، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله «1» من ولايتهم وأوالى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبى: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالى وهم يهود بنى قينقاع فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين أو أمر من عنده يقطع شأفة اليهود «2» ويجلبهم عن بلادهم، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم: وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمر، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل أو أمر من عنده: أو أن يؤمر النبى صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم. وقيل: أو أمر من عند الله لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ويقول الذين آمنوا قرئ بالنصب عطفا على أن يأتى، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ، أى: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت: وقرئ: يقول، بغير واو، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشأم كذلك على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا. فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار. وإما أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة، كما حكى الله عنهم (وإن قوتلتم لننصرنكم) . حبطت أعمالهم من جملة قول المؤمنين، أى بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبا من سوء حالهم.

[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54)
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية عطية بن سعيد العوفى قال: جاء رجل يقال له عبادة بن الصامت- فذكره مرسلا وأتم منه ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبى شيبة. وله طرق أخرى في المغازي لابن إسحاق عن أبيه عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه.
(2) . قوله «يقطع شأفة اليهود» في الصحاح «الشأفة» قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، فضرب بها المثل في الاستئصال اه باختصار. (ع)

(1/643)


وقرئ (من يرتد ومن يرتدد، وهو في الإمام بدالين، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل: بل كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول «1» . وبنو حنيفة،
__________
(1) . قوله: إن أهل الردة كانوا إحدى عشرة فرقه ثلاثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبعة على عهد أبى بكر رضى الله عنه وواحدة على عهد عمر. فالتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي. قلت: ليس قوله الأسود المذكور بنى مدلج، بل بنو مدلج قوم من بنى كنانة بن مضر إخوة قريش والأسود المذكور كان باليمن. وقومه بنو عنس- بفتح العين المهملة وسكون النون بعدها سين مهملة. قال الزمخشري كان الأسود المذكور كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي فقتله. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل. فسر المسلمون بذلك. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في آخر شهر ربيع الأول. قلت: وفي هذا الكلام من التخليط غير شيء فان قوله: استولى على بلاد اليمن وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظاهره يقتضى أن لا يبقى منهم هناك أحد وليس الأمر كذلك، بل بقي منهم على ما كان عليه جماعة منهم من المهاجرين ابن أبى أمية ومعه جميع السواحل. وكان باليمن أيضا معاذ بن جبل وغيره من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سواحل اليمن. وإنما استولى العنسي على صنعاء. وبعض البلاد الجبالية. وقد نقض الزمخشري كلامه بقوله: فانه صلى الله عليه وسلم كتب إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن. ولكن الجمع بين كلاميه: بأن مراده، إخراج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حاربهم فيكون المراد إخراج بعضهم لا جميعهم. وقوله: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، أى صبيحة إخباره بقتل الأسود. وفيه نظر وسيأتى وجهه. وقوله: في آخر شهر ربيع الأول: ليس بصحيح فانه صلى الله عليه وسلم مات في أول شهر ربيع الأول. وقيل: في ثامنه. وقيل: في ثانى عشر. وسيأتى بيان الاختلاف في وقت المجيء برأس الأسود العنسي.
وقصة الأسود العنسي قد أخرجها مطولة جميع من صنف في الردة كابن إسحاق والواقدي وسيف بن عمر.
وسيمة بن الفرات. وأخرجها الحاكم في الإكليل والبيهقي في الدلائل، قال الواقدي: اسم الأسود ذو الخمار. وقال غيره: اسمه عبهلة ولقبه ذو الخمار، لأنه كان يلقى على وجهه قناعا ويهمهم. وكان له شيطانان أحدهما سحيق والآخر بشقيق، قال الواقدي: وملك الأسود نجران وأقام بها ستة أشهر ثم خرج في ستمائة ممن تبعه إلى صنعاء فحاصر الأساورة منهم باذان. وفيروز ودادويه في آخرين. وكانوا أسلموا. وأرسلوا بإسلامهم فروة بن مسيك المرادي. فاقتتل الفريقان حتى غلب الأسود فقتل منهم طائفة. وخير طائفة بين أن يخرجوا من صنعاء إلى بلد آخر ويقيموا بها ويضرب عليهم الخراج ويصيروا عبيدا له. واصطفى الأسود المرزبانة امرأة باذان لنفسه. وكانت جميلة. وكان يشرب الخمر ويقع عليها ولا يغتسل ولا يصلى، فكرهته المرزبانة وراسلت الأساورة وفيهم فيروز، وواعدتهم البستان في الوقت الذي يسكر فيه الأسود. فدخل عليه فيروز ودادويه وقيس بن مكشوح وهو سكران. فقالت المرزبانة:
لفيروز وهو أحدثهم سنا: دونك الرجل. قال فيروز: كنت قد أنسيت سيفي من الدهش. فوقعت على الأسود فخنقته حتى حولت وجهه إلى قفاه. ثم دخل صاحباه فحزوا رأسه. واجتمع الأساورة بباب المدينة يقتلون أصحاب العنسي. فذكر تمام القصة، إنما اختصرناها. وروى النسائي من حديث عبد الله بن فيروز الديلمي عن أبيه قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم برأس الأسود العنسي» قال عبد الحق لا يصح في هذا الباب شيء. وتعقبه ابن القطان بأن إسناد النسائي صحيح. ولا يعارضه ما جاء إن الخبر بقتله إنما جاء إثر موت النبي صلى الله عليه وسلم لأن رواية النسائي ليس فيها التصريح أنه صادف النبي صلى الله عليه وسلم. نعم في رواية الطبري زيادة تدل على ذلك. [.....]

(1/644)


قوم مسيلمة «1» تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» فحاربه أبو بكر رضى الله عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشى قاتل حمزة. وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام، أراد في جاهليتى وإسلامى. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا «2» فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبى بكر رضى الله عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم
__________
(1) . قول الزمخشري: وبنو حنيفة باليمامة. ورئيسهم مسيلمة. روى الواقدي من طريق حبيب بن عمير الأنصارى قال «كان مسيلمة بن حبيب قد ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقومه يا معشر بنى حنيفة ما الذي جعل قريشا أحق بالنبوة منكم وليسوا بأكثر منكم ولا أعد، والله إن بلادكم لأوسع من بلادهم، وإن جبريل ينزل على كما ينزل على محمد وشهد له الدجال بن عنعوة أن محمدا أشرك مسيلمة في الأمر، فسألوه وشهد له. وقرأ عليهم مسيلمة قرآنا يزعمه. سبح اسم ربك الأعلى الذي يسر على الحبلى. فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشا وسلا فمنهم من يدس في الثرى ومنهم يعيش يحيى. إلى أجل ومنتهى. والله يعلم السر وأخفى. ولا يخفى عليه أمر الآخرة والأولى.
فبايعه أهل اليمامة فلما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح قدم مسيلمة في وفد بنى حنيفة، فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يشركه في الأمر، وأن يجعل له الخلافة بعده فأبى. ثم إن وفد بنى حنيفة أظهروا الإسلام. وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل جوائز الوفود ورجع مسيلمة معهم مظهرا النبوة. وشهد له الدجال بن عنعوة أن محمدا أشركه في الأمر. وتمادى مسيلمة على ضلاله. إلى خلافة أبى بكر فكثر تابعوه. فجهز إليه أبو بكر في جمع من الصحابة، فالتقوا باليمامة فاقتتلوا قتالا شديدا من طلوع الشمس إلى العصر: وكثر القتل والجراح في الفريقين ووقعت النوبة في المسلمين.
ثم تراجع المهاجرون والأنصار. فدفعوا بنى حنيفة دفعة عظيمة حتى ألجؤهم إلى حديقة فيها مسيلمة فاعتصموا بها.
وأغلقوا الباب فحاصرهم المسلمون. وقال لهم أبو دجانة ألقونى على المدينة حتى أصعد إلى أعلى الحديقة ففعلوا فهبط عليهم فقتل منهم حين فتح باب الحديقة وقتل هو وولج المسلمون الحديقة. فقتلوهم حين انتهى القتال إلى مسيلمة فطعنه عبد الله بن زيد الأنصارى. وزرقه وحشى بن حرب فاشتركا في قتله.
(2) . قوله «خالدا» في أبى السعود «أبا بكر» اه. (ع)

(1/645)


مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعرى في كتاب استغفر واستغفري:
أمت سجاح ووالاها مسيلمة ... كذابة فى بنى الدنيا وكذاب «1»
وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد، وكفى الله أمرهم على يد أبى بكر رضى الله عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضى الله عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطمة «2» وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه فسوف يأتي الله بقوم قبل لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى موسى الأشعرى فقال: «قوم هذا «3» » وقيل هم ألفان من النخع، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس «4» جاهدوا يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار. وقيل: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: «هذا وذووه» ثم قال: لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس «5» يحبهم ويحبونه محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه «6» وعقابه. ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى
__________
(1) . لأبى العلاء المصري. وأمت- بالتشديد-: صارت إماما في بنى حنيفة وادعت النبوة. ويروى بالمد والتخفيف، أى صارت أيما غير متزوجة وهي بنت المنذر. ووافاها، أى وافقها مسيلمة، فانه تزوجها وكان مدعيا للنبوة أيضا، وبعد قتله تابت وحسن إسلامها.
(2) . قوله «نصرته اللطمة» لعلها اللطيمة وهي العير التي تحمل الطيب وبز التجار، فحرر.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم والطبراني. والطبري من طريق سماك بن حرب. عن عياض الأشعرى. قال: لما نزلت هذه الآية فذكره. ورواه البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن سماك عن عياض عن أبى موسى قال تلوت عند النبي صلى الله عليه وسلم (فسوف يأتي الله بقوم) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قومك يا أبا موسى. أهل اليمن.
(4) . قوله «من أفناء الناس» في الصحاح «فناء الدار» ما امتد من جوانبها. والجمع أفنية. ويقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(5) . هكذا رواه. وهو وهم منه فان. هذا الكلام إنما ورد في آية الجمعة من طريق أبى العيث عن أبى هريرة وهو متفق عليه. وفي آية القتال رواه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه
(6) . قال محمود: «محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم. وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله، وفي مراقصهم عطلها الله، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى يوم دك الطور، فتعالى الله عنه علوا كبيرا. ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فان الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات» انتهى كلامه. قال أحمد: لا شك أن تفسير محبة العبد لله بطاعته له على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لينظر أهى ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا، إذ المحبة لغة: ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس، كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة، وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجرى مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، فليس اللذة برئاسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرئاسة على أقاليم معتبرة.
وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث، فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن. وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الايمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم. وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها.
ألا ترى إلى الأعرابى الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «ما أعددت لها» قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام «أنت مع من أحببت» فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابى نفاها وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة، فالمحبة في اللغة إذا تأكدت سميت عشقا، فمن تأكدت محبته لله تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته، فلا يمنع أن تسمي محبته عشقا إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة. وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص الحق والانتصاب لأحباء الله عز وجل من الزمخشري، فانه خلط في كلامه الغث بالسمين، فأطلق القول كما سمعته بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه، ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين به حقيقة، أن يؤاخذ الصالح بالطالح (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات الله تعالى وقضاءه وقدره وقالوا: إن الأمر أنف، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين مطلقا لأنهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد لله إلا بمعنى طاعته له لا غير، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري. وقد بينا تصور ذلك وأوضحناه. والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا، كما أن الصبى ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو شبه ذلك، وكل طائفة تسحر بمن فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال الغزالي: والمحبون لله يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون.

(1/646)


عليهم ويرضى عنهم: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق، والتغني على كراسيهم خربها الله، وفي مراقصهم عطلها الله، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دك الطور، فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها: الحب شرطه أن تلحقه

(1/647)


إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55)

سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة. فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتى الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم، أو ما أشبه ذلك أذلة جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبي عنه أن ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف «كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عز وجل: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وقرئ: أذلة. وأعزة، بالنصب على الحال ولا يخافون لومة لائم يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود- لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. وذلك إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة يؤتيه يوفق له من يشاء ممن يعلم أن له لطفا واسع كثير الفواضل والألطاف عليم بمن هو من أهلها.

[سورة المائدة (5) : آية 55]
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55)
عقب النهى عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ومعنى «إنما» وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت: قد ذكرت جماعة، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله: إنما مولاكم. فإن قلت: الذين يقيمون ما محله؟ قلت: الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على: هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح. وفيه تمييز للخلص من الذين

(1/648)


ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56) ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)

آمنوا نفاقا، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل وهم راكعون الواو فيه للحال، أى يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا. وقيل: هو حال من يؤتون الزكاة، بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وإنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه «1» ، كأنه كان مرجا «2» في خنصره، فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته. فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلى رضى الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل «3» التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها.

[سورة المائدة (5) : آية 56]
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)
فإن حزب الله من إقامة الظاهر مقام المضمر «4» . ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاما لكونهم حزب الله. وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ويحتمل أن يريد بحزب الله: الرسول والمؤمنين. ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب الله، واعتضد بمن لا يغالب.

[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)
__________
(1) . قلت: في قوله: «كأنه» إلى قوله «بمثله» من كلام صاحب الكشاف. فقد رواه ابن أبى حاتم من طريق سلمة بن كهيل قال تصدق على بخاتمه وهو راكع، فنزلت (إنما وليكم الله ورسوله) ولابن مردويه من رواية سفيان الثوري عن ابن سنان عن الضحاك. عن ابن عباس قال كان على قائما يصلى، فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت. وروى الحاكم في علوم الحديث من رواية عيسى بن عبد الله بن عمر بن على. حدثنا أبى عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب قال نزلت هذه الآية. إنما وليكم الله ورسوله. الآية فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد والناس يصلون، بين قائم وراكع وساجد. وإذا سائل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاك أحد شيئا. قال لا إلا هذا الراكع يعنى عليا. أعطانى خاتمه. رواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن على الصائغ وعند ابن مردويه من حديث عمار بن ياسر قال: وقف بعلى سائل وهو واقف في صلاته. الحديث. وفي إسناده خالد بن يزيد العمرى. وهو متروك. ورواه الثعلبي من حديث أبى ذر مطولا وإسناده ساقط.
(2) . قوله «كأنه كان مرجا» أى قلقا غير ثابت. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «لا يقبل» لعله «لا يفعل» . (ع)
(4) . قال محمود: «هذا من إقامة الطاهر مقام المضمر ومعناه ... الخ» قال أحمد: ومقابله قوله تعالى: (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) فوضع الظالمين موضع ضمير الأول ليزيدهم سمة الظلم إلى الخسران.

(1/649)


قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)

روى أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فنزلت. يعنى أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة. وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار- وإن كان اهل الكتاب من الكفار- إطلاقا للكفار على المشركين خاصة. والدليل عليه قراءة عبد الله: ومن الذين أشركوا. وقرئ: والكفار بالنصب والجر. وتعضد قراءة الجر قراءة أبى:
ومن الكفار واتقوا الله في موالاة الكفار وغيرها إن كنتم مؤمنين حقا لأن الإيمان حقا يأبى موالاة أعداء الدين اتخذوها الضمير للصلاة أو للمناداة. قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول «أشهد أن محمدا رسول الله» قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو «1» وأهله. وقيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده لا يعقلون لأن لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم.

[سورة المائدة (5) : آية 59]
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)
قرأ الحسن. هل تنقمون بفتح القاف. والفصيح كسرها. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها وأن أكثركم فاسقون. فإن قلت: علام عطف قوله وأن أكثركم فاسقون؟ قلت: فيه وجوه: منها أن يعطف على أن آمنا، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى في قوله، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، قال:
كان رجل من النصارى ... فذكره.

(1/650)


قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60) وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61)

فاسقون. ويجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات. ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا.

[سورة المائدة (5) : الآيات 60 الى 61]
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60) وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61)
وروى أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟
فقال «أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله: ونحن له مسلمون» فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام: ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم «1» . فنزلت.
وعن نعيم بن ميسرة: وإن أكثركم، بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وأن أكثركم) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون، أى: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف، أى وفسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا ذلك إشارة إلى المنقوم، ولا بد من حذف مضاف قبله، أو قبل «من» تقديره: بشر من أهل ذلك، أو دين من لعنه الله. ومن لعنه الله في محل الرفع على قولك: هو من لعنه الله، كقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار) أو في محل الجر على البدل من شر. وقرئ: مثوبة. ومثوبة. ومثالهما: مشورة، ومسورة. فإن قلت:
المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع «2»
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب. والوسط عن ابن عباس بهذا وأخرجه الطبري من رواية ابن إسحاق حدثني محمد بن أبى محمد، مولى زيد بن ثابت. حدثني سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود وفيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبى رافع. وعازر وآزار ابني آزار.
وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر نحوه. وفيه فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته. وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به. [.....]
(2) . مر شرح هذا الشاهد ص 60 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.

(1/651)


ومنه (فبشرهم بعذاب أليم) . فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم «1» في العقوبة؟ قلت: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم وعبد الطاغوت عطف على صلة «2» «من» كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. وفي قراءة أبى وعبدوا الطاغوت، على المعنى. وعن ابن مسعود: ومن عبدوا. وقرئ وعابد الطاغوت، عطفا على القردة. وعابدى. وعباد. وعبد. وعبد. ومعناه: الغلو في العبودية، كقولهم، رجل حذر وفطن، للبليغ في الحذر والفطنة. قال:
أبنى لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكمو عبد «3»
وعبد، بوزن حطم. وعبيد. وعبد- بضمتين- جمع عبيد: وعبدة بوزن كفرة. وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة. أو هو كخدم في جمع خادم. وعبد «4» وعباد. وأعبد.
وعبد الطاغوت، على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى: وعبد الطاغوت فيهم، أو بينهم.
وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبودا من دون الله، كقولك «أمر» إذا صار أميرا.
وعبد الطاغوت، بالجر عطفا على: (من لعنه الله) . فإن قلت: كيف جاز أن يجعل الله منهم
__________
(1) . (قوله فلم شورك بينهم) لعله بينهما، أو بينهم وبين المسلمين. (ع)
(2) . قال محمود: «وعبد الطاغوت عطف عل صلة من ... الخ» قال أحمد رحمه الله: السؤال يلزم القدرية لأنهم يزعمون أن الله تعالى إنما أراد منهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن عبادتهم للطاغوت قبيحة والله تعالى لا يريد القبائح بل تقع في الوجود على خلاف مشيئته، فلذلك يضطر الزمخشري إلى تأويل الجعل بالخذلان أو بالحكم، وكذلك أول قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) بمعنى حكمنا عليهم بذلك. هذا مقتضى قاعدة القدرية. وأما على عقيدة أهل السنة الموحدين حقا، فالآية على ظاهرها، والله تعالى هو الذي أشقاهم وخلق في قلوبهم طاعة الطاغوت وعبادته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا روجع القدري في تحقيق الخذلان أو الحكم الذي يستروح إلى التأويل به، لم يقدر منه على حقيقة، ولم يفسره بغير الخلق إن اعترف بالحق وترك ارتكاب المراء، والتذبذب مع الأهواء، والله ولى التوفيق.
(3) .
أبنى لبينى لست معترفا ... ليكون ألأم منكم أحد
أبنى لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
لأوس بن حجر. وقيل لطرفة بن العبد، والهمزة للنداء، والعبد كالحذر البليغ في العبودية. ورواه الفراء بالضم، لكن قال: إن ضم الباء ضرورة. وقال السيوطي: إنه بالضم اسم جمع لعبد بالسكون، لكن ظاهر البيت يخالفه. يقول: يا بنى لبينى، لست معترفا لأن يكون أحد أشد لؤما منكم، فان أبويكم رقيقين. وتخصيص الأمة بالرقيقة والعبد بالرقيق: عرف شائع في اللغة. وأداهم نداء الغريب، لأنه أغيظ للمواجهة بالذم. وكرر النداء مع هذه الاضافة للاستخفاف بهم.
(4) . قوله «وعبد» لعله بفتح العين وضم الباء كندس. أفاده الصحاح. (ع)

(1/652)


وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63)

عباد الطاغوت؟ «1» قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوه. والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به، كقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) وقيل الطاغوت: العجل لأنه معبود من دون الله، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه:
أطاعوا الكهنة، وكل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده. وقرأ الحسن: الطواغيت.
وقيل: وجعل منهم القردة أصحاب السبت، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير. وروى أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم أولئك الملعونون الممسوخون شر مكانا جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز.
نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك. وقوله: (بالكفر) و (به) حالان، أى دخلوا كافرين «2» وخرجوا كافرين. وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وقد دخلوا) (وهم قد خرجوا) ولذلك دخلت (قد) تقريبا للماضي من الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعا لإظهار الله ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالوا آمنا) أى قالوا ذلك وهذه حالهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 62 الى 63]
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63)
الإثم الكذب «3» بدليل قوله تعالى: (عن قولهم الإثم) . والعدوان الظلم. وقيل: الإثم
__________
(1) . قوله «فان قلت كيف جاز أن يجعل ... الخ» السؤال مبنى على أنه لا يجوز عليه تعالى خلق الشر. وهو مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فيجوز كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «المجروران حالان أى دخلوا كافرين ... الخ» قال أحمد: وفي تصدير الجملة الثانية بالضمير تأكيد لاتحاد حالهم في الكفر، أى وقد دخلوا بالكفر وخرجوا وهم أولئك على حالهم في الكفر، كما تقول:
لقيت زيدا بعد عوده من سفره وهو هو، أى على حاله. وفي المثل «وعبد الحميد عبد الحميد» أى حالته باقية، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «الإثم الكذب ... الخ» قال أحمد: وقوله: (عن قولهم الإثم) يدل على أن الإثم الأول مقول، فيحتمل أن يكون المراد الكذب مطلقا. ويحتمل أن يراد كلمة الشرك، واستدلال الزمخشري على أن المراد الكذب لا يتم، وإنما يدل على أنه مقول فيحتمل الأمرين، والله أعلم.

(1/653)


وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)

كلمة الشرك. وقولهم عزيز ابن الله. وقيل: الإثم: ما يختص بهم. والعدوان: ما يتعداهم إلى غيرهم.
والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة لبئس ما كانوا يصنعون كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير «1» لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقذ السامع «2» وينعى على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.

[سورة المائدة (5) : آية 64]
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود «3» ومنه قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل ... الخ» قال أحمد: يعنى أنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: (لبئس ما كانوا يعملون) وعبر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: (لبئس ما كانوا يصنعون) كان هذا الذم أشد، لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم. وهذا مراده والله أعلم.
(2) . قوله «مما يقذ السامع» يعنى يخففه وينشطه. وهذا إن كان مشدد الذال من القذ. أو يضربه حتى يسترخى ويشرف على الموت. وهذا إن كان مخففا من الوقد. (ع)
(3) . قال محمود: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ... الخ» قال أحمد: والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن فلما كان الجود وللبخل معنيين لا يدركان بالحس ويلازمهما صورتان تدركان بالحس وهو بسط اليد للجود وقبضها للبخل، عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات، والله أعلم.

(1/654)


وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين «1» للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده «2»
ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله:
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها «3»
ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان.
ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم يد الله مغلولة عبارة عن البخل «4» . فما تصنع بقوله غلت أيديهم؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر:
__________
(1) . قوله «وقعتا متعاقبتين» لعله «معاقبتين» . (ع)
(2) . جاد الحمى أى أمطر فيه وبسط اليدين فاعل وأصله مصدر أريد به المنبسط ضد المنقبض ويروى سبط بتقديم السين صفة مشبهة كضخم وهو بمعنى المسترسل المنبسط كناية عن الكريم كما أن منقبض اليدين كناية عن البخيل فشبه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية وإثبات اليدين تخييل. والتلعة: الأرض المرتفعة. والوهدة: الأرض المنخفضة. وشبه أعالى الحمى وأسافله بطلاب الرزق وشكرها تخييل والندى بمعنى العطاء ترشيح للأولى. ويجوز أنه حقيقة لا بمعنى العطاء ويجوز أن الشكر تخييل للأولى أيضا. يقول: أمطر السحاب أرض الحما بمصر كثير فأنبتت وأزهرت. وهذا معنى شكرها. ويجوز أن التلاع والوهاد مجار عن أهلهما النازلين فيهما.
(3) .
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
للبيد، من المعلقة. يقول: ورب غداة ريح قد كشفتها أى كشفت غمتها عن الناس. ويروى «قد وزعت» أى كففتها ومنعتها. ورب غداة قرة، بالكسر والضم أى شدة برد كشفت بردها أيضا. والكشف خاص بالمحسوس فاستعير للمعقول من غمة الجوع والبرد على طريق التصريح. ويجوز أن إزالة الريح والبرد عن الناس كناية عن إدخالهم بيته لاكرامهم. وشبه الغداة بمطية لها زمام. أو شبه القرة بذلك. وشبه الشمال- وهي نوع من الريح- بقائد يقود تلك المطية على طريق المكنية، والزمام تخييل للأولى، واليد للثانية. وليس بلازم أن يكون للمشبه شيء حقيقى يشبه ما للمشبه به على المختار كاليد والزمام هنا. والمعنى أن الشمال تارة تجعل الغداة مغبرة باردة، وتارة لا. أو تارة نثير الغبار والبرد في جهة، وتارة في أخرى. [.....]
(4) . عاد كلامه. قال: «فان قلت قد صح أن قولهم يد الله مغلولة عبارة عن البخل ... الخ» قال أحمد: لقد نقص فضيلته التي أوردها في هذا الفصل بما ضمنه هذا السؤال والجواب من القاعدة الفاسدة في أن الله تعالى يستحيل عليه أن يريد من عباده شيئا مما نعاه عليهم، وبنى على ذلك استحالة أن يدعو عليهم بالبخل لأنه لم يرده منهم، ويستحيل أن يريده منهم فوجه هذا النص بالتأويل والتمسك بالأباطيل. والحق أن الله يدعو عليهم بالبخل ودعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فهو الداعي والخالق، لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) فليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فانه فيه أفرس الفرسان، لا يجارى في ميدانه ولا يماري في بيانه.

(1/655)


بقيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس «1»
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب الله دابره، أى قطعه لأن السب أصله القطع. فإن قلت: كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) وهي مفردة في: (يد الله مغلولة) «2» ؟ قلت: ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أن غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعا فبنى المجاز على ذلك. وقرئ (ولعنوا) بسكون العين. وفي مصحف عبد الله: بل يداه بسطان.
يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح «3» وناقة صرح ينفق كيف يشاء تأكيد
__________
(1) .
بقيت وفرى وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
للأشتر النخعي. والبيت الأول في صورة الخبر. والمراد به إنشاء للدعاء على نفسه بالبخل. ويجوز أنه من باب التعليق بالممتنع، والوفر المال الكثير ويروى بقيت وحدي أى فنيت عشيرتي أو بعدت عنها والانحراف التباعد عن حرف الشيء المحسوس كما أن العلى خاص بالمحسوسات، فيجوز أنه استعار الانحراف للاعراض والعدول على طريق التصريحية والعلى ترشيح. ويحتمل أنه استعار العلى للمكارم والانحراف ترشيح. وقوله بوجه عبوس: أى رجل عبوس، ففيه معنى التجريد إن لم أشن بالضم شرط دل ما قبله على جوابه، أى إن لم أفوق حربا على ابن حرب معاوية بن صخر بن حرب، بحيث تأتيه من كل فج. ويروى «على ابن هند» ولم تخل صفة غارة، ونهاب النفوس أخذ الأرواح بالقتل أو أسر الذوات. ويروى «ذهاب نفوس» أى فنائها. وفي الكلام الادماج، حيث ضمن تهديد معاوية مدح نفسه بالكرم، حتى أن البخل عنده من أكبر المصائب وأشد العار، حتى علقه بالممتنع فأفاد امتناعه.
(2) . عاد كلامه. قال: فان قلت: لم ثنيت اليد في: (يداه مبسوطتان) وهي مفردة في قولهم (يد الله) ... الخ» قال أحمد: ولما كان المعهود في العطاء أن يكون بإحدى اليدين وهي اليمين، وكان الغالب على اليهود- لعنت- اعتقاد الجسمية، جاءت عبارتهم عن اليد الواحدة المألوف منها العطاء فبين الله تعالى كذبهم في الأمرين في نسبة البخل وفي إضافته إلى الواحدة، تنزيلا منهم على اعتقاد الجسمية، بأن ينسب إلى ذاته صفة الكرم المعبر عنها بالبسط، وبأن أضافه إلى اليدين جميعا لأن كلتا يديه يمين، كما ورد في الحديث تنبيها على نفى الجسمية، إذ لو كانت ثابتة جل الله عنها لكانت إحدى اليدين يمينا والأخرى شمالا ضرورة. فلما أثبت أن كلتيهما يمين نفى الجسمية وأضاف الكرم إليهما، لا كما يضاف في الشاهد إلى اليد اليمنى خاصة، إذ الأخرى شمال وليست محلا للتكريم، والله أعلم.
(3) . قوله «شحح» في الصحاح «الشحشحة» الطيران السريع. و «قطاة شحشح» أى سريعة اه فلعل الشحح مثله وفيه أيضا «الصرح» بالتحريك: الخالص من كل شيء. (ع)

(1/656)


ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)

للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء:
يد الله مغلولة، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه وليزيدن أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفرا بآيات الله وألقينا بينهم العداوة فكلمهم أبدا مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كلما أوقدوا نارا كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل:
خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومى، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى الله عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس ويسعون ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)
ولو أن أهل الكتاب مع ما عددنا من سيئاتهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان لكفرنا عنهم تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى «1»
__________
(1) . قال محمود: «فيه دليل على أن الايمان لا ينجى ... الخ» قال أحمد: وهو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلا على قاعدته في أن مجرد الايمان لا ينجى من الخلود في النار حتى ينضاف إليه التقوى، لأن الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطا للتفكير ولادخال الجنة. وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة، وأنى له ذلك والإجماع والاتفاق من الفريقين أهل السنة والمعتزلة على أن مجرد الايمان يجب ما قبله ويمحوه، كما ورد النص فلو فرضنا موت الداخل في الايمان عقيب دخوله فيه، لكان كيوم ولدته أمه باتفاق مكفر الخطايا محكوما له بالجنة، فدل ذلك على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط. هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال.
وإن كانت التقوى على أصل موضعها الخوف من الله عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر.
وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض. وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى أو سرق» كررها النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، ثم قال: وإن رغم أنف أبى ذر، لما راجعه رضى الله عنه في ذلك. ونحن نقول. وإن رغم أنف القدرية.

(1/657)


ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)

ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليهم من سائر كتب الله، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن. لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه: أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل «1» منها من رؤس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة طائفة حالها أمم «2» في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى، وساء ما يعملون فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.

[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)
بلغ ما أنزل إليك جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحدا «3» ، ولا خائف أن ينالك مكروه وإن لم تفعل وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك
__________
(1) . قوله «ما تهدل» أى استرخى وتدلى. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أمم» أى يسير. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه بلغ غير مراقب في التبليغ أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه. (وإن لم تفعل) معناه:
وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك فما بلغت رسالته، فلم تبلغ إذا ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئا قط. وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من البعض، فكأنك أغفلت أداءها جميعها، كما أن من يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لادلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم الشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن، إلى أن قال: «فان قلت وقوع قوله: (فما بلغت رسالته) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم تمثل ... الخ» قال أحمد: وهذا الاتحاد بين الشرط والجزاء ظاهر لأن حاصله إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة، باتحاد المبتدأ والخبر، حتى لا يزيد الخبر عليه شيئا في الظاهر كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
فجعل الخبر عن المبتدإ بلا مزيد في اللفظ، وأراد: وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أفهم بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين، لاشتهاره بها، وأنه غنى عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله (وإن لم تفعل) ولم يقل وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة، حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية وإن كان المعنى واحدا أحسن رونقا وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدإ بلفظ الخير، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحته المعجز فلا يعاب عليه في ذلك، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان، والله الموفق.

(1/658)


فما بلغت رسالته وقرئ: رسالاته، فلم تبلغ إذا ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه «1» غيرها. وكونها كذلك «2» في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن به. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا، فأوحى الله إلى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت «3» . فإن قلت: وقوع قوله فما بلغت رسالته جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمرا شنيعا لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: (فكأنما قتل الناس جميعا) والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى الله إلى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» والله يعصمك عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته «4» صلوات الله عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله إن الله لا يهدي القوم الكافرين
__________
(1) . قوله «بما يدليه» لعله: يدلى به. (ع)
(2) . قوله «وكونها كذلك» لعله «لذلك» . (ع)
(3) . أخرجه إسحاق في مسنده. أخبرنا كلثوم بن محمد بن أبى سدرة، حدثنا عطاء الخراساني عن أبى هريرة ولم يذكر وضمن لي العصمة فقويت وذكره الواحدي في الوسيط والأسباب عن الحسن بغير سند.
(4) . متفق عليه من حديث سهل. وقد تقدم في تفسير آل عمران،

(1/659)


قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)

ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمنى الله من الناس «1» .

[سورة المائدة (5) : آية 68]
قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)
لستم على شيء أى على دين يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء فلا تأس فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.

[سورة المائدة (5) : آية 69]
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)
والصابئون رفع على الابتداء وخبره «2» محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهدا له:
__________
(1) . لم أجده من حديث أنس، وقد أخرجه الترمذي من رواية أبى قدامة الحارث بن عبيد عن سعيد الحريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة. وقال غريب. ورواه بعضهم عن الحريري مرسلا ليس فيه عائشة. ورواه موصولا الطبري من رواية ابن علية عن الحريري ولكنه رواه من رواية وهب عن الحريري.
(2) . قال محمود: «فيه الصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف ... الخ» قال أحمد: صدق، لا ورود للسؤال بهذا التوجيه، ولكن ثم سؤال متوجه، وهو أن يقال: لو عطف الصابئين ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى، ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا والعطف إفرادى، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين، وهل يمتاز بفائدة على النصب والعطف الافرادى؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه عطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف، لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الافرادى وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا، والصابئون كذلك فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها وهو بهذه المثابة، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا، مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر. وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدإ المحذوف الخبر بين الجزئين، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضى الكلام وتمامه، والله أعلم. [.....]

(1/660)


وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا فى شقاق «1»
أى فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فان قلت لم لا يصح والنية به التأخير، فكأنك قلت: إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأنى إذا رفعته رفعته عطفا على محل إن واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها «إن» في عملها، فلو رفعت الصابئون المنوى به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأن، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فان قلت: فقوله والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله: (إن الذين آمنوا) الخ ... ولا محل لها، كما لا محل للتي عطفت عليها، فان قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤا عن الأديان كلها، أى خرجوا، كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل في الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو «بغاة» لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أو غل فيه منهم وأثبت قدما فان قلت: فلو قيل والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلا. قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم في شيء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال مقدم ومؤخر للمزال لا للقار في مكانه.
ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام. فان قلت: كيف قال: (الذين آمنوا) ثم قال: (من آمن) ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه. فان قلت: ما محل من آمن
__________
(1) .
إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
لبشر بن أبى خازم الأسدى، يخاطب بنى طيئ ويتوعدهم بما صنعوا بآل بدر حلفاء بنى أسد. والباصية: مقدم شعر الرأس: وجز النواصي حقيقة، على عادتهم من جز ناصية الأسير إذا أرادوا إطلاقه، فطالبهم بمقتضاها وقال:
فأدوها، أى الأسرى التي جزت نواصبها. أو أدوا النواصي نفسها. ويجوز أنه مجاز عن قتل كبرائهم. وقوله «فأدوها» أى دماء القتلى وأسرى عطف على الضمير المفعول. وإلا، أى وإن لا تفعلوا فاعلموا أنا وأنتم بغاة.
وبغاة: خبر إنا. وخبر أنتم محذوف، أى بغاة أيضا. ولم يجعل المذكور خبرا عنه أيضا، لأنه ليس عطفا على اسم إن، وإلا لقال: إنا وإياكم، بل هو من عطف الجمل. ولا يقال فيه العطف على الجملة قبل تمامها، لا نقول:
سمع العطف قبل المعطوف عليه بالكلية في قوله: عليك ورحمة الله السلام. و «في شقاق» خبر ثان، أى في خلاف ما بقينا، أى مدة بقائنا، يعنى وأنتم تعلمون بأسنا في الحرب.

(1/661)


لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70)

قلت: إما الرفع على الابتداء وخبره فلا خوف عليهم والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه. فان قلت: فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت: هو محذوف تقديره من آمن منهم، كما جاء في موضع آخر. وقرئ: والصابيون، بياء صريحة، وهو من تخفيف الهمزة، كقراءة من قرأ:
يستهزيون. والصابون. وهو من صبوت، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبى رضى الله عنه: والصابئين، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير. وقرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.

[سورة المائدة (5) : آية 70]
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70)
لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وأرسلنا إليهم رسلا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كلما جاءهم رسول جملة شرطية وقعت صفة لرسلا، والراجع محذوف أى رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع. فإن قلت: أين جواب الشرط «1» فإن قوله: (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخى أخاك أكرمت؟ قلت:
هو محذوف يدل عليه قوله: (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه، وقوله: (فريقا كذبوا) جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا «2» وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أين جواب الشرط ... الخ» قال أحمد: ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه قوله تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) فأوقع قوله: (استكبرتم) جوابا، ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. ولو قدر الزمخشري هاهنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى لدلالة مثله عليه.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جيء بأحد الفعلين ماضيا ... الخ» قال أحمد: أو يكون حالا على حقيقته لأنهم داروا حول قتل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في البقرة.
وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي وتمثيله بقوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) فعدل عن فأصبحت إلى فتصبح، تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع. ومنه:
بأنى قد لقيت الغول يسعى ... بسبب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربها فخرت ... صريعا لليدين وللجران
وأمثاله كثيرة والله أعلم.

(1/662)


وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (71) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)

الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. قرئ: أن لا يكون، بالنصب على الظاهر. وبالرفع على «أن» هي المخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يكون فتنة فخففت «أن» وحذف ضمير الشأن.

[سورة المائدة (5) : آية 71]
وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون (71)
فإن قلت: كيف دخل فعل الحسبان على «أن» التي للتحقيق؟ قلت: نزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم: فإن قلت: فأين مفعولا حسب؟ قلت: سد ما يشتمل عليه صلة أن وأن من المسند والمسند إليه مسد المفعولين، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من الله فتنة، أى بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة فعموا عن الدين وصموا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عن عبادة العجل ف تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله وهو «1» الرؤية. وقرئ: عموا وصموا، بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم، أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: تركته إذا ضربته بالنيزك «2» وركبته إذا ضربته بركبتك كثير منهم بدل من الضمير: أو على قولهم: أكلونى البراغيث، أو هو خبر مبتدإ محذوف أى أولئك كثير منهم.

[سورة المائدة (5) : آية 72]
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى إنه من يشرك بالله في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله فقد حرم الله عليه الجنة التي هي دار الموحدين أى حرمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرم من المحرم عليه وما للظالمين من أنصار من كلام الله على أنهم ظلموا «3» وعدلوا
__________
(1) . قوله «وهو الرؤية» أحالها مذهب المعتزلة، وأجازها أهل السنة كما حقق في محله. (ع)
(2) . قوله «إذا ضربته بالنيزك» هو الرمح القصير، وهو فارسى معرب، أصله نيزه، فأبدلت الهاء كافا. كذا بهامش، وأصله في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «على أنهم ظلموا» لعله على معنى أنهم. (ع)

(1/663)


لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)

عن سبيل الحق فيما يقولوا على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم رده وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام، على معنى: ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول. أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.

[سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 75]
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)
من في قوله وما من إله إلا إله واحد للاستغراق وهي القدرة مع «لا» التي لنفى الجنس في قولك (لا إله إلا الله) والمعنى: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى له، وهو الله وحده لا شريك له: و «من» في قوله ليمسن الذين كفروا منهم للبيان كالتي في قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) فإن قلت: فهلا قيل (ليمسنكم منا عذاب أليم) . قلت في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: (لقد كفر الذين قالوا) وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير والذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.
والمعنى: ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة عذاب أليم أى نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض، على معنى: ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم، لأن كثيرا منهم تابوا من النصرانية أفلا يتوبون ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر. وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم والله غفور رحيم يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم قد خلت من قبله الرسل صفة لرسول، أى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى «1» . وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى
__________
(1) . قوله «وطمس على يد موسى» لعله وطمس على أموال فرعون وقومه على يد ... الخ. (ع)

(1/664)


قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)

وأمه صديقة أى وما أمه أيضا إلا كصديقة كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبى، والآخر صحابى. فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه. ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله كانا يأكلان الطعام لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم «1» وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام كيف نبين لهم الآيات أى الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم أنى يؤفكون كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله. فإن قلت:
ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ «2» قلت: معناه ما بين العجبين، يعنى أنه بين لهم الآيات بيانا عجيبا، وأن إعراضهم عنها أعجب منه.

[سورة المائدة (5) : آية 76]
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76)
ما لا يملك هو عيسى، أى شيئا لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئا. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا.
وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته والله هو السميع العليم متعلق ب أتعبدون، أى أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر.

[سورة المائدة (5) : آية 77]
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)
__________
(1) . قوله «وقرم» في الصحاح «القرم» بالتحريك: شدة شهوة اللحم. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت ما معنى التراخي في قوله ثم انظر ... الخ» قال أحمد: ومنه (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) وقوله: (فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) وهي في سائر هذه المواضع منقولة من التراخي الزمانى إلى التراخي المعنوي في المراتب.

(1/665)


لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)

غير الحق صفة للمصدر أى لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق «1» أى غلوا باطلا لأن الغلو في الدين غلو ان غلو حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم. وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
نزل الله لعنهم في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقيل إن أهل أيلة، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير
__________
(1) . قال محمود: «معناه لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا ... الخ» قال أحمد: يعنى بأهل العدل والتوحيد المعتزلة، ويعنى بغلوهم الذي هو حق عنده أنهم غلوا في التوحيد فجحدوا الصفات الالهية، وغلوا في التعديل فنفوا أكثر الأفعال بل كلها عن أن تكون مخلوقة لله تعالى لانطوائها في مفاسد ولأن الله تعالى يعاقب على ما هو قبيح منها، والعدل عندهم أن لا يعاقب على فعل خلقه فهذا غلوهم في التعديل، وهو كما ترى أنه كاسد عن التوحيد لأنهم جعلوا كل مخلوق من الحيوانات خالقا، فالنصارى غلوا فأشركوا ثلاثة، والمعتزلة كما رأيت أشركوا كل أحد بل غير الآدميين في الخلق الذي هو خاص بالرب. ويعنى الزمخشري بأهل البدع والأهواء من عدا الطائفة المذكورة، ويعنى بغلوهم الباطل إثبات الصفات لله تعالى وتوحيده على الحق، حتى لا خالق سواه ولا مخلوق إلا بقدرته، وقد ترضى عن شيعته وإخوانه وسكت عن ذكر من عداهم، ونحن نقول: اللهم ارض عمن هو أحق الطوائف برضاك، وهذه دعوة أيضا بلا خلاف، والله الموفق.

(1/666)


وكانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم امرأة ولا صبى ذلك بما عصوا أى لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ، إلا لأجل المعصية والاعتداء، لا لشيء آخر، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله كانوا لا يتناهون لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر فعلوه ثم قال لبئس ما كانوا يفعلون للتعجيب من سوء فعلهم، مؤكدا لذلك بالقسم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فان قلت: كيف وقع ترك التناهى عن المنكر «1» تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهى، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأن في التناهى حسبما للفساد فكان تركه على عكسه. فإن قلت: ما معنى وصف المنكر بفعلوه، ولا يكون النهى بعد الفعل؟
قلت: معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه ترى كثيرا منهم هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم أن سخط الله عليهم هو المخصوص بالذم، ومحله الرفع، كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم. والمعنى: موجب سخط الله. ولو كانوا يؤمنون إيمانا خالصا غير نفاق ما اتخذوا المشركين أولياء يعنى أن موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأن إيمانهم ليس بإيمان ولكن كثيرا منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف وقع ترك التناهي ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا التوبيخ الاخبار بأمرين قبيحين، أحدهما: بأنهم كانوا يفعلون المناكر، والآخر: أنهم كانوا تاركين للنهى عنها، أى عن أمثالها في المستقبل ولولا زيادة (فعلوه) لما صرح بوقوعها منهم، ولكان المصرح به ترك النهى عن المنكر عند استحقاق النهى، وذلك حين الاشراف على تعاطيه وظهور الأمارات الدالة عليه، فانتظم ثبوت الأمرين جميعا على أخصر وجه وأبلغه وقد دلت هذه الآية على المذهب الصحيح الأشعرى، من أن متعلق النهي فعل وهو الترك، خلافا لأبى هاشم المعتزلي في قوله «إن متعلقه نفى محض وعدم صرف، ووجه دلالة الآية على أن متعلقه فعل أنه عبر عن ترك التناهى الذي وقع توبيخهم عليه بالفعل، حيث قال: (لبئس ما كانوا يفعلون) أى لبئس الترك للتناهي فعلا، كما تقول: زيد بئس الرجل، فتجعل الرجل واقعا على زيد. وقد سمى تركهم للنهى عن المنكر في الآية السالفة قبل هذه صنعا، فقال: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) إلى قوله: (لبئس ما كانوا يصنعون) وذلك أبلغ في الدلالة على أن متعلق النهى أمر ثابت، إذ الصنع أمكن من الفعل في الدلالة على الإثبات، وقد مر هذا التقرير، والله الموفق.

(1/667)


لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86)

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86)
وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق «1» ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) ولعمري إنهم لكذلك وأشد. وعن النبى صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» «2» وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهبانا أى علماء وعبادا وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أن التعلم أنفع
__________
(1) . قال محمود: «وصف الله تعالى شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم ... الخ» قال أحمد: وإنما قال (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى، تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم (ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) . فقابلوا ذلك بأن قالوا (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) والنصارى قالوا (نحن أنصار الله) ومن ثم سموا نصارى، وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به) فأسند ذلك إلى قولهم، والاشارة به إلى قولهم (نحن أنصار الله) لكنه هاهنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق، ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله، وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود، لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالرد مكافحة اليهود، بل قالوا (نحن أنصار الله) واليهود قالت (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) فهذا سره والله أعلم.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء من رواية يحيى بن عبيد الله عن أبيه. عن أبى هريرة وفي رواية ابن حبان «يهودى» على الافراد.

(1/668)


شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشى رضى الله عنه أنه قال لجعفر بن أبى طالب- حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده-: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: (ذلك عيسى ابن مريم) وقرأ سورة طه إلى قوله: (وهل أتاك حديث موسى) فبكى النجاشي «1» وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس، فبكرا. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله للذين آمنوا؟ قلت: بعداوة ومودة، على أن عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشد العداوات وأظهرها، وأن مودة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودات، وأدناها وجودا، وأسهلها حصولا. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودة بالأشد والأقرب. فإن قلت: ما معنى قوله: (تفيض من الدمع) «2» قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة
__________
(1) . لم أجده قلت أظن صاحب الكشاف ذكره بالمعنى من قصة جعفر بن أبى طالب مع عمرو بن العاص لما أرسلته قريش بهديتها إلى النجاشي ليدفع إليهم جعفرا ورفقاءه فان معنى ما ذكر موجودا فيها إلا قراءة طه. أخرجه ابن إسحاق في المغازي. من طريق ابن حبان من حديث أم سلمة. وقوله: وكذلك فعل قومه أى النجاشي الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم سبعون رجلا حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة يس: الطبري من رواية قيس بن الربيع. عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا. قال نعم رسل النجاشي الذين أرسلت وإسلام قومهم وكانوا سبعين رجلا فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم يس. فبكوا وعرفوا الحق. فنزلت ونزل فيهم أيضا (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن قيس. [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «إن قلت ما معنى قوله: (ترى أعينهم تفيض من الدمع ... ) الخ» قال أحمد: وهذه العبارة من أبلغ العبارات، وأنهاها وهي ثلاث مراتب، فالأولى: فاض دمع عينه، وهذا هو الأصل. والثانية:
محولة من هذه. وهي قول القائل: فاضت عينه دمعا حولت الفعل إلى العين مجازا ومبالغة، ثم نبهت على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز. والثالثة: فيها هذا التحويل المذكور، وهي الواردة في الآية، إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح المنبهة على الأصل وعدم نصب التمييز، وإبرازه في صورة التعليل والله أعلم. وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز لأن التمييز في مثله قد استقر كونه فاعلا في الأصل في مثل:
تصبب زيد عرقا، وتفقأ عمرو شحما، واشتعل الرأس شيبا، وتفجرت الأرض عيونا. فإذا قلت: فاضت عينه دمعا، فهم هذا الأصل في العادة في أمثاله. وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك. ألا تراك تقول: فاضت عينه من ذكر الله كما تقول فاضت عينه من الدمع، فلا يفهم التعليل ما يفهم التمييز والله الموفق.

(1/669)


ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)

المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أى تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا فإن قلت: أى فرق بين من ومن في قوله مما عرفوا من الحق؟ قلت الأولى لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه. والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا. وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ (ترى أعينهم) على البناء للمفعول ربنا آمنا المراد به إنشاء الإيمان، والدخول فيه فاكتبنا مع الشاهدين مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة (لتكونوا شهداء على الناس) وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك وما لنا لا نؤمن بالله إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين: وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. أو أرادوا: وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين، وذلك ليس بإيمان بالله: ومحل (لا نؤمن) النصب على الحال، بمعنى: غير مؤمنين، كقولك مالك قائما. والواو في ونطمع واو الحال. فإن قلت: ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أى شيء حصل لنا غير مؤمنين: وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيدا بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا ونطمع، لم يكن كلاما. ويجوز أن يكون (ونطمع) حالا من لا نؤمن، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفا على لا نؤمن على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. قرأ الحسن: فآتاهم الله بما قالوا بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أى اعتقاده وما يذهب إليه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)
طيبات ما أحل الله لكم ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى لا تحرموا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا

(1/670)


منكم وتقشفا «1» وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوما لأصحابه، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح «2» ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنى لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتى النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى «3» ونزلت. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ، وكان يعجبه الحلواء والعسل. وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة «4» » وعن ابن مسعود أن رجلا قال له: إنى حرمت الفراش فتلا هذه
__________
(1) . قوله «تقشفا» وفي الصحاح «قشف» بالكسر: قشفا، إذا لوحته الشمس أو الفقر فتغير. والمتقشف:
الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع. (ع)
(2) . قوله «ويلبسوا المسوح» المسوح: أكسية غلاظ تعمل منها الغرائر للتبن. أفاده الصحاح في مادة لبس
(3) . ذكره الواحدي هكذا في أسبابه بغير إسناد. لكن قال المفسرون- فذكره سواه، وقد أورده الطبري من طريق السدى في هذه الآية قال «وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما. فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقام ناس من أصحابه فذكره بمعنى ما تقدم» وهو منتزع من أحاديث، وأصله في الصحيحين عن عائشة» أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر. فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ولكنى أصوم وأفطر. وأنام وأقوم. وآكل اللحم وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس منى» وفي الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص قال «رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا» وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة مراجعته النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم والصلاة فقال صلى الله عليه وسلم «صم وأفطر، وقم ونم. فان لنفسك عليك حقا- الحديث» وروى الطبري من طريق ابن جريج عن مجاهد قال «أراد رجال، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله ابن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح» ومن طريق ابن جريج عن عكرمة «أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة، في جماعة من الصحابة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس. وهموا بالاختصاء. واجتمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) - الآية قال: فبعث اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا. فليس منا من ترك سنتنا»
(4) . هذا منتزع من أحاديث. أما أكل الدجاج فمتفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في قصة له. وأما أكله الفالوذ فرواه الحاكم من حديث عبد الله بن سلام قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إذ أقبل عثمان بن مظعون ومعه راحلة عليها غرارتان فذكر الحديث- وفيه فطبخ الدقيق والسمن والعسل حتى نفح ثم أكل» وهو من رواية الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة مضعفا وأعله ابن الجوزي بضعف الوليد. وأما «كان يعجبه الحلوى والعسل» فمتفق عليه من حديث همام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها. وأما الأخير فذكره الديلمي في الفردوس عن على بن أبى طالب رضى الله عنه.

(1/671)


لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)

الآية وقال: ثم على فراشك وكفر عن يمينك. وعن الحسن أنه دعى إلى طعام ومعه فرقد السنجى وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فرقد، ترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم. وعنه أنه قيل له. فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدى شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا:
نعم. قال: إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. وعنه أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم. قال الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته) ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه (ولا تعتدوا) ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك وكلوا مما رزقكم الله أى من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حلالا حال مما رزقكم الله واتقوا الله تأكيد للتوصية بما أمر به. وزاده تأكيدا بقوله الذي أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما نهى عنه.

[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم: واختلف فيه، فعن عائشة رضى الله عنها أنها سئلت عنه فقالت: هو قول الرجل «لا والله، بلى والله» «1» وهو مذهب الشافعي. وعن مجاهد:
هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله بما عقدتم الأيمان بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية. وروى أن الحسن رضى الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد، دعني أجب عنك فقال:
__________
(1) . أخرجه البخاري ومالك من حديثها دون قوله «سئلت» ورواه أبو داود من طريق عطاء عنها مرفوعا وموقوفا. وصحح الدارقطني الموقوف

(1/672)


ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم «1»
وقرئ: عقدتم، بالتخفيف. وعاقدتم. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة. لأنه كان معلوما عندهم، أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف فكفارته فكفارة نكثه. والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أى تسترها من أوسط ما تطعمون من أقصده، لأن منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر، وهو عند أبى حنيفة رحمه الله نصف صاع من بر أو صاع من غيره لكل مسكين، أو يغديهم ويعشيهم. وعند الشافعي رحمه الله: مد لكل مسكين. وقرأ جعفر بن محمد: أهاليكم، بسكون الياء، والأهالى: اسم جمع لأهل: كاللئالي في جمع ليلة، والأراضى في جمع أرض. وقولهم «أهلون» كقولهم «أرضون» بسكون الراء. وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف، كما قالوا: رأيت معديكرب، تشبيها للياء بالألف أو كسوتهم عطف على محل (من أوسط) «2» وقرئ بضم الكاف، ونحوه:
قدوة في قدوة، وأسوة في إسوة، والكسوة ثوب يغطى العورة، وعن ابن عباس رضى الله عنه كانت العباءة تجزئ يومئذ. وعن ابن عمر: إزار أو قميص أو رداء أو كساء. وعن مجاهد: ثوب جامع. وعن الحسن: ثوبان أبيضان. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني: أو كأسوتهم، بمعنى: أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا. لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم وبينهم. فإن قلت: ما محل الكاف؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى:
كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط أو تحرير رقبة شرط الشافعي رحمه الله الإيمان قياسا على كفارة القتل. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد جوزوا تحرير الرقبة الكفارة في كل كفارة سوى كفارة القتل. فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت: التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الإطلاق، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب فمن لم يجد إحداها فصيام ثلاثة أيام متتابعات عند أبى حنيفة رحمه الله، تمسكا بقراءة أبى وابن مسعود رضى الله عنهما: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وعن مجاهد: كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان. ويخير في كفارة اليمين ذلك المذكور «3» كفارة أيمانكم ولو قيل: تلك كفارة أيمانكم، لكان صحيحا بمعنى تلك الأشياء
__________
(1) . للفرزدق روى أن الحسن رضى الله عنه سئل عن لغو اليمين، فقال الفرزدق: دعني أجب عنك يا أبا سعيد، وقال البيت، أى لست مؤاخذا باللغو أى الساقط من الكلام. وتعمد: أصله تتعمد، حذف منه إحدى التاءين.
وهذا في معنى الاستثناء المنقطع. وعاقدات العزائم: الجازمات. ونسبة الجزم إليها مجاز عقلى.
(2) . قوله «على محل من أوسط» قد يقال هذا إنما يناسب القراءة الآتية أو كأسوتهم ولكن عبارة النسفي عطف على إطعام أو على محل من أوسط. ووجهه أن (من أوسط) بدل من (إطعام) والبدل هو المقصود في الكلام اه (ع)
(3) . قال محمود: «المشار إليه هو المذكور فيما تقدم ولو قيل ... الخ» قال أحمد: بل في هذه الآية وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث وهو المشهور من مذهب مالك، وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعا، حيث أضاف «إذا» إلى مجرد الحلف.
وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال: قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث، فتعين تقديره مضافا إلى الحلف، بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار، إذ لا يعطي قوله: (ذلك كفارة أيمانكم) إيجابا، إنما يعطى صحة واعتبارا، والله أعلم. وهذا انتصار على من منع التكفير قبل الحنث مطلقا، وإن كانت اليمين على بر والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنصور هو المشهور.

(1/673)


ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)

أو لتأنيث الكفارة. والمعنى إذا حلفتم وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبى حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث واحفظوا أيمانكم فبروا فيها ولا تحنثوا «1» أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل: احفظوها بأن تكفروها. وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها، ولا تنسوها تهاونا بها كذلك مثل ذلك البيان يبين الله لكم آياته أعلام شريعته وأحكامه لعلكم تشكرون نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 91]
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)
أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد «2» منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن» «3» ومنها أنه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «واحفظوا أيمانكم، أى فبروا فيها ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التأويل إشعار بأن الشاك في صورة اليمين بعد تحقق أصلها يشدد عليه ويؤاخذ بالأحوط، فأرشده الله إلى حفظ اليمين لئلا يفضى أمره إلى أن يلزم في ظاهر الأمر على وجه الاحتياط ما لم يصدر منه في علم الله تعالى، كالذي يحلف بالطلاق وينسى هل قيده بالثلاث مثلا أو أطلقه، فيلزمه الثلاث على المذهب المشهور. ويحتمل أن يكون في علم الله تعالى أنه إنما حلف بالطلاق مطلقا، فأرشد إلى الحفظ لئلا يجره النسيان إلى هذا التشديد. والمراد بالأيمان كل ما ينطلق عليه يمين، سواء كان حلفا بالله أو بغيره مما يلزم في الشرع حكما والله أعلم.
(2) . قال محمود: «أكد الله تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها ... الخ» قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الرجس الذي انطوى على سائر ما ذكر والله أعلم.
(3) . أخرجه البزار من حديث مجاهد عن عبد الله بن عمرو بهذا. رواه الحرث بن أسامة وأبو نعيم في الحلية من رواية الحسن عن عبد الله بن عمرو به. وفيه الخليل بن زكريا وفي الذي قبله ثابت بن محمد وهو أصلح حالا من الخليل. ولابن ماجة من حديث أبى هريرة، بلفظ «مدمن خمر كعابد وثن» وإسناده جيد، قال: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا محمد بن سليمان الأصبهانى عن سهيل عن أبيه عنه به. ورواه ابن حبان من حديث ابن عباس بهذا اللفظ. وقال الشبه أن يكون فيمن استحلها. وفي مسند إسحاق ومن رواية عمر بن عبد العزيز عن بعض أصحابه، بلفظ «من شرب الخمر فمات مات كعابد وثن» وللطبراني في الأوسط من حديث أنس بلفظ «المقيم على الخمر كعابد وثن» وإسناده ضعيف

(1/674)


وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (92)

جعلهما رجسا، كما قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتى منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب «1» الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله فهل أنتم منتهون من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (فاجتنبوه) ؟ قلت: إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك. ولذلك قال: (رجس من عمل الشيطان) فإن قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا ثم أفردهما آخرا «2» ؟ قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين. وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أن ذلك جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، فوجب اجتنابه بأسره، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمرا أو قامر، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر. وقوله وعن الصلاة اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل: وعن الصلاة خصوصا.

[سورة المائدة (5) : آية 92]
وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (92)
__________
(1) . قوله «من أصحاب» لعله بين أصحاب. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب ... الخ» قال أحمد: ويرشد إلى أن المقصود الخمر والميسر خاصة، لأنهم إنما كانوا يتعاطونهما خاصة الآية الأخرى وهي قوله: (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فخصهما بالذكر ولم يثبت النهى عنهما، فلذلك ورد أن قوما تركوها لما فيها من الإثم، وقوما بقوا على تعاطيها لما فيها من المنافع، ثم نزلت هذه الآية جازمة بالنهى، والله أعلم. [.....]

(1/675)


ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)

واحذروا وكونوا حذرين خاشين، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد: واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر، أو في ترك طاعة الله والرسول فإن توليتم فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأن الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم.

[سورة المائدة (5) : آية 93]
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)
رفع الجناح عن المؤمنين في أى شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها إذا ما اتقوا ما حرم عليهم منها وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه ثم اتقوا وآمنوا ثم ثبتوا على التقوى والإيمان ثم اتقوا وأحسنوا ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات. وقيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر «1» فنزلت. يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، على معنى: أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟
__________
(1) . أخرجه أحمد من رواية ابن وهب مولى أبى هريرة قال «حرمت الخمر ثلاث مرات قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فأنزل الله تعالى: (يسئلونك عن الخمر والميسر) الآية فقال الناس: لم تحرم علينا، إنما قال: فيها إثم كبير فكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب، فخلط في قراءته. فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكانوا يشربونها حتى يأتى أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) - الآية فقالوا: انتهينا يا رب. وقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان. فأنزل الله (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) - الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم، إسناده ضعيف، فانه من رواية أبى معشر عن أبى وهب. وأبو معشر ضعيف. وروى الطبري من حديث على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال في قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا) الآية قالوا: يا رسول الله: ما تقول في إخواننا الذين ماتوا كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر. فأنزل الله الآية وفي المتفق عليه عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال «كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة- وكان خمرهم يومئذ الفضيخ فأمر مناديا فنادى: ألا إن الخمر قد حرمت- الحديث» قال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ... ) الآية

(1/676)


ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94) ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95)

فتقول- وقد علمت أن ذلك أمر مباح-: ليس على أحد جناح في المباح، إذا اتقى المحارم، وكان مؤمنا محسنا، تريد: أن زيدا تقى مؤمن محسن وأنه غير مؤاخذ بما فعل.

[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94)
نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده، أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب
ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقى الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه فمن اعتدى فصاد بعد ذلك الابتلاء فالوعيد لاحق به، فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير «1» في قوله: (بشيء من الصيد) ؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه. وقرأ إبراهيم:
يناله، بالياء.

[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما معنى التقليل والتصغير ... الخ» قال أحمد: وقد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر، لأنه صبر على عظيم. فقول الزمخشري إذا «إنه قلل وصغر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام» مدفوع باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها.
والظاهر- والله أعلم- أن المراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتصغير، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى، وأنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول، وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور، فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفا بهم ورحمة: ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال، والذي يرشد إلى أن هذا مراد أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه، فيكون أيضا باعثا على تحمله، لأن مفاجاة المكروه بغتة أصعب، والانذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه، وحاصل ذلك لطف في القضاء، فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر إلى ما لا يقف عند غاية، فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور.

(1/677)


حرم محرمون، جمع حرام، كردح في جمع رداح. والتعمد: أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد، أو قصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيدا فهو مخطئ. فإن قلت: فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، فما بال التعمد مشروطا في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فيمن تعمد فقد روى أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد، والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى: (ليذوق وبال أمره) (ومن عاد فينتقم الله منه) وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطإ وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطإ شيأ أخذا باشتراط العمد في الآية. وعن الحسن روايتان فجزاء مثل ما قتل برفع جزاء ومثل جميعا، بمعنى: فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد، وهو عند أبى حنيفة قيمة المصيد يقوم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدى، تخير بين أن يهدى من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشترى بقيمته طعاما، فيعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوما، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوما أو تصدق به. وعند محمد والشافعي رحمهما الله مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبى حنيفة رحمه الله. فإن قلت: فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله من النعم وهو تفسير للمثل، وبقوله: هديا بالغ الكعبة؟ قلت: قد خير من أوجب القيمة بين أن يشترى بها هديا أو طعاما أو يصوم، كما خير الله تعالى في الآية، فكان قوله: (من النعم) بيانا للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هديا فأهداه، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزى بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوم ونظر بعد التقويم أى الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير- فإذا كان شيئا لا نظير له قوم حينئذ، ثم يخير بين الإطعام والصوم- ففيه نبو عما في الآية. ألا ترى إلى قوله تعالى: (أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) كيف خير بين الأشياء الثلاثة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم. وقرأ عبد الله: فجزاؤه مثل ما قتل، وقرئ. فجزاء مثل ما قتل، على الإضافة، وأصله. فجزاء مثل ما قتل، بنصب مثل بمعنى: فعليه أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول:

(1/678)


عجبت من ضرب زيد، وقرأ السلمى على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل، فجزاء مثل ما قتل، بنصبهما، بمعنى:
فليجز جزاء مثل ما قتل. وقرأ الحسن: من النعم، بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه يحكم به بمثل ما قتل ذوا عدل منكم حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن قبيصة أنه أصاب ظبيا وهو محرم فسأل عمر، فشاور عبد الرحمن بن عوف، ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضربا بالدرة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال الله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن «1» . وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة.
وقيل أراد الإمام هديا حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل، لأن الصفة خصصته فقربته من المعرفة، أو بدل عن مثل فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جره. ويجوز أن ينتصب حالا عن الضمير في به. ووصف هديا ب بالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدق به فحيث شئت عند أبى حنيفة، وعند الشافعي في الحرم. فإن قلت: بم يرفع (كفارة) من ينصب جزاء؟ قلت: يجعلها خبر مبتدإ محذوف، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة.
أو يقدر: فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن يجزى. وقرئ: أو كفارة طعام مساكين على الإضافة. وهذه الإضافة مبينة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقولك: خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة. وقرأ الأعرج: أو كفارة طعام مساكين. وإنما وحد، لأنه واقع موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: أو عدل ذلك، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار، ومنه عدلا الحمل، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. وذلك إشارة إلى الطعام صياما تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلا. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبى حنيفة وأبى يوسف. وعند محمد إلى الحكمين ليذوق متعلق بقوله: (فجزاء) أى فعليه أن يجازى أو يكفر، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: (فأخذناه أخذا وبيلا) ثقيلا. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ عفا الله عما سلف لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد
__________
(1) . رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك بن عمير فذكره. وفيه الزيادة التي في آخره.

(1/679)


أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)

نزول النهى فينتقم الله منه ينتقم: خبر مبتدإ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه، ولذلك دخلت الفاء. ونحوه (فمن يؤمن بربه فلا يخاف) يعنى ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على العائد، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن: وجوبها، وعليه عامة العلماء. وعن ابن عباس وشريح: أنه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر، وأنه لم يذكر الكفارة

[سورة المائدة (5) : آية 96]
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)
صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر «1» ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة. وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه متاعا لكم مفعول له، أى أحل لكم تمتيعا لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) في باب الحال، لأن قوله (متاعا لكم) مفعول له مختص بالطعام، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب، يعنى أحل لكم طعامه تمتيعا لتنائكم «2» يأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزودونه قديدا، كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ: وطعمه. وصيد البر: ما صيد فيه، وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات، كطير الماء عند أبى حنيفة. واختلف فيه «3» فمنهم من حرم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد، وهو قول عمرو ابن عباس، وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير: أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله، إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمه الله، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله: لا يباح له ما صيد لأجله. فإن قلت: ما يصنع
__________
(1) . قوله «بجميع ما يصاد في البحر» لعله من. (ع)
(2) . قوله «تمتيعا لتنائكم يأكلونه» أى للمتوطنين منكم. يقال: تنأ بالبلد توطئه، فهو تانئ، وهم تناه.
أفاده الصحاح، وسيأتى للمفسر في قوله تعالى: (قد علم كل أناس مشربهم) أن الأناس اسم جمع غير تكسير، نحو رحال وتناء وتؤام. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة. (ع)
(3) . قال محمود «اختلف في المراد بالتحريم ... الخ» قال أحمد: وتخصيص عموم الآية لازم على كلتا الطائفتين لأن مالكا رضى الله عنه يجيز أكل المحرم لصيد البر، إذا صاده حلال لنفسه، أو لحلال، فلا بد إذا على مذهبه من تخصيص العموم المخصوص، غاية ذلك أن صورة التخصيص على مذهب أبى حنيفة، تكون أكثر منها على مذهب مالك، لأنه يجيز أكل ما صاده الحلال من أجل المحرم كما نقل عنه، فيزيد على مذهب مالك بهذه الصورة، والله أعلم.

(1/680)


جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم (97) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98)

أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بالمفهوم من قوله: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: وحرم عليكم صيد البر، أى الله عز وجل. وقرئ (ما دمتم) بكسر الدال، فيمن يقول دام يدام.

[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98]
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم (97) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98)
البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قياما للناس انتعاشا لهم «1» في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضا إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم. وعن عطاء ابن أبى رباح: لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا والشهر الحرام الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأن لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأنا قد عرفه الله تعالى. وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم والهدي والقلائد والمقلد منه خصوصا
__________
(1) . قال محمود: «معنى قياما للناس: انتعاشا لهم في أمر دينهم ودنياهم ... الخ» قال أحمد: وفي هذه الآية ما يبعد تأويلين من التأويلات الثلاثة المذكورة في قوله أول هذه السورة (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد) فان حمل القلائد ثم على ظاهرها، وتأويل صرف الإحلال إلى مواقعها من المقلد- كقوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) يريد مواقع الزينة، والنهي عن إحلال القلائد يشبهه، كأنه قال: لا تحلوا قلائدها فضلا عنها- متعذر في هذه الآية، لأنها وردت في سياق الامتنان بما جعله الله قياما للناس من هذه الأمور المعدودة، وقد خص المنة بالبدن في قوله: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ... ) الآية ولا يليق بسياق الامتنان الخروج من الأعلى إلى الأدنى، حتى يقع الامتنان بالمقلد ثم بالقلائد، بل ذلك لائق في سياق النهى أن يخرج من النهى عن الأعلى إلى التشديد بالنهى عن الأدنى. وأما التأويل الآخر- وهو بقاء القلائد على حقيقتها وصرف الإحلال المنهي عنه إليها حقيقة، أى لا تتعرضوا للقلائد ولا تنتفعوا بها، كما قال عليه الصلاة والسلام «ألق قلائدها في دمها وخل بين الناس وبينها» - فمتعذر أيضا بما بعد به الذي قبله. وأما التأويل الثالث- وهو حملها على ذوات القلائد- فلائق بالاثنين فيتعين المصير إليه. ومن ثم لم يذكر الزمخشري في هذه الآية سواء. ووجه صلاحيته وظهوره فيهما: أن الغرض في سياق النهى إفراده بالذكر وتخصيصه بالنهى، بعد أن اندرج مع غيره في النهى، فكأنه نهى عنه لخصوصيته مرتين. والغرض في سياق الامتنان أيضا ذلك، وهو تكرير المنة به مندرجا في العموم ومخصوصا بالذكر. وأيضا فيليق في الامتنان الترقي من الأدنى إلى الأعلى، بخلاف النهى. والله أعلم.

(1/681)


ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99) قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب لعلكم تفلحون (100)

وهو البدن، لأن الثواب فيه أكثر، وبهاء الحج معه أظهر ذلك إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره لتعلموا أن الله يعلم كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به وكلفكم شديد العقاب لمن انتهك محارمه غفور رحيم لمن حافظ عليها.

[سورة المائدة (5) : آية 99]
ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99)
ما على الرسول إلا البلاغ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط.

[سورة المائدة (5) : آية 100]
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (100)
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى «1» وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإن ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم فاتقوا الله وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة «2» إذا افتخروا بالكثرة كما قيل:
__________
(1) . قال محمود: «البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد ثبت شرعا أن أكثر أهل الجنة من هذه الأمة. وقد اعترف للقدرية أنهم قليل فيها، وشذوذ بالنسبة إنى من عداهم من الطوائف والأمر بهذه المثابة، وهم أيضا يعتقدون أنهم الفرقة الناجية الموعودون بالجنة لا غيرهم، إذ كل من عداهم- على طمعهم الفاسد- مخلد في النار مع الكفار، فعلى هذا تكون هذه الطائفة الشاذة القليلة أكثر أهل الجنة، وحاشا لله أن يستمر ذلك على عقل عاقل محصل، مطلع على ما ورد في السنن من الآثار المكافحة لهذا الظن الفاسد بالرد والتكذيب.
ومن هم المعتزلة حتى يترامى طمعهم على هذا الحد؟ وهذا الاستنباط الذي استنبطه الزمخشري من أن المراد بالطيب هذا النفر المعتزلي. من قبيل القول بأن المراد في قوله تعالى: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) أهل الحديث وأصحاب الرأى، يعنى الحقيقة. وقد أغلظ في تفسير هذه الآية على من قال ذلك وعده من البدع، وما هو قد ابتدع قريبا منه في حمله الطيب في هذه الآية على الفريق المعتزلي، بل والله شرا من تلك المقالة، لأنه حمل الخبيث على من عداهم من الطوائف السنية، نعوذ بالله من ذلك، ونبرأ من تجريه على السلف والخلف.
(2) . قوله «أن تكفح بها وجوه المجبرة» يعنى أهل السنة. وهذا غلو من العلامة في التعصب للمعتزلة، وما كان ينبغي أن يكون منه، لعدم الداعي إليه هنا. (ع)

(1/682)


ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102)

وكاثر بسعد إن سعدا كثيرة ... و، لا ترج من سعد وفاء ولا نصرا «1»
وكما قيل:
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فإن جلهم بل كلهم بقر «2»
وقيل: نزلت في حجاج اليمامة، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين.

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102)
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعنى قوله إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم صفة للأشياء. والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال:
يا رسول الله، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرات، فقال صلى الله عليه وسلم: «ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «3» (وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن) وإن تسألوا عن هذه
__________
(1) . «سعد» اسم قبيلة. والمعنى: أنه لا نفع فيهم إلا تكثير سواد الجيش، فلا يفون بما وعدوا من النصر، ولا ينصرون بلا وعد. ويمكن أن المراد الوفاء بحق الشجاعة. فالنصر تفسير. وفي تكرير الاسم. نوع تهكم.
(2) .
لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فان جلهم بل كلهم بقر
لأبى تمام. يقال: دهمه الأمر، إذا غشيه فحيره وسد عليه باب الرأى. والدهماء: الجماعة الكثيرة المتكاثفة، وأصله من الدهمة وهي الظلمة والسواد. يقول: لم يبق من معظم هذا الجمع من الناس بقية يدركها الوهم بعد التأمل، إلا هذه الصور والأجسام المشاهدة، مجردة على العقول، فلا تفزع من كثرة عدد جماعتهم، فان معظمهم كالبقر، بل جميعهم كذلك، فلا تدبير عندهم لأمر الحرب.
(3) . هذا السياق لم أجده لا عن سراقة ولا عن عكاشة. فأما سراقة فروى مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج «فقال سراقة بن مالك: بن جعشم يا رسول الله، لعامنا هذا. أم للأبد؟ قلت: وهو عند البخاري ايضا من وجه آخر عن جابر، وللنسائى وابن ماجة من حديث سراقة بن مالك نفسه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله، عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: لا، بل للأبد. دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأما عكاشة بن محصن فرواه الطبري وابن مردويه من طريق محمد بن زياد: سمعت أبا هريرة رضى الله عنه يقول «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج، فقال عكاشة بن محصن الأسدى: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما أنا لو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت ثم تركتم لضللتم. اسكتوا عنى ما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء) الآية وهو أقرب إلى سياق المصنف، دون ما في آخره مما ذكره المصنف فهو في الحديث الآتي. وأخرج الطبري من طريق أبى إسحاق الهجري عن ابن عباس عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب عليكم الحج فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا. فقال: من السائل؟
فقيل فلان. فقال: والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموه. ولو تركتموه لكفرتم. فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء) وأخرج أيضا من طريق معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبى أمامة أنه سمعه يقول «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال: كتب عليكم الحج فقام رجل من الأعراب- فذكر الحديث، وفيه فقال: ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. وأما بقيته ففيما أخرجه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبى هريرة «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثالثا. فقال لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وقد سأل عن الحج الأقرع بن حابس فعند بعض السنن من حديث ابن عباس «أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: مرة واحدة. فما زاد فهو تطوع» وأخرجه الطبري من هذا الوجه. فسمى الرجل محصنا الأسدى، وعند غيره عكاشة بن محصن.

(1/683)


ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103)

التكاليف الصعبة في زمان الوحى وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه، تبد لكم.
تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها عفا الله عنها. عفا الله عما سلف. من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها والله غفور حليم لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت: كيف قال: (لا تسئلوا عن أشياء) ثم قال: قد سألها ولم يقل. قد سأل عنها؟ قلت: الضمير في: (سألها) ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تسئلوا) يعنى قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين ثم أصبحوا بها أى بمرجوعها أو بسببها كافرين وذلك أن بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.

[سورة المائدة (5) : آية 103]
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103)
كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أى شقوها

(1/684)


وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104) ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)

وحرموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها، واسمها البحيرة.
وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتى سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. ومعنى ما جعل ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم.

[سورة المائدة (5) : آية 104]
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)
الواو في قوله أولو كان آباؤهم واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره:
أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.

[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وعن ابن مسعود: أنها قرئت عنده فقال: إن هذا ليس بزمانها «1» إنها اليوم مقبولة. ولكن يوشك أن يأتى زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم،
__________
(1) . قوله «ليس بزمانها إنها» لعل هذا الضمير للنصيحة المفهومة من السياق. (ع)

(1/685)


ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (108)

فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه، وبسط لعذره. وعنه: ليس هذا زمان تأويلها. قيل: فمتى؟ قال: إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن. وعن أبى ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرا. سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك نفسك ودع أمر العوام. وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله «1» . وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، ولاموه، فنزلت (عليكم أنفسكم) عليكم: من أسماء الفعل، بمعنى: الزموا إصلاح أنفسكم، ولذلك جزم جوابه. وعن نافع: عليكم أنفسكم، بالرفع. وقرئ (لا يضركم) وفيه وجهان «2» أن يكون خبرا مرفوعا وتنصره قراءة أبى حيوة، لا يضيركم. وأن يكون جوابا للأمر مجزوما. وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. والأصل: لا يضروكم. ويجوز أن يكون نهيا، ولا يضركم، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره.

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين (108)
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من رواية عبد الله بن المبارك عن عتبة بن أبى حكيم عن عمرو بن حارثة اللخمي عن أبى أمية الصنعاني قال «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت:
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) الآية قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر- وذكره: وقال فيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام- وقال في آخره: مثل عملكم» قال ابن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: لا، بل منكم» وأخرجه ابن حبان والحاكم وإسحاق وأبو يعلى والطبراني. [.....]
(2) . قوله «لا يضركم، وفيه وجهان» يعنى بالرفع، وهو يفيد أن القراءة الأصلية بالنصب. (ع)

(1/686)


ارتفع اثنان على أنه خبر للمبتدإ الذي هو شهادة بينكم على تقدير: شهادة بينكم شهادة اثنين. أو على أنه فاعل شهادة بينكم على معنى: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان: وقرأ الشعبي.
شهادة بينكم بالتنوين. وقرأ الحسن: شهادة، بالنصب والتنوين على: ليقم شهادة اثنان. وإذا حضر ظرف للشهادة. وحين الوصية بدل منه، إبداله منه دليل على وجوب الوصية، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها. وحضور الموت: مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل منكم من أقاربكم. ومن غيركم من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض يعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح «1» وهم له أنصح. وقيل منكم من المسلمين، ومن غيركم من أهل الذمة. وقيل: هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر. وعن مكحول: نسخها قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم وروى أنه خرج بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاصي وكان من المهاجرين، مع عدى بن زيد وتميم بن أوس- وكانا نصرانيين- تجارا إلى الشام، فمرض بديل وكتب كتابا فيه ما معه، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات ففتشا متاعه، فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، فغيباه، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء، فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» ، فنزلت تحبسونهما تقفونهما وتصبرونهما للحلف «3» من بعد الصلاة من بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وعن الحسن: بعد صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث بديل: أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . قوله «وبما هو أصلح» لعله «وبما هو له أصلح» . (ع)
(2) . أخرجه الترمذي من رواية ابن إسحاق عن أبى النضر وهو محمد بن السائب الكلبي عن بادار، يعنى أبا صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري رضى الله عنهم. فذكره وقال: ليس إسناده بصحيح وأخرجه البخاري وأبو داود مختصرا
(3) . قوله «وتصبرونهما للحلف» أى تحبسونهما. أفاده الصحاح. (ع)

(1/687)


صلاة العصر ودعا بعدى وتميم فاستحلفهما عند المنبر، فحلفا، ثم وجد الإناء بمكة، فقالوا:
إنا اشتريناه من تميم وعدى. وقيل: هي صلاة أهل الذمة، وهم يعظمون صلاة العصر إن ارتبتم اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما. وعن على رضى الله عنه: أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما «1» والضمير في مصيبة للقسم. وفي كان للمقسم له يعنى: لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا، أى لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) . شهادة الله أى الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها. وعن الشعبي أنه وقف على شهادة، ثم ابتدأ الله بالمد، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مد على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: الله لقد كان كذا.
وقرئ: لملاثمين بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها، كقوله: عاد لولى: فإن قلت: ما موقع تحبسونهما؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما، فقيل: تحبسونهما فإن قلت: كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت: لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، أغنى ذلك عن التقييد، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه: إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز أن تكون اللام للجنس، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفا في النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) . فإن عثر فإن اطلع على أنهما استحقا إثما أى فعلا ما أوجب إثما، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فآخران فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم أى من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي قصة بديل: أنه لما ظهرت خيانة الرجلين، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما. والأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. وارتفاعهما على: هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل: الأوليان. وقيل: هما بدل من الضمير في يقومان، أو من آخران.
__________
(1) . فأما تحليف الشاهد. فلم أره. وأما تحليف الراوي فرواه أصحاب السنن الثلاثة: البزار وابن حبان من رواية اسماء بن الحكم الفزاري عن على رضى الله عنه قال «إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته قال: وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- الحديث» قال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث موقوفا» أى المتن دون القصة. وقال البزار: أسماء هذا مجهول.

(1/688)


يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109) إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)

ويجوز أن يرتفعا باستحق، أى من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال. وقرئ الأولين على أنه وصف للذين استحق عليهم، مجرور، أو منصوب على المدح. ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها. وقرئ: الأولين، «1» على التثنية، وانتصابه على المدح. وقرأ الحسن: الأولان، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعى. وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك، فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة، لإنكارهم الشراء. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ استحق عليهم الأوليان على البناء للفاعل، وهم على وأبى وابن عباس؟ قلت: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة، أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين ذلك الذي تقدم من بيان الحكم أدنى أن يأتى الشهداء على نحو تلك الحادثة بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان أن تكر «2» أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم «فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل واسمعوا سمع إجابة وقبول.

[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 110]
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109) إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)
يوم يجمع بدل من المنصوب «3» في قوله: (واتقوا الله) وهو من بدل الاشتمال، كأنه
__________
(1) . قوله «وقرئ الأوليين» لعله «الأولين» فليحرر. (ع)
(2) . قوله «أن تكر أيمان شهود» في الصحاح «الكر» الرجوع. يقال: كره، وكر بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)
(3) . قال محمود: «يوم يجمع بدل من المنصوب ... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه إذا انتصاب المفعول به لا الظرف على حكم المبدل منه.

(1/689)


قيل: واتقوا الله يوم جمعه. أو ظرف لقوله: (لا يهدي) «1» أى لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم. أو ينصب على إضمار اذكر. أو يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت.
وماذا منتصب بأجبتم «2» انتصاب مصدره، على معنى: أى إجابة أجبتم. ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموؤدة توبيخا للوائد. فإن قلت: كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم «3» وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكى واللجإ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله وتشكى أنبيائه عليهم. ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بى تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، واظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل به منه. وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون «4» عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. وقيل: معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به، لأنك علام الغيوب. ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك. وقيل: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة. وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين. وقرئ (علام الغيوب) بالنصب «5» على أن الكلام قد تم بقوله إنك أنت أى إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص، أو على النداء، أو هو صفة لاسم أن إذ قال الله بدل من (يوم يجمع) والمعنى: أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «أو ظرف لقوله لا يهدى القوم الفاسقين ... الخ» قال أحمد: وهو على هذا أيضا مفعول به.
(2) . عاد كلامه. قال: «وماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أى إجابة ... الخ» قال أحمد:
والتعظيم في هذا نحو التعظيم بالسكوت عن الصلة في مثل: ما حصل إلا بعد التي واللتيا.
(3) . قوله «بما منوا به منهم» أى ابتلوا. وفي الصحاح «منيته» و «منوته» إذا ابتليته. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «وقيل من الهول والفزع يذهلون عن الجواب ... الخ» قال أحمد: وأيضا فالمسئول عنه إجابتهم عند دعائهم إياهم إلى الله، لا ما حدث بعد ذلك مما لا يتعلق به علم الرسل، والله أعلم.
(5) . عاد كلامه. قال: «وقرئ علام الغيوب بالنصب ... الخ» قال أحمد: ويكون هذا من باب
أنا أبو النجم وشعري وشعري
وقد مر قبل بآيات. وإنما ذكرت هذه الثلاثة من الاعراب لالتباسها إلا على الحذاق وقليل ما هم.

(1/690)


وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111) إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)

ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام، فكذبوهم وسموهم سحرة. أو جاوزوا حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة، كما قال بعض بنى إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من البينات والمعجزات (هذا إلا سحر مبين) واتخذه بعضهم وأمه إلهين أيدتك قويتك. وقرئ أيدتك، على أفعلتك بروح القدس بالكلام الذي يحيا به الدين، وأضافه إلى القدس، لأنه سبب الطهر من أو ضار الآثام. والدليل عليه قوله تعالى تكلم الناس وفي المهد في موضع الحال، لأن المعنى تكلمهم طفلا وكهلا إلا أن في المهد فيه دليل على حد من الطفولة. وقيل روح القدس:
جبريل عليه السلام، أيد به لتثبيت الحجة. فإن قلت: ما معنى قوله: (في المهد وكهلا) ؟ قلت:
معناه تكلمهم في هاتين الحالتين، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحد الذي يستنبأ فيه الأنبياء والتوراة والإنجيل خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة. وقيل (الكتاب) الخط. و (الحكمة) الكلام المحكم الصواب كهيئة الطير هيئة مثل هيئة الطير بإذني بتسهيلى فتنفخ فيها الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا من نفخه في شيء. وكذلك الضمير في فتكون تخرج الموتى تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وإذ كففت بني إسرائيل عنك يعنى اليهود حين هموا بقتله. وقيل:
لما قال الله تعالى لعيسى (اذكر نعمتي عليك) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول: مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.

[سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 115]
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111) إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)

(1/691)


أوحيت إلى الحواريين أمرتهم على ألسنة الرسل مسلمون مخلصون، من أسلم وجهه لله عيسى في محل النصب على إتباع حركة الابن، كقولك: يا زيد بن عمرو، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك: يا زيد بن عمرو. والدليل عليه قوله:
أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويبدو عل المرء ما يأتمر «1»
لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم. فإن قلت: كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم «2» ؟ قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه
__________
(1) .
أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
ولا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعى القوم أنى أفر
لامرئ القيس بن حجر. وقيل لربيعة بن جشم اليمنى. والهمزة للنداء. و «حار» مرخم، أصله حارث ضم على لغة من لا ينتظر المحذوف. واللغة المشهورة معاملته معاملة التام، كما أن المشهور أيضا فتح العلم المنادى الموصوف بابن مضاف إلى علم آخر اتباعا لنصب ابن. ويجوز ضمه كما هنا، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم لأن المفتوح اتباعا كالمركب مع ما بعده. والترخيم لا يأتى في الوسط، ولأنه لو كان مفتوحا وضم في الترخيم لكان فيه إخلال بالفتحة المجتلبة للتناسب. والخمر- كحذر-: الذي خالطه داء فغطى عقله. والخمر- كسبب-: كل ما سبر من بناء أو شجر. ثم تذكر السبب في ذلك وهو مطاوعته ما لا تنبغي مطاوعته فقال ويعدو على الإنسان ائتماره، أى امتثاله لأمر غيره. ويجوز أن «ما» موصولة، أى الذي يمتثله من أمر من لا يعرف عواقب الأمور، أو من أمر نفسه وهواه، وشبه ذلك بمن يصح منه العدوان، على طريق الكناية. ويروى «ويبدو على المرء» أى يشرف عليه ويظهر له عاقبة امتثاله لما لا ينبغي امتثاله. وكثير ينشد فاصلتى هذا البيت بالتنوين الغالي، لكن أنكره الزجاج والسيرافي، لأنه يكسر الوزن. وجعله ابن يعيش من تنوين الترنم، بناء على أنه لجلب الترنم لا لقطعه، فلا يختص بالقوافى، المطلقة، بل يدخل المقيدة كما هنا. والمشهور تحريك ما قبله بالكسر. واختار ابن الحاجب الفتح. وجوز بعضهم تحريكه بما كان يستحقه لولا السكون. وبعض أجاز اجتماع الساكنين. ودخول «لا» النافية قبل القسم سائغ شائع في لسان العرب، لأنه غالبا يكون لرد دعوى الخصم ونفيها. فالتقدير: ولا يحصل ذلك وحق أبيك، ولو كانت زائدة محضا لكانت الواو في التقدير داخلة على واو القسم. وروى بحذف الواو الأولى: أى وحق أبيك يا ابنة العامري لا أفر من الحرب أصلا، فلا يدعيه أحد على. فنفى الادعاء كناية عن نفى الفرار على أبلغ وجه. [.....]
(2) . قال محمود: فان قلت كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم- في قوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) - قال: قلت ما وصفهم بالايمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ... الخ» قال أحمد: وقيل إن معنى (هل يستطيع) هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم: مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن، فعلى هذا يكون إيمانهم سالما عن قدح الشك في القدرة، فان استقام التعبير عن الفعل بالاستطاعة فذاك- والله أعلم- من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ الاستطاعة من جملة أسباب الإيجاد وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل، تسمية بالسبب الذي هو الارادة، باسم المسبب الذي هو الفعل، في مثل قوله: (إذا قمتم إلى الصلاة) وقد مضى أول السورة. وفي هذا التأويل الحسن تعضيد لتأويل أبى حنيفة، حيث جعل الطول المانع من نكاح الأمة وجود الحرة في العصمة. وعدمه أن لا يملكك عصمة الحرة وإن كان قادرا على ذلك، فتباح له حينئذ الأمة. وحمل قوله: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) على معنى: ومن لم يملك منكم، وحمل النكاح على الوطء، فجعل استطاعة الملك المنفية هي الملك كما ترى، حتى أن القادر غير المالك عادم الطول عنده فينكح الأمة. وقد مضى ذكر مذهبه، وكنت أستبعد إنهاضه لأن يكون تأويلا يحتمله اللفظ ويساعده الاستعمال، حتى وقفت على تفسير الحسن هذا والله أعلم.

(1/692)


قوله: (إذ قال) فإذن إن دعواهم كانت باطلة، وإنهم كانوا شاكين، وقوله: (هل يستطيع ربك) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه: اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إن كنتم مؤمنين إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة. وقرئ:
هل تستطيع ربك، أى هل تستطيع سؤال ربك، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله. والمائدة: الخوان «1» إذا كان عليه الطعام، وهي من «ماده» إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليه ونكون عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوة، عاكفين عليها، على أن عليها في موضع الحال، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الايمان والإخلاص. وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. وقرئ: ويعلم، بالياء على البناء للمفعول. وتعلم. وتكون، بالتاء. والضمير للقلوب اللهم أصله يا الله، فحذف حرف النداء، وعوضت منه الميم. وربنا نداء ثان تكون لنا عيدا أى يكون يوم نزولها عيدا. قيل: هو يوم الأحد. ومن ثم اتخذه النصارى عيدا، وقيل: العيد السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيد، فكأن معناه: تكون لنا سرورا وفرحا. وقرأ عبد الله: تكن، على جواب الأمر. ونظيرهما، يرثني، ويرثني لأولنا وآخرنا بدل من لنا بتكرير العامل، أى لمن في زماننا من أهل ديننا، ولمن يأتى بعدنا. وقيل: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم: ويجوز المقدمين منا والأتباع. وفي قراءة زيد: لأولانا وأخرانا، والتأنيث بمعنى الأمة والجماعة عذابا بمعنى تعذيبا. والضمير في: (لا أعذبه) للمصدر. ولو أريد بالعذاب ما يعذب به، لم يكن بد من الباء. وروى أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا، ثم قال: اللهم أنزل علينا، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما. وعند
__________
(1) . قوله «والمائدة الخوان» في الصحاح «الخوان» بالكسر: الذي يؤكل عليه، معرب. وقوله «من مادة» الذي في الصحاح «ماد الشيء» تحرك. و «مادت الأغصان» تمايلت اه. (ع)

(1/693)


وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)

رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله: فقال الحواريون: يا روح الله، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال يا سمكة احيى بإذن الله، فاضطربت. ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية. ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وروى أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى: (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه) قالوا لا نريد فلم تنزل. وعن الحسن: والله ما نزلت، ولو نزلت لكان عيدا إلى يوم القيامة، لقوله: (وآخرنا) . والصحيح أنها نزلت.

[سورة المائدة (5) : آية 116]
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116)
سبحانك من أن يكون لك شريك ما يكون لي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله في نفسي في قلبي: والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل في نفسك لقوله في نفسي إنك أنت علام الغيوب تقرير للجملتين معا، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد.

[سورة المائدة (5) : الآيات 117 الى 118]
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)
«أن» في قوله أن اعبدوا الله «1» إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر. والمفسر إما
__________
(1) . قال محمود: «أن في قوله: (أن اعبدوا) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ... الخ» قال أحمد: وقد أجاز بعضهم وقوع «أن» المفسرة بعد لفظ القول، ولم يقتصر بها على ما في معناه، فيجوز على هذا القول وقوعها تفسيرا لفعل القول. وقد أبى الزمخشري في مفصله وقوعها إلا بعد فعل في معنى القول كمذهبه هاهنا.

(1/694)


فعل القول وإما فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير، لا تقول: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله. ولكن:
ما قلت لهم إلا اعبدوا الله. وأما فعل الأمر، فمسند إلى ضمير الله عز وجل. فلو فسرته باعبدوا الله ربى وربكم لم يستقم لأن الله تعالى لا يقول: اعبدوا الله ربى وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل «1» لم تخل من أن تكون بدلا من ما أمرتنى به، أو من الهاء «2» في به، وكلاهما غير مستقيم لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه. ولا يقال: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال. وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء «3» لأنك لو أقمت (أن اعبدوا الله) مقام الهاء، فقلت: إلا ما أمرتنى بأن اعبدوا الله، لم يصح، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإن قلت: فكيف يصنع؟ «4» قلت يحمل فعل
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله عز وجل ... الخ» قال أحمد: ويجوز أيضا هذا الوجه على صرف التفسير إلى المعنى، كأنه حكى معنى قول الله عز وجل له بعبارة أخرى، وكأن الله تعالى قال له:
مرهم بعبادتي، أو قال لهم على لسان عيسى: اعبدوا الله رب عيسى وربكم، فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعبدوا الله ربى وربكم، فكنى عن اسمه الظاهر بضميره، كما قال الله تعالى حكاية عن موسى (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) فانظر كيف جاء أول الكلام حكاية لقول موسى، وموسى لا يقول: فأخرجنا، ولكن فأخرج الله، فلما حكاه الله تعالى عن موسى رد الكلام إليه تعالى، وأضاف الإخراج إلى ذاته على طريقة المتكلم لا الحاكي، وكذلك قوله تعالى: (ليقولن خلقهن العزيز العليم) إلى قوله: (فأنشرنا به بلدة ميتا) ونظائره كثيرة. وقد قدمت نحوا من هذا البحث عند قوله تعالى حكاية عن اليهود (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) لما استبعد الزمخشري أن تصفه اليهود بهذه الصفات المنافية لاعتقادهم فيه.
(2) . عاد كلامه. قال: «وإن جعلت أن موصولة مع فعل الأمر ... الخ» قال أحمد: أى فلا يقدر بالعبادة ولكن بالأمر بها، كأنه قيل: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة لله، والأمر مقول لقلت، على أن جعل العبادة مقولة ليس ببعيد، على طريقة (ثم يعودون لما قالوا) أى للوطء الذي قالوا قولا يتعلق به. وكقوله تعالى: (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) وسيأتى له تصحيح هذا الاستعمال لوروده كثيرا في القرآن الكريم.
(3) . عاد كلامه. قال: «وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا غير مانع من البدل، وإنما يواجه المصنف بما لا يسعه إنكاره، فقد قال في مفصله ما هذا نصه: وقولهم: إن البدل في حكم تنحية الأول، إيذان منهم باستقلاله بنفسه ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه، لا أن يعنوا إهدار الأول وإطراحه. ألا تراك تقول: زيدا رأيت غلامه رجلا صالحا، فلو ذهبت إلى إهدار الأول لم يسند كلامك. فانظر كيف يرد كلامه في المفصل وهو الحق ما ارتكبه من رد البدل في هذه الآية، للزوم طرح الأول فتخلو الصلة من الضمير: ولم يجعل هذا القدر مانعا في المثال المذكور. مع أنك لو طرحت الأول لخلا الخبر من الضمير العائد ولم يسند الكلام. فهذه وجوه أربعة منعها في إعراب «أن» وكلها مسندة حسبما بينا. وهذه المساجلة في هذا الاعراب من الغرر والحجول في صناعة الاعراب وعلم البيان. وفرسان هذا المضمار قليل.
(4) . عاد كلامه. قال: فان قلت كيف يصنع؟ قلت: يحمل فعل ... الخ» قال أحمد: هذا التأويل لتوقع أن المفسرة بعد فعل في معنى القول، وليس قولا صريحا. وحمل القول على الأمر مما يصحح المذهب الآخر في إجازة وقوعها بعد القول، فانه لولا ما بين القول والأمر من التفاوت المعنوي، لما جاز إطلاق إحداهما وإرادة الأخرى.
والعجب أن الأمر قسم من أقسام القول، وما بينهما إلا عموم وخصوص. وليس في هذا التأويل الذي سلكه إلا كلفة لا طائل وراءها. ولو كانت العرب تأبى وقوع المفسرة بعد القول. لما أوقعتها بعد فعل ليس بقول. ثم عبرت عن ذلك الفعل بالقول لأن ذلك كالعود إلى ما وقع الفرار منه وهم بعداء من ذلك.

(1/695)


القول على معناه لأن معنى (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) . ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به، حتى يستقيم تفسيره يأن اعبدوا الله ربى وربكم. ويجوز أن تكون «أن» موصولة «1» عطف بيان للهاء لا بدلا وكنت عليهم شهيدا رقيبا كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة، وأنزلت عليهم من البينات، وأرسلت إليهم من الرسل إن تعذبهم فإنهم عبادك الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوى القادر على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: (وإن تغفر لهم) «2» ؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء
__________
(1) . عاد كلامه. قال: ويجوز أن تكون أن موصولة ... الخ» قال أحمد: يريد بجعله عطف بيان أن يسلم من تقدير إطراح الأول في البدل وخلو الصلة حينئذ من العائد. وقد بينا أن ذلك غير لازم في البدل. والعجب أنه أيضا في مفصله لم يفصل بين عطف البيان والبدل، إلا في مثل قول المرار:
أنا ابن التارك البكري بشر
لأنه لو جعله بدلا للزم تكرير العامل، وإضافة اسم الفاعل العرف بالألف واللام إلى العلم ولم يفصل بينهما في غير هذا المثال ومن حيث المعنى أن المعتمد في عطف البيان الأول. وأما الثاني فللتوضيح. والمعتمد في البدل الثاني.
وأما الأول فبساط لذكره، لا على أنه مطرح مهدر.
(2) . قال محمود «إن قلت المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال وإن تغفر لهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه الله: تذبذب الزمخشري في هذا الموضع فلا إلى أهل السنة ولا إلى القدرية. أما أهل السنة، فالمغفرة للكافر جائزة عندهم في حكم الله تعالى عقلا، بل عقاب المتقى المخلص كذلك غير ممتنع عقلا من الله تعالى، وإذا كان كذلك فهذا الكلام خرج على الجواز العقلي، وإن كان السمع ورد بتعذيب الكفار وعدم الغفران لهم، إلا أن ورود السمع بذلك لا يرفع الجواز العقلي. وأما القدرية فيزعمون أن المغفرة للكافر ممتنعة عقلا، لا تجوز على الله تعالى لمناقضتها الحكمة، فمن ثم كفحتهم هذه الآية بالرد، إذ لو كان الأمر كزعمهم لما دخلت كلمة «إن» المستعملة عند الشك في وقوع الفعل بعدها لغة في فعل لا شك في عدم وقوعه عقلا، ولكان ذلك من باب التعليق بالمحال، كأن يبيض القار وأشباهه. وليس هذا مكان. فقول الزمخشري إذا (إن تغفر لهم) لم يعدم وجها من الحكمة في المغفرة لأن العفو عن المجرم حسن عقلا لا يأتلف بقواعد السنة، إذ لا يلتفت عندهم إلى التحسين العقلي، ولا يأتلف أيضا بنزغات القدرية، لأنهم يجزمون بأنه لا وجه من الحكمة في المغفرة للكافر، ويقطعون بمنافاتها الحكمة، فكيف يخاطب الله تعالى به، فعلم أن عيسى عليه السلام يبرأ إلى الله من هذا الإطلاق ومما اشتمل عليه من سوء الأدب، فان قول القائل لمن يخاطبه: ما فعل كذا فلن يعدم فيه عذرا ووجها من المصلحة كلام مبذول وعبارة نازلة عن أوفى مراتب الأدب، إنما يطلقها المتكلم لمن هو دونه عادة، فنسأل الله إلهام الأدب وتجنب ما في إساءته من مزلات العطب.

(1/696)


قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير (120)

بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول. بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن.

[سورة المائدة (5) : آية 119]
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119)
قرئ (هذا يوم ينفع بالرفع والإضافة. وبالنصب إما على أنه ظرف لقال. وإما على أن (هذا) مبتدأ، والظرف خبر. ومعناه، هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع. ولا يجوز أن يكون فتحا، كقوله تعالى: (يوم لا تملك) لأنه مضاف إلى متمكن، وقرأ الأعمش: يوم ينفع، بالتنوين، كقوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس) فإن قلت: ما معنى قوله ينفع الصادقين صدقهم؟ إن أريد صدقهم «1» في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم. وعن قتادة:
متكلمان تكلما يوم القيامة. أما إبليس فقال: إن الله وعدكم وعد الحق، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا، فلم ينفعه صدقه. وأما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.

[سورة المائدة (5) : آية 120]
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير (120)
فإن قلت: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء، فقيل: ومن فيهن؟
قلت: «ما» يتناول الأجناس كلها تناولا عاما. ألا تراك تقول إذا رأيت شبحا من بعيد: ما هو؟
قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره، فكان أولى بإرادة العموم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودى ونصراني يتنفس في الدنيا» «2»
__________
(1) . قال محمود «إن قلت ما معناه، إن أريد صدقهم في الآخرة ... الخ» قال أحمد: ولو أجاب بحمل الصادقين على الدنيا وصدقهم على الآخرة حتى يكون التقدير: هذا يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، لكان أوضح طباقا لتفسير قتادة، وأخرج لإبليس وأشباهه من هذا العموم فان إبليس وإن صدق في الآخرة، إلا أنه لم يكن من الصادقين في الدنيا، فلم ينفعه صدقه في الآخرة، والوجهان متقاربان.
(2) . تقدم إسناده إلى أبى بن كعب في تفسير آل عمران.

(1/697)


تم بعون الله تعالى الجزء الأول ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني وأوله: سورة الأنعام

(1/698)


الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)

الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام
مكية [إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153 فمدنية] وعن ابن عباس: غير ست آيات، وآياتها 165 [نزلت بعد الحجر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)
جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله وجعل الظلمات والنور وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير، كقوله وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير «1» وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك وجعل منها زوجها، وجعل الظلمات والنور: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار وخلقناكم أزواجا أجعل الآلهة إلها واحدا. فإن قلت: لم أفرد النور «2» ؟ قلت: للقصد إلى الجنس،
__________
(1) . قال محمود: «الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير ... الخ» قال أحمد: وقد وردت «جعل» و «خلق» موردا واحدا فورد وخلق منها زوجها وورد وجعل منها زوجها وذلك ظاهر في الترادف، إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن «جعل» لم يصحب السموات والأرض، وإنما لزمتها «خلق» وفي إضافة الخلق في هذه الآية إلى السموات والأرض، والجعل إلى الظلمات والنور مصداق للمميز بينهما، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: فإن قلت: لم أفرد النور؟ قلت: للقصد ... الخ» قال أحمد: وقد سبق للزمخشري الاستدلال يجمع الجنس على التكثير، واعتقاد أنه أدل على الكثرة من الافراد. وقد قدمنا ما في ذلك من النظر، وأسلفنا الاستدلال بقول حبر الأمة: كتابه أكثر من كتبه، على خلاف ذلك» وهو رأى الامام أبى المعالي.
ولو قال الزمخشري. إن جمع الظلمات لاختلافها بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام، وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى، والله أعلم.

(2/3)


هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)

كقوله تعالى والملك على أرجائها أو لأن الظلمات كثيرة، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت: علام عطف قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون «1» ؟ قلت: إما على قوله الحمد لله على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته وإما على قوله خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)
ثم قضى أجلا أجل الموت وأجل مسمى عنده أجل القيامة. وقيل: الأجل الأول:
ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأول النوم.
والثاني: الموت. فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره «2» فلم جاز تقديمه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت علام عطف ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا الوجه الثاني نظر من حيث أن عطفه على الصلة يوجب دخوله في حكمها. ولو قال الحمد لله الذي، الذين كفروا بربهم يعدلون لم يسند، لخلو الجملة من العائد. ويمكن أن يقال: وضع الظاهر الذي هو بربهم موضع المضمر تفخيما وتعظيما. وأصل الكلام: الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا يعدلون به، باتساع وقوعها صلة، رعاية لهذا الأصل، فهذا نظر من حيث الاعراب. ونظيره قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم فيمن جعل «ما» موصولة لا شرطية، فان دخول جاءكم وما بعده في حكم الصلة يستدعى ضميرا عائدا إلى الموصول، وهو مفقود لفظا، لأن الظاهر وضع فيه موضع المضمر. والأصل:
ثم جاءكم رسول مصدق له، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى على الاعراب المذكور، وهو أنه يصير التقدير: الحمد لله الذي، الذين كفروا يعدلون، ووقوع هذا عقيب الحمد غير مناسب كما ترى. فالوجه- والله أعلم- عطفه على أول الكلام، لا على الصلة، والله الموفق. [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب ... الخ» قال أحمد: وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم. وقد ورد وعنده علم الساعة في سياق التعظيم لها، وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قبله وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون فالظاهر- والله أعلم- أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر، وكان الأصل- والله أعلم- ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، إذ كلاهما مقضي. فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادى تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم والله أعلم.

(2/4)


وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (5)

في قوله وأجل مسمى عنده؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله ولعبد مؤمن خير من مشرك. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولى عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأى أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.

[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)
في السماوات متعلق بمعنى اسم الله، «1» ، كأنه قيل وهو المعبود فيما. ومنه قوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالالهية فيها، أو هو الذي «2» يقال له- الله- فيها لا يشرك به في هذا الاسم. ويجوز أن يكون الله في السماوات خبرا بعد خبر، على معنى: أنه الله- وأنه في السموات والأرض، بمعنى: أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما. فإن قلت: كيف موقع قوله يعلم سركم وجهركم؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريرا له، لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو- الله- وحده، وكذلك إذا جعلت في السموات خبرا بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث ويعلم ما تكسبون من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن (5)
من في من آية للاستغراق. وفي من آيات ربهم للتبعيض. يعنى: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب فقد كذبوا مردود على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها
__________
(1) . قال محمود: «في السموات متعلق بمعنى اسم الله ... الخ» قال أحمد: وما الآيتان الكريمتان إلا توأمتان، فان التمدح في آية الزخرف وقع بما وقع التمدح به هاهنا، من القدرة على الاعادة والاستنثار بعلم الساعة والتوحد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السموات والأرض.
(2) . عاد كلامه. قال: أو هو المعروف بالألوهية أو هو الذي يقال له- الله- فيهما ... الخ» قال أحمد: وهذه الوجوه كلها كأن التعبير وقع فيها بالملزوم عن لوازمه المشهورة به، كما وقع ذلك في قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أى المعروف المشهور، لأنه بنى على أنه متى ذكر شعره فهم السامع عند ذكره خواصه من الجودة والبلاغة وسلامة النسج، لاشتهاره بذلك، فاقتصر على قوله «شعري» اتكالا على فهم السامع.

(2/5)


ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6) ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)

وهو الحق لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه فسوف يأتيهم أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزؤن وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى:
سيعلمون بأى شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.

[سورة الأنعام (6) : آية 6]
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6)
مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرض له. ومنه قوله إنا مكنا له في الأرض أولم نمكن لهم وأما مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة، لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار: المغزار. فإن قلت: أى فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: ولا يخاف عقباها

[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)
كتابا مكتوبا في قرطاس في ورق فلمسوه بأيديهم ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا «1» سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا إن هذا إلا سحر مبين تعنتا وعنادا
__________
(1) . قال محمود: «ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم تحقيق القراءة على قرب، أى فقرءوه وهو في أيديهم لا بعيدا عنهم لما آمنوا، وإلا فالحظ لا يدرك باللمس حتى يجعل فائدة زيادته إدراكه بوجهين، كما يفهم من كلام الزمخشري.

(2/6)


للحق بعد ظهوره لقضي الأمر لقضى أمر إهلاكهم ثم لا ينظرون بعد نزوله طرفة عين «1» . إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته «2» وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى لم يكن بد من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة. وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة «3» فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين: «4» قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة ولو جعلناه ملكا ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم، لو شاء ربنا لأنزل ملائكة، لجعلناه رجلا لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية «5» لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم وللبسنا عليهم
__________
(1) . قال محمود: «يعنى لا ينظرون بعد نزوله طرفة عين ... الخ» قال أحمد: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك، فانه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح، وليس الأمر كذلك. فالوجه- والله أعلم- أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك، وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا مالا يتوقف وجوب الايمان عليه، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه، المعجز من حيث كونه معجزا، لا المعجز الخاص. فإذا أجيبوا على وقف مقترحهم فلم ينجع فيهم، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، والله أعلم.
(2) . متفق عليه من روآية مسروق عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته مرتين.
وفي روآية لها: رأى جبريل له ستمائة جناح.
(3) . عاد كلامه. قال: «وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون» قال أحمد: ويقوى هذا الوجه قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس: ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة صورته.
(4) . عاد كلامه. قال: «ومعنى- ثم- بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر ... الخ» قال أحمد: وهذه النكتة من محاسن، تنبيهاته.
(5) . متفق عليه من روآية أبى عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال «نبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث، ثم قام فقال نبى الله لأم سلمة: من هذا؟ فقالت: دحية الكلبي ... الحديث» وللحاكم من روآية مسروق عن عائشة قالت: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى في حجري رجلا شبهته بدحية الكلبي. فقال لي: هذا جبريل، وهو يقرئك السلام» وللطبراني من روآية قتادة عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يأتينى جبريل على صورة دحية الكلبي» قال أنس «وكان دحية رجلا جسيما جميلا أبيض» وفي إسناده عفير بن سعدان وهو ضعيف ولأبى نعيم في الدلائل من روآية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت جبرئيل في خلقه الذي خلق عليه، وكنت أراه قبل ذلك في صور مختلفة وأكثر ما كنت أراه في صورة دحية الكلبي» رجاله ثقات، إلا أنه مرسل وروى ابن سعد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عمر «كان جبريل يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي» .

(2/7)


ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون (10) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11) قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12)

ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون. إذا رأوا الملك في صورة إنسان: هذا إنسان وليس بملك، فإن قال لهم: الدليل على أنى ملك أنى جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطق بأنى ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو ليس الله عليهم. ويجوز أن يراد: وللبسنا عليهم حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة: وقرأ ابن محيصن: ولبسنا عليهم، بلام واحدة. وقرأ الزهري: وللبسنا عليهم ما يلبسون، بالتشديد.

[سورة الأنعام (6) : آية 10]
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (10)
ولقد استهزئ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه فحاق بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به

[سورة الأنعام (6) : آية 11]
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11)
فإن قلت: أى فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا «1» قلت: جعل النظر «2» مسببا عن السير في قوله فانظروا فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله سيروا في الأرض ثم انظروا فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

[سورة الأنعام (6) : آية 12]
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12)
لمن ما في السماوات والأرض سؤال تبكيت، وقل لله تقرير لهم، أى هو- الله- لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره كتب على نفسه الرحمة أى أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أى فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا ... الخ» قال أحمد: وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا، ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت «ثم» فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير، وأن السير وسيلة إليه لا غير. وشتان بين المقصود والوسيلة والله أعلم.
(2) . قوله «النظر» لعله «بالنظر» . (ع)

(2/8)


وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13) قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)

به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله ليجمعنكم إلى يوم القيامة فيجازيكم على إشراككم. وقوله الذين خسروا أنفسهم نصب على الذم، أو رفع: أى أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت:
معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.

[سورة الأنعام (6) : آية 13]
وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13)
وله عطف على الله ما سكن في الليل والنهار من السكنى وتعديه بفي كما في قوله وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم. وهو السميع العليم يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)
أولى غير الله همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو أتخذ لأن الإنكار في اتخاذ غير الله وليا، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم. ونحوه أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون آلله أذن لكم. وقرئ فاطر السماوات بالجر صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري: فطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها «1» أى ابتدعتها وهو يطعم ولا يطعم وهو يرزق ولا يرزق، كقوله ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ: ولا يطعم، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: وهو يطعم ولا يطعم، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير لغير الله.
وقرأ الأشهب. وهو يطعم ولا يطعم، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه: وهو يطعم، ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى استطعمت. ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث، وفي فضائل القرآن بإسناد حسن، ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر وسيأتى في تفسير فاطر.

(2/9)


وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (17) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18)

المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك: وهو يعطى ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغنى ويفقر أول من أسلم لأن النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين وكقول موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ولا تكونن وقيل لي لا تكونن من المشركين ومعناه: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. ومن يصرف عنه العذاب يومئذ فقد رحمه الله الرحمة العظمى وهي النجاة، «1» كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد: فقد أتممت الإحسان إليه أو، فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب. وقرئ: من يصرف عنه، على البناء للفاعل، والمعنى: من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى: من يدفع الله عنه.
ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوما أو مذكورا قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به، أى من يصرف الله عنه ذلك اليوم: أى هو له، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبى رضى الله عنه: من يصرف الله عنه،

[سورة الأنعام (6) : آية 17]
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير (17)
وإن يمسسك الله بضر من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، فلا قادر على كشفه إلا هو وإن يمسسك بخير من غنى أو صحة فهو على كل شيء قدير فكان قادرا على ادامته أو إزالته.

[سورة الأنعام (6) : آية 18]
وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18)
فوق عباده تصوير للقهر والعلو بالغلبة والقدرة، كقوله وإنا فوقهم قاهرون الشيء
__________
(1) . قال محمود: «المراد الرحمة العظمى وهي النجاة من النار ... الخ» قال أحمد: وإنما يلجئ إلى تخصيص الرحمة، إما بكونها العظمى، وإما برحمة الثواب أنه لو بقيت على إطلاقها، لما زاد الجزاء على الشرط إذ من المعلوم ضرورة أن صرف العذاب رحمة ما. والعجب أن الزمخشري يصحح تخصيصها برحمة الثواب بأن صرف العذاب يستلزم الثواب ولا بد، وغيره يصحح هذا التخصيص بأنه لا يلزم من صرف العذاب حصول الثواب، لجواز أن يصرف عنه العذاب ولا يثاب، فأفاد الجزاء إذا فائدة لم تفهم من الشرط. هكذا صححه القونوى. ولعمري إن قاعدة المعتزلة تلجئ إلى ما ذهب إليه الزمخشري، لانقسام المكلفين عندهم إلى مستوجب للجنة فالثواب قطعا، وإلى مستوجب للنار فالعذاب قطعا، ويسندون ذلك إلى العقل لا إلى السمع.

(2/10)


قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (19) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)

أعم العام «1» لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم. ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل: شيء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح: جسم لا كالأجسام

[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (19)
وأراد: أى شهيد أكبر شهادة فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ في التعميم قل الله شهيد بيني وبينكم يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله قل الله بمعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ شهيد بيني وبينكم أى هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب، لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أى: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم أإنكم لتشهدون تقرير لهم مع إنكار واستبعاد قل لا أشهد شهادتكم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)
الذين آتيناهم الكتاب يعنى اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة كما يعرفون أبناءهم بحلاهم ونعوتهم لا يخفون
__________
(1) . قال محمود: «الشيء أعم العام، لوقوعه على كل ما يصح ... الخ» قال أحمد وتفسيره الشيء يخالف الفريقين الأشعرية، فإنهم فسروه بالموجود ليس إلا، والمعتزلة فإنهم قالوا: والمعلوم الذي يصح وجوده، فاتفقوا على خروج المستحيل. وعلى الجملة فهذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما. وأما هذا البحث فلغوى والتحاكم فيه لأهل اللغة، وظاهر قولهم غضبت من لا شيء، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلا- أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو وجودا أو ممكنا أو مستحيلا، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء والأمر في ذلك قريب. [.....]

(2/11)


ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24)

عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته. ثم قال الذين خسروا أنفسهم من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين فهم لا يؤمنون به، جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا. وقالوا: والله أمرنا بها وقالوا: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحرا، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24)
ويوم نحشرهم ناصبه محذوف تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف أين شركاؤكم أى آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله.
وقوله: الذين كنتم تزعمون معناه تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ: يحشرهم ثم يقول، بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ، ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم فتنتهم كفرهم. والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم «1» - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب. وقرئ: تكن، بالتاء وفتنتهم، بالنصب. وإنما أنث أن قالوا لوقوع الخبر مؤنثا، كقولك: من كانت أمك؟
وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ: ربنا، بالنصب على النداء
__________
(1) . قال محمود: «فتنتهم كفرهم، والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم ... الخ» قال أحمد: وفي الآية دليل بين على أن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذبا مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون، أى سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة، فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم.

(2/12)


ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (25) وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون (26)

وضل عنهم وغاب عنهم ما كانوا يفترون أى يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت:
كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا: ألا تراهم يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول:
معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله انظر كيف كذبوا على أنفسهم يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عى وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو ناب عنه أشد النبو. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون بعد قوله ويحلفون على الكذب وهم يعلمون فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (25) وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون (26)
ومنهم من يستمع إليك حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته- يعنى الكعبة- ما أدرى ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان:
إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل: كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله «1» واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله
__________
(1) . قال محمود: «الأكنة على القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهذه الآية حسبنا في رد معتقد القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى أراد من هؤلاء المستمعين أن يعوا القرآن ويفقهوه، وأنه لم يمنعهم من ذلك، ومحال على زعمهم أن يمنعهم من ذلك ويريد أن لا يفقهوه، لأن ذلك عندهم قبيح. فانظر كيف تكافحهم هذه الآية بالرد وتنادى عليهم بالخطإ، إذ قوله أن يفقهوه معناه كراهة أن يفقهوه، وبين الارادة على زعمهم، والكراهة على ما أنبأت عنه الآية. بون بعيد، والله الموفق.

(2/13)


وجعلنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب وقرأ طلحة: وقرا بكسر الواو حتى إذا جاؤك يجادلونك هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله إذا جاؤك يقول الذين كفروا ويجادلونك موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: يقول الذين كفروا. تفسير له. والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب وهم ينهون الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به وينأون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون وإن يهلكون بذلك إلا أنفسهم ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشا عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به.
وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا. فقال: «1»
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتي أوسد فى التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتنى وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارى سبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا «2»
فنزلت.
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتيبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا قالت لأبى طالب هذه المقالة فذكر القصة» قال ابن إسحاق: ثم قال: فذكر هذا الشعر.
(2) . لأبى طالب، لما اجتمع عنده قريش وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. «فاصدع» أى اجهر بأمرك حتى تؤثر في القلوب، كصدع الزجاج، أى شقه وكسره. وغض منه يغض- بالضم- غضاضة: وضع ونقص من قدره. وغضغضت الماء وتغضغض هو: نقصته وانتقص. أى ما عليك مذلة ومنقصة من أمرك. وبشر يبشر- بالضم- سر وفرح. وأبشر إبشارا: سر واستبشر. وبشرته وأبشرته أفرحته. أى: افرح وانسر بذلك.
وقرت عينه. بردت سرورا، أى افرح بذلك وانسر. فهو توكيد لأبشر، إلا أنه بطريق الكناية المفيدة للمبالغة.
وعيونا تمييز محول عن الفاعل، أى لتقر عيونك. والمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو المبالغة، أو عيونه هو أو عيونه هو والمؤمنين. ويروى «منه» أى من ذلك الأمر. و «لن» حرف لتوكيد النفي كما تشهد به مواضع الاستعمال.
ونفى الوصول: كناية عن نفى المضرة على وجه أبلغ. والباء للملابسة. و «حتى أوسد» غاية مفيدة للتوكيد والتأييد والتوسيد: كناية عن الموت، فيجعل له وسادة تحت رأسه في رمسه. و «دفينا» أى مدفونا حال. ومجيء المضارع المنفي بلن جوابا للقسم لا يجوز إلا في الضرورة كما هنا. وزعمت: أى قلت عند من لا يصدقك، ولقد صدقت في دعواك أنك ناصح للناس، و «كنت ثم» أى عند قولك «أمينا» فيما ادعيت وعرضت علينا دينا صادقا أنه من خير أديان البرية دينا، أى من جهة الديانة، أو من جهة الجزاء. وقيل: قد يراد من التمييز مجرد التوكيد وهذا منه لا محالة في ذلك، فقوله «لا محالة» جملة اعتراضية للتوكيد. والحذار: مصدر بمعنى الحذر من مسبتهم لي. ويروى أو حذارى سبة. والسب أبلغ من اللوم «لوجدتني» يا محمد راضيا بذاك الدين، مظهرا له. وسمح سماحة فهو سمح، كضخم ضخامة فهو ضخم: إذا جاد ولم يبخل.

(2/14)


ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)

[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28]
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)
ولو ترى جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمرا شنيعا وقفوا على النار أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعا هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك: وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته، وقرئ: وقفوا، على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفا يا ليتنا نرد تم تمنيهم. ثم ابتدءوا ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم:
دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفا على نرد، أو حالا على معنى: يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني.
فإن قلت: يدفع ذلك قوله وإنهم لكاذبون لأن المتمنى لا يكون كاذبا. قلت: هذا تمن قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمن في معنى الواعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالا كافأتك على الإحسان. وقرئ: ولا نكذب ونكون، بالنصب بإضمار أن على جواب التمني «1» ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرا، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا. وقيل: هو
__________
(1) . قال محمود: «وقرئ ولا نكذب ونكون بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ... الخ» قال أحمد:
وكثيرا ما تتناوب صيغة التمني والخبر. ألا ترى: إلى قوله تعالى وبما كانوا يكذبون في قوله: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين إلى قوله وبما كانوا يكذبون وهذه المعاهدة إنما كانت تمنيا بصيغة الخبر، والله أعلم. وأبين من ذلك قوله تعالى في آية أخرى وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فهذا هو التمني بعينه، ولكن بصيغة الوعد والخبر الصريحة، والله الموفق.

(2/15)


وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31)

في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل: هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ردوا إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمعاصي وإنهم لكاذبون فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.

[سورة الأنعام (6) : آية 29]
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29)
وقالوا عطف على لعادوا. أى ولو ردوا لكفروا ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون، على معنى:
وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلا على كذبهم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 31]
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31)
وقفوا على ربهم مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل عرفوه حق التعريف قال مردود على قول قائل قال: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه فقيل: قال أليس هذا بالحق وهذا تعيين من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم- لما كانوا يسماعون من حديث البعث والجزاء-: ما هو بحق وما هو إلا باطل بما كنتم تكفرون بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر. وحتى غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. أى ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدماتها، جعل من جنس الساعة وسمى باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته «1» » . أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة بغتة فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر
__________
(1) . أخرجه أبو شجاع الديلمي في الفردوس عن أنس بلفظ «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» للطبري من حديث زياد من علاقة عن المغيرة بن شعبة قال «يقولون القيامة القيامة، وإنما قيامة الرجل موته» ومن رواية سفيان عن أبى قيس قال «شهدت جنازة فيها علقمة. فما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته.

(2/16)


وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)

كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة فرطنا فيها الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو للساعة على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرطت في فلان. ومنه فرطت في جنب الله يحملون أوزارهم على ظهورهم كقوله فبما كسبت أيديكم لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما ألف الكسب بالأيدى ساء ما يزرون بئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله ساء مثلا القوم.

[سورة الأنعام (6) : آية 32]
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32)
جعل أعمال الدنيا لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله للذين يتقون دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: ولدار الآخرة. وقرئ: تعقلون بالتاء والياء.

[سورة الأنعام (6) : آية 33]
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)
قد في قد نعلم بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته «1» ، كقوله:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله «2»
__________
(1) . قال محمود: «قد في قد نعلم بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته كقوله: ولكنه قد يهلك المال نائله» قال أحمد: ومثلها في قوله وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فانه يكثر علمهم برسالته ويؤكده بظهور آياته، حتى يقيم عليهم الحجة في جمعهم بين متناقضين: أذيته، ورسوخ علمهم برسالته، والله أعلم. ومنه أيضا قوله:
قد أترك القرن مصفرا أنامله
والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه، تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد. وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.
(2) .
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لانكار ضيم أو لخصم يحاوله
لزهير بن أبى سلمي يمدح حصن بن أبى حذيفة. والثقة من وثق، كالعدة من وعد. وإن كان الفعل الأول مكسورا والثاني مفتوحا، فأصلها «وثق» حذفت الواو وخلفتا التاء، والمراد بها ما يتوثق به، أو المصدر هو التوثق، أى هو ملازم لما يتوثق به من مكارم الأخلاف، لا ينفك عنه كأنه أخوه أو ملازم للتوثق به. وإسناد الإهلاك إلى الخمر مجاز عقلى، لأنه سببه، وكذلك إسناده إلى النائل، أى العطاء. و «قد» هنا للتكثير، وإلا لم يكن مدحا، (2- كشاف- 2) تراه متهللا مستبشر الوجه إذا جئته سائلا، فكأنك تعطيه المال الذي أنت طالبه منه. وبالغ في وصفه بالكرم حتى أنه يجود بروحه إن لم يملك غيرها، وبنى على ذلك أمر سائله بالتقوى من الله، لئلا يأخذ روحه فيميته.
فسائله الأول مضاف لمفعوله الثاني. والثاني مضاف للأول. وقوله «فمن» استفهام إنكارى، أى ما مثله أحد في الحروب، وما مثله أحد معد لانكار الظلم وإبائه والمحاولة والمعالجة والطلب. وضمير يحاوله للضيم، أو لحصن، أو لمن. ويروى الشعر برواية أخرى، على أنه وصف لمعن بن زائدة وهي:
يقولون معن لا زكاة لماله ... وكيف يزكى المال من هو باذله
إذا حال حول لم تجد في دياره ... من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت نائله
تعود بسط الكف حتى لو انه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله
فلو لم يكن......... ... ......... البيت
ورفع جمائله، ذهابا إلى المعنى، لأن المعنى لم يبق إلا جمائله ونائله: آخذه منه. وبسط الكف: كناية عن كثرة الكرم. وأنامله: أجزاء أصابعه.

(2/17)


والهاء في إنه ضمير الشأن ليحزنك قرئ بفتح الياء وضمها. والذي يقولون هو قولهم ساحر كذاب لا يكذبونك قرئ بالتشديد والتخفيف، من كذبه إذا جعله كاذبا في زعمه «1» وأكذبه إذا وجده كاذبا. والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه- إذا أهانه بعض الناس-: إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى. وفي هذه الطريقة قوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وقيل: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل: فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين «2» فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروى أن الأخنس بن شريق قال لأبى جهل: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمدا لصادق
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقرئ يكذبونك بالتشديد والتخفيف من كذبه إلى قوله ولكن الظالمين ... الخ» قال أحمد: وفي هذا النوع من إقامة الظاهر مقام المضمر فنان من نكت البيان، إحداهما: الإسهاب في ذمهم وهذه النكتة يستقل بها الظاهر من حيث كونه ظاهرا، حتى لو كان لقبا جامدا، والأخرى زيادة منه تؤكد ذمهم، تفهم من اشتقاق الظاهر.
(2) . لم أجده عنه وفي الطبقات من حديث يعلى بن أمية قال «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين» ورواه أيضا من حديث على ابن أبى طالب نحوه.

(2/18)


ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)

وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش، فنزلت، وقوله ولكن الظالمين من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 34]
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين (34)
ولقد كذبت تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وهذا دليل على أن قوله فإنهم لا يكذبونك ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانونى على ما كذبوا وأوذوا على تكذيبهم وإيذائهم ولا مبدل لكلمات الله لمواعيده من قوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون ولقد جاءك من نبإ المرسلين بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 35 الى 36]
وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل لعلك باخع نفسك، إنك لا تهدي من أحببت، وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض منفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها أو سلما في السماء فتأتيهم منها بآية فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يور أن يجابوا
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقوله ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية ... الخ» قال أحمد: ولا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفى التكذيب أيضا، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين، أى هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر عليهم ولا يحزنك أمرهم، وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم، فأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبره فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا، ولكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب لما اختاره: وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد بالنظائر، والله أعلم.

(2/19)


وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37)

إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات، كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقى إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها.
وحذف جواب «أن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فلا تكونن من الجاهلين من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه «1» إنما يستجيب الذين يسمعون يعنى أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله إنك لا تسمع الموتى والموتى يبعثهم الله مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء فكان قادرا على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل معناه: وهؤلاء الموتى- يعنى الكفرة- يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسماعون. وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم «2» وقرئ: يرجعون، بفتح الياء.

[سورة الأنعام (6) : آية 37]
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37)
لولا نزل عليه آية نزل بمعنى أنزل. وقرئ أن ينزل بالتشديد والتخفيف. وذكر الفعل والفاعل مؤنث، لأن تأنيث آية غير حقيقى، وحسن للفصل. وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عنادا منهم قل إن الله قادر على أن ينزل آية
تضطرهم إلى الإيمان.
كنتق الجبل على بنى إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب ولكن أكثرهم لا يعلمون
__________
(1) . قال محمود: «بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فلا تكونن من الجاهلين من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه» قال أحمد: وهذه الآية أيضا كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، فامتناع اجتماعهم على الهدى إذا إنما كان لامتناع المشيئة، فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة لا يكون الايمان معها اختيارا، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع، وإن مشيئة اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ثابتة غير ممتنعة ولكن لم يقع متعلقها، وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها، والله الموفق.
(2) . قوله «إلى استماعهم» لعله: إسماعهم. (ع)

(2/20)


وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39)

أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفا من الحكمة يصرفه عن إنزالها.

[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)
أمم أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم ما فرطنا ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب في اللوح المحفوظ من شيء من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به ثم إلى ربهم يحشرون يعنى الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روى أنه يأخذ للجماء من القرناء. فإن قلت: كيف قيل: إلا أمم مع إفراد الدابة والطائر؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر دالا على معنى الاستغراق ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله إلا أمم على المعنى، فإن قلت، هلا قيل: وما من دابة ولا طائر «1» إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله في الأرض ويطير بجناحيه قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا طائر، بالرفع على المحل، كأنه قيل:
وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة: ما فرطنا، بالتخفيف.

[سورة الأنعام (6) : آية 39]
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39)
فإن قلت: كيف أتبعه قوله والذين كذبوا بآياتنا؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادى على عظمته قال: والمكذبون صم لا يسماعون كلام المنبه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قبل: وما من دابة ولا طائر ... الخ» قال أحمد: ولم يبين وجه زيادتها للتعميم.
ولقائل أن يقول: يلزم من العموم في أجناس الطير دخول كل طائر في الجو في العموم وإن لم يذكر في الجو، وكذلك يلزم من عموم الدواب في سائر أصنافها أن يندرج في ذلك كل دابة في الأرضين وإن لم يذكر في الأرض، فلا بد من بيان وجه الزيادة فنقول: موقع قوله في الأرض ويطير بجناحيه موقع الوصف العام، وصفة العام عامة ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة تظافرت صفتان عامتان، والله أعلم. [.....]

(2/21)


قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)

بكم لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذانا بأنهم من أهل الطبع «1» من يشأ الله يضلله أى يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، «2» لأنه ليس من أهل اللطف ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم أى يلطف به لأن اللطف يجدى عليه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)
أرأيتكم أخبرونى. والضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه؟ وهو خلف من القول ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب انه «3» أو أتتكم الساعة من تدعون. ثم بكتهم بقوله أغير الله تدعون بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر، أم تدعون الله دونها بل إياه تدعون بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعون إليه أى ما تدعونه إلى كشفه إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة وتنسون ما تشركون وتتركون آلهتكم، «4» أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأن أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير الله تدعون «5» كأنه قيل:
__________
(1) . قوله «إيذانا بأنهم من أهل الطبع» أى الختم على القلوب. وقوله «أى يخذله ... الخ» فسر الإضلال بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلق الشر كالخير، فالاضلال على ظاهره عندهم بمعنى خلق الضلال في القلب. (ع)
(2) . قال محمود: «معنى يضلله يخذله ولم يلطف به ... الخ» قال أحمد: وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد. وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها، وقد اتسع الخرق على الراقع، والله الموفق.
(3) . قال محمود: «متعلق الاستخبار محذوف تقديره ... الخ» قال أحمد: هو لا يدع أن يحجر واسعا فيوجب على الله رعاية المصالح بناء على القاعدة الفاسدة من مراعاة الصلاح والأصلح.
(4) . عاد كلامه. قال: «وتنسون ما تشركون: أى وتتركون آلهتكم ... الخ» قال أحمد: وإنما يلقى الاختصاص حيث يقول: معناه أتخصون آلهتكم، ثم قال: بل تخصون الله بالدعاء من حيث تقدم المفعول على الفعل في قوله أغير الله تدعون وقوله بل إياه تدعون وتقديم المفعول عنده يفيد الاختصاص والحصر. وقوله تعالى إياك نعبد في قوة قولك: لا نعبد إلا إياك. وقد مضى الكلام عليه.
(5) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير الله تدعون ... الخ» قال أحمد: ولقد سدد النظر لولا أنه نغص ذلك بما يفهم وجوب مراعاة المصالح. وأن مشيئة الله تعالى تابعة للمصلحة، وقد تقدم آنفا فاحذره. وعليك بما سواه فانه من بديع النظر، والله الموفق.

(2/22)


ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45)

أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله. فإن قلت: إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله:
فيكشف ما تدعون إليه مع قوله أو أتتكم الساعة وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله: إن شاء إيذانا بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45)
البأساء، والضراء: البؤس، والضر. وقيل البأساء: القحط والجوع. والضراء: المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى: ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم لعلهم يتضرعون يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا معناه: نفى التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم فلما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء: أى تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلبا لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصد لتوبة واعتذار أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون واجمون «1» متحسرون آيسون فقطع دابر القوم آخرهم لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم «2» والحمد لله رب العالمين
__________
(1) . قوله «واجمون» في الصحاح «الواجم» الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. (ع)
(2) . قوله «شأفتهم» قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، ثم ضربت مثلا في الاستئصال. أوده الصحاح. (ع)

(2/23)


قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون (47) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49)

إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة «1» وأنه من أجل النعم وأجزل القسم. وقرئ «فتحنا» بالتشديد.

[سورة الأنعام (6) : آية 46]
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)
إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم بأن يصمكم ويعميكم وختم على قلوبكم بأن يغطى عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم يأتيكم به أى يأتيكم بذاك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه يصدفون يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.

[سورة الأنعام (6) : آية 47]
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون (47)
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل بغتة أو جهرة وعن الحسن: ليلا أو نهارا. وقرئ بغتة أو جهرة «2» هل يهلك أى ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ. هل يهلك بفتح الياء.

[سورة الأنعام (6) : آية 48]
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (48)
مبشرين ومنذرين من آمن بهم وبما جاءوا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة وأصلح ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.

[سورة الأنعام (6) : آية 49]
والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49)
__________
(1) . قال محمود: «الحمد هاهنا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك ... الخ» قال أحمد: ونظيرها قوله تعالى وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين، قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف هاهنا وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين. ومنهم من وقف على المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما يشركون، فعلى الأول يكون الحمد حتما، وعلى الثاني فاتحة، وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في، آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه ختما، إذ لا يقتضى السياق غير ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «بغتة أو جهرة» كذا في أبى السعود والبيضاوي. وفي بعض نسخ هذا الكتاب بغتة أو جهرة، وكتب عليه: أى بتحريك الغين والهاء. اه (ع)

(2/24)


قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)

جعل العذاب ماسا، كأنه حى يفعل بهم ما يريد من الآلام. ومنه قولهم: لقيت منه الأمرين والأقورين»
حيث جمعوا جمع العقلاء: وقوله إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا.

[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50)
أى لا أدعى ما يستبعد في العقول «2» أن يكون لبشر من ملك خزائن الله- وهي قسمه بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأنى من الملائكة الذين هم أشرف جنس «3» خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أى لم أدع إلهية ولا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدعى ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوة هل يستوي الأعمى والبصير مثل للضال والمهتدى «4» ويجوز أن يكون
__________
(1) . قوله «الأمرين والأقورين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي. والأقورين- بكسر الراء-: الدواهي العظام، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «أى لا أدعى ما يستبعد في العقول ... الخ» قال أحمد رحمه الله: هو ينبنى على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها ولمخالفة أن يقول: إنما وردت الآية ردا على الكفار في قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز ... الآية فرد قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، بأنه بشر وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وكذلك رد قولهم. أو يلقى إليه كنز، بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به. وهذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفا لترتيب قوله ن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، وقد أخر هاهنا دعوى الملكية عن دعوى الالهية، إذ الالهية أجل وأعلى، والملكية أدنى، ولا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته وقد جعلت الأمر في التقديم والتأخير تبعا للسياق، فقد تقضى البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر. ولم يحسن الزمخشري في قوله: ليس يعد الالهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فانه جعل الالهية من جملة المنازل كالملكية. ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فاطلاقها على الالهية تحريف، والله الموفق للصواب.
(3) . قوله «من الملائكة الذين هم أشرف جنس» أى عند المعتزلة، أما عند أهل السنة، فالبشر أشرف، على ما تقرر في التوحيد. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: والأعمى والبصير مثل للضال والمهتدى ... الخ» قال أحمد: قوله أو ادعى المحال يعنى المستحيل، ولذلك قابله بالمستقيم يريد الممكن، وذلك مسبب عن دعوى الالهية، إذ ادعاؤها لا يجوز عقلا. وأما مدعى الملكية فلا يقاس بمدعي الالهية في الاستحالة العقلية. ويجوز في القدرة أن يجعل البشر ملكا والملك بشرا، كما يجوز أن يجعل البشر أنبياء. ويدل على هذا الجواز قوله ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا هذا مع أن العقل يجيزه في قدرة الله تعالى، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها فالمعاني التي بها كان الملك ملكا يجوز أن يخلقها الله تعالى للبشر وبالعكس. وعدم وقوعه لا يأبى استقامته وإمكانه، والله الموفق.

(2/25)


وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51)

مثلا لمن اتبع ما يوحى إليه. ومن لم يتبع. أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة، والمحال وهو الإلهية أو الملكية أفلا تتفكرون فلا تكونوا ضالين أشباه العميان. أو فتعلموا أنى ما ادعيت ما لا يليق بالبشر. أو فتعلموا أن أتباع ما يوحى إلى مما لا بد لي منه. فإن قلت: أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفا على قوله عندي خزائن الله، لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول.

[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51)
وأنذر به الضمير راجع إلى قوله ما يوحى إلي والذين يخافون أن يحشروا إما قوم داخلون في الإسلام مقرون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل «1» فينذرهم بما يوحى إليه لعلهم يتقون أى يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وإما أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث. وإما ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمردين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم، ولا بد من هذه الحال، لأن كلا
__________
(1) . قال محمود: «الذين يخافون إما قوم آمنوا إلا أنهم مفرطون ... الخ» قال أحمد: وإنما كانت هذه الحال لازمة لو قيل: وأنذر به الذين يحشرون، لأنه لولا الحال لعم الأمر بالإنذار كل أحد والمقصود تخصيصه بالبعض.
وأما وقد قيل وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم فهذا الكلام مستقل برأسه. ومضمونه تخصيص الانذار المأمور به بالقوم الخائفين من البعث، إما لأنهم مقرون به. وإما لأنهم يحتاطون لأنفسهم فيحملهم الخوف على النظر المقضى إلى اليقين، دون العتاة المصممين على الجحد وليس كل خائف من البعث لا شفيع له، فان الموحدين أجمعين خائفون وهم مشفوع لهم، وإن عنى باللازمة التي لا ينفك ذو الحال عنها، كالتي في قوله وهو الحق مصدقا قائما هو حينئذ يبتنى على قاعدته في إنكار الشفاعة، فكل خائف عنده لا شفيع له إذ لا يخاف إلا أصحاب الكبائر غير التائبين أو الكفار. والكل عنده سواء لا شفيع لهم. وحيث أثبتت الشفاعة، جعلها خاصة بزيادة الثواب، فلا ينالها إلا من يستوجب على زعمه الثواب بعمله الصالح، وتكون الشفاعة مفيدة للمزيد على ما يرضيه. فهذا عنده لا يخاف من البعث، لأنه يستوجب الجنة. فمن ثم جعل الحال لازمة إذ الناس قسمان: غير مخالف، فلا تتناوله الآية.
وخائف، فذاك إنما خاف لأنه استوجب العقاب فلا شفاعة تناله. وهذه من دفائنه الخفية، ومكامنه المزوية، فتفطن لها، والله الموفق برحمته. [.....]

(2/26)


ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)

محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.

[سورة الأنعام (6) : آية 52]
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أى عبادته ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشى: الدوام. وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله يريدون وجهه والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روى أن رؤسا من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم، وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف- جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم، طمعا في إيمانهم «1» . وروى أن عمر رضى الله عنه قال:
لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتابا، فدعا بصحيفة وبعلى رضى الله عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته «2» . قال سلمان وخباب: فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت «3» : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم، فترك القيام عنا إلى أن تقوم
__________
(1) . رواه البيهقي في الشعب في أواخره والواحدي في الأسباب من رواية أبى مشجعة بن ربعي عن سلمان قال «جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن بدر والأفرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المسجد ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون أبا ذر وسلمان وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك. فأنزل الله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم- إلى قوله- للظالمين نارا فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم. الحديث» ولابن ماجة وابن أبى شيبة والطبراني وأبو نعيم في ترجمة خباب. وإسحاق وأبو يعلى والبزار والبيهقي أيضا والواحدي من طريق أبى الكنود عن خباب في قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء- الآية إلى الظالمين قال: جاء الأفرع وعيينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدا في ناس من ضعفاء المؤمنين. فذكره مطولا.
(2) . قلت هو في حديث خباب المذكور آنفا دون مشورة عمر. واعتذاره.
(3) . قلت أما حديث خباب فمن أوله إلى قوله «أن تقوم» في حديثه المذكور آنفا. وأما حديث سلمان فقد ذكرته أولا. وأما قوله «وقال الحمد لله ... إلى آخره» فهو في حديث سلمان وحده.

(2/27)


وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54)

عنه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع قوم من أمتى. معكم المحيا ومعكم الممات ما عليك من حسابهم من شيء كقوله إن حسابهم إلا على ربي وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال ما عليك من حسابهم من شيء بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة «1» المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضى فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم، كقوله ولا تزر وازرة وزر أخرى. فإن قلت:
أما كفى قوله ما عليك من حسابهم من شيء حتى ضم إليه وما من حسابك عليهم من شيء؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين فتطردهم جواب النفي فتكون من الظالمين جواب النهى. ويجوز أن يكون عطفا على فتطردهم على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم. وقرئ: بالغدوة والعشى.

[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53)
وكذلك فتنا ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أى ابتليناهم بهم. وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا أى أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه أألقي الذكر عليه من بيننا، لو كان خيرا ما سبقونا إليه. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم «2» فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول مفتون أليس الله بأعلم بالشاكرين أى الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.

[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54)
__________
(1) . قوله «بسيمة» لعله «بسمة» . (ع)
(2) . قوله «خذلناهم فافتتنوا» فسر بهذا على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة يخلق الشر كالخير. (ع)

(2/28)


وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58)

فقل سلام عليكم إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم. وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم. وكذلك قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ: إنه، فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل أنه من عمل منكم وبالفتح على الإبدال من الرحمة بجهالة في موضع الحال، أى عمله وهو جاهل. وفيه معنيان، أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدى إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير. ومنه قول الشاعر:
على أنها قالت عشية زرتها ... جهلت على عمد ولم تك جاهلا «1»
والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل: إنها نزلت في عمر رضى الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة.

[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55)
وقرئ ولتستبين بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين، من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58)
__________
(1) . «على» بمعنى «مع» أى قالت عشية زيارتي إياها «جهلت» أى فعلت فعل الجاهل، أو تجاهلت وادعيت الجهل، مع تعمدك ولم تك جاهلا حين الفعل. أو لم تك فيما مضى جاهلا بشيء. (ع)

(2/29)


نهيت صرفت وزجرت، بما ركب فى من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة قل لا أتبع أهواءكم أى لا أجرى في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل قد ضللت إذا أى إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعنى أنكم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبه على ما يجب اتباعه بقوله قل إني على بينة من ربي ومعنى قوله إني على بينة من ربي وكذبتم به: إنى من معرفة ربى وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتا عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا «1» بالعذاب المستأصل فقال ما عندي ما تستعجلون به يعنى العذاب الذي استعجلوه في قولهم فأمطر علينا حجارة من السماء إن الحكم إلا لله في تأخير عذابكم يقص الحق أى القضاء الحق في كل ما يقضى من التأخير والتعجيل في أقسامه وهو خير الفاصلين أى القاضين. وقرئ: يقص الحق «2» أى يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره، من قصر أثره لو أن عندي أى في قدرتي وإمكانى ما تستعجلون به من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وامتعاضا «3» من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعا والله أعلم بالظالمين وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم. وقيل على بينة من ربي على حجة من جهة ربى وهي القرآن وكذبتم به أى بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن. فإن قلت: بم انتصب الحق؟ قلت: بأنه صفة لمصدر يقضى، أى يقضى القضاء الحق. ويجوز أن يكون مفعولا به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أى يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله: يقضى بالحق. فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: اتباعا للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين.
__________
(1) . قوله «يغافصوا» أى يؤاخذوا على غفلة. يقال: غافصت الرجل أخذته على غرة اه (ع)
(2) . قوله «وقرئ يقص الحق» ظاهره أن قراءة يقص من القضاء، هي المشهورة. فليحرر. (ع)
(3) . قوله «وامتعاضا» الامتعاض: امتداد الغضب. أفاده الصحاح. (ع)

(2/30)


وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60)

[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59)
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن «1» المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح: جمع مفتح وهو المفتاح. وقرئ مفاتيح، وقيل: هي جمع مفتح- بفتح الميم- وهو المخزن. ولا حبة ... ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة «2» وداخل في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله إلا في كتاب مبين كالتكرير لقوله إلا يعلمها لأن معنى إلا يعلمها ومعنى إلا في كتاب مبين واحد. والكتاب المبين: علم الله تعالى، أو اللوح: وقرئ: ولا حبة. ولا رطب.
ولا يابس، بالرفع. وفيه وجهان: أن يكون عطفا على محل من ورقة وأن يكون رفعا على الابتداء وخبره إلا في كتاب مبين: كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.

[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60)
وهو الذي يتوفاكم بالليل الخطاب للكفرة، أى أنتم منسدحون «3» الليل كله
__________
(1) . قال محمود: «المفاتح استعارة، لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن ... الخ» قال أحمد: إطلاق التوصل على الله تعالى ليس سديدا فانه يوهم تجدد وصول بعد تباعد إذ قول القائل توصل زيد إلى كذا يفهم أنه وصل بعد تكلف وبعد والله تعالى مقدس عن ذلك والغائب كالحاضر في علمه والعلم بالكائن هو العلم بما سيكون لا يتغاير ولا يختلف وليس لما أن نطلق مثل هذا الإطلاق إلا عن ثبت، والله الموفق.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، عطف على ورقة وداخل في حكمها ... الخ» قال أحمد: وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على ورقة بعد أن سلب الإيجاب لمقصود للعلم في قوله إلا يعلمها وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم وهو المقصود وطالت، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف كان ذلك جديرا بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى، ليتلقاها السامع غضة جديدة غير مملولة بالتكرير. وهذا السر إنما ينقب عنه المسيطر في علم البيان ونسكت اللبان، والله الموفق.
(3) . قوله «منسدحون» أى منسطحون على القفا، أو منقلبون على الوجه أفاده الصحاح. (ع)

(2/31)


وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)

كالجيف ويعلم ما جرحتم بالنهار ما كسبتم من الآثام فيه ثم يبعثكم فيه ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: «1» في أمر كذا ليقضى أجل مسمى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. ثم إليه مرجعكم وهو المرجع إلى موقف الحساب ثم ينبئكم بما كنتم تعملون في ليلكم ونهاركم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62]
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62)
حفظة ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبى حاتم السجستاني كان يكتب عن الأصمعى كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه. أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة: فقال أبو حاتم: وهذا أيضا مما يكتب. فإن قلت: الله تعالى غنى بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء توفته رسلنا أى استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه. وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله. وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. وقرئ:
توفاه. ويجوز أن يكون ماضيا ومضارعا بمعنى تتوفاه. ويفرطون بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحد، والإفراط مجاوزة الحد أى لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه ثم ردوا إلى الله أى إلى حكمه وجزائه مولاهم مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم الحق العدل الذي لا يحكم إلا بالحق ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره وهو أسرع الحاسبين لا يشغله حساب عن حساب. وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولك: الحمد لله الحق.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)
__________
(1) . قوله «فتقول في أمر كذا» لعله: فيقول. (ع)

(2/32)


قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65) وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (67)

ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، ويجوز أن يراد. ما يشفون «1» عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتهما لئن أنجيتنا على إرادة القول من هذه من هذه الظلمة الشديدة. وقرئ ينجيكم بالتشديد والتخفيف. وأنجانا. وخفية، بالضم والكسر.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65) وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (67)
هو القادر هو الذي عرفتموه قادرا وهو الكامل القدرة عذابا من فوقكم كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان أو من تحت أرجلكم كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم: من قبل أكابركم وسلاطينكم.
ومن تحت أرجلكم: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أو يلبسكم شيعا أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها بدى «2»
__________
(1) . قوله «ما يشفون عليه» أى يشرفون ويقربون. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(2) .
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين منعقر وآخر مسند
ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالها لا تبعد
للفرار السلمي، يمدح نفسه بأنه مهياج للشر يعرف مداخله ومخارجه. يقول: رب جماعة خلطتها بأخرى، حتى إذا تم اختلاطهما تخلصت منهما وتركتهما في حيص بيص، لكن فيه إثبات طرف من اللؤم، ونفض اليد: كناية عن التخلص. والوقص: الدق والكسر. والمنعقر: المجروح بالسهم، فتنقطع قوته من العقر وهو القطع. ويروى:
منعفر، بالفاء أى متعفر بالتراب. والمسند: اسم مفعول، أى دابرين بين ساقط ومتكئ على غيره، ولا تبعد:
مقول المقال، وهو بفتح العين أى لا تهلك، وهي كلمة تقولها النساء عند المصيبة. وقوله «وفتلت» حال، أى والحال أنى قد قتلت دون رجال تلك النساء، أى أمامهم، أو من بينهم لكفايتى عنهم. أى لو صبرت لقتلت، ولم يحينى كلام نسائهم وتفجعهم على مع سلامة رجالهن. (3- كشاف- 2)

(2/33)


وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69)

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتى عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرنى جبريل أن فناء أمتى بالسيف» «1» وعن جابر بن عبد الله لما نزل من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك» فلما نزل أو من تحت أرجلكم. أو يلبسكم شيعا
قال «هاتان أهون» «2» ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. والضمير في قوله وكذب به راجع إلى العذاب وهو الحق أى لا بد أن ينزل بهم قل لست عليكم بوكيل بحفيظ وكل إلى أمركم أمنعكم من التكذيب إجبارا، إنما أنا منذر لكل نبإ لكل شيء ينبأ به، يعنى إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به مستقر وقت استقرار وحصول لا بد منه. وقيل: الضمير في به للقرآن.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69]
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69)
يخوضون في آياتنا في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فأعرض عنهم فلا تجالسهم وقم عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره فلا بأس أن تجالسهم حينئذ وإما ينسينك الشيطان وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى عن مجالستهم «3»
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي بغير سند. وهو في عدة أحاديث دون خبر جبريل. فروى ابن مردويه من حديث عمرو بن قيس عن رجل عن ابن عباس قال «لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ... الآية قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قال: اللهم لا ترسل على أمتى عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعا. فأتاه جبريل. فقال: يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم» وله شواهد: منها في مسلم عن سعد مرفوعا «سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها» وعند مسلم من حديث ثوبان مطولا. وعند عبد الرزاق من حديث شداد بن أوس مطولا أيضا وفي الموطأ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعا لأمته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيها ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها» ولابن ماجة من حديث معاذ نحو حديث سعد والنسائي من حديث أنس نحوه وللترمذي من حديث خباب بن الأرت نحوه، وعند أحمد من حديث أبى بصرة الغفاري نحوه وفي الطبراني من حديث ابن عباس، وقوله «أن فناء أمتى بالسيف» رواه من حديث
(2) . أخرجه البخاري من حديث جابر
(3) . قال محمود: «معناه وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى ... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل الثاني يروم تنزيله على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وأنه كاف وإن لم يرد شرع في التحريم وغيره من الأحكام إذا كانت واضحة للعقل، كمجالسته المستهزئين فان قبحها بين العقل فهو مستقل بتحريمها، وحيث ورد الشرع بذلك فهو كاشف لحكمها ومبنية عليه، لا منشئ فيها حكما. وقد علمت فساد هذه القاعدة ومخالفتها للعقائد السنية، على أن الآية تنبو عنه فانه لو كان النسيان المراد هاهنا نسيان الحكم الذي يدل عليه العقل قبل ورود هذا النهى، لما عبر بالمستقبل في قوله وإما ينسينك فأما وقد ورد بصيغة الاستقبال فلا وجه لحمله على الماضي، والله الموفق.

(2/34)


وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)

فلا تقعد معهم بعد الذكرى بعد أن تذكر النهى. وقرئ: ينسينك. بالتشديد.
ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهى «1» قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم لعلهم يتقون لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أى يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروى أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت: ما محل ذكرى؟ قلت: يجوز أن يكون نصبا على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أى تذكيرا. ورفعا على: ولكن عليهم ذكرى.
ولا يجوز أن يكون عطفا على محل من شيء، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأن قوله من حسابهم يأبى ذلك.

[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)
اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أى دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعبا ولهوا. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين
__________
(1) . قوله «كان الشيطان ينسينك قبل النهى» بناء على أن هناك حكما قبل الشرع وهو مذهب المعتزلة، ولا حكم قبل الشرع عند أهل السنة. (ع)

(2/35)


قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71)

الإسلام لعبا ولهوا، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى «ذرهم» اعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم وذكر به أى بالقرآن أن تبسل نفس مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال:
وإبسالى بنى بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق «1»
ومنه: هذا عليك بسل، أى حرام محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال: بسر الرجل إذا اشتد عبوسه، فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس:
منقبض الوجه وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية «2» لأن الفادي يعدل المفدى بمثله. وكل عدل: نصب على المصدر. وفاعل يؤخذ قوله منها لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى ولا يؤخذ منها عدل فبمعنى المفدى به، فصح إسناده إليه أولئك إشارة إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا. قيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان «3» .

[سورة الأنعام (6) : آية 71]
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71)
__________
(1) . لعوف بن الأحوص الباهلي. والابسال: التسليم للباسل أى الشجاع المانع العابس. والبعو: بالعين المهملة- الجناية. يتحسر على تسليم أبنائه لبنى قشير رهنا في دم رجل منهم اسمه أبو الصحيفة، بغير جرم: أى ذنب جنيناه أنا وأولادى، ولا بدم مراق أى مسال منا، كناية عن القتل.
(2) . قال محمود: «معناه وإن تفد كل فداء والعدل الفدية ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من عيون إعرابه ونكت إغرابه التي طالما ذهل عنها غيره، وهو من جنس تدقيقه في منع عود الضمير من قوله فتنفخ فيها إلى الهيئة من قوله كهيئة الطير مع أنه السابق إلى الذهن، وإنما حمله على القول بأن العدل هاهنا مصدر أن الفعل تعدى إليه بغير واسطة، ولو كان المراد المفدى به لكان مفعولا به، فلم يتعد إليه الفعل إلا بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل، فلما عدل عنه علم أنه مصدر، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «نزلت في أبى بكر رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان ... الخ» قال أحمد: ومن أنكر الجن واستيلاءها على بعض الأناسى بقدرة الله تعالى حتى يحدث من ذلك الخبطة والصرع ونحوهما، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي، حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى الشرعي ائتنا، وهو راكب في ضلالة التعاسيف لا يلوى عليهم ولا يلتفت إليهم، فمرة يقول: إن الوارد في الشرع من ذلك تخييل، كما تقدم في سورة البقرة. ومرة يعده من زعمات العرب وزخارفها. وقد أسلفنا ذلك في البقرة وآل عمران قولا شافيا بليغا، فجدد به عهدا، والله الموفق.

(2/36)


قل أندعوا أنعبد من دون الله الضار النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام كالذي استهوته الشياطين كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان في الأرض المهمه «1» حيران تائها ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع له أى لهذا المستهوى أصحاب رفقة يدعونه إلى الهدى إلى أن يهدوه الطريق المستوى. أو سمى الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له ائتنا وقد اعتسف المهمه تابعا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنى على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجن تستهوى الإنسان، والغيلان تستولى عليه، كقوله الذي يتخبطه الشيطان من المس فشبه الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم قل إن هدى الله وهو الإسلام هو الهدى وحده وما وراءه، ضلال وغى ومن يبتغ غير الإسلام دينا. فماذا بعد الحق إلا الضلال. فإن قلت: فما محل الكاف في قوله كالذي استهوته؟ قلت النصب على الحال من الضمير في نرد على أعقابنا أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى استهوته؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت: ما محل أمرنا قلت: النصب عطفا على محل قوله إن هدى الله هو الهدى على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. فإن قلت: ما معنى اللام في لنسلم؟ قلت:
هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا واردا في شأن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «2» فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا؟
__________
(1) . قوله «الأرض المهمه» أى المفازة المتسعة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت إذا كان هذا واردا في أبى بكر فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا من دون الله ... الخ؟ قال أحمد: هو مبنى على أن الأمر هو الارادة، أو من لوازمه إرادة المأمور به، وهذا الاعراب منزل على معتقده هذا. وأما أهل السنة فكما علمت أن الأمر عندهم غير الارادة ولا يستلزمها.
وقولهم في هذه اللام كقولهم وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون من نفى كونها تعليلا. والوجه في ذلك أنهم لما أوضحت لهم الآيات البينات وأزيحت عنهم العلل وتمكنوا من الإسلام والعبادة امتثالا للأمر جعلوا بمثابة من أريد منهم ذلك تمكينا لحضهم على الامتثال ولقطع أعذارهم إذا فعل بهم فعل المراد منهم ذلك، وما شأن المريد للشيء إذا كان قادرا على حصوله أن يزيح العلل ويرفع الموانع، وكذلك فعل مع المكلفين وإن لم تكن الطاعة مرادة من جميعهم، وأما إذا كانت اللام هي التي تصحب المصدر كما يقول الزجاج: تقديره الأمر للإسلام وكذلك يقول في قوله تعالى يريد الله ليبين لكم الارادة للبيان وهي اللام التي تصحب المفعول عند تقدمه في قولك: لزيد ضربت، فهي على هذا الوجه غير محتاجة للتأويل. وقد قيل إنها بمعنى أن كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم قال هذا القائل. وكى ولام كى في أمرت وأردت خاصة، بمعنى «أن» لا على بابها من التعليل. والغرض من دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق وأبلغ، إذ لا يتعلق هذان المعنيان- أعنى الأمر والارادة- إلا بمستقبل، وقد جمع بين
الثلاثة اللام وكى وأن، في قوله ... أردت لكيما أن يطير ...
«البيت» وهذا الوجه أيضا سالم المعنى من الخلل الذي يعتقده الزمخشري، والمحافظة على العقيدة. وقد وجدنا السبيل إلى ذلك بحمد الله متعينة، والله الموفق.

(2/37)


وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (73)

قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصا بينه وبين الصديق أبى بكر رضى الله تعالى عنه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 الى 73]
وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (73)
فإن قلت: علام عطف قوله وأن أقيموا «1» ؟ قلت: على موضع لنسلم كأنه قيل:
وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أى للإسلام ولإقامة الصلاة قوله الحق مبتدأ. ويوم يقول: خبره مقدما عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائما بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أى لا يكون شيأ من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. ويوم ينفخ ظرف لقوله وله الملك كقوله لمن الملك اليوم؟ ويجوز أن يكون قوله الحق فاعل يكون، على معنى: وحين يقول لقوله الحق، أى لقضائه الحق كن فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف»
دل عليه قوله بالحق كأنه قيل: وحين يكون ويقدر يقوم بالحق عالم الغيب هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت علام عطف قوله: وأن أقيموا ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا مصداق القول بأن لنسلم معناه أن نسلم، وأن اللام فيه رديفة «أن» لا يراد عطفها عليها، فذلك هو الوجه الصحيح إن شاء الله.
وفي ورود أقيموا الصلاة محكيا بصيغته، وورود «نسلم» محكيا بمعناه، إذ الأصل المطابق لأقيموا: أسلموا، مصداق لما قدمته عند قوله تعالى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وبينت ثم أن ذلك جائز على أن يكون عيسى عليه السلام حكى قول الله تعالى: اعبدوا الله ربكم ورب عيسى بمعناه فقال: اعبدوا الله ربى وربكم، فهذا مثله حكاية المعنى دون اللفظ، والله أعلم.
(2) . قوله «لمحذوف» لعله «بمحذوف» . (ع)

(2/38)


وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78)
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)
آزر اسم أبى إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارح. والأقرب أن يكون وزن آزر فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيان لأبيه. وقرئ «آزر» بالضم على النداء. وقيل «آزر» اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهن، فقيل ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعد أسمائى «1»
أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ ءأزر تتخذ أصناما آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاى ساكنة وراء منصوبة منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد آزرا على الإنكار؟ ثم قال: تتخذ أصناما آلهة تثبيتا لذلك وتقريرا، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له فلما جن عليه الليل عطف على قال إبراهيم لأبيه «2»
__________
(1) . يقول: ينادوننى بلفظ «أسماء» شتما لي بين قبائلها: أى قبائل المحبوبة. ففيه استخدام. كأن أسماء، أى هذا اللفظ، أضحت: أى صارت بعض أسمائى. وأصل أسماء عند سيبويه: وسماء، من الوسامة وهي الحسن والجمال. قلبت واوه همزة على غير قياس. كما في أحد. وعند المبرد جمع اسم. وبين أسماء وأسمائى الجناس التام.
وعلى اعتبار ياء المتكلم فهو من الناقص.
(2) . قال محمود: «قوله فلما جن عليه الليل عطف على قال إبراهيم لأبيه ... الخ» قال أحمد: وفي الاعتراض بهذه الجملة تنويه بما سيأتى من استدلال إبراهيم عليه السلام وأنه تبصير له من الله تعالى وتسديد. [.....]

(2/39)


وقوله وكذلك نري إبراهيم جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره. ملكوت السموات والأرض: يعنى الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحا صدره وسددنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال.
وليكون من الموقنين: فعلنا ذلك. ونرى: حكاية حال ماضية، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب «1» ، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيأ منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها هذا ربي قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة لا أحب الآفلين لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى مكان، المحتجبين بستر، فإن ذلك من صفات الأجرام بازغا مبتدئا في الطلوع لئن لم يهدني ربي تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه هذا أكبر من باب استعمال النصفة «2» أيضا مع خصومه إني بريء مما تشركون من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض أى للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله.
__________
(1) . عاد كلامه قال: «وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ... الخ» قال أحمد: والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله أولا لا أحب الآفلين إنما ترقى إلى ذلك لأن الخصوم قد أقامت عليه الاستدلال الأول حجة، فأنسوا بالقدح في معتقدهم. ولو قيل هذا في الأول، فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض صلوات الله عليهم بأنهم في ضلالة، إلا بعد أن وثق باصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك، حين قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: و «قوله هذا أكبر من باب استعمال النصفة أيضا مع الخصوم ... الخ» قال أحمد:
وصدق الزمخشري، بل ذلك متعين. وقد ورد الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه السلام فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي لا أسأل أحدا غيرى، ويذكر كذباته الثلاث ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة «هي أختى» وإنما عنى في الإسلام. وقوله «إنه سقيم» وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يبقمه ذلك. وقوله «بل فعله كبيرهم» وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض، فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنها أعظم ما صدر منه، فلو كان الأمر على ما يقال من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظر لنفسه، لكان أولى أن يعده أعظم مما ذكرناه لأنه حينئذ يكون شكا بل جزما، على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك.

(2/40)


وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين (89) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)

والأول أظهر، لقوله لئن لم يهدني ربي وقوله يا قوم إني بريء مما تشركون. فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ «1» ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله هذا ربي والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم:
ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازا من علامة التأنيث. وقرئ: ترى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، بالتاء ورفع الملكوت. ومعناه: تبصره دلائل الربوبية.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 90]
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84)
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين (89)
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال ... الخ» قال أحمد:
وهذه أيضا من عيون نكتة ووجوه حسناته.

(2/41)


وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلك وقد هدان يعنى إلى التوحيد ولا أخاف ما تشركون به وقد خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء إلا أن يشاء ربي شيئا إلا وقت مشيئة ربى «1» شيئا يخاف، فحذف الوقت، يعنى لا أخاف معبوداتكم في وقت قط، لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلا إذا شاء ربى أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمنى بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر، أو يجعلها قادرة على مضرتى وسع ربي كل شيء علما أى ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بى من جهتها أفلا تتذكرون فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز وكيف أخاف لتخويفكم شيئا مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه وأنتم لا تخافون ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل باشراكه سلطانا أى حجة، لأن الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، كأنه قال: وما لكم تنكرون على الأمن «2» في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف. ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم، احترازا من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله فأي الفريقين يعنى فريقى المشركين والموحدين. ثم استأنف الجواب عن السؤال
__________
(1) . قال محمود: «إلا أن يشاء معناه إلا وقت مشيئة ربى شيئا فحذف الوقت ... الخ» قال أحمد: هو بمعنى يجعلها قادرة، على أن المضرة خلق قدرة يخلق بها المضرة لمن يريد، بناء على قاعدته. وقد علمت أن عقيدة أهل السنة أن ذلك لا يجوز عقلا أن يخلق غير الله ولا يقدر قدرة مؤثرة في المقدور إلا هو، وإن كان الزمخشري لم يصرح هاهنا من عقيدته، فإنما يعنى حيث يصرح أو يكنى ما يلائمها ويتنزل عليها، وغاية خوف إبراهيم منها المعلق على مشيئة الله لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى لأنها. وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كلامه خوف منها، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومعنى وكيف أخاف ما أشركتم ... الخ» ما لكم تنكرون على الأمن ... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن يكون العدول إلى ذلك ليعم بالأمن كل موحد، وبالخوف كل مشرك، ويندرج هو في حكم الموحدين وقومه في حكم المشركين. وأحسن الجواب ما أفاد وزاد.

(2/42)


وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91)

بقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم «1» . وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وتلك إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله فلما جن عليه الليل إلى قوله وهم مهتدون. ومعنى آتيناها أرشدناه إليها ووفقناه لها نرفع درجات من نشاء يعنى في العلم والحكمة. وقرئ بالتنوين ومن ذريته الضمير لنوح أو لإبراهيم. وداود عطف على نوحا، أى وهدينا داود ومن آبائهم في موضع النصب عطفا على كلا، بمعنى: وفضلنا بعض آبائهم ولو أشركوا مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات. لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدس لئن أشركت ليحبطن عملك. آتيناهم الكتاب يريد الجنس فإن يكفر بها بالكتاب والحكمة والنبوة. أو بالنبوة هؤلاء يعنى أهل مكة قوما هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم، بدليل قوله أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وبدليل وصل قوله فإن يكفر بها هؤلاء بما قبله. وقيل:
هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به. وقيل: كل مؤمن من بنى آدم. وقيل: الملائكة وادعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهد: هم الفرس. ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في بها صلة كافرين. وفي بكافرين تأكيد النفي. فبهداهم اقتده فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى، ما لم تنسخ. فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا. والهاء في اقتده للوقف تسقط في الدرج. واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف

[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91)
__________
(1) . قال محمود: «والمراد بقوله ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس» قال أحمد: وقد وارد أن الآية لما نزلت عظمت على الصحابة، وقالوا أينا لم يظلم نفسه.
فقال عليه الصلاة والسلام «إنما هو الظلم في قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم» وإنما هو يروم بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لاحظ لهم في الأمن كالكفار، ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمر بالجامعين الأمرين: الايمان والبراءة من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق العصاة هو الخوف اللاحق الكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار، فغير آمنين بوجه ما، والله الموفق.

(2/43)


وما قدروا الله حق قدره وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحى إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوة. والقائلون هم اليهود، بدليل قراءة من قرأ: تجعلونه بالتاء. وكذلك تبدونها وتخفون وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم «1» سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل: جاء به موسى وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. وروى أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود «2» . فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: إنه أغضبنى، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقيل القائلون قريش «3» وقد ألزموا إنزال التوراة، لأنهم كانوا يسماعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم الخطاب لليهود، أى علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وقيل الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم. قل الله أى أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن ينا كروك ثم ذرهم في خوضهم في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة.
ويقال لمن كان في عمل لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب. ويلعبون حال من ذرهم، أو من خوضهم، ويجوز أن يكون في خوضهم حالا من يلعبون، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم
__________
(1) . قال محمود: «وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من دقة نظره في الكتاب العزيز والتعمق في آثار معادنه، وإبراز محاسنه.
(2) . أخرجه الواحدي في الأسباب من طريق سعيد بن جبير «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف فذكره إلى قوله- فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر من شيء» وكذلك أخرجه الطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير.
(3) . قوله «وقيل القائلون قريش» أخرجه الطبري عن مجاهد.

(2/44)


وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)

[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92)
مبارك كثير المنافع والفوائد والتنذير معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أو أنزلناه للبركات، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرئ ولينذر بالياء والتاء. وسميت مكة أم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا لبعض المجاورين:
فمن يلق في بعض القريات رحله ... فأم القرى ملقى رحالي ومنتابى «1»
والذين يؤمنون بالآخرة يصدقون بالعاقبة ويخافونها يؤمنون بهذا الكتاب. وذلك أن أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وخص الصلاة لأنها عماد الدين. ومن حافظ عليها كانت لطفا في المحافظة على أخواتها.

[سورة الأنعام (6) : آية 93]
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)
افترى على الله كذبا فزعم أن الله بعثه نبيا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء وهو مسيلمة الحنفي الكذاب. أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وعن النبى صلى الله عليه وسلم:
رأيت فيما يرى النائم كأن في يدى سوارين من ذهب فكبرا على وأهمانى فأوحى الله إلى أن انفخهما، فنفختهما فطارا عنى، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما: كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العنسي «2» ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا عليما، كتب
__________
(1) . للزمخشري يفتخر بمكة وسكانها. والقريات- بالتشديد-: للتصغير. ورحل الشخص مسكنه ولو من شعر، أى: فمن يلق رحله في بعض القرى الصغيرة. فلا فخر له على، فان مكة محط رحالي ومنتابى، أى محل انتيابى أى دخولى فيها توبة بعد أخرى، وإلقاء الرحل: كناية عن الاقامة، لأنها تلزمه عرفا. وملقى على زنة اسم المفعول اسم لمكان الإلقاء، كمتاب لمكان الانتياب.
(2) . متفق عليه من حديث ابن عباس.

(2/45)


هو: عليما حكيما. وإذا قال عليما حكيما، كتب: غفورا رحيما. فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى آخر الآية، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان: فقال تبارك الله أحسن الخالقين. فقال عليه الصلاة والسلام اكتبها: فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمدا صادقا لقد أوحى إلى مثل ما أوحى إليه. ولئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال، فارتد عن الإسلام ولحق بمكة، ثم رجع مسلما قبل فتح مكة «1» . وقيل: هو النضر بن الحرث والمستهزءون ولو ترى جوابه محذوف، أى رأيت أمرا عظيما إذ الظالمون يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. وغمرات الموت شدائده وسكراته، وأصل الغمرة: ما يغمر من الماء «2» فاستعيرت للشدة الغالبة باسطوا أيديهم يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في الإرهاق، من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخر إلى مالى عليك الساعة، ولا أريم «3» مكاني، حتى أنزعه من أحداقك. وقيل. معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب «4» أخرجوا أنفسكم خلصوها من أيدينا، أى لا تقدرون على الخلاص اليوم تجزون يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت
__________
(1) . أخرجه الواحدي عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس إلى قوله «فارتد عن الإسلام» وقد رواه الطبري مختصرا من رواية أسباط عن السدى من قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا- الآية قال:
نزلت في عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا عليما كتب هو عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب سميعا عليما. فشك وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فلقد أنزلت مثل ما أنزل الله. فلحق بالمشركين «تنبيه» قوله القرظي غلط بين فان ابن أبى سرح قرشي عامرى. قوله «ثم رجع مسلما قبل فتح مكة. قوله وقيل: هو النضر بن الحارث «فائدة» روى أن هذه القصة كانت لابن خطل. أخرج ابن عدى في ترجمة أصرم بن حوشب أحد المتروكين من حديث على، قال «كان ابن خطل يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل غفور رحيم كتب رحيم غفور- فذكر الحديث.
وفيه: ثم كفر ولحق بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل ابن خطل فله الجنة» وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. ونقل عن ابن معين تكذيب أصرم.
(2) . قال محمود: «أصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة ... الخ» قال أحمد: هو يجعله من مجاز التمثيل، ولا حاجة إلى ذلك. والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على لحقيقة فلا معدل عنها.
(3) . قوله «ولا أريم مكاني» أى أبرح. وفي الصحاح: رامه يريمه أى برحه. (ع) [.....]
(4) . عاد كلامه. قال: «وقيل معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب ... الخ» قال أحمد: ومثله ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء.

(2/46)


ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94) إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95)

الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون: الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه عن آياته تستكبرون فلا تؤمنون بها.

[سورة الأنعام (6) : آية 94]
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94)
فرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله كما خلقناكم أول مرة على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد وتركتم ما خولناكم ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة وراء ظهوركم لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيرا ولا قدمتموه لأنفسكم فيكم شركاء في استعبادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
وقرئ: فرادى، بالتنوين. وفراد، مثل ثلاث. وفردي، نحو سكرى: فإن قلت: كما خلقناكم، في أى محل هو؟ قلت: في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا، أى مجيئا مثل خلقنا لكم تقطع بينكم وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل: ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف، كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله: لقد تقطع ما بينكم.

[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95)
فالق الحب والنوى بالنبات والشجر. وعن مجاهد: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة يخرج الحي من الميت أى الحيوان، والنامي من النطف. والبيض والحب والنوى ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي- فإن قلت: كيف قال مخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله يخرج الحي من الميت قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل، ويخرج الحى من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله فالق الحب والنوى لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين «1» من جنس إخراج الحى من الميت، لأن النامي
__________
(1) . قال محمود: «معناه فالق الحب والنوى بالنبات والشجر ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد ورد جميعا بصيغة الفعل كثيرا في قوله: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون وقوله أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي عطف أحد القسمين على الآخر كثيرا دليل على أنهما توأمان مقرونان، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى فالق الحب والنوى، فالوجه- والله أعلم- أن يقال: كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله فالق الحب وفالق الإصباح وجعل الليل ومخرج الميت من الحي إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده، وهو قوله يخرج الحي من الميت إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع، وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي. وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة فعدل عن الماضي المطابق لقوله أنزل لهذا المعنى. ومنه ما في قوله:
إنى قد لقيت الغول تسعى ... بسيب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فخرت ... صريعا اليدين وللجران
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذعن السامع. ومنه إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة فعدل عن مسبحات وإن كان مطابقا لمحشورة بهذا السبب والله أعلم، ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما تكون العناية به أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه، وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه، ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي ناشئ عنه، فكان الأول جديرا بالتصدير والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر على حسب ترتيبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل، وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع «فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه. والله أعلم.

(2/47)


فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96)

في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله يحي الأرض بعد موتها، ذلكم الله أى ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية فأنى تؤفكون فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.

[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96)
الإصباح مصدر سمى به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:
أفنى رباحا وبنى رباح ... تناسخ الإمساء والإصباح «1»
بالكسر والفتح مصدرين، وجمع مساء وصبح. فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة «2» هي التي تنفلق عن الصبح، كما قال:
__________
(1) . «رباح» أبو حى من ير نوع، ثم صار اسما للحي. وروى بالتحتية بدل الموحدة. والإمساء والإصباح:
يرويان بكسر الهمزة على أنهما مصدران، وبفتحهما جمع مساء وصباح. وظلام الليل ينسخ نور النهار ويزيله وبالعكس. وإسناد الافناء إلى التناسخ مجاز عقلى، من باب الاسناد الزمان، أو هو على اعتقاد الجاهلية فيكون حقيقة عندهم.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى فلق الصبح والظلمة وهي التي تنفلق ... الخ» ؟ قال أحمد: وقيل الخالق والفالق بمعنى، فيكون المراد خالق الإصباح. والأظهر ما فسره عليه المصنف، والله أعلم.

(2/48)


تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفرى ليل عن بياض نهار «1»
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا: انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق.
وقال الطائي:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب «2»
وقرئ: فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: فلق الإصباح وجعل الليل. والسكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار: سكن، لأنه يستأنس بها. ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه «3» . ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه من قوله لتسكنوا فيه والشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث، فالنصب على إضمار فعل دل عليه
__________
(1) .
كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار
تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفرى ليل عن بياض نهار
لأبى نواس يصف الخمرة. يقول: كأن بقايا الذي هلك وذهب من فقاقعها شيب أبيض متفرق في عذار أسود، لأن كلا منهما أبيض منتشر فيما يخالف لونه، ولا يلزم من ذلك أنها سوداء كما يدل عليه ما بعده، ثم قال: تردت، أى استترت بالحباب، فالتردى: استعارة التستر، ثم انفرى: انشق وزال عن أديمها أى وجهها كتفرى الليل وانشقاق ظلامه عن بياض النهار، والجامع استتار كل بغيرها، ثم ظهوره بتفرق ذلك الغير فهو مركب. ولا يلزم من ذلك أن الحباب أسود كالليل، والخمرة بيضاء كالنهار، وانظر كيف خيل أنه في الأول أبيض وفي الثاني أسود وهي بالعكس. وهذا من العجب الداعي للطرب. وفيه أنه يرى في الأول أبيض معجبا، ثم تعرض عنه النفس وتريد الخمرة، فيتخيل أنه مظلم، ثم ينكشف وتظهر هي بيضاء ترهقها صفرة، كالسماء وقت الاسفار.
(2) .
هذى مخايل برق خلفه مطر ... جود وروى زناد خلفه لهب
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
لأبى تمام. وقيل للبحترى. و «مخايل» أضواء تتخيلها، أو تخيل إلينا المطر بعدها. والجود- في الأصل- جمع جائد، كصحب وصاحب، وهو الكثير النافع. والورى: قدح الزند، والزناد جمعه، ككلب وكلاب، وقد يكون مفردا ككتاب. يقول: إن أوائل الأمور تبدو قليلة ثم تكثر، فينبغي الحرص من أول الأمر قبل بلوغه غايته فيكثر الضرر ويعسر درؤه، أو المعنى أنه ينبغي التأنى إلى بلوغ المراد، فالكلام كله من باب التمثيل. وروى
وكاذب العمر يبدو قبل صادقه
وروى بعد هذا البيت:
ومثل ذلك وجد العاشقين هوى ... بالمزح يبدو وبالادمان ينتهب
ونسبا لابن الرومي، أى الوجد في أوله هوى وفي آخره نار، والإدمان: الادامة.
(3) . قوله «وجمامه» أى راحته من التعب. وفي الصحاح «الجمام» بالفتح-: الراحة. (ع)

(2/49)


وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)

جاعل الليل، أى وجعل الشمس والقمر حسبانا. أو يعطفان على محل الليل. فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية، لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضى، ولا تقول: زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت: ما هو في معنى المضى، وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة المختلفة، وكذلك فالق الحب، وفالق الإصباح، كما تقول: الله قادر عالم، فلا تقصد زمانا دون زمان، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والشمس والقمر مجعولان حسبانا، أو محسوبان حسبانا. ومعنى جعل الشمس والقمر حسبانا: جعلهما على حسبان، لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان- بالضم-: مصدر حسب، كما أن الحسبان- بالكسر- مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران ذلك إشارة إلى جعلهما حسبانا، أى ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير العزيز الذي قهرهما وسخرهما العليم بتدبيرهما وتدويرهما.

[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97)
في ظلمات البر والبحر في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.

[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)
من فتح قاف المستقر، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدرا. ومن كسرها، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقر في الرحم. ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع. فإن قلت: لم قيل يعلمون مع ذكر النجوم «1» ويفقهون مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت كان إنشاء الإنس من نفس
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قيل مع ذكر النجوم يعلمون ... الخ» قال أحمد: لا يتحقق هذا التفاوت ولا سبيل إلى الحقيقة، وما هذا الجواب إلا صناعى. والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالقة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة. ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآية المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الالهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقلباتهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة، فانه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا، ويفقهون هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بضم القاف، لأن تلك درجة عالية. ومعناه: صار فقيها. قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن فقه أنزل من علم. وفي حديث سلمان أنه قال- وقد سألته امرأة جاءته-: فقهت، أى فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه.
وإذا قيل فلان لا يفقه شيئا، كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا، وكان معنى قولك: لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: لا يعلم، فغايته نفى حصول العلم له. وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا. وقولنا في أدراج الكلام أنه نفى العلم عن أحد الفريقين ونفى الفقه عن الآخر، يعنى بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة والتفقه فيها بقوم، فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم ولا فقه، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول.

(2/50)


وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)

واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له.

[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)
فأخرجنا به بالماء نبات كل شيء نبت كل صنف من أصناف النامي، يعنى أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة، كما قال يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل
. فأخرجنا منه من النبات خضرا شيئا غضا أخضر. يقال أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة نخرج منه من الخضر حبا متراكبا وهو السنبل. وقنوان رفع بالابتداء. ومن النخل خبره. ومن طلعها بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: يخرج منه حب متراكب، كان قنوان عنده معطوفا على حب. والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنو وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب، لأن فعلان ليس من زيادة التكسير دانية سهلة المجتنى

(2/51)


وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (100)

معرضة للقاطف، كالشىء الداني القريب المتناول، ولأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتى بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: دانية قريب بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة: لأن النعمة فيها أظهر وأدل بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله سرابيل تقيكم الحر. وقوله وجنات من أعناب فيه وجهان، أحدهما: أن يراد: وثم جنات من أعناب، أى مع النخل. والثاني: أن يعطف على قنوان على معنى: وحاصلة، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب، أى من نبات أعناب، وقرئ وجنات بالنصب عطفا على نبات كل شيء أى: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله والزيتون والرمان والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله والمقيمين الصلاة لفضل هذين الصنفين مشتبها وغير متشابه يقال اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا. وقرئ: متشابها وغير متشابه. وتقديره: والزيتون متشابها وغير متشابه، والرمان كذلك كقوله:
كنت منه ووالدى بريا
والمعنى: بعضه متشابها وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال انظروا إلى ثمره إذا أثمر إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئا جامعا لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرئ وينعه بالضم. يقال: ينعت الثمرة ينعا وينعا. وقرأ ابن محيصن: ويانعه. وقرئ: وثمره، بالضم.

[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (100)
إن جعلت لله شركاء مفعولي جعلوا، نصبت الجن بدلا من شركاء، وإن جعلت لله لغوا كان شركاء الجن مفعولين قدم ثانيهما على الأول. فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت:
فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك. ولذلك قدم اسم الله على الشركاء. وقرئ الجن بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجر على الإضافة التي للتبيين. والمعنى أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل: هم الذين زعموا أن الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضار وخلقهم وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق

(2/52)


بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم (101)

شريكا للخالق. وقيل: الضمير للجن. وقرئ: وخلقهم، أى اختلاقهم الإفك، يعنى: وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم والله أمرنا بها، وخرقوا له وخلقوا له، أى افتعلوا له بنين وبنات وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه، بمعنى: وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها: كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه، أى اشتقوا له بنين وبنات، وقرئ: وخرقوا بالتشديد للتكثير، لقوله بنين وبنات وقرأ ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما: وحرفوا له، بمعنى: وزوروا له أولادا لأن المزور محرف مغير للحق إلى الباطل بغير علم من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة. من غير فكر وروية.

[سورة الأنعام (6) : آية 101]
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم (101)
بديع السماوات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشعر، أى بديع شعره. أو هو بديع في السموات والأرض، كقولك: فلان ثبت الغدر، أى ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره أنى يكون له ولد أو فاعل تعالى: وقرئ بالجر ردا على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه. وبالنصب على المدح، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه، أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأن الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا. والثاني:
أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة. والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء.
وإنما جاز للفصل كقوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء «1»
__________
(1) .
لقد ولد الأخيطل أم سوء ... على يأب استه صلب وشام
لجرير يهجو الأخطل. والأخيطل: تصغير الأخطل. وأم سوء- بالاضافة-: فاعل، فكان حق الفعل التأنيث، لكن سوغ تركه الفصل بالمفعول. والاست- بوصل الهمزة- الدبر. والصلب: جمع صليب. والشام اسم جمع شامة، وهي العلامات والنفوش. وكان الأخطل- وهو غياث بن غوث- من نصارى العرب. ويروى «على باب استها» أى الأم. وهو أقعد في المعنى، وأشنع في هتك الحرمة.

(2/53)


ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (102) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103) قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104)

[سورة الأنعام (6) : آية 102]
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (102)
ذلكم إشارة إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء أى ذلك الجامع لهذه الصفات فاعبدوه مسبب عن مضمون الجملة على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال وهو على كل شيء وكيل يعنى وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.

[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)
البصر: هو الجوهر اللطيف «1» الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات. فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصرا «2» في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا، كالأجسام والهيئات وهو يدرك الأبصار وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك وهو اللطيف يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.

[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104)
__________
(1) . قال محمود: «البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظر به تدرك ... الخ» قال أحمد:
وقد سلف الكلام على هذه الآية في غير موضعها، لأن المصنف تعجل الكلام عليها قبل، والذي يريده الآن أن الإدراك عبارة عن الاحاطة، ومنه: حتى إذا أدركه الغرق أى أحاط به، وإنا لمدركون أى محاط بنا، فالمنفى إذا عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية، ثم إما أن نقتصر على أن الآية لا تدل على مخالفتنا، أو تزيد فنقول، بدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك، وأقله مجرد الرؤية، كما أنا نقول: لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن، فالاحاطة للعقل منفية كنفى الاحاطة للحس، وما دون الاحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي. ولم يذكر الزمخشري على إحالة الرؤية عقلا دليلا ولا شبهة فيحتاج إلى القدح فيه ثم معارضته بأدلة الجواز، ولكنه اقتصر على استبعاد أن يكون المرئي لا في جهه، فيقتصر معه على إلزامه استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ اتباع الرهم يبعدهما جميعا، والانقياد إلى العقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا. وهذا القدر كاف بحسب ما أورده في هذا الوضع، والله الموفق.
(2) . قوله «لأنه متعال عن أن يكون مبصرا» استحالة الرؤية مذهب المعتزلة، لظاهر هذه الآية. وجوازها مذهب أهل السنة لقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وكل يؤول مستند الآخر. وتحقيقه في التوحيد. (ع)

(2/54)


وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105) اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107)

قد جاءكم بصائر من ربكم هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله وما أنا عليكم بحفيظ والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أى جاءكم من الوحى، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر فمن أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمى وإياها ضر بالعمى وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.

[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105)
وليقولوا جوابه محذوف تقديره. وليقولوا درست تصرفها. ومعنى درست قرأت وتعلمت. وقرئ: دارست، أى دارست العلماء. ودرست بمعنى قدمت هذه الآيات وعفت كما قالوا: أساطير الأولين، ودرست بضم الراء، مبالغة في درست، أى اشتد دروسها. ودرست- على البناء للمفعول- بمعنى قرئت أو عفيت. ودارست. وفسروها بدارست اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم. ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أى دارس أهل الآيات وحملتها محمدا، وهم أهل الكتاب. ودرس أى درس محمد. ودارسات، على: هي دارسات، أى قديمات. أو ذات دروس، كعيشة راضية. فإن قلت: أى فرق بين اللامين في ليقولوا، ولنبينه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأول مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه: فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله ولنبينه؟ قلت: إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نصرف القرآن. أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيدا. ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست:
درست الكتاب ودراسته، فيرجع إلى الكتاب المقدر.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107)
لا إله إلا هو اعتراض أكذبه إيجاب اتباع الوحى لا محل له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالا من ربك، وهي حال مؤكدة كقوله وهو الحق مصدقا.

(2/55)


ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)

[سورة الأنعام (6) : آية 108]
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
ولا تسبوا الآلهة الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالى.
فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهى عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟
قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهى عن المنكر هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدى إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهى عن ذلك النهى. كما يجب النهى عن المنكر. فإن قلت: فقد روى عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا ممن نحن بصدده، لأن حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهن يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن.
عدوا ظلما وعدوانا. وقرئ عدوا بضم العين وتشديد الواو بمعناه. يقال: هذا فلان عدوا وعدوا وعدوانا وعداء. وعن ابن كثير: عدوا، بفتح العين بمعنى أعداء بغير علم على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به كذلك زينا لكل أمة مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم، أو خليناهم وشأنهم «1» ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم: أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم. وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا فينبئهم فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 109]
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)
لئن جاءتهم آية من مقترحاتهم ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند الله وهو قادر
__________
(1) . قوله «أو خليناهم وشأنهم» فسر التزيين بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلق الشر والخير عند أهل السنة. (ع)

(2/56)


عليها، ولكنه لا ينزلها الا على موجب الحكمة «1» . أو إنما الآيات عند الله لا عندي. فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها وما يشعركم وما يدريكم أنها أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها. فقال عز وجل وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق على به من أنهم لا يؤمنون به.
ألا ترى إلى قوله كما لم يؤمنوا به أول مرة وقيل: «أنها» بمعنى «لعلها» من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى لحما. وقال امرؤ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام «2»
وتقويها قراءة أبى: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تم قبله بمعنى:
وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم
__________
(1) . قال محمود: «يعنى أن الله تعالى قادر على أن ينزل الآيات ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة ... الخ» قال أحمد: ومحز النظر في الآية يتضح بمثال، فنقول: إذا قال لك القائل «أكرم فلانا فانه يكافئك» وكنت أنت تعلم منه عدم المكافأة، فإذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أنى إذا أكرمته يكافئنى؟ فأنكرت عليه إثباته المكافأة وأنت تعلم نفيها، فان انعكس الأمر فقال لك: «لا تكرمه فانه لا يكافئك» وكنت تعلم منه المكافأة فأنكرت على المشير بحرمانه قلت: وما يدريك أنه لا يكافئنى؟ تريد: وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى الإنكار على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المفترحة أن يقال: وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، كما تقول في المثال منكرا على من أثبت المكافأة وأنت تعلم خلافها، وما يدريكم أنه يكافئنى؟
بإسقاط «لا» وإن أثبتها انعكس المعنى، إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى، فلما جاءت الآية تفهم ببادئ الرأى أن الله تعالى علم الايمان منهم وأنكر على المؤمنين نفيهم له والواقع على خلاف ذلك، اختلف العلماء، فحمل بعضهم «لا» على الزيادة، وبعضهم أول «أن» بلعل، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف. وقد تفتح «أن» بعد القسم فقال التقدير: والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها من غير حذف ولا تأويل فقال قوله السالف، ونحن نوضح اطراده في المثال المذكور ليتضح بوجهيه في الآية، فنقول: إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة، تلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة نعذره في عدم العلم بما أحطت به علما، فان أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم عليه بأنه لا يكافئ قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعنى ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته وانت لم تخبر أمره خبرى، فكذلك الآية، إنما ورد فيها الكلام قامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى وهو عدم إيمان هؤلاء، فاستقام دخول «لا» وتعين وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار باقامة الأعذار. والله الموفق للصواب.
(2) . لامرئ القيس. والعوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجدة إلى صفة البلى، أو الذي أصابه المحل والاقفار. هذا وفي الصحاح: أحال الشيء إذا أتى عليه الحول. ومنه الطلل المحيل، فهو اسم فاعل وهو الوجيه، ولأننا: بفتح اللام والهمزة، بمعنى لعلنا. قال في التسهيل: في لعل عشر لغات، وعد منها أن المفتوحة، ولأن. وابن خذام بمعجمتين أول من بكى الديار من شعراء العرب، وكان طبيبا حاذقا يضرب به المثل في الطب. [.....]

(2/57)


ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111)

من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح وقرئ: وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. أى يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها. وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها.

[سورة الأنعام (6) : آية 110]
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)
ونقلب أفئدتهم ... ونذرهم عطف على يؤمنون، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى:
وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم: أى نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا. أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أى نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا «1» فيه. وقرئ: ويقلب. ويذرهم بالياء أى الله عز وجل. وقرأ الأعمش: وتقلب أفئدتهم وأبصارهم، على البناء للمفعول.

[سورة الأنعام (6) : آية 111]
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111)
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما قالوا لولا أنزل علينا الملائكة، وكلمهم الموتى كما قالوا: فأتوا بآبائنا، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا كما قالوا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا قبلا كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعات. وقيل قبلا مقابلة. وقرئ قبلا أى عيانا «2» إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار «3» ولكن أكثرهم يجهلون فيقسمون
__________
(1) . قوله «حتى يعمهوا فيه» أى يتحيروا. (ع)
(2) . قوله «وقرئ قبلا أى عيانا» في الصحاح: رأيته قبلا وقبلا- بالضم- أى مقابلة وعيانا. ورأيته قبلا- بكسر القاف- قال الله تعالى أو يأتيهم العذاب قبلا أى عيانا. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار ... الخ قال أحمد: بل المراد إلا أن يشاء الله منهم اختيار الايمان، فانه تعالى لو شاء منهم اختيارهم للايمان لاختاروه وآمنوا حتما. ما شاء الله كان. والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في اعتقاده أن الله تعالى شاء منهم الايمان اختيارا فلم يؤمنوا، إذ لا يجب على زعم طائفته نفوذ المشيئة، ولا يطلقون القول كما أطلقه سلف هذه الأمة وحملة شريعتها. من قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل يقولون إن أكثر ما شاءه لم يقع، إذ شاء الايمان والصلاح من جميع الخلق، فلم يؤمن ويعمل الصالح إلا القليل، وقليل ما هم. وهذا كله مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا، فإذا صد منهم مثل هذه الآية بالرد تحيلوا في المدافعة بحمل للمشيئة المنفية على مشيئة القسر والاضطرار، وإنما لم يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء، وأما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فالى النار، وما بعد الحق إلا الضلال، والله الموفق للصواب.

(2/58)


وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113) أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114)

بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات. أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.

[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا وكما خلينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر. وكثرة الثواب والأجر. وانتصب شياطين على البدل من عدوا. أو على أنهما مفعولان كقوله وجعلوا لله شركاء الجن يوحي بعضهم إلى بعض يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وكذلك بعض الجن إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار: إن شيطان الإنس أشد على من شيطان الجن، لأنى إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عنى، وشيطان الإنس يجيئني فيجرنى إلى المعاصي عيانا زخرف القول ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموهه غرورا خدعا وأخذا على غرة ولو شاء ربك ما فعلوه ما فعلوا ذلك، أى ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف الفول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 113]
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113)
ولتصغى جوابه محذوف تقديره: وليكون ذلك جعلنا لكل نبى عدوا، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر. والضمير في إليه «1» يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه، أى ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار وليرضوه لأنفسهم وليقترفوا ما هم مقترفون من الآثام.

[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114)
__________
(1) . قوله «والضمير في إليه» أى في قوله تعالى وليقولوا درست. (ع)

(2/59)


وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119)

أفغير الله أبتغي حكما على إرادة القول، أى قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكما يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل هو الذي أنزل إليكم الكتاب المعجز مفصلا مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء. ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له فلا تكونن من الممترين من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى ولا تكونن من المشركين أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به. ويجوز أن يكون فلا تكونن خطابا لكل أحد، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمترى فيه أحد. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطابا لأمته «1»

[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115)
وتمت كلمة ربك أى تم كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته لا أحد يبدل شيئا من ذلك مما هو أصدق وأعدل. وصدقا وعدلا. نصب على الحال. وقرئ: كلمة ربك، أى ما تكلم به. وقيل: هي القرآن.

[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116)
وإن تطع أكثر من في الأرض أى من الناس أضلوك، لأن الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال إن يتبعون إلا الظن وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم وإن هم إلا يخرصون يقدرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أن الله حرم كذا وأحل كذا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 117 الى 119]
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119)
__________
(1) . قوله «خطابا لأمته» لعله «خطاب» . (ع)

(2/60)


وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121)

وقرئ من يضل بضم الياء أى يضله الله فكلوا مسبب عن إنكار اتباع المضلين، الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال. وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله وما لكم ألا تأكلوا وأى غرض لكم في أن لا تأكلوا وقد فصل لكم وقد بين لكم ما حرم عليكم مما لم يحرم وهو قوله حرمت عليكم الميتة وقرئ: فصل لكم ما حرم عليكم على تسمية الفاعل، وهو الله عز وجل إلا ما اضطررتم إليه مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة وإن كثيرا ليضلون قرئ بفتح الياء وضمها، أى يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة.

[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120)
ظاهر الإثم وباطنه ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السر.

[سورة الأنعام (6) : آية 121]
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121)
وإنه لفسق الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهى، يعنى وإن الأكل منه لفسق. أو إلى الموصول على: وإن أكله لفسق، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا. فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل «1» ما لم يذكر اسم الله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد ... الخ» قال أحمد: مذهب مالك وأبى حنيفة واه في أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل. سواء كان تهاونا أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك تسميته، والآية تساعد مذهب الإمامين مساعدة بينة، فانه ذكر عقيب غير المسمى عليه قوله وإنه لفسق وذلك إن كان عبارة عن فعل المكلف وهو إهمال التسمية، أو تسمية غير الله فلا يدخل النسيان، لأن الناسي غير مكلف فلا يكون فعله فسقا ولا هو فاسق، وإن كان نفس الفسق الذبيحة التي لم يسم عليها ولم يكن مصدرا، فإنما تسمى الذبيحة فسقا نقلا لهذا الاسم من المصدر إلى الذات فالذبيحة التي تركت التسمية عليها نسيانا لا يصح أن تسمي فسقا، إذ الفعل الذي ينقل منه هذا الاسم ليس بفسق، فإذا تمهد ذلك فاما أن يقول: لا دليل في الآية على تحريم منسى التسمية، فبقى على أصل الاباحة. أو يقول: فيها دليل على إباحته من حيث مفهوم تخصيص النهى بما هو فسق، فما ليس بفسق ليس بحرام. وهذا النظر يسند إذا لم تكن الميتة متناولة في هذه الآية. وأما إذا أثبت أنها مرادة، تعين صرف الفسق إلى الآكل والمأكول، وكان الضمير من قوله وإنه عائدا إلى المصدر المنهي عنه، أو إلى الموصول. وحينئذ يندرج المنسى في النهى ولا يستقيم، على أن الميتة مندرجة كاندراج المنسى، لأن الوجه الذي به تندرج الميتة هو الوجه الذي به يندرج المنسى، إذ يكون الفسق إما للأكل، وإما للمأكول نقلا من الأكل، ولا ينصرف إلى غير ذلك، لأن الميتة لم يفعل المكلف فيها فعلا يسمى فسقا سوى الأكل، والمنسى تسميتها لا يستقيم أن يسمى الذبح فيها فسقا لأجل النسيان، فيتعين صرفه إلى الأكل. ومن ثم قوى عند الزمخشري تعميم التحريم حتى في المنسى، لأنه يرى أن الميتة مرادة من الآية ولا بد، إذ هي سبب نزول الآية. والتحقق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وإذا ثبت اندراج الميتة لزم اندراج المنسى كما تقدم. وحينئذ يضطر مبيح المنسى إلى مخصص، فيتمسك بقوله عليه الصلاة والسلام «ذكر الله على قلب كل مؤمن من سمى أو لم بسم» وكان الناسي ذاكرا حكما وإن لم يكن ذاكرا وجودا، وهذا عند التحقيق ليس بتخصيص، ولكن منع لاندراج الناسي في العموم وسنده الحديث المذكور. ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوى تناوله للسبب حتى ينهض الظاهر فيه نصا، إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط عن أمالى الظواهر فيه، ويكتفى من معارضته بما لا يكتفى به منه لولا السبب، وهذا البحث متطلع بفنون شتى على نكت بديعة، والله الموفق للصواب.

(2/61)


أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122) وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123)

عليه بنسيان أو عمد. قلت: قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه «1» : كقوله أو فسقا أهل لغير الله به ليوحون ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم بقولهم: ولا تأكلوا مما قتله الله. وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة إنكم لمشركون لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به. ومن حق ذى البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان، لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله مرخصا في النسيان دون العمد، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122) وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123)
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدى والضال، بمن كان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشى به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كمن صفته هذه وهي قوله في الظلمات ليس بخارج منها بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار
__________
(1) . قوله «وبما ذكر غير اسم الله عليه» لعله «اسم غير الله» . (ع)

(2/62)


وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124) فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)

أى صفتها هذه، وهي قوله فيها أنهار. زين للكافرين أى زينه الشيطان، أو الله عز وعلا على قوله زينا لهم أعمالهم ويدل عليه قوله وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها يعنى: وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه: خليناهم ليمكروا «1» وما كففناهم عن المكر، وخص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله أمرنا مترفيها
وقرئ: أكبر مجرميها، على قولك: هم اكبر قومهم، وأكابر قومهم وما يمكرون إلا بأنفسهم لأن مكرهم يحيق بهم.
وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روى أن الوليدين المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأنى أكبر منك سنا وأكثر منك مالا.
وروى أن أبا جهل قال: زاحمنا بنى عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا:
منا نبى يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت.
ونحوها قوله تعالى بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة.

[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)
الله أعلم كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم سيصيب الذين أجرموا من أكابرها صغار وقماءة «2» بعد كبرهم وعظمتهم وعذاب شديد في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127]
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127)
__________
(1) . قوله «ومعناه خليناهم ليمكروا» أو له بذلك لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة ويخلقه كالخير عند أهل السنة، وكذا قوله تعالى ومن يرد أن يضله ... الخ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا. (ع)
(2) . قوله و «قماءة» أى ذل، (ع)

(2/63)


ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128)

فمن يرد الله أن يهديه أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف يشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه ومن يرد أن يضله أن يخذله ويخليه وشأنه «1» ، وهو الذي لا لطف له يجعل صدره ضيقا حرجا يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وقرئ ضيقا بالتخفيف والتشديد حرجا بالكسر، وحرجا- بالفتح- وصفا بالمصدر كأنما يصعد في السماء كأنما يزاول أمرا غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقرئ: يصعد، وأصله يتصعد. وقرأ عبد الله: يتصعد. ويصاعد. وأصله: يتصاعد ويصعد، من صعد. ويصعد من أصعد يجعل الله الرجس يعنى الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب. أو أراد الفعل المؤدى إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب وهذا صراط ربك وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان مستقيما عادلا مطردا، وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله وهو الحق مصدقا لهم لقوم يذكرون دار السلام دار الله، يعنى الجنة أضافها إلى نفسه تعظيما لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر عند ربهم في ضمانه، كما تقول: لفلان عندي حق لا ينسى، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وهو وليهم مواليهم ومحبهم «أو ناصرهم على أعدائهم بما كانوا يعملون بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاه ما كانوا يعملون.

[سورة الأنعام (6) : آية 128]
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128)
ويوم يحشرهم منصوب بمحذوف، أى واذكر يوم نحشرهم، أو ويوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان مالا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين قد استكثرتم من الإنس أضللتم منهم كثيرا أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع وقال أولياؤهم من الإنس الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم ربنا استمتع بعضنا ببعض أى انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات
__________
(1) . قوله «أن يخذله ويخليه وشأنه» فسر الإضلال بذلك، لأنه تعالى لا يفعل الشر عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيفعله كالخير، وكذا يقال في قوله «يمنعه ألطافه» . (ع)

(2/64)


وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل استمتاع الإنس بالجن ما في قوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وأن الرجل كان إذا نزل واديا وخاف قال: أعوذ برب هذا الوادي، يعنى به كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعترف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا يعنون يوم البعث. وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم خالدين فيها إلا ما شاء الله أى يخلدون في عذاب النار الأبد كله «1» ، إلا ما شاء الله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور «2» الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه.
أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر
__________
(1) . قال محمود: «معنى هذا الاستثناء أنهم يخلدون في عذاب النار الأبد كله ... الخ» قال أحمد: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعيا، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة لأنهم لا يخلدون، وهذا تأويل أهل السنة. وقد غلط الزمخشري في إنكاره في آية هود وتناهى إلى ما نعوذ بالله منه، فقدح في عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه راوى الحديث الشاهد لهذا التأويل، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القدح في مثل عبد الله وهو من جلة الصحابة رضوان الله عليهم وفقهائهم وزهادهم. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أى مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك. وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد- والله أعلم- إلا ما شاء من زيادة العذاب، ولم يبين وجه استقامة الاستثناء، والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب- والعياذ بالله- على درجات متفاوتة، فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب، إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد ليس من جنس العذاب وخارجة عنه، والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل برب وقد، وهما موضوعان لضرر الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:
لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم ... إلى المنتهى ومن السرور يكاد
فكان هؤلاء إذا بلغوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير، وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنه ما يؤيده، والله الموفق.
(2) . قوله «قوله الموتور» الموتور: المظلوم. (ع)

(2/65)


وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129) يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)

عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع إن ربك حكيم لا يفعل شيئا إلا بموجب الحكمة عليم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.

[سورة الأنعام (6) : آية 129]
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129)
نولي بعض الظالمين بعضا نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضا كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا بما كانوا يكسبون بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.

[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ لم يأتكم رسل منكم
واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقيل: أراد رسل الرسل من الجن إليهم، كقوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن الوا شهدنا على أنفسنا
حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله لم يأتكم
لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريرا لهم. وقولهم هدنا على أنفسنا
إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها. فإن قلت: ما لهم مقرين في هذه الآية جاحدين في قوله والله ربنا ما كنا مشركين؟ قلت:
تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذم لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم.

(2/66)


ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (132) وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134) قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (135)

[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 132]
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (132)
ذلك إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدإ محذوف: أى الأمر ذلك. وأن لم يكن ربك مهلك القرى تعليل، أى الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن «أن» هي التي تنصب الأفعال. ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلا من ذلك، كقوله وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع، بظلم بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالما، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح ولكل من المكلفين درجات منازل مما عملوا من جزاء أعمالهم وما ربك بغافل عما يعملون بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134]
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)
وربك الغني عن عباده وعن عبادتهم ذو الرحمة يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم المنافع الدائمة إن يشأ يذهبكم أيها العصاة ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق المطيع كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.

[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (135)
«المكانة» تكون مصدرا يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال:
مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله اعملوا على مكانتكم يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا

(2/67)


وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)

أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أى اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إني عامل أى عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله اعملوا ما شئتم وهي التخلية، والتسجيل على المأمور «1» بأنه لا يأتى منه إلا الشر، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه. فإن قلت: ما موضع من؟ قلت الرفع إذا كان بمعنى «أى» وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى «الذي» وعاقبة الدار العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المنذر محق والمنذر مبطل.

[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأن الله غنى، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها: وقوله مما ذرأ فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكية بزعمهم وقرى بالضم، أى قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة فلا يصل إلى الله أى لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين فهو يصل إلى شركائهم من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك ساء ما يحكمون في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)
__________
(1) . قوله «والتسجيل على المأمور» في الصحاح «السجل» الصك. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وفيه أيضا: هي مسجلة البر والفاجر. قال الأصمعي: أى مرسلة، يقال أسجلت الكلام أى أرسلته. (ع)

(2/68)


وكذلك ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى والآلهة، أو ومثل ذلك التزيين البليغ «1» الذي هو علم من الشياطين. والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم «2» بالوأد، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية
__________
(1) . قوله «ومثل ذلك التزيين البليغ الذي» لعله التزيين الذي. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «المعنى أن شركاءهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: لقد ركب المصنف في هذا الفصل متن عمياء، وتاه في تيهاء. وأنا أبرأ إلى الله وأبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه مما رماهم به «فانه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب أولادهم بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا فقرأه منصوبا، قال المصنف: وكانت له مندوحة عن نصبه إلى جره بالاضافة وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه يعنى ابن عامر من الفصل بين المضاف والمضاف إليه الذي يسمج في الشعر فضلا عن النثر فضلا عن المعجز. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه والفصيح سواه، ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد والفعل بين المضاف والمضاف إليه، بها يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل كما أنزلها عليه كذلك، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرؤن بها خلفا عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم.
فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فان المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين، أعنى علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وأنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة وزلة منكرة تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواترا، فان هذا القائل لم يثبتها بغير النقل.
وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأى غير موقوفة على النقل.
وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالى في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها، ثم إذا تنزل معه على اطراد القياس الذي ادعاه مطردا، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه وإن كان عسرا، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل، وهو أن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة:
إن إضافته ليست محضة لذلك. فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره. وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره لما بيناه من انفكاكه في التقدير وعدم توغله في الاتصال بأن يفصل بينه وبين المضاف إليه بما ليس أجنبيا عنه، وكأنه بالتقدير فكة بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل وأضافه إلى الفاعل وبقي المفعول مكانه حين الفك، ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر، إذ تارة يضاف إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوى به التأخير، فكأنه لم يفصل، كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته، لأن النية به التأخير. وأنشد أبو عبيدة
فداسهم دوس الحصاد الدائس
وأنشد أيضا:
يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقوى عدم توغله في الاضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعا ونصبا، فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد منظرة. بشواهد من أقيسة العربية. تجمع شمل القوانين النحوية لهذه القراءة، وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربة، بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا القدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما والله الموفق. وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة، إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته، ولا مستبعد من القياس، ولم يفرده في الدلالة المذكورة إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل، فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة، والله الموفق.

(2/69)


وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138)

يحلف: لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم، كما حلف عبد المطلب. وقرئ: زين، على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم، ونصب قتل أولادهم وزين، على البناء للمفعول الذي هو القتل، ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين، كأنه قيل: لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟
فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وأما قراءة ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجا مردودا، كما سمج ورد.
زج القلوص أبى مزاده «1»
فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء- لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم- لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب ليردوهم ليهلكوهم بالإغواء وليلبسوا عليهم دينهم وليخلطوا، عليهم ويشبهوه. ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناه وليوقعوهم في دين ملتبس. فان قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة ولو شاء الله مشيئة قسر ما فعلوه لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جاريا مجرى اسم الاشارة وما يفترون وما يفترونه من الإفك. أو وافتراؤهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138)
__________
(1) .
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبى مزاده
الزج: الطعن: والمزجة: الرمح القصير، لأنه آلة للزج. والقلوص: الناقة الشابة، وهو مفعول فاصل بين المضاف والمضاف إليه شذوذا. يقول: فطعنت الناقة أو الجماعة برمح قصير، كطعن أبى مزادة القلوص في السير.

(2/70)


وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139)

حجر فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات: وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء.
وقرأ ابن عباس: حرج، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لا يطعمها إلا من نشاء يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء وأنعام حرمت ظهورها وهي البحائر والسوائب والحوامي وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى:
أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله. فجعلوها أجناسا بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله افتراء عليه أى فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- وانتصابه على أنه مفعول له: أو حال، أو مصدر مؤكد، لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء.

[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139)
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث خالصة للحمل على المعنى، لأن ما في معنى الأجنة «1» وذكر محرم للحمل على اللفظ. ونظيره ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر. وأن تكون مصدرا وقع موقع الخالص، كالعاقبة أى ذو خالصة. ويدل عليه قراءة من قرأ خالصة بالنصب على أن قوله لذكورنا هو الخبر، وخالصة مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالا متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس: خالصة على الإضافة.
وفي مصحف عبد الله: خالص. وإن يكن ميتة وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرئ: وإن
__________
(1) . قال محمود: «وأنث خالصة للحمل على المعنى لأن ما في معنى الأجنة ... الخ» قال أحمد: ليسا سواء، لأنه في الآية الأولى رجوع إلى اللفظ بعد المعنى وفيه إجمال، وبينهما بون اقتضى أن أنكر جماعة من متأخرى الفن وقوعه في الكتاب العزيز، وادعوا أن جميع ما ورد فيه يعود على المعنى بعد اللفظ، وقد التزم غيرهم إجازة ذلك، وعدوا في الكتاب العزيز منه موضعين يمكن صرف الكلام فيهما إلى غير الموصول. وعلى الجملة فالحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل. وقد ذكر المصنف وجهين آخرين سوى ذلك فقال: ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة مثلها في راوية الشعر، وأن يكون مصدرا وقع موقع الخالص كالعافية أى ذو خالصة. وبدل عليه قراءة من قرأ خالصة بالنصب، على أن قوله لذكورنا هو الخبر، وخالصة مصدر مؤكد. ولا يجوز أن يكون حالا متعدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله، ولقد أحسن في الاحتراز بمنع الحال من المجرور حتى يتعين المصدر.

(2/71)


قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140) وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)

تكن، بالتأنيث، على: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ أهل مكة: وإن تكن ميتة بالتأنيث والرفع على كان التامة وتذكير الضمير في قوله فهم فيه شركاء لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى، فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم أى، زاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام.

[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140)
نزلت في ربيعة ومضر والرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر سفها بغير علم لخفة أحلامهم، وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم، لا هم. وقرئ «قتلوا» بالتشديد ما رزقهم الله من البحائر والسوائب وغيرها.

[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141)
أنشأ جنات من الكروم معروشات مسموكات «1» وغير معروشات متروكات على وجه الأرض لم تعرش. وقيل: المعروشات» ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه وغير معروشات مما أنبته وحشيا في البراري والجبال. فهو غير معروش. يقال: عرشت الكرم، إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان. وسقف البيت: عرشه مختلفا أكله في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ «أكله» بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. ومختلفا: حال مقدرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى فادخلوها خالدين. وقرئ «ثمره» بضمتين. فإن قلت: ما فائدة قوله إذا أثمر وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: إذا أثمر، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع وآتوا حقه يوم حصاده الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بالحق ما كان يتصدق به على
__________
(1) . قوله «مسموكات» أى مرفوعات. وفي الصحاح «سمك الله السماء» رفعها. والسمك: السقف. (ع)

(2/72)


ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142) ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (144)

المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبا حتى نسخه افتراض العشر، ونصف العشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة. ومعناه: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء ولا تسرفوا في الصدقة كما روى عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة ففرق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئا إلى منزله ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144]
ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142) ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (144)
حمولة وفرشا عطف على جنات. أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل: «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل، «والفرش» الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها ولا تتبعوا خطوات الشيطان في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ثمانية أزواج بدل من حمولة وفرشا اثنين زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز- والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمى كل واحد منها زوجا، وهما زوجان، بدليل قوله خلق الزوجين الذكر والأنثى والدليل عليه «1» قوله تعالى ثمانية أزواج ثم فسرها بقوله من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة
__________
(1) . قوله «والدليل عليه» عبارة النسفي: ويدل عليه. (ع)

(2/73)


قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)

كأسا بشرط أن يكون فيها خمر. والضأن والمعز جمع ضائن وما عز، كتاجر وتجر. وقرئا بفتح العين. وقرأ أبى. ومن المعزى. وقرئ: اثنان، على الابتداء.
الهمزة في آلذكرين للإنكار والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من العز.
وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرم الله تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام «1» تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكورا وإناثا، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرمها الله، فأنكر ذلك عليهم نبئوني بعلم أخبرونى بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرمتم إن كنتم صادقين في أن الله حرمه أم كنتم شهداء بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة الإنكار، يعنى أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون: الله حرم هذا الذي نحرمه، فتهكم بهم في قوله أم كنتم شهداء على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ليضل الناس وهو عمرو بن لحى بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.

[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)
فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبى من المعدود. وذلك أن الله عز وجل من على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرمها، والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد في ما أوحي إلي تنبيه على أن التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس محرما طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها إلا أن يكون ميتة إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة أو دما مسفوحا أى مصبوبا سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح
__________
(1) . قوله «ذكورة الأنعام» يجمع الذكر على ذكارة كحجارة، وذكور وذكران. هذا ما في الصحاح، لكن عبارة النسفي كعبارة المصنف، فحرر. (ع)

(2/74)


وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147)

أو فسقا عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهل به لغير الله فسقا لتوغله في باب الفسق.
ومنه قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وأهل: صفة له منصوبة المحل.
ويجوز أن يكون مفعولا له من أهل، أى أهل لغير الله به فسقا. فإن قلت: فعلام تعطف أهل؟ وإلام يرجع الضمير في به على هذا القول؟ قلت: يعطف على يكون، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكن في يكون فمن اضطر فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات غير باغ على مضطر مثله تارك لمواساته ولا عاد متجاوز قدر حاجته من تناوله فإن ربك غفور رحيم لا يؤاخذه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147]
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147)
«ذو الظفر» ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالا لهم، فلما ظلموا حرم ذلك عليهم فعم التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقوله ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط. والمعنى أنه حرم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب «1» وشحوم الكلى.
وقوله إلا ما حملت ظهورهما يعنى إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة «2» أو الحوايا أو اشتمل على الأمعاء أو ما اختلط بعظم وهو شحم الإلية. وقيل الحوايا عطف على شحومهما. و «أو» بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم الطيبات ببغيهم بسبب ظلمهم «3» وإنا لصادقون
فيما أوعدنا
__________
(1) . قوله «الثروب» هي شحوم رقيقة قد غشيت الكرش والأمعاء، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «من السحقة» السحقة: الشحمة الملتزقة بالجلد على الظهر من الكتف إلى الورك، نقله في الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: معناه ذلك الجزاء جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم ... الخ» قال أحمد: هذه الآية وردت فيمن كفر وافترى على الله ووعيد الكافر باتفاق واقع به غير مردود عنه. وأهل السنة وإن قالوا: يجوز العفو عن العاصي الموحد، فلا يقولون إن ذلك حتم، ولا يلزمهم ذلك، لأن الله تعالى حيث توعد المؤمنين العصاة، علق حلول الوعيد بهم بالمشيئة، وأخبر أنه يغفر لمن يشاء منهم، فمن ثم اعتقدنا أن كل موحد عاص في المشيئة، وحيث أطلق وعيدهم في بعض الظواهر فهو محمول على المقيد، فلا يلزمهم حينئذ اعتقاد الخلف في الخبر. والزمخشري إنما يدندن حول إلزامهم ذلك وأنى له.

(2/75)


سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149)

به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب. فإن كذبوك في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جودا وكرما فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع سعة رحمته عن القوم المجرمين فلا تغتر برجاء رحمته عن خوف نقمته.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 149]
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149)
سيقول الذين أشركوا إخبار بما سوف يقولونه، «1» ولما قالوه قال وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء يعنون بكفرهم وتمردهم «2» . أن شركهم وشرك
__________
(1) . قال محمود: «هذا إخبار بما سوف يقولونه ... الخ» قال أحمد: وفائدته توطين النفس على الجواب ومكافحتهم بالرد وإعداد الحجة قبل أوانها، كما قال سيقول السفهاء من الناس.
(2) . عاد كلامه. قال: فلما وقع ذلك منهم قال وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء يعنون بكفرهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية، وأوضحنا أن الرد عليهم، إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله فلله الحجة البالغة ثم أوضح تعالى أن كل شيء واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون، بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها، وهم الفرقة المعروفون بالمجبرة. والمصنف يغالط في الحقائق فيسمى أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى سيقول الذين أشركوا- إلى قوله- قل فلله الحجة البالغة وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين، فلم تقع من أكثرهم. ووجه الرد أن «لو» إذا دخلت على فعل مثبت نفته، فيقتضى ذلك أن الله تعالى لما قال فلو شاء لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم، ولو شاءها لوقعت، فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم، فإذا ثبت اشتمال الاية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها، فان أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الالهية خيرا أو غيره، وذلك عين عقيدتهم، فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة، يسلبون تأثيرها ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز، يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤبدون بالعقل والنقل، والله الموفق.

(2/76)


قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)

آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله، بمشيئة الله وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه «1» كذلك كذب الذين من قبلهم أى جاءوا بالتكذيب المطلق، لأن الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره حتى ذاقوا بأسنا حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم قل هل عندكم من علم من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتخرجوه لنا وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة إن تتبعون إلا الظن في قولكم هذا وإن أنتم إلا تخرصون تقدرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرئ كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف قل فلله الحجة البالغة يعنى فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم «2» فلو شاء لهداكم أجمعين منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.

[سورة الأنعام (6) : آية 150]
قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)
هلم يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين. وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى: هاتوا شهداءكم وقربوهم. فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين
__________
(1) . قوله «كمذهب المجبرة بعينه» يعنى أهل السنة، من أن كل كائن فهو مراد له تعالى ولو شرا. وتحقيق الفرق بينه وبين قول المشركين في علم التوحيد، ويكفى فيه أن قولهم من باب التهكم، كما قالوا لما قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه. (ع)
(2) . قوله «على قود مذهبكم» لعله من قاد الفرس ونحوه قودا، إذا جره بسهولة، أى على طبق مذهبكم، أى على مقتضاه وما يؤدى إليه. (ع)

(2/77)


قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151)

يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت: أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل، ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء، لتساوى أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله فلا تشهد معهم يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم وكان واحدا منهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات موحدا لله تعالى. فإن قلت: هلا قيل: قل هلم شهداء يشهدون أن الله حرم هذا؟ «1» وأى فرق بينه وبين المنزل؟ قلت: المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم، وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم، ليهدم ما يقومون به يحق الحق ويبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك، وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم، والدليل عليه قوله تعالى فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولو قيل: هلم شهداء يشهدون، لكان معناه هاتوا أناسا يشهدون بتحريم ذلك، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض. ويناقضه قوله تعالى فإن شهدوا فلا تشهد معهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 151]
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151)
«تعالى» من الخاص الذي صار عاما. وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عم. وما حرم منصوب بفعل التلاوة، أى أتل الذي حرمه ربكم.
أو يحرم بمعنى: أقل أى شيء حرم ربكم، لأن التلاوة من القول، و «أن» في ألا تشركوا مفسرة
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت هلا قيل قل هلم شهداء يشهدون أن الله حرم هذا وأى فرق بينه وبين المنزل ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ووجه مناقضته له أنه لو قيل على خلاف المنزل، وهو قوله: هلم بشهداء يشهدون، يفهم أن الطالب للشهداء ليس على تحقيق من أن ثم شهداء، كما يقول الحاكم للمدعى: هات بينة تشهد بذلك، فهو لا يتحقق أن للمدعى بينة، ثم يكون قوله فإن شهدوا تحقيقا لأن ثم شهداء، فالجمع بينهما متناقض كما ترى، والله الموفق. [.....]

(2/78)


ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)

و «لا» للنهى. فإن قلت: هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلا من ما حرم؟
قلت: وجب أن يكون ألا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهى لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله وبالوالدين إحسانا لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وأوفوا
، وإذا قلتم فاعدلوا
، وبعهد الله أوفوا
. فإن قلت: فما تصنع بقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما؟ قلت: أجعل قوله وأن هذا صراطي مستقيما علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم. فإن قلت: إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم ربكم، وجب أن يكون ما بعده منهيا عنه محرما كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهى، فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعا فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان. وترك العدل في القول، ونكث عهد الله من إملاق من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى خشية إملاق. ما ظهر منها وما بطن مثل قوله ظاهر الإثم وباطنه. إلا بالحق كالقصاص، والقتل على الردة، والرجم.

[سورة الأنعام (6) : آية 152]
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)
إلا بالتي هي أحسن
إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده فادفعوه إليه بالقسط
بالسوية والعدل، لا نكلف نفسا إلا وسعها
إلا ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك، لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجرى فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه ولو كان ذا قربى
ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين

(2/79)


وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153) ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)

[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)
وقرئ: وأن هذا صراطي مستقيما، بتخفيف «أن» وأصله: وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش: وهذا صراطي. وفي مصحف عبد الله: وهذا صراط ربكم. وفي مصحف أبى: وهذا صراط ربك ولا تتبعوا السبل الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر البدع والضلالات فتفرق بكم فتفرقكم أيادى سبا عن سبيله عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام. وقرئ: فتفرق بإدغام التاء. وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»
، ثم تلا هذه الآية وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب. وقيل: إنهن أم الكتاب، ومن عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. فإن قلت: علام عطف قوله ثم آتينا موسى الكتاب قلت: على وصاكم به. فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بثم- والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل-؟ قلت: هذه التوصية قديمة، لم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بنى آدم قديما وحديثا.

[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)
ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل:
هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله تعالى ووهبنا له إسحاق ويعقوب.
تماما على الذي أحسن تماما للكرامة والنعمة، على الذي أحسن، على من كان محسنا صالحا، يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: على الذين أحسنوا: أو أراد به موسى عليه السلام، أى تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أى
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى من طريق عاصم وغيره عن أبى وائل.

(2/80)


وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155) أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون (158)

زيادة على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر: على الذي أحسن، بالرفع، أى على الذي هو أحسن، بحذف المبتدإ كقراءة من قرأ مثلا ما بعوضة بالرفع أى على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماما، أى تاما كاملا على أحسن ما تكون عليه الكتب، أى على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتم له الكتاب على أحسنه

[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 157]
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155) أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157)
أن تقولوا كراهة أن تقولوا على طائفتين يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل وإن كنا هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن عن دراستهم عن قراءتهم، أى لم نعرف مثل دراستهم لكنا أهدى منهم لحدة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها، على أنا أميون. وقرئ: أن يقولوا:
أو يقولوا، بالياء فقد جاءكم بينة من ربكم تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ يقولوا على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدقتكم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف فمن أظلم ممن كذب بآيات الله بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك وصدف عنها الناس فضل وأضل سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب كقوله الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب.

[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون (158)

(2/81)


إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)

الملائكة ملائكة الموت، أو العذاب أو يأتي ربك أو يأتى كل آيات ربك.
بدليل قوله أو يأتي بعض آيات ربك يريد آيات القيامة والهلاك الكلى، وبعض الآيات.
أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعن البراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تتذاكرون؟ فقلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمغرب، وخسفا بالمشرق، وخسفا بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونارا تخرج من عدن «1» » لم تكن آمنت من قبل صفة لقوله نفسا. وقوله أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على آمنت. والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت «2» في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيرا، ليعلم أن قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك قل انتظروا إنا منتظرون وعيد. وقرئ: أن يأتيهم الملائكة، بالياء والتاء.
وقرأ ابن سيرين: لا تنفع، بالتاء، لكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك: ذهبت بعض أصابعه.

[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)
فرقوا دينهم اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث: «افترقت اليهود
__________
(1) . لم أجده لكن في مسلم عن حذيفة نحوه.
(2) . قال محمود: «فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت ... الخ» قال أحمد رحمه الله، هو يروم الاستدلال على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود بهذه الآية، إذ سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتم له ذلك، فان هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف.
وأصل الكلام. يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا بلاغة واختصارا وإعجازا:
أراد أن يثبت أن ذلك هو الأصل، فهو غير مخالف لقواعد السنة، فانا نقول: لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخبر وإن نفع الايمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال، أجدر من أن يدل له.
والله الموفق.

(2/82)


من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)

على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة «1» » وقيل: فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقرئ:
فارقوا دينهم، أى تركوه وكانوا شيعا فرقا كل فرقة تشيع إماما لها لست منهم في شيء أى من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف.

[سورة الأنعام (6) : آية 160]
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160)
عشر أمثالها على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره عشر حسنات أمثالها، وقرئ: عشر أمثالها، برفعهما جميعا على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الإضعاف.
وقد وعد بالواحد سبعمائة، ووعد ثوابا بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل وهم لا يظلمون لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.

[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)
دينا نصب على البدل من محل إلى صراط لأن معناه: هداني صراطا، بدليل قوله ويهديكم صراطا مستقيما والقيم: فيعل، من قام، كسيد من ساد، وهو أبلغ من القائم.
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من رواية محمد بن عمرو عن أبى هريرة، دون «كلها» إلى آخر ما في المواضع، لكن عند أبى داود في الأخيرة «ثنتان وسبعون في النار. وواحدة في الجنة» وللترمذي «كلهم في النار، إلا ملة واحدة. وهي الناجية، وافترقت النصارى ثنتين وسبعين فرقة. كلها في الهاوية إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابى، وأخرجه ابن حبان والحاكم. ورواه الطبراني من حديث عوف بن مالك كذلك، إلا أنه قال «فرقة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هي؟ قال: الجماعة» ومن حديث أبى أمامة في الأوسط، بلفظ «كلها في النار إلا السواد الأعظم» ولأبى نعيم وابن مردويه من حديث زيد بن أسلم عن أنس نحوه. والبزار والبيهقي في المدخل من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه. وأخرجه أسلم بن سهل الواسطي في تاريخه من حديث جابر مثله. وبين أن السائل عن ذلك عمر بن الخطاب، وفي إسناده واو لم يسم، وفي الباب عن سعد بن أبى وقاص عند ابن أبى شيبة، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وعن معاوية أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وإسناده حسن، واتفقت هذه الطرق على العدد المذكور أولا: وخالفهم كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده لجعله قوم موسى سبعين فرقة وقوم عيسى إحدى وسبعين وهذه الأمة اثنين وسبعين.
وغير في كل منها كلها فقال «إلا واحدة» وقال في الأخيرة «الإسلام وجماعة» أخرجه الطبراني والحاكم.

(2/83)


قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165)

وقرئ: قيما. والقيم: مصدر بمعنى القيام وصف به. وملة إبراهيم عطف بيان.
وحنيفا حال من إبراهيم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163]
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163)
قل إن صلاتي ونسكي وعبادتي وتقربى كله. وقيل: وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فصل لربك وانحر وقيل: صلاتي وحجى من مناسك الحج ومحياي ومماتي وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه وبذلك من الإخلاص أمرت وأنا أول المسلمين لأن إسلام كل نبى متقدم لإسلام أمته.

[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
قل أغير الله أبغي ربا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أى منكر أن أبغى ربا غيره وهو رب كل شيء فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال قل أفغير الله تأمروني أعبد، ولا تكسب كل نفس إلا عليها جواب عن قولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم.

[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165)
جعلكم خلائف الأرض لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فحلفت أمته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضا. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الشرف والرزق ليبلوكم في ما آتاكم من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحر بالعبد، والغنى بالفقير إن ربك سريع العقاب لمن كفر نعمته وإنه لغفور رحيم لمن قام يشكرها.
ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب.

(2/84)


المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلت على سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى الله عليه وسلم واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة «1» .

سورة الأعراف
مكية، غير ثمان آيات: واسئلهم عن القرية، إلى: وإذ نتقنا الجبل وهي مائتان وست آيات [نزلت بعد ص] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2)
كتاب خبر مبتدأ محذوف، أى هو كتاب. وأنزل إليك صفة له. والمراد بالكتاب السورة فلا يكن في صدرك حرج منه أى شك منه «2» ، كقوله فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك
__________
(1) . سبقت طرقه في سورة آل عمران. وله طريق أخرى أخرجها الثعلبي من حديث أبى بن كعب بتمامه.
وفيه أبو عصمة. وهو متهم بالكذب. وأوله عند الطبراني في الصغير في ترجمة إبراهيم بن نائلة من حديث ابن عمر إلى قوله «والتحميد» وفيه يوسف بن عطية، وهو ضعيف، وأخرجه عنه ابن مردويه في تفسيره وأبو نعيم في الحلية.
(2) . قال محمود: «الحرج: الشك ... الخ» قال أحمد: ويشهد له قوله تعالى فلا تكونن من الممترين ولهذه النكتة ميز إمام الحرمين بين العلم والاعتقاد الصحيح، بأن «العقد» ربط الفكر بمعتقد. و «الاعتقاد» افتعال منه، والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والتبلج والثقة. وما أحسن تنبيه بقوله: والاعتقاد افتعال منه.
يريد: إذا كان العقد مباينا للعلم، فما ظنك بالاعتقاد، لأن صيغة الافتعال أبلغ معنى. ومنه الاعتماد والاحتمال.
ومن ثم ورد في الخبر «كسب» وفي نقيضه «اكتسب» لأن النفوس في الشهوات والمخالفات واتباع الأهواء أجدر منها في الطاعات وقمع الأغراض، وعلى ذلك جاء لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وإن كان «العلم» من «الأعلم» المأخوذ من «العلمة» بالتحريك، وهي انشراح الشفة وانشقاقها، فالذي ذكره الامام حينئذ نهاية في نوعه، والله الموفق.

(2/85)


اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3) وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4)

وسمى الشك حرجا، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أى لا تشك في أنه منزل من الله، ولا تحرج من تبليغه «1» لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمته الله ونهاه عن المبالاة بهم. فإن قلت: بم تعلق قوله لتنذر؟ قلت: بأنزل، أى أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهى، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار، لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه، متكل على عصمته. فإن قلت: فما محل ذكرى؟ قلت: يحتمل الحركات الثلاث. والنصب بإضمار فعلها. كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيرا لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفا على كتاب، أو بأنه خبر مبتدإ محذوف. والجر للعطف على محل أن تنذر، أى للإنذار وللذكر. فإن قلت: النهى في قوله فلا يكن متوجه «2» إلى الحرج فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم: لا أرينك هاهنا.

[سورة الأعراف (7) : آية 3]
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
اتبعوا ما أنزل إليكم من القرآن والسنة ولا تتبعوا من دونه من دون الله أولياء أى ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه. وعن الحسن: يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها. وقرأ مالك بن دينار: ولا تبتغوا، من الابتغاء ومن يبتغ غير الإسلام دينا. ويجوز أن يكون الضمير في من دونه لما أنزل، على: ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء قليلا ما تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. وقرى: تذكرون، بحذف التاء.
ويتذكرون، بالياء. وقليلا: نصب يتذكرون، أى تذكرون تذكرا قليلا. وما مزيدة لتوكيد القلة.

[سورة الأعراف (7) : آية 4]
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «أو ولا تحرج من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له ... الخ» قال أحمد: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك الآية.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت النهي في قوله فلا يكن متوجه إلى الحرج، فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم لا أرينك هاهنا» قال أحمد: بريد أن الحرج منهى في الآية ظاهرا والمراد النهى عنه، والله أعلم.

(2/86)


فجاءها فجاء أهلها بياتا مصدر واقع موقع الحال، بمعنى بائتين. يقال: بات بياتا حسنا، وبيتة حسنة. وقوله هم قائلون حال معطوفة «1» على بياتا، كأنه قيل: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين. فإن قلت: هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل قرية أو قبل الضمير في أهلكناها؟ قلت: إنما يقدر المضاف للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تهلك كما يهلك أهلها. وإنما قدرناه قبل الضمير في فجاءها لقوله أو هم قائلون فإن قلت: لا يقال:
جاءني زيد هو فارس، بغير واو، فما بال قوله هم قائلون؟ قلت: قدر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال: لو قلت جاءني زيد راجلا، أو هو فارس. أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا. لاجتماع حرفى عطف، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حده.
وأما جاءني زيد هو فارس، فخبيث. فإن قلت: فما معنى قوله أهلكناها فجاءها بأسنا والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت: معناه أردنا إهلاكها كقوله إذا قمتم إلى الصلاة وإنما خص هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة، لأنهما وقت الغفلة والدعة، فيكون نزول
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقوله هم قائلون حال معطوفة على بياتا كأنه قيل، لجاءهم ... الخ» قال: أحمد:
الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا ضعيف. والأفصح دخول الواو كما اختاره الزمخشري. وأما الزجاج وغيره فيجعلون أحد الأمرين كافيا في الاسمية، إما الواو وإما الضمير. وأما قول الزمخشري: إن الجملة المعطوفة إنما حذفت منها واو الحال كراهية لاجتماعها وهي واو عطف أيضا مع مثلها، ففيه نظر. وذلك أن واو الحال لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية. ألا تراها تصحب الجملة الاسمية عقيب الفعلية في قولك جاءني زيد وهو راكب، ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين وإن لم يكن قبيحا، فالأصح خلافه، فلما رأينها تتوسط بينهما والكلام حينئذ هو الأفصح أو المتعين، علمت أنها ممتازة بمعنى وخاصية عن واو العطف، وإذا ثبت امتيازها عن العاطفة، فلا غرو في اجتماعها معها، وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية، فاما أن تسلبه حينئذ لاغناء العاطف عنها، أو تستمر عليه، كما تجتمع الواو. ولكن لما فيها من زيادة معنى الاستدراك في مثل قوله ولكن لا يشعرون فعلى هذا كان من الممكن أن تجتمع واو الحال مع العاطف بلا كراهية، والذي يدل على ذلك أنك لو قلت: سبح الله وأنت راكع، أو وأنت ساجد، لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة فالتحقيق- والله أعلم- في الجملة المعطوفة على الحال: أن المصحح لوقوعها حالا من غير واو، هو العاطف، إذ يقتضى مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحال، فيستغنى عن واو الحال، كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو موقعة في مثل والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وفي مثل فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس ولو قلت في غير التلاوة: وبالليل إذا عسعس، لجاز، ولكن يستغنى عن تكرار حرف القسم لنيابة العاطف منابه. فهذا والله أعلم سبب استغناء الجملة المعطوفة على الحال عن الواو المصححة للحالية، فالحاصل من هذا أنك إن أتيت بواو الحال مصاحبا للعاطف، لم تخرج عن حد الفصاحة إلى الاستثقال، بل أمدت تأكيدا. وإن لم تأت بها فكذلك في الفصاحة مع إفادة الاختصار، والله الموفق للصواب.

(2/87)


فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5) فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7) والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)

العذاب فيهما أشد وأفظع، وقوم لوط أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شعيب وقت القيلولة.

[سورة الأعراف (7) : آية 5]
فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5)
فما كان دعواهم ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم إنا كنا ظالمين فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ومن قولهم دعواهم: يا لكعب. ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم، دعواهم نصب خبر لكان، وأن قالوا رفع اسم له، ويجوز العكس

[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7]
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7)
فلنسئلن الذين أرسل إليهم أرسل مسند إلى الجار والمجرور وهو إليهم ومعناه:
فلنسألن المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم، فلنقصن عليهم على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بعلم عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم وما كنا غائبين عنهم وعما وجد منهم، فإن قلت: فإذا كان عالما بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم؟ قلت معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)
والوزن يومئذ الحق يعنى وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. ورفعه على الابتداء. وخبره يومئذ. والحق صفته أى: والوزن يوم يسأل الله الأمم «1» ورسلهم
__________
(1) . قوله «أى والوزن يوم يسأل الله الأمم» هذا إنما ينبنى على أن يومئذ متعلق بالوزن، والحق خبر. أما على ما قاله، فالتقدير: ويوم يسأل الخ، ويمكن أن مراده: والوزن كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، أى الوزن الحق، وكان الأقرب: أى والوزن الحق يوم يسأل ... الخ (ع)

(2/88)


ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12)

الوزن الحق، أى العدل. وقرئ: القسط. واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيدا للحجة، وإظهارا للنصفة، وقطعا للمعارة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب. وقيل: هي عبارة عن القضاء السوى والحكم العادل فمن ثقلت موازينه جمع ميزان أو موزون، أى فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن: وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل. وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف. بآياتنا يظلمون يكذبون بها ظلما: كقوله فظلموا بها.

[سورة الأعراف (7) : آية 10]
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10)
مكناكم في الأرض جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء. وعن ابن عامر: أنه همز، على التشبيه بصحائف.

[سورة الأعراف (7) : آية 11]
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)
ولقد خلقناكم ثم صورناكم يعنى خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية من الساجدين، ممن سجد لآدم.

[سورة الأعراف (7) : آية 12]
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12)
ألا تسجد «لا» في ألا تسجد صلة بدليل قوله: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. ومثلها لئلا يعلم أهل الكتاب بمعنى ليعلم: فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ إذ أمرتك لان أمرى لك بالسجود أوجبه عليك إيجابا وأحتمه عليك حتما لا بد لك منه فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت:

(2/89)


قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15)

للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقدا أنه غير واجب عليه، لما رأى أن سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب. فإن قلت: كيف يكون قوله أنا خير منه جوابا لما منعك، وإنما الجواب أن يقول: منعني كذا؟ قلت: قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أن أصله من نار وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله، كأنه يقول: من كان على هذه الصفة كان مستبعدا أن يؤمر بما أمر به.

[سورة الأعراف (7) : آية 13]
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13)
فاهبط منها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين فما يكون لك فما يصح لك أن تتكبر فيها وتعصى فاخرج إنك من الصاغرين من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، كما تقول للرجل: قم صاغرا، إذا أهنته. وفي ضده: قم راشدا. وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. وعن عمر رضى الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته «1» وقال: انتعش أنعشك الله. ومن تكبر وعدا طوره وهصه «2» الله إلى الأرض «3» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15]
قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15)
__________
(1) . قوله «رفع الله حكمته» في الصحاح: حكمة اللجام ما أحاط بالحنك. (ع)
(2) . قوله: «وهصه الله إلى الأرض» وهصه: أى غمزه إلى الأرض والوهص: كسر الشيء الرخو وشدة الوطء على الأرض، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه. حدثنا أبو خالد الأحمر وعبد الله بن إدريس وسفيان بن عتبة عن ابن عجلان عن بكير بن الأشج عن معمر بن أبى حية عن عبيد الله بن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال: انتعش أنعشك الله، فهو في نفسه صغير، وفي أنفس الناس كبير. وإن العبد إذا تعظم وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض. وقال: اخسأ خسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أنفس الناس صغير، لهو أحقر عندهم من خنزير، وأخرجه البيهقي في الشعب من طريق على بن المديني عن سفيان.
وقد روى بعضه مرفوعا، أخرج الدارقطني في العلل من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من آدمى إلا وملك آخذ بحكمته. فإذا رفع نفسه قيل للملك: ضع حكمتك- وإذا وضع نفسه قيل للملك: ارفع حكمتك» قال: لا يثبت. فيه على بن زيد وهو ضعيف.

(2/90)


قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17)

فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم «1» قلت: لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 16 الى 17]
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17)
فبما أغويتني فبسبب إغوائك إياى لأقعدن لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغى ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب «2» . وعن الأصم:
أمرتنى بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى: فبسبب وقوعى في الغى لأجتهدن في إغوائهم «3» حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت: بم تعلقت الباء، فإن تعلقها
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ... الخ» قال أحمد: وهذا السؤال إنما يورده ويلتزم الجواب عنه القدرية الذين يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح في أفعاله. وأما أهل السنة فقد أصغوا حق الإصغاء إلى قوله تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فلا يورد أحد منهم هذا السؤال ولا يجيب عنه من يورده، والله الموفق. [.....]
(2) . قوله «ومن آدم أنفسا ومناصب» هذا عند المعتزلة، أما عند أهل السنه فآدم أفضل منهم. (ع)
(3) . قال محمود: «والمعنى: فبسبب وقوعي في الغى لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي ... الخ» قال أحمد: تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان:
إحداهما: تحريفه الإغواء إلى التكليف، لأنه يعتقد أن الله تعالى لم يغوه، أى لم يخلق له الغى بناء على قاعدة التحسين. والتقبيح والصلاح والأصلح، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود، لأنه كان سببا في غيه. وكثيرا ما يؤول أفعال الله تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب، ويجعل ذلك من مجاز السببية، لأن الفعل له ملابسات بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب، فاسناده إلى الفاعل حقيقة، وإسناده إلى بقيتها مجاز ويجعل الفعل مسندا إلى الله تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله. وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيدا محبوسا في مال عليه، هذه وضعت القيود في رجليك، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون، أى اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك.
فعلى هذا يروم حمل هذه الآية، يعنى بما كلفتنى من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغى لنفسي لأقعدن، فيجعل إبليس هو الفاعل في الحقيقة. وأما إسناد الفعل إلى الله تعالى فمجاز. هذه إحدى النزغتين.
والأخرى: جعله التكليف من جملة الأفعال، لأنه يزعم أن كلام الله تعالى محدث من جملة أفعاله، لا صفة من صفاته، والتكليف من الكلام، فهاتان زلتان جمع القدرية بينهما. وإبليس لعنه الله لم يرض واحدة منهما، لأنه نسب الإغواء إلى الله تعالى، إذ هو خالق كل شيء، فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفى الشرك ما لم يسبق به إبليس؟ نعوذ بالله من التعرض لسخط الله.

(2/91)


بلأقعدن يصد عنه لام القسم، لا تقول: والله بزيد لأمرن؟ قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتنى أقسم بالله لأقعدن، أى فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم، أى: فأقسم بإغوائك لأقعدن، وإنما أقسم بالإغواء، لأنه كان تكليفا، والتكليف من أحسن أفعال الله، لكونه تعريضا لسعادة الأبد، فكان جديرا بأن يقسم به. ومن تكاذيب المجبرة «1» ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام، فقام الرجل، فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتنى، وهذا يقول: أنا أغوى نفسي، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين «2» . وقيل «ما» للاستفهام، كأنه قيل: بأى شيء أغويتنى، ثم ابتدأ لأقعدن. وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» الاستفهامية، قليل شاذ. وأصل الغى الفساد. ومنه: غوى الفصيل، إذا بشم. والبشم: فساد في المعدة لأقعدن لهم صراطك المستقيم لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف، كقوله:
... كما عسل الطريق الثعلب «3»
__________
(1) . قوله «ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه» يعنى أهل السنة، وسماهم المعتزلة بذلك، لقولهم: إن خالق أفعال العباد ولو قبيحة هو الله تعالى، فيكون العبد مجبورا فيها. فكيف يصح تكليفه، ولكنهم أثبتوا للعبد الكسب في أفعاله، ولذلك صح تكليفه. أما الجبر المنافى للتكليف، فهو أن لا يكون للعبد دخل في فعله أصلا، بحيث يكون كالريشة المعلقة في الهواء. وبه قالت المجبرة الحقيقية، كما هو مذكور في أواخر المواقف. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «ومن تكاذيب المجبرة: ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس تقوم أو تقام؟ فقام الرجل. فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتنى. وهذا يقول: أنا أغوى نفسي. انتهي كلام طاوس على زعمهم. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه وتعالى أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين» انتهى كلامه. قال أحمد: وإنما أوردت مثل هذا من كلامه وإن كان غير محتاج إلى التنبيه على فساده وحيده عن العقائد الصحيحة لتبلج الحجة في وجوب الرد عليه وتعينه على مر هداه الله إليه. ولقد صدق طاوس رضى الله عنه. وأما قول الزمخشري في أهل السنة الذين سماهم مجبرة أنهم يتهالكون في نسبة القبائح إلى الله تعالى، فحاصله: أنهم يخلصون التوحيد حتى لا يؤمنون بخالق غير الله، ولكي يصدفوا قوله تعالى متمدحا الله خالق كل شيء لا كالقدرية الذين هم يتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيؤولون الفاعل بالمسبب.
فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، والله الموفق للصواب.
(3) .
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
لساعدة بن جؤية، يصف رمحا بأنه لين يضطرب صلبه في الكف بسبب هزه، فلا يلبس فيه، كما عسل أى اضطرب الثعلب في الطريق، فحذف الجار من الثاني الضرورة، واغتفر لذكره في الأولى، وفي عسل معنى الدخول بسرعة.

(2/92)


قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)

وشبهه الزجاج بقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، أى على الظهر والبطن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة: قعد له بطريق الإسلام فقال له:
تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل «1» » ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتى منها العدو في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك. فإن قلت: كيف قيل من بين أيديهم ومن خلفهم بحرف الابتداء وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدى إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس. وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلى عليه. ومعنى «عن يمينه» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له. ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعالى» . ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس، وعلى القوس، ومن القول، لأن السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه، لأنهما ظرفان للفعل. ومن بين يديه ومن خلفه: لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول: جئته من الليل، تريد بعض الليل، وعن شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد: من بين يدى، ومن خلفي، وعن يمينى، وعن شمالي: أما من بين يدي فيقول: لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا وأما من خلفي، فيخوفنى الضيعة على مخلفي فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وأما من قبل يمينى، فيأتينى من قبل الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين وأما من قبل شمالي فيأتينى من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ولا تجد أكثرهم شاكرين قاله تظنينا، بدليل قوله ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 18]
قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)
__________
(1) . أخرجه النسائي وأحمد وابن حبان وأبر يعلى والطبراني من حديث سمرة ابن الفاكه وابن أبى الفاكه به وأتم منه. «تنبيهان» أحدهما: قوله «بأطرقه» ضبطه ثابت في الدلائل بكسر الراء، بمثناة وبضم الراء. وبهاء.
ثانيهما: قوله «بأطرقه» : وقع عند الطيبي، رواه النسائي من حديث سيرة بن معبد. وهو وهم.

(2/93)


وياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22)

مذؤما من ذأمه إذا ذمه. وقرأ الزهري: مذوما بالتخفيف، مثل مسول في مسؤل.
واللام في لمن تبعك موطئة للقسم. ولأملأن جوابه، وهو ساد مسد جواب الشرط منكم منك ومنهم، نغلب ضمير المخاطب، كما في قوله إنكم قوم تجهلون. وروى عصمة عن عاصم: لمن تبعك، بكسر اللام، بمعنى: لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله لأملأن جهنم منكم أجمعين، على أن لأملأن في محل الابتداء، ولمن تبعك خبره.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 22]
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22)
ويا آدم وقلنا يا آدم. وقرئ: هذى الشجرة، والأصل الياء، والهاء بدل منها. ويقال:
وسوس، إذا تكلم كلاما خفيا يكرره. ومنه وسوس الحلى، وهو فعل غير متعد، كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجل موسوس- بكسر الواو- ولا يقال موسوس بالفتح، ولكن موسوس له، وموسوس إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له: فعل الوسوسة لأجله، ووسوس إليه: ألقاها إليه ليبدي جعل ذلك غرضا له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفا. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور «1» وأنه
__________
(1) . قال محمود: «فيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ... الخ» قال أحمد: وفي هذه الكلمات أيضا جنوح إلى قاعدة الاعتزال في أمرين، أحدهما: قوله إن كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول، فانه ينشأ عن اعتقاده أن القبح والتحسين بالعقل وإن جاز أن يصدر هذا الكلام من المعتقد لعقيدة السنة، إلا أنه لا يريد به ظاهره، إذ التحسين والتقبيح إنما يدركان بالشرع والسمع لا بالعقل. ومعنى هذا الإطلاق ولو صدر من سنى:
أن العقل يدرك المعنى الذي لأجله حسن الشرع الستر وقبح الكشف. الأمر الثاني: استدلاله على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقد مضى أن ذلك معتقد المعتزلة وإن كان بعض أهل السنة قد مال إليه والجواب ممن يعتقد تفضيل الأنبياء أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل أن يكون الأمر كذلك في علم الله تعالى. ألا ترى إبليس لعنه الله قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخالدا أولا يكونا ملكين؟ وهو في ذلك كاذب مبطل، فلا دليل فيه، إذ ليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لا بليس على ذلك ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى عنه فدلاهما بغرور فلعل تفضيله الملكية على النبوة من جملة غروره، والله أعلم.

(2/94)


لم يزل مستهجنا في الطباع مستقبحا في العقول. فإن قلت: ما للواو المضمومة في «وروى» لم تقلب همزة كما قلت في أو يصل؟ قلت: لأن الثانية مدة كألف وارى. وقد جاء في قراءة عبد الله أورى، بالقلب إلا أن تكونا ملكين إلا كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا. وقرئ: ملكين، بكسر اللام، كقوله وملك لا يبلى. من الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ:
من سوأتهما، بالتوحيد. وسواتهما، بالواو المشددة وقاسمهما وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين. فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك «1» تقول: قاسمت فلانا حالفته، وتقاسما تحالفا. ومنه قوله تعالى تقاسموا بالله لنبيتنه. قلت: كأنه قال لهما: أقسم لكما إنى لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها «2» . أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم فدلاهما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغرور بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة:
وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضى الله عنه: أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له «3» فلما ذاقا الشجرة وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل:
الشجرة هي السنبلة. وقيل: شجرة الكرم بدت لهما سوآتهما أى تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضى الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى منى «4» . وعن سعيد بن جبير: كان لباسهما من جنس الأظفار.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك ... الخ» قال أحمد: ويكون في الكلام حينئذ لف، لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان له بلفظ المتكلم، ولكن بالخطاب، فجعل القسم من الجانبين كلاما واحدا مضافا لا بليس.
(2) . عاد كلامه. قال: «أو أقسم لهما على النصيحة وأقسما له على قبولها» قال أحمد، وهذا التأويل يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه. وأما حيث جعل المقسم عليه هو النصيحة لا غير، فيبعد التأويل المذكور، إلا أن يحمل الأمر على أنه سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة، كما قيل في قوله تعالى وواعدنا موسى أنه سمى التزام موسى للوفاء والحضور للميعاد، ميعادا، فأسند التعبير بالمفاعلة، والله أعلم.
(3) . أخرجه ابن سعد من رواية نافع قال «كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه- وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه. فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد. فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: - فذكره. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه.
(4) . أخرجه أبو يعلى من رواية كامل أبى العلاء عن أبى صالح- رواه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
قالت عائشة «ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلا متقنعا مرخى الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه منى- تعنى الفرج» إسناده ضعيف. وروى الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة من رواية عبد الله بن بزيد عن مولى عائشة قالت «ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط» وروى الدارقطني في غرائب مالك عن الزهري ورواه الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة مثله- وزاد «ولا نظر إلى فرجي قط» وفي إسناده زيد بن الحسن عن مالك. وهو ضعيف، وقال لا يصح هذا عن مالك ولا عن الزهري. وروى الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة نحوه. وفي إسناده بركة بن محمد الحلبي، وهو متروك.

(2/95)


قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25)

وعن وهب: كان لباسهما نورا يحول بينهما وبين النظر. ويقال: طفق بفعل كذا، بمعنى جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السمال: وطفقا بالفتح يخصفان ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها، كما يخصف النعل، بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. وقرأ الحسن:
يخصفان، بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري: يخصفان، من أخصف، وهو منقول من خصف أى يخصفان أنفسهما وقرئ: يخصفان، من خصف بالتشديد من ورق الجنة قيل: كان ورق التين ألم أنهكما عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروى: أنه قال لآدم:
ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.

[سورة الأعراف (7) : آية 23]
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)
وسميا ذنبهما وإن كان صغيرا مغفورا ظلما لأنفسهما «1» وقالا لنكونن من الخاسرين على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 24 الى 25]
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25)
__________
(1) . قال محمود: «سميا ذنبهما ظلما وإن كان صغيرا مغفورا ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا اعتزال خفى، لأنهم يزعمون أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها. فهذا معنى قول الزمخشري: وإن كان صغيرا مغفورا. وإنما وسمت هذا الاعتزال بالخفاء، لأن هذا الكلام يستقيم وروده عن أهل السنة، لكنهم يعنون بكونه مغفورا: أن الله تعالى تفضل بغفرانه، ولو شاء لآخذ به وإن كان الأنبياء معصومين من الكبائر، لا كما بزعمه المعتزلة من وجوب مغفرته، والله الموفق.

(2/96)


يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (26)

اهبطوا الخطاب لآدم وحواء وإبليس. وبعضكم لبعض عدو في موضع الحال، أى متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه مستقر استقرار، أو موضع استقرار ومتاع إلى حين وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابت البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة، فجعلت حواء تدور حولهم، فقال لها: خلى ملائكة ربى فإنما أصابنى الذي أصابنى فيك، فلما توفى غسلته الملائكة بماء وسدر وترا، وحنطته وكفنته في وتر من الثياب، وحفروا له ولحدوا، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند، وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده.

[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (26)
جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثم وكتب. ومنه وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج والريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أى أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يوارى سوءاتكم، ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح، كما قال لتركبوها وزينة. ولكم فيها جمال وقرأ عثمان رضى الله عنه. ورياشا، جمع ريش، كشعب وشعاب ولباس التقوى ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه على الابتداء وخبره إما الجملة التي هي ذلك خير كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وأما المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدإ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة، لأن مواراة السوأة من التقوى، تفضيلا له على لباس الزينة. وقيل: لباس التقوى خبر مبتدإ محذوف، أى وهو لباس التقوى، ثم قيل: ذلك خير. وفي قراءة عبد الله وأبى: ولباس التقوى خير. وقيل:
المراد بلباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر «1» وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرئ: ولباس التقوى، بالنصب عطفا على لباسا وريشا ذلك من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده. يعنى إنزال اللباس لعلهم يذكرون فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
__________
(1) . قوله «الجواشن والمغافر» الجواشن: هي ما ينسج من الدروع على قدر الصدر. والمغافر: ما ينسج منها على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. (ع)

(2/97)


يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27) وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)

[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27)
لا يفتننكم الشيطان لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها ينزع عنهما لباسهما حال، أى أخرجهما نازعا لباسهما، بأنه كان سببا في أن نزع عنهما إنه يراكم هو تعليل للنهى وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدو المداجى «1» يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار. إن عدوا يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله وقبيله وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بين أن الجن لا يرون»
ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعى رؤيتهم زور ومخرقة إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون أى خلينا بينهم وبينهم «3» لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت: علام عطف وقبيله؟ قلت: على الضمير في يراكم المؤكد بهو، والضمير في أنه للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي وقبيله بالنصب وفيه وجهان: أن يعطفه على اسم إن، وأن تكون الواو بمعنى مع، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في أنه، كان راجعا إلى إبليس.

[سورة الأعراف (7) : آية 28]
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)
__________
(1) . قوله «العدو المداجى» في الصحاح «المداجاة» المداراة. يقال: داجيته، إذا، داريته، كأنك ساترته العداوة. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «وفيه دليل بين أنهم لا يرون ... الخ» قال أحمد: أين يذهب به هما ورد في الحديث الصحيح، من اعتراض إبليس رأسهم ومقدمهم للنبي صلى الله عليه وسلم يروم أن يشغله عن صلاته، حتى أمكنه الله منه فأخذه عليه الصلاة والسلام فدغنه وأراد أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد يلعب به الصبيان، حتى ذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. وإذا جاز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام كان جائزا لأولياء الله والمتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة، لكن الزمخشري يصده عن ذلك جحده لكرامة الأولياء، لأنه عقيدة إخوانه، إذ الكرامة إنما يؤتاها الولي الصادق، فكيف ينالها من يشك في إسلامه، فإنهم لفي عذر من جحدها والتكذيب بها.
رزقنا الله الايمان بالكرامات إن لم نكن لها أهلا، والله الموفق.
(3) . قوله «أى خلينا بينهم وبينهم» فسر الجعل بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة. وعند أهل السنة يخلقة كالخير. (ع)

(2/98)


قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)

الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أى: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم وبأن الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها. وكلاهما باطل من العذر «1» لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني افتراء على الله وإلحاد في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه. وعن الحسن: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة «2» يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء
لأن فعل القبيح مستحيل عليه «3» لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله أتقولون على الله ما لا تعلمون إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.
وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراة.

[سورة الأعراف (7) : آية 29]
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
بالقسط بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل: بالتوحيد وأقيموا وجوهكم وقل: أقيموا وجوهكم أى اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها عند كل مسجد في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة وادعوه واعبدوه مخلصين له الدين أى الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصا كما بدأكم تعودون كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، احتج عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى:
أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.

[سورة الأعراف (7) : آية 30]
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)
__________
(1) . قال محمود: «وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من الاعتزال الخفي، وغرضه أن يمهد قاعدة التحسين والتقبيح، ومراعاة الصلاح والأصلح، واستحالة مخالفة ذلك على الله تعالى «ولا يتم من ذلك غرض، لأن المنكر عليهم: دعواهم أن الله تعالى أمرهم بالفحشاء، وهم كاذبون في هذه الدعوى، ولا يلزم من سلب الأمر الارادة، لأن الله تعالى يأمر بما لا يريد، ويريد ما لا يأمر به.
(2) . قوله «وهم قدرية مجبرة» أى كالمجبرة يعنى أهل السنة، لقولهم: إن الله يريد الشر كالخير، والارادة هي الأمر عند المعتزلة، لكنها غيره عند أهل السنة، فالفحشاء بإرادته تعالى، لكنه لا يأمر بها. وتحقيقه في التوحيد.
(3) . قوله «فعل القبيح مستحيل عليه» يريد أن الله لا يريد فعل القبيح وهي عقيدة المعتزلة. أما عند أهل السنة فالله يريد القبيح والحسن «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (ع)

(2/99)


يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)

فريقا هدى وهم الذين أسلموا، أى وفقهم للإيمان وفريقا حق عليهم الضلالة أى كلمة الضلالة، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله وفريقا بفعل مضمر يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقا حق عليهم الضلالة إنهم إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أى تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله.

[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)
خذوا زينتكم أى ريشكم ولباس زينتكم عند كل مسجد كلما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا:
لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة «1» ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني «2» حاذق، فقال لعلى بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء «3» وأعط
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عطاء وطاوس عنه بهذا، لكن قال «خلتان» . وروى النسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم تخالطوا إسرافا ولا مخيلة» .
(2) . لم أجد لها- أى حكاية الرشيد- إسنادا.
(3) . لم أجده، وروى العقيلي في الضعفاء من رواية إبراهيم بن جريج الرهاوي عن زيد ابن أبى أنيسة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة- رفعه «المعدة حوض البدن. والعروق إليها واردة: فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم» وقال: حديث باطل لا أصل له. وقال الدارقطني لا يصح ولا يعرف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لسند إبراهيم بن جريج غير هذا وكان طبيبا، فجعل له إسنادا.

(2/100)


قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32) قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33) ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)

كل بدن ما عودته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32)
زينة الله من الثياب وكل ما يتجمل به والطيبات من الرزق المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في من: إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل: كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد. فإن قلت: هلا قيل: هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت: لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وقرئ: خالصة بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر.

[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)
الفواحش ما تفاحش قبحه أى تزايد. وقيل هي ما يتعلق بالفروج والإثم عام لكل ذنب. وقيل: شرب الخمر والبغي الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. ما لم ينزل به سلطانا فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره «1» وأن تقولوا على الله وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.

[سورة الأعراف (7) : آية 34]
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)
ولكل أمة أجل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ: فإذا جاء آجالهم. وقال ساعة لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه.
__________
(1) . قال محمود: «في هذا تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره» قال أحمد: وإنما يعنى التهكم منه لأن الكلام جرى مجرى ماله سلطان، إلا أنه لم ينزل، لأنه إنما نفى تنزيل السلطان به ولم ينف أن يكون له سلطان، وكان أصل الكلام: وأن تشركوا بالله ما لا سلطان به فينزل فيكون على طريقة:
على لا حب لا يهتدى بمناره

(2/101)


يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36)
إما يأتينكم هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدة لمعنى الشرط. ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة. فإن قلت: فما جزاء هذا الشرط؟ قلت: الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ: تأتينكم، بالتاء.

[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37)
فمن أظلم فمن أشنع ظلما ممن تقول على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أى مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حتى إذا جاءتهم رسلنا حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أى إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى» التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، وهي إذا جاءتهم رسلنا قالوا. ويتوفونهم حال من الرسل، أى متوفيهم. والرسل ملك الموت وأعوانه. «وما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل، لأنها موصولة بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون ضلوا عنا غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافا منهم بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)
قال ادخلوا أى يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم

(2/102)


إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41)

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته وهم كفار العرب في أمم في موضع الحال، أى كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أى ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم وتقدم زمانهم زمانكم لعنت أختها التي ضلت بالاقتداء بما حتى إذا اداركوا فيها أى تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار قالت أخراهم منزلة وهي الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهي القادة والرؤوس. ومعنى لأولاهم: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله لا معهم عذابا ضعفا مضاعفا لكل ضعف لأن كلا من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين ولكن لا تعلمون قرئ بالياء والتاء فما كان لكم علينا من فضل عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة لكل ضعف أى فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، وأنا متساوون في استحقاق الضعف فذوقوا العذاب من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41)
لا تفتح لهم أبواب السماء لا يصعد لهم عمل صالح إليه يصعد الكلم الطيب، كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين. وقيل: إن الجنة في السماء، فالمعنى لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين.
وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، ففتحنا أبواب السماء. وقرئ: لا تفتح، بالتشديد.
ولا يفتح بالياء. ولا تفتح، بالتاء والبناء للفاعل ونصب الأبواب، على أن الفعل للآيات. وبالياء على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ ابن عباس: الجمل، بوزن القمل. وسعيد بن جبير: الجمل، بوزن النغر. وقرئ: الجمل «بوزن القفل. والجمل، بوزن النصب. والجمل. بوزن الحبل. ومعناها القلس الغليظ «لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، يعنى أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه، إلا أن قراءة العامة أوقع لأن سم الابرة مثل في ضيق المسلك. يقال: أضيق من خرت الابرة. وقالوا للدليل الماهر: خريت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر.
والجمل: مثل في عظم الجرم. قال:

(2/103)


والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (42) ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (43)

جسم الجمال وأحلام العصافير «1»
إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع، في ثقب الإبرة. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل، فقال: زوج الناقة، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. وقرئ في سم بالحركات الثلاث: وقرأ عبد الله: في سم المخيط، والخياط، والمخيط كالحزام والمحزم: ما يخاط به وهو الإبرة وكذلك ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين ليؤذن أن الاجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كل من أجرم عوقب، وقد كرره فقال وكذلك نجزي الظالمين لأن كل مجرم ظالم لنفسه مهاد فراش غواش أغطية. وقرئ: غواش. بالرفع، كقوله تعالى: «وله الجوار المنشآت» في قراءة عبد الله.

[سورة الأعراف (7) : آية 42]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (42)
لا نكلف نفسا إلا وسعها جملة معترضة بين المبتدإ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الأعمش: لا تكلف نفس.

[سورة الأعراف (7) : آية 43]
ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (43)
__________
(1) .
حار بن عمرو ألا أحلام تزجركم ... عنا وأنتم من الجوف الجماخير
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير
كأنهم قصب جوف أسافله ... مثقب نفخت فيه الأعاصير
لحسان. و «حار» مرخم حارث، مبنى على الضم لأنه منادى حذف قبله ياء النداء. و «الأحلام» جمع حلم بالضم:
العقول. و «الجوف» بالضم: جمع أجوف، أى واسع الجوف. و «الجماخير» جمع جمخور، أى عظيم الجسم.
يقول: كيف لا يكون لكم أحلام وأنتم عظام الأجرام، ثم بين ذلك بقوله: لا بأس ولا ضرر يعترى هؤلاء من جهة الطول والغلظ، يعنى: لا نقص بهم من ذلك. وفيه تهكم بهم. أو لا يستنكفون من ذلك فهم أحقاء به، أو لا بأس يعتريك بسبب القوم من أجل طولهم وغلظهم فأجسامهم كأجسام الجمال، وعقولهم كعقول العصافير إن كان لها عقول، يعنى أنه لا عقل لهم. ويروى «جسم البغال» وشبههم في فراغ أجوافهم من العقل والشجاعة بالقصب:
إذا انشقت أجواف أسافله فأعاليه أكثر. وشبه منافذ حواسهم بثقوبه الخالية عن الحسن. و «الأعاصير» جمع إعصار، وهي ريح تهب مستديرة ذاهبة نحو السماء. واستعار النفخ لا دخالها الهواء فيه بقوة كالنفخ. وفي القافية الاقواء، لاختلاف حركة الروى بالكسر والضم.

(2/104)


من كان في قلبه غل على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التواد والتعاطف. وعن على رضى الله عنه: إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم «1» هدانا لهذا أى وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح وما كنا لنهتدي اللام لتوكيد النفي «2» ويعنون: وما كان يستقيم أن تكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام: ما كنا لنهتدي بغير واو، على أنها جملة موضحة للأولى لقد جاءت رسل ربنا بالحق فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا، كما نرى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة أن تلكم الجنة أن مخففة من الثقيلة تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة أورثتموها والضمير ضمير الشأن والحديث أو تكون بمعنى أى، لأن المناداة من القول، كأنه قيل: وقيل لهم أى تلكم الجنة أورثتموها «3»
__________
(1) . أخرجه ابن سعد من رواية جعفر بن محمد عن أبيه. والطبري من رواية معمر عن قتادة عن على وكلاما منقطع. وفي ابن أبى شيبة من رواية ربحى عن على. وهو متصل.
(2) . قال محمود: اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم ... الخ» قال أحمد: وهذه تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدى من خلق الله له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا من هدى الله، ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى، فهو إذا مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله العبد خلق الهدى له- وفي زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى، ولا يتوقف ذلك على خلقه- تعالى الله عما يقولون- ولما فطن الزمخشري لذلك، جرى على عادته في تحريف الهدى من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، فأنصف من نفسك واعرض قول القائل: المهتدى من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله- أى يخلق له الهدى، على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وانظر تباين هذين القولين، أعنى قول المعتزلي في الدنيا، وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق. واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى به، وما أراك- والخطاب لكل عاقل تعدل بهذا القول المحكي عن أوليا الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواء وتعصبه في دار الغرور والزوال، نسأل الله حسن المآب والمآل.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون المراد بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة» قال أحمد: يعنى بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله وبرحمته. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فقالوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل السنة. قيل لهم: فما معنى قوله تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون؟ قالوا: الله تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل، فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب العباد وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل، الدال على أن الله تعالى يستحيل أن يجب عليه شيء، فانظر أيها المنصف، هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة؟ وحاكم نفسك إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر، فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على الله تعالى حقا بأعمالهم التي لا ينتفع بوجودها ولا يتضرر بتركها- تعالى وتقدس عن ذلك- ويطلقون القول بلسان الجرأة أن الجنة ونعيمها أقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى لا تفضل له عليهم فيه. بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه. وانظر أى الفريقين المذكورين أحق بلقب المبطلة، والسلام.

(2/105)


ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون (45) وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون (46)

بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل، كما تقول المبطلة «1»

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45]
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون (45)
«أن» في أن قد وجدنا يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت آنفا، وكذلك أن لعنة الله على الظالمين وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وزيادة في غمهم، لتكون حكايته لطفا لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم:
لعنة الله على الظالمين. وهو ملك يأمره الله فينادى بينهم نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. وقرئ:
أن لعنة الله، بالتشديد والنصب. وقرأ الأعمش: إن لعنة الله، بكسر إن على إرادة القول، أو على إجراء فأذن مجرى قال. فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ما وعدنا «2» ربنا؟
قلت: حذف ذلك تخفيفا لدلالة وعدنا عليه. ولقائل أن يقول: أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة، لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك.

[سورة الأعراف (7) : آية 46]
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون (46)
وبينهما حجاب يعنى بين الجنة والنار. أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى فضرب بينهم بسور. وعلى الأعراف وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب
__________
(1) . قوله «كما تقول المبطلة» يريد أهل السنة القائلين: دخولها بالفضل، واقتسامها بالأعمال، كما في الحديث. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه: قال: فان قلت هلا قيل ما وعدكم ربكم كما قيل ما وعدنا ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن يقول:
ولو ذكر المفعول حسب ذكره في الأول فقيل: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، لكان الفعل مطلقا أيضا باعتبار الموعود به، لأنه لم يذكر، فكان يتناول كل موجود من البعث والحساب والعقاب، الذي هو أنواع من جملتها التحسر على نعيم أهل الجنة، فليس ذلك خاصا بحذف المفعول الواقع على الموعودين، فالوجه أن حذفه إيجاز وتخفيف واستغناء عنه بالأول. والله أعلم.

(2/106)


وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (47) ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون (48) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49)

بين الجنة والنار وهي أعاليه، جمع عرف استعير من عرف الفرس وعرف الديك رجال من المسلمين من آخرهم دخولا في الجنة لقصور أعمالهم، كأنهم المرجون لأمر الله، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة يعرفون كلا من زمر السعداء والأشقياء بسيماهم بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها، يلهمهم الله ذلك: أو تعرفهم الملائكة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 47 الى 49]
وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (47) ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون (48) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49)
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادرا رجالا من رؤوس الكفرة يقولون لهم أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة ادخلوا الجنة يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون.
وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسنها، وأن أحدا لا بسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملا. وقوله وإذا صرفت أبصارهم فيه أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش: وإذا قلبت أبصارهم وقرئ: أدخلوا الجنة، على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة: دخلوا الجنة. فإن قلت: كيف لاءم هاتين القراءتين قوله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون؟ قلت: تأويله: أدخلوا، أو دخلوا الجنة مقولا لهم: لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت: ما محل قوله: لم يدخلوها وهم يطمعون؟ قلت: لا محل له لأنه استئناف، كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل:
لم يدخلوها وهم يطمعون، يعنى حالهم أن دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم

(2/107)


ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50) الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون (51)

يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لرجال ما أغنى عنكم جمعكم المال أو كثرتكم واجتماعكم وما كنتم تستكبرون واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ: تستكثرون، من الكثرة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50) الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون (51)
أفيضوا علينا فيه دليل على أن الجنة فوق النار أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد: أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة. كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا «1»
وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن.
حرمهما على الكافرين منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه ويحظر، كقوله:
حرام على عينى أن تطعم الكرى «2»
__________
(1) .
ما حططت الرحل عنها واردا ... علفتها تبنا وماء باردا
يقول: لما حططت الرجل عن الناقة حال كوني واردا للماء، علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، على حذف العامل في ماء. ويحتمل أن المعنى: ناولتها تبنا وماء على التجوز في العلف، وذلك لأن الماء لا يكون معلوفا لها. ويجوز أن يكون مفعولا معه، أى علفتها تبنا مصاحبا للماء، فلا يلزم أن يكون الماء معلوفا، ومنعه لأن الماء لا يصاحب التبن في العلف، فيه نظر، لجواز أنه وضع لها التبن ووضع لها ماء معه، لتتناول ما شاءت. ورواية الفراء هكذا:
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها
وشتوت بموضع كذا: أقمت به زمن الشتاء، أى حتى كانت زمن الشتاء محالة: أى كثيرة الدموع عيناها، همالة:
نصب على الحال، وعيناها: فاعل به. ويروى: حتى غدت، وحتى بدت.
(2) .
حرام على عيني أن تطعم الكرى ... وأن ترقئا حتى ألاقيك يا هند
«الكرى» النعاس، وهو أول النوم. يقال: كرى يكرى كرى، من باب تعب إذا نعس. وشبه بالمطعوم على طريق المكنية. و «أن تطعما» أى تذوقا تخييل. ورقأ الدمع والدم- بالهمز-: سكن. وإسناده للعين مجاز عقلى، لأنه للدمع. ويحتمل أنه استعار ترقئا لتغمضا، لأن فيه سكون الجفون. يقول: ممتنع على عينى النعاس والغموض، أو عدم البكاء امتناعا مؤكدا، كما يمتنع المحرم على المكلف، ففيه استعارة تصريحية حتى ألاقيك يا هند.
وأنال من نوالك. وفي النداء معنى التفجع.

(2/108)


ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)

فاليوم ننساهم نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به كما نسوا لقاء يومهم هذا كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53)
فصلناه على علم عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيما قيما غير ذى عوج. وقرأ ابن محيصن: فضلناه، بالضاد المعجمة. بمعنى فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهل للتفضيل عليها. وهدى ورحمة حال من منصوب فضلناه، كما أن على علم حال من مرفوعه إلا تأويله إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد قد جاءت رسل ربنا بالحق أى تبين وصح أنهم جاءوا بالحق نرد جملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء، أو هل نرد. ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم، كما تقول ابتداء: هل يضرب زيد؟
ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه. فلا يقدر: هل يشفع لنا شافع أو نرد. وقرأ ابن أبى إسحاق. أو نرد، بالنصب عطفا على فيشفعوا لنا. أو تكون «أو» بمعنى «حتى أن» أى يشفعوا لنا حتى نرد فنعمل، وقرأ الحسن بنصب نرد ورفع فنعمل بمعنى: فنحن نعمل.

[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا وقرئ يغشى بالتشديد، أى يلحق الليل النهار، والنهار بالليل يحتملهما جميعا. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس: يغشى الليل النهار، بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار، أى يدرك النهار الليل ويطلبه حثيثا، حسن الملاءمة لقراءة حميد بأمره بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق بمسخرات أى خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمرا على التشبيه، كأنهن مأمورات بذلك. وقرئ: والشمس والقمر

(2/109)


ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56) وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (58)

والنجوم مسخرات، بالرفع. ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال ألا له الخلق والأمر أى هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 58]
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56) وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (58)
تضرعا وخفية نصب على الحال، أى ذوى تضرع وحفية. وكذلك خوفا وطمعا.
والتضرع تفعل من الضراعة «1» وهو الذل، أى تذللا وتملقا. وقرئ. وخفية «2» وعن الحسن رضى الله عنه: إن الله يعلم القلب التقى والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة وعنده الزور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول
__________
(1) . قال محمود: «التضرع تفعل من الضراعة وهي الذل ... الخ» قال أحمد: وحسبك في تعين الاسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية. فالاخلال به كالاخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى «فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستد المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد. وربما حصلت للعوام حينئذ رقة، لا تحصل مع خفض الصوت ورعاية سمت الوقار وسلوك السنة الثابتة بالآثار، وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل لكانت عند اتباع السنة في الدعاء وفي خفض الصوت به أوفر وأو في وأزكى، فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من الخلق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
(2) . قوله «وقرئ وخفية» لعل هذه بالكسر. (ع)

(2/110)


ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقد أثنى على زكريا فقال إذ نادى ربه نداء خفيا وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. إنه لا يحب المعتدين أى المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره. وعن ابن جريح، هو رفع الصوت بالدعاء. وعنه: الصياح في الدعاء مكروه وبدعة. وقيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وحسب المرء أن يقول: اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل «1» ثم قرأ قوله تعالى إنه لا يحب المعتدين. إن رحمت الله قريب من المحسنين كقوله وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وإنما ذكر قريب على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أى شيء قريب. أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما شبه ذاك به، فقيل قتلاء وأسراء، أو على أنه بزنة المصدر، الذي هو النقيض والضغيب «2» . أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقى. قرئ: نشرا وهو مصدر نشر. وانتصابه إما لأن أرسل ونشر متقاربان، فكأنه قيل: نشرها نشرا: وإما على الحال بمعنى منتشرات. ونشرا جمع نشور.
ونشرا تخفيف نشر، كرسل ورسل. وقرأ مسروق: نشرا، بمعنى منشورات، فعل بمعنى مفعول، كنقض وحسب. ومنه قولهم «ضم نشره» وبشرا جمع بشير. وبشرا بتخفيفه. وبشرا- بفتح الباء- مصدر من بشره بمعنى بشره، أى باشرات، وبشرى بين يدي رحمته أمام رحمته، وهي الغيث الذي هو من أتم النعم وأجلها وأحسنها أثرا أقلت حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلا سحابا ثقالا سحائب ثقالا بالماء جمع سحابة سقناه الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلا لبلد ميت لأجل بلد ليس فيه حيا ولسقيه. وقرئ: ميت فأنزلنا به بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق. وكذلك فأخرجنا به ... كذلك مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نخرج الموتى لعلكم تذكرون
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى من رواية شعبة عن زياد بن مهران عن قيس بن عنان عن مولى لسعد بن سعد سمع ابنا له يقول «اللهم إنى أسألك الجنة وغرفها وكذا وكذا. وأعوذ بك من النار وأغلالها وكذا وكذا. فقال: لقد سألت الله خيرا وتعوذت به من شر كثير. وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء وبحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك الجنة- الخبر- وقال في آخره: لا أدرى قوله وبحسبك إلى آخره من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه أبو داود الطيالسي والبيهقي في الدعوات من طريقه. عن سعد بسنده، إلا أنه قال «وبحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم وفي الباب عن عبد الله بن معقل أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم.
(2) . قوله «هو النقيض والضغيب» النقيض: هو صوت العقاب وصوت المحمل، والضغيب: صوت الأرنب. (ع)

(2/111)


لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59)

فيؤديكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين. إذا كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه والبلد الطيب الأرض العذاة الكريمة التربة والذي خبث الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به بإذن ربه بتيسيره وهو في موضع الحال، كأنه قيل: يخرج نباته حسنا وافيا لأنه واقع في مقابلة نكدا والنكد الذي لا خير فيه. وقرئ: يخرج نباته، أى يخرجه البلد وينبته. وقوله والذي خبث صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى البلد مقامه، إلا أنه كان مجرورا بارزا، فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدر: ونبات الذي خبث.
وقرئ: نكدا، بفتح الكاف على المصدر، أى ذا نكد. ونكدا، بإسكانها للتخفيف، كقوله: نزه عن الريب، بمعنى نزه. وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. وعن مجاهد: آدم وذريته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد كذلك مثل ذلك التصريف نصرف الآيات نرددها ونكررها لقوم يشكرون نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها. وقرئ:
يصرف، بالياء أى يصرفها الله.

[سورة الأعراف (7) : آية 59]
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59)
لقد أرسلنا نوحا جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلا مع «قد» وقل عنهم، نحو قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا........ «1» ....
__________
(1) .
فقالت سباك الله إنك فاضحى ... ألست ترى السمار والنار أحوالى
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالى
فأصبحت معشوقا وأصبح يعلها ... عليه قتام كاسف الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمره ليس بقتال
أيقتلنى والمشرفي مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
لامرئ القيس. يقول: ضجرت محبوبتى سلمي حين ترقبتها ليلا مع أن الرقباء حولها. والسمار: جمع سامر، بمعنى المتحدث ليلا. وأحوال: جمع حول، بمعنى جانب، فيفيد كثرة الناس وانتشارهم في جوانبها. والمنقول أنه على صورة الجمع وليس جمعا، وكذا تئنيته، لأنه حول الشيء وحوليه وأحواله وأحواليه وحواله وحواليه، كلها بمعنى جانبه المحيط به، ويمكن أن يراد بالمفرد: مطلق الجانب مجازا، فيثنى ويجمع حقيقة، والكثير في الماضي المجاب به القسم قرنه بقد، بل قيل: إن لم توجد فيه قدرت قيل، لأن الجواب مظنة للتوقع الذي هو معنى «قد» لسماع القسم أولا. و «إن» و «من» زائدتان للتوكيد، والحديث: بمعنى المتحدث ليطابق ما بعده. والصالي: المصطلى بالنار. وهاهنا حذف دل عليه المقام. أى فسمحت فنلت منها مرادى، فأعجبتها فأصبحت معشوقا وقد كنت عاشقا، وأصبح زوجها عليه قتام: وهو الغبار وسواد الوجه، كاسف الظن: منعكسه، فهو مجاز. وكاسف البال:
حزين القلب، أو سيئ الحال. والغطيط: ارتفاع صوت النفس عند الخنق والنعاس ونحو ذلك. والبكر: الفتى من الإبل. والخناق: حبل يخنق به كالحزام لما يتحزم به، والاسار لما يربط به الأسير. وقوله: ليس بقتال، أى كما يزعم أنه شجاع. والمشرفي: السيف، نسبة إلى مشارف جمع مشرف كجعفر، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، شبهه بالمضاجع لامتداده بجانبه وملازمته له، والمسنونة النبال: المحددة الأطراف. والزرق:
جمع زرقاء، الصافيات اللون. وشبهها بأنياب الأغوال في حدة الأطراف، واستبشاع كل عند النفوس. وهذا لا يستلزم وجود الغول ورؤية نابها، وإن زعمته العرب.

(2/112)


قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62)

قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لاتساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها، التي هي جوابها، فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم. قيل:
أرسل نوح عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجارا وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام. وقرئ: غيره، بالحركات الثلاث، فالرفع على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره. والجر على اللفظ والنصب على الاستثناء، بمعنى: ما لكم من إله إلا إياه، كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيد أو غير زيد. فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله اعبدوا الله؟ قلت: الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 60 الى 62]
قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62)
الملأ الأشراف والسادة. وقيل: الرجال ليس معهم نساء في ضلال في ذهاب عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية: رؤية القلب. فإن قلت: لم قال ليس بي ضلالة ولم يقل ضلال «1» كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفى الضلال
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قال ليس بى ضلالة ولم يقل ضلال ... الخ» ؟ قال أحمد: تعليله كون نفيها أبلغ من نفى الضلال بأنها أخص منه، غير مستقيم والله أعلم، فان نفى الأخص أعم من نفى الأعم، فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم لا يستلزم الأخص، بخلاف العكس. ألا تراك إذا قلت: هذا ليس بإنسان، لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيوانا. ولو قلت: هذا ليس بحيوان، لاستلزم أن لا يكون إنسانا، فنفى الأعم كما ترى أبلغ من نفى الأخص.
والتحقيق في الجواب أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال وأقل، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه. وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، لا من حيث كونه أخص، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.

(2/113)


عن نفسه، كأنه قال: ليس بى شيء من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر، فقلت: مالى تمرة فإن قلت: كيف وقع قوله ولكني رسول استدراكا للانتفاء عن الضلالة؟ قلت: كونه رسولا من الله مبلغا رسالاته ناصحا، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصح لذلك أن يكون استدراكا للانتفاء عن الضلالة. وقرئ: أبلغكم، بالتخفيف. فإن قلت: كيف موقع قوله أبلغكم «1» ؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفا بيانا لكونه رسول رب العالمين. والثاني: أن يكون صفة لرسول. فإن قلت: كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت: جاز ذلك لأن الرسول وقع خبرا عن ضمير المخاطب وكان معناه، كما قال:
أنا الذى سمتن أمى حيدره «2»
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف موقع قوله أبلغكم؟ قلت فيه وجهان ... الخ» قال أحمد: وقد أستدرك
ابن جنى قول أبى الطيب: ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبى
عدولا عن لفظ الغيبة لو كان إلى أدبه، وهذه الآية والرجز العلوي كفيلان بتحسين ما ارتكبه أبو الطيب.
(2) .
أنا الذي سمتن أمى حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة
أو فيهم بالصاع كيل السندره ... أضربكم ضربا يبين الفقرة
للإمام على رضى الله عنه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر، فقال مرحب:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
فأجابه على بذلك «وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها، لأن «حيدرة» من أسماء الأسد، فلما حضر أبو طالب سماه عليا. وسمى الأسد «حيدرة» لشدة انحداره على من يصول عليه. والليث: اسم جامد له، واشتقوا منه، لا ينه إذا عامله معاملة الليث. والغابة: بيته الذي يغيب فيه. والسندرة: اسم امرأة كانت تبيع البر وتوفى الكيل، أو مكيال كبير. وكان الظاهر أن يقول: الذي سمته أمه ليطابق الضمير مرجعه وهو الموصول في الغيبة. ولكن أتى بضمير التكلم ذهابا إلى المعنى. وحسنه تقدم ضمير المتكلم، أى أنا الشجاع الذي ظهرت على أمارة الشجاعة من صغرى، فسمتني أمى باسم الأسد، ولا أكذبها في ظنها، وأنا كليث غابات منظرته كريهة لعبوسى في وجه عدوى، ثم قال:
أوفى الأعداء، أى أعطيهم عطاء وافيا. وكيل السندرة: نصب به على المفعول المطلق، أو بمقدر: أى أكيل لهم مثل كيل تلك المرأة في الوفاء، أو أعطيهم بالصاع الصغير كيل المكيال الكبير. ويروى: أو فيهم بالسيف. وهذا من باب الاستعارة التمثيلية التهكمية، شبه هيئة إيصاله الطعان إلى الأعداء بكثرة في مقابلة مكروه يفرط منهم. بهيئة إيصال البر بالكيل في مقابلة ثمنه، وإن كان البر محبوبا والطعن مكروها، والتفت مفسرا ذلك بقوله أضربكم ضربا يبين، أى يفصل الفقرة: جمعها فقار، وفقرات. وهي عظام الظهر، وقد علمت خيبر، أى أهلها. وشاكي السلاح.
حاده وتلمه. يجوز أنه نعت مرحب. ويجوز أنه خبر بعد خبر. وبطل مجرب: خبر بعد خبر لا غير. واستعار الالتهاب لاشتداد الحروب على طريق التصريح.

(2/114)


أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (64)

رسالات ربي ما أوحى إلى في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة وأنصح لكم يقال نصحته ونصحت له. وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصودا بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام وأعلم من الله ما لا تعلمون أى من صفات الله وأحواله، يعنى قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين. وقيل: لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه، أو أراد: وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إلى بها.

[سورة الأعراف (7) : آية 63]
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63)
أوعجبتم الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل:
أكذبتم وعجبتم أن جاءكم من أن جاءكم ذكر موعظة من ربكم على رجل منكم على لسان رجل منكم، كقوله ما وعدتنا على رسلك وذلك أنهم يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، يعنون إرسال البشر، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لينذركم ولتتقوا ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.

[سورة الأعراف (7) : آية 64]
فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (64)
والذين معه قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: تسعة، بنوه سام وحام ويافث، وستة ممن آمن به. فإن قلت: في الفلك بم يتعلق؟ قلت: هو متعلق بمعه، كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أى أنجيناهم في السفينة من الطوفان عمين عمى القلوب غير مستبصرين. وقرئ: عامين. والفرق بين العمى والعامى، أن العمى يدل على عمى ثابت. والعامي على عمى حادث. ونحوه قوله وضائق به صدرك.

(2/115)


وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66) قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (67) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (68) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (69)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 69]
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (67) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (68) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (69)
أخاهم واحدا منهم من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم. وإنما جعل واحدا منهم، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأخاهم: عطف على نوحا. وهودا عطف بيان له. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله قال يا قوم ولم يقل «فقال» كما في قصة نوح «1» ؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك قال الملأ. فإن قلت: لم وصف الملأ الذين كفروا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، ويجوز أن يكون وصفا واردا للذم لا غير في سفاهة في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز: أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام- من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت لم حذف العاطف من قوله تعالى في قصة هود هذه قال يا قوم ولم يقل «فقال» ؟ قلت لأنه أخرج الكلام جوابا عن سؤال سائل، كأنه قيل: فما قال هود حينئذ؟ قيل: يا قوم، وكذلك قال الملأ» قال أحمد: وحذف العاطف من المقاولة. ألا ترى قوله في سورة الشراء حكاية عن تقاول موسى عليه السلام وفرعون، كيف أسقط ذكر العاطف منه على كثرة الأقوال المعددة فيها. والسر في ذلك- والله أعلم- أن العاطف ينتظم الجمل حتى يصيرها كالجملة الواحدة «فاجتنب لارادة استقلال كل واحدة منها في معناها، والله أعلم.

(2/116)


قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (70) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين (71) فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (72)

ما يكون منهم ناصح أمين أى عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أتهم. أو أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه خلفاء من بعد قوم نوح أى خلفتموه في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم في الخلق بصطة فيما خلق من أجرامكم ذهابا في الطول والبدانة. قيل: كان أقصرهم ستين ذراعا، وأطولهم مائة ذراع فاذكروا آلاء الله في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه. وواحد الآلاء «إلى» نحو إنى وإناه، وضلع وأضلاع، وعنب وأعناب. فإن قلت:
«إذ» في قوله إذ جعلكم خلفاء ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعول به وليس بظرف، أى اذكروا وقت استخلافكم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 70 الى 72]
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (70) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين (71) فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (72)
أجئتنا لنعبد الله وحده أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء.. في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حبا لما نشأوا عليه، وألفا لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله أجئتنا قلت: فيه أوجه: أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث «1» فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك، وأن لا يريدوا حقيقة المجيء، ولكن التعرض بذلك والقصد، كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك؟
فأتنا بما تعدنا استعجال منهم للعذاب قد وقع عليكم أى حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع. ونحوه قولك لمن طلب إليك
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها في بدء الوحي «وكان يخلو بغار حراه يتحنث فيه حتى فجأه الوحى وهو بغار حراء.

(2/117)


بعض المطالب. قد كان ذلك. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل، فجاء يبكى. فقال له يا بنى مالك؟ قال: لسعنى طوير كأنه ملتف في بردي حبرة «1» ، فضمه إلى صدره وقال له: يا بنى، قد قلت الشعر. والرجس: العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب في أسماء سميتموها في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة. ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده. وهذا كقوله تعالى: ما تدعون من دونه من شيء. ومعنى سميتموها سميتم بها من: سميته زيدا. وقطع دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.
وقصتهم أن «عادا» قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها.
صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هودا نبيا، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم قيل بن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه. فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان.
- قينتان كانتا لمعاوية- فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالى وأصهارى وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحى أن يكلمهم خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد امسوا ما يبينون الكلاما «2»
__________
(1) . قوله «في بردي حبرة» حبرة- كعنبة-: برد بمانى. اه صحاح. (ع) [.....]
(2) .
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... لها الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش يأتيهم جهارا ... فلا يخشى لعادى سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما
لمعاوية بن بكر. وروى أن عادا بعثوا من قومهم: قيل بن عنز ونعيم بن هزالة، ومرثد بن سعد بن عفير، وجلهمة بن الحلس خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد، كل منهم مع نفر من رهطه ليدعوا الله بالسقيا عند الكعبة، فنزلوا عند معاوية بن بكر فأكرمهم وبعث إليهم الجرادتين لتغنيا لهم- وهما قينتان مغنيتان أول من غنى في نساء العرب- فنسوا قومهم من كثرة اللهو والطرب. فقال معاوية: هلك أخوالى، ولو قلت لهم شيئا ظنوا بى بخلا. فأنشأ هذا، وأمر الجرادتين بغنائه لهم. والهينمة: صوت خفى لا يفهم. والمراد بها دعاء الله بالسقيا. ويسقينا غماما: أى ماء غمام. ما يبينون الكلام، لضعفهم من العطش. فليس نرجو» أى ليس نحن نرجو لها أى لعاد. ويروى «به» أى بسبب العطش. وحق الرواية «بها» أى في أرض عاد. الشيخ ولا الغلام. والعيمة، شدة الشهوة إلى اللبن.
والمراد بها مطلق الفاقة. والعيامى: جمع عيم بالتشديد، أى رثيئة الحال، وأصله عيائم، فقلب إلى عيامى، كما روى أيامى، وهو جمع أيم، وأصله أيائم، أى فاقدات الأزواج. فالمعنى على التشبيه. ويجوز أن المراد: نساءكم التي تركتموهن كأنهن بلا أزواج هناك. وتكرير النساء للاستعطاف عليهن. والعادي: نسبة لعاد، وكانوا الغلاظ الشداد. والوحش: اسم جنس جمعى، واحده وحشى، كانس وإنسى، وترك وتركى. فيذكر باعتبار لفظه، ويؤنث باعتبار جمعيته. وروى «بهما» ونهاركم: نصب على الظرف، و «من وقد قوم» تمييز مقترن بمن، والسلام عطف على التحية، وفيه تورية لأنه يشير إلى انقطاع الكلام، كما أن المجتمعين يأتيان به عند المفارقة. فلما سمع القوم ذلك انطلقوا إلى للكعبة، فلحقهم مرثد بن سعد وكان مؤمنا فأخروه، فدعا الله تعالى لنفسه لا للقوم. وقال قيل:
اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا، فأنشأ سحابة بيضاء وسحابة حمراء وسحابة سوداء. ثم نودي: يا قيل، اختر أيها شئت. فقال: أما البيضاء فجفل، وأما الحمراء فعارض. وأما السوداء فهيطل، فاختارها فنودي. قد اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. فسارت السوداء إلى عاد فأهلكتهم، وجاء لقمان بن عاد بعد أن فرغوا من دعواتهم فقال: اللهم إنى جئتك وحدي، فأعطنى سؤلي. وسأل عمر سبعة أنسر، وكان عمر النسر ثمانين سنة، فكان يأخذ النسر من وكره فلا يزال عنده حتى يموت، وكان آخر نسوره اسمه لبد، فلما مات مات.
ثم إن ذلك كان قبل وجود مكة وزمزم، لأنهما إنما وجدان في زمن إبراهيم وإسماعيل، فلعل معاوية بن بكر كان سكنه قريبا من موضع مكة، لا في نفس موضعها، لأنه إذ ذاك لم تكن فيه كلأ ولا ماء.

(2/118)


فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه، فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء.
يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت:
ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله وما كانوا مؤمنين مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت:
هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين.

(2/119)


وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 74]
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74)
قرئ وإلى ثمود بمنع الصرف بتأويل القبيلة، وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحى، أو باعتبار الأصل، لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل:
سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادى القرى قد جاءتكم بينة آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوتى. وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال هذه ناقة الله لكم آية وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. ولكم: بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصا، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكونة من غير فحل وطروقة آية من آياته، كما تقول: آية الله. وروى أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا طوالا، حتى أن الرجل كان يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله تعالى فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم- جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة- أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء- والمخترجة التي شاكلت البحت- فإن فعلت صدقناك وأجبناك. فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن، قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء. كما

(2/120)


وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى، وعظماؤهم ينظرون، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه، ومنع أعقابهم ناس من رؤسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها، ثم تتفحج «1» فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون. قال أبو موسى الأشعرى: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا. وكانت الناقة إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أم غنم، وصدقة بنت المختار- لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتى المواشي- فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى رقى جبلا اسمه قارة فرغى ثلاثا وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفجت «2» الصخرة بعد رغائه فدخلها. فقال لهم صالح: تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه. فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا تأكل في أرض الله أى الأرض أرض الله والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم ولا تمسوها بسوء لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى إكراما لآية الله. ويروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه «لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم «3» » وقال صلى الله عليه وسلم «يا على، أتدري من أشقى الأولين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال «عاقر ناقة صالح، أتدرى من أشقى الآخرين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال «قاتلك «4» » وقرأ أبو جعفر في رواية
__________
(1) . قوله «ثم تتفحج» أى تفرج ما بين رجليها. (ع)
(2) . قوله «وانفجت الصخرة» أى انفتحت. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما من طرق.
(4) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خيثم والد يزيد المذكور عن عمار بن ياسر قال «كنت أنا وعلى رفيقين في غزوة العسرة إلى أن قال: فقال يا على، ألا أخبرك بأشقى الناس: رجلين؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا على على هذه وأشار إلى رأسه- حتى يبل هذه- ووضع يده على لحيته» ومن هذا الوجه أخرجه النسائي في الخصائص والحاكم والطبري والبيهقي في الدلائل. وفي الباب عن جابر بن سمرة أخرجه الطبراني وعن صهيب أخرجه أبو يعلى والطبراني. وعن على أخرجه ابن مردويه في تفسير والشمس وضحاها «تنبيه» في رواية المذكورين «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عليا، فقال له في الأول: عاقر الناقة، قال صدقت. وقال في الثانية «لا علم لي» وفي رواية جابر بن سمرة «الله أعلم» .

(2/121)


قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76) فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (78) فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79)

تأكل في أرض الله، وهو في موضع الحال بمعنى آكلة وبوأكم ونزلكم. والمباءة: المنزل في الأرض في أرض الحجر بين الحجاز والشام من سهولها قصورا أى تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص «1» واللبن والآجر. وقرأ الحسن: وتنحتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة، كقوله:
ينباع من ذفرى أسيل حرة «2»
فإن قلت: علام انتصب بيوتا؟ قلت: على الحال، كما تقول: خط هذا الثوب قميصا وأبر هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدرة، لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصا وقلما في حال الخياطة والبرى. وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 79]
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76) فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (78) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79)
__________
(1) . قوله «من الرهص» هو الصخر الثابت في أسفل الحائط. اهـ من الصحاح. (ع)
(2) .
وكان ربا أو كحيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم
ينباع من ذفرى أسيل حرة ... زيافة مثل الفنيق المكرم
لعنترة بن شداد العبسي من معلقته، يصف عرق ناقته من السير، فشبه بالرب، وهو العصير والطلاء. أو بالكحيل وهو القطران المنعقد بالنار على جوانب القمقم. وأعقدت الدواء: أغليته حتى خثر. وحش الوقود: أشعله وأوقده. وهو هنا مبنى للمجهول وأصل «ينباع» ينبع، فتولدت الألف للأشباع، والذفرى: نقرة منخفضة جنب الأذن، إذا طال سير البعير انتفخ من وسطها جلدة وارتفعت وسال منها العرق في النقرة، وهي المشبهة بالقمقم سابقا. وقيل الذفرى أصل الأذن. والأسيل: الناقة المستقيمة الخلق، من قولهم: خد أسيل، وكف أسيل، وحر كل شيء: خالصه. زيافة: كثيرة الزيف وهو التبختر في السير. والفنيق: فحل الإبل المكرم باعفائه عن العمل لأجل الضراب، فالمكرم: نعت مفسر. ويروى المكدم بالدال. ويقال: كدمه إذا عضه. وأما أكدمه فلم أقف عليها، ولعلها لغة قليلة. والمكدم اسم مفعول منها، أى الذي كدمته الفحول وعضته فأثرت فيه لتنقب جلدها من أثر الرحل والركض. وروى: من ذفرى غضوب جسرة، أى شديدة الغضب صلبة موثقة الخلق. وقيل «ينباع» وزنه «ينفعل» من البوع، وهو طى المسافة البعيدة، ولا معنى له في البيت.

(2/122)


للذين استضعفوا للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، ولمن آمن منهم بدل من الذين استضعفوا. فان قلت: الضمير في منهم راجع إلى ماذا «1» ؟ قلت: إلى قومه أو إلى للذين استضعفوا. فإن قلت: هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل لمن آمن مفسرا لمن استضعف منهم، فدل أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، ودل أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة: أتعلمون أن الله فوق العرش.
فان قلت: كيف صح قولهم إنا بما أرسل به مؤمنون جوابا عنه «2» ؟ قلت: سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمرا معلوما مكشوفا مسلما لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه «3» ولا شبهة يدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي آمنتم به كافرون «4» فوضعوا آمنتم به موضع أرسل به ردا لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما فعقروا الناقة أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم وعتوا عن أمر ربهم وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله فذروها تأكل في أرض الله أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم. ونحو عن هذه ما في قوله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت الضمير في منهم راجع إلى ماذا؟ قلت: إلى قومه ... الخ» قال أحمد: فقوله لمن على الأول بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. وعلى الثاني بدل بعض من كل.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف وقع قولهم إنا بما أرسل به مؤمنون جوابا ... الخ» قال أحمد:
وقولهم إنا بما أرسل به مؤمنون ليس إخبارا عن وجوب الايمان به، بل عن امتثال الواجب والعمل به، ونحن قد امتثلنا.
(3) . قوله «ما لا كلام فيه» لعله: مما لا كلام فيه. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال محمود: «ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي ... الخ» قال أحمد: ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها. وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فأثبت إرساله تهكما، وليس هذا موضع التهكم، فان الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الايمان بالرسالة احتياطا للكفر وعلوا في الإصرار.

(2/123)


وما فعلته عن أمري ائتنا بما تعدنا أرادوا من العذاب. وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوما.
واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين الرجفة الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها في دارهم في بلادهم أو في مساكنهم جاثمين هامدين لا يتحركون موتى. يقال: الناس جثم، أى قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة. ومنه المجثمة التي جاء النهى عنها «1» ، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه «2» » وروى أن صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروى أنه عليه السلام مر بقبر أبى رغال فقال: «أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبى رغال، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب» فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن «3» . فتولى عنهم الظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولى مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول يا قوم لقد بذلت فيكم وسعى ولم آل جهدا في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم لا تحبون الناصحين ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروى أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكى، فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروى أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
فإن قلت: كيف صح خطاب الموتى وقوله ولكن لا تحبون الناصحين؟ قلت: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حيا فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة: يا أخى، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل منى؟ وقوله ولكن لا تحبون الناصحين حكاية حال ماضية.
__________
(1) . أما النهى فرواه أصحاب السنن وابن حيان والحاكم من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء، وعن ركوب الجلالة، وعن المجثمة» ورواه البزار من طريق الوراق عن قتادة عن أنس مثله. وكذا قال، وأخرجه البزار وقال: إسناده حسن. ومن حديث العرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة، أخرجه الترمذي وحسنه من رواية سعيد بن المسيب عن أبى الدرداء قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل المجثمة وهي التي تضرب بالنبل» .
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والطبري من رواية عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبى الزبير عن جابر- وزاد «في غزوة تبوك» ، فقام فخطب الناس.
(3) . أخرجه أبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من رواية بجير بن أبى بجير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه «فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن» وأما قوله «فبحثوا عنه بأسيافهم» فأخرجه عبد الرزاق عن معمر مرسلا. [.....]

(2/124)


ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84)
ولوطا وأرسلنا لوطا. وإذ ظرف لأرسلنا. أو واذكر لوطا، وإذ بدل منه، بمعنى: واذكر وقت قال لقومه أتأتون الفاحشة أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ما سبقكم بها ما عملها قبلكم، والباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه السلام «سبقك بها عكاشة «1» » من أحد من العالمين «من» الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة مستأنفة، أنكر عليهم أولا بقوله أتأتون الفاحشة ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها. أو على أنه جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به إنكم لتأتون الرجال بيان لقوله: أتأتون الفاحشة. والهمزة مثلها في أتأتون للإنكار والتعظيم. وقرئ: إنكم، على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال، من أتى المرأة إذا غشيها شهوة مفعول له، أى للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، أنه لا داعى لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة بل أنتم قوم مسرفون أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعوا إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه بل أنتم قوم عادون. وما كان جواب قومه إلا أن قالوا يعنى ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام، من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عباس في قصته. ولمسلم من حديث أبى هريرة نحوه. ومن حديث عمران بن حصين رضى الله عنه.

(2/125)


بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجرا بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم. وقولهم إنهم أناس يتطهرون سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخارا بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف «1» ، وأريحونا من هذا المتزهد وأهله ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين «2» من الغابرين من الذين غبروا في ديارهم، أى بقوا فهلكوا. والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. وروى أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. وقيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروى أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. فإن قلت:
أى فرق بين مطر وأمطر؟ قلت: يقال مطرتهم السماء وواد ممطور «3» . وفي نوابغ الكلم: حرى غير ممطور. حرى أن يكون غير ممطور «4» ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، كقولهم. غاثتهم وو بلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر فأمطر علينا حجارة من السماء، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل. ومعنى وأمطرنا عليهم مطرا وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا يعنى الحجارة. ألا ترى إلى قوله فساء مطر المنذرين.
__________
(1) . قوله «أبعدوا عنا هذا المتقشف» المنقشف: هو الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع، من القشف: وهو التغير من الشمس أو الفقر اهـ. (ع)
(2) . قوله «من ذويه أو من المؤمنين» يعنى أقاربه وامرأته. (ع)
(3) . قال محمود: «يقال مطرتهم السماء وواد ممطور ... الخ» قال أحمد: مقصود المصنف الرد على من قول:
مطرت السماء في الخير، وأمطرت في الشر. ويتوهم أنها تفرقة وضعية، فبين أن أمطرت: معناه أرسالات شيئا على نحو المطر وإن لم يكن ماء، حتى لو أرسل الله من السماء أتواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن والسلوى، لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرات، أى أرسلتها إرسال المطر. فليس الشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا، فظن الواقع اتفاقا مقصودا في الوضع فنبه على تحقيق الأمر فيه وأحسن وأجمل.
(4) . قوله «حرى غير ممطور حرى أن يكون غير ممطور» حرى الأول بمعنى ناحية وجانب. والثاني بمعنى جدير وحقيق. وممطور الأول بمعنى مصاب بالمطر. والثاني بمعنى مذهوب فيه. كذا يؤخذ من الصحاح. (ع)

(2/126)


وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87)
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين قد جاءتكم بينة من ربكم معجزة شاهدة بصحة نبوتى أوجبت عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت:
ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله قد جاءتكم بينة من ربكم.
ولأنه لا بد لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئا لا نبيا غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روى من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين «1» حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات، لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب. فإن قلت: كيف قيل الكيل والميزان وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل وهو المكيال. أو سمى ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به. أو أريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل أشياءهم لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة كما يفعل أمراه الحرمين. وروى أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعا، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفا بعد إصلاحها بعد الإصلاح فيها، أى لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله بل مكر الليل والنهار بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو
__________
(1) . قوله «التنين» هو ضرب من الحيات والدرع سود الرؤوس بيض سائر الأبدان اهـ. (ع)

(2/127)


بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف ذلكم إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى خير لكم يعنى في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية إن كنتم مؤمنين إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم ولا تقعدوا بكل صراط ولا تقتدوا بالشيطان في قوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم فتقعدوا بكل صراط أى بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله وتصدون عن سبيل الله ومحل توعدون وما عطف عليه: النصب على الحال أى:
ولا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله، وباغيها عوجا. فإن قلت: صراط الحق واحد، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فكيف قيل: بكل صراط؟
قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحدا يشرع في شيء منها أو عدوه وصدوه. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في آمن به؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد، فيقولون لمن مر بهم: إن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق.
وقيل: كانوا عشارين وتبغونها عوجا وتطلبون لسبيل الله عوجا، أى تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدوهم عن سلوكها والدخول فيها: أو يكون تهكما بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأن طريق الحق لا يعوج واذكروا إذ كنتم قليلا إذ مفعول به غير ظرف. أى: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم فكثركم الله ووفر عددكم.
قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم: فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد عاقبة المفسدين آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فاصبروا فتربصوا وانتظروا حتى يحكم الله بيننا أى بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله فتربصوا إنا معكم متربصون أو هو عظة للمؤمنين وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم.
ويجوز أن يكون خطابا للفريقين، أى ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب وهو خير

(2/128)


قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)

الحاكمين
لأن حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89]
قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)
أى ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجكم، وإما عودكم في الكفر. فإن قلت: كيف خاطبوا شعيبا عليه السلام بالعود «1» في الكفر في قولهم أو لتعودن في ملتنا وكيف أجابهم بقوله إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر؟ قلت: لما قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: لتعودن، فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال:
إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف خاطبوا شعيبا بصيغة العود ... الخ» قال أحمد: والزمخشري بنى هذا الكلام على أن صيغة العود تستدعى رجوع العائد إلى حال كان عليها قبل. والتحقيق في الجواب عن السؤال المذكور مع اقتضاء العود لذلك: أن هذا الفعل وإن استعمل كذلك، إلا أنه كثيرا ما يرد بمعنى صار. وحينئذ يجوز أن يكون أخا لكان ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك وهو الانتقال من حال سابقة إلى حالة مؤتنفة مثل صار، وكأنهم قالوا- والله أعلم-: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفارا مثلنا، وحينئذ يندفع السؤال. أو يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق. ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الايمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها وكذلك الكافر الأصلى لم يدخل قط في نور الايمان ولا كان فيه، ولكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الايمان إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور.
توفيقا من الله له ولطفا به. وبالعكس في حق الكافر، وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لاقامة حجة الله على عباده، والله أعلم.

(2/129)


وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب، فإن قلت: فما معنى قوله وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين «1» وعودهم في الكفر «2» ؟ قلت: معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه انها لا تنفع فينا وتكون عبثا. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله وسع ربنا كل شيء علما أى هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان على الله توكلنا في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله إلا أن يشاء الله حسما لطمعهم «3» في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة «4» أولو كنا كارهين الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. وما يكون لنا، وما ينبغي لنا، وما يصح لنا ربنا افتح بيننا احكم بيننا. والفتاحة، الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف بأن تنزل عليهم عذابا يتبين معه أنهم على الباطل وأنت خير الفاتحين كقوله وهو خير الحاكمين. فإن قلت: كيف أسلوب قوله قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم؟ قلت: هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام، لأن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأن الكافر مفتر على الله الكذب، حيث يزعم أن لله ندا ولا ند له. والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفى عليه من التمييز
__________
(1) . قوله «والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين» أى تنزه عن أن يشاء ... الخ، على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر. أما عند أهل السنة فيريده كالخير. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت الله تعالى مقدس عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر ... الخ» . قال أحمد: وهذا السؤال كما ترى مفرع على القاعدة الفاسدة، في اعتقاد وجوب رعاية الصلاح والأصلح، وهو غير موجه على قاعدة السنة، فظاهر الآية هو المعول عليه لا يجوز تأويله ولا تبديله. وأما استدلال الزمخشري على صحة تأويله بقوله وسع ربنا كل شيء علما فمن احتيالاته في التأويلات الباطلة، يعضدها ويتبع الشبه ويلفقها. وموقع قوله وسع ربنا كل شيء علما الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة، فان العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم والخوف لازم، ولكن لمن وفقه الله تعالى للعقيدة الصحيحة والايمان السالم، والله الموفق. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة بحد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات، والله أعلم.
(3) . عاد كلامه. قال: ويجوز أن يكون المراد حسم طمعهم ... الخ» قال أحمد: وهذا من الطراز الأول، فألحقه به، وسحقا سحقا.
(4) . قوله «محال خارج عن الحكمة» مبنى على مذهب المعتزلة أيضا. (ع)

(2/130)


وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين (92) فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين (93)

بين الحق والباطل. والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذبا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 92]
وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين (92)
وقال الملأ الذين كفروا من قومه أى أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية. فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم شعيبا وجواب الشرط؟ قلت: قوله إنكم إذا لخاسرون ساد مسد الجوابين الذين كذبوا شعيبا مبتدأ خبره كأن لم يغنوا فيها وكذلك كانوا هم الخاسرين وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغة في رد مقالة الملإ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 93]
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين (93)
الأسى: شدة الحزن. قال العجاج:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
اشتد حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال: فكيف يشتد حزنى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ويجوز أن يريد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فكيف آسى عليكم يعنى أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى. وقرأ يحيى بن وثاب: فكيف إيسى، بكسر الهمزة.

(2/131)


وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95)
إلا أخذنا أهلها بالبأساء بالبؤس والفقر والضراء بالضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه لعلهم يضرعون ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة أى أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله وبلوناهم بالحسنات والسيئات حتى عفوا كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «وأعفوا اللحى» «1» وقال الحطيئة:
بمستأسد القريان عاف نباته «2»
وقال:
ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم «3»
__________
(1) . تقدم في البقرة.
(2) .
فان نظرت يوما بمؤخر عينها ... إلى علم في الغور قالت أبعد
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنها ... بها راكب موف على ظهر قردد
بمستأسد القريان عاف نباته ... تساقطنى والرحل من صوت هدد
لحطيئة. ومؤخر العين- كمؤمن-: جانبها. والعلم: الجبل والعلامة في الطريق. والغور: الموضع الغائر المنخفض.
وقالت له «ابعد» مجاز عن تركها إياه بسرعة، فيبعد عنها. والحبارى: طير يهوى الجبال، وفرخها يسمى النهار.
وفرخ الكروان يسمي الليل. والموفى: المشرف. والقردد- كهدهد- المكان الغليظ المرتفع. والمستأسد: النبات القوى الغليظ الطويل، كما سمى السبع أسدا لقوته. والقريان- بالضم- جمع قرى كفعيل: مجرى الماء الذي يجمعه إلى الروض. والعافي الكثير، يصف ناقته بسرعة السير وأنها لخوفها في ذلك الطريق لا نتمكن من تمام النظر إلى أعلامه، فإذا لمحت فيه شبحا أسرعت مبعدة عنه في أرض مجهل، كأن فرخ الحبارى فيها راكب مشرف فوق مكان مرتفع. وقوله «بمستأسد» بدل من قوله «بأرض» أو متعلق بتساقطنى. والمعنى: أنه لا فرق عندها بين الحزن والسهل في نبات الغدران حال كثرته، ترديني مع رحلها لسرعة سيرها من خوفها من صوت هدهد واحد. وعلى الأول، تساقطني حال من فاعل «قالت» أو جواب الشرط، وقالت له: ابعد، صفة علم. وعبر بالتساقط، لأن المعنى:
كلما تمكنت حركتنى، حتى أكاد أسقط.
(3) .
إذا ما درها لم يقر ضيفا ... ضمن له قراه من الشحوم
فلا تتجاوز العضلات منها ... إلى البكر المعازب والكروم
ولكنا لعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
البيد بن ربيعة العامري. يقول: إذا لم يكف در النوق في قرى الضيف، كان قراء من شحومها، فأسند القرى إلى اللبن لأنه آلته أو سببه. وإسناد الضمان إلى نوق الإبل مجاز أيضا، لأنها محل المضمون. والفعلان في الحقيقة لمالك الإبل. والمراد: أنها معدة لذلك إما بلبنها أو شحمها. والعضلة: الحسنة السمينة. والبكر: الفتى من الإبل ذكرا أو أنثى. والمعازب المهزول، من عزب إذا أبعد. والمعزابة والمعزاب: الذي طالت عزوبته وبعده لعدم نسله أو لبعده عن البيوت، فكأنه بمعنى المباعد في الأصل، ثم أريد به المهزول مجازا. والكزم بالزاي القصير. ومنه كزم ككتف. وأكزم وكزما، فالكزوم كصبور القصيرة. وقيل المسنة التي قصر مشفرها الأسفل عن الأعلى. أو التي لم يبق لها سن من الهرم. وكزمه أيضا إذا كسره بمقدم فمه. ويجوز أن المعازب بالفتح جمع معزاب أو معزابة، فيكون البكر مستعملا في معنى الجمع، أى لا تترك الوسط السمان من الإبل ذاهبين إلى الصغار المهازيل والمسنات البالغات في الهرم، ولكنا نجعل السيف يعض منها، بأسوق جمع ساق مضاف إلى عافيات، أى كثيرات الشحم لتركها من العمل سنة أو سنتين. والكوم جمع كوماء، أى عظيمات الأسنمة مرتفعاتها. [.....]

(2/132)


ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98)

وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء يعنى وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء. وقد مس آباؤنا نحو ذلك، وما هو بابتلاء من الله لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلا أن نأخذهم بالعذاب فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 96]
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)
اللام في القرى: إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله وما أرسلنا في قرية من نبي كأنه قال:
ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض لآتيناهم بالخير من كل وجه. وقيل أراد المطر والنبات ولكن كذبوا فأخذناهم بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس. فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 98]
أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98)
البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال: بات بياتا. ومنه قوله تعالى فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال: بيته العدو بياتا، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتا، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتا، كأنه قيل:
أن يبيتهم بأسنا بياتا. وضحى نصب على الظرف. يقال: أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء

(2/133)


أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99) أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (100)

والضحى- في الأصل- اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في أفأمن وأ وأمن حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت: ما المعطوف عليه؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله فأخذناهم بغتة وقوله ولو أن أهل القرى إلى يكسبون وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه. وإنما عطف بالفاء، لأن المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ وقرئ: أو أمن، على العطف بأو وهم يلعبون يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون.

[سورة الأعراف (7) : آية 99]
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99)
فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله أفأمنوا مكر الله؟ قلت: هو تكرير لقوله أفأمن أهل القرى ومكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر. ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: مالى أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال: يا بنتاه، إن أباك يخاف البيات، أراد قوله أن يأتيهم بأسنا بياتا

[سورة الأعراف (7) : آية 100]
أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (100)
إذا قرئ أولم يهد بالياء كان أن لو نشاء مرفوعا بأنه فاعله، بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم. وإنما عدى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى ونطبع على قلوبهم «1» ؟ قلت: فيه أوجه، أن يكون معطوفا على ما دل عليه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت بم يتعلق قوله ونطبع على قلوبهم ... الخ» قال أحمد: بل يجوز والله عطفه عليه، ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع، ولا يضرهم إن كانوا كفارا أو مقترفين للذنوب، فليس الطبع من لوازم اقتراف الذنب ولا بد، إذ الطبع هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم، حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق. ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المنابة. بل إن الكافر يهدد من تماديه على كفرهم بأن يطبع الله على قلبه، فلا يؤمن أبدا، وهو مقتضى العطف على أصبناهم، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين، أحدهما:
الاصابة ببعض ذنوبهم، والآخر الطبع على قلوبهم. وهذا الثاني أشد من الأول، وهو أيضا نوع من الاصابة بالذنوب أو العقوبة عليها، ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب. وكثيرا ما يعاقب الله على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه، كما قال تعالى: فزادتهم رجسا إلى رجسهم كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم. وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه، فثواب الايمان إيمان وثواب الكفر كفر. وإنما الزمخشري يحاذوا من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى. وذلك عنده محال، لأنه قبيح والله عنه متعال، وأنى يتم الفرار من الحق. وكم من آية صرحت بوقوع الطبع من الله، فضلا عن تعلق المشيئة به.

(2/134)


تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين (101) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102)

معنى أولم يهد كأنه قيل: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم. أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعا بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون ونطبع بمعنى وطبعنا، كما لو نشاء بمعنى: لو شئنا، ويعطف على أصبناهم؟ قلت: لا يساعد عليه المعنى؟ لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها. وهذا التفسير يؤدى إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها.

[سورة الأعراف (7) : آية 101]
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين (101)
تلك القرى نقص عليك من أنبائها كقوله هذا بعلي شيخا في أنه مبتدأ وخبر وحال ويجوز أن يكون القرى صفة لتلك ونقص خبرا، وأن يكون القرى نقص خبرا بعد خبر.
فإن قلت: ما معنى تلك القرى حتى يكون كلاما مفيدا؟ قلت: هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت: معناه أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل، أى استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومعنى اللام تأكيد النفي وأن الإيمان كان منافيا لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد: هو كقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. كذلك مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.

[سورة الأعراف (7) : آية 102]
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102)

(2/135)


ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103) وقال موسى يافرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105)

وما وجدنا لأكثرهم من عهد الضمير للناس على الإطلاق، أى وما وجدنا لأكثر الناس من عهد يعنى أن أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى وإن وجدنا وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين، خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم نجاهم نكثوا كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، إلى قوله إذا هم ينكثون والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدت زيدا ذا الحفاظ، بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة. ولا يسوغ ذلك إلا في المبتدإ والخبر. والأفعال الداخلة عليهما.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 105]
ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105)
من بعدهم الضمير للرسل في قوله ولقد جاءتهم رسلهم أو للأمم فظلموا فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد إن الشرك لظلم عظيم أو فظلموا الناس بسببها حين او عدوهم وصدوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلما، فلذلك قيل: فظلموا بها، أى كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان. يقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال:
يا ملك مصر وكان اسمه قابوس. وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق فيه أربع قراآت، المشهورة: وحقيق على أن لا أقول «1» ، وهي قراءة نافع وحقيق أن لا أقول
__________
(1) . قال محمود: «فيه أربع قراآت، المشهورة: وحقيق على أن لا أقول ... الخ» قال أحمد: القلب يستعمل في اللغة على وجهين، أحدهما: قلب الحقيقة إلى المجاز لوجه من المبالغة كقوله:
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وكقوله:
قد صرح السر عن كتمان وابتذلت ... وضع المحاجن بالمهرية الدقن
فالحقيقة أن الضياطرة تشقى بالرماح، والمهرية تبتذل بالمحاجن، فعدل عن ذلك تنبيها على أن الرماح قد تنفصل وتنقصف في أجوافهم، فعبر عن ذلك بالشقاء، وأن المحاجن كثيرا ما ترفع وتوضع وتستعمل في ضرب المهرية، وربما تمزقت عن ذلك فجعل ذلك ابتذالا لها، وقد حام أبو الطيب حول هذا النوع كثيرا في أمثال قوله:
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به ... وللسيوف كما للناس آجال
والمراد بشقاء السيف: انقطاعه في أضلاع المضروب، كما صرح بذلك في قوله:
طوال الردينيات يقصفها دمى ... وبيض السريجيات يقطعها لحمى
الوجه الثاني: قلب معرى عن هذا المعنى البليغ، ولذلك لا يستفصح، كقولهم: خرق الثوب المسمار وأشباهه، وعلى الوجه الأول الأفصح جاءت الآية على هذه القراءة، وهو الوجه الرابع من وجوه الزمخشري، وفي طيه من المبالغة ما نبهت عليه. وأما الوجه الثاني وهو «أن ما لزمك فقد لزمته» ففيه نظر من حيث أن اللزوم قد يكون من أحد الطرفين دون الآخر، ولزوم موسى عليه السلام لقول الحق من هذا النمط، وأما الوجه الثالث فلا يلائم بين القراءتين، وقد ذكر لها وجه خامس: وهو أن يكون «على» بمعنى الباء، ونقل «رميت على القوس» بمعنى رميت بالقوس، وهو وجه حسن ملائم، والله أعلم. ويشهد له قراءة أبى: حقيق بأن لا أقول.

(2/136)


وهي قراءة عبد الله وحقيق بأن لا أقول وهي قراءة أبى وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه، أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله:
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر «1»
ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح، وحقيق على أن لا أقول، وهي قراءة نافع. والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحق، أى لازما له.
والثالث: أن يضمن حقيق معنى حريص، كما ضمن «هيجنى» معنى ذكرني في بيت الكتاب.
والرابع- وهو الأوجه- الأدخل في نكت القرآن: أن يعرق موسى «2» في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أن عدو الله فرعون قال له- لما قال إني رسول من رب العالمين
__________
(1) .
كذبتم وبيت الله حين تعالجوا ... قوادم حرب لا تلين ولا نمرى
نزلت بخيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
لخداش بن زهير، يقول لقومه: كذبتم وحق بيت الله: في دعواكم إمكان الصلح، وهذا يعلم ضمنا من قوله «حين تعالجوا، أو استعار الكذب للخطأ في الظن أو الرأى، أى أخطأتم في ممارستكم الجماعات القادمات الحرب لأجل الصلح. ويشبه أن يكون قوله «تعالجوا» محرفا، وأصله بالصاد والحاء بدل العين والجيم، وعلى كل فحذف نونه للوزن أو للتخفيف، و «لا تلين» صفة قوادم. وأمرت الناقة: در لبنها، شبه الرضاء بالصلح بأمر الناقة. على طريق التصريح، ثم نفاه وبين ذلك بقوله «نزلت بخيل» أى في أصحاب خيل. ويحتمل أن الخيل مجاز عن الفرسان، أو كناية عنهم. وروى «وتلحق خيل» فهو عطف على «لا تلين» أى: وتسرع خيل منها. والهوادة:
الصلح والبقية من القوم يرجى بها صلاحهم، والمعنى أنهم لا يرجى صلحهم. وتشقى: أى تتعب الرماح بسبب الضياطرة، وهو من باب القلب لا من اللبس. والمعنى: وتشقى الضياطرة بالرماح. والضيطر: الضخم الجبان.
وقياس جمعه ضياطير، إلا أنه عوض الهاء من الياء. والحمر عند العرب: كناية عن العجم، لأنها تصف الحسن بالأخضر، والقبيح بالأحمر. والمعنى: تتعب ضياطرتهم من حمل رماحهم. ويجوز أن المراد من طعن رماحنا.
ويحتمل أن لا قلب، وأنه بالغ في ضخمهم، حتى كأن الرماح تتعب من طعنهم، لكن الأول هو المنقول.
والمعنى: لا تصالحوهم بل نحاربهم.
(2) . قوله «أن يعرق موسى» لعله: يغرق بالمعجمة. وفي الصحاح. أغرق النازع في القوس، أى استوفى مدها. (ع)

(2/137)


قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (108) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (111) يأتوك بكل ساحر عليم (112)

كذبت، فيقول: أنا حقيق على قول الحق أى واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به فأرسل معي بني إسرائيل فخلهم حتى يذهبوا معى راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفى وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام

[سورة الأعراف (7) : الآيات 106 الى 107]
قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107)
فإن قلت: كيف قال له فأت بها بعد قوله إن كنت جئت بآية؟ قلت: معناه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتنى بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك ثعبان مبين ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان. وروى أنه كان ثعبانا ذكرا أشعر فاغرا فاه «1» بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى، خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بنى إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصى. فإن قلت: بم يتعلق للناظرين؟ قلت يتعلق ببيضاء. والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟
قال: يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 112]
قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (111) يأتوك بكل ساحر عليم (112)
__________
(1) . قوله «فاغرا فاه» أى فاتحا فاه. (ع)

(2/138)


وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114)

إن هذا لساحر عليم أى عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصى حية، والآدم أبيض. فإن قلت قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملإ وعزى هاهنا إليهم. قلت: قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم هاهنا. أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك، يرى الواحد منهم الرأى فيكلم به من يليه من الخاصة، ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وقرئ سحار، أى يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة. أو بخير منه.
وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم فماذا تأمرون من أمرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى. وقيل: فماذا تأمرون؟ من كلام فرعون، قاله للملإ لما قالوا له: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل: احبسهما.
وقرئ: أرجئه، بالهمزة. وأرجه، من أرجأه وأرجاه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 114]
وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114)
فإن قلت: هلا قيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا؟ قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا إن لنا لأجرا أى جعلا على الغلبة: وقرئ: إن لنا لأجرا، على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه: كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب: إن له لإبلا، وإن له لغنما، يقصدون الكثرة. فإن قلت: وإنكم لمن المقربين ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب، كأنه قال إيجابا لقولهم: إن لنا لأجرا: نعم إن لكم لأجرا، وإنكم لمن المقربين، أراد: إنى لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإن لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأن المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة.
وروى أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروى أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وروى أنهم كانوا ثمانين ألفا. وقيل: سبعين ألفا وقيل: بضعة وثلاثين ألفا. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر. وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل: قال فرعون: لا نغالب موسى إلا بما هو منه، يعنى السحر.

(2/139)


قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 115 الى 122]
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119)
وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم وإما أن نكون نحن الملقين فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبدا سحروا أعين الناس أروها بالحيل والشعوذة «1» وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا واسترهبوهم وأرهبوهم إرهابا شديدا، كأنهم استدعوا رهبتهم بسحر عظيم في باب السحر. روى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل: جعلوا فيها الزئبق ما يأفكون ما موصولة
__________
(1) . قال محمود: «معناه أروها بالحيل والشعوذة ... الخ» قال أحمد: معتقد المعتزلة إنكار وجود السحر والشياطين والجن في خبط طويل لهم. ومعتقد أهل السنة إقرارها الظواهر على ما هي عليه، لأن العقل لا يحيل وجود ذلك.
وقد ورد السمع بوقوعه، فوجب الإقرار بوجوده، ولا يمنع عند أهل السنة أن يرقى الساحر في الهواء، ويستدق فيتولج في الكوة الضيقة، ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه، وذلك واقع بقدرة الله تعالى عند إرشاد الساحر. هذا هو الحق والمعتقد الصدق، وإنما أجريت هذا الفصل لأن كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره، إلا أن هذا النص القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عما في نفسه، فيسميه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أن الشعوذة لا تعلم في يد ابن عمر رضى الله عنه حتى بكوعها، ولا تؤثر في سيد البشر حتى يخيل اليه أنه يأتى نساءه وهو لا يأتيهن.
وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا، فالعمدة أن كل واقع فبقدرة الله تعالى، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدى من يشاء، والله الموفق.

(2/140)


قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون (123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)

أو مصدرية، بمعنى: ما يأفكونه أى يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه. أو إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك، روى أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصى كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة قالت للسحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فوقع الحق فحصل وثبت. ومن بدع التفاسير: فوقع قلوبهم، أى فأثر فيها من قولهم. قاس وقيع وانقلبوا صاغرين وصاروا أذلاء مبهوتين وألقي السحرة وخروا سجدا: كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم. وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا. وعن قتادة: كانوا أول النهار كفارا سحرة، وفي آخره شهداء بررة. وعن الحسن. تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 124]
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون (123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124)
آمنتم به على الإخبار، أى فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخا لهم وتقريعا. وقرئ:
أآمنتم، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بنى إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروى أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بى إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر.
وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال فسوف تعلمون وعيد أجمله ثم فصله بقوله لأقطعن وقرئ لأقطعن بالتخفيف، وكذلك ثم لأصلبنكم من خلاف من كل شق طرفا. وقيل: إن أول من قطع من خلاف وصلب لفرعون.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 125 الى 126]
قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)
إنا إلى ربنا منقلبون فيه أوجه، أن يريدوا: إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد

(2/141)


وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (127)

القطع والصلب، أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله، فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه وما تنقم منا إلا أن آمنا وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أرادوا: وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان. ومنه قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم «1»
أفرغ علينا صبرا هب لنا صبرا واسعا وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغا. وعن بعض السلف: إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوبا ثم يقول: قد مازحتك، أى يغمره بالحياء والخجل. أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم وتوفنا مسلمين ثابتين على الإسلام.

[سورة الأعراف (7) : آية 127]
وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (127)
ويذرك عطف على ليفسدوا لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، وكان ذلك مؤديا إلى ما دعوه فسادا وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. أو هو جواب للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء «2»
والنصب بإضمار «أن» تقديره: أيكون منك ترك موسى، ويكون تركه إياك وآلهتك. وقرئ:
ويذرك وآلهتك بالرفع عطفا على أتذر موسى، بمعنى: أتذره وأ يذرك، يعنى: تطلق له ذلك.
أو يكون مستأنفا أو حالا على معنى: أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن: ويذرك بالجزم،
__________
(1) .
على عرفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب
إذا استنزلوا للطعن عنهن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
النابغة الذبياني يصف فرسانا على أفراس عارقات صابرات عوابس كوالح، فيهن جروح رطبة بالدم، وأخر يابسة، عليها جلبة، أى قشرة. وإذا التحم القتال واقتضى الحال نزولهم عن الخيل، أسرعوا نازلين عنهن بائعين أعمارهم، كاسراع الجمال المصاعب، جمع مصعب. تقول: أصعبت الجمل إذا تركته عن العمل حتى صار صعبا شديدا. والفلول انثلامات في حد السيف. والقراع: المضاربة. والكتائب: الجماعات، والبيت من استتباع المدح بما يشبه الذم، أى إن كانت فلول السيف من ذلك عيبا، فأثبته، وهي ليست عيبا فلا عيب فيهم قط، وهو مبالغة في المدح.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 578 فراجعه إن شئت اهـ مصححه

(2/142)


قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (129)

كأنه قيل: يفسدوا، كما قرئ وأكن من الصالحين كأنه قيل: أصدق. وقرأ أنس رضى الله عنه: ونذرك، بالنون والنصب، أى يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وقرئ: ويذرك وإلاهتك، أى عبادتك. وروى أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك، وقيل: صنع فرعون لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام، ويقولون: ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك قال: أنا ربكم الأعلى سنقتل أبناءهم يعنى سنعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه، وأنه منتظر بعد.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 128 الى 129]
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (129)
قال موسى لقومه استعينوا بالله قال لهم ذلك- حين قال فرعون: سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا- يسكنهم ويسلبهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بنى إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم. فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على التي قبلها؟ قلت: هي جملة مبتدأة مستأنفة. وأما وقال الملأ فمعطوفة على ما سبقها من قوله قال الملأ من قوم فرعون وقوله إن الأرض لله يجوز أن تكون اللام للعهد ويراد أرض مصر خاصة، كقوله وأورثنا الأرض وأن تكون للجنس فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة: إنما المرء بأصغريه، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولا أوليا والعاقبة للمتقين بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم. وقرأ والعاقبة للمتقين بالنصب: أبى وابن مسعود، عطفا على الأرض.
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئ، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع

(2/143)


ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون (130) فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131)

الخدم والمهن ويمسون به من العذاب عسى ربكم أن يهلك عدوكم تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل. وكشف عنه، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر فينظر كيف تعملون فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان، فطلب زيادة لعمرو فلم توجد، فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي فينظر كيف تعملون.

[سورة الأعراف (7) : آية 130]
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون (130)
بالسنين بسنى القحط. و «السنة» من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم، بمعنى أقحطوا. وقال ابن عباس رضى الله عنه: أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم. وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب: يأتى على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة لعلهم يذكرون فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر «1» وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدة أضرع خدودا وألين أعطافا وأرق أفئدة.
وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.

[سورة الأعراف (7) : آية 131]
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131)
فإذا جاءتهم الحسنة من الخصب والرخاء قالوا لنا هذه أى هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك. الجل للفرس وإن تصبهم سيئة من ضيقة وجدب يطيروا بموسى ومن معه يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا: هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك. فإن قلت: كيف. قيل: فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة «2» ، وإن تصبهم
__________
(1) . قال محمود: «معنى لعلهم يذكرون: يتنبهون لأن ذلك كان لاصرارهم ... الخ» قال أحمد: دلت اللام على دعواهم استحقاق الحسنة. وأما دعوى اختصاصها بهم حتى لا يشركهم فيها أحد فدل عليه تقدير الخبر الذي هو لنا، وقد علمت طريقة المصنف في إسناده الحصر من تقديم ما حقه أن يؤخر كالمفعول والخبر ونحوه.
(2) . عاد كلامه. قال: فان قلت: «كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة ... الخ» قال أحمد: وقد ورد: إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك فلم يراع فرق ما بينهما، ولعل بين سياق الآيتين اختلافا أوجب في كل واحد منهما ما ذكر فيه.

(2/144)


وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133)

سيئة بإن وتنكير السيئة؟ قلت: لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه. وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا شيء منها. ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء، فهل عددت أيام الرخاء طائرهم عند الله أى سبب خيرهم وشرهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى قل كل من عند الله ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليهم ما يسوءهم لأجله، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه النار يعرضون عليها الآية. ولا طائر أشأم من هذا. وقرأ الحسن: إنما طيركم عند الله، وهو اسم لجمع طائر غير تكسير، ونظيره: التجر، والركب. وعند أبى الحسن:
هو تكسير.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133]
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133)
مهما هي «ما» المضمنة معنى الجزاء «1» ، ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في
__________
(1) . قال محمود: «مهما هي «ما» المضمنة معنى الجزاء ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء ... الخ» قال أحمد:
والذي عده أولا من كلام سيبويه، وسنذكره: قال سيبويه: وسألت الخليل عن مهما فقال: هي «ما» أدخلت معها «ما» ، بلغو بمنزلتها مع متى، إذا قلت: متى ما تأتنى حدثتك. انتهى كلام سيبويه. وكأن هذا القائل- والله أعلم- اغتر بتشبيه الخليل لها بمتى ما، فظنها في معناها. وإنما شبه الخليل بالثانية من مهما في لحاقها زائدة مؤكدة للأولى بما اللاحقة لمتى. عاد كلام سيبويه قال: ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ واحد، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى انتهى نقله عن الخليل. قال سيبويه: ويجوز أن تكون كذا ضمت اليها ما انتهى كلامه. قال أحمد: ومعنى تشبيه سيبويه لها بإذما أن الجزاء بجملة الكلمة لا بالجزء الأول منها خاصة وإلا لكان عين مذهب الخليل. والذي يحقق ذلك أن سيبويه قال أول هذا الباب: وأما «حيث» و «إذ» فلا يجازى بهما حتى بضم اليهما ما، فتصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو، ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف واحد، فانظر قوله: وليست ما فيهما بلغو، يعنى ليست زائدة مؤكدة، ولكن لها حظ في اقتضاء الجزاء حتى لا يفيده إلا اجتماع جزئى الكلمة ويبقى وراء ذلك نظر في أن سيبويه هل أراد أن «ما» ضمت إلى «مه» التي هي الصوت، أو إلى «ما» الجزائية.
والظاهر من مراده أن انضمامها إلى الصوت، لأنها لو كانت منضمة إلى «ما» الجزائية، لكانت مستقلة بافادة الجزاء قبل انضمام «ما» إليها، ولا تكون مثل إذا وحيث، ولا يكون تنظير سيبويه مطابقا. وهذا الذي فهمه ابن طاهر وتبعه فيه تلميذه ابن خروف. وعزا ابن خروف هذا المذهب إلى سيبويه، ورد قول ابن بابشاذ أن هذا المذهب للخليل خاصة، وقد تواطأ ابن بابشاذ والزمخشري على نفى هذا المذهب عن سيبويه، وإعزائه إلى غيره.
وأظهر ما قوى به مذهب الخليل- والله أعلم- أن هذه الكلمة استعملت في الاستفهام حسب استعمالها في الجزاء وأنشدوا:
مهما لي الليلة مهما ليه ... أودى بنعلي وسر ماليه
أراد: مالى الليلة، ولا إشكال هاهنا أنها «ما» الاستفهامية كررت تأكيدا، كما يقولون: لا لا، ونعم نعم، ثم استكره تكرار اللفظ بعينه، فقلبت ألف الأولى هاء. وقد جاء قلب الاستفهامية وإن لم يكن تكرار، فهو معه أجدر. وإذا وضح أن «مهما» الواقعة في الاستفهام أصلها «ما» مكررة، كان ذلك أوضح دليل على أن الواقعة في الجزاء كذلك، والاستشهاد بالنظائر أمين حجج العربية، والله أعلم. وأما رد الزمخشري على من زعم أنها بمعنى «متى ما» فرد صحيح، والآية أصدق شاهد على رده، فان الضمير المجرور فيها عائد إلى مهما حتما، وقد اتصل به مفسرا له قوله من آية دل على أن الضمير واقع على الآية، فلزم وقوع «مهما» عليها ضرورة إيجاد المرجع في المضمر ومظهره، فذهاب هذا القائل إلى إيقاع «مهما» على الوقت زاعما أنها بمعنى «متى ما» ذهاب عن الصواب.
وعذر الزمخشري واضح في الرد على تسجيله وإغلاظ النكير عليه، وتفويق سهام التشنيع إليه. فتأمل هذا الفصل، ففيه إنارة للسبيل، وشفاء للغليل، والله الموفق.

(2/145)


قولك: متى ما تخرج أخرج، أينما تكونوا يدرككم الموت، فإما نذهبن بك إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري، ومن الناس من زعم أن «مه» هي الصوت الذي يصوت به الكاف، و «ما» للجزاء، كأنه قيل: كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فإن قلت: ما محل مهما؟ قلت: الرفع بمعنى: أيما شيء تأتنا به. أو النصب، بمعنى: أيما شيء تحضرنا «1» تأتنا به. ومن آية: تبيين لمهما. والضميران في به وبها راجعان إلى مهما، إلا أن أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أنث على المعنى، لأنه في معنى الآية. ونحوه قول زهير:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم «2»
وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى ما، ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. فإن قلت: كيف سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتبارا لتسمية موسى، وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي الطوفان ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل. قيل: طغى الماء فوق حروثهم، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يرون
__________
(1) . قوله «أيما شيء تحضرنا» لعله تحضر فقط. (ع)
(2) . لزهير بن أبى سلمى من معلقته. ومهما: اسم شرط بمعنى أى شيء على المختار، فلذلك يعود عليه الضمير، ثم إن كان المراد به مؤنثا كما هنا، فتارة يعود عليه الضمير مذكرا باعتبار اللفظ كما في قوله «يكن» وتارة مؤنثا باعتبار المعنى كما في قوله «وإن خالها» ولم يجعل هذا عائدا على الخليقة، لأن «مهما» هو المحدث عنه، و «من خليقة» بيان له. ولما بين بالمؤنث حسن تأنيث ضميره بعد بيانه. يقول: أى طبيعة وسجية تكون في الإنسان تعلم الناس بأماراتها، وإن ظنها خافية عليهم.

(2/146)


شمسا ولا قمرا، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره. وقيل أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بنى إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق، ولم تدخل بيوت بنى إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، ودام عليهم سبعة أيام. وعن أبى قلابة:
الطوفان الجدري، وهو أول عذاب وقع فيهم، فبقى في الأرض. وقيل: هو الموتان «1» وقيل:
الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهرا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام: خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهرا، فسلط الله عليهم القمل وهو الحنان في قول أبى عبيدة كبار القردان. وقيل: الدبا وهو أولاد الجراد. قيل:
نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث. وعن سعيد بن جبير: السوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان يأكل أحدهم طعاما فيمتلئ قملا، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيرا. وعن سعيد ابن جبير. أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر، فضربه به موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحد شيئا من ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلى، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما، فشكوا إلى فرعون فقال:
إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلى ماء
__________
(1) . قوله «وقيل هو الموتان» في الصحاح: الموتان- بالضم: موت يقع في الماشية. وفيه أيضا: الطاعون الموت الوحى من الوباء. وفيه. الوحي، على فعيل: السريع. (ع) [.....]

(2/147)


ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون (135) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (136)

وما يلي القبطي دما، ويستقيان من ماء واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلى الماء، حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك ثم مجيه في فى، فيصير الماء في فيها دما.
وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا. وعن سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دما. وقيل: سلط الله عليهم الرعاف وروى أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات، وروى أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال: يا رب، إن عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم. وقرأ الحسن: والقمل، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف آيات مفصلات نصب على الحال. ومعنى مفصلات: مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم. أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون إلزاما للحجة عليهم؟

[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136]
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون (135) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (136)
بما عهد عندك ما مصدرية. والمعنى بعهده عندك وهو النبوة والباء إما أن تتعلق بقوله ادع لنا ربك على وجهين: أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. أو ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. وإما أن يكون قسما مجابا بلنؤمنن، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك إلى أجل هم بالغوه إلى حد من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله إذا هم ينكثون جواب لما، يعنى: فلما كشفناه عنهم فاجئوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا فانتقمنا منهم فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم. واليهم: البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه بأنهم كذبوا بآياتنا أى كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها.

(2/148)


وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (140)

[سورة الأعراف (7) : آية 137]
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137)
القوم الذين كانوا يستضعفون هو بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. والأرض:
أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاءوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق كلمت ربك الحسنى قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض إلى قوله ما كانوا يحذرون والحسنى: تأنيث الأحسن صفة للكلمة. ومعنى تمت على بنى إسرائيل: مضت عليهم واستمرت من قولك: تم على الأمر إذا مضى عليه بما صبروا بسبب صبرهم، وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله. وتلا الآية.
ومعنى خف: طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن رزانة أولى الصبر. وقرأ عاصم في رواية: وتمت كلمات ربك الحسنى. ونظيره من آيات ربه الكبرى. ما كان يصنع فرعون وقومه ما كانوا يعملون ويسوون من العمارات وبناء القصور وما كانوا يعرشون من الجنات هو الذي أنشأ جنات معروشات أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. كصرح هامان وغيره.
وقرئ: يعرشون، بالكسر والضم. وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح. وبلغني أنه قرأ بعض الناس. يغرسون، من غرس الأشجار. وما أحسبه إلا تصحيفا منه.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 140]
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (140)
وهذا آخر ما اختص الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بنى إسرائيل وما أحدثوه- بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر- من عبادة البقر وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك

(2/149)


وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (141)

من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه ظلوم كفار جهول كنود، إلا من عصمه الله وقليل من عبادي الشكور وليسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بنى إسرائيل بالمدينة. وروى أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه، فصاموه شكرا لله تعالى فأتوا على قوم فمروا عليهم يعكفون على أصنام لهم يواظبون على عبادتها ويلازمونها. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر: وذلك أول شأن العجل وقيل: كانوا قوما من لخم. وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم وقرئ: وجوزنا، بمعنى أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه وجاوزه بمعنى جازه، كقولك:
أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ: يعكفون، بضم الكاف وكسرها اجعل لنا إلها صنما نعكف عليه كما لهم آلهة أصنام يعكفون عليها. «وما» كافة للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها وعن على رضى الله عنه أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه. فقال: قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجف أقدامكم إنكم قوم تجهلون تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع إن هؤلاء يعنى عبدة تلك التماثيل متبر ما هم فيه مدمر مكسر ما هم فيه، من قولهم إناء متبر، إذا كان فضاضا «1» . ويقال لكسار الذهب: التبر، أى يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدى، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضا وباطل ما كانوا يعملون أى ما عملوا شيئا من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله كما قال تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وفي إيقاع هؤلاء اسما لإن، وتقديم خبر المبتدإ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا أغير الله أبغيكم إلها أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحدا غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره. ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم- مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله.

[سورة الأعراف (7) : آية 141]
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (141)
يسومونكم سوء العذاب يبغونكم شدة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت: ما محل
__________
(1) . قوله «فضاضا» أى فتاتا كالرضاض. أفاده الصحاح. (ع)

(2/150)


وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142) ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (143)

يسومونكم؟ قلت: هو استئناف لا محل له. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين أو من آل فرعون.
وذلكم اشارة إلى الإنجاء أو إلى العذاب. والبلاء: النعمة أو المحنة. وقرئ: يقتلون. بالتخفيف.

[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142)
وروى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذى القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يوما، وأن يعمل فيها بما يقربه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، وفصلها هاهنا. وميقات ربه ما وقته له من الوقت وضربه له. وأربعين ليلة نصب على الحال أى تم بالغا هذا العدد. وهارون عطف بيان لأخيه. وقرئ بالضم على النداء اخلفني في قومي كن خليفتي فيهم وأصلح وكن مصلحا. أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بنى إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.

[سورة الأعراف (7) : آية 143]
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (143)
لميقاتنا لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر وكلمه ربه من غير واسطة «1» كما يكلم
__________
(1) . قال محمود: «معناه كلمه من غير واسطة ... الخ» قال أحمد: وهذا تصريح منه يخلق الكلام، كما هو معتقد المعتزلة، والذي يخص به هذه الآية من وجره الرد عليه: أنها سيقت مساق الامتنان على موسى باصطفاء الله له وتخصيصه إياه بتكليمه، وكذلك قال تعالى بعد آيات منها إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين فلو كان تكليم الله له بمعنى خلق الحروف والأصوات في بعض الأجرام واستماع موسى لذلك، لكان كل أحد يساوى موسى عليه السلام في ذلك، بل كان آحاد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام آثر بهذه المزية وأحق بالخصوصية من موسى عليه السلام، لأنهم سمعوا الكلام على الوجه المذكور من أفضل الأجرام وأزكاها خلقا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مزيتهم أظهر وخصوصيتهم أوفر. ونحن نعلم ضرورة من سياق هذه الآية تمييز موسى عليه الصلاة والسلام بهذه المزية، فلا يحمل لذلك إلا اعتقاد أنه سمع الكلام القديم القائم بذات الله سبحانه وتعالى بلا واسطة دليل عليه من حروف ولا غيرها، وكما أجزنا من المعقول أن ترى ذات الباري سبحانه وتعالى وإن لم يكن جسما، فكذلك نجيز أن يسمع كلامه وإن لم يكن حرفا ولا صوتا.
والكلام في هذه العقيدة طويل، والشوط بطين. وهذه النكتة هي الخاصة بهذه الآية، والله الموفق.

(2/151)


الملك، وتكليمه: أن يخلق الكلام «1» منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح وروى: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كلمه أربعين يوما وأربعين ليلة، وكتب له الألواح. وقيل إنما كلمه في أول الأربعين أرني أنظر إليك ثانى مفعولي أرنى محذوف «2» أى أرنى نفسك أنظر إليك. فإن قلت:
__________
(1) . قوله «وتكليمه أن يخلق الكلام» هذا على مذهب المعتزلة: أن كلامه تعالى ألفاظ يخلقها الله في بعض الأجرام. أما على مذهب أهل السنة، فان كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته، فتكليمه لعبده أن يكشف له عنها، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «وقوله أرنى أنظر إليك محذوف المفعول الأول مذكور الثاني، والتقدير أرنى نفسك أنظر إليك ... الخ» قال أحمد: ما أشد ما اضطرب كلامه في هذه الآية، لأن غرضه أن يدحض الحق بالضلالة، ويشين بكفه وجه الغزالة، هيهات قد تبين الصبح لذي عينين، فالحق أبلج لا يمازجه ريب إلا عند ذى رين. أما حظ المعقول من إجازة رؤية الله تعالى فوظيفة علم الكلام، وأخصر وجه في إجادة ذلك: أن الوجود مصحح الرؤية، بدليل أن جواز الرؤية حكم يستدعي مصححا. وقد شمل الجواز الجوهر والعرض، ولا جامع بينهما يمكن جعله مصححا سوى الوجود، وإذا كان الوجود هو المصحح فقد صحت رؤيته تعالى لوجوده. وأما استبعاد أن يرى ما ليس في جهة فأمر وهمى مثله عرض للمعطلة فعميت بصائرهم، حتى أنكروا موجودا لا في جهة، ومن اتبع الأوهام اغتسق مهامه الضلال وهام، ولو كانت الرؤية تتوقف على جهة المرئي لكانت المعرفة تتوقف على جهة المعروف، ولا خلاف أنه سبحانه يعرف لا في جهة، فكذلك يرى لا في جهة، فالحق أن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه، لعلمه بجواز ذلك على الله تعالى، والقدرية يجبرهم الطمع ويجرؤهم حتى يروموا أن يجعلوا موسى عليه السلام كان على معتقدهم، وما هم حينئذ إلا ممن آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها «وأما قوله عليه السلام:
أتهلكنا بما فعل السفهاء منا تبريا من أفاعيلهم وتسفيها لهم وتضليلا لرأيهم، فلا راحة للقدرية في الاستشهاد به على إنكار موسى عليه السلام لجواز الرؤية، فان الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين ثم. وإن كان السبب طلبهم الرؤية، فليس لأنها غير جائزة على الله. ولكن لأن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا والخبر صدق، وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوا وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها، كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع ثم، ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها، فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة، وتوقيفهم الايمان عليها حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ألا ترى أن قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إنما سألوا فيه جائزا، ومع ذلك قرعوا به لاقتراحهم على الله مالا يتوقف وجوب الايمان عليه، فهذه المباحث الثلاثة توضح لك سوء نظر الزمخشري بعين الهوى وعمايته عن سبيل الهدى، والله الموفق.

(2/152)


الرؤية عين النظر، فكيف قيل: أرنى أنظر إليك؟ قلت: معنى أرنى نفسك، اجعلنى متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، فإن قلت: فكيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إلى، لقوله أنظر إليك؟ قلت: لما قال أرني بمعنى اجعلنى متمكنا من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطلبة هي الرؤية «1» لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل: لن تراني، ولم يقل لن تنظر إلى. فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك- وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصح فيما كان في جهة. وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة. ومنع المجبرة إحالته «2» في العقول غير لازم، لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال- حين أخذت الرجفة الذين قالوا أرنا الله جهرة- أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إلى قوله تضل بها من تشاء فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالا-؟ قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا. وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بد، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال:
رب أرني أنظر إليك. فإن قلت: فهلا قال: أرهم ينظروا إليك «3» ؟ قلت: لأن الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسماعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادة مبنية على قياس فاسد. فلذلك قال موسى:
__________
(1) . قوله «أن الطلبة هي الرؤية» في الصحاح «الطلبة» بكسر اللام: ما طلبته من شيء. (ع)
(2) . قوله «ومنع المجبرة إحالته» يعنى أهل السنة، حيث ذهبوا إلى جواز رؤيته تعالى ومنعوا اشتراط كون المرئي في جهة. قال تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة والجائز قد ينتفي في بعض الأوقات ويقع في بعض.
والحديث كما سيأتى «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» ومحل الكلام علم الكلام. (ع)
(3) . عاد كلامه. قال: فان قلت: هلا قال أرهم ينظروا إليك ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا الكلام الآخر من الطراز الأول، وأقرب شاهد على رده أنه لو كان طلب الرؤية لهم حتى إذا سمعوا منع الله تعالى لها أيقنوا أنها ممتنعة لكان طلبها عبثا غير مفيد لهذا الغرض، لأن هؤلاء لا يخلو أمرهم. إما أن يكونوا مؤمنين بموسى، أو كفارا به، فان كانوا مؤمنين به، فاخباره إياهم بأن الله تعالى لا يرى ولا يجوز عليه ذلك، كان في حصول المقصود من غير حاجة إلى أن يسأل موسى عليه السلام من الله أن ير به ذاته، على علم بأن ذلك محال. وإن كانوا كفارا بموسى عليه السلام فلا يحصل الغرض من ذلك أيضا، لأن الله تعالى إذا منعه مسؤله من الرؤية، فإنما يثبت ذلك لهم بقول موسى عن الله تعالى أنه منعه ذلك، وهم كفار بموسى عليه السلام، فكيف يفيدهم غيره عن الله بامتناع ذلك؟ فهذا أوضح مصداق، لأن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه اعتقادا لجوازها على الله تعالى، فأخبره الله أن ذلك لا يقع في الدنيا وإن كان جائزا.

(2/153)


أرنى أنظر إليك، ولأنه إذا زجر عما طلب، وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له: لن يكون ذلك: كان غيره أولى بالإنكار، ولأن الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعا إليهم. وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة «1» التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم، وجل صاحب الجمل أن يجعل الله منظورا إليه، مقابلا بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبى الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين؟ فإن قلت: ما معنى لن؟ قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» «2» وذلك أن «لا» تنفى المستقبل. تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدا. والمعنى: أن فعله ينافي حالى، كقوله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له فقوله لا تدركه الأبصار نفى للرؤية فيما يستقبل. ولن تراني تأكيد وبيان، لأن المنفي مناف لصفاته. فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله ولكن انظر إلى الجبل بما قبله؟ قلت: اتصل به على معنى أن النظر إلى محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر: وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عز وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد «3» إليه في قوله وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا. فإن استقر مكانه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: و «قوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة ... الخ» قال أحمد: ودعواه أن النظر يستلزم الجسمية قد سلف ردها. وأما تنزيهه موسى عليه السلام بنسبة اعتقاد استحالة الرؤية إليه فهو غنى عنه.
وأما إقناعه في تفصيله برجحانه عليه السلام في العلم بالله وبصفاته على واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبى الهذيل والشيخين، فهو نقص عن منصبه العلى، وأقل العوام المقلدين لأهل السنة، راجح عند الله على أصحاب البدع والأهواء، وإن ملؤوا الأرض نفاقا، وشحنوا مصنفاتهم عنادا لأهل السنة وشقاقا، فكيف بكليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى لن؟ قلت تأكيد النفي الذي تعطيه لا ... الخ» قال أحمد. «لن» كما قال تشارك «لا» في النفي وتمتاز بمزية تأكيده. وأما استنباط الزمخشري من ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عز وجل، ثم إطلاق الحال على الله تعالى مما يستحرز عنه، واستشهاده على أن «لن» تشعر باستحالة المنفي بها عقلا، مردود كثيرا بكثير من الآي، كقوله تعالى فقل لن تخرجوا معي أبدا فذلك لا يحيل خروجهم عقلا، ولن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، لن تتبعونا. فهذه كلها جائزات عقلا، لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «ثم حقق تعالى عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد ... الخ» قال أحمد: نسبة جواز الرؤية إلى الله تعالى عند الزمخشري كنسبة الولد إليه، وهذا مفرع على المعتقد السالف بطلانه، وليس له في هذا الفصل وظيفة إلا تتبع الشبه لامتناع الرؤية، تلقفها من كل فج. والحق أن دك الجبل إنما كان لأن الله عز وجل أظهر له آية من ملكوت السماء. ولا تستقر الدنيا لإظهار شيء من ملكوت السماء. وهذا هو المأثور عن السلف في هذه الآية. ومعناه عند أبى الحسن رحمه الله فعل فعلا سماه تجليا، وكان الغضب إما لأنهم طلبوا رؤية جسمانية في جهة، وإما لأنهم كتموا الخبر. بأنه لا يرى في الدنيا، وإما لأنهم كفروا بالاقتراح أو بالمجموع.

(2/154)


كما كان مستقرا ثابتا ذاهبا «1» في جهاته فسوف تراني تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض، وهذا كلام مدمج بعضه في بعض، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع. ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعنى قوله فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جعله دكا أى مدكوكا مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير. والدك والدق أخوان، كالشك والشق. وقرئ دكاء. والدكاء: اسم للرابية الناشزة من الأرض، كالدكة أو أرضا دكاء مستوية. ومنه قولهم: ناقة دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي: قال لي الربيع بن خثيم: ابسط يدك دكاء، أى مدها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب: دكا، أى قطعا دكا جمع دكاء وخر موسى صعقا من هول ما رأى. وصعق من باب: فعلته ففعل. يقال صعقته فصعق. وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة، من صقعه إذا ضربه على رأسه ومعناه: خر مغشيا عليه غشية كالموت، وروى أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه «2» فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة؟ فلما أفاق من صعقته قال سبحانك أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها تبت إليك من طلب الرؤية وأنا أول المؤمنين بأنك لست بمرئى ولا مدرك بشيء من الحواس. فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فمم تاب «3» ؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «ومعنى فان استقر مكانه: فان ثبت كما كان ذاهبا ... الخ» قال أحمد: وهذا من حيل القدرية في إحالة الرؤية يقولون: قد علقها الله على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكه، والمعلق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة، فان المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار، وذلك ممكن جائز، وتعلق العلم بأنه لا يستقر له، لا يرفع إمكان استقراره، وتعلق العلم لا يغير المعلوم ولا ينقل حكمه من إمكان إلى امتناع ولا العكس. وحينئذ يتوجه دليلا لأهل السنة فنقول: استقرار الجبل ممكن، وقد علق عليه وقوع الرؤية، والمعلق على الممكن ممكن، والمعتزلة يعتقدون أن خلاف المعلوم لا يجوز أن يكون مقدورا ونحن نقول مقدور، ولكن ما تعلقت المشيئة بإيجاده. وقولنا أقعد بالآداب، وأسعد بالإجلال في الخطاب.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومعنى وخر موسى صعقا: وخر مغشيا عليه غشية كالموت وروى أن الملائكة مرت عليه ... الخ» قال أحمد، وهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهرا على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى كليم الله بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب.
(3) . عاد كلامه. قال: «فان قلت إن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ... الخ» ؟ قال أحمد:
أما دك الجبل، فقد سلف الكلام على سره. وأما تسبيح موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزها مبرا من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية عن الاذن كان أكمل. وقد ورد: سيئات المقربين حسنات الأبرار.

(2/155)


كان لغرض صحيح على لسانه، من غير إذن فيه من الله تعالى، فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكا، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان «1» ذلك مبالغة في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئا إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال أنا أول المؤمنين، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة «2» كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا. ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم! والقول ما قال بعض العدلية «3» فيهم:
لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه «4»
وتفسير آخر: وهو أن يريد بقوله أرني أنظر إليك عرفنى نفسك تعريفا واضحا جليا، كأنها إرادة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك أنظر إليك أعرفك معرفة اضطرار، كأنى أنظر إليك، كما جاء في الحديث «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» «5»
__________
(1) . قوله «ولم يخل كليمه من نفيان ذلك» قوله «نفيان» هو ما يتطاير من قطر المطر، وقطر الدلو، ومن الرمل عند الوطء، ومن الصوف عند النفش، ونحو ذلك. كذا في شرح المعلقات العلامة الزوزنى. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد انتقل الزمخشري في هذا الفصل إلى ما تسمعه من هجاء أهل السنة. ولولا الاستناد بحسان بن ثابت الأنصارى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم فنقول:
وجماعة كفروا برؤية ربهم ... حقا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهمو سفه
وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
(3) . قوله «والقول من قال بعض العدلية» غفر الله للمصنف ما لوث به لسانه وقلبه في ذكر هذه الأبيات. (ع)
(4) . الزمخشري في أهل السنة، أى هم جماعة سموا هوى أنفسهم سنة، ولكن من عرف أن مستند المعتزلة العقل، ومستند الجماعة النقل عرف الهوى من الهدى. وحمر أى كالحمر. موكفة: أى موضوع عليها الاكاف، مبالغة في التشبيه.
قد شبهوه: أى الله عز وجل بخلقه حيث قالوا: إنه يرى بالعين، فخافوا تشنيع الناس عليهم فتستروا بقولهم: إنه يرى بلا كيف. فالبلكفة منحوتة من ذلك.
(5) . متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر- الحديث» وللبخاري من رواية «إنكم سترون ربكم عيانا» واتفقا عليه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة بمعناه.

(2/156)


قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (144) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (147)

بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى قال لن تراني أى لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل، فإنى أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقر مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطبيقها، فلما تجلى ربه للجبل فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته جعله دكا وخر موسى صعقا لعظم ما رأى فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك مما اقترحت وتجاسرت وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك، وأن شيئا لا يقوم لبطشك وبأسك.

[سورة الأعراف (7) : آية 144]
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (144)
اصطفيتك على الناس اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم برسالاتي وهي أسفار التوراة وبكلامي وبتكليمى إياك فخذ ما آتيتك ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة وكن من الشاكرين على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خر موسى صعقا يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم النحر. فإن قلت: كيف قيل: اصطفيتك على الناس وكان هرون مصطفى مثله ونبيا؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعا له وردآ ووزيرا. والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 145 الى 147]
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (147)
ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة. وقيل: لوحين، وأنها

(2/157)


كانت من زمرد جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل: من زبر جدة خضراء وياقوتة حمراء. وقيل:
أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له، فقطعها بيده وشقها بأصابعه. وعن الحسن:
كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع. وقوله من كل شيء في محل النصب مفعول كتبنا. وموعظة وتفصيلا بدل منه. والمعنى: كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزإ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل: كتب في الألواح: إنى أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بى شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين فخذها فقلنا له: خذها، عطفا على كتبنا. ويجوز أن يكون بدلا من قوله فخذ ما آتيتك والضمير في فخذها للألواح، أو لكل شيء، لأنه في معنى الأشياء، أو الرسالات، أو للتوراة. ومعنى بقوة بجد وعزيمة فعل أولى العزم من الرسل يأخذوا بأحسنها
أى فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص، والعفو، والانتصار، والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد: يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك: الصيف أحر من الشتاء سأريكم دار الفاسقين يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممركم عليها في أسفاركم. وقيل: دار الفاسقين: نار جهنم. وقرأ الحسن: سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أورنى كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه. وقرئ: سأورثكم، وهي قراءة حسنة يصححها قوله وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون. سأصرف عن آياتي بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهما كا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم. وعن الفضيل بن عياض: ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عظمت أمتى الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حرمت بركة الوحى «1» . وقيل: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون
__________
(1) . لم أجده من هذا الوجه. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادره من حديث أبى هريرة مثله، وزاد «وإذا تسابت أمتى سقطت من أعين الناس» ذكره في الخامس والسبعين يعد المائة، وفي إسناده البختري بن عبيد.
وهو ضعيف.

(2/158)


واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (149)

أن يبطل آية موسى، بأن جمع لها السحرة، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل. ويجوز:
سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها. وتسميتها سحرا بإهلاكهم. وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم بغير الحق فيه وجهان: أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحق لله وحده. وأن يكون صلة لفعل التكبر، أى يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وإن يروا كل آية من الآيات المنزلة عليهم لا يؤمنوا بها وقرأ مالك بن دينار: وإن يروا بضم الياء. وقرئ: سبيل الرشد والرشد والرشاد، كقولهم: السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقا مستقيما أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفا مرديا أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه ذلك في محل الرفع أو النصب على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه. ولقاء الآخرة يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أى ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الآخرة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (149)
من بعده من بعد فراقه إياهم إلى الطور. فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلا، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني: أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. وقرئ من حليهم بضم الحاء والتشديد، جمع حلى، كثدي وثدى، ومن حليهم- بالكسر- للإتباع كدلى. ومن حليهم، على التوحيد. والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. فإن قلت: لم قال: من حليهم، ولم يكن الحلى لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت:
الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عز وعلا فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل، جسدا بدنا ذا لحم ودم كسائر

(2/159)


ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151)

الأجساد. والخوار: صوت البقر، قال الحسن: إن السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في في العجل، فكان عجلا له خوار. وقرأ على رضى الله عنه. جؤار، بالجيم والهمزة، من جأر إذا صاح. وانتصاب جسدا على البدل من عجلا ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقال اتخذوه أى أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر وكانوا ظالمين واضعين كل شيء في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم، ولا أول مناكيرهم ولما سقط في أيديهم ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها. وسقط مسند إلى في أيديهم وهو من باب الكناية. وقرأ أبو السميقع: سقط في أيديهم، على تسمية الفاعل، أى وقع العض فيها. وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أى في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالا أن يكون في اليد، تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ورأوا أنهم قد ضلوا وتبينوا ضلالهم تبينا كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا، بالتاء. وربنا، بالنصب على النداء، وهذا كلام التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام: وإن لم تغفر لنا وترحمنا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151)
الأسف: الشديد الغضب فلما آسفونا انتقمنا منهم وقيل: هو الحزين خلفتموني قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجوه بنى إسرائيل وهم هرون عليه السلام والمؤمنون منه. ويدل عليه قوله اخلفني في قومي والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد

(2/160)


غير الله. فان قلت: أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت: الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني. والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم. فإن قلت: أى معنى لقوله من بعدي بعد قوله خلفتموني؟ قلت: معناه من بعد ما رأيتم منى، من توحيد الله، ونفى الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو من بعد ما كنت أحمل بنى إسرائيل على التوحيد، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه. ونحوه فخلف من بعدهم خلف أى من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته، فيقال عجلت الأمر، والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتم أنفسكم بموتى، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروى أن السامري قال لهم- حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى-: إن موسى لن يرجع، وإنه قد مات وروى أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا وألقى الألواح وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديدا شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا ولذلك كان أحب إلى بنى إسرائيل من موسى. وروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة وأخذ برأس أخيه أى بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته، وذلك لشدة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه فرط في الكف ابن أم قرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة. وابن أمى، بالياء. وابن إم، بكسر الهمزة والميم. وقيل: كان أخاه لأبيه وأمه، فإن صح فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطن واحد. وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها إن القوم استضعفوني يعنى أنه لم يأل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار. وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه فلا تشمت بي الأعداء فلا تفعل بى ما هو أمنيتهم من الاستهانة بى والإساءة إلى، وقرئ. فلا يشمت بى الأعداء، على نهى الأعداء عن الشماتة. والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله ولا تجعلني مع القوم الظالمين ولا تجعلني في موجدتك على وعقوبتك لي قرينا لهم

(2/161)


إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153)

وصاحبا. أو ولا تعتقد أنى واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قال رب اغفر لي ولأخي ليرضى أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة. وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.

[سورة الأعراف (7) : آية 152]
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152)
غضب من ربهم وذلة الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم. والذلة: خروجهم من ديارهم لأن ذل الغربة مثل مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية المفترين المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى. ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد: سينالهم غضب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.

[سورة الأعراف (7) : آية 153]
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153)
والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي كلها ثم تابوا ثم رجعوا من بعدها إلى الله واعتذروا إليه وآمنوا وأخلصوا الإيمان إن ربك من بعدها من بعد تلك العظائم لغفور لستور عليهم محاء لما كان منهم رحيم منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظم جنايتهم «1» أولا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل، ولكن لا بد من حفظ الشريطة: وهي وجوب التوبة «2» والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة «3» ، لا يلتفت إليها حازم.
__________
(1) . قال محمود: «عظم جناية متخذي العجل أولا، ثم أردفها بحكم عام ... الخ» قال أحمد: يعرض بوجوب وعيد الفساق وأن مغفرة الذنب بدون التوبة منه من المحال الممتنع، وقد تقدم عد ذلك من الأهواء والبدع، بل الحق أن المغفرة لما عدا الشرك موكوله إلى المشيئة، غير ممتنعة عقلا، ثم واقعة نقلا، والله الموفق.
(2) . قوله: «من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة» مذهب المعتزلة أن الكبيرة لا تغفر إلا بالتوبة. ومذهب أهل السنة أنها قد تغفر بمجرد الفضل. (ع)
(3) . قوله «وأشعبية باردة» خصلة منسوبة إلى أشعب، وهو رجل كان طماعا. ويضرب به المثل في الطمع، كما في الصحاح. (ع)

(2/162)


ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154) واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)

[سورة الأعراف (7) : آية 154]
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154)
ولما سكت عن موسى الغضب هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه «1» على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: ولما سكن عن موسى الغضب، لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة. وقرئ: ولما سكت. وأسكت:
أى أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه أخذ الألواح التي ألقاها وفي نسختها وفيما نسخ منها، أى كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة لربهم يرهبون دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا. ونحوه للرءيا تعبرون وتقول: لك ضربت.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157]
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)
__________
(1) . قال محمود: «هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك ... الخ» قال أحمد: وهو من النمط الذي قدمته من قلب الحقيقة إلى المجاز، وكان الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، ولذلك عده بعض أهل العربية من المقلوب، وسلكه في نمط خرق الثوب المسمار. والتحقيق أنه ليس منه وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لأنه بماله على معنى بليغ وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى حتى كان كأنه يصرفه في أوامره، وكل ما وقع منه حينئذ فعن الغضب صادر، حتى كأنه هو الذي أمره به. ومثل هذه النكتة الحسناء لا تلفى في خرق الثوب المسمار، بل هي موجودة في قوله تعالى حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق على خلاف قراءة نافع. وقد تقدم ذلك آنفا، والله الموفق.

(2/163)


واختار موسى قومه أى من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:
ومنا الذى اختير الرجال سماحة «1»
قيل اختار من اثنى عشر سبطا، من كل سبط ستة حتى تناموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يصب إلا ستين شيخنا، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بنى إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الرد والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة قال موسى رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكنى قبل هذا أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعنى أتهلكنا جميعا. يعنى نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء، وهم طلبوها سفها وجهلا إن هي إلا فتنتك أى محنتك وابتلاؤك حين كلمتنى وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا، حتى افتتنوا وضلوا تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدى العالمين
__________
(1) .
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هب الرياح الزعازع
المعنى: ومنا الذي اختاره الناس من بين الرجال، فالرجال نصب على نزع الخافض. وسماحة: تمييز لبيان جهة الاختيار. ووجودا عطف عليه، إذا هب الرياح، كناية عن دخول الشتاء، فتهيج الرياح الزعازع، أى الشديدة المحركة للأشياء، وإذا جاد زمن انقطاع الميرة، فكيف بالصيف.

(2/164)


بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سببا «1» لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أنت ولينا مولانا القائم بأمورنا واكتب لنا وأثبت لنا واقسم في هذه الدنيا حسنة عافية وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة وفي الآخرة الجنة هدنا إليك تبنا إليك. وهاد اليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:
يا راكب الذنب هدهد ... واسجد كأنك هدهد «2»
وقرأ أبو وجرة السعدي: هدنا إليك، بكسر الهاء، من هاده يهيده إذا حركه وأماله. ويحتمل أمرين، ان يكون مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حركنا إليك وأملنا على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة. ويجوز: عدت بالإشمام.
وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون هدنا بالضم فعلنا من هاده يهيده عذابي من حاله وصفته أنى أصيب به من أشاء أى من وجب على في الحكمة «3» تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن: من أساء، من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكافرون بشيء منها الذين يتبعون الرسول الذي نوحى إليه كتابا مختصا به وهو القرآن النبي صاحب المعجزات الذي يجدونه يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بنى إسرائيل مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل...... ويحل لهم الطيبات ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت ويحرم عليهم الخبائث ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله
__________
(1) . قوله «لأن محنته لما كانت سببا» صرف الكلام عن ظاهره، لأنه تعالى لا يخلق الشر عندهم. أما على مذهب أهل السنة فلا حاجة إلى ذلك. (ع)
(2) . للزمخشري، شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب. وهاد يهود، إذا تاب ورجع. وهد: أمر منه، وكرر للتوكيد. ثم قال: واسجد كأنك هدهد، فشبهه به لكثرة ما يطرق برأسه إلى الأرض لا في السرعة، فالمعنى: اسجد كثيرا.
(3) . قوله «أى من وجب على في الحكمة» هذا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فلا يجب على الله تعالى عندهم شيء. (ع)

(2/165)


قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)

وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم. وكذلك الأغلال، مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب.
وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ آصارهم، على الجمع وعزروه ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر: المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحد، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسمية الحد، والحد هو المنع. والنور القرآن. فإن قلت: ما معنى قوله أنزل معه وإنما أنزل مع جبريل؟
قلت: معناه أنزل مع نبوته، لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أى: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه.
أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه. فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبنى إسرائيل، أجيب بما هو منطو على توبيخ بنى إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرض بذلك في قوله والذين هم بآياتنا يؤمنون وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين، لطفا لهم وترغيبا في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله «1» التي وسعت كل شيء.

[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)
إني رسول الله إليكم جميعا قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن. وجميعا: نصب على الحال من إليكم. فإن قلت: الذي له ملك السماوات والأرض ما محله؟ قلت: الأحسن أن يكون منتصبا بإضمار أعنى، وهو الذي يسمى النصب على المدح. ويجوز أن يكون جرا على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم. إليكم جميعا وقوله لا إله إلا هو بدل من الصلة التي هي له ملك
__________
(1) . قوله «عن رحمة الله» لعله «في رحمة الله» . أو ضمن التفريق معنى الابعاد، فعدى بعن. (ع) [.....]

(2/166)


ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159)

السموات والأرض، وكذلك يحيي ويميت وفي لا إله إلا هو بيان للجملة قبلها، لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة. وفي يحيى ويميت: بيان لاختصاصه بالإلهية، لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره وكلماته وما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ وكلمته على الإفراد وهي القرآن. أو أراد جنس ما كلم به. وعن مجاهد: أراد عيسى ابن مريم.
وقيل: هي الكلمة التي تكون منها عيسى وجميع خلقه، وهي قوله كن وإنما قيل إن عيسى كلمة الله، فخص بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى لعلكم تهتدون إرادة أن تهتدوا. فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبى، بعد قوله: إنى رسول الله إليكم؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجرى عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمى الذي يؤمن بالله وكلماته، كائنا من كان، أنا أو غيرى، إظهارا للنصفة وتفاديا من العصبية لنفسه.

[سورة الأعراف (7) : آية 159]
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159)
ومن قوم موسى أمة هم المؤمنون التائبون من بنى إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم. وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون. أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم. وقيل: إن بنى إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثنى عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الاسراء نحوهم، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمى، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه منى السلام فرد محمد على موسى عليهما السلام السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. وعن مسروق. قرئ: بين يدي عبد الله فقال رجل: إنى منهم. فقال عبد الله: يعنى لمن كان في مجلسه من المؤمنين: وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئا من يهدى بالحق وبه يعدل. وقيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين.

(2/167)


وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160)

وهذا من باب الفرض والتقدير وإلا فقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق، وتغلغل في كل نفق، ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بر ولا بحر في مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائلهم عنه يوم القيامة.

[سورة الأعراف (7) : آية 160]
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160)
وقطعناهم وصيرناهم قطعا، أى فرقا وميزنا بعضهم من بعض لقلة الألفة بينهم. وقرئ وقطعناهم بالتخفيف اثنتي عشرة أسباطا كقولك اثنتي عشرة قبيلة. والأسباط: أولاد الولد، جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثنى عشر ولدا من ولد يعقوب عليه السلام. فإن قلت:
مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعا؟ وهلا قيل: اثنى عشر سبطا؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا لأن المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطا موضع قبيلة. ونظيره:
بين رماحى مالك ونهشل «1»
__________
(1) .
تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
في حبة حرف وحمض هيكل ... مستأسد ذبانه في عيطل
يقلن للرائد أعشبت انزل لأبى النجم، يصف رمكة باعتيادها الحروب واقتحامها المكاره من أول أمرها. يقال: تبقلت الغنم وغيرها: رعت البقل وهو النبات الرطب. شبه اقتحام تلك الفرس للحروب من صغرها حتى اعتادتها برعي الدابة للكلأ واعتيادها عليه، يجامع التمرن والاعتياد والسهولة، بل والاستلذاذ، ثم استعار التبقل لذلك على طريق التصريحية، وبلغ في ذلك حيث أسند الفعل إليها، كأنه لا دخل له فيه. ويروى: من أول التبقل، بين رماحى مالك ونهشل: أى بين رماح مالك بن ضبعة ورماح نهشل بن دارم من أمراء العرب، فثنى الرماح دلالة على التنويع والتمايز. وقال أبو حنيفة: الحبة بالكسر اليبس المنكسر المتراكم. وقال الأزهرى: هي البذور الساقطة مع الأوراق في آخر الصيف والحرن: اليابسة الدقيقة. والحمض نوع من النبات. والهيكل: الطويل الضخم. والمستأسد: الطويل الغليظ أيضا.
وذبان جمع ذباب، كغربان وغراب. والعيطل- بالعين المهملة-: الأصوات المختلطة. والرائد: هو الذي يتقدم القوم لطلب الخصب. يقلن، أى الذبان. وأعشب الرجل: وجد العشب، وصف النبات بالكثرة والالتفاف حتى كثر ذبابه وصارت له أصوات مختلطة، فكان يدعو الرائد ويحمله على النزول في هذا المكان عند سماع صوته، فاستعار القول لذلك على سبيل التصريح. وروى: مستأسد أذنابه في عيطل. تقول للرائد، فالأذناب جمع ذنب، أى أطرافه تصوت بالريح بقول ذلك النبات والمجاز كما تقدم. هذا، وحق الرواية: بين رماكى مالك ونهشل.
والرمكة: الأنثى من البراذين والخيل، وجمعها رماك وأرماك ورمكات، كثمرة وثمار وأثمار وثمرات. يصف فرسه بأنها رعت البقل حقيقة مع تلك الخيول والبراذين، فلا مجاز هنا.

(2/168)


وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162)

وأمما بدل من اثنتي عشرة. بمعنى: وقطعناهم أمما لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ اثنتي عشرة بكسر الشين فانبجست فانفجرت. والمعنى واحد، وهو الانفتاح بسعة وكثرة: قال العجاج:
وكيف غربي دالج تبجسا «1»
فإن قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الإلباس، وليجعل الانبجاس مسببا عن الإيحاء بضرب الحجر للدلالة على أن الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. من قوله كل أناس نظير قوله: اثنتي عشرة أسباطا، يريد كل أمة من تلك الأمم الثنتى عشرة. والأناس، اسم جمع غير تكسير، نحو. رخال وتناء وتوام «2» وأخوات لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسرة والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في نحو. سكارى وغيارى «3» من الفتحة وظللنا عليهم الغمام وجعلناه ظليلا عليهم في التيه، وكلوا على إرادة القول وما ظلمونا وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162)
__________
(1) .
وانحلبت عيناه من فرط الأسى ... وكيف غربي دالج تبجسا
فرط الاسى: شدة الحزن. والوكيف: مصدر نصب بانحلبت، لأن معناه: وكفت. والغرب: الدلو العظيم.
والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والتبجس. اتساع الانفجار. يقول: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن، كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض تفجرا بسعة. وفيه تشبيه العينين بالغربين.
(2) . قوله: «نحو رخال وتناء وتؤام» رخال: هي الإناث من أولاد الضأن. والتناء: القاطنون بالبلد.
والتؤام- بالمد- واحدة توأم، وزان كوكب. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله: «نحو سكارى وغيارى» غار الرجل على أهله فهو غيور. وجمعه غير وغيران. وجمعه غيارى وغيارى، كذا في الصحاح. (ع)

(2/169)


واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166)

وإذ قيل لهم واذكر إذ قيل لهم. والقرية: بيت المقدس. فإن قلت: كيف اختلفت العبارة هاهنا وفي سوره البقرة؟ قلت: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله، اسكنوا هذه القرية وكلوا منها، وبين قوله فكلوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها. وسواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته، وقوله نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين موعد بشيئين: بالغفران، وبالزيادة، وطرح الواو لا يخل بذلك، لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفران؟ فقيل له: سنزيد المحسنين، وكذلك زيادة منهم زيادة بيان، وأرسلنا، وأنزلنا. ويظلمون ويفسقون من واد واحد. وقرئ: يغفر لكم خطيئاتكم، وتغفر لكم خطاياكم. وخطيئاتكم، وخطيئتكم، على البناء للمفعول.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166)
وسئلهم وسل اليهود. وقرئ: واسألهم. وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحى، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحى. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك: أعدوتم في السبت؟ والقربة أيلة. وقيل: مدين. وقيل: طبرية. والعرب تسمى المدينة قرية. وعن أبى عمرو بن العلاء. ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعنى رجلين من أهل المدن حاضرة البحر قريبة منه راكبة لشاطئه إذ يعدون في السبت إذ يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ: يعدون بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويعدون من الإعداد، وكانوا

(2/170)


يعدون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. والسبت:
مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه: يعدون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله يوم سبتهم معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. ويدل عليه قوله ويوم لا يسبتون قراءة عمر بن عبد العزيز: يوم إسباتهم. وقرئ: لا يسبتون، بضم الباء.
وقرأ على: لا يسبتون بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن: لا يسبتون على البناء للمفعول، أى لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا، فإن قلت: إذ يعدون، وإذ تأتيهم، ما محلهما من الإعراب؟ قلت: أما الأول فمجرور بدل من القرية، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوبا بكانت، أو بحاضرة. وأما الثاني فمنصوب بيعدون. ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل. والحيتان السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شرعا ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا كذلك نبلوهم أى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وإذ قالت معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب أمة منهم جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أى مخترمهم ومطهر الأرض منهم أو معذبهم عذابا شديدا لتماديهم في الشر. وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم قالوا معذرة إلى ربكم أى موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا نسب في النهى عن المنكر إلى بعض التفريط ولعلهم يتقون ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ معذرة بالنصب، أى وعظناهم معذرة إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرة فلما نسوا يعنى أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين الراكبين للمنكر. فإن قلت: الأمة الذين قالوا لم تعظون من أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين؟ قلت:
من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين. وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهى لا يؤثر فيه، سقط عنه النهى. وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث. ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر «1» والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه،
__________
(1) . قوله «على المآصر» المآصر هي المحابس، من أصره الله حبسه. كذا في الصحاح. (ع)

(2/171)


كان ذلك عبثا منك، ولم يكن إلا سببا للتلهى بك. وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله فلعلك باخع نفسك وقيل: الأمة هم الموعوظون، لما وعظوا قالوا للواعظين: لم تعظون منا قوما تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم؟ وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: لم تعظون قوما؟ قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا، لم تعظون قوما الله مهلكهم، فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا. وعن الحسن:
نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان. وروى أن اليهود أمروا باليوم الذين أمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا يوم السبت، فابتلوا به وحرم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يستبون لا تأتيهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها. وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له: إنى أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، فصار أهل القرية أثلاثا، ثلث نهوا وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة. فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب. ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتى نسيبه فيشم ثيابه ويبكى، فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير. وعن الحسن: أكلوا والله أو خم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وايم الله، ماحوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعدا، والساعة أدعى وأمر بئيس شديد. يقال: بؤس يبؤس بأسا، إذا اشتد، فهو بئيس. وقرئ: بئس، بوزن حذر. وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء، كما يقال: كبد في كبد. وبيس على قلب الهمزة ياء، كذيب في ذئب، وبيئس على فيعل، بكسر الهمزة وفتحها. وبيس، بوزن ريس، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها،

(2/172)


وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167) وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168) فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169)

وبيس على تخفيف بيس، كهين في هين. وبائس على فاعل فلما عتوا عن ما نهوا عنه فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله وعتوا عن أمر ربهم، قلنا لهم كونوا قردة عبارة عن مسخهم قردة، كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والمعنى: أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل: فلما عتوا، تكرير لقوله فلما نسوا والعذاب البئيس: هو المسخ.

[سورة الأعراف (7) : آية 167]
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167)
تأذن ربك عزم ربك، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، لأن العازم على الأمر يحدث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله ليبعثن والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثن على اليهود إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطن عليهم، كقوله: بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 169]
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168) فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169)
وقطعناهم في الأرض أمما وفرقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم منهم الصالحون الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين ومنهم دون ذلك ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت: ما محل دون ذلك؟ قلت:
الرفع، وهو صفة لموصوف محذوف، معناه: ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه وما منا إلا له مقام معلوم بمعنى: وما منا أحد إلا له مقام وبلوناهم بالحسنات والسيئات بالنعم والنقم لعلهم ينتهون فينيبون فخلف من بعد المذكورين خلف وهم الذين كانوا في زمن رسول الله

(2/173)


والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)

صلى الله عليه وسلم ورثوا الكتاب التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرءونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها يأخذون عرض هذا الأدنى أى حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله هذا الأدنى تخسيس وتحقير. والأدنى: إما من الدنو بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة ويقولون سيغفر لنا لا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وفاعل سيغفر الجار والمجرور، وهو لنا ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه الواو للحال، أى يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصر لا غفران له ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب يعنى قوله في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ودرسوا ما فيه في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة «1» هو مذهب اليهود بعينه كما ترى. وعن مالك بن دينار رحمه الله، يأتى على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئا، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية. والدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس للذين يتقون الرشا ومحارم الله. وقرئ: ورثوا الكتاب. وألا تقولوا، بالتاء. وادارسوا، بمعنى تدارسوا. وأفلا تعقلون، بالياء والتاء. فإن قلت: ما موقع قوله أن لا يقولوا على الله إلا الحق؟ قلت: هو عطف بيان لميثاق الكتاب. ومعنى ميثاق الكتاب. الميثاق المذكور في الكتاب. وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله.
وتقول عليه ما ليس بحق. وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولا له. ومعناه: لئلا يقولوا. ويجوز أن تكون إن مفسرة، ولا يقولوا نهيا، كأنه قيل: ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ فإن قلت: علام عطف قوله ودرسوا ما فيه؟ قلت: على ألم يؤخذ عليهم لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.

[سورة الأعراف (7) : آية 170]
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)
والذين يمسكون بالكتاب فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لأن المصلحين في معنى الذين يمسكون
__________
(1) . قوله «في غفران الذنوب والذي عليه المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم تجويز المغفرة بمجرد الفضل، لا الطمع فيها مع الإصرار على المعصية. (ع)

(2/174)


وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171)

بالكتاب، كقوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا والثاني:
أن يكون مجرورا عطفا على الذين يتقون، ويكون قوله إنا لا نضيع اعتراضا. وقرئ:
يمسكون، بالتشديد. وتنصره قراءة أبى. والذين مسكوا بالكتاب. فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهارا لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه. والذين استمسكوا بالكتاب.

[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171)
وإذ نتقنا الجبل فوقهم قلعناه ورفعناه، كقوله: ورفعنا فوقهم الطور. ومنه: نتق السقاء، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أهل عليه إذا أشرف وظنوا أنه واقع بهم وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا.
أن يقبلوا أحكام التوراة. لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ. وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله. لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه «1» خذوا ما آتيناكم على إرادة القول. أى: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي ولا تنسوه.
أو واذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه، كقوله إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا. واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار لعلكم تتقون ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود: وتذكروا. وقرئ: واذكروا، بمعنى. وتذكروا.
__________
(1) . قوله «وأنغض لها رأسه» أى حرك رأسه كالمتعجب. أفاده الصحاح. (ع)

(2/175)


وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)
من ظهورهم بدل من بنى آدم بدل البعض من الكل. ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم:
إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وقوله ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا من باب التمثيل والتخييل «1» ! ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب.
ونظيره قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقوله:
إذ قالت الأنساع للبطن الحق «2»
قالت له ريح الصبا قرقار «3»
__________
(1) . قال محمود: «هذا من باب التمثيل والتخييل ... الخ» قال أحمد: إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به. وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى فمردود، ولم يرد به سمع، وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة. ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، فلذلك أقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالا. وأما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله أعلم بذلك.
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 181 فراجعه هناك إن شئت اه مصححه.
(3) .
قالت له ريح الصبا قرقار ... واختلط المعروف بالإنكار
لأبى النجم العجلى. و «قرقار» اسم فعل بمعنى قرقر: أمر للسحاب لتنزيله منزلة العاقل، أى: صوت بالرعد.
هذا قول سيبويه. وقال المبرد تبعا للمازنى: هو حكاية صوت الرعد، وهو على كل مبنى على الكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، لكنه على الأول متحمل للضمير، فهو مركب. وعلى الثاني: لا ضمير فيه، فهو مفرد، لكن فيه أن حكاية الأصوات لا تفيد حثا ولا زجرا. وهنا يفيد الحث لقرينة المقام ولا فعل لها، وهذا له فعل. يقال: قرقرت الدجاجة إذا صوتت، إلا أن يقال إن المعنى: صوت يا رعد قرقار. وقولهم. قرقرت الدجاجة، مأخوذ من قرقار، كما أخذوا العياط من عيط بكسرتين بينهما سكون، حكاية لصوت المتلاعبين. واختلط يحتمل أنه أمر وهو أنسب بما قبله. ويحتمل أنه ماض. والمراد بالإنكار المنكر، ولا قول للريح. وإنما شبهها حيث تسوق السحاب بمن يصح منه القول، على طريق المكنية والقول تخييل. ويجوز أن يستعار القول لصوب السحاب، على طريق التصريح. ويجوز أنه من باب الكناية. وعلى هذا النحو قوله في ناقة صالح: فأتاها أحيمر كأخى السهم بغضب، فقال كوني عقيرا. وصرف الممنوع الضرورة. وأضاف الملقى لغير الملقى، ليدل على الملازمة لوجه شبه العاقر بالمبهم. أى قالت الصبا للسحب: قرقر بالرعد. واختلط الأماكن التي اعتدت سقيها بالتي كنت لا تبلغها بالسقى، أى سو بين الجميع فيه. ويحتمل أن المعروف المطر والمنكر الرعد والبرق والصواعق، أى افعل الجميع على أنه ماض، فهو عطف على قالت. وليس من قول الريح. وعليه فيجوز أيضا رفع المعروف، ويكون الفعل لازما. وهذا البيت من أبيات الكتاب.

(2/176)


واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)

ومعلوم أنه لا قول ثم، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى أن تقولوا مفعول له، أى فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. كما لا عذر لآبائهم في الشرك- وأدلة التوحيد منصوبة لهم- فإن قلت: بنو آدم وذرياتهم من هم «1» ؟ قلت: عنى ببني آدم: أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبذرياتهم: الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم. والدليل على أنها في المشركين وأولادهم:
قوله أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله وسئلهم عن القرية، إذ قالت أمة منهم لم تعظون، وإذ تأذن ربك، وإذ نتقنا الجبل فوقهم، واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا. أفتهلكنا بما فعل المبطلون أى كانوا السبب في شركنا، لتأسيسهم الشرك، وتقدمهم فيه، وتركه سنة لنا وكذلك ومثل ذلك التفصيل البليغ نفصل الآيات لهم ولعلهم يرجعون وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ: ذريتهم، على التوحيد. وأن يقولوا: بالياء.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 176]
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت بنو آدم وذرياتهم من هم ... الخ» ؟ قال أحمد: والأظهر أنها شاملة لجملة بنى آدم فتدخل اليهود في عمومها، لأن كل واحد من بنى آدم يصدق عليه الأمران جميعا أنه ابن آدم وأنه ذريته، ولا يخرج من هذا إلا آدم عليه السلام، وإنما لم يذكر لظهوره، ولا يخلو الكلام عن النوع المسمى في فن البلاغة باللف اختصارا وإيجازا.

(2/177)


واتل عليهم على اليهود نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها هو عالم من علماء بنى إسرائيل. وقيل: من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله فانسلخ منها من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره فأتبعه الشيطان فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له. أو فأتبعه خطواته. وقرئ: فاتبعه، بمعنى فتبعه فكان من الغاوين فصار من الضالين الكافرين. روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل ولو شئنا لرفعناه بها لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات ولكنه أخلد إلى الأرض مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة. فإن قلت:
كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى: ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله ولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فمثله كمثل الكلب فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث «1» به واتصاله، سواء حمل عليه- أى شد عليه وهيج فطرد- أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه. وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرك، وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعا، وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله فمثله كمثل الكلب موضع حططناه أبلغ حط، لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه، الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يجمل عليه. وقيل: معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالتين. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة،
__________
(1) . قوله «دوام اللهث به» في الصحاح لهث الكلب إذا خرج لسانه من التعب أو العطش. وقوله تعالى إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا. وإن تتركه شد عليك ونبح، فيتعب نفسه في الحالين فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. (ع)

(2/178)


ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178) ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)

وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به فاقصص قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم لعلهم يتفكرون فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحى فيزدادوا إيقانا بك وتزداد الحجة لزوما لهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 177]
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177)
ساء مثلا القوم أى مثل القوم. أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري ساء مثل القوم. وأنفسهم كانوا يظلمون إما أن يكون معطوفا على كذبوا، فيدخل في حيز الصلة بمعنى:
الذين جمعوا بين التكذيب، بآيات الله وظلم أنفسهم. وإما أن يكون كلاما منقطعا عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل:
وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها.

[سورة الأعراف (7) : آية 178]
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178)
فهو المهتدي حمل على اللفظ. وفأولئك هم الخاسرون حمل على المعنى.

[سورة الأعراف (7) : آية 179]
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)
كثيرا من الجن والإنس هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسماعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم- لإعراقهم «1» في الكفر وشدة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار- مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكا «2» عجن
__________
(1) . قوله «لاعراقهم» يقال أعرق الشجر والنبات- بالعين المهملة- إذا امتدت عروقه في الأرض. وأغرق النازع في القوس- بالمعجمة- أى استوفى مدها اه من الصحاح. (ع)
(2) . قوله «دلوكا» في الصحاح: الدلوك ما يدلك به من طيب وغيره. (ع) [.....]

(2/179)


ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)

بخمر وإنى لأظنكم آل المغيرة ذره النار «1» . ويقال لمن كان عريقا في بعض الأمور: ما خلق فلان إلا لكذا. والمراد وصف حال اليهود «2» في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود. وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار أولئك كالأنعام في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر بل هم أضل من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر أولئك هم الغافلون الكاملون في الغفلة. وقيل: الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار.

[سورة الأعراف (7) : آية 180]
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء «3» ، لأنها ندل على معان حسنة من تمجيد وتقديس وغير ذلك فادعوه بها فسموه بتلك الأسماء وذروا الذين يلحدون في أسمائه واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم «4» : يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخى. أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى، نحو أن يقولوا: يا الله، ولا يقولوا: يا رحمن وقد قال الله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى «5» ، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في غريبه: حدثني إسماعيل بن عياش عن حميد بن ربيعة عن سليمان بن موسى: أن عمر كتب إلى خالد- فذكره منقطعا.
(2) . قوله «والمراد وصف حال اليهود» إنما فسره بذلك لأنه تعالى يجب عليه الأصلح العبد عند المعتزلة، وخلقه لجهنم ليس أصلح له. وعند أهل السنة لا يجب عليه شيء. (ع)
(3) . قال محمود: «معنى الحسنى التي هي أحسن الأسماء ... الخ» قال أحمد: أى مما يجوز عليه وإن لم يرد إطلاقه شرعا، كالشريف والعارف، ونحو ذلك.
(4) . قال محمود: «كما سمعنا البدو يقولون يجهلهم ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التأويل بعد، لأن ترك الدعاء ببعض الأسماء لا يطلق عليه إلحاد في العرف، وإنما يطلق على فعل لا على ترك، ولكن يتميز عن الوجه السالف بأنه أضاف الأسماء الملحد فيها إلى ذاته، وهذا أدل على الرحمن منه على مثل أبيض الوجه ونحوه، فان هذا ليس من أسمائه، إلا أن يقال: أضافه إليه تنزيلا على زعمهم.
(5) . قال محمود: «ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير ... الخ» قال أحمد:
لا يدع حشو العقائد الفاسدة في غير موضع يسعها، فان يكن المراد الأوصاف، فالحسنى منها وصف الله بعموم القدرة والانفراد بالمخلوقات، حتى لا يشرك معه عباده في خلق أفعالهم. ويعظم الله تعالى بأنه لا يسأل عما يفعل، وأن كل قضائه عدل، وانه لا يجب عليه رعاية ما يتوهمه الخلق مصلحة بعقولهم، وأن وعده الصدق وقوله الحق، وقد وعد رؤيته فوجب وقوعها، إلى غير ذلك من أوصافه الجليلة، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها، ثم يزعمون أنه لا تشمل قدرته المخلوقات، بل هي مقسومة بينه وبين عباده، ويوجبون عليه رعاية ما يتوهمونه مصلحة، ويحجرون واسعا من مغفرته وعفوه وكرمه على الخطائين من موحديه، إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف بالطائفة المتلقبين عدلية، المزكين لأنفسهم وهو أعلم بمن اتقى.

(2/180)


وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن كيدي متين (183) أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون (185)

فصفوه بها، وذروا الذين يلحدون «1» في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها وقيل: إلحادهم في أسمائه: تسميتهم «2» الأصنام آلهة، واشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز.

[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181)
لما قال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا فأخبر أن كثيرا من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها «3» » ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وعنه صلى الله عليه وسلم «إن من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام «4» » وعن الكلبي:
هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 185]
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن كيدي متين (183) أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون (185)
__________
(1) . قوله «وذر الذين يلحدون» يريد أهل السنة القائلين: كل كائن فهو مراد ومخلوق له تعالى ولو شرا، وتجوز رؤيته، خلافا للمعتزلة في كل ذلك، كما تقرر في محله. (ع)
(2) . قال محمود: «وقيل إلحادهم في أسمائه: تسميتهم ... الخ» قال أحمد: وهذا تفسير حسن ملائم، والله أعلم.
(3) . ذكره الثعلبي عن قتادة وابن جريج. وإسناده إليها مذكور في أول كتابه.
(4) . ذكره الثعلبي عن الربيع بن أنس، وإسناده إليه في أول كتابه. رواه أحمد من حديث عمران بن حصين بلفظ «لا تزال طائفة من أمتى على الحق حتى يأتى أمر الله، وينزل عيسى ابن مريم» وفي تاريخ البخاري عن عبد الطغاوى عن جابر نحوه، ورواه أبو يعلى من وجه آخر، وزاد «فيقول إمامهم: تقدم يا روح الله فيقول: أنتم أحق أمر كرم به هذه الأمة» .

(2/181)


الاستدراج: استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة.
قال الأعشى:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدر جنك القول حتى تهره ... وتعلم أنى عنكم غير مفحم «1»
ومنه: درج الصبى إذا قارب بين خطاه. وأدرج الكتاب: طواه شيئا بعد شيء. ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى سنستدرجهم سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغى، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية، فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه وأملي لهم عطف على سنستدرجهم وهو داخل في حكم السين إن كيدي متين سماه كيدا لأنه شبيه بالكيد، من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان ما بصاحبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم من جنة من جنون، وكانوا يقولون شاعر مجنون. وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يهوت «2» إلى الصباح «3» أولم ينظروا نظر استدلال في ملكوت السماوات والأرض فيما تدلان عليه من عظم الملك. والملكوت: الملك العظيم وما خلق الله من شيء وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء، من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف وأن عسى أن مخففة من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن. والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم. قبل مغافصة الأجل «4» وحلول العقاب. ويجوز أن يراد باقتراب الأجل: اقتراب الساعة، ويكون من «كان» التي فيها ضمير الشأن. فإن قلت: بم يتعلق قوله فبأي حديث بعده يؤمنون؟ قلت: بقوله عسى أن يكون قد اقترب أجلهم كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «بات يهوت» أى يضيح. (ع)
(3) . أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة قال «ذكر لنا- فذكره. فأنزل الله أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة الآية
(4) . قوله «قبل مغافصة الأجل» أى أخذه إياهم على حين غفلة. اه من الصحاح. (ع)

(2/182)


من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186) يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)

بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق، وبأى حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا.

[سورة الأعراف (7) : آية 186]
من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186)
قرئ ويذرهم بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، ويذرهم، بالياء والجزم عطفا على محل فلا هادي له كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)
يسئلونك قيل إن قوما من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا، فإنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحانا منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل: السائلون قريش. والساعة من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. أيان بمعنى متى. وقيل: اشتقاقه من أى فعلان منه، لأن معناه أى وقت وأى فعل، من أويت إليه، لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه، قاله ابن جنى، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان، «وأين» مكان. وقرأ السلمى: إيان، بكسر الهمزة «1» مرساها إرساؤها، أو وقت إرسائها، أى إثباتها وإقرارها. وكل شيء ثقيل رسوه ثباته واستقراره. ومنه: رسى الجبل وأرسى السفينة. والمرسى: الأنجر الذي ترسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله ثقلت في السماوات والأرض والمعنى: متى يرسيها الله إنما علمها أى علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبى مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك لا يجليها لوقتها إلا هو أى لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة، لا يجليها «2» بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها ثقلت في السماوات والأرض أى كل من أهلها من الملائكة
__________
(1) . قوله «وقرأ السلمى إيان بكسر الهمزة» في الصحاح «أيان» سؤال عن زمان و «إيان» بكسر الهمزة لغة سليم. وبه قرأ السلمى أيان يبعثون. (ع) [.....]
(2) . قوله «بغتة لا يجليها» لعله: وقيل لا يجليها، بل لعله «أو لا يجليها» . (ع)

(2/183)


والثقلين أهمه شأن الساعة، ويوده أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه. أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها. أو لأن كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها إلا بغتة إلا فجأة على غفلة منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه «1» والرجل يسقى ماشيته، والرجل يقوم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه «2» » كأنك حفي عنها كأنك عالم بها. وحقيقته: كأنك بليغ في السؤال عنها «3» ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن «4» وهذا التركيب معناه المبالغة. ومنه: إحفاء الشارب. واحتفاء البقل: استئصاله. وأحفى في المسألة، إذا ألحف «5» . وحفى بفلان وتحفى به: بالغ في البر به. وعن مجاهد: استحفيت عنها
__________
(1) . قوله «والرجل يصلح حوضه» في البخاري: يليط حوضه. وروى «يلوط» أى يصلحه اه (ع)
(2) . أخرجه الطبري بالإسناد المذكور إلى قتادة قال ذكر لنا- فذكره، وفي الصحيحين عن أبى هريرة رفعه «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه- الحديث» .
(3) . قال محمود «معناه كأنك بليغ في السؤال عنها ... الخ» قال أحمد وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد، واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتى وهذا منها، فانه لما ابتدأ الكلام بقوله يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله قل إنما علمها عند ربي إلى قوله بغتة أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله كأنك حفي عنها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطري ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم، فمن ثم قيل يسئلونك ولم يذكر المسئول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال قل إنما علمها عند الله ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال ... الشحم إنا قد مللناه يجل
أى فقط، فذكر الألف واللام خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني استبعد العهد بالأولى، فطري ذكرها وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جنى على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء فهو بيت كامل وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن، قال: ولو كان بيتا واحدا لم يكن عهد الأولى متباعدا، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها. ألا ترى أن عبيدا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل، لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم ير عهدها بعيدا، وذلك قوله:
يا خليلي أربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الحلال
مثل سحق البرد عنى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمال
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا، فانظر هذه النكتة كيف بالغت العرب في رعايتها حتى عدت القريب بعيدا والمتقاصر مديدا، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان.
(4) . قوله «ورصن» أى: ثبت وتمكن اه. (ع)
(5) . قوله «إذا ألحف» أى ألح وعنف اه. (ع)

(2/184)


قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (189) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)

السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود: كأنك حفى بها، أى عالم بها بليغ في العلم بها. وقيل عنها متعلق بيسئلونك: أى يسئلونك عنها كأنك حفى أى عالم بها. وقيل: إن قريشا قالوا له إن بيننا وبينك قرابة، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل: يسئلونك عنها كأنك حفى تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى علمها عن غيرهم، ولو أحبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في إخبارك به، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص، كسائر ما أوحى إليك.
وقيل: كأنك حفى بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعنى أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحدا من خلقه. فإن قلت: لم كرر يسئلونك وإنما علمها عند الله؟
قلت: للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله كأنك حفي عنها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رحمهما الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها.

[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188)
قل لا أملك لنفسي هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب:
أى أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك والعبيد إلا ما شاء ربى ومالكى من النفع لي والدفع عنى ولو كنت أعلم الغيب لكانت حالى على خلاف ما هي عليه، ومن استكثار الخير، واستغزار المنافع، واجتناب السوء والمضار، حتى لا يمسني شيء منها. ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب، ورابحا وخاسرا في التجارات، ومصيبا مخطئا في التدابير إن أنا إلا عبد أرسالات نذيرا وبشيرا، وما من شأنى أنى أعلم الغيب لقوم يؤمنون يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعا، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم.
أو يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفا أى إلا نذير للكافرين، وبشير لقوم يؤمنون.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (189) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)

(2/185)


من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام وجعل منها زوجها وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه. أو من جنسها كقوله جعل لكم من أنفسكم أزواجا.
ليسكن إليها ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال ليسكن فذكر بعد ما أنث في قوله: واحدة. منها زوجها، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. والتغسى: كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان حملت حملا خفيفا خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته فمرت به فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق «1» وقيل حملت حملا خفيفا يعنى النطفة فمرت به فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه:
فاستمرت به، وقرأ يحيى بن يعمر: فمرت به، بالتخفيف. وقرأ غيره: فمارت به، من المرية، كقوله أفتمارونه وأ فتمرونه. ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به فلما أثقلت حان وقت ثقل حملها كقولك: أقربت «2» . وقرئ: أثقلت، على البناء المفعول: أى أثقلها الحمل دعوا الله ربهما دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا لئن آتيتنا لئن وهبت لنا صالحا ولدا سويا قد صلح بدنه وبريء «3» . وقيل. ولدا ذكرا، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في آتيتنا ولنكونن. لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما «4»
__________
(1) . قوله «من غير إخداج ولا إزلاق» إخداج: أى نقصان. ولا إزلاق: أى إسقاط. (ع)
(2) . قوله «كقولك أقربت» أى قرب ولادها. (ع)
(3) . قوله «وبريء» لعله: وبريء من الآفات. (ع)
(4) . قال محمود: «الضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما ... الخ» قال أحمد وأسلم من هذين التفسيرين وأقرب- والله أعلم- أن يكون المراد جنسى الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكان المعنى- والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم أإذا ما مت لسوف أخرج حيا وقتل الإنسان ما أكفره، إن الإنسان لفي خسر كما أنه كذلك على التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم وعلى التفسير الثاني أضافه إلى قصى وعقبه، والمراد البعض، فهذا السؤال وارد على التأويلات الثلاثة، وجوابه واحد ويسلم هذا الثالث من حذف المضاف المضطر إليه في التأويل الأول. ومما ينصرف إلى التأويل الثاني من استبعاد تخصيص قصى بهذا الأمر المشترك في الجنس، وهو جعل زوجته منه وكون المراد بذلك أن يسكن إليها لأن ذلك عام في الجنس، والله أعلم.

(2/186)


فلما آتاهما ما طلباه من الولد الصالح السوى جعلا له شركاء أى جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما أى آتى أولادهما، وقد دل على ذلك بقوله فتعالى الله عما يشركون حيث جمع الضمير. وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة «1» وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصى ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد «2» :
فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسودد «3»
ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصى، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوى جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما
__________
(1) . قوله «وعبد مناة» في النسفي: وعبد مناف (ع)
(2) . هذا طرف من حديث أم معبد في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الحاكم مطولا. من حديثها وحديث أخيها حبيس بن خالد. ومن حديث زوجها أبى معبد، وطريق أم معبد رويناها في الغيلانيات. وفي الطبراني وفي الدلائل لأبى نعيم والبيهقي.
(3) .
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فيا فوز من أمسى رفيق محمد
فيالقصى ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسؤدد
ليهن بنى سعد مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
لرجل من الجن، سمعوا صوته بمكة ولم يروا شخصه، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مع أبى بكر مهاجرا وجهل أهلها خبرهما بعد خروجهما من الغار. ويروى «جزاية» بالتاء كهداية. ويروى «قالا» بدل «حلا» والمعنى متقارب، إلا أن الثاني خاص بالاستراحة في منتصف النهار. و «خيمتي» نصب على التوسع بحذف حرف الجر و «أم معبد» امرأة من بنى سعد نزلا عندها بالبر والخير. ذكر بعضهم أن اسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية و «يالقصى» أصله «يا آل قصى» فخفف وقد اختلف فيها، فقيل: أصلها يا آل قصى أيضا. وقيل: هي حرف جر، فقيل زائد. وقيل أصلى متعلق بيا عند سيبويه، وبالفعل الذي نابت عنه عند ابن جنى «وما» استفهامية، والمعنى: يا آل قصى، أتدرون ما قبضه الله ومنعه بخروج رسول الله من بينكم من فخار لا يضاهي ومن شرف عظيم؟
وفي هذا الاستفهام معنى التعجب والاستعظام، حتى كأن المستفهم عنه لا يعرف كنهه. ويجوز أن اللام للتعجب، و «ما» موصول بدل من «قصى» . ويجوز أن اللام للاستغاثة، كأنه استغاث بهم لعلهم يتداركون ما فاتهم. وساد في قومه: شرف، ومصدره السؤدد، بالهمز وضم الدال، وبالواو فتفتح داله كما هنا. والأصل: السود- بالضم- كالحسن، فزيدت الدال للإلحاق بيرفع وجندب. «وليهن» مجزوم بلام الأمر، والمقصود الدعاء. و «مقام» فاعل، و «بنى» مفعول. يقال: هنأه الطعام ونحوه، بالهمز: إذا نفعه وحمدت عاقبته عنده، وهو من بابى نفع وضرب، ويبدل همزه بما يناسب ما قبله، وقد يحذف البدل كما هنا، كأنه أصلى، لكن الحذف عامي. والمرصد والمرصاد: الطريق يرصد فيه الرصد. وقوله «للمؤمنين» فيه حث على الهجرة.

(2/187)


أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195)

الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصى وعبد الدار، وجعل الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقرئ: شركاء أى ذوى شرك وهم الشركاء، أو أحدثا الله شركا في الولد.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 193]
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193)
أجريت الأصنام مجرى أولى العلم في قوله وهم يخلقون بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يخلقون، لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم ولا يستطيعون لهم لعبدتهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم وإن تدعوهم وإن تدعوا هذه الأصنام إلى الهدى أى إلى ما هو هدى ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين سواء عليكم أدعوتموهم أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم. فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، كقوله وإذا مس الناس ضر فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 195]
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195)

(2/188)


إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198) خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)

إن الذين تدعون من دون الله أى تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله عباد أمثالكم وقوله عباد أمثالكم استهزاء بهم، أى قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم. ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم فقال ألهم أرجل يمشون بها وقيل: عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير: إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بتخفيف إن ونصب عبادا أمثالكم، والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية قل ادعوا شركاءكم واستعينوا بهم في عداوتي ثم كيدون جميعا أنتم وشركاؤكم فلا تنظرون فإنى لا أبالى بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال لهم: أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 197]
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197)
إن وليي الله أى ناصري عليكم الله الذي نزل الكتاب الذي أوحى إلى كتابه وأعزنى برسالته وهو يتولى الصالحين ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.

[سورة الأعراف (7) : آية 198]
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198)
ينظرون إليك يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه وهم لا يبصرون وهم لا يدركون المرئى

[سورة الأعراف (7) : آية 199]
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)
العفو ضد الجهد: أى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا» «1» قال:
خذي العفو منى تستديمى مودتى ... ولا تنطقى في سورتي حين أغضب «2»
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس أتم منه. [.....]
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 362 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/189)


وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)

وقيل: خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها. والعرف: المعروف والجميل من الأفعال وأعرض عن الجاهلين ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل:
لما نزلت الآية سأل جبريل فقال: لا أدرى حتى أسأل «1» ، ثم رجع فقال: يا محمد، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وعن جعفر الصادق:
أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

[سورة الأعراف (7) : آية 200]
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ وإما ينخسنك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به فاستعذ بالله ولا تطعه. النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل جد جده. وروى أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف يا رب والغضب «2» » فنزل وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب، كقول أبى بكر رضى الله عنه: إن لي شيطانا يعتريني «3»

[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)
__________
(1) . أخرجه الطبري من طريق سفيان بن عيينة عن أبى المرادي قال لما أنزل الله فذكره وهذا منقطع. وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر ومن حديث قيس بن سعد، وزاد في أوله «لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة قال: والله لأمثلن بسبعين منهم. فجاء جبريل بهذه الآية، فذكر الحديث» وفي مسند أحمد عن عقبة بن عامر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا: أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وغفل الطيبي فقال في حديث الأصل: رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر.
(2) . أخرجه الطبري من رواية ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم «لما نزلت» فذكره مفصلا.
(3) . أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده. وابن سعد في الطبقات قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن يقول «خطب أبو بكر رضى الله عنه يوما، فقال: أما والله، ما أنا بخيركم ولقد كنت لمقامى هذا كارها. ولوددت أن فيكم من يكفيني أفرط، وأن أعمل فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ؟؟؟؟ أقوم لها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي. وكان معه ملك. وإن لي شيطانا يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني الحديث» رواه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن الحسن نحوه. ورويناه في جزء الأنصارى من طريق أبى هلال عن الحسن قال «لما استخلف أبو بكر بدأ بكلام والله ما تكلم به أحد غيره» فذكر نحوه.

(2/190)


طائف من الشيطان لمة منه مصدر، من قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفا. قال:
أنى ألم بك الخيال بطيف «1»
أو هو تخفيف طيف فيعل، من طاف يطيف كلين. أو من طاف يطوف كهين. وقرئ: طائف، وهو يحتمل الأمرين أيضا. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم: إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم. وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغى، أى يكونون مددا لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: يمدونهم من الامداد. ويمادونهم، بمعنى يعاونونهم ثم لا يقصرون ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. وقوله وإخوانهم يمدونهم كقوله:
قوم إذا الخيل جالوا فى كواثبها «2»
في أن الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جاريا على ما هو له، والأول أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. فإن قلت: لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله أولياؤهم الطاغوت.
__________
(1) .
أنى ألم به الخيال يطيف ... ومطافه بك ذكرة وشغوف
لكعب بن زهير. وأنى: استفهام تعجبي بمعنى كيف، أو من أين. وألم: أى نزل للزيارة. والخيال: ما يراه النائم. وطاف به الخيال يطيف طيفا ومطافا: أقبل عليه. وطاف حوله يطوف طوافا وطوفانا: حام عليه ودار حوله، ويكنى به عن اللمس. وقوله «يطيف» جملة حالية مؤكدة أو مؤسسة. ومطافه: أى طيفه هو سبب التذكر ووصول الحب لشغاف القلب، فأقام المسبب مقام السبب، وعبر عن نفسه أولا بضمير الغيبة، وثانيا بالخطاب. على طريق الالتفات فرارا من شبهة التكرار. وروى بك بالخطاب.
(2) .
قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قدم
«الخيل» الأفراس. و «الكاثبة» الفرس القربوس، وللبعير الغارب، والرجل الكاهل. والحمار السيسيا.
و «الميل» جمع أميل، وهو الذي لا يثبت على ظهر فرسه. والقدم: جمع أقدم، وهو اللئيم الضعيف. أو جمع قدم بالسكون بمعناه. وضمير «جالوا» للقوم، فجرى الخبر على غير ما هو له. أى إذا الخيل جالوا هم في سروجها وما يبرز الضمير هكذا، لأن محل وجوبه في الصفة لا الفعل، أو لأمن اللبس، لأن الواو ضمير العقلاء. فان قيل:
إن «إذا» لا تضاف إلا الجملة الفعلية، فالخيل فاعل فعل محذوف. أجيب بمنع أنها لا تضاف إلا للفعلية، وبأن ذلك في الشرطية لا الظرفية كما هنا. وقيل: يحتمل على بعد أن الخيل بمعنى الفرسان، وضمير كواثبها للأفراس المدلول عليها بذكر الخيل: أى قوم إذا الفرسان جالوا في كواثب الأفراس، فوارس الخيل، ثابتون عليها لا مائلون عن ظهورها، ولا عاجزون كأن أيديهم مغلولة.

(2/191)


وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204) واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205) إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)

[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203)
اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أى جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جبى إليه فاجتباه: أى أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى لولا اجتبيتها هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: ما هذا إلا إفك مفترى أو هلا أخذتها منزلة عليك مقترحة؟ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها هذا بصائر هذا القرآن بصائر من ربكم أى حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.

[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى فاستمعوا له: فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.

[سورة الأعراف (7) : آية 205]
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205)
واذكر ربك في نفسك هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك تضرعا وخيفة متضرعا وخائفا ودون الجهر ومتكلما كلاما دون الجهر، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر بالغدو والآصال لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدو: بأوقات الغدو، وهي الغدوات. وقرئ:
والإيصال، من آصل إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم «1» وهو مطابق للغدو ولا تكن من الغافلين من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.

[سورة الأعراف (7) : آية 206]
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
__________
(1) . قوله «كأقصر وأعتم» أقصر: أى دخل في القصر أى العشى، وأعتم: دخل في العتمة، أى وقت العشاء. أفاده الصحاح. (ع)

(2/192)


يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4)

إن الذين عند ربك هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى عند دنو الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته وله يسجدون ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا، وكان آدم شفيعا له يوم القيامة» «1»

سورة الأنفال
مدنية، [إلا من آية 30 إلى غاية آية 36 فمكية] وهي خمس وسبعون آية [نزلت بعد البقرة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4)
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل «2»
__________
(1) . ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران وسيأتى في آخر الكتاب.
(2) .
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثى وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
للبيد بن ربيعة العامري، شبه الثواب الذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل- بالتحريك- وهو ما يعده الامام المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب فاستعار النفل له على طريق التصريحية وأخبر به عن التقوى لأنها سببه. ويجوز استعارة النفل التقوى يجامع النفع، وبإذن الله وتسهيله. ريثى: أى بطئى، وعجل: أى سرعتي، فحذفت ياء الاضافة للوزن، فلا ند: أى لا مثل له، بيديه: أى بقدرته التي هي كالآلة في أفعاله تعالى كاليدين لأفعالنا. ويحتمل أنه شبه خزائنه سبحانه باليد فيها شيء، لسهولة تصرفه فيما فيها واختصاصه به، فالباء بمعنى في. وتثنية اليد للمبالغة في التشبيه، ولا مانع من جعله ترشيحا للاستعارة على الوجهين. «ما شاء فعل» أى ما أراده فعله، وبين ذلك بقوله «من هداه طرق الخير اهتدى» حتما حال كونه طيب الشأن. ومن شاء إضلاله أضله حتما، أى تركه ونفسه ومنعه لطفه، حتى يضل حال كونه كاسف البال أى حزين القلب في العاقبة، فهي حال منتظرة «أو سيء الحال والشأن، وهذا محذوف معلوم من المقابلة بما قبله.

(2/193)


والنفل ما ينفله الغازي، أى يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب: من قتل قتيلا فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟
فقيل له: قل لهم هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان:
نحن المقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردآ لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم «2» وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبى وقاص: قتل أخى عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص «3» وأخذت سيفه فأعجبنى، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف فقال:
ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض «4» فطرحته وبى مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخى وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والحاكم من حديث أبى أمامة عن عبادة بن الصامت. قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه بدرا. فالتقى الناس. فهزم الله العدو. فذكر الحديث في اختلافهم في قسمة الغنائم. قال: فنزلت ويسألونك عن الأنفال- الآية. فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين.
(2) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى مكان كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا. فتسارع إليه الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات- الحديث» قلت: وأما قوله «حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين» فليس في هذا الحديث.
(3) . «قوله فقتلت به سعيد بن العاص» في حواشي البيضاوي: أنه العاص بن سعيد. (ع)
(4) . قوله «في القبض- كسبب-: المال المقبوض. (ع)

(2/194)


سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتنى السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه «1» وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين «2» . وقرأ ابن محيصن:
يسألونك علنفال، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: يسألونك الأنفال، أى يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فان قلت:
ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله قل الأنفال لله والرسول؟ قلت: معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأى أحد، والمراد: أن الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي فاتقوا الله في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله وأصلحوا ذات بينكم وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم. وعن عطاء: كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال: ليرد بعضكم على بعض. فان قلت: ما حقيقة قوله ذات بينكم؟ قلت: أحوال بينكم، يعنى ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله بذات الصدور وهي مضمراتها.
لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله إن كنتم مؤمنين إن كنتم كاملى الإيمان. واللام في قوله إنما المؤمنون إشارة إليهم. أى إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله أولئك هم المؤمنون حقا. وجلت قلوبهم فزعت. وعن أم الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة «3» ، أما تجد له قشعريرة؟ قال. بلى، قالت: فادع الله فإن الدعاء يذهبه، يعنى فزعت لذكره استعظاما له، وتهيبا من جلاله وعزة
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو شيبا وأبو عبيد في الأموال: وسعيد ابن منصور كلهم قال: حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد بن أبى عون عنه قال أبو عبيد: كذا يقول: سعيد بن العاصي. والصواب العاص بن سعيد. وفي روايتهم فقلت سعيد بن العاصي لم يقولوا به. [.....]
(2) . أخرجه أحمد وإسحاق والطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن الحارث عن سليمان بن مكحول- عن أبى أمامة عنه به.
(3) . قوله «كاحتراق السعفة» أى غصن النخلة، كما في للصحاح. (ع)

(2/195)


كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون (5)

سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ: وجلت، بالفتح، وهي لغة نحو «وبق» في «وبق» «1» .
وفي قراءة عبد الله: فرقت زادتهم إيمانا ازدادوا بها يقينا وطمأنينة في نفس، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان «2» . وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: إن للإيمان سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان وعلى ربهم يتوكلون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة حقا صفة للمصدر المحذوف، أى أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقولك: هو عبد الله حقا، أى حق ذلك حقا.
وعن الحسن أن رجلا سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنسار والبعث والحساب، فأنا مؤمن.
وإن كنت تسألنى عن قوله إنما المؤمنون فو الله لا أدرى أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنه، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه، يعنى كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا، فلا يقطع بأنه مؤمن حقا، وبهذا تعلق من يستننى في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضى الله عنه ممن لا يستثنى فيه. وحكى عنه أنه قال لقتادة:
لم تستثنى في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين فقال له: هلا اقتديت به في قوله أولم تؤمن قال بلى؟ درجات شرف وكرامة وعلو منزلة ومغفرة وتجاوز لسيئاتهم ورزق كريم نعيم الجنة. يعنى لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.

[سورة الأنفال (8) : آية 5]
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون (5)
__________
(1) . قوله «نحو وبق في وبق ... الخ» وبق: أى هلك. وفرقت: خافت. (ع)
(2) . أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن حبان برواية أبى صالح عن أبى هريرة، وهو في البخاري باختصار.

(2/196)


كما أخرجك ربك فيه وجهان «1» أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدر في قوله الأنفال لله والرسول أى الأنفال استقرت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. ومن بيتك يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه بالحق أى إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه وإن فريقا من المؤمنين لكارهون في موضع الحال، أى أخرجك في حال كراهتهم، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة «2» معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إنى رأيت عجبا رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير. في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير، فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمدا لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه «3» ، فمضى
__________
(1) . قال محمود: «في «كما» وجهان، أحدهما: أن يرتفع محل الكاف ... الخ» قال أحمد: وكان جدي أبو العباس أحمد الفقيه الوزير رحمه الله يذكر في معنى الآية وجها أوجه من هذين، وهو أن المراد تشبيه اختصاصه عليه السلام بالأنفال، وتفويض أمرها إلى حكمه من حيث الاثابة والجزاء، بإخراجه من بيته مطيعا لله تعالى سامعا لأمره راضيا بحكمه على كراهة المؤمنين لذلك في الطاعة، فشبه الله تعالى ثوابه بهذه المزية بطاعته المرضية، فكما بلغت طاعته الغاية في نوع الطاعات، فكذلك بلغت إثابة الله له الغاية في جنس المثوبات. وجماع هذا المعنى هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام «الأجر على قدر النصب» ولك على هذا المعنى أن تجعل الكاف مرفوعة ومنصوبة على حسب التقدير، والله الموفق.
(2) . هذه القصة منتزعة من سيرة ابن هشام إلا قوله «إن في أهل العير عمرو بن هشام فان عمرو بن هشام هو أبو جهل ولم يكن في العير، وإنما كان في النفير وأخرجه الطبري من قول ابن إسحاق، وبعضه عن ابن عباس وعن عروة وعن السدى بتقديم وتأخير وزيادة ونقس وفي مغازي الواقدي عن محمود بن لبيد بعضه. وعن سعيد بن المسبب بعضه.
(3) . قوله «وإنا قد أعضضناه» في الصحاح: أعضضته الشيء فعضه. وفي الحديث «فأعضوه بهن أبيه» ويقال:
أعضضته سيفي، أى ضربته به. وأعض القوم. أكلت إيلهم العض، وهو بالضم علف الأمصار، وبالكسر الشوك الصغير. (ع) .

(2/197)


بهم إلى بدر- وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة- فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما قريشا، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ردد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال:
انظر أمرك فامض. فو الله لو سرت إلى عدن أبين «1» ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنما معكما مقاتلون، ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أشيروا على أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى «2» عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس
__________
(1) . قوله «إلى عدن أبين» في الصحاح: أبين اسم رجل نسب إليه عدن، فقيل: عدن أبين. (ع)
(2) . قوله «يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى» لعله «أن تكون» أو لعله «الأنصار ترى» وبالجملة فأحد الحرفين يغنى عن الآخر. (ع)

(2/198)


يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7)

دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح «1» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟
قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله وإن فريقا من المؤمنين لكارهون.

[سورة الأنفال (8) : آية 6]
يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6)
والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير بعد ما تبين بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يعتل إلى القتل «2» ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل:
كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة. وروى أنه ما كان فيهم إلا فارسان.

[سورة الأنفال (8) : آية 7]
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7)
إذ منصوب بإضمار اذكر. وأنها لكم بدل من إحدى الطائفتين. والطائفتان:
العير والنفير. غير ذات الشوكة العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم: والشوكة: الحدة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا لشباها «3» . ومنها قولهم: شائك السلاح، أى تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الأخرى أن يحق الحق أن يثبته ويعليه بكلماته بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر: فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف
__________
(1) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار وابن حيان والحاكم من رواية إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(2) . قوله «بحال من يعتل إلى القتل» أى يجذب جذبا عنيفا. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «شوك القنا لشباها» شباه كل شيء: حد طرفه، والجمع شبا وشبوات، كذا في الصحاح. مشياها جمع مضاف لضمير القنا. (ع)

(2/199)


ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (8) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)

الأمور «1» وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم «2» والله عز وجل يريد معالى الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلو الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ: بكلمته، على التوحيد.

[سورة الأنفال (8) : آية 8]
ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (8)
فإن قلت: بم يتعلق قوله ليحق الحق؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه.
فإن قلت: أليس هذا تكريرا؟ قلت: لا، لأن المعنيين متباينان، وذلك أن الأول تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدر المحذوف متأخرا حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى: وقيل: قد تعلق بيقطع.

[سورة الأنفال (8) : آية 9]
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)
فإن قلت: بم يتعلق إذ تستغيثون؟ قلت: هو بدل من إذ يعدكم وقيل بقوله ليحق الحق ويبطل الباطل واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون: أى ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض- فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك «3» أني ممدكم
__________
(1) . قال محمود: «يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور ... الخ» قال أحمد: والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكر الارادة فيه مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة، كأنه قيل: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق، ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة، فبين الكلامين عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد. وفي ذلك مالا يخفى من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين: إطلاق، وتقييد. والله أعلم.
(2) . قوله «وأحوالكم» لعله وأموالكم. (ع) [.....]
(3) . أخرجه مسلم من روآية ابن عباس عن عمر رضى الله عنه.

(2/200)


أصله بأنى ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ أني ممدكم بالكسر، على ارادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى «قال» لأن الاستجابة من القول. فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل:
نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها على بن أبى طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم. فقالت. وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين.
وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروى أن رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين: إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشق وجهه، فحدث الأنصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذاك من مدد السماء «1» . وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه «2» سيفي، وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإن جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ مردفين بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه إذا تبعه. ومنه قوله تعالى ردف لكم بعض الذي تستعجلون بمعنى ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته. ويقال: أردفته، كقولك أتبعته، إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين، أو متبعين، فإن كان بمعنى متبعين «3» فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضا، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أى يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم. أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة: ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ومن قرأ مردفين بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين. وقرئ: مردفين، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال: وأصله مرتدفين، أى مترادفين أو متبعين، من ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال
__________
(1) . هذا طرف من حديث ابن عباس رضى الله عنهما في الذي قبله.
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني أبى عن رجال من بنى مازن عن أبى داود المازني- فذكره، ومن طريقه أخرجه إسحاق والطبري وغيرهما.
(3) . قوله «فان كان بمعنى متبعين» يقرأ هذا بالتسكين، ولم يذكر مقابله وهو ما كان بمعنى متبعين بالتشديد. (ع)

(2/201)


وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (10) إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (11)

في الدال، فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال. وبالضم على إتباع الميم. وعن السدى: بآلاف من الملائكة. على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران.
فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأن المراد بالألف من قاتل منهم. أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.

[سورة الأنفال (8) : آية 10]
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (10)
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في وما جعله؟ قلت: إلى قوله أني ممدكم لأن المعنى:
قاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله أني ممدكم لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول. ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدكم إلا بشرى إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكينا منكم، وربطا على قلوبكم وما النصر إلا من عند الله يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة. أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله.

[سورة الأنفال (8) : آية 11]
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (11)
إذ يغشيكم بدل ثان من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر، أو بما في من عند الله من معنى الفعل، أو بما جعله الله، أو بإضمار اذكر. وقرئ: يغشيكم بالتخفيف والتشديد «1» ونصب النعاس
__________
(1) . قال محمود: «وقرئ إذ يغشيكم بالتخفيف والتشديد ... الخ» قال أحمد: ومثل هذا النظر يجرى عند قوله تعالى هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا لأن فاعل الارادة هو الله عز وجل، وفاعل الخوف والطمع هم، وقد انتصبا مفعولا لهما فالجواب: أنه لما كان الله تعالى إذا أراهم البرق رأوه، كانوا فاعلين في المعنى وكان المعنى وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطعما، فهذا مثل آية الأنفال، فان المفعول في المعنى فاعل. وسيأتى مزيد بحث في هذه النكتة. وقد جرى القلم بتعجيلها هاهنا، وذلك أن لقائل أن يقول: فاعل يغشى النعاس إياهم هو الله تعالى، وهو فاعل الأمنة أيضا وخالقها وحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد السنة التي تقتضي نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها، ولمورد السؤال أن يقول المعتبر أن يكون فاعل الفعل متصفا بالعلة كما هو متصف بالفعل، والباري عز وجل. إن كان خالق الأمنة العبد وكان بها آمنا فالعبد هو الفاعل اللغوي وإن كان الله تعالى هو الفاعل حقيقة وعقيدة، وحينئذ يفتقر السؤال إلى الجواب السالف والله الموفق.

(2/202)


والضمير لله عز وجل. وأمنة مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس. تنعسون، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا، أى لأمنكم، ومنه صفة لها: أى أمنة حاصلة لكم من الله عز وجل. فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة «1» قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أى ينعسكم إيمانا منه. أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا، فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم؟ أى يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال:
يهاب النوم أن يغشى عيونا ... تهابك فهو نفار شرود «2»
وقرئ «أمنة» بسكون الميم. ونظير «أمن أمنة» «حيي حياة» ونحو «أمن أمنة» «رحم رحمة» والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طامن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضى الله عنه: النعاس في القتال: أمنة من الله، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان «3» وينزل قرئ بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الشعبي: ما ليطهركم به: قال ابن جنى:
ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور. ورجز الشيطان وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ: رجس الشيطان مم؟؟؟؟
وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء «4» ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت فعلى غير هذه القراءة قلت كذلك ... الخ» قال أحمد: وجه حسن بشرط الأدب في إسقاط لفظة التخييل، وقد تقدمت له أمثالها.
(2) . للزمخشري، يقول: يخالف النوم أن يغزو عيونا تخافك فالنوم كثير النفار والشرود، شبهه بحيوان يصح منه الخوف على طريق المكنية. وقوله فهو نفار شرود: تفريع للترشيح. ونسبة الخوف للعيون مجاز عقلى.
(3) . لم أجده عن ابن عباس. والظاهر أنه تحرف وإنما هو ابن مسعود. كذا ذكره الثعلبي. وأخرجه عبد الرزاق والطبري. وكذا ابن أبى شيبة والطبراني كلهم من حديث ابن مسعود موقوفا.
(4) . الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس مطولا وفي هذا ما ليس فيه وهو عند أبى نعيم والبيهقي في الدلائل من هذا الوجه.

(2/203)


إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12)

مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس. والضمير في به للماء. ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال.

[سورة الأنفال (8) : آية 12]
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12)
إذ يوحي يجوز أن يكون بدلا ثالثا من إذ يعدكم وأن ينتصب بيثبت أني معكم مفعول يوحى وقرئ: إنى، بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء يوحى مجرى يقول، كقوله أني ممدكم والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله سألقي ... فاضربوا يجوز أن يكون تفسيرا لقوله أني معكم فثبتوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة. وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتى فيقول: إنى سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، ويمشى بين الصفين فيقول: أبشروا، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه. وقرئ «الرعب» بالتثقيل فوق الأعناق أراد أعالى الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرءوس. وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعنى ضرب الهام. قال:
وأضرب هامة البطل المشيح «1»
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة (409) فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهة صدقا
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
لبلعاء بنى قيس الكناني والغمر الماء الكثير فشبه الموت بسيل عظيم على سبيل الكناية. والغمار والانغماس فيه تخييل.
ويجوز أن تستعار الغمار لأهوال الموت على طريق التصريحية. ويحتمل أن تستعار لجيش ذلك الفارس على طريق التصريحية أيضا. وأضافه للموت لأنه ينشأ عنها والانغماس ترشيح. «إذا تألى» أى حلف «على مكروهة» أى حرب «صدق» أى بر في يمينه «غشيته» ألحقت به والحال أنه «في جأواء» أى كتيبة عظيمة اسودت أو اخضرت بكثرة السلاح والدروع، من الجوة مثل الحوة، أو من الجؤوة مثل الحمرة، وهي هي بشرط أن يرهقها سواد.
وقيل السواد يرهقه خضرة لصدإ دروعها «باسلة» أى مانعة عابسة. ويجوز أن الجأواء الدرع الصدئة. وعضبا:
مفعول غشيته، أى سيفا قاطعا «أصاب» أى طلب ونال «سواء» أى وسط الرأس «فانفلق» الرأس أو وسطه، مدح قرنه مع ظفره به، ليدل على بلوغه غاية الشجاعة.

(2/204)


ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14) ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)

والبنان: الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى، لأن الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا. ويجوز أن يكون قوله سألقي إلى قوله كل بنان عقيب قوله فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟
فقيل: قولوا لهم قوله سألقي فالضاربون على هذا هم المؤمنون.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14)
ك
إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء وأنهم
خبره، أى ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت: لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة، كما قيل: المخاصمة والمشاقة، لأن هذا في خصم أى في جانب، وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق. والكاف في لك
لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي ذلكم للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل ذلكم الرفع على ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم فذوقوه ويجوز أن يكون نصبا على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيدا فاضربه وأن للكافرين عطف على ذلكم في وجهيه، أو نصب على أن الواو بمعنى مع. والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن: وإن للكافرين بالكسر.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)

(2/205)


فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)

زحفا حال من الذين كفروا. والزحف: الجيش الدهم «1» الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أى يدب دبيبا، من زحف الصبى إذا دب على استه قليلا قليلا، سمى بالمصدر والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا، فضلا أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أى إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنى عشر ألفا، وتقدمة «2» نهى لهم عن الفرار يومئذ. وفي قوله ومن يولهم يومئذ أمارة عليه إلا متحرفا لقتال هو الكر بعد الفر، يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها أو متحيزا أو منحازا إلى فئة إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضى الله عنه: خرجت سرية وأنا فيهم ففروا «3» فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون «4» وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضى الله عنه فقال:
يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضى الله عنه: أنا فئتك «5» . وعن ابن عباس رضى الله عنه: إن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر. فإن قلت: بم انتصب إلا متحرفا؟
قلت: على الحال، وإلا لغو. أو على الاستثناء من المولين، أى: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا، وقرأ الحسن دبره بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوز.

[سورة الأنفال (8) : آية 17]
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)
لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت
__________
(1) . قوله «الجيش الدهم» هو العدد الكثير، والدهمة: السواد، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله و «تقدمة نهى لهم» لعله عطف على المعنى، أى: إشعارا وتقدمة نهى. (ع)
(3) . أخرجه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من رواية يزيد بن أبى زياد عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى الله عنهما. وكذا أخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من رواية يزيد بن أبى زياد. [.....]
(4) . قوله «بل أنتم العكارون» من عكر إذا عطف وكر. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية منصور عن إبراهيم. قال: فر رجل فذكره.

(2/206)


وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قريش قد جاءت «1» بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال- لما التقى الجمعان- لعلى رضى الله عنه: أعطنى قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم «2» ، فقيل لهم فلم تقتلوهم والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع وما رميت أنت يا محمد إذ رميت ولكن الله رمى يعنى أن الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عز وجل، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا. وقرئ: ولكن الله
__________
(1) . قال محمود: «ولما جاءت قريش قال عليه الصلاة والسلام: هذه قريش جاءت ... الخ» قال أحمد رحمه الله:
أوضح مصداق في التمييز بين الحقيقة والمجاز. ألا تراك تقول للبليد: ليس بحمار، ويصدق عليه مع صدق قولك فيه على سبيل التجوز إنه حمار، فإذا ثبت لك أن من مميزات المجاز صدق سلبه بخلاف الحقيقة، فافهم أن هذه الآية تكفح وجوه القدرية بالرد، وذلك أن الله تعالى أثبت الفعل للخلق ونفاه عنهم، ولا محمل لذلك إلا أن ثبوته لهم مجاز، والفاعل والخالق حقيقة هو الله تعالى، فأثبته لهم مجازا، ونفاه عنهم حقيقة. وإياك أن تعرج على تنكيس الزمخشري في تأويل الآية، فانه نظر أعوج، وباطل مخلج، والحق أبلج، والله الموفق بكرمه.
(2) . قال الطيبي: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت ببدر، ثم حديث سلمة بن الأكوع.
قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فذكر القصة، وهو تعقيب غير مرضى فقد روى الواقدي في المغازي عن ابن أبى الزهري عن الزهري عن عروة بن الزبير قال «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فذكر نحوه إلى قوله: ما وعدتني» وروى الطبري من وجه آخر عن هشام بن عروة عن عروة قال «لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال: فزعموا أنه قال، هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فلما أقبلوا استقتلوا فحثا في وجوههم فهزمهم الله تعالى» وروى الطبري من رواية على بن أبى طلحة قال «رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر «فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن نعبد في الأرض أبدا. فأمره جبريل فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم. فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخره وفمه تراب. فولوا مدبرين» وعنده أيضا من طريق أسباط عن السدى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى يوم بدر: أعطنى حصباء من الأرض. فناوله حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه من ذلك التراب، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم. وأنزل الله فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم- الآية. وروى الواقدي في المغازي أيضا من طريق حكيم بن حزام في قصة بدر قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ كفا من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه. فما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه فانهزم أعداء الله، والمسلمون يقتلون ويأسرون. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن حكيم بن حزام نحوه دون ما في آخره.

(2/207)


ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين (19) ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)

قتلهم. ولكن الله رمى، بتخفيف «لكن» ورفع ما بعده وليبلي المؤمنين وليعطيهم بلاء حسنا عطاء جميلا. قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذى يبلو «1»
والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك إن الله سميع لدعائهم عليم بأحوالهم.

[سورة الأنفال (8) : آية 18]
ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18)
ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع: أى الغرض ذلكم وأن الله موهن معطوف على ذلك. يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين. وقرئ: موهن، بالتشديد. وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال.

[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين (19)
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعانى، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروى أنهم قالوا:
اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروى أن أبا جهل قال يوم بدر:
اللهم أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أى فأهلكه. وقيل: إن تستفتحوا خطاب للمؤمنين وإن تنتهوا خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم وأن الله قرئ بالفتح على: ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك. وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود: والله مع المؤمنين. وقرئ: ولن يغنى عنكم، بالياء للفصل.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)
__________
(1) .
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
يقول: كافأ الله بإحسانه إليهما ما فعلاه بكم من الإحسان. وأبلى: مضمن معنى أعطى. يقال: بلاه الله وأبلاه وابتلاء، بمعنى اختبره. والاسم: البلاء. ويجيء بمعنى النقمة وبمعنى النعمة كما هنا. وأعطاهما خير نعمته التي يبلوها الناس ويختبرهم بإعطائها

(2/208)


ولا تولوا قرئ بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المعنى: وأطيعوا رسول الله كقوله: الله ورسوله أحق أن يرضوه، ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع الله فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، كقولك: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان. ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أى: ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه. أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أى تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا أى ادعوا السماع وهم لا يسمعون لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين. والمعنى: أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. ثم قال إن شر الدواب أى إن شر من يدب على وجه الأرض. أو إن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرها ولو علم الله في هؤلاء الصم البكم خيرا أى انتفاعا باللطف لأسمعهم للطف بهم «1» حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال ولو أسمعهم لتولوا عنه.
يعنى: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه. أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا
__________
(1) . قال محمود «يعنى: ولو علم الله أن اللطف ينفع في هؤلاء ... الخ» قال أحمد رحمه الله: إطلاق القول بأن الله تعالى يلطف بالعبد فلا ينفع لطفه مردود، فان اللطف هو إسداء الجميل والالطاف به، واسمه اللطيف من ذلك، فإذا أسدى الجميل إلى العبد بأن أسمعه إسماع لطيف به، فتلك الغاية المرجوة ومعنى اللطف به على هذا: أن يخلق في قلبه قبول الحق وحسن الإصغاء إليه والاهتداء به، ولكن لا يتم ذلك على عقيدة الاعتزال والرأى الفاسد في خلق الأفعال، لأن مقتضاها أن العبد هو الذي يخلق لنفسه قبول الحق والهداية وحسن الاستماع والإصغاء، وأن الله تعالى لا يشارك العبد في خلق ذلك، بل الذي ينسب إلى الله تعالى إرادة الهداية من جميع الخلق، ولا يلزم حصول مراده على العموم- تعالى الله عما يقولون- ثم ولو تنزيل متنزل على هذه القاعدة لما استقام تأويل الزمخشري أيضا، فان حاصله: ولو علم الله فيهم خيرا للطف بهم، ولو لطف بهم لما انتفعوا باللطف، فيلزم عدم انتفاعهم باللطف على تقدير علم الله الخير فيهم، وهذا غير مستقيم لما يلزم عليه من وقوع خلاف المعلوم لله تعالى، وذلك محال عقلا، فلا يرتفع الاشكال إلا بتقدير الاسماع الواقع جوابا أولا وخلاف الاسماع الواقع شرطا ثانيا، كيلا يتكرر الوسط فيلزم المحال المذكور. وأقرب وجه في اختلاف الاسماعين: أن يراد بالأول: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول، ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء، بل إسماعا مجردا من ذلك، لتولوا وهم معرضون. فهذا هو الوجه في تأويل الآية، والله الموفق.

(2/209)


ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24)

رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة: كانوا يقولون: نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. وعن ابن جريج: هم المنافقون.
وعن الحسن: أهل الكتاب.

[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24)
إذا دعاكم وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال.
وبالدعوة: البعث والتحريض. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبى ابن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتى؟ قال: كنت أصلى. قال: ألم تخبر فيما أوحى إلى استجيبوا لله وللرسول قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك «1» . وفيه قولان، أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته لما يحييكم من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أن الجهل موت. ولبعضهم:
لا تعجبن الجهول حلته ... فذاك ميت وثوبه كفن «2»
وقبل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله ولكم في القصاص حياة وقيل للشهادة، لقوله بل أحياء عند ربهم. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها «3» وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله واعلموا أنكم إليه تحشرون فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل:
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي دون قوله: لا جرم إلى آخره وأخرجه ابن مردويه من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي وفي آخره قال «انى لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك هو إن كنت أصلى» وفي الباب عن أبى سعيد ابن الحكم، أخرجه البخاري بغير هذا السياق واقتصر عليه الطيبي.
(2) . للزمخشري، نهي للجهول عن العجب والخيلاء بثيابه، لأنه كالميت في عدم النفع وعدم الإدراك، ويلزم من ذلك أن ثوبه الذي يعجب به كالكفن، حيث اشتمل على جسم لا إدراك فيه ولا نفع. والميت هنا بالتخفيف.
(3) . قال محمود: «معناه أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ... الخ» قال أحمد رحمه الله: نعم، هذا عقد أهل السنة الذي استعار لهم لقب المجبرة، وهو العقد الحق المؤسس على التقوى وتفويض المخلوقات كلها إلى الواحد الحق خالق الخلق، فان كان ذلك ظلما فأنا بريء من الطائفة المتسمية بالعدلية، إصرارا على هذا الرأى الباطل والمعتقد الماحل، والله الموفق.

(2/210)


واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25) واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون (26)

معناه إن الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمنا وبالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وبالنسيان ذكرا، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى.
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب «1» من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: بين المر، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمر.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 25 الى 26]
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25) واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون (26)
فتنة ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل فتنة عذابا. وقوله: لا تصيبن لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر. أو نهيا بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جوابا، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرا «2» فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل:
واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن، ونظيره قوله:
حتي إذا جن الظلام واختلط ... جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط «3»
__________
(1) . قوله «فأما ما يثاب العبد عليه ... الخ» المسألة هنا من فروع مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية، فعند المعتزلة أن المريد الخالق لها هو العبد، وإذا صح تكليفه لظهور اختياره. وعند أهل السنة أن المريد الخالق لها هو الله تعالى. وإنما صح تكليف العبد لما له فيها من الكسب، وهو اختيار بعضها على بعض بشهادة الوجدان، خلافا للجبرية القائلين بالجبر المحض، ومحله التوحيد.
(2) . قوله نهوا عن المنكر تعذيرا التعذير في الأمر: التقصير فيه اه صحاح. (ع)
(3) .
بتنا بحسان ومعزاه يئط ... يلحس أذنيه وحينا يمتخط
ما زلت أسعى فيهمو وأختبط ... حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذيب قط
لأحمد الرجاز. وقيل: إنه للعجاج، يصف رجلا بالبخل. وبات بالقوم: إذا نزل بهم ليلا. والأط: صوت الجوف. والمعز- محركة ومسكنة- والمعيز، والأمعوز، والمعزى: خلاف الضأن من الغنم. فهو اسم جمع، وتأنيث المعزى لغة. والاختباط: تطلب المعروف من غير اهتداء. يقول: نزلنا عند حسان ليلا، والحال أن معزاه جائعة هزيلة، فالأطيط كناية عن الأول، والامتخاط كناية عن الثاني، ويجوز أن ذلك كناية عن كثرة المعز عنده، وليخله قراهم بالمذق بعد مدة كان يمكنه أن يذبح لهم فيها شاة، وهذا أنسب بما بعده، وضمير أذنيه يحتمل عوده على المعزى لأنه مذكر عند الأكثر، ويجوز أنه عائد لحسان، وهو ذم شنيع. وفيهم: أى في حيه. وجن النبت: طال. والليل: أظلم. والذباب: كثرت أصواته. والظلام: كثر واختلط وتراكم بعضه فوق بعض بحيث لا يتخلله نور. والمذق: المزج. والمراد به لبن مخلوط بماء. ويروى: بمذق- بالكسر-: وهو ذلك اللبن.
ويروى: جاءوا بضيح، بمعجمة فمثناة تحتية فمهملة، بمعنى المذق، إلا أنه رقيق، و «هل رأيت» استفهام تقريرى والجملة صفة لمذق، أى مذق مقول فيه ذلك، والمراد تشبيه المذق بالذيب في الكدرة، فكنى بالاستفهام عن ذلك، لأن من أراد إخطار الشيء بالبال ورسمه في الخيال يستفهم عنه، فكأنه قال له هل رأيته؟ فقال نعم، قال: إن اللبن مثله، لكن حذف هذا كله واستغنى بالاستفهام عنه. وقط: ظرف مبنى على الضم، وسكن الوقف.

(2/211)


أى بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة «1» التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: لتصيبن، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في على وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدى: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروى «أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوما، إذ أقبل على رضى الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف حبك لعلى؟ فقال يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إنى أحبه كحبي لوالدي أو أشد حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله» «2» فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأن فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكم. فإن قلت: فما معنى «من» في قوله الذين ظلموا منكم؟ قلت: التبعيض على الوجه الأول، والتبيين على الثاني، لأن المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس «3» .
__________
(1) . قوله «لأنه سمار فيه لون الورقة» قوله «سمار» هو- بالفتح- لبن رقيق. وتسمير اللبن. ترقيقه بالماء.
والورقة: بياض يضرب إلى سواد وإلى خضرة اه صحاح. (ع)
(2) . لم أجده هكذا وإنما رواه ابن أبى شيبة من طريق الأسود بن قيس حدثني من رأى الزبير يعقص الخيل فناداه على: يا أبا عبد الله فأقبل حتى التقت أعناق دوابهما فقال له على: أنشدك الله، أتذكر يوم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه؟ والله ليقاتلنك وهو لك ظالم قال: فضرب الزبير وجه دابته فانصرف «وروى البيهقي في الدلائل من طريق أبى حرب بن أبى الأسود الديلمي عن أبيه قال: «لما دنا على وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج على فنادى: ادعوا لي الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما فقال على رضى الله عنهما يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا وكذا فقال: يا زبير، أتحب عليا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمتى وعلى قريبي؟ قال: أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم؟ قال، بلى، ولكنى نسيته وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال «لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان يعلم أنه على حق ما ولى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في سقيفة بنى ساعدة فقال: أتحبه يا زبير؟ قال: وما يمنعني؟ قال: فكيف بك إذا قاتلته» . [.....]
(3) . قوله «أقبح منكم من سائر الناس» لعله منه من سائر الناس. (ع)

(2/212)


ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27)

إذ أنتم نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف: أى اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين في الأرض أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش تخافون أن يتخطفكم الناس لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادين فآواكم إلى المدينة وأيدكم بنصره بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر ورزقكم من الطيبات من الغنائم لعلكم تشكرون إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: كان هذا الحى من العرب أذل الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلدا، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكا.

[سورة الأنفال (8) : آية 27]
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27)
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه: تخونه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب «1» لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له.
ومنه قوله تعالى وتخونوا أماناتكم والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. وروى أن نبى الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بنى قريظة إحدى وعشرين ليلة «2» فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم
__________
(1) . قوله «خان الدلو الكرب وخان المشتار السبب. قوله «الكرب» حبل يشد في رأس الدلو. والمشتار مجتنى العسل. والسبب: الحبل اه صحاح (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند، لكن سنده إليه في أول الكتاب. وقد روى ابن إسحاق في المغازي:
حدثنا إسحاق بن يسار عن عبد بن كعب السلمى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم- يعنى قريظة- خمسا وعشرين ليلة- فذكر القصة بطولها- إلى أن قال: ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر فذكر قصة مختصرة. وأخرجها البيهقي في الدلائل من طريق سعيد بن المسبب في قصة طويلة- فذكر نحو ما هنا. وهكذا ذكرها عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك. فربط نفسه بسارية فذكر القصة» وأخرجه الواقدي عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك مثله.
«تنبه» تسمية أبى لبابة مروان لم أره إلا من هذه الرواية. ومدة حصار بنى قريظة المحفوظ فيها ما قاله ابن إسحاق.

(2/213)


واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28) ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29)

بنى النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله فنزلت، فشد نفسه على سارية من سوارى المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله على، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالى. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به. وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه. وقيل أماناتكم ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت: وتخونوا جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى «وأن يكون نصبا بإضمار «أن» كقوله وتكتموا الحق وقرأ مجاهد:
وتخونوا أمانتكم، على التوحيد.

[سورة الأنفال (8) : آية 28]
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28)
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده وأن الله عنده أجر عظيم
فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله المال والبنون الآية. وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.

[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29)
فرقانا نصرا، لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى يوم الفرقان أو بيانا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم «بت أفعل كذا» حتى سطع الفرقان: أى طلع الفجر. أو مخرجا من الشبهات وتوفيقا وشرحا للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة.

(2/214)


وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)

[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)
لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك وذلك أن قريشا- لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره «1» ، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا، فقال أبو البختري: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأى، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم: فقال هشام بن عمرو: رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأى يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ- لعنه الله-: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا.
فتفرقوا على رأى أبى جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر عليا رضى الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم «2» ليثبتوك ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم:
ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعا. وقرئ: ليثبتوك، بالتشديد. وقرأ النخعي: ليبيتوك، من البيات، وعن ابن عباس: ليقيدوك، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق
__________
(1) . قوله «فرقوا أن يتفاقم أمره» أى خافوا أن يعظم أمره. اه صحاح. (ع)
(2) . القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: حدثني من لا أنهم عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال «لما اجتمعت قريش في دار الندوة وتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترضهم إبليس في هيئة شيخ فذكره مطولا» وأخرجه الطبري وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح. وليس في أوله أن ذلك بسبب الأنصار. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة قال «لما كثر المسلمون- فذكر معناها. ووصلها الواقدي عن معمر بذكر عائشة قال: وعن ابن أبى خيثمة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس نحوه.

(2/215)


وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (34)

ويمكرون ويخفون المكايد له ويمكر الله ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة والله خير الماكرين أى مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 34]
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (34)
لو نشاء لقلنا مثل هذا نفاجة منهم وصلف «1» تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه «2» . وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبرا، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل إن كان هذا هو الحق وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفى كونه حقا، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك:
إن كان الباطل حقا، فأمطر علينا حجارة. وقوله: هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش «هو الحق» بالرفع، على أن هو مبتدأ غير
__________
(1) . قوله «نفاجة منهم وصلف الخ» «نفاجة» أى تكبر. و «الصلة» مجاوزة الحد كيرا. «والراعدة» السحابة. وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم به. والقدح المعلى: أحد سهام الميسر يخرج للغالب اه صحاح (ع)
(2) . قوله «على أن يغمروه» يقال للرجل: غمره القوم، إذا علوه شرفا، كذا في الصحاح. (ع)

(2/216)


فصل. وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت «1» ومطرت، كقولك: هتنت وهتلت. وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله من السماء؟ والأمطار لا تكون إلا منها. قلت: كأنه يريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل، كما تقول:
صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعا بعذاب أليم أى بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله وما لهم ألا يعذبهم الله وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم وهم يستغفرون في موضع الحال. ومعناه نفى الاستغفار عنهم: أى ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل: معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، وما لهم ألا يعذبهم الله وأى شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعنى:
لاحظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصد، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء وما كانوا أولياءه وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه إن أولياؤه إلا المتقون من المسلمين ليس كل مسلم أيضا ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام ولكن أكثرهم لا يعلمون كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.
__________
(1) . قوله «أنجمت وأسبلت الخ» أنجمت: أى انكشفت نجومها. وأسبلت: أمطرت. وهتنت وهتلت:
تتابع مطرها. اه صحاح (ع)

(2/217)


وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (36) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون (37)

[سورة الأنفال (8) : آية 35]
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
المكاء: فعال بوزن الثغاء والرغاء «1» من مكا يمكو إذا صفر: ومنه المكاء، كأنه سمى بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ: مكا بالقصر. ونظيرهما:
البكى والبكاء. والتصدية: التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صد يصد «2» إذا قومك منه يصدون وقرأ الأعمش: وما كان صلاتهم، بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا «3»
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه فذوقوا عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (36) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون (37)
قيل نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزائر. وقيل:
__________
(1) . قوله «بوزن الثغاء والرغاء» الثغاء: صوت الغنم. والرغاء: صوت الإبل. والمكا- بالتشديد-: طائر وجمعه مكاكى اه صحاح (ع)
(2) . قوله «أو من صد يصد» في الصحاح: صد يصد ويصد صديدا: أى ضج (ع)
(3) . للفرزدق «والأدهم» في الأصل الأسود، ثم غلب على الحية السوداء، ثم سمى به القيد الحديد.
«والمحدرج» المفتول: أى ما كنت. أظن أن يكون عطاؤه قيودا سودا، أو سياطا مفتولة سمرا حقيقة، أو وصفها بذلك لقبحها، كما يصفون الحسن بالأخضر. ويروى «حمرا» فوضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضع الشاعر الرجاء موضع الظن، وأطلق العطاء على العقاب مجازا، وعرض بذلك إلى أنه كان يرجو العطا، ويروى «أخاف زيادا أن يكون» .

(2/218)


قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38)

قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل: نزلت في أبى سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا ليصدوا عن سبيل الله أى كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك ثم تكون عليهم حسرة أى تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء «1» كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. والذين كفروا والكافرون منهم إلى جهنم يحشرون لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه ليميز الله الخبيث الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى: كادوا يكونون عليه لبدا يعنى لفرط ازدحامهم أولئك إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبى بكر وعثمان في نصرته فيركمه فيجعله في جهنم في جملة ما يعذبون به، كقوله فتكوى بها جباههم وجنوبهم ... الآية، واللام على هذا متعلقة بقوله ثم تكون عليهم حسرة وعلى الأول بيحشرون، وأولئك: إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ: ليميز على التخفيف.

[سورة الأنفال (8) : آية 38]
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38)
قل للذين كفروا من أبى سفيان وأصحابه. أى قل لأجلهم هذا القول وهو إن ينتهوا ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود. ونحوه:
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أى إن ينتهوا عماهم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام يغفر لهم ما قد سلف لهم من العداوة وإن يعودوا لقتاله فقد مضت سنت الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فدمروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أن الكفار إذا انتهوا عن
__________
(1) . قوله «فيرجعون طلقاء» في الصحاح «الطليق» الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله. (ع)

(2/219)


وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير (40) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)

الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجب ما قبله» «1» وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين.
وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة. وقبلها، وفسر وإن يعودوا بالارتداد. وقرئ يغفر لهم على أن الضمير لله عز وجل

[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير (40)
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط ويكون الدين كله لله ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإن الله بما يعملون بصير يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: تعملون، بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله مولاكم أى ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.

[سورة الأنفال (8) : آية 41]
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)
__________
(1) . أخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن بن أسامة عن عمرو بن العاص في قصة. وفيها هذا لكن بلفظ «يهدم ما قبله» قال النووي: غلط كثير من الفقهاء فذكره بلفظ «يجب ما قبله» ويروى «يحت» بالمهملة والمثناة اه. وقد رواه الطبري من هذا الوجه، بلفظ «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي من طريق حبيب بن أبى أويس الثقفي حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى في قال «لما جئت أريد الإسلام فذكر القصة. وفيها يا عمرو، إن الإسلام يجب ما قبله. والهجرة تجب ما كان قبلها» ومن هذا الوجه أخرجه أحمد وإسحاق والبيهقي في الدلائل. وأخرجه ابن سعد في خالد بن الوليد من طريق المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قال خالد ابن الوليد ... فذكر قصة إسلامه وفيها «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وفي ترجمة المغيرة بن شعبة من رواية يعقوب ابن عتبة عن المغيرة. فذكر قصة إسلامه. وفيها ذلك. وفي ترجمة هبار بن الأسود من حديث جبير بن مطعم في قصة إسلام هبار. وفيه «والإسلام يجب ما كان قبله» وفي أسانيد الثلاثة الواقدي.

(2/220)


أنما غنمتم ما موصولة. ومن شيء بيانه. قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، فأن لله مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق، أو فواجب أن الله خمسه. وروى الجعفي عن أبى عمرو، فإن الله بالكسر. وتقويه قراءة النخعي: فلله خمسه. والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت واجب حق لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ: خمسه بالسكون فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبى حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بنى هاشم وبنى المطلب، دون بنى عبد شمس وبنى نوفل، استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة، لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم رضى الله عنهما، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة: فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه «1» وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين، وابن السبيل. وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوى القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأما عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين: كعدة الغزاة من السلاح والكراع «2» ونحو ذلك. وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين. والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك ابن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه «3» قلت: يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول، لرسول الله
__________
(1) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم بتمامه وهو في الصحيح دون قوله «لم يفارقونى» . [.....]
(2) . قوله «من السلاح والكراع» الكراع: هو اسم جمع الخيل اه صحاح. (ع)
(3) . قال محمود «إن قلت ما معنى ذكر الله وعطف الرسول وغيره عليه ... الخ» قال أحمد: لأن مالكا رضى الله عنه لا يرى ذكر الوجوه المذكورة لبيان أنه لا يصرف فيما سواها، وليس لأن يتملكاها ولا على التحديد حتى لا يجوز الاقتصار على بعض الوجوه دون بعض، بل الأمر عنده موكول إلى نظر الامام فيصرف الخمس في مصالح المسلمين ومن جملتها قرابته عليه الصلاة والسلام، ولا تحديد عنده في ذلك البتة، وهذا التأويل الثالث ينطبق على مذهبه، وبيان ذلك أن المراد حينئذ بذكر الله تعالى بيان أن الخمس يصرف في وجوه التقربات لله تعالى غير مقيد، ثم تخصيص الوجوه المذكورة بعد ليس تحديدا، ولكن تنبيها على فضلها والتخصيص لقصد التفصيل بعد التعميم لا يرفع حكم العموم الأول، بل هو قار على حاله، كما أن العموم ثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكال، بعده، والله تعالى أعلم.

(2/221)


صلى الله عليه وسلم، كقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب. وأن يراد بقوله فأن لله خمسه أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة، تفضيلا لها على غيرها. كقوله تعالى وجبريل وميكال فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين. وعلى الثاني ما قال أبو العالية:
أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة «1» . وعنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى، ثم يقسم ما بقي على خمسة «2» . وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر رضى الله عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروى أن أبا بكر رضى الله عنه منع بنى هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغنى منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنى لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر. وعن زيد بن على رضى الله عنه: كذلك قال، ليس لنا أن نبنى منه قصورا، ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة. وعن على رضى الله عنه أنه قيل له: إن الله تعالى قال واليتامى والمساكين فقال: أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن رضى الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولى الأمر من بعده.
وعن الكلبي رضى الله عنه أن الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بنى قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة. فإن قلت:
بم تعلق قوله إن كنتم آمنتم بالله؟ قلت: بمحذوف يدل عليه واعلموا المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى،
__________
(1) . قوله «يصرف إلى رتاج الكعبة» في الصحاح «الرتج» بالتحريك: الباب العظيم، وكذلك الرتاج. ومنه.
وتاج الكعبة، (ع)
(2) . أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل من طريق الربيع بن أنس عن أبى العالية. قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالغنيمة قسمها خمسة أقسام، ثم يقبض بيده قبضة من الخمس أجمع ثم يقول: هذه الكعبة. ثم يقول لا تجعلوا لله نصيبا فان لله الآخرة والدنيا ثم يأخذ سهما لنفسه وسهما لذي القربى وسهما اليتامى، وسهما لمساكين، وسهما لابن السبيل، أخرجه أبو عبيدة في الأموال، والطبري من هذا الوجه.

(2/222)


إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)

لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر وما أنزلنا معطوف على بالله أى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا وقرئ عبدنا كقوله وعبد الطاغوت بضمتين يوم الفرقان يوم بدر. والجمعان الفريقان من المسلمين والكافرين. والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ والله على كل شيء قدير يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.

[سورة الأنفال (8) : آية 42]
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)
إذ بدل من يوم الفرقان. والعدوة: شط الوادي بالكسر والضم والفتح. وقرئ بهن وبالعدية، على قلب الواو ياء، لأن بينها وبين الكسرة حاجزا غير حصين كما في الصبية.
والدنيا والقصوى: تأنيث الأدنى والأقصى. فإن قلت: كلتاهما «فعلى» من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كالعليا. وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل. وقد جاء القصيا، إلا أن استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» «1» والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة والركب أسفل منكم يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. وأسفل: نصب على الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل، لأنه خبر للمبتدإ. فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم «2» ؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم «3» وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار «4»
__________
(1) . قوله «وأغيلت مع أغالت» أغيلت: أى أرضعت وهي موطوءة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة ذكر مركز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
(3) . قوله «والتياث أمرهم» أى اختلاط أمرهم اه صحاح. (ع)
(4) . قوله «وهي خبار» أى رخوة ذات جحرة. اه صحاح (ع)

(2/223)


إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور (43)

تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذلك جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضى أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا الغير راغبين في الخروج، وشخص بقريش «1» مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له ليقضي متعلق بمحذوف، أى ليقضى أمرا كان واجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله ليهلك بدل منه. واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أى ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضا عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغر المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابرا لنفسه مغالطا لها.
وقرئ: ليهلك، بفتح اللام. وحيي، بإظهار التضعيف لسميع عليم يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم. أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.

[سورة الأنفال (8) : آية 43]
إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور (43)
إذ يريكهم الله نصبه بإضمار اذكر. أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بقوله لسميع عليم أى يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في منامك في رؤياك. وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم. وعن
__________
(1) . قوله «وشخص بقريش» يقال للرجل إذا ورد عليه أمرا أقلقه: شخص به. اه صحاح. (ع)

(2/224)


وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (44)

الحسن: في منامك في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة «1» : المنامة، لأنه ينام فيها.
وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته لفشلتم لجبنتم وهبتم الإقدام ولتنازعتم في الرأى، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار ولكن الله سلم أى عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف إنه عليم بذات الصدور يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع.

[سورة الأنفال (8) : آية 44]
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (44)
وإذ يريكموهم الضميران مفعولان. يعنى: وإذ يبصركم إياهم. وقليلا نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضى الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال.
ألفا «2» ويقللكم في أعينهم حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت:
قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده ليجترءوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم «3» حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله يرونهم مثليهم رأي العين ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا. فإن قلت: بأى طريق يبصرون الكثير قليلا «4» ؟ قلت بأن يستر الله عنهم
__________
(1) . قوله «للقطيفة» هي دثار مخمل. اه صحاح. (ع)
(2) . قال إسحاق في مسنده: أخبرنا عمرو بن محمد، ويحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل. عن أبى إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود. فذكره، ومن هذا الوجه أخرجه الطبري وابن أبى حاتم.
(3) . قوله «وتفل شوكتهم» أى تكسر. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت بأى طريق يبصرون الكثير قليلا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك، فعلى هذا يجوز أن يخلق الإدراك مع اجتماعها، فلا ربط إذا بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا، وأنها تستلزم الجسمية، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم، فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم، ولكنهم يمرون عليها. وهم عنها معرضون، والله الموفق.

(2/225)


ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46)

بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الوحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال:
مالى لا أرى هذين الديكين أربعة؟

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46)
إذا لقيتم فئة إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب فاثبتوا لقتالهم ولا تفروا واذكروا الله كثيرا في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم لعلكم تفلحون لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلبا وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج- من البلاغة والبيان ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح- دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقهم الأمر ولا تنازعوا قرئ بتشديد التاء فتفشلوا منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ وتذهب ريحكم بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: ويذهب ريحكم، بالياء والجزم. والريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل:
هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
يا صاحبى ألا لاحى بالوادى ... إلا عبيد قعود بين أذواد
أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادى «1»
__________
(1) . لسليك بن سلكة، مر مع صاحبيه بجوف مراد واد باليمن فوجدوا إبلا قد ملأته، فقال لهما: أتنظراني هنا حتى آتى الرعاء فأعلم خبر الحي أقريب أم بعيد، فلم يزل يلاطفهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد، فقال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فتغنى بأعلى صوته بالبيتين، فأتاه صاحباه فاستاقوا الإبل. وآم بالمد. قيل: جمع إماء جمع أمة. وقيل: هو أيضا جمع أمة، فأصله أأمو كأذرع جمع ذراع. وعلى الثاني أأمو أيضا، كآكم جمع أكمة، لأن أمة أصله أموة، فأبدلت الهمزة الثانية في الجمع ألفا وقلبت الواو ياء لتطرفها. والهمزة كسرة لمناسبتها، ثم أعل إعلال قاض. وروى بدله «قعود» والذود من الإبل: من ثلاثة إلى عشرة. وأ تنظران، من أنظرته إذا أخرته. والريث: التأخر والتواني، وهو نصب على البدلية من قليلا. أو على الظرفية. ويجوز قراءة «أتنظران» من نظره إذا انتظره. فريث. يجوز أنه مفعول به. و «وتعدوان» من العدو، وهو السرعة السير، أو من العدوان، وهو تعدى الحد. واستعار الريح الدولة والأمر النافذ بجامع النفوذ من كل. ويروى «تغدوان» و «للغادى» بالغين المعجمة: أى أم تسرعان إلى، فان الظفر للمسرع. وفيه دلالة على أن السرعة أرجح من التأخر. [.....]

(2/226)


ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (47) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (48)

وقيل لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» «1»

[سورة الأنفال (8) : آية 47]
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (47)
حذرهم- بالنهى عن التنازع واختلاف الرأى- نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم كالذين خرجوا من ديارهم هم أهل مكة حين خرجوا الحماية العير، فأتاهم رسول أبى سفيان وهم بالجحفة: أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان «2» ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى «3» والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.

[سورة الأنفال (8) : آية 48]
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (48)
واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أى بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بنى كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس
__________
(1) . متفق عليه من طريق مجاهد عن ابن عباس.
(2) . قوله «وتعزف علينا القيان» تلعب بالملاهي وتغنى والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية والجمع القيان والقين الحداد والجمع القيون وكل عبد هو عند العرب قين وقان الشيء يقينه قينا إذا أصلحه وزينه أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وأن يكونوا من أهل التقوى» لعله: وأن لا يكونوا. أو لعله بأن يكونوا. (ع)

(2/227)


إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49) ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (50) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51)

في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- وكان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإنى مجيركم من بنى كناية. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إنى أرى مالا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث: وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر «1» ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر «2» . فإن قلت: هلا قيل لا غالبا لكم كما يقال: لا ضاربا زيدا عندنا؟ قلت: لو كان لكم مفعولا لغالب، بمعنى: لا غالبا إياكم لكان الأمر كما قلت: لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم.

[سورة الأنفال (8) : آية 49]
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49)
إذ يقول المنافقون بالمدينة والذين في قلوبهم مرض يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتى الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون غر هؤلاء دينهم يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوى.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (50) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51)
ولو ترى ولو عاينت وشاهدت، لأن «لو» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما ترد «إن»
__________
(1) . قوله «ولا أدحر» الدحور: الطرد والابعاد، اه صحاح، (ع)
(2) . أخرجه مالك في الموطأ من رواية طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق والطبري، والبيهقي في الشعب وانفرد أبو النضر بن إسماعيل بن إبراهيم العجلى عن مالك. فقال عن طلحة عن أبيه قال ابن عبد البر: الصواب مرسل «تنبيه» هو طلحة بن عبد الله بن بكير، وكريز مصغر، ووقع في المناسك للنووي طلحة بن عبد الله أحد العشرة، وهو وهم بين.

(2/228)


كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (52) ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (53) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين (54)

الماضي إلى معنى الاستقبال. وإذ نصب على الظرف. وقرئ: يتوفى. بالياء والتاء.
والملائكة رفعها بالفعل ويضربون حال منهم، ويجوز أن يكون في يتوفى ضمير الله عز وجل، والملائكة مرفوعة بالابتداء، ويضربون خبر. وعن مجاهد: وأدبارهم:
أستاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب. لأن الخزي والنكال في ضربهما أشده، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر، ثم يعطى الرجل القوى البطش شيئا عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض، فيضربه على دبره ضربة واحدة بقوته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر وذوقوا معطوف على يضربون على إرادة القول: أى ويقولون ذوقوا عذاب الحريق أى مقدمة عذاب النار. او وذوقوا عذاب الاخرة: بشارة لهم به. وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب لو محذوف: أى لرأيت أمرا فظيعا منكرا ذلك بما قدمت أيديكم يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، وذلك رفع بالابتداء وبما قدمت خبره وأن الله عطف عليه، أى ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله ليس بظلام للعبيد لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد «1» أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (52) ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (53) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين (54)
الكاف في محل الرفع: أى دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه: أى داوموا عليه وواظبوا. وكفروا تفسير لدأب آل فرعون. وذلك إشارة
__________
(1) . قال محمود: «وقيل ظلام للتكثير لأجل العبيد ... الخ» قال أحمد: وبهذه النكتة يجاب عن قول القائل نفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، فلم عدل عن الأبلغ. والمراد تنزيه الله تعالى وهو جدير بالمبالغة، فهذان الجوابان عتيدان في هذا السؤال.

(2/229)


إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (56) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57)

إلى ما حل بهم، يعنى ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا ما بهم من الحال. فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب وأن الله سميع لما يقول مكذبو الرسل عليم بما يفعلون كدأب آل فرعون تكرير للتأكيد. وفي قوله بآيات ربهم زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب وكل كانوا ظالمين وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 57]
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (56) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57)
الذين كفروا فهم لا يؤمنون أى أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم الذين عاهدت منهم بدل من الذين كفروا، أى الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود وهم لا يتقون لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار فإما تثقفنهم في الحرب فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فشرد بهم من خلفهم ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: فشرذ، بالذال المعجمة، بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب «شذر» من قولهم «ذهبوا شذر مذر «1» » ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن لتفرقه. وقرأ أبو حيوة: من خلفهم. ومعناه: فافعل
__________
(1) . قوله «وكأنه مقلوب شذر، من قولهم ذهبوا «شذر مذر» بفتحات، أى في كل وجهة. اه صحاح. (ع)

(2/230)


وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (59)

التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه، لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفا للتشريد فقد دل على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين لعلهم يذكرون لعل المشردين من ورائهم يتعظون.

[سورة الأنفال (8) : آية 58]
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)
وإما تخافن من قوم معاهدين خيانة ونكثا بأمارات تلوح لك فانبذ إليهم فاطرح إليهم العهد على سواء على طريق مستو قصد، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إن الله لا يحب الخائنين فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل على استواء في العداوة. والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتا على طريق قصد سوى، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا.

[سورة الأنفال (8) : آية 59]
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (59)
سبقوا أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم إنهم لا يعجزون إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. وقرئ: أنهم، بالفتح، بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح وقرى:
يعجزون، بالتشديد. وقرأ ابن محيصن: يعجزون، بكسر النون. وقرأ الأعمش: ولا تحسب الذين كفروا، بكسر الباء وبفتحها، على حذف النون الخفيفة. وقرأ حمزة: ولا يحسبن بالياء على أن الفعل للذين كفروا. وقيل فيه: أصله أن سبقوا، فحذفت أن، كقوله ومن آياته يريكم البرق واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: أنهم سبقوا. وقيل: وقع الفعل على أنهم لا يعجزون، على أن «لا» صلة، وسبقوا في محل الحال، بمعنى سابقين أى مفلتين هاربين. وقيل معناه: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوما. وقيل: ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة. وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.

(2/231)


وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)

[سورة الأنفال (8) : آية 60]
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)
من قوة من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وعن عقبة بن عامر «1» : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ألا إن القوة الرمي «2» » قالها ثلاثا. ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله. وعن عكرمة: هي الحصون، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. وقرأ الحسن: ومن ربط الخيل، بضم الباء وسكونها جمع رباط. ويجوز أن يكون قوله ومن رباط الخيل تخصيصا للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله وجبريل وميكال وعن ابن سيرين رحمه الله أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون، فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
أن الحصون الخيل لا مدر القرى «3»
ترهبون قرئ بالتخفيف والتشديد. وقرأ ابن عباس ومجاهد رضى الله عنهما تخزون والضمير في به راجع إلى ما استطعتم عدو الله وعدوكم هم أهل مكة وآخرين من دونهم هم اليهود وقيل المنافقون «وعن السدى هم أهل فارس، وقيل كفرة الجن، وجاء في الحديث. إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق» وروى أن صهيل الخيل يرهب الجن «4»
__________
(1) . قال محمود: «القوة الرمي، روى عقبة بن عامر أنها الرمي ... الخ» قال أحمد: والمطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(2) . أخرجه مسلم أتم منه.
(3) .
ولقد علمت على تجنبى الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
لأشعر الجعفي، يقول: ولقد تيقنت مع أنى متجنب للردى أن الحصون المانعة منه هي الخيل وآلات الحرب لا البناء، كالقلاع التي في القرى. وأتى بقوله «على تجنبى الردى» لدفع توهم أنه رجل يلقى بنفسه إلى التهلكة فلذلك يحب الحرب، فهو من باب الاحتراس. ويروى: على توقى الردى- بتشديد الياء- أى: مع أنى أتوقى الهلاك.
قال رجل لعبيد الله بن الحسن: إن أبى أوصى بثلث ماله للحصون. قال: اذهب فاشتر به خيلا. قال: إنما ذكر الحصون. فقال: أما سمعت قول الأشعر، فأنشد البيت.
(4) . لم أجده هكذا، وروى ابن سعد والطبراني وابن عدى من رواية سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله ابن عريب عن أبيه عن جده. رفعه في قوله عز وجل وآخرين من دونهم- الآية قال: هم الجن، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق وأهله ابن عدى، بسعيد بن سنان وضعفه عن أبى معين، وغيره، وله شاهد من رواية الوضين بن عطاء عن سليمان بن موسى مرسلا، ولابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو الشيطان، لا يقرب ناصية فرس وإسناده واه. وقوله: «روى أن صهيل الخيل يطرد الجن» لم أجده.

(2/232)


وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63)

[سورة الأنفال (8) : آية 61]
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)
جنح له وإليه: إذا مال. والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع «1»
وقرئ بفتح السين وكسرها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وعن مجاهد بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الامام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا. وقرأ الأشهب العقيلي. فاجنح بضم النون وتوكل على الله ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد، يريد قريظة.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63]
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63)
فإن حسبك الله فإن محسبك الله: قال جرير:
إنى وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا «2»
وألف بين قلوبهم التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، لأن العرب- لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا- لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 252 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
إنى وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
لجرير، أى: إنى وجدت كافيكم من المكارم ليس الخز من الثياب والشبع من الطعام والشراب، وجعلهما من المكارم تهكما بهم. أو على زعمهم، أو المعنى: مغنيكم عنها هاتان الخصلتان، فمن للبدل، أو المعنى: إن كان ذلك من المكارم فهو كافيكم لمبالغتكم فيه. ويروى: حر الثياب، بمهملتين، أى جيدها. وتذوكرت: مبنى للمجهول، أى: فإذا تذاكر الناس بالمكارم ولو مرة واحدة فغطوا وجوهكم حياء كالنساء فلستم من المكارم في شيء.

(2/233)


ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64) ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66)

رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد، وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته

[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)
ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيدا درهم، ولا تجر، لأن عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال:
فحسبك والضحاك عضب مهند «1»
والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا أو يكون في محل الرفع: أى كفاك الله وكفاك المؤمنون، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضى الله عنه نزلت في إسلام عمر رضى الله عنه، وعن سعيد بن جبير أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر، فنزلت.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66)
__________
(1) .
إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهتد
يقول: إذا وجدت الحرب وافترقت العصبة ووقع الخلاف وظهر الشر فيكفيك مع الضحاك سيف مطبق من حديد الهند، فانشقاق العصا تمثيل لوقوع الخلاف وظهور الشر. وحسب: اسم فعل بمعنى يكفى. والكاف مفعوله.
والضحاك مفعول معه. وسيف فاعله. والجمهور على أنه صفة مشبهة بمعنى كافى مبتدأ، والكاف مضاف إليه.
وسيف خبره. والضحاك مفعول لمحذوف، أى يكفى لأن الصفة المشبهة لا تنصب المفعول معه. وروى الضحاك بالجر، أى: وحسب الضحاك، وبالرفع على إنابته مناب «حسب» المحذوف. والواو للمعية على الأول، والعطف على غيره ويروى: عضب مهند. والعضب: السيف القاطع. [.....]

(2/234)


ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)

التحريض: المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضا: وتقول له: ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر وممرضا فيه، ليهيجه ويحرك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه، بمعنى، وقرئ حرص، بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش، من الحرص، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال بأنهم قوم لا يفقهون أى بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى. وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضى الله عنه في ثلاثين راكبا، فلقى أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف. وقرئ: ضعفا، بالفتح والضم، كالمكث والمكث، والفقر والفقر. وضعفا: جمع ضعيف. وقرئ الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين، والمراد بالضعف: الضعف في البدن. وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت: لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 68]
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)
وقرئ: للنبي، على التعريف. وأسارى. ويثخن، بالتشديد. ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة. وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعنى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل

(2/235)


في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر. ثم الأسر بعد ذلك. ومعنى ما كان ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل فإما منا بعد وإما فداء وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبى طالب، فاستشار أبا بكر رضى الله عنه فيهم «1» فقال: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك. وقال عمر رضى الله عنه: كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء: مكن عليا من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر مثل نوح، قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق. وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا «2» بأحد: وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية، والأوقية أربعون درهما وستة دنانير «3» . وروى أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله
__________
(1) . أخرجه مسلم عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل، وقد تقدم طرف منه في أوائل السورة، وفي الباب عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه كما سيأتى قريبا.
(2) . قوله «وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم: فقالوا: بلى. نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد» أخرجه الطبري من طريق أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن عبيدة هو ابن عمرو قال «أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، فتتقووا به على عدوكم ويقتل منكم سبعين، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم ويقتل منا سبعون، قال فأخذوا منهم الفدية، وقتل سبعون ورواه ابن مردويه موصولا من طريق ابن عون. عن ابن سيرين عن عبيدة عن على وزاد فيه: قال «وكان آخر السبعين ثابت بن قيس بن شماس» وروى الواقدي في المغازي من طريق يحيى ابن أبى كثير. عن على. قال «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيره في الأسرى. أن يضرب أعناقهم.
أو يأخذ منهم الفداء ويستشهد منكم في قابل عدتهم. الحديث مع ضعفه وهو منقطع.
(3) . قوله «وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير» أما كون الفداء كان عشرين أوقية. فروى الطبري من طريق عبيدة بن عمر قال «كان فداء أسارى بدر مائة أوقية والأوقية أربعون درهما ومن الدنانير ستة دنانير. وأما فداء العباس رضى الله عنه. فروى ابن مردويه من طريق على وابن عباس، قال كان العباس يوم بدر أسيرا فافتدى نفسه بأربعين أوقية ذهب» وروى ابن مردويه. من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «لما كان يوم بدر أسر سبعون فجعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين أوقية ذهبا وجعل على عمه العباس مائة أوقية: وعلى عقيل ثمانين، فقال القرابة صنعت هذا. الحديث.

(2/236)


صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان «1» فقال: يا رسول الله أخبرنى، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- وروى أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمرو سعد بن معاذ، رضى الله عنهما، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إلى «2» عرض الدنيا حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء والله يريد الآخرة يعنى ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل. وقرئ:
يريدون، بالياء. وقرأ بعضهم والله يريد الآخرة، بجر الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله، كقوله:
أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا «3»
ومعناه والله يريد عرض الآخرة. على التقابل، يعنى ثوابها والله عزيز يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلا وأسرا ويطلق لهم الفداء، ولكنه حكيم يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون لولا كتاب من الله سبق لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطإ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم. وقيل كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل: إنه لا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهى، ولم يتقدم نهى عن ذلك فكلوا مما غنمتم روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم
__________
(1) . أخرجه أحمد والطبري. من رواية الأعمش عن عمر بن سمرة عن أبى عبيدة عن عبد الله فذكره مطولا.
(2) . أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق قال «لم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر بدرا إلا أحب الغنائم غير عمر بن الخطاب فانه جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ» ورواه الواقدي في المغازي من وجه آخر منقطع بمعناه. وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر رفعه «لو نزل العذاب. ما أفلت منه إلا ابن الخطاب» .
(3) . لأبى دواد. وقيل لحارثة بن حمران الأيادي، وهو من أبيات الكتاب. والهمزة للاستفهام الإنكاري، يخاطب امرأة، أو نفسه، أى: لا تحسبي أن كل رجل رجل كامل، ولا تحسبي أن كل نار تتوقد في الليل نار متوقدة لقرى الضيفان، يعنى أن الرجل هو الكريم الشجاع، والنار هي نار القرى لا غير. وحذف المضاف مع بقاء المضاف إليه على حالة الاضافة مطرد، إذا عطف على مثله ليدل عليه كما هنا، وإلا فهو سماعي، بل مطرد عند الكوفيين ولو بغير عطف. ونار مجرور بمضاف محذوف، ولا يصح عطفه على امرئ. وعطف المنصوب على المنصوب لئلا يلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين، وهما «كل» و «تحسبين» وهو ممنوع عند سيبويه ومن وافقه.

(2/237)


فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69) ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70)

يمدوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم واتقوا الله فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه.

[سورة الأنفال (8) : آية 69]
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)
فإن قلت: ما معنى الفاء؟ قلت: التسبيب والسبب محذوف، معناه: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم. وحلالا: نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أى أكلا حلالا. وقوله إن الله غفور رحيم معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم.

[سورة الأنفال (8) : آية 70]
يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70)
في أيديكم في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم. وقرئ: من الأسرى في قلوبكم خيرا خلوص إيمان وصحة نية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. وفي قراءة الأعمش: يثبكم خيرا. وعن العباس رضى الله عنه أنه قال: كنت مسلما، لكنهم استكرهوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك» فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا «1» وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: «افد ابني أخيك عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت. فقال له: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها:
لا أدرى ما يصيبني في وجهى هذا، فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس وما يدريك؟ قال «أخبرنى به ربى» قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. قال العباس رضى الله عنه: فأبدلنى الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطانى زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربى «2» . وروى أنه قدم على رسول الله
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والحاكم من طريقه- حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت:
لما بعث أهل مكة في فداء أسرهم وبعثت زينب في فداء أبى العاص قال العباس يا رسول الله إنى كنت مسلما. فذكره
(2) . هو الذي قبله بتمامه بالإسناد المذكور. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن مقسم عن ابن عباس. بمعناه مطولا. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بمعناه، وفيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، وقوله «وكان العباس أحد الذين ضمنوا إطعام بدر، وخرج بالذهب لذلك» لم أجد هذا.

(2/238)


وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71) إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73)

صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ منى وأرجو المغفرة «1» وقرأ الحسن وشيبة: مما أخذ منكم، على البناء للفاعل.

[سورة الأنفال (8) : آية 71]
وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71)
وإن يريدوا خيانتك نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم فقد خانوا الله من قبل في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه فأمكن منهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.

[سورة الأنفال (8) : آية 72]
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)
الذين هاجروا: أى فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار بعضهم أولياء بعض أى يتولى بعضهم بعضا في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وقرئ: من ولايتهم، بالفتح والكسر، أى من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمرا ويباشر عملا فعليكم النصر فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين إلا على قوم منهم بينكم وبينهم عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك.

[سورة الأنفال (8) : آية 73]
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73)
__________
(1) . أخرجه الطبري حدثنا بشرين بن معاذ حدثنا يزيد. حدثنا سعد بن أبى عروبة. عن قتادة هكذا. وروى الحاكم في فضائل العباس من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال. عن أبى موسى «أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفا فأمر بها فنثرت على الحصير ونودي بالصلاة ... الحديث»

(2/239)


والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم (74) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم (75)

والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين أولئك بعضهم أولياء بعض ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا ثم قال:
إلا تفعلوه أى إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار.
ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرا والفساد زائدا. وقرئ كثير بالثاء.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 74 الى 75]
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم (74) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم (75)
أولئك هم المؤمنون حقا لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم «1» مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل والذين آمنوا من بعد يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله والذين جاؤ من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا وأولوا الأرحام أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة في كتاب الله تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه الله على توريث ذوى الأرحام.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» «2»
__________
(1) . قوله «والشهادة لهم» لعله: والشهادة لهم بالايمان. (ع)
(2) . ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران.

(2/240)


سورة التوبة
(مدنية [إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان] وآياتها 130 وقيل 129 [نزلت بعد المائدة] ) لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب، لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أى تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث «1» عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة رضى الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور؟ قلت: سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضى الله عنهما فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال: اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، «2» فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين «3» . وعن أبى كعب: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود. وسئل ابن عيينة رضى الله عنه فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب: بسم الله الرحمن الرحيم. قال: إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول والسلام على من اتبع الهدى «4» فمن دعى إلى الله عز وجل فأجاب ودعى «5» إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى، وأما النبذ فإنما هو البراءة
__________
(1) . قوله «تبحث» لعله أى تبحث. (ع)
(2) . قوله «شبيهة بقصتها» هذا الضمير للأنفال، بدليل التشبيه، وإن لم يجر لها ذكر هنا. وعبارة الخازن ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها ... الخ. (ع)
(3) . أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار. من طريق يوسف بن مهران.
ويزيد الفارسي. عن ابن عباس. قال «سألت عثمان بن عفان، ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما فذكر الحديث بطوله سوى قوله وكانتا تدعيان القرينتين، فلم يذكرها إلا إسحاق [.....]
(4) . هو في حديث ابن عباس الطويل عن أبى سفيان. وهو متفق عليه. وفيه فقرأ الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هر قل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. الحديث.
(5) . قوله «ودعى» لعله: أو دعى. (ع)

(2/241)


براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)

واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس «1» ولا بأس:
هذا أمان كله. وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدان السابعة من الطول «2» وهي سبع وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر، لأنهما معا مائتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)
براءة خبر مبتدإ محذوف أى هذه براءة ومن لابتداء الغاية، متعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين. والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما يقال: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر إلى الذين عاهدتم كما تقول: رجل من بنى تميم في الدار. وقرئ «براءة» بالنصب، على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه «3» منبوذ إليهم. فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أولا فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون
__________
(1) . قوله «ومترس» بفتح الميم والتاء وسكون الراء: فارسى، معناه: أمان. (ع)
(2) . قوله «من الطول» الطول- بكسر ففتح- بمعنى الطويلة. أفاده الصحاح. وعبارة غيره: الطوال.
(3) . قال محمود معناه: «أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ... الخ» قال أحمد:
ورواه ما ذكره سر آخر هو المرعي، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا التزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم»

(2/242)


بما نجدد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه على موسم سنة تسع، ثم أتبعه عليا رضى الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبى بكر رضى الله عنه؟ فقال: لا يؤدى عنى إلا رجل منى، فلما دنا على سمع أبو بكر الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. وروى أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك، فأرسل عليا، فرجع أبو بكر رضى الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أشىء نزل من السماء قال: نعم، فسر وأنت على الموسم، وعلى ينادى بالآى. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه وحدثهم عن مناسكهم، وقام على رضى الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس، إنى رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية «1» . وعن مجاهد رضى الله عنه ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل
__________
(1) . «قلت» هذا ملفق من مواضع. فصدره مذكور في مغازي ابن إسحاق. وقوله «وهم بنو ضمرة وبنو كنانة أى الذين نكثوا إلا من استثنى منهم كما يفهم من ظاهره. وسيأتى بيان ذلك قريبا بعد أحاديث. وذلك أن العهد كان في سنة ست والنكث ونزولها والفتح في سنة ثمان كما سيأتى بعد قليل: أن المدة التي بلا نكث كانت ثمانية عشر شهرا. فعلى هذا كان أول النكث. في شهر ربيع الآخر سنة ثمان هذا هو التحقيق في النقل، وأما قوله «وكان الأمير بها أى في سنة ثمان على مكة وعلى الحج. فهذا ذكره الواقدي في المغازي. وأما قوله «فأمر أبو بكر على موسم سنة تسع إلى آخره» فهو في الصحيح من حديث أبى هريرة بمعناه. وأما قوله وأتبعه عليا فرواه أحمد، وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن يزيد بن منيع عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة. فذكر الحديث وفيه فسار ثلاثا ثم قال لعلى الحقه ورد على أبا بكر وبلغها قال ففعل، فلما قدم أبو بكر بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء؟ قال: ما حدث فيك إلا خير. لكنني أمرت أن لا يبلغ إلا أنا أو رجل منى» وفي المستدرك من طريق جميع بن عمير «أتيت ابن عمر فسألته عن على فانتهرنى ثم قال، ألا أحدثك عن على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة فانطلقا فإذا هما براكب فقالا من هذا؟
فقال: أنا على بن أبى طالب فقال: يا أبا بكر هات الكتاب، الحديث، وروى.
«كذا بأحد الأصلين بياض قدر أسطر. وفي الأصل الآخر سقط الكلام ولم يترك بياضا. اه مصححه»

(2/243)


وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3)

نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذى عهد عهده: فقالوا عند ذلك يا على، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل:
إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه، لأن العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر رضى الله عنه لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك عليا رضى الله عنه. فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت: عن الزهري رضى الله عنه أن براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر:
شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقيل هي عشرون من ذى الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر. وكانت حرما، لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم. أو على التغليب، لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: لعشر من ذى القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذى الحجة. فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت: قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها غير معجزي الله لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم: أى مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.

[سورة التوبة (9) : آية 3]
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3)
وأذان ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال: عمرو معطوف على زيد، في قولك: زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان: بمعنى الإيذان وهو الإعلام، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث يوم الحج الأكبر يوم عرفة. وقيل: يوم النحر، لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، من الطواف. والنحر، والحلق، والرمي. وعن على رضى الله عنه: أن رجلا أخذ

(2/244)


إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)

بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا. خل عن دابتي «1» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر «2» » ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج- فهو الحج الأكبر. وعن الحسن رضى الله عنه: سمى يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفا. وقرئ «إن الله» بالكسر، لأن الأذان في معنى القول ورسوله عطف على المنوي في بريء أو على محل «إن» المكسورة واسمها: وقرئ بالنصب، عطفا على اسم «إن» أو لأن الواو بمعنى مع: أى بريء معه منهم، وبالجر على الجوار. وقيل: على القسم، كقوله: لعمرك. ويحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابى قراءته، فعندها أمر عمر رضى الله عنه بتعلم العربية «3» فإن تبتم من الكفر والغدر فهو خير لكم وإن توليتم عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه.

[سورة التوبة (9) : آية 4]
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)
فإن قلت: مم استثنى قوله إلا الذين عاهدتم «4» ؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية شعبة عن الحاكم عن يحيى بن الجزار عن على «أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر فقال: هو يومك هذا خل سبيلها
(2) . أخرجه البخاري تعليقا وأبو داود والحاكم من رواية هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر مطولا ورواه الطبراني والطبري وأبو نعيم في الحل؟؟؟؟ ببة وابن أبى حاتم مختصرا من طريق سعيد بن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر. وقال: هذا يوم الحج الأكبر» وفي الباب عن على رضى الله عنه، أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا. وعن ابن أبى أو في عند الطبراني. وعن ابن مسعود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم في ترجمة عمر بن هارون.
(3) . لم أجده بإسناده وذكره القرطبي في التذكرة عن ابن أبى مليكة قال «قدم أعرابى في زمن عمر فذكره أتم منه، وزاد في آخره: وأمر بأبى الأسود، فوضع النحو اه والمشهور أن الذي أمر أبا الأسود بوضع النحو على بن أبى طالب رضى الله عنه.
(4) . قال محمود: «إن قلت مم هذا الاستثناء قلت وجهه أن يكون مستثنى ... الخ» قال أحمد: ويجوز أن يكون قوله فسيحوا خطابا من الله تعالى المشركين غير مضمر قبله القول، ويكون الاستثناء على هذا من قوله إلى الذين عاهدتم، كأنه قيل براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في قوله إلى الذين عاهدتم إلى خطاب المشركين في قوله فسيحوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة بقوله: واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله وأصله واعلموا أنكم غير معجزي وأنى، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى خطاب المسلمين بقوله: إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا، وكل هذا من حسنات الفصاحة وإنما بعث الزمخشري على تقدير القول قبل فسيحوا مراعاة أن يطابق قوله فأتموا، إذا المخاطب على هذا التقدير المسلمون أولا وثانيا ولا يكون فيه شيء من الالتفاتات المبنية على التأويل الذي ذكرناه، وكلا الوجهين ممتاز بنوع من البلاغة وطرف من الفصاحة، والله أعلم.

(2/245)


قوله فسيحوا في الأرض لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا عليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفى كالغادر إن الله يحب المتقين يعنى أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك لم ينقصوكم شيئا لم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم قط ولم يظاهروا ولم يعاونوا عليكم عدوا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:
لاهم إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا «1»
__________
(1) .
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... وتقضوا ذمامك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجي أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا في الحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلق كالبحر يجرى مزيدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا ... إن شيم خطب وجهه تربدا
لعمرو بن سلام الخزاعي. لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أعانت قريش بنى بكر على حرب بنى خزاعة، ففزع عمرو إليه بالمدينة وأنشده ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم. و «لاهم» أصله اللهم، خفف وأظهر في مقام الإضمار للدلالة على التعظيم والتهييج لما أراده. والحلف: العهد. والأتلد:
الأقدم. والتفت إلى الخطاب للاستعطاف. وجعله كالأب لهم لمراعاته مصالحهم. وعطف بثمة للترتيب في الاخبار ونزع إليه كناية عن نقض العهد. و «الذمام» العهد. وقيل: مع ذمة بمعنى العهد أيضا. وروى «ميثاقك» .
وأذل، وأقل، بمعنى أذلاء قليلون، فليس مفيدا للزيادة. ويجوز أنه على بابه بالنظر لزعمهم، أى: أذل وأقل مما زعموا فيك وفي قومك. و «الحطيم» معروف، كانوا في الجاهلية يحلفون فيه فيحطم الكاذب. ويروى «بالأتير» والأتير: الطريق، وواحدة وتيرة. وهو هنا اسم ماء لخزاعة بأسفل مكة. و «الهجد» جمع هاجد، وهو المتيقظ من النوم العبادة. و «العتيد» الحاضر، يقال: عنده تعتيدا، وأعتده إعتادا: هيأه وأحضره، فهو عتيد وأعتد.
وفيه جعل اسم التفضيل بمعنى المفعول، فلعله من عند إذا حضر. والأصل أعده إعدادا فأبدلت الدال تاء، و «هداك الله» جملة اعتراضية دعائية. و «المدد» الزيادة: أى يأتوا زيادة لنا تعيننا على أعدائنا. وفي الاضافة إلى الله تهييج لهم. و «الفيلق» الجيش المزدحم المتكاثف. كالبحر في الكثرة وسرعة السير. و «المزيد» المخرج للرغوة من شدة السير والغليان. «يسمو» يعلو «صعدا» أى صعودا. «إن شيم» أى رئي. وروى بالمهملة: أى أحق، «تريد» أى تغير وصار مغيرا كلون الرماد. والغضب عند نزول المكروه أمارة الشجاعة. وهذا كان سبب فتح مكة.

(2/246)


فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)

فقال عليه الصلاة والسلام: لا نصرت إن لم أنصركم» «1» وقرئ: لم ينقضوكم، بالضاد معجمة أى لم ينقضوا عهدكم. ومعنى فأتموا إليهم فأدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس رضى الله عنه: بقي لحى من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم.

[سورة التوبة (9) : آية 5]
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)
انسلخ الشهر، كقولك انجرد الشهر، وسنة جرداء. والأشهر الحرم التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا فاقتلوا المشركين يعنى الذين نقضوكم وظاهروا عليكم حيث وجدتموهم من حل أو حرم وخذوهم وأسروهم. والأخيذ: الأسير واحصروهم وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضى الله عنه: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام كل مرصد كل ممر ومجتاز «2» ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف كقوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقة. قال حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا «كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فذكر القصة مطولة وفيها الشعر. وفيها فنكثوا في الهدنة نحو سبعة أو ثمانية عشر شهرا. وروى الطبراني من طريق على بن الحسين حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت «كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فذكرت القصة والشعر.
وأوردها الواقدي في المغازي مطولا من طرق ثم قال. حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبى أنس عن ابن عباس. قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر طرف ردائه ويقول «يا عمرو لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب مما أنصر منه نفسي» .
(2) . قال محمود: «المرصد المجاز والممر ... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه دون جره من الاتساع، لأن المرصد ظرف مختص، والأصل قصور الفعل عن نصبه، ويكون مثل قوله في الاتساع:
كما عسل الطريق الثعلب
ويحتمل- والله أعلم- أن يكون مرصد مصدرا، لأن صيغة اسم الزمان والمكان والمصدر من فعلة واحدة، فعلى هذا يكون منصوبا نصبا أصليا، لأن اقعدوا في معنى ارصدوا، كأنه قيل: وارصدوهم كل مرصد، إلا أن الظرفية يقويها قوله حيث وجدتموهم فيقتضيها قصد المطابقة بين ظرفى المكان، والله أعلم.

(2/247)


وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)

فخلوا سبيلهم فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم كقوله:
خل السبيل لمن يبنى المنار به «1»
وعن ابن عباس رضى الله عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام إن الله غفور رحيم يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

[سورة التوبة (9) : آية 6]
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)
أحد مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر، تقديره: وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء، لأن «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، وتبين «2» ما بعثت له فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ثم أبلغه بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضى الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى على رضى الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى يقول وإن أحد من المشركين استجارك ... الآية وعن السدى والضحاك
__________
(1) .
خل السبيل لمن يبنى المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
قد خفت يا ابن التي ماتت منافقة ... من خبث بردة أن لا ينزل المطر
لجرير يهجو عمر بن لجأ التميمي. ويروى: خل الطريق. ومنار الطريق: حدوده. يقول له: اترك سبيل المعالي لمن يبنى الأعلام فيه ويقيم شعائره ويبين حدوده. شبه الخصال الحميدة بالطريق الجادة بجامع الوصول بكل إلى المراد وعدم الميل عن كل على سبيل التصريحية، وبناء المنار ترشيح: والمراد به: إقامة الشعائر الجميلة وتحسين شأنها لتتبعها الناس. أو نصب دلائل على الكرم لتهتدى إليه العفاة. وبرزة هي أم عمر، وقيل: الأرض الواسعة. وعليه فمنع صرفه ضرورة، ولكن البيت الثاني يؤيد ما قلنا، أى اخرج بأمك القبيحة إلى ما ألجأك إليه القدر الأزلى، وهو ما انطبعت عليه من الخصال الخسيسة. والمراد بالأمر في الموضعين: بيان حاله التي هو عليها لا حقيقة الأمر. ويحتمل أن الأول أمر بترك التفاخر، فتكون صورة الأمر الثاني للمشاكلة، أو بمعنى طلب اعترافه بحال نفسه. وجعله النحويون من قبيل التحذير ومثلوا به لذكر عامل المحذر منه، وهو يزيد على مجرد الأمر بالتخلية بأن بينه وبين ذلك السبيل منافرة حتى صح تحذيره منه. وخفت بضم التاء، ولكن فتحها أبلغ في الهجو. وتكرير اسم برزة للتنكير والتعيير بها، أى أنها شؤم على الناس يخاف منها الجدب. [.....]
(2) . قوله «وتبين» لعله و «يتبين» عطفا على يسمع. (ع)

(2/248)


كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)

رضى الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين. ذلك أى ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله فأجره. بسبب بأنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.

[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 8]
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
كيف استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم «1» ، يعنى: محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله إلا الذين عاهدتم أى ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبنى ضمرة، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إن الله يحب المتقين يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين كيف تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد «2» ، وحذف الفعل لكونه معلوما كما قال:
وخبرتمانى أنما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب «3»
يريد: فكيف مات، أى: كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد
__________
(1) . قوله «وغرة صدورهم» أى ملتهبة من الغيظ. (ع)
(2) . قال محمود: «كيف تكرار لاستبعاد ثبات ... الخ» قال أحمد السر في تكرار كيف- والله أعلم- أنه لما ذكره أولا لاستبعاد ثبات عهدهم عند الله ولم يذكر إذ ذاك سبب البعد للغاية باستثناء الباقين على العهد وطال الكلام، أعيدت «كيف» تطرية للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض، فلم يقصد مجرد التكرار، بل هذا السر الذي انطوى عليه، وقد تقدمت له أمثال، والله الموفق.
(3) .
لعمر أبى إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتى غدا لقريب
وخبرتمانى أنما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب
لكعب الغنوي في مرثية أخيه. و «الهضبة» الصخرة العظيمة. وجعل الخطاب لاثنين على عادة العرب ولو لم يوجدا. وإنما بالكسر على الحكاية، أو بالفتح على المفعولية: أى وأخبرتمانى أن الموت والوباء في القرى فقط، فكيف تدعيان ذلك وقد مات أخى في هذه البرية. أو كيف مات أخى فيها. والقليب: البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض إلى ظهرها. وهاتا: إشارة للبرية. ويجوز أنها للهضبة: أى وهذا قليب.

(2/249)


اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون (10) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون (11)

ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا لا يراعوا حلفا. وقيل: قرابة. وأنشد لحسان رضى الله عنه:
لعمرك إن إلك من قريش ... كإل السقب من رأل النعام «1»
وقيل إلا إلها. وقرئ: إيلا، بمعناه. وقيل: جبرئيل، وجبرئيل، من ذلك. وقيل: منه اشتق الآل بمعنى القرابة، كما اشتقت الرحم من الرحمن، والوجه أن اشتقاق الإل بمعنى الحلف، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الأول وهو الجؤار، وله أليل:
أى أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها: إذا ولولت «2» ، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إل. وسميت به القرابة، لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق يرضونكم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل وأكثرهم فاسقون متمردون خلعاء لا مروءة تزعهم «3» ، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادى عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجر أحدوثة السوء.

[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 10]
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون (10)
اشتروا استبدلوا بآيات الله بالقرآن والإسلام ثمنا قليلا وهو اتباع الأهواء والشهوات فصدوا عن سبيله فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم هم المعتدون المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.

[سورة التوبة (9) : آية 11]
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون (11)
__________
(1) . لحسان بن ثابت. والال- بالكسر- الحلف والعهد والقرابة. والسقب: حوار الناقة. والرأل: ولد النعام. يقول: وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة، كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. ويروى:
كآل السيف. والوجه أنه تحريف.
(2) . قوله «ودعت اليها إذا ولولت» في الصحاح: وأما قول الكميت يمدح رجلا:
وأنت ما أنت في غبراء مظلمة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
فيجوز أن يريد الألل، ثم ثنى كأنه يريد صوتا بعد صوت. اه (ع)
(3) . قوله «لا مروءة تزعهم» أى تكفهم. اه صحاح (ع)

(2/250)


وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13)

فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد فإخوانكم في الدين فهم إخوانكم على حذف المبتدإ، كقوله تعالى فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم. ونفصل الآيات ونبينها. وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.

[سورة التوبة (9) : آية 12]
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12)
وطعنوا في دينكم وثلبوه وعابوه فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الدمى في دين الإسلام طعنا ظاهرا، جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة إنهم لا أيمان لهم جمع يمين. وقرئ: لا إيمان لهم، أى لا إسلام لهم. أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث، ولا سبيل إليه. فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله وإن نكثوا أيمانهم ثم نفاها عنهم؟
قلت: أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يمينا. وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين. وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله فقاتلوا أئمة الكفر أى ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أى: بين مخرج الهمزة والياء «1» . وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف.

[سورة التوبة (9) : آية 13]
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13)
__________
(1) . قوله «بين مخرج الهمزة والياء: لعله «مخرجي الهمزة والياء» . (ع)

(2/251)


قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15)

ألا تقاتلون دخلت الهمزة على لا تقاتلون تقريرا بانتفاء المقاتلة. ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة نكثوا أيمانهم التي حلفوها في المعاهدة وهموا بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه وهم بدؤكم أول مرة أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب، حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها أتخشونهم تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها فالله أحق أن تخشوه فتقاتلوا أعداءه إن كنتم مؤمنين يعنى أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى ولا يخشون أحدا إلا الله

[سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15]
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15)
لما وبخهم الله على ترك القتال، جرد لهم الأمر به فقال قاتلوهم ووعدهم- ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلا، ويخزيهم أسرا، ويوليهم النصر والغلبة عليهم ويشف صدور طائفة «1» من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضى الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فيعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال: أبشروا فإن الفرج قريب ويذهب غيظ قلوبكم «2» لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ويتوب الله على من يشاء ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ:
__________
(1) . قوله «ويشف صدور طائفة» هذا لفظ التلاوة، والأنسب ويشفى، عطفا على يعذبهم الله بأيديكم لأنه من جملة الوعد. (ع)
(2) . قوله «ويذهب غيظ قلوبكم» التلاوة غيظ قلوبهم ولعل بعض الناسخين فهم أنه من البشرى، فغيره بلفظ الخطاب. والمتجه غيظ قلوبهم لما لقوا، ثم قوله ويذهب بالرفع عطف على يعذبهم بأيديكم، لأنه من جملة الوعد كما سيشير إليه. (ع)

(2/252)


أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون (16) ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (17)

ويتوب بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى والله عليم يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان حكيم لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة

[سورة التوبة (9) : آية 16]
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون (16)
أم منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أى بطانة، من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم ولما معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله.
والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل فى، يريد: ما وجد ذلك منى.

[سورة التوبة (9) : آية 17]
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (17)
ما كان للمشركين ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله يعنى المسجد الحرام، لقوله وعمارة المسجد الحرام وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. وشاهدين حال من الواو في يعمروا والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون:
لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون

(2/253)


إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)

والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق على ابن أبى طالب رضى الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس:
تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجرا: إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت حبطت أعمالهم التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال «1» الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله شاهدين حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.

[سورة التوبة (9) : آية 18]
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)
إنما يعمر مساجد الله وقرئ بالتوحيد، أى: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رم ما استرم منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتى في آخر الزمان ناس من أمتى يأتون المساجد فيقاعدون فيها حلقا «2» ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة «3» » وفي الحديث «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «4» » وقال عليه السلام: «وقال الله تعالى: إن بيوتي في أرضى المساجد، وإن زوارى فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم «5» زائره. وعنه
__________
(1) . قال محمود: «إذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال ... الخ» قال أحمد: كلام صحيح إلا قوله «إن الكبيرة تهدم الأعمال، فانه تفريع على قاعدة المعتزلة، والحق خلافها.
(2) . قوله «فيقاعدون فيها حلقا» في نسخة: فيعدون. وفي أخرى: فيغدون. وليحرر. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني من رواية أبى وائل عن ابن مسعود رفعه «سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا، مناهم الدنيا لا تجالسوهم. فليس لله فيهم حاجة» وفيه بديع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه.
وهو متروك وقال الدارقطني: إنه تفرد به، وفيه نظر. فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة» وفي الباب عن أنس رفعه «يأتى على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم، وليس همتهم إلا الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة» أخرجه الحاكم من طريق الثوري عن عوف عن الحسن عنه.
(4) . يأتى في لقمان. [.....]
(5) . لم أجده هكذا وفي الطبراني عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء.
ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم زائره» وروى عبد الرزاق ومن طريقه الطبري عن معمر عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون. قال «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها» ومن هذا الوجه. أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد.

(2/254)


أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19)

عليه السلام «من ألف المسجد ألفه الله «1» » وقال عليه السلام «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان «2» » وعن أنس رضى الله عنه: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه «3» » . فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام. وقيل: دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فان قلت: كيف قيل ولم يخش إلا الله والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران:
أحدهما حق الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفى تلك الخشية عنهم فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء «4» وحسم لأطماعهم من الانتفاع «5» بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.

[سورة التوبة (9) : آية 19]
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19)
__________
(1) . أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن دراج بن الهيثم عن أبى سعيد به.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان. والحاكم من رواية أبى الهيثم عن أبى سعيد.
(3) . رواه الحارث بن أسامة من رواية الحكم بن سفلة العبدى. عن أنس رضى الله عنه. من أسرج في مسجد سراجا لم يزل مرفوعا ومن طريق الحارث أخرجه سليم الرازي في كتاب الترغيب وفي الطبراني في مسند الشاميين من حديث على بن أبى طالب رفعه «من علق قنديلا في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك- الحديث بمعناه» .
(4) . قال محمود: «في هذه الآية تبعيد للمشركين ... الخ» قال أحمد: وأكثرهم يقول: إن «عسى» من الله واجبة بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين، والحق فيما قال الزمخشري، ولكن الخطاب مصروف إليهم أى فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
(5) . قوله «من الانتفاع» لعله «في» كعبارة النسفي. (ع)

(2/255)


الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22) ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)

السقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي «1» - وكان من القراء-: سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر. وروى أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل. وقيل: إن عليا رضي الله عنه قال للعباس: يا عم ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألست في أفضل من الهجرة: أسقى حاج بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أرانى إلا تارك سقايتنا. فقال عليه السلام «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا «2»

[سورة التوبة (9) : الآيات 20 الى 22]
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22)
هم أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة عندكم وأولئك هم الفائزون لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم. قرئ: يبشرهم بالتخفيف والتثقيل. وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي في المهاجرين خاصة «3»

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)
__________
(1) . قوله «وأبى وجزة السعدي» في الصحاح: أنه شاعر ومحدث. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن الحسن بغير إسناد لكن سنده إليه في أول الكتاب في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن عمر، وهو ابن عبيد عن الحسن قال «نزلت في على والعباس، وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك. فقال العباس: ما أرانى إلا تاركا سقايتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره.
(3) . أخرجه الثعلبي من رواية جويبر عن الضحاك عنه.

(2/256)


لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27)

وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة «1» فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله: حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» «2» . وقرئ: عشيرتكم، وعشيراتكم.
وقرأ الحسن: وعشائركم فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وعيد. عن ابن عباس: هو فتح مكة. وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27)
__________
(1) . ذكره الثعلبي أيضا عن مقاتل، وسنده إليه في أول الكتاب.
(2) . لم أجده بهذا اللفظ وفي الطبراني عن عمرو بن الحمق أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يجد العبد صريح الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، وفي إسناده رشد بن سعد. وهو ضعيف، وفي الباب عن أبى أمامة رواه أبو داود، وعن معاذ بن أنس رواه أبو يعلى وغيره.

(2/257)


مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها «1» قال:.
وكم موطن لولاى طحت كما هوي ... بأجرامه من قلة النيق منهوى «2»
__________
(1) . قال محمود: «مواطن الحرب مقاماتها ومواقفها ... الخ» قال أحمد: لا مانع- والله أعلم- من عطف الظرفين المكاني والزمانى أحدهما على الآخر، كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد، إذ يجوز أن تقول ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة، كما تقول: ضربت زيدا وعمرا، ولا يحتاج إلى إضمار فعل جديد غير الأول، هذا مع أنه لا بد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الحقيقة، فإنك إذا قلت: أضرب زيدا اليوم وعمرا غدا، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة. فعلى هذا يجوز في الآية- والله أعلم- بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول إلى الآخر، على أن الزمخشري أوجب تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول. وإن كانا عنده جميعا زمانين، لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن.
يريد: ولو ذهبت إلى اتحاد الناصب للزم ذلك، وهذا غير لازم. ألا تراك لو قلت: أضرب زيدا حين يقوم وحين يقعد، لكان الناصب للظرفين واحدا وهما متغايران، وإنما يمتنع عمل الفعل الواحد في ظرفى زمان مختلفين عند عدم العطف المتوسط بينهما، والله أعلم.
(2) .
تكاشرنى كرها كأنك ناصح ... وعينك تبدى أن صدرك لي دوى
لسانك ماذي وعينك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك منطوى
فليت كفافا كان خيرك كله ... وشرك عنى ما ارتوى الماء مرتوى
وكم موطن لولاى طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوى
جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوى
ليزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى. والمكاشرة: المضاحكة، واختارها في التعبير إشارة إلى أنها ليست مضاحكة حقيقة يوافقها القلب، وإنما هي إظهار الأسنان فقط أمامه ليريه أنه ناصح الرجل كمرض فسد قلبه، ودوى أى خالص المودة. ودوى صدر «أيضا حقد، فهو دوى بالتخفيف كعمي، أو التشديد كغنى، على فعل أو فعيل، وعلى التشديد فتخفيفه للوزن.
و «الماذي» عسل النحل لأنه يمذى منها، وتسمى الخمرة ماذية لسهولتها. و «العلقم» الحنظل وكل شجر مر وكل شيء مر، أى لسانك كالعسل في حلاوة الكلام. وعينك كالعلقم في كراهية النفس ونفرتها عن كل، حيث تنظر لي نظر الحسود المغتاظ، وشبه الشر والخير ببساطين على سبيل المكنية، والبسط والطى تخييل. واسم ليت ضمير الشأن أو ضمير المخاطب محذوفا، وخيرك اسم كان، وكفافا خبرها. وشرك عطف على خيرك. ويجوز أنه من باب التنازع عن من أجازه في الحروف، لأن «ليت» مقتضية للعمل في خيرك، و «كان» مقتضية للعمل فيه، فأعمل فيه الثاني وحذف ضميره من الأول، لأنه وإن كان عمدة، مشبهة للفضلة في نصبه، وكما أجاز حذفه الكوفيون في باب كان وباب ظن، نعلمه من مفسره، أى: فليت الحال والشأن كان خيرك كله وشرك، كفافا:
بالفتح، أى مغنيا كافيا لك عنى، ولو كسر «كفافا» على أنه مفاعلة من الكف لجاز، ويكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، مبالغة: أى كافا لك، أو منكفا عنى ما دام «مرتو» يرتوى الماء، أى: يستقيه، يعنى دائما، وكم:
خبرية للتكثير، أى كثير من مواطن الحرب لولا وجودى لطحت بكسر الطاء وضمها من باب باع، وقال:
أى هلكت فيها كما هوى منهو، أى سقط ساقط من قلة النيق. ويروى: قنة النيق، والمعنى واحد، أى: من رأس الجبل العالي، ومذهب سيبويه أن «لولا» حرف جر إذا وليها ضمير نصب، ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء، وأنكر المبرد وروده، وهو محجوج بهذا. وقال أبو على الفارسي: الفعل ومطاوعه قد يكونان لازمين معا، كهوى وانهوى، وغوى وانغوى، بدليل نحو هذا البيت. وحمله الجمهور على الضرورة. والقياس: هاو وغاو. وبعضهم على أنهما مطاوعان لأهديته وأغويته، لكن مطاوعه: انفعل لا فعل شاذة، ولو قيل: انهوى مطاوع لهوى به لجاز. لكنه ليس قياسيا، ثم قال له: جمعت غيبة ونميمة وفحشا، فقدم المعطوف للضرورة. وجعله ابن جنى مفعولا معه، وأجاز تقديمه على مصاحبه ممسكا بذلك، ويمكن أن يكون ضرورة أيضا. وفيه إشارة من أول وهلة إلى إرادة التعدد والتكثير وثلاث خصال بدل مما قبله، ولست عنها: أى لست بمنزجر عنها، فقدم المعمول للاهتمام، والياء في القافية للإطلاق.

(2/258)


وامتناعه من الصرف لأنه جمع، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان وهو يوم حنين على المواطن؟ قلت: معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون يوم حنين منصوبا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. وموجب ذلك أن قوله إذ أعجبتكم بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح، لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن «1» ولم يكونوا كثيرا في جميعها، فبقى أن يكون ناصبه فعلا خاصا به، إلا إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين: واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا الذين حضروا فتح مكة، منضما إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامهم من إمداد سائر العرب فكان الجم الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين:
لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل قائلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقيل أبو بكر رضى الله عنه «2» وذلك قوله إذ أعجبتكم كثرتكم فاقتتلوا قتالا شديدا وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس رضى الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهى
__________
(1) . قوله «لم تعجبهم في جميع تلك المواطن» إنما يلزم كون كثرتهم أعجبتهم في جميعها، مع أنه خلاف الواقع لو جعل إذ أعجبتكم بدلا من المواطن أيضا، فتدبر. (ع) [.....]
(2) . لم أجده بهذا السياق وقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها: قد ورد أنه قال «لن تغلب اثنا عشر ألفا عن قلة» في حديث غير هذا. وأما هذا فان كان المصنف وقع على شيء من ذلك فما كان قوله «وأدركتهم كلمة الاعجاب بالكثرة ونزل عنهم إلى آخره بلائق. وأما قوله «وقيل قالها أبو بكر» فلم أقف عليه وقوله «ومن هوازن وثقيف وفي أربعة آلاف غلام مسح» والصواب أن هوازن وثقيفا كانوا من المشركين والذي في مسلم من حديث العباس «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين- فذكرت القصة، وفيها تغير ونقص عما ساقه المصنف وليس فيها «فخذا فخذا» وإنما فيه «أن عباسا نادى أصحاب السمرة ونادى أصحاب الشجرة. قال فعطوا عطف البقرة على أولادها، وروى يونس بن بكر في زيادة المغازي عن أبى جعفر الرازي بن الربيع يعنى ابن أنس «أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله- وذكر الآية قال الربيع وكانوا اثنى عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة.

(2/259)


شجاعته ورباطة جأشه «1» صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا من آيات النبوة، وقال: يا رب ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس- وكان صيتا: صيح بالناس، فنادى الأنصار فخذا فخذا، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البقرة، فكروا عنقا واحدا «2» وهم يقولون:
لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمى الوطيس، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به ثم قال:
انهزموا ورب الكعبة فانهزموا، قال العباس: لكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته بما رحبت ما مصدرية، والباء بمعنى مع، أى مع رحبها «3» وحقيقته ملتبسة برحبها، على أن الجار والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أى ملتبسا بها لم أحلها، تعنى مع ثياب السفر. والمعنى: لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم ثم وليتم مدبرين ثم انهزمتم سكينته رحمته التي سكنوا بها وآمنوا وعلى المؤمنين الذين انهزموا. وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب وأنزل جنودا يعنى الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل خمسة آلاف، وقيل ستة عشر ألفا وعذب الذين كفروا بالقتل والأسر، وسبى النساء والذراري ثم يتوب الله أى يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى أن ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل: سى يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى، فقال: إن عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه، اختاروا:
إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إنى لا أدرى لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا «4» .
__________
(1) . قوله «ورباطة جأشه» الجأش: رواع القلب عند الفزع. ورابط الجأش: من يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(2) . قوله «عنقا واحدا» ويقال هم عنق إليك أى مائلون إليك كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «مع رحبها» في الصحاح «الرحب» بالضم: السعة. (ع)
(4) . ذكره الثعلبي بغير سند وهذه القصة قد ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بطوله، وذكرها البخاري من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان، ورواها الطبري وغيره من رواية زهير ابن حرد، وفيه الشعر الذي أنشده زهير.

(2/260)


ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (28)

[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (28)
النجس: مصدر، يقال: نجس نجسا، وقذر. قذرا. ومعناه ذو ونجس، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن: من صافح مشركا توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ: نجس، بكسر النون وسكون الجيم، على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل، إنما المشركون جنس نجس، أو ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعا لرجس وهو تخفيف نجس، نحو: كبد، في كبد فلا يقربوا المسجد الحرام فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية بعد عامهم هذا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمر أبو بكر على الموسم، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه، ويدل عليه قول على كرم الله وجهه حين نادى ببراءة: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء رضى الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام: الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه «1» وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك وإن خفتم عيلة أى فقرا بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب فسوف يغنيكم الله من فضله من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدرارا، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل تبالة وجرش «2» فحملوا إلى
__________
(1) . قال محمود: «هذا النهى راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه» قال أحمد: وقد يستدل به من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وخصوصا بالمناهى، فان ظاهر الآية توجه النهى إلى المشركين، إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهى، والمقصود تطهير المسجد الحرام بابعادهم عنه، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه، ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمين، تصدير الكلام بخطابهم في قوله يا أيها الذين آمنوا وتضمينه نصا بخطابهم بقوله وإن خفتم عيلة وكثيرا ما يتوجه النهى على من المراد خلافه، وعلى ما المراد خلافه إذا كانت ثم ملازمة، كقوله: لا أرينك هاهنا، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والله أعلم.
(2) . قوله «وأكثر ميرهم ... الخ» المير: إطعام الطعام. ويقال: بلد باليمن. وجرش: موضع منه أيضا، أفاده الصحاح. (ع)

(2/261)


قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)

مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية. وقيل: بفتح البلاد والغنائم. وقرئ: عائلة، بمعنى المصدر كالعافية، أو حالا عائلة. ومعنى قوله إن شاء الله. إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم إن الله عليم بأحوالكم حكيم لا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.

[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)
من الذين أوتوا الكتاب بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرم الله ورسوله، لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة. وعن أبى روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية، لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أى يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من من عليهم بالإعفاء عن القتل عن يد إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ «1» فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يد: أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة «2» لأن من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى، بيده، إذا انقاد وأصحب «3» . ألا ترى إلى قولهم. نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة، لا مبعوثا على يد أحد. ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها «4» عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يراد يد المعطى أو الأخذ ... الخ» قال أحمد: فيكون كاليد في قوله عليه السلام «لا تبيعوا الذهب ... إلى قوله إلا يدا بيد» .
(2) . قوله «أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة» في الصحاح: آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته.
والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(3) . قوله «وأصحب» أى سهل بعد صعوبة. انتهى صحاح. (ع)
(4) . عاد كلامه قال: وإن أريد به الآخذ فمعناه حتى يعطوها ... الخ» قال أحمد: وهذا الوجه أملأ بالفائدة، والله أعلم.

(2/262)


وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)

لهم نعمة عظيمة عليهم وهم صاغرون أى تؤخذ منهم على الصغار والذل. وهو أن يأتى بها بنفسه ما شيا غير راكب، ويسلمها وهو قائم- والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة «1» ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أد الجزية، وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه. وتسقط بالإسلام عند أبى حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبى حنيفة: تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابئ وحربى، إلا على مشركي العرب وحدهم. روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان من العرب «2» وقال لأهل مكة: هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدت إليكم العجم الجزية وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبى حنيفة في أول كل سنة من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهما. ومن المتوسط في الغنى: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له. وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيرا كان أو غنيا، كان له كسب أو لم يكن.

[سورة التوبة (9) : آية 30]
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)
عزير ابن الله مبتدأ وخبر، كقوله: المسيح ابن الله، وعزير: اسم أعجمى كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه. ومن نون فقد جعله عربيا. وأما قول من قال:
سقوط التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ «أحد الله» أو لأن الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا، فتمحل عنه مندوحة، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضى الله عنه: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاش بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام: فقال له إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة. فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلا لأنه ابنه «3» . والدليل على أن هذا القول كان
__________
(1) . قوله «وأن يتلتل تلتلة» أى يزعزع ويزلزل. وقوله «يزخ» أى يدفع كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن الزهري بهذا، وزاد «وقيل الجزية من البحرين وكانوا مجوسا» .
(3) . قلت أورد المخرج منضما إلى الذي قبله ولم يذكر من أخرجه والصواب أنه حديث آخر أخرجه. [.....]

(2/263)


اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)

فيهم: أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب. فإن قلت:
كل قول يقال بالفم فما معنى قوله ذلك قولهم بأفواههم؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. ومالا معنى له مقول بالفم لا غير، والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبى حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد يضاهؤن لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعا.
والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعنى أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أى يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم. وقرئ يضاهؤن بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ على فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها «1» مزيدة كما في غرقئ قاتلهم الله أى هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجبا من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم أنى يؤفكون كيف يصرفون عن الحق؟

[سورة التوبة (9) : آية 31]
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)
اتخاذهم أربابا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، بل كانوا يعبدون الجن يا أبت لا تعبد الشيطان وعن عدى بن حاتم رضى الله عنه: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرمه فتحلونه» ؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم «2» . وعن فضيل رضى
__________
(1) . قوله «أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة» هذا لا يناسب قوله «على فعيل» فلعله «أو همزة ... الخ» . (ع)
(2) . الواقدي من طريق عامر بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن عطاء ابن يسار عن عدى بن حاتم، ورواه الترمذي من طريق مصعب بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا وأتمم منه، إلا قوله «فتلك عبادتهم» وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين، وعطيف ليس بمعروف، وأخرجه ابن أبى شيبة والطبراني والطبري وأبو يعلى من هذا الوجه رواه البيهقي في المدخل كذلك وزاد «فتلك عبادتهم» .

(2/264)


يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33) ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)

الله عنه: ما أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأما المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين. وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام: أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة سبحانه تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في وما أمروا للمتخذين أربابا، أى: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 32 الى 33]
يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه ليظهره ليظهر الرسول عليه السلام على الدين كله على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين. فإن قلت: كيف جاز، أبى الله إلا كذا، ولا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيدا «1» ؟ قلت: قد أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفؤا بقوله ويأبى الله وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره.

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)
__________
(1) . قال: محمود «إن قلت كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت ... الخ» قال أحمد: ولا يقال على هذا إن الاباء عدم الارادة، فكما صح الإيجاب بعد نفى الارادة، فينبغي أن يصح بعد ما هو في معناها مطلقا، لأنا نقول لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجيء حرف الإيجاب بعد فلا يلزم ذلك، والله أعلم.

(2/265)


معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم: أخذ الطعام وتناوله. وإما على أن الأموال يؤكل بها فهي سبب الأكل. ومنه قوله:
إن لنا أحمرة عجافا ... يأكلن كل ليلة إكافا «1»
يريد: علفا يشترى بثمن إكاف. ومعنى أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع والذين يكنزون يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل.
وكنز الأموال، والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنافقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظا ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطى منكم طيب ماله: سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل: هي ثابتة، وإنما عنى بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا» «2» وعن عمر رضى الله عنه أن رجلا سأله عن أرض له باعها فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدى زكاته فليس بكنز «3» وعن عمر رضى الله عنه: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 216 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . أخرجه البيهقي من طريق محمد بن جبير عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا بلفظ «كل ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكل مالا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا» قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن سفيان بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قوله. ورواه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عدى من طريق سويد بن عبد العزيز عن عبيد الله بسنده مرفوعا، ولفظه «كل مال وإن كان تحت سبع أرضين يؤدى زكاته فليس بكنز، وكل مال لا يؤدى زكاته وإن كان ظاهرا فهو كنز» قال ابن عدى: وفيه سويد وغيره يرويه موقوفا والموقوف رواه عبد الرزاق عن عبيد الله العمرى موقوفا والشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع نحوه، وفي الباب عن أم سلمة قالت «جئت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ الذي يؤدى زكاته فليس بكنز» أخرجه أبو داود والحاكم.
(3) . أخرجه عبد الرزاق من طريق بشر بن سعيد أن رجلا باع رجلا حائطا أو مالا بمال عظيم فقال له عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: أحسن موضع هذا المال- الحديث» ورواه ابن أبى شيبة من طريق أخرى عن سعيد ابن أبى سعيد أن عمر سأل رجلا- فذكره.

(2/266)


يؤد زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض «1» فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن الجعد رضى الله عنه أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبا للذهب تبا للفضة» قالها ثلاثا. فقالوا له: أى مال نتخذ؟ قال «لسانا ذاكرا، وقلبا خاشعا، وزوجة تعين أحدكم على دينه «2» وبقوله عليه الصلاة والسلام «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» «3» وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفى آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال «كيتان» «4» قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضى الله عنهم يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأن الإعراض اختيار للأفضل، وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، ولكل شيء حد. وما روى عن على رضى الله عنه:
__________
(1) . تقدم الكلام عليه.
(2) . كذا ذكره مرسلا، وهو معروف من رواية سالم بن ثوبان أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط من طريق موثل بن إسماعيل عن الثوري عن الأعمش ومنصور وعمرو بن مرة عن سالم بن أبى الجعد عن ثوبان بهذا، ورواه الترمذي وأحمد في الزهد من رواية إسرائيل عن منصور ومده به، وليس فيه «تبا الذهب تبا الفضة» بل فيه: فقال بعض أصحابه «لو علمنا أى المال خير فنتخذه» قال البخاري وغيره: سالم لم يسمع من ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان قال «لما نزلت قالوا: فأى المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في أثره فقال:
يا رسول الله أى المال نتخذ؟ - الحديث» وفي الباب عن على أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن أبى حصين عن أبى الضحى عن جعدة بن سبرة عنه، وعن بريدة أخرجه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. وعن بعض الصحابة أخرجه أحمد من رواية سعيد عن سالم بن عطية عن عبد الله بن عطية عن عبد الله بن أبى الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تبا للذهب تبا للفضة» فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر، فقال: يا رسول الله. فذكر نحوه.
(3) . أخرجه البخاري في التاريخ والطبري وابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد الواحد الثقفي عن أبى النجيب الشامي «كان نعل سيف أبى هريرة من فضة، فنهاه عنه أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» وفي الباب عن أبى أمامة، أخرجه الطبراني بلفظ «ما من عبد يموت فيترك صفراء أو بيضاء إلا كوى بها» وعن ثوبان أخرجه ابن مردويه والطبراني في مسند الشاميين من رواية أرطاة بن المنذر عن ابن عامر عنه، بلفظ «ما من أحد يترك صفراء أو بيضاء من ذهب أو فضة إلا جعل صفائح ثم كوى بها» .
(4) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والطبري من طريق شهر بن حوشب عن أبى أمامة، بلفظ مروه في الموضعين. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني.

(2/267)


أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز «1» : كلام في الأفضل. فإن قلت: لم قيل: ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهابا بالضمير إلى المعنى دون اللفظ: لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقيل: ذهب به إلى الكنوز. وقيل: إلى الأموال. وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، «2» كما أن معنى قوله:
فإنى وقيار بها لغريب «3»
وقيار كذلك. فإن قلت: لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما، فإن قلت: ما معنى قوله يحمى عليها؟ وهلا قيل: تحمى، من قولك: حمى الميسم «4» وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه أن النار تحمى عليها، أى توقد ذات حمى وحر شديد، من قوله نار حامية ولو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل: يحمى عليها، لانتقال الاسناد عن النار إلى عليها، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ: تحمى، بالتاء. وقرأ أبو حيوة:
فيكوى بالياء. فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب أهل الدثور بالأجور» «5» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس زوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل: معناه
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبري بإسناده الماضي عن على رضى الله عنه قبل بحديثين.
(2) . قوله «والذهب» لعله و «الذهب كذلك» . (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 629 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . قال محمود: «إن قلت: هلا قيل تحمى، كما يقال: حمى الميسم وأحميته ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الفصل دقائق إعراب يشوب حسنها إغراب، والله الموفق. [.....]
(5) . أخرجه مسلم من طريق أبى الأسود عن أبى ذر «أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا:
يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى- الحديث.

(2/268)


إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)

يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم هذا ما كنزتم على إرادة القول.
وقوله لأنفسكم أى كنزتموه لننتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم فذوقوا ما كنتم تكنزون وقرئ: تكنزون، بضم النون، أى وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.

[سورة التوبة (9) : آية 36]
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)
في كتاب الله فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل في اللوح أربعة حرم ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض «1» . السنة اثنا عشر شهرا: منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذى الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر رضى الله عنه قبلها في ذى القعدة ذلك الدين القيم يعنى أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وسموا رجبا: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا فلا تظلموا فيهن في الحرم أنفسكم أى لا تجعلوا حرامها حلالا. وعن عطاء. تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا، وما نسخت، وعن عطاء الخراساني رضى الله عنه: حلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن، بيانا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ... الآية وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور كافة حال من الفاعل أو المفعول مع المتقين ناصر لهم، حثهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى بكرة وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما أخرجه الطبري من رواية موسى ابن عبيدة عن صدقة بن يسار عنه بلفظ المصنف. وهو ضعيف. وعن ابن عباس أخرجه ابن مردويه.

(2/269)


إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37) ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير (39) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41)

[سورة التوبة (9) : آية 37]
إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37)
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى ليواطؤا عدة ما حرم الله أى ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا يعنى من غير زيادة زادوها. والضمير في: يحلونه، ويحرمونه للنسيء. أى إذا أحلوا شهرا من الأشهر الحرم عاما، رجعوا فحرموه في العام القابل. وروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرا، فزادتهم رجسا إلى رجسهم، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيمانا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وقرئ «يضل» على البناء للمفعول، و «يضل» بفتح الياء والضاد، ويضل على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ الزهري:
ليوطئوا بالتشديد. والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه نسأ ونساء ونسيئا، كقولك:
مسه مسا ومساسا ومسيسا. وقرئ بهن جميعا. وقرئ النسى، بوزن الندى. والنسى بوزن النهى، وهما تخفيف النسيء والنسيء. فإن قلت: ما معنى قوله فيحلوا ما حرم الله؟ قلت: معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها زين لهم سوء أعمالهم خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة والله لا يهدي أى لا يلطف بهم بل يخذلهم. وقرئ: زين لهم سوء أعمالهم، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير (39) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41)

(2/270)


اثاقلتم تثاقلتم. وبه قرأ الأعمش، أى تباطأتم وتقاعستم. وضمن معنى الميل والإخلاد فعدى بإلى. والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه: أخلد إلى الأرض واتبع هواه وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم: وقرئ اثاقلتم؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ. فإن قلت: فما العامل في «إذا» وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه «1» ؟ قلت: ما دل عليه قوله اثاقلتم أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائما، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشق عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلا ورى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك «2» ليستعد الناس تمام العدة من الآخرة أى بدل الآخرة كقوله: لجعلنا منكم ملائكة
. في الآخرة في جنب الآخرة إلا تنفروا سخط عظيم على المتثاقلين «3» حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع، وأنه غنى عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا: وقيل: الضمير للرسول: أى ولا تضروه، لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل يريد بقوله قوما غيركم أهل اليمن. وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن
__________
(1) . قوله «وحرف الاستفهام» لعله: وأحرف الاستفهام، بدليل قوله «مانعة» . وقوله «أن يعمل فيه» لعله: أن يعمل فيه «اثاقلتم» . (ع)
(2) . متفق عليه من حديث كعب بن مالك.
(3) . قال محمود: «في هذه الآية سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم عذابا أليما ... الخ» قال أحمد: ويقرب إعادة الضمير إلى الرسول أن الضمير في قوله إلا تنصروه عقيب ذلك عائد إليه اتفاقا، والله أعلم.

(2/271)


للتخصيص. فإن قلت: كيف يكون قوله فقد نصره الله جوابا للشرط؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدل بقوله فقد نصره الله على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني:
أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت:، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله من قريتك التي أخرجتك لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج، فكأنهم أخرجوه ثاني اثنين أحد اثنين، كقوله ثالث ثلاثة وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. يروى أن جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال: من يخرج معى؟ قال أبو بكر، وانتصابه على الحال: وقرئ ثانى اثنين، بالسكون. وإذ هما بدل من إذ أخرجه. والغار: ثقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا إذ يقول بدل ثان. قيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله «1» فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» : وقيل: لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه «2» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم «3» » : فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا: من أنكر صحبة أبى بكر رضى الله عنه فقد كفر، لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة سكينته ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه. والجنود الملائكة يوم بدر، والأحزاب وحنين. وكلمة الذين كفروا: دعوتهم إلى الكفر وكلمة الله دعوته إلى الإسلام. وقرئ «كلمة الله» بالنصب، والرفع أوجه. وهي فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو، وأنها المختصة به دون سائر الكلم خفافا وثقالا خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالا لكثرتها. أو خفافا من السلاح وثقالا منه. أو ركبانا ومشاة. أو شبابا وشيوخا. أو مهازيل
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه قال «نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار. فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
(2) . أخرجه البزار من طريق عوف بن عمرو عن أبى مصعب المكي: سمعت أنس بن مالك وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله تعالى صخرة فثبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه فسترته. وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار- الحديث» .
(3) . لم أجده

(2/272)


لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42)

وسمانا. أو صحاحا ومراضا. وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلى أن أنفر؟ قال: نعم، حتى نزل قوله ليس على الأعمى حرج. وعن ابن عباس: نسخت بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى وعن صفوان بن عمرو: كنت واليا على حمص، فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخى استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة

[سورة التوبة (9) : آية 42]
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42)
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أى لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال وسفرا قاصدا وسطا مقاربا الشقة المسافة الشاطة الشاقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشقة، بكسر العين والشين.
ومنه قوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونه ... ولا بعد إلا ما توارى الصفائح «1»
بالله متعلق بسيحلفون. أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين، أى سيحلفون يعنى المختلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم أو سيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا، وقوله لخرجنا سد مسد جوابي القسم ولو جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات.
ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ: لو استطعنا،
__________
(1) . يقال «بعد» ككرم وتعب، ومصدرهما: البعد بفتحتين، وبضم فسكون. وقد اشتهر باب تعب في معنى الهلاك، ولا تبعد- بالفتح- كلمة جارية على لسانهم عند المصيبة، دالة على تناهى الجزع، ولا بعد: معناه لا بعد إلا بعد ما تواريه الصفائح. أو ولا ذو بعد إلا ما تواريه. أو لا بعيد إلا ما تواريه، على أن المصدر بمعنى الوصف.
واستعمل «ما» في العاقل، لأن المراد بها الوصف. أو المراد بها الأجسام والأشباح مجردة عن الإدراكات والأرواح. والصفائح: أحجار عراض يسقف بها القبر، أى البعيد، حقيقته هو ما يستره القبر، كناية عن موته.

(2/273)


عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43) لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44)

بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع في قوله فتمنوا الموت. يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله لخرجنا أى لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا. يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.

[سورة التوبة (9) : آية 43]
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)
عفا الله عنك كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها «1» . ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت «2» . ولم أذنت لهم بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن حتى يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى.

[سورة التوبة (9) : آية 44]
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44)
لا يستأذنك ليس من عادة المؤمنين «3» أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص
__________
(1) . قال محمود: «هذا كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير، وهو بين أحد أمرين: إما أن لا يكون هو المراد. وإما أن يكون هو المراد، ولكن قد أجل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب، وخصوصا في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالزمخشرى على كلا التقديرين ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام. ولقد أحسن من قال في هذه الآية:
إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداء: لم أذنت لهم؟ لتفطر قلبه عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام.
(2) . قوله «ومعناه أخطأت وبئس ما فعلت» خاطب الله رسوله خطاب الرقة والرأفة، وفسره المصنف بخطاب الغلظة والقسوة، وشتان ما بينهما. (ع)
(3) . عاد كلامه. قال: وقوله لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله- إلى قوله- إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله ... الآية قال: معناه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ... الخ» قال أحمد: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى إليه معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه، أنه كان لا يتعاطى شيأ من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تعالى فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أى ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو الفتوة، وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، وأسوأ أحوال المتثاقل- وقد دعى الناس إلى الغزاة- أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق نعوذ بالله من التعرض لسخطه.

(2/274)


إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47) لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48)

من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبدا، ولنجاهدن أبدا معه بأموالنا وأنفسنا.
ومعنى أن يجاهدوا في أن يجاهدوا، أو كراهة أن يجاهدوا والله عليم بالمتقين شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.

[سورة التوبة (9) : الآيات 45 الى 48]
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47) لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48)
إنما يستأذنك يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا يترددون عبارة عن التحير، لأن التردد ديدن المتحير، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قرئ: عده، بمعنى عدته، فعل بالعدة ما فعل بالعدة من قال:
وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا «1»
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها. وقرئ: عدة، بكسر العين بغير إضافة، وعده بإضافة. فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله ولو أرادوا الخروج معطيا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل ولكن كره الله انبعاثهم كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلى زيد، ولكن أساء إلى فثبطهم فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وقيل اقعدوا جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود. وقيل: هو قول الشيطان
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 323 فراجعه إن شئت اه مصححه

(2/275)


بالوسوسة. وقيل: هو قولهم لأنفسهم. وقيل: هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود.
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح «1» ؟ قلت: خروجهم كان مفسدة، لقوله لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنا ومصلحة. فإن قلت: فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب. ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة.
ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله مع القاعدين؟ «2» قلت: هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى رضوا بأن يكونوا مع الخوالف. إلا خبالا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا، لأن الخبال بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا. والخبال، الفساد والشر ولأوضعوا خلالكم ولسعوا بينكم بالتضريب «3» والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعا إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأن الراكب أسرع من
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يوقع الله في نفوسهم كراهة الخروج للغزو ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه مبنى على قاعدتين فاسدتين: إيجاب مراعاة المصالح على الله تعالى، والتحسين والتقبيح. وقد تكرر بطلان ذلك فاحذره. واعلم أن معتقد أهل السنة أن الله تعالى ألقى كراهة الخروج في قلوبهم، لأنه أراد شقاوتهم، وانضاف إلى ذلك إرادة راحة المخلصين من مرافقتهم، إذ الأمر ليس شرطا في نفوذ المشيئة، والله الموفق. [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت فما معنى قوله مع القاعدين ... الخ» قال أحمد: وهذا من تنبيهاته الحسنة، ونزيده بسطا فنقول: لو قيل اقعدوا مقتصرا عليه، لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك: كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة مع إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، الموسومين بهذه السمة، إلا من عبارة الآية، ولعن الله فرعون: لقد بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: لأجعلنك من المسجونين، ولم يقل: لأجعلنك مسجونا، لمثل هذه النكتة من المبالغة
(3) . قوله «بالتضريب» أى بالإغراء. (ع)

(2/276)


ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49) إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50)

الماشي. وقرأ ابن الزبير رضى الله عنه: ولأرقصوا، من رقصت الناقة رقصا إذا أسرعت وأرقصتها. قال:
والراقصات إلى منى فالغبغب
وقرئ: ولأوفضوا. فإن قلت: كيف خط في المصحف: ولا أوضعوا، بزيادة ألف؟ قلت:
كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفا، وفتحتها ألفا أخرى، ونحو:
أو لا أذبحنه. يبغونكم الفتنة يحاولون أن يفتنوكم. بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم وفيكم سماعون لهم أى نمامون يسماعون حديثكم فينقلونه إليهم. أو فيكم قوم يسماعون للمنافقين ويطيعونهم لقد ابتغوا الفتنة أى العنت ونصب الغوائل والسعى في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبى يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضى الله عنه: وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به من قبل من قبل غزوة تبوك وقلبوا لك الأمور ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ: وقلبوا بالتخفيف حتى جاء الحق وهو تأييدك ونصرك وظهر أمر الله وغلب دينه وعلا شرعه.

[سورة التوبة (9) : آية 49]
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)
ائذن لي في القعود ولا تفتني ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإنى إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإنى إذا خرجت معك هلك مالى وعيالي وقيل: قال الجد بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء «1» فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركنى. وقرئ: ولا تفتني، من أفتنه ألا في الفتنة سقطوا أى إن الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف. وفي مصحف أبى رضى الله عنه: سقط، لأن «من» موحد اللفظ مجموع المعنى لمحيطة بالكافرين يعنى أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن، لأن أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.

[سورة التوبة (9) : آية 50]
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50)
__________
(1) . قوله «إنى مستهتر» أى مولع لا أبالى بما يقال في شأنى انتهى. (ع)

(2/277)


قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52)

إن تصبك في بعض الغزوات حسنة ظفر وغنيمة تسؤهم وإن تصبك مصيبة نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، ويقولوا قد أخذنا أمرنا أى أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم من قبل من قبل ما وقع. وتولوا عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وهم فرحون مسرورون. وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[سورة التوبة (9) : آية 51]
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)
قرأ ابن مسعود رضى الله عنه: قل هل يصيبنا. وقرأ طلحة رضى الله عنه: هل يصيبنا، بتشديد الياء. ووجهه أن يكون «يفيعل» لا «يفعل» لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب «1» في جمع مصيبة، فحق «يفعل» منه «يصوب» ألا ترى إلى قولهم:
صوب رأيه، إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب. ومن قوله «2» أسهمى الصائبات والصيب، واللام في قوله إلا ما كتب الله لنا مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله هو مولانا أى الذي يتولانا ونتولاه، ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم وعلى الله فليتوكل المؤمنون وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.

[سورة التوبة (9) : آية 52]
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52)
إلا إحدى الحسنيين إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب، وهما النصرة والشهادة ونحن نتربص بكم إحدى السوأتين «3» من العواقب، إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إنا معكم متربصون
__________
(1) . قوله «ومصاوب» في الصحاح: أجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو كأنهم شبهوا الأصلى بالزائد، ويجمع أيضا على مصاوب، وهو الأصل. (ع)
(2) . قوله «ومن قوله» لعله: ومنه. أو لعله: ومنها. وفي الصحاح: صاب السهم القرطاس يصيبه صيبا لغة في أصابه. (ع)
(3) . قوله «إحدى السوأتين» لعله: السوأيين. (ع)

(2/278)


قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53)

ما هو عاقبتكم، فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه

[سورة التوبة (9) : آية 53]
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53)
أنفقوا يعنى في سبيل الله ووجوه البر طوعا أو كرها نصب على الحال، أى طائعين أو مكرهين. فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال لن يتقبل منكم؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وقوله:
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة «1»
أى لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك- أسأت إلينا أم أحسنت.
فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك رحم الله زيدا وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندي وقوة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة. والإحسان، وانظري هل بتفاوت حالى معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل:
أخوك الذى إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستفثك فى الود «2»
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت: ما الغرض في نفى التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم ورده عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول
__________
(1) .
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
لكثير صاحب عزة، يقول: امتحنيني في المحبة، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتغير حالى، وافعلي ما يجبرك زوجك عليه من شتمي، كما يأتى في كلامه، ولا تتحرجى عنه فانه مثل إحسانك، ولهذا ذكر الإحسان والمعنى: لا لوم ولا بغض، سواء أسأت أو أحسنت، فالأمر بمعنى الخبر، ثم التفت وقال: ليست عزة ملومة عندنا ولا مبغضة إن تبغضت، أى تكلفت البغض لنا وأظهرته. ويجوز أن المعنى: لا ملومة أنت ولا مقلية، فالالتفات في قوله «إن تبغضت، فقط.
(2) .
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستفثك في الود
ولو جئت تبغى كنفه لتبيتها ... تبادر إشفاقا عليك من الرد
يرى أنه في الود وان مقصر ... على أنه قد زاد فيه عن الجهد
روى يستفشك «بالشين بدل الثاء. والمعنى متقارب. والسين والتاء للعد، أى لم يعدك خائنا مضرا. وتبينها تقطعها. والإشفاق: الخوف. والوانى: المتوانى. يقول: إن أخاك الصدق هو الذي لو قصدته بالمكاره لم يعدها غشا منك في المودة، بل يبادرك بكل ما طلبته خوفا عليك من أذى المنع، يظن أو يعتقد أنه مقصر في الود، مع أنه جاوز فيه الحد، وتكلف غير طاقته.

(2/279)


وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)

عند الله تعالى ذاهبا هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا. وقوله طوعا أو كرها معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين. وسمى الإلزام إكراها، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروى أنها نزلت في الجد بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مالى أعينك به فاتركنى إنكم تعليل لرد إنفاقهم. والمراد بالفسق:
التمرد والعتو.

[سورة التوبة (9) : آية 54]
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
أنهم فاعل منع. وهم، وأن تقبل: مفعولاه. وقرئ: أن تقبل، بالتاء والياء على البناء للمفعول. ونفقاتهم، ونفقتهم، على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمى: أن يقبل منهم نفقاتهم، على أن الفعل لله عز وجل كسالى بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول: كسلت، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإن الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه. فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله طوعا ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون. قلت:
المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.

[سورة التوبة (9) : آية 55]
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)
الإعجاب بالشيء: أن يسر به سرور راض به متعجب من حسنه. والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى ولا تمدن عينيك فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف

(2/280)


ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57) ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58)

والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. فإن قلت: إن صح تعليق التعذيب «1» بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وهم كارهون؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون، ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)
لمنكم لمن جملة المسلمين يفرقون يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية ملجأ مكانا يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أو مغارات أو غيرانا. وقرئ بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل:
هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا، يعنى: أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. ويجوز أن يكون من:
أغار الثعلب، إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفار أو مدخلا أو نفقا يندسون فيه وينجحرون، وهو مفتعل من الدخول. وقرئ مدخلا من دخل، ومدخلا من أدخل: مكانا يدخلون فيه أنفسهم. وقرأ أبى بن كعب رضى الله عنه: متدخلا وقرئ: لو ألوا إليه لالتجؤا إليه يجمحون يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام. وقرأ أنس رضى الله عنه: يجمزون. فسئل فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون «2» واحد.

[سورة التوبة (9) : آية 58]
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58)
يلمزك يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك. قيل: هم المؤلفة قلوبهم. وقيل هو ابن ذى الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال:
اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ «3» وقيل:
هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال: ألا ترون إلى صاحبكم! إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم،
__________
(1) . قوله «فان قلت إن صح تعليق ... الخ» مبنى على أنه تعالى لا يريد الشر، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهلى السنة: أنه يريده كالخير. (ع)
(2) . قوله «ويجمزون ويشتدون» فيقال: جمز بالجيم يجمز بالكسر: أسرع، وحمز بالحاء يحمز يضمها:
اشتد اه صحاح فتدبر. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى سعيد واللفظ للبخاري. ولهما: «إذ جاء ذو الخويصرة» وهو المحفوظ

(2/281)


ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59) إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)

وهو يزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أبالك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا» فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» »
وقرئ: يلمزك بالضم، ويلمزك ويلامزك. التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز.
ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه. وإذا للمفاجأة: أى وإن لم يعطوا منها فاجئوا للسخط.

[سورة التوبة (9) : آية 59]
ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)
جواب «لو» محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم. والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.

[سورة التوبة (9) : آية 60]
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)
إنما الصدقات للفقراء قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها «2» لا يتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك. إنما الخلافة لقريش. تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه. وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أنهم قالوا: في أى صنف منها وضعتها أجزأك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فأبرتهم بها
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قال محمود: «هذا قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها الخ» قال أحمد: وهو مذهب مالك رضى الله عنه، والقول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار اللام بالتمليك كما ذهب إليه الشافعي لا يساعده السياق فان الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على أن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا فهذا هو الغرض الذي سبقت له فلا اقتضاء فيها لما سواء والله أعلم.

(2/282)


كان أحب إلى. وعند الشافعى رضى الله عنه، لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية. وعن عكرمة رضى الله عنه. أنها تفرق في الأصناف الثمانية. وعن الزهري أنه كتب لعمر ابن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية والعاملين عليها السعاة الذين يقبضونها والمؤلفة قلوبهم أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئا منها حين كان في المسلمين قلة. والرقاب: المكاتبون يعانون منها. وقيل:
الأسارى. وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق والغارمين الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا وفي سبيل الله فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنى حيث ماله فريضة من الله في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم. وقرئ فريضة بالرفع على: تلك فريضة. فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة «1» ؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير «في» في قوله وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دل بكون هذه الأصناف مصارف
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة ... الخ» قال أحمد: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم. وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم. ولكن في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم. وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك. وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته، مع أنه مجرد من الحرفين جميعا، وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لما لك على أن الغرض بيان المصرف، واللام لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف، فيتعين تقديره، فاما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة لفقراء، كقول مالك: أو مملوكة للفقراء، كقول الشافعي، لكن الأول متعين، لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا يصح تعلق اللام به وفي معا، فيصح أن تقول: هذا الشيء مصروف في كذا وكذا، بخلاف تقديره مملوكة، فانه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى «في» يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها، فتقديره من اللام عام التعلق، شامل الصحة، متعين، والله الموفق. [.....]

(2/283)


ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)

الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم وإشعارا باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟.

[سورة التوبة (9) : آية 61]
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)
الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع «1» ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «2» . عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه هو أذن. وأذن خير، كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك ودل عليه قراءة حمزة ورحمة بالجر عطفا عليه أى: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم، أى أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، لا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرة.
وقيل: إن جماعة منهم ذموه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم:
لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضا فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم. وقرئ: أذن خير لكم، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف، وخير كذلك، أى هو أذن هو خير لكم يعنى إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل
__________
(1) . قال محمود: «الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ... سمى الرجل بالجارحة التي هي آلة السماع ...
الخ» قال أحمد: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم واعقبهم في تنقصه باليأس منه، ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء: القول بالموجب، لأن في أوله إطماعا للحصم بالتسليم، ثم بتا الطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الاطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه، والله الموفق.
(2) . قوله «الربيئة» في الصحاح: الربيئة الطليعة. (ع)

(2/284)


يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (62) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)

معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم «1» . وقرأ نافع بتخفيف الذال. فإن قلت: لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدى بالباء وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه، لكونهم صادقين عنده، فعدى باللام ألا ترى إلى قوله وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ما أنبأه «2» عن الباء. ونحوه: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، آمنتم له قبل أن آذن لكم. فإن قلت: ما وجه قراءة ابن أبى عبلة: ورحمة بالنصب؟ قلت: هي علة معللها محذوف تقديره: ورحمة لكم يأذن لكم، فحذف لأن قوله أذن خير لكم يدل عليه.

[سورة التوبة (9) : آية 62]
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (62)
لكم ليرضوكم الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضى واحد، كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشنى وجبر منى. أو والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك.

[سورة التوبة (9) : آية 63]
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)
المحادة مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق فأن له على حذف الخبر، أى. فحق أن له نار جهنم وقيل. معناه فله، وأن: تكرير، لأن في قوله أنه تأكيدا، ويجوز أن يكون فأن له معطوفا على أنه، على أن جواب من محذوف تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ: ألم تعلموا بالتاء
__________
(1) . قوله «على سوء دخلتكم» أى مذمتكم. وفي الصحاح أن دخلة الرجل بالضم: باطن أمره اه، ولعلها غلبت في المذمة. (ع)
(2) . قوله «ما أنباه عن الباء ونحوه» أى: ما أبعده. (ع)

(2/285)


يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون (64) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66)

[سورة التوبة (9) : آية 64]
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون (64)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا شر خلق الله، لوددت أنى قدمت فجلدت مائة جلدة، وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين. وفي قلوبهم: للمنافقين. وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم، كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها. وقيل: معنى يحذر:
الأمر بالحذر، أى ليحذر المنافقون. فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله:
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة فما معنى قوله مخرج ما تحذرون؟ قلت: معناه محصل مبرز إنزال السورة. أو أن الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أى تحذرون إظهاره من نفاقكم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66]
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66)
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشأم وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال: احبسوا على الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، فقالوا:
يا نبى الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر «1» أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته لا تعتذروا لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم قد كفرتم قد ظهر كفركم باستهزائكم بعد إيمانكم يعد إظهاركم الإيمان إن نعف عن طائفة منكم بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين
__________
(1) . ذكره الواحدي عن قتادة بغير سند، ووصله الطبري.

(2/286)


المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68)

مصرين على النفاق غير تائبين منه. أو إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزءوا فلم نعذبهم في العاجل، نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين. وقرأ مجاهد: إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير، لأن المسند إليه الظرف، كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن ترحم طائفة «فأنث لذلك وهو غريب، والجيد قراءة العامة: إن يعف عن طائفة، بالتذكير. وتعذب طائفة، بالتأنيث. وقرئ: إن يعف عن طائفة يعذب طائفة، على البناء للفاعل وهو الله عز وجل.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68]
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68)
بعضهم من بعض أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم وتقرير قوله وما هم منكم ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين يأمرون بالمنكر بالكفر والمعاصي وينهون عن المعروف عن الإيمان والطاعات ويقبضون أيديهم شحا بالمبار والصدفات والإنفاق في سبيل الله نسوا الله أغفلوا ذكره فنسيهم فتركهم من رحمته وفضله هم الفاسقون هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت «1» ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله كسالى
فما ظنك بالفسق خالدين فيها مقدرين الخلود هي حسبهم دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه ولعنهم الله وأهانهم من التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة «2» المكرمين ولهم عذاب مقيم ولهم نوع من العذاب سوى الصلى بالنار، مقيم دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد:
__________
(1) . تقدم في أواخر البقرة.
(2) . قوله «وألحقهم بالملائكة» مبنى على مذهب المعتزلة، من تفضيل الملك على البشر. (ع)

(2/287)


كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69)

ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدأ من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.

[سورة التوبة (9) : آية 69]
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69)
الكاف محلها رفع على: أنتم مثل الذين من قبلكم. أو نصب على: فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا. ونحوه قول النمر:
كاليوم مطلوبا ولا طلبا «1»
بإضمار «لم أر» وقوله كانوا أشد منكم قوة تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم.
والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أى قدر من خير، كما قيل له «قسم» لأنه قسم.
ونصيب، لأنه نصب، أى أثبت. والخوض: الدخول في الباطل واللهو كالذي خاضوا كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوه. فإن قلت: أى فائدة في قوله فاستمتعوا بخلاقهم وقوله كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه كما أغنى قوله كالذي خاضوا عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله. وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن
__________
(1) .
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طلبا
لأوس بن حجر. وقيل: للنمر بن تولب، وفيه حذف لا يستقيم إلا به، أى قال لها: لم أنظر كاليوم مطلوبا، والضمير لكلبة الصيد. والكلاب: معلم الكلاب أو الصياد بها، أى ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلهما في غيره بل أعظم، ولعل المراد بالطلب الطالب، ثم يحتمل أن هذا مقول القول، ويحتمل أنه جواب إذا ومقول القول محذوف، إشارة إلى سرعتها: أى قال لها: اذهبي مثلا.

(2/288)


ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)

باستناده إليه عن تلك التقدمة حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة نقيض قوله وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين.

[سورة التوبة (9) : آية 70]
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70)
وأصحاب مدين وأهل مدين وهم قوم شعيب والمؤتفكات مدائن قوم لوط. وقيل:
قريات قوم لوط وهود وصالح، وائتفاكهن: انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر فما كان الله ليظلمهم فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)
بعضهم أولياء بعض في مقابلة قوله في المنافقين بعضهم من بعض. سيرحمهم الله السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوما، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه سيجعل لهم الرحمن ودا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، سوف يؤتيهم أجورهم. عزيز غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب حكيم واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق ومساكن طيبة عن الحسن قصورا من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. وعدن علم، بدليل قوله جنات عدن التي وعد الرحمن ويدل عليه ما روى أبو الدرداء رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصديقون، والشهداء. يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» «1» وقيل: هي مدينة
__________
(1) . أخرجه البزار من طريق زيادة بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عنه، وقال: لا نعلمه إلا من هذا الوجه وزيادة لا يعلم وروى عنه غير الليث وأخرجه الطبراني والدارقطني في المؤتلف وابن مردويه من هذا الوجه.

(2/289)


ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (73) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير (74)

في الجنة. وقيل: نهر جناته على حافاته ورضوان من الله أكبر وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأن رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرة «1» من مشايخنا يقول: لا تطمح عينى ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده ذلك إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان:
أى هو الفوز العظيم وحده دون ما يعده الناس فوزا. وروى «أن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأى شيء أفضل من ذلك؟ قال: أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «2»

[سورة التوبة (9) : آية 73]
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (73)
جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة «3» واغلظ عليهم في الجهادين جميعا، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه «4» فإن لم يستطع فبقلبه «5» . يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.

[سورة التوبة (9) : آية 74]
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير (74)
__________
(1) . قوله «والنفس المرة» أى القوية الشديدة العقل، من المرة بالكسر، وهي القوة وشدة العقل، كما في الصحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى سعيد.
(3) . قال محمود: «معناه جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة ... الخ» قال أحمد: والحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا في إغلاظنا عليه أحيانا، والله الموفق.
(4) . قوله «فليكفهر في وجهه» في الصحاح «اكفهر الرجل» إذا عبس. (ع)
(5) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمرو بن أبى جندب عنه. [.....]

(2/290)


أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجلاس: والله لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس: أجل، والله إن محمدا لصادق وأنت شر من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال: فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق «1» فنزلت يحلفون بالله ما قالوا فقال الجلاس:
يا رسول الله، لقد عرض الله على التوبة. والله لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت «2» توبته وكفروا بعد إسلامهم وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام وهموا بما لم ينالوا وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله «3» ، فهربوا. وقيل:
__________
(1) . قوله «تصديق الكاذب وتكذيب الصادق» لعله تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. ويمكن أنه جعل نفسه كاذبا، والجلاس صادقا، لأنه مقتضى ظاهر الحلف. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند لكن سنده إليه أول الكتاب. وروى ابن سعد وعبد الرزاق والطبري من رواية هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت أم عمير بنت سعيد عند الجلاس بن سويد. فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس الأنصارى، وهو ابن عمه- فذكره. وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ليس فيه كانت أم عمير إلى آخره، بل أوله في قصة تبوك إلى أن قال:
وقال الجلاس حين سمع ما أنزل الله في المنافقين.
(3) . أخرجه أحمد من حديث أبى الطفيل قال «لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا ينادى لا يأخذن العقبة أحد، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وحده، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به، وعمار رضى الله عنه يسوق به. فأقبل رهط متلثمين على الرواحل حتى غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عمار فضرب وجوه الرواحل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: قد قد- فلحقه عمار فقال: سق سق حتى أناخ. فقال لعمار: هل تعرف القوم فقال: لا، كانوا متلثمين. وقد عرفت علمة الرواحل. فقال: أتدري ما أرادوا برسول الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: أرادوا أن يمكروا برسول الله فطرحوه من العقبة. فلما كان بعد ذلك وقع بين عمار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء مما يكون بين الناس.
فقال: أنشدكم الله، كم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ترى أنهم أربعة عشر، فان كنت فيهم فهم خمسة عشر» ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزار وقال روى من طريق عن حذيفة وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى البختري عن حذيفة بن اليمان. قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به. وعمار رضى الله عنه يسوق الناقة حتى إذا كنا بالعقبة وإذا اثنى عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال:
فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين.

(2/291)


ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77)

هم المنافقون بقتل عامر لرده على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبى وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وما نقموا وما أنكروا وما عابوا إلا أن أغناهم الله وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشر ألفا فاستغنى فإن يتوبوا هي الآية التي تاب عندها الجلاس في الدنيا والآخرة بالقتل والنار.

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 77]
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77)
روى أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ثعلبة، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه «1» » فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذى حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد. قال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا حتى أرى رأيى، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة مرتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال: إن الله منعني أن
__________
(1) . أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل والشعب وابن أبى حاتم والطبري وابن مردويه كلهم من طريق على بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أمامة. وهذا إسناد ضعيف جدا. فقال السهيلي عن ابن إسحاق ثعلبة بن حاطب قمر البدريين. وعن ابن إسحاق أيضا في المنافقين وذكر هذه الآية التي نزلت فيه. فلعلهما اثنان.

(2/292)


ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78) الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79)

أقبل منك، فجعل التراب على رأسه فقال: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضى الله عنه فلم يقبلها، وجاء بها إلى عمر رضى الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضى الله عنه. وقرئ «لنصدقن ولنكونن» بالنون الخفيفة فيهما من الصالحين قال ابن عباس رضى الله عنه: يريد الحج فأعقبهم عن الحسن وقتادة رضى الله عنهما: أن الضمير للبخل. يعنى: فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه. والظاهر أن الضمير لله عز وجل. والمعنى: فخذلهم حتى نافقوا «1» .
وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين. ومنه: جعل خلف الوعد ثلث النفاق. وقرئ: يكذبون، بالتشديد.
وأ لم تعلموا، بالتاء. عن على رضى الله عنه.

[سورة التوبة (9) : آية 78]
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78)
سرهم ونجواهم ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها.

[سورة التوبة (9) : آية 79]
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79)
الذين يلمزون محله النصب أو الرفع على الذم. ويجوز أن يكون في محل الجر بدلا من الضمير في سرهم ونجواهم. وقرئ: يلمزون، بالضم المطوعين المتطوعين المتبرعين.
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب. وقيل: بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت «2» فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفا،
__________
(1) . قوله «والمعنى فخذلهم حتى نافقوا» فسره بذلك على مذهب المعتزلة، من أنه تعالى لا يخلق الشر. (ع)
(2) . أخرجه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين- الآية قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية. من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء رجل من الأنصار بصاع من تمر. فقال بعض المنافقين والله ما جاء عبد الرحمن بن عوف بما جاء به إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع. ومن طريق عطية العوفى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى الناس، فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم. وجاء رجل بصاع من تمر. فقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير- الحديث. وجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف، فأربعة آلاف لي، وأربعة آلاف أقرضها ربى- فذكره» وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتادة قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله. وكان له ثمانية آلاف دينار. فتصدق بأربعة آلاف دينار. فقال أناس من المنافقين: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء. فقال الله عز وجل الذين يلمزون المطوعين وكان لرجل من الأنصار صاعان من تمر. فجاء بأحدهما. فقال أناس من المنافقين: إن كان الله لغنيا عن صاع هذا.
فقال الله عز وجل إلا جهدهم وروى البزار من رواية عمر بن أبى مسلمة عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تصدقوا فانى أريد أن أبعث بعثا فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف درهم ألفان أقرضها ربى وألفان لعيالي- الحديث» وفيه «وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من نمر» أخرجه عن طالوت بن عبادة عن أبى عوانة عنه وقال: تفرد طالوت بوصله ثم رواه عن أبى كامل عن أبى عوانة ومن طريقه ابن مردويه وفي المغازي بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدى فتصدق بمائة وسق من تمر فألقاه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» انتهى وقصة أبى عقيل أخرجها إبراهيم الحربي والطبراني والطبري من رواية خالد بن يسار عن ابن أبى عقيل عن أبيه قال «بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر- الحديث» وفي إسناده موسى بن عبدة وهو ضعيف قلت: قصة أبى عقيل أخرجها البخاري من حديث أبى مسعود الأنصارى باختصار وفيه «جاء إنسان آخر بأكثر من ذلك» وفي رواية: بشيء كثير.

(2/293)


استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (80)

وتصدق عاصم بن عدى بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصارى رضى الله عنه بصاع من تمر فقال: بت ليلتي أجر بالجرير «1» على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت إلا جهدهم إلا طاقتهم. قرئ بالفتح والضم سخر الله منهم كقوله: الله يستهزئ بهم في أنه خبر غير دعاء. ألا ترى إلى قوله ولهم عذاب أليم.

[سورة التوبة (9) : آية 80]
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (80)
سأل عبد الله بن عبد الله بن أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان رجلا صالحا- أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين» «2» فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وقد ذكرنا
__________
(1) . قوله «بالجرير» هو حبل البعير. ويروى: أجر بالجرير الماء كذبها، من أجر. (ع)
(2) . لم أجده بهذا السياق وأصله في المتفق عليه عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلى عليه، فقام يصلى عليه فأخذ عمر رضى الله عنه بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلى عليه فقال إنما خيرنى فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم الآية وسأزيده على السبعين فصلى عليه فأنزل الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا فتركت الصلاة عليهم- لفظ مسلم

(2/294)


أن هذا الأمر في معنى الخبر، «1» كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال على بن أبى طالب عليه السلام:
لأصبحن العاص وابن العاصى ... سبعين ألفا عاقدى النواصى «2»
فإن قلت: كيف خفى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام «3» وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله ذلك بأنهم كفروا ... الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: «قد رخص لي ربى فسأزيد على السبعين» قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية
__________
(1) . قال محمود: «قد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ... الخ» قال أحمد: وما يدعيه الزمخشري في هذا وأمثاله من محذوف هو المقصود بالأمر وهذا واقع موقعه، كقول كثير عزة. أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة.
كأنه يقول لها: امتحنى محلك عندي وقوة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالى معك مسيئة أو محسنة؟ وكذلك معنى الآية استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر هل يغفر لهم في حالتي الاستغفار وتركه؟
وهل يتفاوت الحالان أولا؟ قال أحمد: وقد ورد بصيغة الخبر في الآية الأخرى في قوله تعالى سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
(2) .
لأصبحن العاصي وابن العاصي ... سبعين ألفا عاقدى النواصي
مستحقبين حلق الدلاص ... قد جنبوا الخيل مع القلاص
آساد محل حين لا مناص
لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه في عمرو بن العاص. وصبحه: سقاء الصبوح وقت الصباح. ويروى «لأصحبن» من الصحبة ولعله تحريف. شبه إنالة المكروه بانالة المحبوب على سبيل التهكم، فهو استعارة تصريحية تهكمية. ويجوز أنه شبه الفرسان لإتيانهم صباحا بالصبوح على سبيل المكنية التهكمية. ولأصبحن: تخييل. وسبعين ألفا: مفعول ثانى. والمراد به الكثرة. والعاقدين: جمع عاقد، والمراد: نواصي خيلهم أو أطراف عمائمهم من خلفهم أو شعور رؤوسهم. وعقد الناصية من أمارات الشجاعة والاشاحة في القتال. والحقاب: ما تلفه المرأة على وسطها، ويطلق على ذات وسطها. والحقيبة: خرج صغير خلف الراكب. والحلق- بالكسر-: جمع حلقة. والدلاص: الدرع الملساء المضيئة، يوصف به الواحد والجمع. فالمعنى: أنهم لابسون الدروع. أولا شيء في حقائبهم غيرها. والقلاص فتيات الإبل: أى جمعوا بين النوعين، وجعلهم كآساد المحل، أى الجدب، ليفيد أنهم جياع وعطاش إلى لحوم الأعداء ودمائهم، وحق اسم «لا» أن يبنى على الفتح، فيجوز أنه كسره القافية. والأوجه أنه الاسم بمعنى غير كما في الصحاح، أو حين غير مناص، أو بنى على الكسر لنية الاضاقة. وشبهه بنزال، أو هو مجرور بمن الاستغراقية مقدرة كما مر في «ولات أوان» ويجوز- على بعد- أن يكون في الكلام مضاف محذوف، أى لا حين لا وقت مناص، أى تأخر عن الحرب، ويمكن أن «لا» زائدة بين المتضايفين، كافى «بثرلا حور سرى» أى حين مناص الفرسان وفرارهم.
(3) . عاد كلامه. قال: فان قلت كيف خفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد ...
الخ» قال أحمد: وقد أنكر القاضي رضى الله عنه حديث الاستغفار ولم يصححه، وتعالى قوم في قبوله حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفى الغفران بالسبعين ثبوت الغفران بالزائد عليه، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم.

(2/295)


فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82)

رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام ومن عصاني فإنك غفور رحيم وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة: لطف لأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.

[سورة التوبة (9) : آية 81]
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81)
المخلفون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان بمقعدهم بقعودهم عن الغزو خلاف رسول الله خلفه. يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة: خلف رسول الله. وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض.
وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الايمان وداعى الإيقان قل نار جهنم أشد حرا استجهال لهم، لأن من تصون من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل: ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب «1»

[سورة التوبة (9) : آية 82]
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82)
معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا جزاء إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
__________
(1) . للزمخشري. و «الأحقاب» الأزمان الكثيرة المتتابعة، جمع حقب بالضم بمعنى الدهر. و «الأرى» العسل. و «الشبه» المثل. و «الصاب» نبت مر الطعم. وقيل: هو الحنظل يقول إن مسرة أزمان كثيرة ترى بعدها مساءة يوم واحد، حالها الشبيه بالعسل هو في الحقيقة شبيه بالحنظل، فكيف الحال بعكس ذلك؟.

(2/296)


فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)

[سورة التوبة (9) : آية 83]
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83)
وإنما قال إلى طائفة منهم لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم فاستأذنوك للخروج يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك. وأول مرة هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين مع الخالفين قد مر تفسيره. قرأ مالك بن دينار رحمه الله. مع الخلفين، على قصر الخالفين. فإن قلت مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهن. ثم إن قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه. ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل.

[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85]
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم «1» فلما
__________
(1) . لم أجده هكذا فأما أوله وهو «كان يقوم، إلى آخره» وأما قصة عبد الله ففي الجائز من المستدرك من طريق ابن إسحاق حدثني الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن أبى ليعوده في مرضه الذي مات فيه. فلما عرف فيه الموت قال له: أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود فقال: قد أبغضتهم، أسعد بن زرارة. فما نفعه، فلما مات أتاه ابنه فقال: قد مات فأعطنى قميصك أكفنه فيه فنزع عليه الصلاة والسلام قميصه فأعطاه إياه» وأما قوله «بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخنى» فزاده الطيراني من طريق معمر عن قتادة قال «أرسل عبد الله ابن أبى وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حب يهود. قال: يا رسول الله، أرسالات إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخنى، وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه فاستغفر له ومات فكفنه في قميصه، ونفث في جلده ودلاه في قبره، فأنزل الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا وفي الدلائل البيهقي من طريق الواقدي بإسناده في هذه القصة قال:
فقال «ليس هذا بحين عتاب، هو الموت، فان مت فاحضر غسلي وأعطنى قميصك أكفن فيه فأعطاه ثم قال: وصل على واستغفر لي» وفي رواية له فقال له ابنه- وكان يقال له الحباب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله يا رسول الله أعطه قميصك الذي يلي جلدك» وأما قوله الحباب اسم شيطان فرواه ابن سعد والطبري من طريق عروة وغيره قال «لما ثقل عبد الله بن أبى انطلق ابنه فقال: إن أبى احتضر وأحب أن تشهده وتصلى عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله قال: بلى، أنت عبد الله، إن الحباب اسم شيطان، قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وصلى عليه وأما قول عمر فقد قدمنا أنه في الصحيحين.

(2/297)


مرض رأس النفاق عبد الله بن أبى بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب اليهود.
فقال: يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبنى «1» وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه فقال: أنت عبد الله ابن عبد الله. الحباب اسم شيطان. فلما هم بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدو الله، فنزلت وقيل: أراد أن يصلى عليه فجذبه جبريل «2» . فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس رضى الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ اسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا «3» ، فكساه عبد الله قميصه «4» وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد «5» ولكنا نأذن لك، فقال:
لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة «6» فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك، وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام، وإكراما لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له: أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء «7» ، وعلما بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفا
__________
(1) . قوله «لا لتؤنبنى» أى تعنفني باللوم. [.....]
(2) . أخرجه أبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلى على عبد الله بن أبى فأخذ جبريل بثوبه وقال ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ويزيد ضعيف.
(3) . قوله «وكان رجلا طوالا» في الصحاح: الطوال- بالضم: الطويل. (ع)
(4) . أخرجه البخاري من رواية عمرو بن دينار سمع جابرا «لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصا. فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. قال ابن عتبة كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث جابر وأدرج فيه الكلام الأخير.
(5) . قوله «إنا لا نأذن لمحمد» أى في دخوله مكة. (ع)
(6) . أخرجه الوافدى في المغازي: حدثنا جابر بن سليم عن صفوان بن عثمان قال «كانت قريش يوم الحديبية أرسالات إلى عبد الله بن أبى: إن أحببت أن تدخل فتطوف فافعل. وابنه جالس عنده. فقال له ابنه: يا أبت اذكر الله أن تطوف بالبيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ابن أبى وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه فسر» .
(7) . لم أجده. وأصل سؤال ابنه في الصحيح كما تقدم.

(2/298)


وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89)

لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: «إن قميصي لن يغنى عنه من الله شيئا، وإن أؤمل في الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» «1» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه. فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع «3» مات صفة لأحد. وإنما قيل: مات، وماتوا بلفظ الماضي- والمعنى على الاستقبال- على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة إنهم كفروا تعليل للنهى، وقد أعيد قوله ولا تعجبك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89)
__________
(1) . لم أره هكذا، وأصله أخرجه الطبري من رواية معمر عن قتادة قال ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه في ذلك. فقال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإنى لأرجو أن يسلم به ألف من قومه» .
(2) . لم أره هكذا إلا في مرسل قتادة الذي قبله.
(3) . أخرجه سعيد بن داود في تفسيره من طريقه. قال حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرنى الحكم بن أبان سمع عكرمة عن عباس قال «لما مرض عبد الله بن أبى مرضه الذي مات فيه قال للنبي صلى الله عليه وسلم امنن علي فكفني في قميصك وصل علي قال: فكفنه في قميصه وصلى عليه. قال ابن عباس: والله ما أدرى ما هذه الصلاة كانت: فالله أعلم، وما خادع محمدا إنسان قط» .

(2/299)


وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90)

يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها في قوله وإذا أنزلت سورة كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه. وقيل هي براءة، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد أن آمنوا هي أن المفسرة أولوا الطول ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولا مع القاعدين مع الذين لهم علة وعذر في التخلف فهم لا يفقهون ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك لكن الرسول أى إن تخلف هؤلاء فقد نهد «1» إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقدا، كقوله فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما، فإن استكبروا فالذين عند ربك. الخيرات تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور، لقوله فيهن خيرات.

[سورة التوبة (9) : آية 90]
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90)
المعذرون من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد: وحقيقته أنه يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له: أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم. ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم وقرئ. المعذرون، بالتخفيف:
وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان. قالوا: إن لنا عيالا: وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طى على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم: سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد.
نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى: وعن قتادة: اعتذروا بالكذب: وقرئ:
المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأن التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاى والصاد، في المطوعين، وأزكى وأصدق. وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضى الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر وقعد الذين كذبوا الله ورسوله هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبى: كذبوا، بالتشديد سيصيب الذين كفروا منهم من الأعراب عذاب أليم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار
__________
(1) . قوله «فقد نهد» أى نهض، كما في الصحاح. (ع)

(2/300)


ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93) يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94)

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92]
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92)
الضعفاء الهرمى والزمنى. والذين لا يجدون: الفقراء. وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. والنصح لله ورسوله: الإيمان بهما، وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه على المحسنين على المعذورين الناصحين، ومعنى: لا سبيل عليهم: لا جناح عليهم. ولا طريق للعاتب عليهم قلت لا أجد حال من الكاف في أتوك وقد قبله مضمرة، كما قيل في قوله أو جاؤكم حصرت صدورهم أى إذا ما أتوك قائلا لا أجد تولوا ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل «المستحملون» أبو موسى الأشعرى وأصحابه. وقيل البكاءون، وهم ستة نفر من الأنصار تفيض من الدمع كقولك. تفيض دمعا، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و «من» للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ألا يجدوا لئلا يجدوا. ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو حزنا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94]
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93) يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94)
فإن قلت: رضوا ما موقعه؟ قلت: هو استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وطبع الله على قلوبهم يعنى أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم. فإن قلت: فهل يجوز أن

(2/301)


سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)

يكون قوله قلت لا أجد استئنافا مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: قلت لا أجد ما أحملكم عليه. إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض «قلت» نعم ويحسن لن نؤمن لكم علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال «1» وقوله قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء تصديقهم لأن الله عز وجل إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على كفركم ثم تردون إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسر وعلانية، فيجازيكم على حسب ذلك.

[سورة التوبة (9) : آية 95]
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95)
لتعرضوا عنهم فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم فأعرضوا عنهم فأعطوهم طلبتهم إنهم رجس تعليل لترك معاتبتهم، يعنى أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار.
وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم ومأواهم جهنم يعنى وكفتهم النار عتابا وتوبيخا، فلا تتكلفوا عتابهم.

[سورة التوبة (9) : آية 96]
يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)
لترضوا عنهم أى غرضهم في الحلف بالله طلب رضاهم لينفعهم ذلك في دنياهم فإن ترضوا عنهم فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطا عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها. وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا الله عنهم.
قيل: هم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلا منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، لا تجالسوهم ولا تكلموهم. وقيل: جاء عبد الله ابن أبى يحلف أن لا يتخلف عنه أبدا.
__________
(1) . قوله «وجب عليه الإخلال» أى الترك. يقال: أخل الرجل بمركزه، إذا تركه. (ع)

(2/302)


الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)

[سورة التوبة (9) : آية 97]
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)
الأعراب أهل البدو أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنة وأجدر ألا يعلموا وأحق بجهل حدود الدن وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «1» «إن الجفاء والقسوة في الفدادين» «2» والله عليم يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 98 الى 99]
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)
مغرما غرامة وخسرانا. والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عز وجل وابتغاء المثوبة عنده ويتربص بكم الدوائر دوائر الزمان: دوله وعقبه «3» لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة عليهم دائرة السوء دعاء معترض، دعى عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عز وجل وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وقرئ السوء بالضم وهو العذاب، كما قيل له سيئة. والسوء بالفتح، وهو ذم للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأن من دارت عليه ذام لها والله سميع لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة عليم بما يضمرون. وقيل هم أعراب أسد وغطفان وتميم قربات مفعول ثان ليتخذ. والمعنى: أن ما ينفقه سبب لحصول القربات
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في أثناء حديث فيه «وإن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل» كذا البخاري ولمسلم «إن القسوة وغلظ القلوب» .
(2) . قوله «والقسوة في الفدادين» الفدادين: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. ورجل فداد:
شديد الفديد. وهو الصوت: أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «دوائر الزمان: دوله، وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ... الخ» قال أحمد: وفي آية براءة مزيد على مناسبة الدعاء الحال المدعو عليهم ولقولهم، وذلك أن الذي نسب إليهم تربص الدوائر مطلقا والذي دعى عليهم به دائرة السوء على التقييد بأسوإ الدوائر لا على الإطلاق، والله الموفق. [.....]

(2/303)


والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100)

عند الله وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله «اللهم صل على آل أبى أو في «1» » وقال تعالى وصل عليهم فلما كان ما ينفق سببا لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات ألا إنها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف، مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك سيدخلهم وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان «2» إذا خلصت النية من صاحبها. وقرئ قربة بضم الراء. وقيل: هم عبد الله وذو البجادين ورهطه.

[سورة التوبة (9) : آية 100]
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100)
السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقيل الذين شهدوا بدرا.
وعن الشعبي: من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. وقرأ عمر رضى الله عنه: والأنصار بالرفع عطفا على السابقون «3» . وعن عمر أنه كان يرى أن قوله والذين اتبعوهم بإحسان بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد: إنه بالواو، فقال: ائتوني بأبى، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة وآخرين منهم وأوسط الحشر والذين جاؤ من بعدهم وآخر الأنفال والذين آمنوا من بعد. وروى أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك؟ قال: أبى، فدعاه فقال:
أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم «4» . ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا
__________
(1) . متفق عليه من حديث عبد الله بن أبى أو في قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليه فأتى أبو أوفى بصدقة. فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى» .
(2) . قال محمود: «ما أدل هذا الكلام على أن الصدقة من الله بمكان ... الخ» قال أحمد: وللقدرية كما علمت مذهب في أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، وأنه مخلد في النار وإن كان موحدا، وغرض الزمخشري أن يجعل الفسق الذي وسم به المنافق هو الذي يوسم به الموحد، حتى يكون استحقاقهما الخلود واحدا. فاحذره، والله أعلم.
(3) . لم أره هكذا.
(4) . لم أره هكذا، وفي الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب قال «مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار فأخذ عمر بيده. وقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبى بن كعب فقال:

(2/304)


وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101)

رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، وارتفع السابقون بالابتداء، وخبره رضي الله عنهم ومعناه: رضى عنهم لأعمالهم ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة: تجرى من تحتها، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف:
تحتها، بغير من.

[سورة التوبة (9) : آية 101]
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101)
وممن حولكم يعنى حول بلدتكم وهي المدينة منافقون وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها ومن أهل المدينة عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أن مردوا صفة موصوف محذوف، كقوله:
أنا ابن جلا.. «1» ....
وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره مردوا على النفاق تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله لا تعلمهم
__________
(1) .
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا تبتغى الشعراء منى ... وقد جاوزت حد الأربعين
لسحيم بن وثيل الرياحي، كان عبدا حيشيا، فاتهم ببنت مولاه. فقتله. وقيل للمثقب العبدى، ونسب البيت الأول العرجى. وجلا: صفة لمحذوف، أى ابن رجل جلا واتضح أمره بالشجاعة، فالفعل لازم. أو جلا غمة الحرب وكشف همها، فهو متعد، وحذف المنعوت هنا ضرورة، لأنه لا يطرد إلا إذا صلح النعت لمباشرة العامل، أو كان المنعوت بعض اسم مجرور بمن، أو في كما مر، وإضافة «طلاع» لما بعده لفظية، فلا تفيده تعريفا. وتوسيط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والثنايا: العقبات الصعبة. استعارها لعظائم الأمور على سبيل التصريح، والطلوع ترشيح «متى أضع» بيضة الحرب على رأسى «تعرفوني» كناية عن نزول الحرب فنثبت شجاعته. وروى «تدرى» بدل «تبتغى» وهو افتعال من الدراية، أى: ماذا تستعلم الشعراء منى، والحال أنى جاوزت حد الأربعين سنة، وكسر نون الجمع لغة. ويجوز أنه جر بالكسر على لغة من يعربه كالحين.

(2/305)


وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102)

أى يخفون عليك مع فطنتك «1» وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنؤقهم «2» في تحامى ما يشكك في أمرهم، ثم قال نحن نعلمهم أى لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى سنعذبهم مرتين قيل: هما القتل وعذاب القبر. وقيل الفضيحة وعذاب القبر. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرتين، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» خطيبا يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق «4» » فأخرج ناسا وفضحهم، فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر. وعن الحسن: أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم إلى عذاب عظيم إلى عذاب النار.

[سورة التوبة (9) : آية 102]
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102)
اعترفوا بذنوبهم أى لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة. أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام «5» . وقيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم أو ثقوا أنفسهم: بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين- وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم، فقال: وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، فنزلت،
__________
(1) . قال محمود: «معناه أنه مع شهامتك وفطنتك وصدق فراستك يخفون حالهم عليك ... الخ» قال أحمد:
وكأن قوله تعالى مردوا على النفاق توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه عليه الصلاة والسلام لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به والله أعلم.
(2) . قوله «لفرط تنوقهم» أى تأنفهم. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فقال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم» ظاهره أن القائل هو ابن عباس. (ع)
(4) . أخرجه الطبري وابن مردويه والطبراني في الأوسط من طريق السدى عن أبى مالك عن ابن عباس بهذا إلى قوله «وفضحهم» وزاد «ولم يكن عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم عمر فاختبأ منهم، ثم دخل المسجد فقال له رجل: يا عمر أبشر، فقد فضح الله المنافقين اليوم. فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر» .
(5) . قوله «روى أن الذين اعترفوا بذنوبهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام» لم أجده.

(2/306)


خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)

فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال:
ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فنزلت: خذ من أموالهم «1» عملا صالحا خروجا إلى الجهاد وآخر سيئا تخلفا عنه. عن الحسن وعن الكلبي: التوبة والإثم. فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به «2» ؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، ثريد: خلطت كل واحد منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به، وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، بمعنى شاة بدرهم. فإن قلت: كيف قيل أن يتوب عليهم وما ذكرت توبتهم؟ قلت: إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم.

[سورة التوبة (9) : آية 103]
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)
تطهرهم صفة لصدقة. وقرئ: تطهرهم، من أطهره بمعنى طهره. وتطهرهم، بالجزم جوابا للأمر. ولم يقرأ وتزكيهم إلا بإثبات الياء. والتاء في تطهرهم للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه. أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وصل عليهم واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة «3» إذا أخذها. وعن الشافعي رحمه الله: أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهورا، وبارك لك فيما أبقيت. وقرئ: إن صلاتك، على التوحيد «4» سكن لهم
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل وابن مردويه من طريق على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وآخرون اعترفوا بذنوبهم- الآية كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد- الحديث» .
(2) . قال محمود: «إن قلت قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به ... الخ» قال أحمد: والتحقيق في هذا أنك إذا قلت خلطت الماء باللبن فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء المخلوط واللبن مخلوط به، والمدلول عليه لزوما لا تصريحا كون الماء مخلوطا به واللبن مخلوطا، وإذا قلت: خلطت الماء واللبن، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا. وأما ما خلط به كل واحد منهما فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما مخلوط به. ويحتمل أن يكون قرينة أو غيره، فقول الزمخشري: «إن قولك خلطت الماء واللبن يفيد ما يفيده مع الباء وزيادة» ليس كذلك، فالظاهر في الآية- والله أعلم- أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل، كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به، والله أعلم.
(3) . قوله «يدعو المصدق لصاحب الصدقة» المصدق اسم فاعل: الذي يأخذ الصدقات، أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «وقرئ إن صلاتك على التوحيد» بدل قراءة صلواتك على الجمع. (ع) [.....]

(2/307)


ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (104) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (105) وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106)

يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم والله سميع يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عليم بما في ضمائرهم، والغم من الندم لما فرط منهم.

[سورة التوبة (9) : آية 104]
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (104)
قرئ ألم يعلموا بالياء والتاء، وفيه وجهان، أحدهما: أن يراد المتوب عليهم، يعنى:
ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أن الله هو يقبل التوبة إذا صحت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، وهو للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين. وقيل: معنى التخصيص في هو: أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها، فاقصدوه بها ووجهوها إليه.

[سورة التوبة (9) : آية 105]
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
وقل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى- خيرا كان أو شرا- على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم. والثاني: أن يراد غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. فإن قلت: فما معنى قوله ويأخذ الصدقات قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل «1» والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله فسيرى الله وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.

[سورة التوبة (9) : آية 106]
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106)
قرئ مرجون ومرجؤن من أرجيته. وأرجأته: إذا أخرته. ومنه المرجئة، يعنى:
وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم إما يعذبهم إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا وإما يتوب عليهم
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبراني من طريق عبد الله بن قتادة المحاربي عنه. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما تصدق أحد بصدقة من طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه ... الحديث.

(2/308)


والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108)

إن تابوا، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أحدا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله تعالى، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله «1» والله عليم حكيم وفي قراءة عبد الله: غفور رحيم. وإما للعباد: أى خافوا عليهم «2» العذاب، وارجوا لهم الرحمة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 108]
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108)
في مصاحف أهل المدينة والشام: الذين اتخذوا بغير واو، لأنها قصة على حيالها. وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم. روى أن بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف «3» وقالوا: نبنى مسجدا ونرسل إلى
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق. والقصة في الصحيحين من حديث كعب بن مالك: وهو حديث ابن عباس الذي قبله باختصار.
(2) . قوله «وإما للعباد أى خافوا عليهم» عبارة النسفي: وإما الشك وهو راجع إلى العباد. (ع)
(3) . لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد، وليس صدره بصحيح فان مسجد قباء كان قد أسس والنبي صلى الله عليه وسلم بقباء أول ما هاجر، وبنى مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك فبينهما تسع سنين لكن روى ابن مردويه من طريق محمد بن سعد العوفى عن أبيه عن عمه عن أبيه عن جده عطية بن سعد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال منهم عرج جد عبد الله بن حنيف، ووديعة ابن حزام، ومشجع بن حارثة، فبنو مسجدا- الحديث» من قوله «فبنوا مسجدا إلى مسجد قباء إلى آخره «ذكره ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز لغزوة تبوك- الحديث» ولم يذكر في الذين أرسلوا إلى هدمه سوى مالك بن الدخشم، ومعن بن عدى لم يذكر وحشيا قاتل حمزة وعامر بن السكن ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق قال: ذكر الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخى وهم أنه سمع أبا رهم الغفاري فذكر نحوه. وأما كونهم بنوه بسبب أبى عامر، فرواه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(2/309)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيه، ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين.
أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجدا بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن يصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم: إنى على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدى وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين ضرارا مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد فباء ومعازة وكفرا وتقوية للنفاق وتفريقا بين المؤمنين لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص «1» بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم وإرصادا وإعدادا «ل» أجل لمن حارب الله ورسوله وهو الراهب: أعدوه له ليصلى فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بنى عامر، فقيل له: مسجد بنى فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلى فيه، فإنه بنى على ضرار، وكل مسجد بنى على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهى إلى المسجد الذي بنى ضرارا. وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضى الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه. فإن قلت: والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الاختصاص. كقوله المقيمين الصلاة وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، معناه: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله والسارق والسارقة، فإن قلت: بم يتصل قوله من قبل؟ قلت. باتخذوا، أى اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف إن أردنا ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة. وذكر الله والتوسعة على المصلين
__________
(1) . قوله «فيغتص» أى يمتلئ اه. (ع)

(2/310)


أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109)

لمسجد أسس على التقوى قيل هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى، لأن الموازنة بين مسجدى قباء أوقع. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وعن أبى سعيد الخدري: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد «1» المدينة من أول يوم من أول يوم من أيام وجوده فيه رجال يحبون أن يتطهروا قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثم أعادها: فقال عمر:
يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم: أترضون بالقضاء؟ قالوا:
نعم. قال: أتصرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. قال:
صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار، إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط، فقالوا يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم رجال يحبون أن يتطهروا «2» وقرئ: أن يطهروا، بالإدغام. وقيل: هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل:
كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم. فإن قلت: ما معنى المحبتين؟ قلت: محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهى له على إيثاره. ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.

[سورة التوبة (9) : آية 109]
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109)
قرئ أسس بنيانه، وأسس بنيانه، على البناء للفاعل والمفعول. وأسس بنيانه، جمع أساس.
__________
(1) . رواه مسلم بلفظه.
(2) . لم أجده هكذا: وكأنه ملفق من حديثين: ذكر المخرج أولهما من الطبراني في الأوسط قال: حدثنا الهيثم ابن خلف الدوري بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر. ومعه أناس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا، ثلاث مرات، فقال عمر رضى الله عنه يا رسول الله، نؤمن بما أتيتنا به ونحمد الله في الرخاء، ونصبر في البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال مؤمنون ورب الكعبة» انتهى، وهذا فيه من المخالفة بين السياقين ما لا يخفى، وأما الثاني، فروى ابن مردويه من طريق ابن عباس نحوه

(2/311)


لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)

على الإضافة، وأساس بنيانه، بالفتح والكسر: جمع أس، وآساس بنيانه على أفعال، جمع أس أيضا. وأس بنيانه. والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه «1» على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى. فإن قلت: فما معنى قوله فانهار به في نار جهنم؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. والشفا: الحرف والشفير. وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا. والهار: الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. ووزنه فعل، قصر عن فاعل، كخلف من خالف. ونظيره: شاك وصات، في شائك وصائت. وألفه ليست بألف فاعل، إنما هي عينه. وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره. وقرئ: جرف. بسكون الراء.
فإن قلت: فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر: على تقوى من الله، بالتنوين؟ قلت:
قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى فيمن نون، ألحقها بجعفر. وفي مصحف أبى:
فانهارت به قواعده. وقيل: حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤى الدخان يخرج منه. وروى أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل على، فو الله لقد صليت بهم والله يعلم أنى لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤن من القرآن شيئا. فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بقومه.

[سورة التوبة (9) : آية 110]
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)
ريبة شكا فى الدين ونفاقا، وكان القوم منافقين. وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عز وجل ضرارا وكفرا فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا
__________
(1) . قوله «فمن أسس بنيان دينه» هذا كما في الحديث «بنى الإسلام على خمس» . (ع)

(2/312)


إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111)

- لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم- تصميما على النفاق ومقتا للإسلام، فمعنى قوله لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحل أثره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه. وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع «1» تصويرا لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقرئ: يقطع، بالياء. وتقطع، بالتخفيف. وتقطع، بفتح التاء بمعنى تتقطع.
وتقطع قلوبهم، على أن الخطاب للرسول أى إلا أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن:
إلى أن. وفي قراءة عبد الله: ولو قطعت قلوبهم. وعن طلحة: ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.

[سورة التوبة (9) : آية 111]
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى «2» . وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضى الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعا. وعن الحسن أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. وروى أن الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت «3» . قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة.
قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابى وهو يقرؤها فقال: كلام من؟ قال كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد «4» يقاتلون فيه معنى الأمر، كقوله تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم
__________
(1) . قوله «فيجوز أن يكون ذكر التقطيع» على قراءة تقطع بالتشديد، مبنيا للمفعول. (ع)
(2) . قوله «في سبيله بالشروى» كالجدوى. في الصحاح والوشاح هي المثل. والظن أنها هنا اسم للاشتراء. (ع)
(3) . أخرجه الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قال «لما بايعت الأنصار ليلة العقبة- فذكره
(4) . ذكره الثعلبي هكذا بلا سند عن البصري مرسلا لكن سنده إلى الحسن البصري أول كتابه. قلت: أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق أبى شيبة عن عطاء الخراساني عن جابر «نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد إن الله اشترى فكبر الناس في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار. فقال:
أنزلت هذه الآية؟ فقال: نعم، فقال بيع رابح. لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه عبد بن حميد: حدثنا إبراهيم هو ابن عبد الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة «لما نزلت هذه الآية إن الله اشترى ... قال رجل من الأنصار يا لها بيعة، ما أربحها. والله لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب وغيره قالوا: قال عبد الله ابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم «اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا فإذا فعلتا ذلك فما لنا؟ قال الجنة قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل» .

(2/313)


التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)

وقرئ: فيقتلون ويقتلون على بناء الأول للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس وعدا مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن، ثم قال ومن أوفى بعهده من الله لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ.

[سورة التوبة (9) : آية 112]
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)
التائبون رفع على المدح. أى: هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين. ويدل عليه قراءة عبد الله وأبى رضى الله عنهما: التائبين، بالياء إلى: والحافظين، نصبا على المدح. ويجوز أن يكون جرا صفة للمؤمنين. وجوز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أى: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا، كقوله وكلا وعد الله الحسنى وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر، أى: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق. والعابدون الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. والسائحون الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم. وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه.

[سورة التوبة (9) : آية 113]
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)
قيل قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب: أنت أعظم الناس على حقا، وأحسنهم عندي

(2/314)


وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)

يدا، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي، فأبى، فقال: لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه «1» ، فنزلت.
وقيل: لما افتتح مكة سأل أى أبويه أحدث به عهدا؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبرا فقال: إنى استأذنت ربى في زيارة قبر أمى فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزلت. وهذا أصح لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه ما كان للنبي ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم لأنهم ماتوا على الشرك.

[سورة التوبة (9) : آية 114]
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)
قرأ طلحة وما استغفر ابراهيم لأبيه، وعنه: وما يستغفر إبراهيم، على حكاية الحال الماضية إلا عن موعدة وعدها إياه أى وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله لأستغفرن لك ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية: وعدها أباه. فإن قلت كيف خفى على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه: لأستغفرن لك ما لم أنه. وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانا يستغفر لآبائه المشركين، فقال: ونحن نستغفر لهم فنزلت «2» وعن على رضى الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم «3» فإن قلت: فما معنى قوله فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه؟ قلت:
معناه: فلما تبين له من جهة الوحى أنه لن يؤمن وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره فهو كقوله من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. لأواه فعال، من أوه كلئال من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه. ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه «4» وقوله لأرجمنك.
__________
(1) . متفق عليه من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في حديث، وغفل الحاكم فاستدركه.
(2) . لم أجده. [.....]
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من طريق أبى الخليل عن على قال «سمعت رجلا يستغفر لأبويه- الحديث» .
(4) . قوله «مع شكاسته عليه» أى صعوبته. وفي الصحاح: رجل شكس- بالتسكين- أى صعب الخلق. (ع)

(2/315)


وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم (115) إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (116) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117)

[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116]
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم (115) إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (116)
يعنى ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أن المهدى للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال.
والمراد بما يتقون: ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل «1» كالصدق «2» في الخبر، ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف.

[سورة التوبة (9) : آية 117]
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤف رحيم (117)
تاب الله على النبي كقوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقوله واستغفر لذنبك وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله عفا الله عنك. في ساعة العسرة في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم:
__________
(1) . قال محمود: «فأما ما يدرك حظره بالعقل ... الخ» قال أحمد: هذا تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح، وأن العقل حاكم، والشرع كاشف لما غمض عليه، تابع لمقتضاه. وهذه القاعدة قد سبق بطلانها في غير ما موضع، والله الموفق.
(2) . قوله «فأما ما يعلم بالعقل كالصدق» مبنى على مذهب المعتزلة أن الحكم قد يعلم بالعقل وعند أهل السنة لا حكم قبل الشرع. (ع)

(2/316)


غداة طفت علماء بكر بن وائل «1»
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية قارعنا جذام وحميرا «2»
إذا جاء يوما وارثى يبتغى الغنى ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر «3»
__________
(1) .
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعاجت صدور الخيل شطر تميم
المراد بالغداة مطلق الزمن ليناسب المدح. طفت- بالفاء- علت وارتفعت. ويروى بالغين، والمراد: العلو أيضا. وعلماء: أصله على الماء، والمراد: ارتفع قدرهم في العز والمجد وانخفض غيرهم، كما يرتفع الشيء على وجه الماء ويرسب الآخر. أو المعنى: أنهم طغوا بالغين على أطغى شيء كالماء، فالماء طاغ على الناس وهم طاغون عليه. وفيه دلالة على الشجاعة. وبكر بن وائل: اسم أبى قبيله سميت هي باسمه. والوائل: أصله السابق الملتجئ.
وعاجت: أى أمالت صدور خيلها. وإيقاع الموج على الصدور، لأن السير والتحول من جهة إلى أخرى يظهران بها.
وشطر: أى جهة قبيلة تميم.
(2) .
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية قارعنا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
لزفر بن الحرث الكلابي من التابعين شهد وقعة صفين وغيرها. ويقال في المثل: ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة فما هنا تلميح له. والمراد بالعشية: مطلق الزمن لا آخر النهار فقط، لدلالة المقام على ذلك. والمقارعة: المضاربة بالرماح والسيوف. ويروى: ليالي لاقينا. وجذام: اسم قبيلة سميت به، وهي من اليمن كانت تنزل جبال حسمى، يقال: هي أول ما انحسر عنه الطوفان لارتفاعها. وحمير: أبو قبيلة أيضا سميت باسمه. ويروى: جذاما، بالتنوين للضرورة.
والنبع: شجر تتخذ منه الرماح. يقول: كنا ظننا أنهم ضعفاء نظفر بهم كغيرهم، فقوله «كل بيضاء شحمة» استعارة تمثيلية لذلك. وعشية: نصب بحسبنا، فلما التقت الرماح بيننا أبت أن تتكسر. وشبهها بما يصح منه الاباء على طريق الكناية. وأبت تخييل، وبعد ذلك فهو كناية عن قوة القبيلتين وعدم انخذالهما. وقيل: إنه يصفهما بالكرم وحسن القرى. فيكون الكلام كله بما فيه من المجاز والكناية، منقول من هيئة التقاء الصفوف في الحرب إلى هيئة التقاء الضيفان مع المضياف وعدم عجزه عن قراهم على طريق التمثيل، لكن العشية على حقيقتها. ومع توجيهنا له بذلك، يبعده قوله «حسبنا كل بيضاء شحمة» وهو قول من لم يقف على بقية القصيدة، فإنها مصرحة بأن المعنى محاربتهم إياهم ومكافأتهم لهم.
(3) .
إذا جاء يوما وارثي يبتغى الغنا ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصار ما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر
لحاتم الطائي. والمراد باليوم: مطلق الزمن، بخلاف النهار فانه خاص بالمحدود الطرفين، وهكذا غالب استعمال العرب، والمراد بالغنى: التركة، لأنها سببه. وجمع الكف- بالضم-: الكف المقبوضة، فهو من إضافة الصفة للموصوف. والملأى: الممتلئة. وصفر الرجل- بالكسر- وأصفر فهو مصفر: افتقر. والصفر- بالضم، وقيل بالكسر-: الخالي. والصارم: السيف القاطع. وحسم الشيء: قطعه بالحسام الشديد القطع. ويطلق على الحديد الحد. والهبر: قطع بضعة كثيرة من اللحم. والسمرة: لون بين البياض والأدمة. والخط: موضع تنسب له الرماح الجيدة. والكعب: ما بين العقدتين. والقسب: نوع من التمر صلب النوى. وريا الشيء وأربى: زاد، وقد تقلب باؤه ميما، كما روى: قد أرمى. وذراعا: تمييز، أى زاد ذراعا على العشر الأذرع، فيكون مقداره أحد عشر ذراعا، والجملة وصف لأسمر. ويحتمل أنها حال من النوى، أى: زاد النوى حال كونه مقدار ذراع على العشر من النوى، فذراعا حال في ضمن الحال وإذا أشبهت كعوبه النوى في هذه الحالة، فكل ذراع منه يزيد على عشرة كعوب. ويجوز أن ذراعا تمييز محول عن الفاعل، أى: زاد كل ذراع من هذا الأسمر على عشرة كعوب. يقول:
إذا طلب وارثي تركتي يجد أشياء حقيقة بأن يقبض عليها بالكف حرصا عليها، فقوله «جمع كف» كناية عن ذلك غير ممتلئة عند من يحب المال، وغير خالية عند ملاقى الأبطال، ويجد الثاني بدل من الأول. وشبه فرسه بالعنان في الضمور والمكانة إذا هز أى حرك، كناية عن الضرب به، وشبهه بمن يصح منه الرضا على طريق الكناية ولم يرض تخييل: أى يجد فرسا ضامرا وسيفا قاطعا ورمحا طويلا أو صلبا. وجزم المضارع في جواب إذا وهو قليل.

(2/317)


وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118)

والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر: يعتقب العشرة على بعير واحد.
وفي عسرة من الزاد: تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة «1» ، وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء. وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها. وفي شدة زمان، من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة كاد يزيغ قلوب فريق منهم عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي «كاد» ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق الله مثله. وقرئ: يزيغ، بالياء. وفي قراءة عبد الله: من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبى لبابة وأمثاله ثم تاب عليهم تكرير للتوكيد. ويجوز أن يكون الضمير للفريق: تاب عليهم لكيدودتهم.

[سورة التوبة (9) : آية 118]
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118)
الثلاثة كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. ومعنى خلفوا خلفوا عن الغزو. وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم. وقرئ خلفوا أى خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم «2» . وقرأ جعفر الصادق رضى الله عنه:
خالفوا. وقرأ الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين بما رحبت برحبها، أى: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه وضاقت عليهم أنفسهم أى قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم
__________
(1) . قوله «والاهالة الزنخة، أى الدهن المنتن. وحمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره اه من الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم» الخالفة: الذي لا خير فيه. وخلوف الفم: تغيره: اه من الصحاح. (ع)

(2/318)


وظنوا وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره ثم تاب عليهم ليتوبوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، وليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علما منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. روى أن ناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به. عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرا من مائة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفنى إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفنى إلا الضن بك لا جرم، والله لأكابدن المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال، فقال يا نفس ما خلفنى إلا حب الحياة لك والله لأكابدن الشدائد حتى ألحق برسول الله، فتأبط زاده ولحق به. قال الحسن: كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها. وعن أبى ذر الغفاري: أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده: كن أبا ذر، فقال الناس: هو ذاك، فقال: «رحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» «1» وعن أبى خيثمة «2» أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال:
ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح «3» : ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب فقال: كن أبا خثيمة فكأنه. ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له. ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة قال كعب:
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي في الدلائل، قال: حدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف- فذكره مطولا»
(2) . أخرجه ابن سعد بهذا بغير سند. وذكره الواقدي في المغازي حدثنا محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبى مالك عن أبيه عن جده قال سألت زيد بن ثابت عن غزوة تبوك. فذكر القصة الطويلة وفيه وكان أبو خيثمة ويسمى عبد الله ابن خيثمة- السالمى رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام، حتى دخل على امرأتين له في يوم حار- فذكره وأخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي من طريقه قال حدثني عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم «أن أبا خيثمة سالم- فذكره. وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق إبراهيم بن سعد بن خيثمة حدثنا أبى عن أبيه قال: تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطا- فذكر الحديث نحوه» وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك الطويل «فلما بلغ تبوك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل كعب بن مالك فذكر الحديث وفيه: فبينما هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة.
(3) . قوله «في الضح والريح» الضح الشمس. ويزهاه السراب: يرفعه اه من الصحاح. (ع)

(2/319)


ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)

لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد على كالمغضب بعد ما ذكرني وقال: ليت شعري ما خلف كعبا؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما «1» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع «2» : أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر: «أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» ثم تلا علينا الآية. وعن أبى بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال:
إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 121]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)
مع الصادقين وقرئ: من الصادقين وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقيل: هم الثلاثة، أى كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وعن ابن عباس
__________
(1) . متفق عليه من حديث عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك مطولا، وقال فيه فقال رجل من بنى سلمة حبسه برداه فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت- الحديث» قال المخرج: الوهم فيه من المصنف. وأخرجه أحمد وفيه: فقال رجل من قومي يا رسول الله خلفه برداه والنظر في عطفيه» وأفاد الواقدي في المغازي: أن الذي قال ذلك عبد الله بن قيس.
(2) . قوله «من ذروة سلع» سلع هو جبل بالمدينة، اه من الصحاح. (ع) [.....]

(2/320)


رضى الله عنه: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أى كونوا مع المهاجرين والأنصار، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضى الله عنه «1» : ولا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه. اقرموا إن شئتم: وكونوا مع الصادقين. فهل فيها من رخصة؟
ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أمروا بأن يصحبوه على البأساء. والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت «2» فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا «3» بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية ذلك إشارة إلى ما دل عليه قوله: ما كان لهم أن يتخلفوا، من وجوب مشايعته، كأنه قيل ذلك الوجوب «ب» سبب بأنهم لا يصيبهم شيء من عطش، ولا تعب. ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم ولا ينالون من عدو نيلا ولا يرزءونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك إلا كتب لهم به عمل صالح واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام «4» : «آخر وطأة وطئها الله بوج «5» » والموطئ إما مصدر كالمورد، وإما مكان. فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار: يغيظهم وطؤه. والنيل أيضا يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا، وأن يكون بمعنى المنيل. ويقال: نال منه إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكيهم ويلحق بهم ضررا. وفيه دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية وهب بن جرير عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن أبيه، موقوفا وكذا أخرجه إسحاق في مسنده عن وهب ورواه البيهقي في الشعب مختصرا. ورواه الحاكم مرفوعا بما من رواية أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه «لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجزه» .
(2) . قوله «تتهافت» أى تتساقط. (ع)
(3) . قوله «يربئوا» أى يرتفعوا. اه من الصحاح. (ع)
(4) . أخرجه أحمد وابن سعد والطبراني والبيهقي في الأسماء من حديث يعلى بن مرة الثقفي في أثناء حديث وأخرجه إسحاق والبيهقي أيضا والطبراني من رواية عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم.
(5) . قوله «بوج» هي بلد بالطائف اه صحاح. (ع)

(2/321)


وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)

ومشى وكلام وغير ذلك، وكذلك الشر. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة، لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضى الحرب «1» ، وأمد أبو بكر الصديق رضى الله عنه المهاجر بن أبى أمية وزياد بن أبى لبيد بعكرمة بن أبى جهل مع خمسمائة نفس، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم «2» . عند الشافعي: لا يشارك المدد الغانمين. وقرأ عبيد ابن عمير: ظماء بالمد. يقال: ظمئ ظماءة وظماء ولا ينفقون نفقة صغيرة ولو تمرة ولو علاقة سوط ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة ولا يقطعون واديا أى أرضا في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال. ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض.
يقولون: لا تصل في وادى غيرك إلا كتب لهم ذلك من الإنفاق وقطع الوادي: ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله ليجزيهم متعلق بكتب أى أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.

[سورة التوبة (9) : آية 122]
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)
اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن «3» .
__________
(1) . لم أره هكذا. وقد عزاه الطيبي لأبى داود والترمذي. وفي الصحيحين عن أبى موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي. أنا أصغرهم- الحديث قال: فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا أصحاب سفينتنا» .
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب «أن أبا بكر بعث عكرمة بن أبى جهل ممدا للمهاجر بن أبى أمية، وزياد بن أسد. فانتهوا إلى القوم وقد فتح عليهم. قال:
فأشركهم في الغنيمة» رواه الواقدي في المغازي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عقبة عن الحرث بن فضيل قال: لما جاء كتاب زياد بن لبيد- فذكر نحوه.
(3) . قال محمود: «معناه أن نفير الكافة لطلب العلم غير ممكن ... الخ» . قال أحمد: قوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة على التفسير الأول: أمر لا نهى. وعلى الثاني: خبر والمراد به النهى، لأنه في الأول راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزا أو واجبا، وإن لم يمكن وجب على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية. وأما في الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد أجمعين وكان ذلك ممكنا بل واقعا، فنهوا عن إطراح التفقه بالكلية وأمروا به أمر كفاية والله أعلم. قال أحمد: ولا أجد في تأخرى عن حضور الغزاة عذرا إلا صرف الهمة لتحذير هذا المصنف، فانى تفقهت في أصل الدين وقواعد العقائد مؤيدا بآيات الكتاب العزيز مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع ذلك أرجو من الله حسن التوجه بلغنا الله الخير، ووفقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

(2/322)


ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (123)

وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فلولا نفر فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير ليتفقهوا في الدين ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ولينذروا قومهم وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمونها من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا، وفشوداء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم «1» إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شر ذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحا. ووجه آخر: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثا- بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد- استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحى والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة أعظم أثرا من الجلاد بالسيف. وقوله ليتفقهوا الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم، ولينذروا قومهم ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.

[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (123)
يلونكم يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم «2» ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره وأنذر عشيرتك الأقربين وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشأم. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك
__________
(1) . قوله «وانقلاب حماليق أحدهم» الحماليق: هي ما يسوده الكحل من باطن الجفن. وقيل: ما غطته الأجفان من بياض المقلة. اه من الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ... الخ» قال أحمد: يتعين القتال على أحد فريقين: إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه، ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا. وإما من عينهم الامام لذلك وإن بعدت بهم الدار. وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره، فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.

(2/323)


وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127)

وخيبر. وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى.
وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم. وقرئ غلظة بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدة، والغلظة كالضغطه، والغاظة كالسخطة ونحوه واغلظ عليهم ولا تهنوا وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله. مع المتقين ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوه

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125)
فمنهم من يقول فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا إنكارا واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به.
وأيكم: مرفوع بالابتداء. وقرأ عبيد بن عمير: أيكم، بالفتح على إضمار فعل يفسره زادته تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا فزادتهم إيمانا لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل فزادتهم رجسا إلى رجسهم كفرا مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحى كفرا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 126 الى 127]
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127)
قرئ: ولا يرون، بالياء والتاء يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون نظر بعضهم إلى بعض تغامزوا بالعيون إنكارا للوحى «1»
__________
(1) . قال محمود: «معناه تغامزوا بالعيون إنكارا للوحى ... الخ» قال أحمد: يحتمل الدعاء كما فسره. ويحتمل الاخبار بأن الله صرف قلوبهم أى منعها من تلقى الحق بالقبول، ولكن الزمخشري يفر من جعله خبرا لأن صرف القلوب عن الحق لا يجوز على الله تعالى عنده، بناء على قاعدة الصلاح والأصلح، ولا يزال يؤول الظاهر إذا اقتضى ذلك كما مر له في قوله ختم الله على قلوبهم فلما احتملت هذه الآية الدعاء والخبر على حد سواء، تعين عنده جعلها دعاء، ثم في هذا الدعاء مناسبة الفعل الصادر منهم وهو الانصراف، كقوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وكقوله ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء.

(2/324)


لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)

وسخرية به قائلين هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد. وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بأنهم بسبب أنهم قوم لا يفقهون لا يتدبرون حتى يفقهوا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)
من أنفسكم من جنسكم ومن نسبكم عربى قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله عزيز عليه ما عنتم أى شديد عليه شاق- لكونه بعضا منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب حريص عليكم حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤف رحيم. وقرئ: من أنفسكم، أى من أشرفكم وأفضلكم. وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضى الله عنهما. وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله رؤف رحيم. فإن تولوا فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوض إليه، فهو كافيك معرتهم «1» ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم.
وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن ابن عباس رضى الله عنه: العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبى ابن كعب: آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نزل على القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا على ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» «2»
__________
(1) . قوله «فهو كافيك معرتهم» المعرة: الإثم، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من حديث عائشة بإسناد واه.

(2/325)


الر تلك آيات الكتاب الحكيم (1) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2)

سورة يونس
(مكية، [إلا الآيات 40 و 94 و 95 و 96 فمدنية] وهي مائة وتسع آيات [نزلت بعد الإسراء] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب الحكيم (1) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2)
الر تعديد للحروف على طريق التحدي. وتلك آيات الكتاب إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة. والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها.
أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى:
وغريبة تأتى الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها «1»
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه. وأن أوحينا اسم كان، وعجبا: خبرها. وقرأ ابن مسعود: عجب، فجعله اسماء وهو نكرة وأن أوحينا خبرا وهو معرفة، كقوله:
يكون مزاجها عسل وماء «2»
__________
(1) . للأعشى. أى: ورب قصيدة غريبة حكيمة ناطقة بالحكمة دالة عليها، أو حكيم قائلها، فهو من الاسناد للسبب، لأنها سبب في وصف قائلها بالحكمة. قد قلتها ليتعجب الناس ويقولوا من هذا الشاعر البليغ الذي قالها. وذا: اسم إشارة في لغة الحجاز، واسم موصول في لغة طيئ، وهي أقرب هنا، فجملة «قالها» صلة الموصول. [.....]
(2) .
كأن سلافة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غصن ... من التفاح هصره اجتناء
لحسان بن ثابت قبل تحريم الخمر. والسلافة: أول ما يسيل من ماء العنب. ويروى «سبيئة» أى مشتراة. يقال:
سبأ الخمر كنصر، إذا اشتراها. ويروى خبيئة: أى مصونة في الخابية. وبيت رأس: قرية بالشام. وقيل:
المراد بالرأس الرئيس، وشرابها أطيب من غيره، و «مزاجها» خبر يكون مع أنه معرفة. و «عسل» اسمها مع أنه نكرة، وكان القياس العكس فقلب للضرورة. وجوزه ابن مالك في معمول «كان» و «إن» فلا قلب. وقال الفارسي:
إن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية. وروى برفع الكلمات الثلاث، على أن اسم كان ضمير الشأن. وقول ابن السيد: بزيادة «كان» هنا: غير مرضى، لأن زيادة المضارع لا ترتكب إلا عند الضرورة، ويروى بنصب العسل فقط، فهو خبر ورفع ماء. بتقدير: وخالطها ماء. وجملة الكون صفة سلافة. وعلى أنيابها: خبر «كأن» الشدة. والمزاج: ما يمزج به غيره. والمراد بالأنياب: الثغر كله. والغض: الطري الرطب. والهصر: عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجنى ثمره. والتهصير: مبالغة فيه. وروى «الجناء» بدل «الاجتناء» .
وهو بالقصر مصدر. لكن مد هنا ضرورة. وإسناد التهصير إلى ذلك مجاز عقلى، من باب الاسناد للسبب.
وإيقاعه على التفاح على تقدير مضاف، أى: هصر غصنه. ويروى: أو طعم غصن، فلا تجوز في تهصيره. لكن إضافة طعم إليه على تقدير مضاف. أى طعم ثمر غصن، شبه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصته الجاني ليجتنيه، إشارة إلى أنه مجنى الآن لم يمض عليه شيء من الزمان، وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرفة واللين والميلان.

(2/326)


والأجود أن تكون «كان» تامة، وأن أوحينا بدلا من عجب. فإن قلت: فما معنى اللام في قوله أكان للناس عجبا؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجبا؟ قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في عند الناس هذا المعنى، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم «1» دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم. وقال الله تعالى قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضا، لأن الله تعالى إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوة. والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجبا؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء أن أنذر الناس أن هي المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر الناس، على معنى: أن الشأن قولنا أنذر الناس. وأن لهم الباء معه محذوف قدم صدق عند ربهم أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة «2» . فإن قلت: لم سميت السابقة
__________
(1) . قوله «من أفناء رجالهم» في الصحاح: يقال هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(2) . قال محمود: «أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ... الخ» قال أحمد: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدما، إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا ولكن غلب العرف على قصرها كما يغلب في الحقيقة، والله أعلم.

(2/327)


إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)

قدما؟ قلت: لما كان السعى والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وباعا لأن صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة وقيل: مقام صدق إن هذا إن هذا الكتاب وما جاء به محمد لساحر ومن قرأ: لساحر، فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا. وفي قراءة أبى: ما هذا إلا سحر.

[سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4]
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)
يدبر يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخرا. والأمر أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت:
قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله ما من شفيع إلا من بعد إذنه دليل على العزة والكبرياء، كقوله يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وذلكم إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أى ذلك العظيم «1» الموصوف بما وصف به هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة فاعبدوه وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع أفلا تذكرون فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه إليه مرجعكم جميعا أى لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه وعد الله مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم وحقا مصدر مؤكد لقوله وعد الله. إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أن الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وقرئ: أنه يبدؤ
__________
(1) . قوله «ذلك العظيم» لعله ذلكم. (ع)

(2/328)


هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون (6)

الخلق، بمعنى لأنه. أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله: أى وعد الله وعدا بدأ الخلق ثم إعادته. والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه. وقرئ: وعد الله، على لفظ الفعل. ويبدئ، من أبدأ. ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا، أى حق حقا بدأ الخلق، كقوله:
أحقا عباد الله أن لست جائيا ... ولا ذاهبا إلا على رقيب «1»
وقرئ: حق أنه يبدؤ الخلق، كقولك: حق أن زيدا منطلق بالقسط بالعدل، وهو متعلق بيجزى. والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم. أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحا، لأن الشرك ظلم. قال الله تعالى إن الشرك لظلم عظيم والعصاة ظلام أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله بما كانوا يكفرون.

[سورة يونس (10) : آية 5]
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)
الياء في ضياء منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها. وقرئ: ضئاء بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق: عقا. والضياء أقوى من النور وقدره وقدر القمر. والمعنى وقدر مسيره منازل أو قدره ذا منازل، كقوله تعالى والقمر قدرناه منازل. والحساب وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ذلك إشارة إلى المذكور أى ما خلقه إلا ملتبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا. وقرئ: يفصل، بالياء.

[سورة يونس (10) : آية 6]
إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون (6)
خص المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
__________
(1) .
أحقا عباد الله أن لست جائيا ... ولا ذاهبا إلا على رقيب
ولا زائرا فردا ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
لعبد الله بن الدمينة الخثعمي. وقيل: لقيس بن الملوح. قال المرزوقي: أحقا انتصب عند سيبويه على الظرفية، كأنه قال: أفى الحق ذلك، لأنهم كثيرا ما يقولون: أفى الحق كذا. وعند المبرد على المفعولية المطلقة، أى أحق ذلك حقا، لأنه مصدر. وعباد الله: منادى. وروى: أن لست واردا ولا صادرا. والمعنى واحد. والرقيب:
المانع من لقاء الحبيب. ويجوز أن يراد به ما في قوله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أى مناظر حاضر.
أو قوله تعالى إن كل نفس لما عليها حافظ.

(2/329)


إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)

[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8]
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8)
لا يرجون لقاءنا لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة. واطمأنوا بها وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديدا وأملوا بعيدا.

[سورة يونس (10) : الآيات 9 الى 10]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)
يهديهم ربهم بإيمانهم يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة «1» على سلوك السبيل المؤدى إلى الثواب، ولذلك جعل تجري من تحتهم الأنهار بيانا له وتفسيرا، لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. ويجوز أن يريد: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ومنه الحديث: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار «2» » فإن قلت: فلقد دلت هذه الآية على أن الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة، هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح.
__________
(1) . قال محمود: «معناه يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة ... الخ» قال أحمد: هو يقرر بذلك زعمه في أن شرط دخول الجنة العمل الصالح، وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر، وأنى له ذلك وقد جعل الله سبب الهداية إلى الجنة مطلق الايمان، فقال يهديهم ربهم بإيمانهم وقول الزمخشري «أن المراد إضافة العمل» لا ينتهض عن حيز الدعوى، فان الله لم يعلل بغير الايمان وإن جرى لغيره ذكر أولا فلا يلزم إجراؤه ثانيا ولا محوج إليه. وشبهته أن الايمان المجهول سببا مضاف إلى ضمير الصالحين، فيلزم أخذ الصلاح قيدا في التسبب، وهو ممنوع، فان الضمير إنما يعود على الذوات لا باعتبار الصفات وقد تقدمت لهذه المباحثة أمثال وأشكال، والله الموفق.
(2) . أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن المؤمن إذا خرج من قبره- فذكره» وروى ابن أبى شيبة من طريق عمرو بن قيس عن عطية عن ابن عمر قال «يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره عمله في أحسن صورة. فذكر نحوه بتمامه.

(2/330)


ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (11)

والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. قلت: الأمر كذلك. ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال: إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ثم قال: بإيمانهم، أى بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه دعواهم دعاؤهم، لأن «اللهم» نداء لله ومعناه: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد. ويجوز أن يراد بالدعاء: العبادة وأعتزلكم وما تدعون من دون الله على معنى أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذا بلا كلفة، كقوله تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية. وآخر دعواهم وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا الحمد لله رب العالمين. ومعنى وتحيتهم فيها سلام أن بعضهم يحيى بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول. وقيل: تحية الله لهم. وأن هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن، كقوله:
أن هالك كل من يحفى وينتعل «1»
وقرئ: أن الحمد لله، بالتشديد ونصب الحمد.

[سورة يونس (10) : آية 11]
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (11)
أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير «2» إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأن استعجالهم بالخير
__________
(1) .
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
للأعشى ميمون بن قيس. والحانوت: محل البيع والشراء. والمراد: محل بيع الطعام والشراب. يتبعني شاو:
أى غلام يشوى اللحم. مشل: أى مسرع. شلول: خفيف في العمل: شلشل: بالضم، أى ماض في الخدمة وقضاء الحوائج: شول- ككتف- خفيف في العمل. وقيل: مخرج للحم من القدر. في فتية: أى حال كوني مع فتيان كسيوف الهند في إنفاذ العزائم في المكارم. أو في بياض الوجوه وتهللها. والأول أنسب بقوله: قد علموا أنه، أى الحال والشأن. هالك وفان كل حاف: غير لابس للنعل، ومنتعل: لابس له، وهما كناية عن الفقير والغنى، وإذا استويا في الغنى فلا معنى للبخل الذي لا يوجب البقاء. ويجوز أنهما كناية عن جميع الناس مبالغة في التعميم.
(2) . قال محمود: «فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من تنبيهات الزمخشري الحسنة التي تقوم على دقة نظره شاهدة وبينة، ولا يكاد وضع المصدر مؤكدا أو مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من مثل هذه الفائدة الجليلة. والنحاة غايتهم أن يقولوا في قوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا أنه اجرى المصدر على الفعل مقدرا عدم الزيادة. أو هذا المصدر لفعل دل عليه المذكور تقديره: نبتم نباتا، ولا يزيدون على ذلك، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فسكرته، هل قرن المصدر في كتاب الله بغير فعله لفائدة أو لا- تسور بلطف النظر على مثل هذه الفوائد العلية مراتبها، فالفائدة- والله أعلم- في اقتران قوله نباتا بقوله أنبتكم التنبيه على تحتم نفوذ القدرة في المقدور، وسرعة إمضاء حكمها حتى كان إنبات الله لهم نفس نباتهم أى إذا وجد من الله الانبات وجد لهم النبات حتما فكان أحد الأمرين عين الآخر فقرن به والله أعلم.

(2/331)


وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12)

تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لقضي إليهم أجلهم لأميتوا وأهلكوا. وقرئ:
لقضى إليهم أجلهم، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، وتنصره قراءة عبد الله: لقضينا إليهم أجلهم فإن قلت، فكيف اتصل به قوله فنذر الذين لا يرجون لقاءنا وما معناه؟
قلت: قوله ولو يعجل الله متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أى فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.

[سورة يونس (10) : آية 12]
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12)
لجنبه في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه أى دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما. فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها- إن كان منبطحا عاجز النهض «1» متخاذل النوء «2» أو كان قاعدا لا يقدر على القيام، أو كان قائما لا يطيق المشي والمضطرب- إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة «3» بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأن الإنسان للجنس مر أى مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد. أو مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به كأن لم يدعنا، كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن قال:
__________
(1) . قوله «عاجز النهض» نهض نهضا ونهوضا: قام. (ع)
(2) . قوله «متخاذل النوء» في الصحاح: ناء ينوء نوآ إذا نهض يجهد ومشقة. (ع)
(3) . قوله «والمسحة» في الصحاح: وعلى فلان مسحة من جمال. (ع)

(2/332)


ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين (13) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (14)

كأن ثدياه حقان «1»
كذلك مثل ذلك التزيين زين للمسرفين زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.

[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين (13) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (14)
لما ظرف لأهلكنا: والواو في وجاءتهم للحال، أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وما كانوا ليؤمنوا يجوز أن يكون عطفا على ظلموا، وأن يكون اعتراضا واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقا، تأكيدا لنفى إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل كذلك مثل ذلك الجزاء يعنى الإهلاك نجزي كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ. يجزى، بالياء ثم جعلناكم الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أى استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا لننظر أتعملون خيرا أم شرا فنعاملكم على حسب عملكم. وكيف في محل النصب بتعملون لا ينتظر، لأن معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدم عليه عامله. فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة «2»
__________
(1) .
ونحر مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان
أى: ورب نحر ويروى بالرفع عطفا على شيء تقدم، أى ولها. والنحر: موضع القلادة من الصدر. ويروى:
وصدر مشرق، أى أبيض مضيء. ويروى: وصدر مشرق النحر. ويروى: ووجه مشرق اللون، وكأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقال أبو حيان: لا حاجة للاضمار عند الإهمال. وروى: كأن ثدييه بالأعمال مع التخفيف وهو قليل. وإضافة الثديين لضمير النحر للملابسة ولضمير الوجه على تقدير مضاف، أى: ثديا صاحبته. والحقان: تثنية حق وهو ما يعمل من العاج ونحوه، يوضع فيه أعز الأشياء. وقيل تثنية حقة، وحذفت منه التاء.
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز النظر على الله تعالى ... الخ» قال أحمد: وكنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى، فضم إلى ذلك إنكار رؤية الله، والجمع بين هذين النزغتين عقيدة طائفة من القدرية، يقولون: إن الله لا يرى ولا يرى، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وتقدم إبطال دعواهم أن النظر يستلزم المقابلة والجسمية فلا نعيده، والله الموفق. [.....]

(2/333)


وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)

قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجودا شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.

[سورة يونس (10) : آية 15]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)
غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان ما يكون لي ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. أن أبدله من تلقاء نفسي من قبل نفسي. وقرئ بفتح التاء: من غير «1» أن يأمرنى بذلك ربى إن أتبع إلا ما يوحى إلي لا آتى ولا أذر شيئا من نحو ذلك، إلا متبعا لوحى الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلى تبديل ولا نسخ إني أخاف إن عصيت ربي بالتبديل والنسخ من عند نفسي عذاب يوم عظيم. فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: ائت بقرآن غير هذا؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون: افترى على الله كذبا، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادرا عليه وعلى مثله. مع علمهم بأن العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت: لعلهم أرادوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، من جهة الوحى كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله: ما يكون لي ما يتسهل لي وما يمكنني أن أبدله. قلت:
يرده قوله إني أخاف إن عصيت ربي. فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحا لافترائه على الله.
__________
(1) . قوله «من غير» لعله «أى من غير» . (ع)

(2/334)


قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17)

[سورة يونس (10) : آية 16]
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16)
لو شاء الله ما تلوته عليكم يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمى لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتابا فصيحا، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم «1» أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به ولا أدراكم به ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ الحسن: ولا أدراتكم به، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس:
ولا أنذرتكم به. ورواه الفراء: ولا أدرأتكم به، وبالهمز. وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت «2» السويق، وذلك لأن الألف والهمزة من واد واحد. ألا ترى أن الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا. والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤوننى بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير: ولأدراكم به، بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس فقد لبثت فيكم عمرا وقرئ عمرا بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا، فلم تعرفوني متعاطيا شيئا من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان فتتهموني باختراعه أفلا تعقلون فتعلموا أنه ليس إلا من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.

[سورة يونس (10) : آية 17]
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17)
__________
(1) . قوله «ظهرانيكم» في الصحاح: ظهرانيهم- بفتح النون. (ع)
(2) . قوله «وحلأت» أى جعلته حلوا. (ع)

(2/335)


ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18) وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون (19) ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20)

ممن افترى على الله كذبا يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.

[سورة يونس (10) : آية 18]
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18)
ما لا يضرهم ولا ينفعهم الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة معاقبا على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة وكانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وعن النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى أتنبئون الله بما لا يعلم أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيأ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبرا ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبؤا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ: أتنبئون، بالتخفيف. وقوله في السماوات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم يشركون قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية، أى عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.

[سورة يونس (10) : الآيات 19 الى 20]
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون (19) ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20)
وما كان الناس إلا أمة واحدة حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا ولولا كلمة سبقت من ربك وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم عاجلا فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه

(2/336)


وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)

أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل عليه آية قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغى فقل إنما الغيب لله أى هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.

[سورة يونس (10) : آية 21]
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحيا، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه، و «إذا» الأولى للشرط، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة، والمكر: إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله أسرع مكرا؟ قلت: بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أن الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام إن رسلنا يكتبون إعلام بأن ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ: يمكرون، بالتاء والياء. وقيل: مكرهم قولهم سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: إن الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا «1» .

[سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23]
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)
__________
(1) . أخرجه إسحاق والطبري: والثعلبي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم اليمنى عن أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى ليصبح عباده بالنعمة أو ليمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرون، يقولون:
مطرنا بنوء كذا وكذا» قال محمد فذكرت الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن سمعناه من أبى هريرة. ولمسلم من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا «قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب مطرنا» .

(2/337)


قرأ زيد بن ثابت: ينشركم. ومثله قوله فانتشروا في الأرض، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون.
فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر»
، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك «2» والدعاء بالإنجاء. فإن قلت:
ما جواب «إذا» ؟ قلت: جاءتها. فإن قلت: فدعوا؟ قلت: بدل من ظنوا، لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أم الدرداء: في الفلكي، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية ... الخ» قال أحمد: وهذه أيضا من نكتة التي لا يكتنه حسنها، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينه في توأمتها، وذلك عند قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وقد استدل الزمخشري بها لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه، خلافا لمالك، فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ قال الزمخشري: ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء، فيلزم وقوع الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز «حتى» من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد، وهذا المجموع هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء، ولا يلزم من ذلك أن يقع كل واحد من مفرديه بعد الابتلاء، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد، فلا يحصل المجموع إلا بعد الابتلاء. ويوضح ذلك هذه الآية، فانه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها، مضافا إلى ما ذكر معه. ونحن نعلم أن كونهم في الفلك- وذلك أحد ما جعل غاية- متقدم على التسيير وإن كان المجموع واقعا، كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم. وإنما بسطت القول هاهنا لفواته ثم، فجدد بما مضى عهدا.
(2) . قوله «والظن للهلاك» عبارة النسفي: بالهلاك. (ع)

(2/338)


والضمير في جرين للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخى فعل «1» . وفي قراءة أم الدرداء: للفلك، أيضا، لأن الفلكي يدل عليه جاءتها جاءت الريح الطيبة، أى تلقتها.
وقيل: الضمير للفلك من كل مكان من جميع أمكنة الموج أحيط بهم أى أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلا في الهلاك مخلصين له الدين من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه لئن أنجيتنا على إرادة القول. أو لأن دعوا من جملة القول يبغون في الأرض يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك:
بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت: فما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق؟ قلت:
بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم «2» كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قرئ: متاع الحياة الدنيا، بالنصب. فإن قلت:
ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان المتاع خبرا للمبتدإ الذي هو بغيكم وعلى أنفسكم صلته، كقوله فبغى عليهم ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت على أنفسكم خبر غير صلة، معناه. إنما بغيكم وبال على أنفسكم، ومتاع الحياة الدنيا في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغيا، ولا تنكث ولا تعن ناكثا» «3» وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» «4» وروى: «ثنتان يعجلهما الله
__________
(1) . قوله «كالأسد في فعل» أى كما جاء «فعل» بالضم في «فعل» بفتحتين، كأسد في أسد، جاز مجيء «فعل» بالضم في فعل «بالضم» كفلك في فلك، وذلك لأن «فعلا» بفتحتين و «فعلا» بالضم أخوان، لأنهما يشتركان في الشيء الواحد، كالعرب والعرب والعجم والعجم، والرهب والرهب. فما جاز في أحدهما لا يمنع في الآخر، وقد جاز «فعل» بالضم في «فعل» بالفتح، فليجز «فعل» بالضم في «فعل» بالضم، لأنهما أخوات. كذا في الصحاح، فتأمله. (ع)
(2) . متفق على معناه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(3) . أخرجه ابن المبارك في الزهد: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري: قال «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تمكر ولا تعن ماكرا، فان الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولا تبغ ولا تعن باغيا، فان الله تعالى يقول إنما بغيكم على أنفسكم «ولا تنكث ولا تعن ناكثا» فان الله تعالى يقول فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وفي مستدرك الحاكم بعضه من حديث أبى بكرة مرفوعا «لا تبغ ولا تعن باغيا فان الله تعالى يقول إنما بغيكم على أنفسكم.
(4) . أخرجه إسحاق في مسنده عن جرير عن برد بن يسار عن مكحول رفعه «أعجل الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، تدع الديار بلاقع» ولأبى يعلى من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رفعته «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم. وأسرع الشر عقوبة البغي» .

(2/339)


إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24)

تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» «1» وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي «2» . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغى إن البغى مصرعة ... فاربع فخير فعال المرء أعسله
فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله «3»
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى:
إنما بغيكم على أنفسكم.

[سورة يونس (10) : آية 24]
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24)
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف ونكائف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه «4» فاختلط به فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا أخذت الأرض زخرفها وازينت كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل ازينت تزينت،
__________
(1) . أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني من حديث عبد الله بن أبى بكرة عن أبيه. والبخاري في الأدب المفرد من رواية بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن جده رفعه «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين، فانه يعجل لصاحبه في الدنيا قبل الموت» .
(2) . أخرجه البخاري في الأدب حدثنا أبو نعيم حدثنا قطر بن خليفة عن أبى يحيى القتات سمعت مجاهدا عن ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا. ورواه ابن المبارك في الزهد عن قطر عن يحيى عن مجاهد مرسلا. ورواه البيهقي في الشعب من طريق الأعمش عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس. ورواه ابن مردويه عن أنس رضى الله عنه أخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة أحمد بن الفضل. وقال: إنه كان يضع الحديث.
(3) . كان المأمون بن الرشيد يتمثل بهما في بغى أخيه عليه، وكرر لفظ البغي تنفيرا عنه، وشبهه بالمصرعة لأن صاحبه يرتبك فيه في العاقبة وربما هلك. وربع يربع، إذا لم يتجاوز قدر نفسه. فاربع: أى الزم قدرك واعدل في فعلك. والفعال- بالفتح-: غالب في فعل الخير. والمراد هنا مطلق الفعل، أى: فخير عمل المرء أقومه، فلو بغى جبل على جبل يوما من الأيام لعوقب واندك منه أعاليه. ويلزم منه اندكاك أسافله. وهذا عقد قول ابن عباس رضى الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
(4) . قوله «ورفيفه» أى يرفقه وتلألؤه. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه، كذا في الصحاح. (ع) [.....]

(2/340)


والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (25)

فأدغم. وبالأصل قرأ عبد الله. وقرئ: وأزينت، أى أفعلت، من غير إعلال الفعل كأغيلت أى صارت ذات زينة. وازيانت، بوزن ابياضت قادرون عليها متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها أتاها أمرنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم فجعلناها فجعلنا زرعها حصيدا شبيها بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله كأن لم تغن كأن لم يغن زرعها، أى لم ينبت «1» على حذف المضاف في هذه المواضع لا بد منه، وإلا لم يستقم المعنى. وقرأ الحسن: كأن لم يغن، بالباء على أن الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع. وعن مروان أنه قرأ على المنبر: كأن لم تتغن بالأمس، من قول الأعشى:
طويل الثواء طويل التغنى «2»
والأمس مثل في الوقت القريب «كأنه قيل: كأن لم تغن آنفا.

[سورة يونس (10) : آية 25]
والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (25)
دار السلام الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها. وقيل السلام السلامة، لأن أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إلا قيلا سلاما سلاما ويهدي ويوفق من يشاء وهم الذين علم أن اللطف يجدى عليهم، لأن مشيئته تابعة لحكمته ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون.
__________
(1) . قوله «أى لم ينبت» لعله لم يثبت. وفي الصحاح: غنى بالمكان أى أقام، وغنى أى عاش. (ع)
(2) .
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... طويل الثواء طويل التغن
فأثبت قيسا ولم آته ... على نأيه ساد أهل اليمن
فجئتك مرتاد ما أخبروا ... ولولا الذي خبروا لم ترن
للأعشى، يستمنح قيس بن معديكرب ويقول: وكنت رجلا طويل الثواء في العراق، طويل التغني فيه دهرا طويلا، فزمنا: ظرف. ويجوز قراءته: زمنا، كحذر: أى هرم، والثواء: الاقامة. وغنى بالمكان يغنى، كرضى يرضى:
أقام ومكث. وقد يقال: تغنى تغنيا كترضى ترضيا، إذا تمكث وتلبث. فالتغنى- بالتشديد-: مصدر حذفت لامه عند الوقف وإن كان حذفها قليلا، فأنبئت قيسا والحال أنى لم أجئه: مع أنه ناء أى بعيد عنى» أى مع بعده ساد أهل اليمن بجوده وكرمه على أهل الأرض، فجملة «ساد» في محل المفعول الثاني، ثم بعد ما قدم المدح التفت إلى خطابه بقوله: فجئتك مرتادا ومتعرفا ومتطلبا لما أخبروا به من كرمك وجودك، وإضافة مرتاد للموصول لا تفيده التعريف، لأنها إضافة الوصف لمعموله لفظيا، فصح وقوعه حالا، ولولا الذي خبروني به لم تنظرني عندك ولم أجئ إليك. وروى: ولم أبله، من بلاه يبلوه إذا اختبره. وروى خبر أهل اليمن أى أنبئته والحال أنى لو أختبره أفضل أهل اليمن، فجئتك مختبرا لحالك.

(2/341)


للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26)

[سورة يونس (10) : آية 26]
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26)
الحسنى المثوبة الحسنى وزيادة وما يزيد على المثوبة وهي التفضل. ويدل عليه قوله تعالى ويزيدهم من فضله وعن على رضى الله عنه: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحسنى: الحسنة، والزيادة: عشر أمثالها. وعن الحسن رضى الله عنه:
عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد رضى الله عنه: الزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة «1» أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى «2» وجاءت بحديث مرقوع «3» «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم منه» «4» ولا يرهق وجوههم لا يغشاها قتر غبرة فيها سواد ولا ذلة ولا أثر هوان وكسوف بال. والمعنى لا يرهقهم ما يرهق
__________
(1) . قوله «وزعمت المشبهة والمجبرة» يريد أهل السنة القائلين بجواز رؤيته تعالى ووقوعها في الآخرة، خلاف المعتزلة في ذلك. (ع)
(2) . ذكر محمود في الزيادة تفاسير كثيرة، ثم قال: وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ... الخ، قال أحمد: نسبة تفسير الزيادة برؤية الله تعالى إلى زعم أهل السنة الملقبين عنده بالمشبهة والمجبرة:
مرور على ديدنه المعروف في التكذيب بما لم يحط به علما، وهذا التفسير مستفيض منقول عن جملة الصحابة، والحديث المروي فيه مدون في الصحاح متفق على صحته، وقد جعل أهل السنة جاءوا به من عند أنفسهم، ومن قبل قال المصرون على الكفر لسيد البشر وصاحب السنة: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، حملا له على أنه جاء به من عنده، فلأهل السنة إذا أسوة بصاحبها، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فابتلاء الحق بالباطل قديم، والله الموفق. وإن في قوله تعالى على أثر ذلك ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة مصداقا لصحة هذا التفسير، فان فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم قتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين فان وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد. نسأله الله الكفاية. فأولئك يغشى وجوههم أنوار المشاهدة، وهؤلاء يغشى وجوههم كقطع الليل المظلم، منهم شقى وسعيد.
(3) . قوله «بحديث مرقوع بالقاف، أى مفترى، كذا قيل. وهو في مقابلة المرفوع بالفاء، أى المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (ع)
(4) . قال الطيبي: قوله «مرقوع» هو عنده بالقاف أى مرقع معدى. وهو عند أهل السنة بالفاء اه. وقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب. ورواه الترمذي وقال: كذا رفعه حماد بن سلمة. وقد رواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قوله. انتهى. وفي الباب عن أبى موسى مرفوعا أخرجه الطبراني في مسند الشاميين. وللطبري. وعن ابن عمر وأنس أخرجهما ابن مردويه باسنادين ضعيفين. وعن أبى بكر الصديق أخرجه إسحاق في مسنده من رواية عامر بن سعد عنه. وعن ابن عباس وعلى أخرجهما ابن مردويه أيضا.

(2/342)


والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (28)

أهل النار إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى، ترهقها قترة وترهقهم ذلة.

[سورة يونس (10) : آية 27]
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27)
فإن قلت: ما وجه قوله والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وكيف يتلاءم؟ قلت:
لا يخلو، إما أن يكون والذين كسبوا معطوفا على قوله الذين أحسنوا كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإما أن يقدر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا أوجه من الأول، لأن في الأول عطفا على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وفي هذا دليل على أن المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.
وقرئ: يرهقهم ذلة، بالياء من الله من عاصم أى لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه. ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين مظلما حال من الله. ومن قرأ قطعا بالسكون من قوله بقطع من الليل جعله صفة له. وتعضده قراءة أبى بن كعب:
كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. فإن قلت: إذا جعلت مظلما حالا من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو إما أن يكون أغشيت من قبل إن من الليل صفة لقوله قطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل.

[سورة يونس (10) : آية 28]
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (28)
مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وأنتم أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله الزموا وشركاؤكم عطف عليه. وقرئ وشركاؤكم على أن الواو بمعنى مع، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل فزيلنا بينهم ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم. والوصل «1» التي كانت بينهم في الدنيا. أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في
__________
(1) . قوله «أقرانهم» مفرده «قرن» بالتحريك وهو حبل يقرن به البعيران، كما في الصحاح. وقوله «والوصل» مفرده «وصلة» أى اتصال وذريعة، كما في الصحاح أيضا. (ع)

(2/343)


فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30)

الموقف. وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا. وقرئ: فزايلنا بينهم، كقولك: صاعر خده وصعره، وكالمته وكلمته. ما كنتم إيانا تعبدون إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا فأطعتموهم.

[سورة يونس (10) : الآيات 29 الى 30]
فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30)
إن كنا هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولى العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عز وجل فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم هنالك في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان تبلوا كل نفس تختبر وتذوق ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه ليكتنه حاله. ومنه قوله تعالى يوم تبلى السرائر وعن عاصم: نبلو كل نفس، بالنون ونصب كل: أى نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنعرف حالها بمعرفة حال عملها: إن كان حسنا فهي سعيدة، وإن كان سيئا فهي شقية. والمعنى: نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر. وقرئ: تتلو، أى تتبع ما أسلفت، لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر مولاهم الحق ربهم الصادق ربوبيته، لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحدا. وقرئ: الحق، بالفتح على تأكيد قوله ردوا إلى الله كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل. أو على المدح كقولك: الحمد لله أهل الحمد وضل عنهم ما كانوا يفترون وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله. أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.

(2/344)


قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33) قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35)

[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33)
قل من يرزقكم من السماء والأرض أى يرزقكم منهما جميعا، «1» لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته أمن يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه ومن يدبر الأمر ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص أفلا تتقون أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال فذلكم إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله ربكم الحق الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه لمن حقق النظر فماذا بعد الحق إلا الضلال يعنى أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك أى كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أى تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأنهم لا يؤمنون بدل من الكلمة أى حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن. أو أراد بالكلمة: العدة بالعذاب، وأنهم لا يؤمنون تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون.

[سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 35]
قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35)
__________
(1) . قال محمود: «معناه أى من يرزقكم منهما جميعا ... الخ» قال أحمد: وهذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله العبد وهو الحلال، ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون.

(2/345)


وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36)

فإن قلت: كيف قيل لهم هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن رفعه دافع كان مكابرا رادا للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم. يقال: هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى. ومنه قوله أمن لا يهدي «1» وقرئ لا يهدى بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال. والأصل: يهتدى، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. وقرئ: إلا أن يهدى من هداه وهداه للمبالغة.
ومنه قولهم: تهدى. ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدى للحق، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أندادا لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير، يهدى إلى الحق مثل هداية الله. ثم قال: أفمن يهدى إلى الحق هذه الهداية أحق بالاتباع، أم الذي لا يهدى أى لا يهتدى بنفسه، أو لا يهدى غيره إلا أن يهديه الله وقيل: معناه أم من لا يهتدى من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدى إلا أن ينقل، أو لا يهتدى ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه فما لكم كيف تحكمون بالباطل، حيث تزعمون أنهم أندادا لله.

[سورة يونس (10) : آية 36]
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36)
وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم إن الظن في معرفة الله لا يغني من الحق وهو العلم شيئا وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن. والمراد بالأكثر: الجميع إن الله عليم وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وتقليد الآباء. وقرئ: تفعلون، بالتاء.
__________
(1) . قوله «أم من لا يهدى» من قولهم: هدى بنفسه. أم من لا يهدى، كيرمى. وقوله: بفتح الهاء ... الخ:
بقيت القراءة بكسرها مع التشديد، وقد أشار إليها بقوله «أو كسرت» والقراءة كيرمى لحمزة وعلى. وبالفتح مع التشديد للمكي والشامي. وبالكسر معه لعاصم. والأصل: يهتدى. وهي قراءة عبد الله، أفاده النسفي. (ع)

(2/346)


وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40)

[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 40]
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40)
وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله ولكن كان تصديق الذي بين يديه وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها، كقوله تعالى هو الحق مصدقا لما بين يديه وقرئ: ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب، على:
ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى ما كان هذا القرآن أن يفترى وما صح وما استقام، وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى وتفصيل الكتاب وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله كتاب الله عليكم. فإن قلت: بم اتصل قوله لا ريب فيه من رب العالمين قلت: هو داخل في حيز الاستدراك. كأنه قال: ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين. ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب في ذلك، فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل، أو يكون لا ريب فيه اعتراضا، كما تقول: زيد لا شك فيه كريم أم يقولون افتراه بل أيقولون اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم. أو إنكار لقولهم واستبعاد، والمعنيان متقاربان قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله فأنتم مثلي في العربية والفصاحة. ومعنى بسورة مثله أى شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ: بسورة مثله، على الإضافة، أى: بسورة كتاب مثله وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله، يعنى: أن الله وحده هو القادر على أن يأتى بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين أنه افتراء بل كذبوا بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية،

(2/347)


وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (41) ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون (43)

إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه- وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة- أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت:
ما معنى التوقع في قوله ولما يأتهم تأويله؟ قلت: معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل «1» ، تقليدا للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمردا وعنادا، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدى، ورازوا قواهم «2» في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغيا وحسدا كذلك أى مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم يعنى قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى ولما يأتهم تأويله ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أى عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعنى أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه ومنهم من يؤمن به يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشك فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أى: ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر وربك أعلم بالمفسدين بالمعاندين، أو المصرين.

[سورة يونس (10) : آية 41]
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (41)
وإن كذبوك وإن تموا على تكذيبك «3» ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلقهم فقد أعذرت، كقوله تعالى فإن عصوك فقل إني بريء وقيل: هي منسوخة بآية السيف.

[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 43]
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون (43)
__________
(1) . قال محمود: «معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ... الخ» قال أحمد: وكان التكذيب قبل الاحاطة بعلمه ربما يوهم عذرا ما للمكذب، فجاءت كلمة لما مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه حتى تنحسم أعذارهم ويتحقق شقاؤهم، والله أعلم.
(2) . قوله «ورازوا قواهم» أى جربوها وخبروها. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وإن تموا على تكذيبك» أى مضوا عليه ولم يرجعوا عنه، أفاده الصحاح. (ع)

(2/348)


إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45)

ومنهم من يستمعون إليك معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون. ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوى الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر. وأ تحسب أنك تقدر على هداية العمى ولو انضم إلى العمى- وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن «1» . وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصم والعمى الذين لا بصائر لهم ولا عقول. وقوله أفأنت ... دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على رد الأصم والأعمى المسلوبى العقل حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده.

[سورة يونس (10) : آية 44]
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44)
إن الله لا يظلم الناس شيئا أى لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب. ويجوز أن يكون وعيدا للمكذبين، يعنى: أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستيجاب، ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سببا فيه.

[سورة يونس (10) : آية 45]
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45)
إلا ساعة من النهار يستقربون وقت لبثهم في الدنيا. وقيل في القبور، لهول ما يرون يتعارفون بينهم يعرف بعضهم بعضا، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم. فإن قلت: كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ قلت أما الأولى فحال من «هم» أى يحشرهم مشهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف، وإما أن تكون مبينة، لقوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكرا قد خسر على إرادة القول، أى يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم «2»
__________
(1) . قوله «ويتظنن» أى يعمل ظنه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وضعوا في تجارتهم» في الصحاح: وضع الرجل في تجارته وأوضع- على ما لم يسم فاعله- وضعا فيهما، أى خسر. (ع) [.....]

(2/349)


وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49)

وبيعهم الإيمان بالكفر وما كانوا مهتدين للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم!

[سورة يونس (10) : آية 46]
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46)
فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة. فإن قلت:
الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم؟ قلت: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبى عبلة: ثم، بالفتح، أى هنالك. ويجوز أن يراد: أن الله مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.

[سورة يونس (10) : آية 47]
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47)
ولكل أمة رسول يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق فإذا جاء هم رسولهم بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه قضي بينهم أى بين النبي ومكذبيه بالقسط بالعدل، فأنجى الرسول وعذب المكذبون، كقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا أو لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق.

[سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 49]
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49)
متى هذا الوعد استعجال لما وعدوا من العذاب استبعادا له لا أملك لنفسي ضرا من مرض أو فقر ولا نفعا من صحة أو غنى إلا ما شاء الله استثناء منقطع: أى ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ لكل أمة أجل يعنى أن عذابكم له أجل مضروب عند الله، وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا. وقرأ ابن سيرين: فإذا جاء آجالهم.

(2/350)


قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون (50) أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون (51) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون (52)

[سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 52]
قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون (50) أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون (51) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون (52)
بياتا نصب على الظرف، بمعنى. وقت بيات. فإن قلت: هلا قيل ليلا أو نهارا؟ قلت:
لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت. والبيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله نهارا معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب. ونحوه بياتا وهم نائمون، ضحى وهم يلعبون الضمير في منه للعذاب. والمعنى: أن العذاب كله مكروه مر المذاق موجب للنفار، فأى شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال. ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل:
أى شيء هول شديد «1» يستعجلون منه، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه. وقيل:
الضمير في منه لله تعالى. فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق ب أرأيتم، لأن المعنى: أخبرونى ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو:
تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه «2» .
قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فضلا أن يستعجله. ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة ب أرأيتم، وأن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا. والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على ثم، كدخوله على الواو والفاء في قوله أفأمن أهل القرى، أوأمن أهل القرى.
آلآن على إرادة القول، أى: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون يعنى: وقد كنتم به تكذبون، لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب
__________
(1) . قوله «أى شيء هول شديد» لعله أى شيء أتى هو لا شديدا. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل ماذا تستعجلون منه ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا النوع البليغ نكتتان، إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر. والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر، وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة، والله أعلم.

(2/351)


ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54) ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون (56)

والإنكار. وقرئ: آلان، بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام ثم قيل للذين ظلموا عطف على «قيل» المضمر قبل آلآن.

[سورة يونس (10) : آية 53]
ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53)
ويستنبئونك ويستخبرونك فيقولون أحق هو وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء. وقرأ الأعمش: آلحق هو، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل. وذلك أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق، والضمير للعذاب الموعود. وإي بمعنى «نعم» في القسم خاصة، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. وسمعتهم يقولون في التصديق: إيو، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده وما أنتم بمعجزين بفائتين العذاب، وهو لا حق بهم لا محالة.

[سورة يونس (10) : الآيات 54 الى 56]
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54) ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون (56)
ظلمت صفة لنفس على: ولو أن لكل نفس ظالمة ما في الأرض أى ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها لافتدت به لجعلته فدية لها. يقال:
فداه فافتدى. ويقال: افتداه أيضا بمعنى فداه وأسروا الندامة لما رأوا العذاب لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة «1» ويبقى جامدا مبهوتا. وقيل أسر رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم، حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وقيل: أسروها أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سر الشيء، لخالصه. وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وليس هناك تجلد وقضي بينهم أى بين الظالمين والمظلومين، دل على ذلك ذكر الظلم. ثم أتبع ذلك الإعلام بأن له الملك كله، وأنه
__________
(1) . قوله «لا ينبس بكلمة» أى لا يتكلم. أفاده الصحاح. (ع)

(2/352)


ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون (59) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60)

المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون.

[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58)
قد جاءتكم موعظة أى قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد وهو شفاء أى دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم. أصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا.
والتكرير للتأكيد والتقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل:
إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا. ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك: فبمجيئها فليفرحوا. وقرئ فليفرحوا، بالتاء وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى. وعنه «1» «لتأخذوا مضاجعكم «2» » قالها في بعض الغزوات.
وفي قراءة أبى: فافرحوا هو راجع إلى ذلك. وقرئ: مما تجمعون، بالياء والتاء. وعن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قل بفضل الله وبرحمته فقال «بكتاب الله والإسلام «3» » وقيل «فضله» الإسلام «ورحمته» ما وعد عليه.

[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون (59) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60)
__________
(1) . هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال «أبطأ عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر حتى كادت الشمس تطلع ثم خرج فأقيمت الصلاة فصلى بنا صلاة تجوزها فلما سلم قال: فما أنتم على مصافكم- الحديث» .
(2) . قوله «لتأخذوا مضاجعكم» لعل الرواية «مصافكم» . (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى قل بفضل الله فذكره. وعن أبى سعيد كذلك أخرجه الطبري، وروى ابن مردويه من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قل بفضل الله وبرحمته» قال: بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من الملة» .

(2/353)


وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (61)

أرأيتم أخبرونى. وما أنزل الله «ما» في موضع النصب بأنزل، أو ب أرأيتم، في معنى: أخبرونيه فجعلتم منه حراما وحلالا أى أنزله الله رزقا حلالا كله فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام وكقولهم هذه أنعام وحرث حجر، ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا آلله أذن لكم متعلق ب أرأيتم. وقل: تكرير للتوكيد.
والمعنى: أخبرونى الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. وكفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام. وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله يوم القيامة منصوب بالظن، وهو ظن واقع فيه، يعنى: أى شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى بن عمر: وما ظن، على لفظ الفعل. ومعناه: وأى ظن ظنوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان إن الله لذو فضل على الناس حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام ولكن أكثرهم لا يشكرون هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.

[سورة يونس (10) : آية 61]
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (61)
وما تكون في شأن «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن:
الأمر، وأصله الهمز بمعنى القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في منه للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأن كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو لله عز وجل. وما تعملون أنتم جميعا من عمل أى عمل كان

(2/354)


ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)

إلا كنا عليكم شهودا شاهدين رقباء نحصي عليكم إذ تفيضون فيه من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه وما يعزب قرئ بالضم والكسر: وما يبعد وما يغيب، ومنه: الروض العازب ولا أصغر من ذلك ولا أكبر القراءة بالنصب والرفع، والوجه النصب على نفى الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه، وفي العطف على محل من مثقال ذرة أو على لفظ مثقال ذرة فتحا في موضع الجر لامتناع الصرف: إشكال، لأن قولك «لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب» مشكل. فإن قلت: لم قدمت الأرض على السماء، بخلاف قوله في سورة سبأ عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؟ قلت:
حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله لا يعزب عنه لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء، على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية.

[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)
أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله الذين آمنوا وكانوا يتقون فهو توليهم إياه هم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة
فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أولياء الله؟
فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم «1» يعنى السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله. وعن عمر رضى الله عنه: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله» قالوا يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: «هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس»
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبى المغيرة عنه به وابن مردويه من طريق يحيى الحمامي عن يعقوب السهمي عن جعفر كذلك ووصله النسائي والبزار من رواية محمد بن سعيد بن سابق عن يعقوب بذكر ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولياء الله قال: الذين إذا رأوا ذكر الله. قال البزار: رواه غير محمد عن يعقوب بغير ذكر ابن عباس.

(2/355)


ثم قرأ الآية «1» الذين آمنوا نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبى صلى الله عليه وسلم «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له «2» » وعنه عليه الصلاة والسلام: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات: وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن. وعن أبى ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال «تلك عاجل بشرى المؤمن «3» » وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال الله تعالى تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤن منها، وغير ذلك من البشارات
__________
(1) . أخرجه إسحاق بن راهويه والطبري وأبو نعيم في أوائل الحلية والبيهقي في الشعب من رواية جرير عن عمارة بن غزية عن أبى زرعة عن عمر به. قال البيهقي: أبو زرعة عن عمر مرسل. ورواه ابن مردويه من وجه آخر يذكر أبى هريرة بين أبى زرعة وعمر ورواه النسائي وابن حبان من وجه آخر عن أبى زرعة عن أبى هريرة. فلم يذكر عمر. وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عدى والعقيلي والبيهقي في الشعب أيضا في العاشر منه وفيه واقد بن سلامة عن يزيد الرقاشي. وهما ضعيفان. وعن أبى الدرداء أخرجه الطبراني وفيه فرج بن فضالة وهو ساقط. وعن أبى مالك الأشعرى. أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني والبيهقي وفيه شهر بن حوشب وعن ابن عمر أخرجه الحاكم من رواية زياد بن خيثمة عنه. وعن العلاء بن زياد مرسلا. أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وأحمد وإسحاق من طريق أبى سلمة عن عبادة بن الصامت قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله هم البشرى في الحياة الدنيا، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» رجاله ثقات: إلا أنه معلول، فان أبا سلمة لم يسمع من عبادة، وقد أخرجه الترمذي والحاكم أيضا عن أبى سلمة قال: نبئت عن عبادة، وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية حميد بن عبد الرحمن المرسى عن عبادة. وأخرجه الترمذي أيضا وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر: سألت أبا الدرداء عن قول الله تعالى هم البشرى في الحياة الدنيا
قال سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، زاد بعضهم «وفي الآخرة الجنة» قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الرجل لا يعرف. وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه ابن مردويه بلفظ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثل حديث عبادة، وعن جابر بن عبد الله بن رباب أخرجه البزار وابن عدى ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عنه مرفوعا في قوله تعالى هم البشرى
- الحديث. وعن جابر أخرجه ابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر. قال: جابر هذا هو ابن رباب. كذا قال فأخطأ. وقد أخرجه من وجه آخر عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمار بن محمد عن الأعمش عن أبى صالح عنه. قيل: انفرد به عمار. لكن أخرجه النسائي في الكنى من رواية إسحاق بن عبد الرحمن بن عمر:
أن الأعمش حدثه، فذكره. وقال: أبو إسحاق لا أعرفه. والحديث خطأ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه النسائي وأبو يعلى من رواية دراج عن عبد الرحمن بن جبير عنه. وزاد «الرؤيا جزء من تسعة وأربعين جزآ من النبوة.
(3) . أخرجه مسلم بلفظ «فتحبه وتحمده الناس عليه» .

(2/356)


ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65) ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66)

تبديل لكلمات الله
لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى ما يبدل القول لدي ولك
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض،

[سورة يونس (10) : آية 65]
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65)
ولا يحزنك وقرئ: ولا يحزنك، من أحزنه قولهم تكذيبهم لك، وتهديدهم، وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك إن العزة لله استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: مالى لا أحزن؟ فقيل، إن العزة لله جميعا، أى إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعا، لا يملك أحد شيئا منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. إنا لننصر رسلنا وقرأ أبو حيوة. أن العزة، بالفتح بمعنى: لأن العزة على صريح التعليل. ومن جعله بدلا من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به هو السميع العليم يسمع ما يقولون. ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه. وهو مكافئهم بذلك.

[سورة يونس (10) : آية 66]
ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66)
من في السماوات ومن في الأرض يعنى العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم، ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى، ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له ندا وشريكا، وليدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسى فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى: وما يتبعون شركاء، أى: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأن شركة الله في الربوبية محال إن يتبعون إلا ظنهم أنها شركاء وإن هم إلا يخرصون يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديرا باطلا. ويجوز أن يكون وما يتبع في معنى الاستفهام، يعنى: وأى شيء يتبعون. وشركاء على هذا نصب بيدعون، وعلى الأول بيتبع. وكان حقه. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أى:
وله شركاؤهم. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: تدعون، بالتاء، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام، أى: وأى شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعنى:

(2/357)


هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67) قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70)

أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبيون من الحق.

[سورة يونس (10) : آية 67]
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلما ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردد في المعاش، والنهار مضيئا يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم لقوم يسمعون سماع معتبر مدكر.

[سورة يونس (10) : آية 68]
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68)
سبحانه تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء هو الغني علة لنفى الولد لأن ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفيا له ما في السماوات وما في الأرض فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إن عندكم من سلطان بهذا ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله:
إن عندكم على أن يجعل القول مكانا للسلطان، كقولك. ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان أتقولون على الله ما لا تعلمون لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس يعلم.

[سورة يونس (10) : الآيات 69 الى 70]
قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70)
يفترون على الله الكذب بإضافة الولد إليه متاع في الدنيا أى افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.

(2/358)


واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون (71) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73)

[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون (71) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73)
كبر عليكم عظم عليكم وشق وثقل. ومنها قوله تعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ويقال: تعاظمه الأمر مقامي مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه ولمن خاف مقام ربه بمعنى خاف ربه. أو قيامي «1» ومكثي بين أظهركم مددا طوالا ألف سنة إلا خمسين عاما. أو مقامي «2» وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بينا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود فأجمعوا أمركم وشركاءكم من أجمع الأمر وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال:
هل أغدون يوما وأمرى مجمع «3»
والواو بمعنى «مع» يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: وشركاؤكم بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيدا وعمرو. وقرئ: فاجمعوا من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأن الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبى: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. فإن قلت:
كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون. فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته وثقته بما وعده
__________
(1) . قوله «أو قيامي ومكثي» لعله أو مقامي بالضم. (ع)
(2) . قوله «أو مقامي وتذكيري» لعل هذا أو قيامي. (ع)
(3) .
يا ليت شعري والحوادث جمة ... هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة. جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. وأمرى مجمع: أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون. أو خبرها. وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.

(2/359)


ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين (74)

ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما:
أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى:
ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أى غما وهما. والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة السترة من غمه إذا ستره.
ومنها قوله عليه السلام «ولا غمة في فرائض الله» «1» أى لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى:
ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا «2» عليكم ولكن مكشوفا مشهورا تجاهروننى به ثم اقضوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بى، أى: أدوا إلى قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أو أدوا إلى ما هو حق عليكم عندكم من هلاكى كما يقضى الرجل غريمه ولا تنظرون ولا تمهلوني. وقرئ: ثم أفضوا إلى، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلى بشركم. وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أى أصحروا به إلى وأبرزوه لي فإن توليتم فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي فما سألتكم من أجر فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم إن أجري إلا على الله وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أى: ما نصحتكم إلا لوجه الله، لا لغرض من أغراض الدنيا وأمرت أن أكون من المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمردهم لا غير فكذبوه فتموا على تكذيبه «3» وكان تكذيبهم له في آخر المدة المتطاولة كتكذيبهم في أولها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان وجعلناهم خلائف يخلفون الهالكين بالغرق كيف كان عاقبة المنذرين تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.

[سورة يونس (10) : آية 74]
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين (74)
من بعده من بعد نوح رسلا إلى قومهم يعنى هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا فجاؤهم بالبينات
__________
(1) . هو طرف من حديث وائل بن حجر في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقيال، وفيه: «ولا يوصم في الدين ولا غمة في فرائض الله» وقال: الغمة السترة، أى لا تستر في فرائض الله، بل ظاهر بها. [.....]
(2) . قوله «مستورا عليكم» لعله أراد ملتبسا، فلذا قال عليكم، كما أشار إليه النسفي. (ع)
(3) . قوله «فتموا على تكذيبه» أى استمروا. أفاده الصحاح. (ع)

(2/360)


ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77) قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78)

بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم فما كانوا ليؤمنوا فما كان إيمانهم إلا ممتنعا كالمحال لشدة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه بما كذبوا به من قبل يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد كذلك نطبع مثل ذلك الطبع المحكم نطبع على قلوب المعتدين والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأن الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.

[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78]
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77) قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78)
من بعدهم من بعد الرسل بآياتنا بالآيات التسع فاستكبروا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها وكانوا قوما مجرمين كفارا ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردها فلما جاءهم الحق من عندنا فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهرون قالوا لحبهم الشهوات إن هذا لسحر مبين وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويها وباطلا. فإن قلت: هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر، «1» فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله أتقولون للحق أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم إن هذا لسحر مبين كأنه قيل. أتقولون ما تقولون، يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح الساحرون كما قال
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر ... الخ» قال أحمد: وفي الفرق بين الوجهين غموض، وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على أنه يطلب مفعولا والله أعلم.

(2/361)


وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم (79) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون (82)

موسى للسحرة: ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله لتلفتنا لتصرفنا. واللفت والفتل:
أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال عما وجدنا عليه آباءنا يعنون عبادة الأصنام وتكون لكما الكبرياء أى الملك، لأن الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك:
الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله:
ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء «1»
ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين أى مصدقين لكما فيما جئتما به. وقرئ: يطبع، ويكون لكما، بالياء.

[سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82]
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم (79) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون (82)
ما جئتم به ما موصولة واقعة مبتدأ. والسحر خبر، أى الذي جئتم به هو السحر «2»
__________
(1) . لعبد الله بن قيس الرقيات. وقيل: لقيس الرقيات يمدح مصعبا، سمى قيس الرقيات لأنه اتفق له أنه تزوج عدة نسوة، كل منهن تسمى رقية. وملك: وصف كحذر، فلذلك نصب «ملك رأفة» على المصدر. وروى «ملكه ملك» على المبتدأ والخبر. وضمير «فيه» للمصدر، أى: ليس في ملكه جبروت منه، أى من مصعب.
ويحتمل أن الضميرين له. والجبروت: مبالغة في الجبر والقهر، أى: ليس فيه ذلك كغيره، فهو أعظم الملوك.
(2) . قال محمود: «ما موصولة مبتدأ، والسحر خبر أى الذي جئتم به ... الخ» قال أحمد: وليس المراد في القراءة الأولى الاخبار بأن ما جاءوا به سحر خاصة، ولكن مع تنزيه ما جاء به عن كونه سحرا. وإنما يستفاد ذلك مما في هذا النظم المخصوص من إفادة الحصر، ولو مرت بخاطر الامام أبى المعالي في مسألة تحريمة التكبير لم بعدل عن الاستشهاد بها على إفادة هذا النظم الحصر، فانا نعلم أن موسى عليه السلام حيث أطلقه فإنما أراد إضافة السحر إلى ما جاءوا به محصورا فيه، حتى لا يتعدى إلى الحق الذي جاء به هو منه شيء. وأما القراءة الثانية ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى عليه السلام أولا أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا حكاية لقولهم، ويكون أسحر هذا هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعا: بدءوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقا، والاستهزاء بالحق إنكار له، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الاخبار.
ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله: مخبرا أنت أم سالم؟ ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة بيت الإنكار ودعوى أنه سحر فقالوا: إن هذا لسحر مبين، فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما أن لا يكونوا قالوا سوى أسحر هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله، لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار وبت القول أنه سحر. وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث: أن قول موسى عليه السلام أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضا بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد: أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام ما جئتم به السحر على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكيا بالقول، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين، فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فانه من دقائق النكت. والله الموفق.

(2/362)


فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين (83)

لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله. وقرئ: آلسحر، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية، أى: أى شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله: ما جئتم به سحر.
وقرأ أبى: ما أتيتم به سحر. والمعنى: لا ما أتيت به إن الله سيبطله سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة لا يصلح عمل المفسدين لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار ويحق الله الحق ويثبته بكلماته بأوامره وقضاياه. وقرئ: بكلمته، بأمره ومشيئته.

[سورة يونس (10) : آية 83]
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين (83)
فما آمن لموسى في أول أمره إلا ذرية من قومه إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في قومه لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله وملائهم؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أى على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله أن يفتنهم يريد أن يعذبهم وإن فرعون لعال في الأرض لغالب فيها قاهر وإنه لمن المسرفين في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتو، بادعائه الربوبية.

(2/363)


وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (87) وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88)

[سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 86]
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86)
إن كنتم آمنتم بالله صدقتم به وبآياته فعليه توكلوا فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أى يجعلوها له سالمة خالصة لا حظ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه، إن كانت بك قوة فقالوا على الله توكلنا إنما قالوا ذلك، لأن القوم كانوا مخلصين، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص لا تجعلنا فتنة موضع فتنة لهم، أى: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.

[سورة يونس (10) : آية 87]
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (87)
تبوأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطنا. والمعنى اجعلا بمصر بيوتا من بيوته «1» مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه واجعلوا بيوتكم تلك قبلة أى مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة. فإن قلت:
كيف نوع الخطاب، فثنى أولا، ثم جمع، ثم وحد آخرا. قلت: خوطب موسى وهرون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها.

[سورة يونس (10) : آية 88]
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88)
__________
(1) . قوله «بمصر بيوتا من بيوته» لعل الضمير لمصر. (ع)

(2/364)


الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت: ما معنى قوله ربنا ليضلوا عن سبيلك؟ قلت: هو دعاء بلفظ الأمر «1» ، كقوله ربنا اطمس، واشدد، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة «2» إلا نبوا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغى والضلال، وأن إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله- اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون «3» فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال.
وليكونوا ضلالا، «4» وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما على منهم، هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحردا «5» عليه، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشد على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان فلا يؤمنوا جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهى، وقد
__________
(1) . قال محمود: «قلت هو دعاء بلفظ الأمر ... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي الذي هو أدق من دبيب النمل، يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا. ووجه ذلك أنه علم أن الظاهر بل والباطن أن اللام التعليل، وأن الفعل منصوب بها، ومعنى ذلك إخبار موسى عليه السلام بأن الله إنما أمدهم بالزينة والأموال وما يتبعهما من النعم استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة، كما أخبر تعالى عن أمثالهم بقوله إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وهذا المعنى منتظم على جعل اللام التعليل، والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في استحالة ذلك على الله تعالى، لاعتقاده أن من الجور أن يملى لهم في الضلالة ويعاقبهم عليها، فهو متبتل لما يرد من الآيات بعمل الحيلة في تأويلها وردها إلى معتقده وجعلها تبعا له، كما تقدم له في تأويل قوله ليزدادوا إثما وكأين من آية غراء رام أن يسترغرتها ويطفئ نورها بأمثال هذه التأويلات الرديثة لفظا وعقدا، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ثم لا يسعه إلا أن يحمل موسى عليه السلام على أمثال هذه المعتقدات، ولقد برأه الله وكان عند الله وجيها.
(2) . قوله «وعن النصيحة» لعله وعلى (ع)
(3) . قوله «يتسكعون» في الصحاح: «التسكع» التمادي في الباطل. (ع)
(4) . قوله «وليكونوا ضلالا» هذا على قراءة «ليضلوا» بفتح الياء. والقراءة المشهورة ليضلوا بضمها.
وعبارة النسفي: ليضلوا الناس عن طاعتك اه (ع)
(5) . قوله «وحردا عليه» في الصحاح: الحرد- بالتحريك: الغضب. (ع)

(2/365)


قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)

حملت اللام في ليضلوا على التعليل، على أنهم جعلوا نعمة الله سببا في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا. وقوله فلا يؤمنوا عطف على ليضلوا. وقوله ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي: أإنك آتيت؟
على الاستفهام، واطمس بضم الميم.

[سورة يونس (10) : آية 89]
قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89)
قرئ: دعواتكما. قيل: كان موسى يدعو وهرون يؤمن. ويجوز أن يكونا جميعا يدعوان.
والمعنى: إن دعاء كما مستجاب، وما طلبتما كائن ولكن في وقته فاستقيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا ولا تستعجلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أى لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح عليه السلام إني أعظك أن تكون من الجاهلين وقرئ: ولا تتبعان، بالنون الخفيفة، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية، وبتخفيف التاء من تبع.

[سورة يونس (10) : آية 90]
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين (90)
قرأ الحسن: وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى:
وإذا تجوزنا حبال قبيلة «1»
__________
(1) .
وإذا تجوزنا حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالا
للأعشى. وشبه عهود الأمان التي يأخذها من القبيلة يتوثق ويتوصل بها إلى أخرى بالحبال، يجامع التوثق بكل على طريق التصريحية. أى: وإذا تجشمنا مجاوزة عهود قبيلة وتكلفنا مجاوزة محل أمانها، فايقاع التجوز على الحبال:
مجاز عقلى، أخذت ناقتي من القبيلة الأخرى حال كونها ذاهبة إليك حبالا، أى عهودا للتوصل القبيلة الأخرى، وهكذا. وإسناد الأخذ لها مجاز عقلى، ويكفى في الملابسة مجاورتها له حين الفعل. وإنما أسنده إليها للمبالغة، وتخييل أنها تعرف الممدوح وفضله، فهي المسافرة إليه بنفسها. وروى يجوزها. وجبال بالجيم، فمعنى أخذت:
قطعت من أرض القبيلة الأخرى بالسير إليك جبالا غير تلك. وعلى كل، ففيه دليل على صعوبة الطريق.

(2/366)


آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (92)

لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوزنا بنى إسرائيل في البحر كما قال:
كما جوز السكى فى الباب فيتق «1»
فأتبعهم فلحقهم. يقال: تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن: وعدوا «2» . وقرئ: أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلا من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصا على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.

[سورة يونس (10) : الآيات 91 الى 92]
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (92)
آلآن أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق «3» وأيست من نفسك.
قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق يعنى حين أوشك أن يغرق. وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه.
والذي يحكى أنه حين قال آمنت أخذ جبريل من حال البحر «4» فدسه في فيه، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه. وأما ما يضم إليه من قولهم: خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين «5» لله وملائكته: وفيه جهالتان، إحداهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر
__________
(1) .
ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوز السكى في الباب فيتق
للأعشى يصف مفازة الغزل فيها المحلق عن بنى عكاظ كما يأتى قريبا. يقول: ولا بد لمريد قطعها من جار: أى قريب منها يعين المسافر على سلوك سبيلها. وجازه يجوزه: سلكه. وأجازه يجيزه: أسلكه. وكذا جوزه يجوزه بالتشديد فيهما. والسكى: المسمار، نسبة السك، وهو تضبيب الباب وتسميره. والفيتق: النجار، لأنه يفتق الخشب بالمسمار. ويروى: كما سلك السكى، أى: لا يعد من معين، ينفذه فيها كما أنفذ النجار المسمار في الباب.
وعبر بالماضي ليدل على أن المشبه به معهود للسامع.
(2) . قوله: «وقرأ الحسن وعدوا» في الصحاح: عدا عدوا وعدوا وعداء اه. وقد مر في قوله تعالى فيسبوا الله عدوا (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «معناه أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك حين أدركك الغرق ... الخ» قال أحمد: ولقد أنكر منكرا، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم، والله الموفق.
(4) . قوله «من حال البحر فدسه» أى طينه الأسود. أفاده الصحاح. وفي الحديث «قال جبريل يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه» كذا في الخازن. (ع)
(5) . قوله «الباهتين لله» في الصحاح «بهته» إذا قال عليه ما لم يفعله. (ع)

(2/367)


لأن الرضا بالكفر كفر «1» من المفسدين من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون وروى أن جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه ننجيك بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ ننحيك، بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ببدنك في موضع الحال، أى:
في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير.
أو عريانا لست إلا بدنا من غير لباس. أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب:
__________
(1) . قوله «والذي يحكى» ... إلى قوله «لأن الرضا بالكفر» هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله. فان الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان والحاكم وإسحاق والبزار وأبو داود والطيالسي كلهم من رواية شعبة عن عدى بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن جبريل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله» لفظ الترمذي والباقين نحوه، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق وعبد بن حميد والبزار والطبراني من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، بلفظ «لما أغرق الله فرعون قال:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل: يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ الطين من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة، وله طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحمائى في مسنده عن أبى خالد الأحمر عن عمرو بن يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم: وذكر فرعون «فلقد رأيتنى وأنا لأكبر فمه بالحمأة مخافة أن تدركه الرحمة، وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب في السادس والخمسين وابن مردويه من طريق عتية بن سعيد عن كثير بن زاذان عن أبى حازم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل «لو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن يقول ربى الله، فتدركه رحمة الله» وعن ابن عمر رضى الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال لي جبريل: يا محمد ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال: ما علمت لكم من إله غيرى. وإذ نادى فقال: أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت أحشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية محمد بن سليمان بن أبى ضمرة عن عبد الله بن أبى قيس عنه، قلت: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري، فالحديث توجيه وجيه، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافرا كفر عناد، ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفردا وأظهر أنه مخلص، فأجرى له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا فيستمر على غيه وطغيانه فدس في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضى ذلك، هذا وجه الحديث. ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد وأيضا فايمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صدقا بقلبه لا يقبل لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب في الآية بقوله تعالى آلآن وقد عصيت قبل وفيه إشارة في قوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.

(2/368)


ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (93)

أعاذل شكتى بدنى وسيفى ... وكل مقلص سلس القياد «1»
وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: بأبدانك وهو على وجهين:
إما أن يكون مثل قولهم: هوى بأجرامه، يعنى: ببدنك كله وافيا بأجزائه. أو يريد: بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها لمن خلفك آية لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق. وروى أنهم قالوا: ما مات فرعون ولا يموت أبدا. وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممر من بنى إسرائيل حتى قيل: لمن خلفك. وقيل: لمن خلفك لمن يأتى بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأن ما كان يدعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل، فما الظن بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ: لمن خلقك، بالقاف: أى لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين- لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا- لادعائك العظمة إن مثله لا يغرق ولا يموت- آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أن ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك.

[سورة يونس (10) : آية 93]
ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (93)
مبوأ صدق منزلا صالحا مرضيا وهو مصر والشام فما اختلفوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا إلا من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرق عنه. وقيل هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بنى إسرائيل، وهم أهل الكتاب، اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
__________
(1) . لعمرو بن معديكرب، وكانت له درع من ذهب تعرفه بها العرب. يقول: يا عاذلة، إن سلاحي درعي وسيفي وفرسي المكتنز اللحم المدبج الخلق. وقيل: المقلص الطويل القوائم الهين القود. ويروى: سهل القياد.
والمعنى واحد. وإطلاق البدن على الدرع في الأصل مجاز علاقته المجاورة أو المحلية، وأتى بأداة العموم في الفرس لأنه الذي يكثر تغييره.

(2/369)


فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95)

[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 95]
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95)
فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك مع قوله في الكفرة وإنهم لفي شك منه مريب «1» قلت: فرق عظيم بين قوله إنهم لفي شك منه مريب بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله فإن كنت في شك بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خبالا منه تقديرا فسئل الذين يقرؤن الكتاب والمعنى: أن الله عز وجل قدم ذكر بنى إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوة محمد عليه السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا- وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق- فسل علماء أهل الكتاب، يعنى: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علما بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساآتهم فضلا عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشك فيه، ثم قال لقد جاءك الحق من ربك أى ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أن ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله أى فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله فلا تكونن ظهيرا للكافرين. ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق «2» » وعن ابن عباس رضى الله عنه: لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف قال له عليه السلام: فإن كنت في شك مع قوله في الكفرة وإنهم لفي شك منه مريب ... الخ؟ قال أحمد: ولو قال هذا المفسر: إن نفى الشك عنه عليه الصلاة والسلام توطئة لأمره بالسؤال لتقوم حجته على المسئولين لا ليستفيد بسؤالهم علما لمزيد تعين الإبراء بقوله له قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله فأمر بالسؤال والجواب جميعا- لكان أقوم وأسلم، والله أعلم.
(2) . أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه الطبري عن معمر عن قتادة في هذه الآية، قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أشك ولا أسأل» .

(2/370)


إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97) فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (98)

أحدا منهم، وقيل خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. ومعناه: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، كقول العرب: إذا عز أخوك فهن. وقيل: «إن» للنفي، أى: فما كنت في شك فاسأل، يعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى. وقرئ: فاسأل الذين يقرؤن الكتب.

[سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97]
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)
حقت عليهم كلمت ربك ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد «1» تعالى الله عن ذلك.

[سورة يونس (10) : آية 98]
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (98)
فلولا كانت فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه فنفعها إيمانها بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبى.
وعبد الله: فهلا كانت إلا قوم يونس استثناء من القرى، لأن المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روى عن الجرمي والكسائي. روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح، وعجوا»
أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا:
إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسود سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى
__________
(1) . قوله «لا كتابة مقدر ومراد» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يريد الشر. وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى يريد كل كائن خيرا كان أو شرا. (ع)
(2) . قوله «وعجوا» أى رفعوا أصواتهم. أفاده الصحاح. (ع)

(2/371)


ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100)

الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحن بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم، حتى إن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا «يا حى حين لا حى، ويا حى محيى الموتى، ويا حى لا إله إلا أنت» فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: قالوا: «اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله» .

[سورة يونس (10) : آية 99]
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)
ولو شاء ربك مشيئة القسر «1» والإلجاء «2» لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعا مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله أفأنت تكره الناس يعنى إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.

[سورة يونس (10) : آية 100]
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100)
__________
(1) . قوله «مشيئة القسر» هذا مذهب المعتزلة، وذلك أنهم أوجبوا على الله الصلاح والأصلح، وإيمان الكل أصلح، لكن الآية تخالف مذهبهم فقالوا: إنه تعالى أراد إيمان الكل إرادة تخيير العباد، فلم يلزم وقوع المراد، ولو أراده إرادة إجبار لوقع، وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا، ولزوم وقوع المراد لا ينافي تخيير العباد، لما لهم من الكسب في أفعالهم الاختيارية وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد مشيئة القسر والإلجاء» قال أحمد: وهذا من دسه الاعتزال مخلسا، وخلط الباطل بالحق مدلسا. ولما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله تعالى لايمان الخلق بصيغة الكلية، وأنه إنما شاء ذلك ممن آمن لا ممن كفر- إذ مقتضى «لولا» امتناع، وكان ذلك راد لمعتقده الفاسد، إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الايمان من جميع أهل الأرض، فلم يؤمن إلا بعضهم- أخذ يحرف مشيئة الايمان إلى مشيئة القسر والإلجاء، ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلق ولا سلب اختيارهم، بل أمرهم بالايمان وخلق لهم اختيارا له وقصدا، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل. بل هو أجدر بالتعطيل، فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله، والله الموفق.

(2/372)


قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين (102) ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين (103) قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين (104)

وما كان لنفس يعنى من النفوس التي علم أنها تؤمن إلا بإذن الله أى بتسهيله وهو منح الألطاف ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان «1» ، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر، كقوله صم بكم عمي فهم لا يعقلون وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ: الرجز، بالزاي. وقرئ ونجعل، بالنون.

[سورة يونس (10) : آية 101]
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)
ماذا في السماوات والأرض من الآيات والعبر وما تغني الآيات والنذر والرسل المنذرون، أو الإنذارات عن قوم لا يؤمنون لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون وقرئ: وما يغنى، بالياء، و «ما» نافية، أو استفهامية.

[سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 103]
فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين (102) ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين (103)
أيام الذين خلوا من قبلهم وقائع الله تعالى فيهم، كما يقال «أيام العرب» لو قائعها ثم ننجي رسلنا معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية والذين آمنوا ومن آمن معهم، كذلك ننج المؤمنين مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين.
وحقا علينا اعتراض، يعنى: حق ذلك علينا حقا. وقرئ: ننج، بالتشديد.

[سورة يونس (10) : آية 104]
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين (104)
يا أيها الناس يا أهل مكة إن كنتم في شك من ديني وصحته وسداده، فهذا دينى فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين
__________
(1) . قوله «وهو الخذلان» تأويل الرجس بالخذلان على مذهب المعتزلة، وعلى مذهب أهل السنة لا حاجة إلى تأويله. (ع)

(2/373)


وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105) ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (107)

لا مدخل فيه للشك، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وإنما وصفه بالتوفى، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبد دون مالا يقدر على شيء وأمرت أن أكون من المؤمنين يعنى أن الله أمرنى بذلك، بما ركب فى من العقل، وبما أوحى إلى في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم في شك من دينى ومما أنا عليه- أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم- فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمرى، واقطعوا غنى أطماعكم، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى، كقوله قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون. أمرت أن أكون أصله:
بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة مع «إن» و «أن» . وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.

[سورة يونس (10) : آية 105]
وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105)
فإن قلت، عطف قوله وأن أقم على أن أكون فيه إشكال، لأن «أن» لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأن عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا يساعد عليه لفظ الأمر، وهو أقم لأن الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سوغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنهى، وشبه ذلك بقولهم:
أنت الذي تفعل، على الخطاب، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال أقم وجهك استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. وحنيفا حال من الدين، أو من الوجه.

[سورة يونس (10) : آية 106]
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106)
فإن فعلت معناه: فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك، فكنى عنه بالفعل إيجازا فإنك إذا من الظالمين إذا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر، كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، إن الشرك لظلم عظيم.

[سورة يونس (10) : آية 107]
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (107)

(2/374)


قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (108) واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109)

أتبع النهى عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أن الله عز وجل هو الضار النافع، الذي إن أصابك بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذا بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره، أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته. فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعا: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا راد لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدل بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى يصيب به من يشاء من عباده والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.

[سورة يونس (10) : آية 108]
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (108)
قد جاءكم الحق فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه، واللام وعلى: دلا على معنى النفع والضر. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إلى أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.

[سورة يونس (10) : آية 109]
واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109)
واصبر على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم حتى يحكم الله لك بالنصرة عليهم والغلبة. وروى أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال «إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني «1» » يعنى أنى أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتنى الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر. وروى أن أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند. والقصة المذكورة متفق عليها من حديث عبد الله بن زيد في أثناء حديث، ومن حديث أسيد بن حضير، ليس فيه كون الآية سبب ذلك، بل سببه قسمة غنائم حنين.

(2/375)


في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثره. قال معاوية: فماذا قال؟ قال: قال «فاصبروا حتى تلقوني» قال فاصبر. قال: إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان «1» :
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير الظالمين نثا كلامى
بأنا صابرون فمنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام «2»
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون «3»
__________
(1) . أخرجه إسحاق بن راهويه. ومن طريقه الحاكم والبيهقي عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصارى: فقال معاوية تلقانا الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما يمنعكم أن تلقوني؟
قال: لم تكن لنا دواب. فقال معاوية: فأين النواضح. قال أبو قتادة. عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر.
ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنكم سترون بعدي أثرة. قال معاوية: فما أمركم؟ قال:
أمرنا أن نصبر حتى تلقاه. قال: فاصبروا حتى تلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك- فذكر البيتين.
وقال: يا أمير المؤمنين. [.....]
(2) . لعبد الرحمن بن حسان، حين دخل معاوية بن أبى سفيان بن حرب المدينة، فتلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة، ثم دخل عليه فقال له: مالك تخلفت؟ فقال: لم يكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثرة. قال معاوية، فماذا قال؟ قال: فاصبروا حتى تلقوني. قال: فاصبروا. قال: إذا نصبر. والثناء يقال للخير، وقد يقال الشر. والنثا:
خاص بالشر. وروى «نثا كلامى» ومنظروكم: ممهلوكم. أى أنت وقومك. والتغابن: ظهور الغبن العمال في تجارات الأعمال. والخصام: المخاصمة والمجادلة، أى إلى يوم القيامة.
(3) . تقدم إسناده في آل عمران. ويأتى في آخر القرآن.

(2/376)


الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)

سورة هود عليه السلام
(مكية [إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية] وهي مائة وثلاث وعشرون آية [نزلت بعد سورة يونس] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة هود (11) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)
أحكمت آياته نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف.
ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة، من «حكم» بضم الكاف، إذا صار حكيما: أى جعلت حكيمة، كقوله تعالى آيات الكتاب الحكيم وقيل: منعت من الفساد، من قولهم: أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. قال جرير:
أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إنى أخاف عليكم أن أغضبا «1»
وعن قتادة: أحكمت من الباطل ثم فصلت كما تفصل القلائد بالفرائد، من دلائل التوحيد، والأحكام، والمواعظ، والقصص. أو جعلت فصولا، سورة سورة، وآية آية. وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة. أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد: أى بين ولخص. وقرئ:
أحكمت آياته ثم فصلت: أى أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك: ثم فصلت، أى فرقت بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل. وكتاب: خبر مبتدإ محذوف. وأحكمت: صفة له. وقوله من لدن حكيم خبير صفة ثانية. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أى: من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصلها: أى بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
__________
(1) . لجرير، يقول: يا بنى حنيفة «امنعوا سفهاءكم عنى كما تمنع الدابة بالحكمة، فان غضبى عليكم شديد. وفيه ضرب من التهديد، فخوفه عليهم كناية عن ذلك. وأن أغضب: مفعول أخاف، أى أخاف عليكم غضبى.

(2/377)


ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير (2) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير (4) ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور (5)

[سورة هود (11) : الآيات 2 الى 4]
ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير (2) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير (4)
ألا تعبدوا مفعول له على معنى: لئلا تعبدوا. أو تكون «أن» مفسرة، لأن في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا أى أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله إنني لكم منه نذير وبشير كأنه قال: ترك عبادة غير الله، إننى لكم منه نذير، كقوله تعالى فضرب الرقاب والضمير في منه لله عز وجل، أى: إننى لكم نذير وبشير من جهته، كقوله رسول من الله أو هي صلة لندير، أى: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
فإن قلت: ما معنى ثم في قوله ثم توبوا إليه؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله ثم استقاموا. يمتعكم يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة إلى أجل مسمى إلى أن يتوفاكم، كقوله فلنحيينه حياة طيبة ويؤت كل ذي فضل فضله ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه.
أو فضله في الثواب، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات وإن تولوا وإن تتولوا عذاب يوم كبير هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، فكان قادرا على أشد ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ: وإن تولوا، من ولى.

[سورة هود (11) : آية 5]
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور (5)
يثنون صدورهم يزورون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه يعنى:

(2/378)


وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)

ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون- لقود المعنى «1» إلى إضماره- الإضمار في قوله تعالى اضرب بعصاك البحر فانفلق معناه فضرب فانفلق. ومعنى ألا حين يستغشون ثيابهم ويزيدون الاستخفاء «2» حين يستغشون ثيابهم أيضا، كراهة لاستماع كلام الله تعالى، كقول نوح عليه السلام جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ثم قال يعلم ما يسرون وما يعلنون يعنى. أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده. روى أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل: نزلت في المنافقين. وقرئ: تثنونى صدورهم، واثنونى «افعوعل» من الثني، كاحلولى من الحلاوة، وهو بناء مبالغة، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنونى. وقرئ تثنون وأصله تثنونن «تفعوعل» من الثن «3» وهو ما هش وضعف من الكلأ، يريد: مطاوعة صدورهم للثنى، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ: تثنئن، من اثنأن «أفعال» منه، ثم همز كما قيل: ابيأضت، وأدهأمت وقرئ: تثنوى، بوزن ترعوى.

[سورة هود (11) : آية 6]
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)
فإن قلت: كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب «4» وإنما هو تفضل؟ قلت: هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم، رجع التفضل واجبا كنذور العباد. والمستقر:
مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار، من صلب، أو رحم،
__________
(1) . قوله «لقود المعنى» أى لتأدية المعنى. (ع)
(2) . قوله «ويزيدون الاستخفاء» الظاهر أن هذا هو الخبر عن قوله: ومعنى ألا حين الخ، كما قال أولا، يعنى ويريدون. (ع)
(3) . قوله «من الثن» في الصحاح «الثن» بالكسر: يبس الحشيش. (ع)
(4) . قال محمود «إن قلت كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب ... الخ» قال أحمد: كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة، فذلك كله فضل ولا واجب على الله تعالى، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على أن الله عز وجل لما وعدهم فضله- ووعده خبر، وخبره صدق- وجب وقوع الموعود: أى يستحيل في العقل أن لا يقع، للزوم الخلف في خبر الصادق، فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف، وبينهما هذا الفرق المذكور. هذه قاعدة أهل الحق. وقد مر الكلام عليها عند قوله تعالى إنما التوبة على الله، والله الموفق.

(2/379)


وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)

أو بيضة كل كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح، يعنى ذكرها مكتوب فيه مبين.

[سورة هود (11) : آية 7]
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)
وكان عرشه على الماء أى ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض. وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض.
وقيل: وكان الماء «1» على متن الريح، والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه ليبلوكم متعلق بخلق، أى خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم. يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون. فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق إليه فهو ملابس له، كما تقول: انظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن صوتا، لأن النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت: كيف قيل: أيكم أحسن عملا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفا لهم وتنبيها على مكانهم منه، وليكون ذلك لطفا للسامعين، وترغيبا في حيازة فضلهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله «2» » قرئ: ولئن قلت إنكم مبعوثون، بفتح الهمزة.
ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق عنك تشترى لنا لحما، وأنك تشترى بمعنى علك، أى:
ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون، بمعنى: توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره، لقالوا:
__________
(1) . قوله «وقيل: وكان الماء» لعله «كان» بدون واو. ويمكن أن المعنى كان عرشه على الماء وكان الماء. (ع)
(2) . أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحرث في مسنده عنه، والطبري وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن زيد عن كليب بن وائل عن ابن عمر. وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضا من طريق محمد ابن أمرس عن سليمان بن عيسى عن الثوري عن كليب كذلك، وإسناده أسقط من الأول.

(2/380)


ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (8) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور (9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (11)

إن هذا إلا سحر مبين باتين القول ببطلانه. ويجوز أن تضمن «قلت» معنى «ذكرت» ومعنى قولهم إن هذا إلا سحر مبين أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيها له به. أو أشاروا «1» بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. وقرئ: إن هذا إلا ساحر، يريدون الرسول، والساحر: كاذب مبطل،

[سورة هود (11) : آية 8]
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (8)
العذاب عذاب الآخرة. وقيل عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين إلى أمة إلى جماعة من الأوقات ما يحبسه ما يمنعه من النزول استعجالا له على وجه التكذيب والاستهزاء. ويوم يأتيهم منصوب بخبر ليس، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها، كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلا حيث يقع العامل وحاق بهم وأحاط بهم ما كانوا به يستهزؤن العذاب الذي كانوا به يستعجلون. وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون، لأن استعجالهم كان على جهة الاستهزاء. والمعنى: ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره.

[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11]
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور (9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (11)
الإنسان للجنس رحمة نعمة من صحة وأمن وجدة ثم نزعناها منه ثم سلبنا تلك النعمة إنه ليؤس شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة. قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع كفور عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نساء له ذهب السيئات عني أى المصائب التي ساءتني إنه لفرح أشر
__________
(1) . قوله «أو أشاروا بهذا» لعله: وأشاروا. (ع)

(2/381)


فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل (12) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13)

بطر فخور على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا.

[سورة هود (11) : آية 12]
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل (12)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادا، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم مالا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أى لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أى هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، ثم قال إنما أنت نذير أى ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحى إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحى بقلب فسيح وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجواد الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد ونحوه كانوا قوما عامين في بعض القراآت، وقول السمهري العكلي:
بمنزلة أما اللئيم فسامن ... بها وكرام الناس باد شحوبها «1»

[سورة هود (11) : آية 13]
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13)
__________
(1) . العكلي. والشحوب تغير اللون. وأنشده أبو زيد شاهدا على أن الشحوب في لغة بنى كلاب الهزال، وهو أنسب بالمقابلة لقوله بمنزلة مجدبة صفتها أنها. أما اللئيم الذي همه بطنه، فهو سامن فيها لكثرة أكله. وأما كرام الناس فهم متغيرون فيها مهازيل، لأنهم يطعمون ولا يطعمون. و «فاعل» من سمن شاذ، وقياسه «فعيل» .

(2/382)


فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)

أم منقطعة. والضمير في افتراه لما يوحى إليك. تحداهم أولا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله بمعنى أمثاله، ذهابا إلى مماثلة كل واحدة منها له مفتريات صفة لعشر سور. لما قالوا: افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، قاودهم «1» على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال: هبوا أنى اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلى وأن الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. فإن قلت:
كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.

[سورة هود (11) : آية 14]
فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)
فإن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله لكم فاعلموا بعد قوله قل؟
قلت: معناه: فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقد قال في موضع آخر: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم «2»
ووجه آخر: وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في فإلم يستجيبوا لمن استطعتم، يعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أى أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم فهل أنتم مسلمون مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقينا وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد.
ومعنى فهل أنتم مسلمون فهل أنتم مخلصون؟
__________
(1) . قوله «قاودهم» ضمن معنى وافقهم وسايرهم. (ع)
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 294 فراجعه إن شئت. اه مصححه.

(2/383)


من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)

[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)
نوف إليهم نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحمن وتصدق: فعلت حتى يقال، فقيل. ولمن قاتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل: وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحما، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم. وقرئ: يوف، بالياء على أن الفعل لله عز وجل. وتوف إليهم أعمالهم بالتاء، على البناء للمفعول. وفي قراءة الحسن:
نوفى، بالتخفيف وإثبات الياء، لأن الشرط وقع ماضيا، كقوله:
يقول لا غائب مالى ولا حرم «1»
وحبط ما صنعوا فيها وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، يعنى: لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا وباطل ما كانوا يعملون أى كان عملهم في نفسه باطلا، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له.
وقرئ: وبطل على الفعل. وعن عاصم: وباطلا بالنصب، وفيه وجهان: أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون، ومعناه: وباطلا، أى باطل كانوا يعملون. وأن تكون بمعنى المصدر على:
وبطل بطلانا ما كانوا يعملون.

[سورة هود (11) : آية 17]
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)
أفمن كان على بينة معناه: أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة «2» أى لا يعقبونهم في المنزلة
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 537 فراجعه إن شئت. اه مصححه. [.....]
(2) . قوله «فمن كان على بينة» عبارة النسفي: كمن كان يريد ... الخ. (ع)

(2/384)


ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون (19) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (21) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون (22)

ولا يقاربونهم، يريد أن بين الفريقين تفاوتا بعيدا وتباينا بينا، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة من ربه أى على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أى شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن منه من الله، أو شاهد من القرآن، فقد تقدم ذكره آنفا ومن قبله ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة، أى: ويتلو ذلك البرهان أيضا من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ: كتاب موسى بالنصب، ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أن القرآن حق، ويتلوه: ويقرأ القرآن شاهد منه شاهد ممن كان على بينة، كقوله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، ومن قبله كتاب موسى ويتلو من قبل القرآن والتوراة إماما كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم أولئك يعنى من كان على بينة يؤمنون به يؤمنون بالقرآن ومن يكفر به من الأحزاب يعنى أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنار موعده فلا تك في مرية وقرئ: مرية، بالضم وهما الشك منه من القرآن أو من الموعد.

[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 22]
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون (19) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (21) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون (22)
يعرضون على ربهم يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولدا وشريكا، ويقال ألا لعنة الله على الظالمين فوا خزياه ووا فضيحتاه. والأشهاد: جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف ويبغونها عوجا يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوجوا

(2/385)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23)

بالارتداد، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض أى ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد يضاعف لهم العذاب وقرئ: يضعف ما كانوا يستطيعون السمع أراد أنهم لفرط تصامهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع «1» ولعل بعض المجبرة «2» يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع «3» به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي. ويحتمل أن يريد بقوله وما كان لهم من أولياء أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفى كونهم أولياء بقوله ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فكيف يصلحون للولاية. وقوله يضاعف لهم العذاب اعتراض بوعيد خسروا أنفسهم
اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم مالا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم وضل عنهم
وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو ما كانوا يفترون
من الآلهة وشفاعتها لا جرم فسر في مكان آخر هم الأخسرون لا ترى أحدا أبين خسرانا منهم.

[سورة هود (11) : آية 23]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23)
__________
(1) . قال محمود: «أراد أنهم لفرط تصامهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم ... الخ» قال أحمد: أهل الحق وإن نفوا تأثير استطاعة العبد وخلصوا الخلق لقدرة الخالق عز وجل، لا ينفون استطاعة العبد نفسها ولا ما يجده من نفسه من الفرق حالة الحركات القسرية والاختيارية، وإنما الذي ينفى الاستطاعة جملة هم المجبرة حقيقة لا أهل السنة. والحق مع الزمخشري في هذا الموضع إلا في غفلته حيث يقول: فيوعوع بها على أهل العدل، يعنى الآية المذكورة. وهذه سقطة عظيمة، وهب أن المجبر غلط في الاستدلال بالآية على معتقده، فكيف يستجيز أن يطلق على إيراده الآية وعوعة، وإنما تلا كتاب الله تعالى غير أن خطأه في تصحيح معتقده الباطل به. وما الزمخشري إلا يتسامح كثيرا فيما يجب من الآداب للكتاب العزيز، وإنما يليق التسامح إذا كان يفسر شعر امرئ القيس أو الحارث بن حلزة. وأما أدب القرآن فيضيق عن أسهل من ذلك، والله الموفق.
(2) . قوله «ولعل بعض المجبرة» إن كان مراده بهم أهل السنة كعادته، فهم لا يسلبون عن العبد الاستطاعة في الفعل، بل يثبتون له الكسب والاستطاعة مع الفعل، وإن كان مراده القائلين بالجبر المحض وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء فلا ضير. ونقل الخازن عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: أخبر الله تعالى أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فانه قال: ما كانوا يستطيعون السمع، وهو طاعته. وما كانوا يبصرون. وأما في الآخرة فانه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم. (ع)
(3) . قوله «فيوعوع به» في الصحاح: الوعوعة صوت الذئب. (ع)

(2/386)


مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26)

وأخبتوا إلى ربهم واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة. ومنه قولهم للشيء: الدنىء الخبيت. قال:
ينفع الطيب القليل من الرز ... ق ولا ينفع الكثير الخبيت «1»
وقيل: التاء فيه بدل من الثاء.

[سورة هود (11) : آية 24]
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24)
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع «2» وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع «3» . على أن تكون الواو في والأصم وفي والسميع لعطف الصفة على الصفة، كقوله:
الصابح فالغانم فالآيب «4»
هل يستويان يعنى الفريقين مثلا تشبيها.

[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26]
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26)
أى أرسلنا نوحا بأنى لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبسا بهذا الكلام، وهو قوله إني لكم نذير مبين بالكسر، فلما اتصل به الجار فتح كما فتح في كأن والمعنى على الكسر،
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 543 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قال محمود: «شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع إلى قوله أن تكون الواو ... الخ» قال أحمد: بخلافها على الوجه الأول، فإنها لعطف الموصوف على الموصوف. وأما تنظيره الآية بتشبيه امرئ القيس في كونه شبه تشبيهين اثنين ففيه نظر. فان امرأ القيس شبه كل واحد من الرطب واليابس تشبيها واحدا، والآية على التفسير الأول شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين، وإنما ينظر ببيت امرئ القيس على الوجه الثاني، فان مقتضاه أن كل واحد منهما شبه تشبيها واحدا، ولكن في صفتين متعددتين، والأمر في ذلك قريب، والله أعلم.
(3) . قوله «أو الذي جمع بين البصر والسمع» لعله: والذي. (ع)
(4) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 41 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/387)


فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27)

وهو قولك: إن زيدا كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول أن لا تعبدوا بدل من إني لكم نذير أى أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله أو تكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازى لوقوع الألم فيه. فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازى مثله، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجد جده.

[سورة هود (11) : آية 27]
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27)
الملأ الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقا له، وقد ملؤوا بالأمر، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالئون أى يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملئون القلوب هيبة والمجالس أبهة «1» أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة ما نراك إلا بشرا مثلنا تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة «2» وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشر. والأراذل جمع الأرذل، كقوله أكابر مجرميها «أحاسنكم أخلاقا» وقرئ: بادى الرأى، بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أول الرأى أو ظاهر الرأى، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أول رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أن اتباعهم لك إنما هو شيء عن لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زل عنهم
__________
(1) . قوله «والمجالس أبهة» كسكرة: عظمة. (ع)
(2) . قال محمود: «هو تعريض بأنهم كانوا أحق منه بالنبوة ... الخ» قال أحمد: ويحتمل في الوجهين أن يكون المراد أول الرأى. ولكنه ترك الهمز استثقالا، إلا أن يكون القارئ بها ياء ليس من مذهبه تسهيل الهمز، والمعنيان متقاربان، وقد زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين، أحدهما: أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة. والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه. ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية. وغرض هؤلاء أن لا يقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به، والله أعلم

(2/388)


قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28) وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) وياقوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين (31) قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32)

أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله من فضل من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوة. بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه.

[سورة هود (11) : الآيات 28 الى 32]
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28) ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين (31) قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32)
أرأيتم أخبرونى إن كنت على بينة على برهان من ربي وشاهد منه يشهد بصحة دعواي وآتاني رحمة من عنده بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوة. فإن قلت: فقوله فعميت ظاهر على الوجه الأول، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ:
فعميت بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبى: فعماها عليكم. فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأن الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت:
فما معنى قراءة أبى؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله «1» وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله أنلزمكموها وأنتم لها كارهون يعنى
__________
(1) . قوله «فخلاهم الله» لم يفسره بمعنى أخفاها، لأن الله لا يفعل الشر عند المعتزلة، وعند أهل السنة يفعل كل ممكن. (ع)

(2/389)


أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعا. ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك:
أنلزمكم إياها. ونحوه فسيكفيكهم الله ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكى عن أبى عمرو إسكان الميم. ووجهه أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكونا. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله لا أسئلكم عليه راجع إلى قوله لهم إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله. وقرئ: وما أنا بطارد الذين آمنوا، بالتنوين على الأصل. فإن قلت:
ما معنى قوله إنهم ملاقوا ربهم؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم.
أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به «1» من بناء إيمانهم على بادىء الرأى من غير نظر وتفكر.
وما على أن أشق عن قلوبهم وأ تعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون.
ونحوه ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية. أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة تجهلون تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا «2»
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم من ينصرني من الله من يمنعني من انتقامه إن طردتهم وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء أعلم الغيب معطوف على عندي خزائن الله أى لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعى فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم وما نرى لكم علينا من فضل ولا أدعى علم الغيب حتى تنسبونى إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعى وضمائر قلوبهم ولا أقول إني ملك حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيرا في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولا على هواكم إني إذا لمن الظالمين إن قلت شيئا من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه.
وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.
__________
(1) . قوله «ذلك مما تقرفونهم به» أى ترمونهم وتعيبونهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لعمرو بن كلثوم من معلقته، و «ألا» استفتاحية تفيد التوكيد- و «لا» ناهية. والنون لتوكيد النهى. أى: لا يسفهن أحد علينا ويبدأنا بالشر، ونجهل: نصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنه بعد النهى. وسمى جزاء الجهل جهلا مشاكلة، أى: فنجازيه فوق فعله بنا، أو فوق جهل كل جاهل وزيادة عليه.

(2/390)


قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون (35)

جادلتنا فأكثرت جدالنا معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك:
جاد فلان فأكثر وأطاب فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل.

[سورة هود (11) : الآيات 33 الى 35]
قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون (35)
إنما يأتيكم به الله أى ليس الإتيان بالعذاب إلى إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه إن شاء يعنى إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: فأكثرت جدلنا. فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ «1» قلت: قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله لا ينفعكم نصحي وهذا الدال في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إلى أحسنت إليك إن أمكننى. فإن قلت:
فما معنى قوله «2» إن كان الله يريد أن يغويكم؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالا، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوى فلطف به:
سمى إرشادا وهداية. وقيل أن يغويكم أن يهلككم من غوى الفصيل غوى، إذا بشم فهلك «3» . ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين ... الخ» قال أحمد: ونظير هذه الآية من مسائل الفقهاء قول القائل: أنت طالق إن شربت إن أكلت. وهي المترجمة بمسئلة اعتراض الشرط على الشرط.
والمنقول عن الشافعية أنها إن شربت ثم أكلت لم يحنث. وإن أكلت ثم شربت حنث. وهذا الفرق مبناه على جعل الجزاء للشرط الآخر، أى الذي يليه، ثم جعلهما معا جزاء للشرط المتوسط، ولذلك سر في العربية لا نطول بذكره وعليه أعرب الزمخشري هذه الآية كما رأيت، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «فان قلت فما معنى ... الخ» السؤال وجوابه مبنى على مذهب المعتزلة: أن الله لا يخلق الشر. أما على مذهب أهل السنة فالاغواء على ظاهره: خلق الغى- أى الضلال- في القلب. (ع)
(3) . قوله «إذا بشم فهلك» في الصحاح «البشم» التخم. يقال: بشمت من الطعام- بالكسر. وبشم الفصيل من كثرة شرب اللبن. (ع)

(2/391)


وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)

ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحى؟ فعلي إجرامي وإجرامى بلفظ المصدر والجمع، كقوله: والله يعلم إسرارهم وأسرارهم. ونحو: جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامى. والمعنى: إن صح وثبت أنى افتريته، فعلى عقوبة إجرامى أى افترائى. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عنى وتتألبوا على «1» وأنا بريء يعنى ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إلى فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.

[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 37]
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)
لن يؤمن إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع إلا من قد آمن إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها فلا تبتئس فلا تحزن حزن بائس مستكين. قال:
ما يقسم الله فاقبل غير مبتئس ... منه واقعد كريما ناعم البال «2»
والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم بأعيننا في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظا، وحقيقته: ملتبسا بأعيننا، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه «3» وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا: وأنا نوحى إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضى الله عنه:
لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر ولا تخاطبني في الذين ظلموا ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إنهم مغرقون إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضى به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله:
__________
(1) . قوله «وتتألبوا على» أى تتجمعوا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . لحسان، يقال: ابتأس إذا حزن من كثرة وقوع البأس والمكاره به. والبال القلب أو الشأن. يقول:
ما يقسمه الله لك من نعمة أو نقمة فاقبله حال كونك غير متحزن منه، أى مما قسمه الله لك. واقعد كريما غير مهان طيب الحال والشأن، أو مستريح القلب من نصب الدنيا. وروى: وأقعد بقطع الهمزة، من أقعد المتعدي، فكريما حال على الأول، ومفعول على الثاني، وفيه تجريد.
(3) . قوله «وأن لا يحول بينه» لعله: وأن يحول. (ع)

(2/392)


ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39)

يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.

[سورة هود (11) : الآيات 38 الى 39]
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39)
ويصنع الفلك حكاية حال ماضية سخروا منه ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء «1» في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عز الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجارا بعد ما كنت نبيا فإنا نسخر منكم يعنى في المستقبل كما تسخرون منا الساعة، أى: نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وروى أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط:
الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل: إن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال:
فضرب الكثيب «2» بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: هكذا أهلكت؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير.
ثم قال له: عد بإذن الله كما كنت، فعاد ترابا من يأتيه في محل النصب بتعلمون. أى:
__________
(1) . قوله «برية بهماء» أى لا يهتدى فيها الطريق. ويقال: الممر أبهم، وكذا الرجل الشجاع أبهم، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «قال فضرب الكثيب» أى راوى هذه القصة، لكنه غير معلوم. (ع)

(2/393)


حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم (41)

فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعنى به إياهم، ويريد بالعذاب: عذاب الدنيا وهو الغرق ويحل عليه حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه عذاب مقيم وهو عذاب الآخرة.

[سورة هود (11) : الآيات 40 الى 41]
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم (41)
حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن قلت:
وقعت غاية لماذا؟ قلت: لقوله: ويصنع الفلك، أى: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
فإن قلت: «فإذا اتصلت «حتى» بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من يصنع، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه. فإن قلت: فما جواب كلما؟
قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل سخروا جوابا وقال استئنافا، على تقدير سؤال سائل. أو تجعل سخروا بدلا من مر أو صفةل ملأ وقال جوابا. وأهلك عطف على اثنين، وكذلك ومن آمن يعنى: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه «1» وإرادته به- تعالى الله عن ذلك- قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته إلا قليل روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» «2» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال وخمس نسوة. وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاما واحدا وكلامين، فالكلام الواحد: أن يتصل بسم الله باركبوا حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله. أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج.
ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل، أو بما فيه
__________
(1) . قوله «يختار الكفر لا لتقديره عليه» هذا على مذهب المعتزلة من عدم سبق القضاء والقدر على الشر وعدم إرادته، ولكن مذهب أهل السنة أن كل ممكن مسبوق بالقضاء والقدر والارادة ولو شرا. (ع)
(2) . لم أره مرفوعا. وذكره الطبري بإسناد عن قتادة قال: ذكر لنا أن لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وبنوه الثلاثة ونساؤهم. فجميعهم ثمانية.

(2/394)


من إرادة القول. والكلامان: أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدإ وخبر مقتضبة، أى بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجرى قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم «1» ، كقوله:
ثم اسم السلام عليكما «2»
ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أى بقدرته وأمره. وقرئ مجراها ومرساها بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين. وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها، بلفظ اسم الفاعل، مجرورى المحل، صفتين لله. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضية؟ قلت: معناه أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضية بأن تكون في موضع الحال كقوله:
وجاؤنا بهم سكر علينا «3»
فلا تكون كلاما برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأول، وانتصاب هذه الحال عن
__________
(1) . قال محمود: «ويجوز أن يقحم الاسم ... الخ» قال أحمد: نفور من اعتقاد أن الاسم هو المسمى، ولو اعتقد ذلك لما جعله مقحما، والله أعلم.
(2) .
تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فان حان يوما أن يموت أبو كما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أهان ولا خان الأمين ولا غدر
إلى الحول تم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
للبيد بن ربيعة العامري، يوصى ابنتيه أسماء ويسرة. وتمنى: ماض، أو مضارع حذف منه إحدى التاءين، والاستفهام إنكارى وهو كناية عن تحتم الموت. ويوما: ظرف لحان. والمراد به: مطلق الزمن. وأن يموت: فاعل. وخمش وجهه خمشا: جرحه بأظفاره، أى: لا تبالغا في الجزع حتى تفعلا ذلك، ووقف على شعر منصوب بصورة المرفوع على لغة، نهاهما عن الجزع وأمرهما بعد مناقبه. وصديقه: مفعول مقدم، وإلى الحول: متعلق بقولا، ولفظ «اسم» مقحم بين ثم ولفظ السلام، لأنه أراد تحيتهما بهذا اللفظ بخصوصه وإن أفاد غيره معناه. وقيل: أقحمه إشارة إلى أنه لا أمان لهما بعد موته، وفي «ثم» إيماء إلى أنه لم يسلم الآن، وإنما ذلك بعد الحول، والمراد أنه لا يخطر ببالهما ولا يحزنا عليه بعد ذلك، فعبر عنه بسلام الموادعة الذي يلزمه الافتراق، والافتراق يلزمه عدم التذكر عادة. ويحتمل أن المراد الدلالة على أن الوصية قد تمت، ثم قال: ومن يبك مصابه حولا كاملا فقد أبلغ في العذر، كأنه يعتذر عن سكوته بأنه أدى ما عليه، أى: وأنتما كذلك.
(3) .
وجاءونا بهم سكر علينا ... فأجلى القوم والسكران صاحى
السكر والسكر: كالبعد والبعد، و «بهم سكر» جملة حالية. و «علينا» متعلق بسكر: أى جاءنا القوم غضابا علينا، فانكشفوا عن مكان الحرب ومضوا عنه. والحال أن السكران منهم مفلق من سكره. ويروى «فأجلى اليوم» أى زال ومضى، أو انكشفت ظلمة الحرب في ذلك اليوم: أى لم يلبثوا إلا هو والحال أن الذي كان سكران صاح من سكره، لعلمه أنه ليس أهلا لذلك، فأجلى هنا لازم.

(2/395)


وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)

ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير، كقوله تعالى ادخلوها بسلام آمنين. إن ربي لغفور رحيم لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.

[سورة هود (11) : الآيات 42 الى 43]
وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)
فإن قلت: بم اتصل قوله وهي تجري بهم؟ قلت: بمحذوف دل عليه اركبوا فيها بسم الله كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، وهي تجري بهم أى تجرى وهم فيها في موج كالجبال يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها. فإن قلت:
الموج: ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره «1» وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجرى في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج؟
قلت: كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء. قيل: كان اسم ابنه: كنعان. وقيل: يام. وقرأ على رضى الله عنه:
ابنها، والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن على وعروة بن الزبير: ابنه، بفتح الهاء، يريدان ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه، فقلت: إن الله حكى عنه إن ابني من أهلى، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل بقوله من أهلي ولم يقل: منى، ولنسبته إلى أمه وجهان، أحدهما: أن يكون ربيبا له، كعمر بن أبى سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام. وقرأ السدى: ونادى نوح ابناه، على الندبة والترثى. أى: قال يا ابناه. والمعزل:
مفعل، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعنى: وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: كان في معزل عن دين أبيه «يا نبى» قرئ بكسر الياء اقتصارا عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصارا عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: يا بنيا، أو سقطت
__________
(1) . قوله «عند اضطرابه وزخيره» في الصحاح «زخر الوادي» إذا امتد جدا وارتفع. ومنه يقال: بحر زاخر.

(2/396)


وقيل ياأرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44)

الياء والألف لالتقاء الساكنين، لأن الراء بعدهما ساكنة إلا من رحم إلا الراحم وهو الله تعالى «1» ، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله. أى إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما في قوله إن ربي لغفور رحيم وذلك أنه لما جعل الجبل عاصما من الماء قال له: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعنى السفينة. وقيل لا عاصم، بمعنى: لا ذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله ماء دافق وعيشة راضية وقيل: إلا من رحم استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم، كقوله ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وقرئ إلا من رحم على البناء للمفعول.

[سورة هود (11) : آية 44]
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44)
نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز «2» على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله يا أرض، ويا سماء ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله ابلعي ماءك وأقلعي من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته
__________
(1) . قال محمود: «المراد إلا الراحم وهو الله تعالى أو لا عاصم اليوم ... الخ» قال أحمد: والاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. وزاد الزمخشري خامسا، وهو لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم. والمارد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض، والله أعلم. [.....]
(2) . قال محمود: «نداء الأرض والسماء بما ينادى به العاقل ... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط في السكوت عن ذكر الموصوف اكتفاء بصفاته لانفراده بها السكوت عن ذكر الأوصاف أحيانا، اكتفاء بذكر الموصوف لتبينه بها وتوحده فيها، وأنه متى ذكر مكانها قد ذكرت بذكره في مثل قوله وهو الله في السماوات وفي الأرض الآية.
والمراد: وهو الله الموصوف بصفات الكمال المشهور بها في العالمين. ومنه:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ولقد تحيل الشعراء على التعلق بأذيال هذه المعاني اللطيفة، فقال أبو الطيب يمدح عضد الدولة:
لا تحمدنها واحمدن هماما ... إذ لم يسم حامد سواكا
يعنى لا تمنح نفسك فإنك المنفرد بالممادح، حتى إذا ذكرت ولم يسم المعنى بها لم يسبق إلى ذهن أحد غيرك لتفردك بها.

(2/397)


ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)

على الفور من غير ريث، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا إبطاء. والبلع:
عبارة عن النشف. والإقلاع: الإمساك. يقال: أقلع المطر وأقلعت الحمى وغيض الماء من غاضه إذا نقصه وقضي الأمر وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه واستوت واستقرت السفينة على الجودي وهو جبل بالموصل وقيل بعدا يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم، لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله ابلعي وأقلعي وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور. وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهرا، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروى أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد أعتقه الله من الغرق. وروى أن نوحا صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكرا لله تعالى.

[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 46]
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)
نداؤه ربه: دعاؤه له، وهو قوله رب مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله.
فإن قلت: فإذا كان النداء هو قوله رب فكيف عطف فقال رب على نادى بالفاء؟
قلت: أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب بغير فاء إن ابني من أهلي أى بعض أهلى، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله وإن وعدك الحق وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلى، فما بال ولدى؟ وأنت أحكم الحاكمين
أى أعلم الحكام وأعدلهم «1» ، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل
__________
(1) . قال محمود: «قال أى أعلم الحكام وأعدلهم، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم ... الخ» قال أحمد:
ثم حدث بعد الزمخشري ترفع عن أقضى القضاة إلى قاضى القضاة، والذي تلاحظوا به في ارتفاع هذه الثانية على الأولى:
أن الأولى تقتضي مشاركة القضاة لأقضاهم في الوصف، وأن يزاد عليهم، فترفعوا أن يشركهم أحد في وصفهم ممن دونهم في المنصب، فعدلوا عما يشاركه فيه إلى ما ليس كذلك، فأفردوا رئيسهم بتلقيبه بقاضى القضاة: أى هو الذي يقضى بين القضاة ولا يشاركهم منهم أحد في وصفه، وجعلوا الذي يليه في الرتبة أقضى القضاة إلا أنهم إنما يعنون قاضى قضاة زمانه أو إقليمه. وإذا جاز أن يطلق على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه أقضى قضاة الصحابة في زمانه كما أطلقه عليه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال «أقضاكم على» فدخل في المخاطبين القضاة وغيرهم، فلا حرج إن شاء الله أن يطلق على أعدل قضاة الزمان أو الإقليم وأعلمهم: قاضى القضاة، وأقضى القضاة، أى قضاة زمانه وبلده، وكل قرن ناجم في زمن فهو شبيه زمن فيه بدا هذا اللقب.

(2/398)


والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر. ويجوز أن يكون من الحكمة، على أن يبنى من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل إنه عمل غير صالح تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأن نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب «1» وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك- وإن كان أمس أقاربك رحما- فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملا غير صالح، مبالغة في ذمه، كقولها:
فإنما هى إقبال وإدبار «2»
وقيل: الضمير لنداء نوح، أى: إن نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك- فإن قلت:
فهلا قيل: إنه عمل فاسد «3» ؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإن هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوتك، كقوله كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقرئ: عمل غير صالح أى عمل عملا غير صالح. وقرئ:
فلا تسئلن، بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعنى فلا تلتمس منى ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. وذكر المسألة
__________
(1) . قوله «من الأباعد في المنصب» لعله تحريف، وأصله في النسب. (ع)
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 218 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قال محمود: «فهلا قيل: إنه عمل فاسد قلت لما نفاه عن أهله نفى عنه ... الخ» قال أحمد. ولهذا المعنى والله أعلم قيل له عليه الصلاة والسلام وأنذر عشيرتك الأقربين وإن كان مأمورا بالإنذار على العموم، ولكن لما كانت أهلية النبي عليه الصلاة والسلام مظنة الاتكال والفتور عن العمل، خص أهله بالإنذار إيذانا بذلك، والله أعلم. ولهذا لما نزلت أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنى لا أملك لكم من الله شيئا، أو قال ذلك ولكل واحد منهم بخصوصه.

(2/399)


قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)

دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت: لم سمى نداؤه سؤالا ولا سؤال فيه؟ قلت: قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. فإن قلت: قد وعده أن ينجى أهله، وما كان عنده «1» أن ابنه ليس منهم دينا، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمى سؤاله جهلا؟ قلت: إن الله عز وعلا قدم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.

[سورة هود (11) : آية 47]
قال رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)
أن أسئلك من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدبا بأدبك واتعاظا بموعظتك وإلا تغفر لي ما فرط منى من ذلك وترحمني بالتوبة على أكن من الخاسرين أعمالا.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت قد وعده الله أن ينجي أهله وما كان عنده ... الخ» قال أحمد: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك، وليس الأمر كما تخيله الزمخشري، ونحن نوضح الحق في الآية منزلا على نصها مع تنزيه نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد نوح أولا تنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعا على باطن أمره بل معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن، بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين، فسأل الله فيه بناء على ذلك، فتبين له أنه في علمه من المستثنين، وأنه هو لا علم له بذلك، فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إبانة عذر أولى منه أن يكون عتبا، فان نوحا عليه السلام لا يكلفه الله علما استأثر به غيبا. وأما قوله إني أعظك أن تكون من الجاهلين فالمراد منه النهى عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين. والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب، بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال، ولذلك مثل عليه الصلاة والسلام ذلك، واستعاذ بالله أن يقع منه ما نهى عنه والله أعلم.

(2/400)


قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49)

[سورة هود (11) : آية 48]
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48)
وقرئ: يا نوح اهبط، بضم الباء بسلام منا مسلما محفوظا من جهتنا أو مسلما عليك مكرما وبركات عليك ومباركا عليك، والبركات الخيرات النامية. وقرئ: وبركة، على التوحيد وعلى أمم ممن معك يحتمل أن تكون من للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم أمم، لأن الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لإبداء الغاية أى:
على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله وأمم رفع بالابتداء. وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله ممن معك يدل عليه. والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وعن كعب بن محمد القرظي:
دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر.
وعن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب.
وقيل: المراد بالأمم الممتعة: قوم هود وصالح ولوط وشعيب.

[سورة هود (11) : آية 49]
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49)
تلك إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أى تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك من قبل هذا من قبل إيحائى إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت فاصبر على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه إن العاقبة في الفوز والنصر والغلبة للمتقين. وقوله ولا قومك معناه: إن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده.

(2/401)


وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53)

[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 52]
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يا قوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52)
أخاهم واحدا منهم، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا. وهودا عطف بيان. وغيره بالرفع: صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ: غيره، بالجر صفة على اللفظ إن أنتم إلا مفترون تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأن شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع أفلا تعقلون إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، قيل استغفروا ربكم آمنوا به ثم توبوا إليه من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، والمدرار: الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة، لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حراصا عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين «1» بما أوتوا من شدة القوة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدو، مهيبين في كل ناحية. وقيل: أراد القوة في المال.
وقيل: القوة على النكاح وقيل: حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إنى رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئا لعل الله يرزقني ولدا، فقال: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته مم قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السلام ويزدكم قوة إلى قوتكم وقول نوح عليه السلام ويمددكم بأموال وبنين.
ولا تتولوا ولا تعرضوا عنى وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين مصرين على إجرامكم وآثامكم.

[سورة هود (11) : آية 53]
قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53)
__________
(1) . قوله «وكانوا مدلين» من الدل. وفي الصحاح: الدل قريب من الهدى، وهما من السكينة والوقار. (ع)

(2/402)


إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55)

ما جئتنا ببينة كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لولا أنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وما نحن لك بمؤمنين وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطا له من الإجابة.

[سورة هود (11) : الآيات 54 الى 55]
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55)
اعتراك مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أى خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين «1» . وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنونا وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنونا والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادة، وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة «2» أراد أن يطلع رأسه.
وقد دلت أجوبتهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت «3» ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه ثم اقضوا إلي ولا تنظرون أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل:
الله شهيد على أنى لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أنى لا أفعله. فإن قلت:
هلا قيل: إنى أشهد الله وأشهدكم؟ «4» قلت: لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد
__________
(1) . قوله «المبرسمين» في الصحاح «البرسام» علة معروفة. (ع)
(2) . قوله «وضب من الزندقة» في الصحاح «الضب» الحقد. والضب: واحد ضباب النخل، وهو طلعه. (ع)
(3) . قوله «لا يبالون بالبهت» رمى الشخص بما ليس فيه. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل أشهد الله وأشهدكم ... الخ» قال أحمد: وتلخيص ما قاله أن صيغة الخبر لا تحتمل سوى الاخبار بوقوع الاشهاد منه، فلما كان إشهاده لله واقعا محققا عبر عنه بصيغة الخبر، لأنه إشهاد صحيح ثابت، وعبر في جانبهم بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم وقلة المبالاة به، وهو مراده في هذا المقام معهم. ويحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة، والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما عدل إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر، التمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر، والله الموفق الصواب.

(2/403)


إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ (57)

صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد على أنى لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله مما تشركون من دونه من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أى أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطانا فكيدوني جميعا أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار، فإنى لا أبالى بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم على وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم منى إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلنى وتذهب بعقلي.

[سورة هود (11) : الآيات 56 الى 57]
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ (57)
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك إن ربي على صراط مستقيم يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به فإن تولوا فإن تتولوا. فإن قلت:
الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسالات به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول ويستخلف كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ولا تضرونه بتوليكم شيئا من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضار والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله: ويستخلف، بالجزم.
وكذلك: ولا تضروه، عطفا على محل فقد أبلغتكم والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوما غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم على كل شيء حفيظ أى رقيب عليه مهيمن، فما تخفى

(2/404)


ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ (58) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (60)

عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيبا على الأشياء كلها حافظا لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضار، لم يضر مثله مثلكم.

[سورة هود (11) : آية 58]
ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ (58)
والذين آمنوا معه قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟
قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى:
وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أن الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشد. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.

[سورة هود (11) : الآيات 59 الى 60]
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (60)
وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، لا نفرق بين أحد من رسله قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده كل جبار عنيد يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. وألا وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
فإن قلت: بعدا دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله:
إخوتى لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا «1»
__________
(1) .
إخوتى لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد يعدوا
ما أمر العيش بعدكم ... كل عيش بعدكم نكد
ليت شعري كيف شربكم ... إن شربى بعدكم ثمد
لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. وتقول العرب: بعد بالضم في ضد القرب، وبالكسر في الهلاك، ومضارع الأول مضموم، ومضارع الثاني مفتوح. وما في البيت منه. وما أمر: تعجب، وشبهت العيش وهو الحياة أو ما يعاش به بشيء مر على طريق المكنية، وإثبات المرارة تخييل، أو استعارتها للنقص على طريق التصريحية. والنكد:
العسر الضيق المنغص. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له فينقطع سريعا. ورجل مثمود، إذا كثر عليه السؤال من العلم أو المال حتى نفد ما عنده. والمعنى: أن سروري بعدكم منقطع كالماء القليل، وعبرت بذلك لمشاكلة ما قبله.
ويروى لها بعد البيت الأول:
لو تملتهم عشيرتهم ... لاقتناء العز أو ولدوا
هان من بعض الرزية أو ... هان من بعض الذي أجد
كل ما حى وإن أمروا ... وارد والحوض الذي وردوا
ومعنى تملتهم: عاشوا معهم مليا من الزمان، وأقحمت «من» مع إغباء «بعض» عنها، للدلالة على تبغيض البغض.
و «ما» مقحمة، بنى كل حى مبالغة في العموم. وأمروا بالكسر: كثروا. والحوض: تمثيل للموت.

(2/405)


وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61) قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب (62) قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63) وياقوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز (66) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (67) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68)

قوم هود عطف بيان لعاد: فإن قلت: ما الفائدة في هذا البيان «1» والبيان حاصل بدونه؟
قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما، وتجعل فيهم أمرا محققا لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأن عادا عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.

[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب (62) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65)
فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز (66) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (67) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما الفائدة في هذا البيان وجعل قوم هود عطف بيان على عاد ... الخ» قال أحمد:
فيه أيضا فائدتان جليلتان، إحداهما: النسبة بذكر هود الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه على موجب الدعاء عليهم، وكأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه، والأخرى تناسب الآي بذلك، فان قبلها واتبعوا أمر كل جبار عنيد وقبل ذلك حفيظ وغليظ، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القوافي، والله أعلم.

(2/406)


هو أنشأكم من الأرض لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب واستعمركم فيها وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبى من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. وعن معاوية بن أبى سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل:
ليس الفتى بفتي لا يستضاء به ... ولا تكون له فى الأرض آثار «1»
وقبل: استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون استعمر في معنى أعمر، كقولك استهلكه في معنى أهلكه، ومعناه: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره قريب دانى الرحمة سهل المطلب مجيب لمن دعاه وسأله فينا فيما بيننا مرجوا كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورا في الأمور ومسترشدا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. وعن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية مريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من «أراب الرجل» إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازى. قيل إن كنت على بينة من ربي بحرف الشك وكان على
__________
(1) . قوله «بفتى» خبر ليس. و «لا يستضاء به» صفته. ويجوز أنه حال من الفتى الأول، شبهه في حسن الرأى وهداية المستشير بسراج منير. ويمكن أن شبهه بكوكب في السماء، ليقابل الأرض بعده. والجامع ما مر. ويجوز أن الجامع أنه يكشف غمة الفقر، كما أن المشية به يكشف ظلمة الليل، وعلى كل حال فالاستضاءة تخييل. روى أنه قيل لمعاوية: لم أكثرت من حفر الأنهار وغرس الأشجار وإحياء القفار؟ فقال: ما حملني عليه إلا هذا البيت، فالآثار هي ما كان يفعله. ويحتمل أنها المكارم الموجبة للثناء بعد الفناء. [.....]

(2/407)


يقين أنه على بينة، لأن خطابه للجاحدين، فكأنه قال: قدروا أنى على بينة من ربى، وأنى نبى على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربى في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟ فما تزيدونني إذن حينئذ «1» غير تخسير يعنى تخسرون أعمالى وتبطلونها. أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوننى عليه غير أن أخسركم، أى أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون آية نصب على الحال قد عمل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل. فإن قلت:
فبم يتعلق لكم قلت: بآية حالا منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال عذاب قريب عاجل لا يستأجر عن مسكم لها بسوء إلا يسيرا، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم. وتسمى البلاد الديار، لأنه يدار فيها أى يتصرف. يقال: ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالى مكة:
نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت غير مكذوب غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله:
ويوم شهدناه. «2» ....
أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفى بك، فإذا وفي به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أن المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق ومن خزي يومئذ قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا «3»
__________
(1) . قوله «إذن حينئذ» لعل إحداهما مزيدة. (ع)
(2) .
ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى الطعن النهال نوافله
يقول: ورب يوم شهدنا فيه، فحذف الجار وأوصل الضمير بالفعل، فصار الفعل كأنه متعد لمفعولين: الأول الضمير، والثاني: سليما، أى قبيلتيهما «قليل» صفة ليوم. و «نوافله» فاعل به، وقلة الغنائم لأن قومه لا تراعى حيازتها. أو المعنى أن أعداءه لا ينالون من قومه إلا الطعن، تهكما بهم، فالاستثناء متصل. ويجوز أنه منقطع.
ووصف المفرد بالجمع باعتبار أنواعه أو مراته، فهو متعدد أيضا. والنهال: جمع ناهل، أى ريان أو عطشان على التشبيه هنا، فهو من الأضداد، ووصف الطعن بأنه ناهل مجاز عقلى، لأن الذي يوصف به الرمح أو الفارس.
والمعنى: أنهم يتشفون من غيظ قلوبهم بذلك الطعن.
(3) .
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت ألما أصح والشيب وازع
النابغة الذبياني، وبنى حين على الفتح لاضافته إلى مبنى، وشبه المشيب بمن يصح معه العتاب على طريق المكنية والعتاب تخييل، ويحتمل أن إيقاع العتاب على المشيب مجاز عقلى. والمعنى: عاتبت نفسي زمن الشيب على الصبا، أى الميل إلى الهوى كما يفعل الشبان. وقوله «فقلت» بيان العتاب، أى: إلى الآن لم أفق من سكرة الصبا، والحال أن الشيب زاجرا لي عن موجب العتاب، والاستفهام توبيخي: أى لا ينبغي ذلك، ووزعته فاتزع: كففته فامتنع، فالوازع الذي يصلح الصف ويمنعه عن الاعوجاج، وأوزعنى: ألهمنى ما يصلح شأنى.

(2/408)


ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71) قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب (72) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (73)

فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على نجينا، لأن تقديره ونجيناهم من خزى يومئذ، كما قال ونجيناهم من عذاب غليظ على: وكانت التنجية من خزى يومئذ، أى من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزى أعظم من خزى من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. وقرئ ألا إن ثمود ولثمود كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحى أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة.

[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73]
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71) قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب (72) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (73)
رسلنا يريد الملائكة. عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل:
جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة. وعن السدى: أحد عشر بالبشرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد سلاما سلمنا عليك سلاما سلام أمركم سلام. وقرئ: فقالوا سلما قال سلم، بمعنى السلام. وقيل: سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد:
مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت ... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح «1»
فما لبث أن جاء فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه. أو فما لبث مجيئه. والعجل: ولد البقرة، ويسعى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام
__________
(1) . لذي الرمة غيلان بن عقبة، يقول: مررنا بديار المحبوبة مى، فقلنا إيه، أى حدثى واستأنسى، فأسرنا سلم، أى سلامة وأنس، فسلمت علينا ولمعت ثناياها وغابت بسرعة، كما لمع الغمام بلمعان البرق. وغاب البرق بسرعة.
واكتل اكتلالا: لمع لمعانا واللوائح الظواهر: صفة الغمام، لتعدده معنى.

(2/409)


البقر حنيذ مشوى بالرضف «1» في أخدود. وقيل حنيذ يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقا، ويدل عليه بعجل سمين. يقال: نكره وأنكره واستنكره، ومنكور قليل في كلامهم، وكذلك: أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى:
وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا «2»
قيل: كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها «3» . وقيل: كانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر أنه أحس بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا وأوجس فأضمر «4» . وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه.
أو عرفوه بتعريف الله. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وامرأته قائمة قيل: كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد فضحكت سرورا بزوال الخيفة «5» أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد
__________
(1) . قوله «مشوى بالرضف» أى الحجارة المحماة، كما في الصحاح. (ع)
(2) . للأعشى. ويقال: أنكره ونكره: جهله ونفر منه: أى جهلتنى المحبوبة، وما كان الذي أنكرته من الحوادث إلا الشيب والصلع وهو انحسار شعر الرأس. وقيل: إن أبا عبيدة سمع بشارا ينكر نسبة هذا البيت للأعشى ويقول: إنه مصنوع عليه لا يشبه كلامه، فتعجب أبو عبيدة من فطنته، كأنه صح عنده إنكاره.
(3) . قال محمود: «قيل إنه كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها ... الخ» قال أحمد:
وقد وردت قصة إبراهيم هذه في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، وهو دال على أنه إنما أوجس منهم خيفة لعلمه أنهم ملائكة وعدم علمه فيم جاءوا. الثاني: في الحجر قوله ونبئهم عن ضيف إبراهيم إلى قوله لا توجل إنا نبشرك فلم يطمئنوا بإعلامه أنهم ملائكة، ولكن بأنهم يبشرون له، فدل على استشعارهم أنه علم كونهم ملائكة ووجل مما جاءوا فيه. الثالث: في الذاريات فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه فهو أيضا كذلك. وأما لوط فلم يشعر أنهم ملائكة حتى أعلموه بذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأول ما أعلموا به أنهم رسل، فالفرق بين هذه الآية وبين آي إبراهيم، مصداق لأن إبراهيم علم كونهم ملائكة ولوطا لم يعلم ذلك، ولا يبعد من فضل إبراهيم على لوط أن يبعد على فراسته أن يعلم أنهم ملائكة دون لوط عليهما السلام.
(4) . عاد كلامه. قال: «ومعنى أوجس أضمر وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف ... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل وهم فيه الزمخشري والله أعلم، لأنهم إنما علموا خوفه ووجله باخباره إياهم بذلك، ويدل عليه قوله تعالى في آية أخرى قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل والقصة واحدة، والله الموفق للصواب.
(5) . عاد كلامه. قال: «وضحك زوجته لأنها سرت بذهاب الخيفة ... الخ» قال أحمد: ويبعد هذا التأويل أنها قالت بعد يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب فلو كان حيضها قبل بشارتها لما تعجبت، إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة مهماز على إمكان الحمل، والله الموفق.

(2/410)


أظلهم العذاب. وقيل: كانت تقول لإبراهيم: اضمم لوطا ابن أخيك إليك فإنى أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سرورا لما أتى الأمر على ما توهمت. وقيل ضحكت فحاضت.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابى فضحكت بفتح الحاء يعقوب رفع بالابتداء، كأنه قيل:
ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أى من بعده. وقيل الوراء: ولد الولد، وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرئ يعقوب بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
... ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب «1» ...
الألف في يا ويلتى مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في «يا لهفا» و «يا عجبا» وقرأ الحسن:
يا ويلتى، بالياء على الأصل. وشيخا نصب بما دل عليه اسم الإشارة. وقرئ شيخ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هذا بعلى هو شيخ. أو بعلى: بدل من المبتدأ، وشيخ:
خبر، أو يكونان معا خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة إن هذا لشيء عجيب أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف قالوا أتعجبين من أمر الله لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها «2» ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عجب. وأمر الله: قدرته وحكمته: وقوله رحمت الله وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بنى إسرائيل، لأن الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم حميد فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده مجيد كريم كثير الإحسان إليهم. وأهل البيت: نصب على النداء أو على الاختصاص، لأن أهل البيت مدح لهم: إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 381 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «ولا يزدهيها» في الصحاح: زهاه وازدهاه: استخفه وتهاون به. (ع)

(2/411)


فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) ياإبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76)

[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 75]
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75)
الروع ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف ومليء سرورا بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: هو محذوف كما حذف قوله فلما ذهبوا به وأجمعوا وقوله يجادلنا كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت:
ثم ابتدأ فقال يجادلنا في قوم لوط وقيل في يجادلنا: هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعا لحكاية الحال: وقيل: إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما ترد «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا.
حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا.
فعند ذلك قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله. في قوم لوط في معناهم. وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وعن قتادة:
ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير «1» . وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان إن إبراهيم لحليم غير عجول على كل من أساء إليه أواه كثير التأوه من الذنوب منيب تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أن ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.

[سورة هود (11) : آية 76]
يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76)
يا إبراهيم على إرادة القول: أى قالت له الملائكة أعرض عن هذا الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه إنه قد جاء أمر ربك وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مرد له بحدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
__________
(1) . قوله «عشرة فيهم خير» لعله عشرة يصلون. (ع)

(2/412)


ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79)

[سورة هود (11) : آية 77]
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77)
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه «1» لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روى أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا:
وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال: يوم عصيب، وعصبصب، إذا كان شديدا من قولك: عصبه، إذا شده.

[سورة هود (11) : الآيات 78 الى 79]
وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79)
يهرعون يسرعون كأنما يدفعون دفعا ومن قبل كانوا يعملون السيئات ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل معناه: وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك هؤلاء بناتي أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوجوهن وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزا، كما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبى لهب وأبى العاص بن وائل قبل الوحى وهما كافران «2»
__________
(1) . قوله «وضيق ذرعه» في الصحاح: يقال ضقت بالأمر ذرعا، إذا لم تطقه ولم تقو عليه. وأصل الذرع إنما هو بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله. (ع)
(2) . قلت: قوله «أبو العاص بن وائل» غلط فاحش وإنما هو أبو العاص بن الربيع، ليس في نسبته من اسمه وائل. وكأنه انتقل ذهنه إلى العاص بن وائل السهمي والد عمرو، وليس له في هذه القضية مدخل، وأما قصة تزويج أبى العاص بن الربيع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا عتبة بن أبى لهب فذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبراني من طريقه قال: كان أبو العاص بن الربيع من رجال مكة مالا وأمانة وكانت خديجة خالته. فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بزينب وكان لا يخالفها. وذلك قبل أن ينزل عليه فلما أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة آمنت خديجة وبناته وثبت أبو العاص على شركه. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبى لهب بنته رقية. فلما دعا قريشا إلى أمرين قال بعضهم لبعض: قد فرغتم محمدا من همه ببناته. فردوهن عليه فمشوا إلى أبى العاص. فأبى عليهم. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب. ففارق رقية. وزوجوه بنت سعيد بن العاص. فتزوجها بعده عثمان بن عفان. فذكر قصة أبى العاص وأسره ببدر» وروى البيهقي في الدلائل من طريق قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنته أم كلثوم في الجاهلية عتبة ابن أبى لهب. ورقية أخاه. فلما جاء الإسلام أمر أبو لهب ولديه فطلقا البنتين. [.....]

(2/413)


قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)

وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما ابنتيه: وقرأ ابن مروان: هن أطهر لكم، بالنصب، وضعفه سيبويه وقال: احتبى ابن مروان في لحنه. وعن أبى عمرو بن العلاء: من قرأ هن أطهر بالنصب فقد تربع في لحنه، وذلك أن انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل، كقوله هذا بعلي شيخا أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر، كأنه قيل:
خذوا هؤلاء، وبناتي: بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، وهن فصل، وهذا لا يجوز لأن الفصل مختص بالوقوع بين جزأى الجملة، ولا يقع بين الحال وذى الحال، وقد خرج له وجه لا يكون هن فيه فصلا، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ وبناتي هن جملة في موضع خبر المبتدإ، كقولك: هذا أخى هو، ويكون أطهر حالا فاتقوا الله بإيثارهن عليهم ولا تخزون ولا تهينونى ولا تفضحوني، من الخزي. أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء في ضيفي في حق ضيوفى فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة أليس منكم رجل رشيد رجل واحد يهتدى إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرئ: ولا تخزون، بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهارا لشدة امتعاضه «1» مما أوردوا عليه، طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثم قالوا لقد علمت مستشهدين بعلمه ما لنا في بناتك من حق لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابرى «2» . وقيل: لما اتخذوا إتيان الذكران مذهبا ودينا لتواطؤهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأن نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا: ما لنا في بناتك من حق قط، لأن نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفى الشهوة لتعلم ما نريد عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة.

[سورة هود (11) : آية 80]
قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)
__________
(1) . قوله «لشدة امتعاضه» امتعض من الأمر: غضب منه وشق عليه، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وما هو إلا عرض سابري» عرض سابري بفتح العين: نوع من الثياب رقيق، منسوب إلى سابور من الأكاسرة، كذا بهامش. وفي الصحاح: عرضت له الشيء. أى أظهرته له وأبرزته إليه. يقال: عرضت له ثوبا مكان حقه. وفي المثل: عرض سابري، لأنه ثوب جيد يشترى بأول عرض ولا يبالغ فيه. (ع)

(2/414)


قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81)

جواب «لو» محذوف، كقوله تعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال يعنى لو أن لي بكم قوة لفعلت بكم وصنعت. يقال: مالى به قوة، وما لي به طاقة. ونحوه لا قبل لهم بها ومالى به يدان، لأنه في معنى لا اضطلع به ولا أستقل به. والمعنى لو قويت عليكم بنفسي، أو أويت إلى قوى أستند إليه وأ تمنع به فيحمينى منكم. فشبه القوى العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته، ولذلك قالت الملائكة- وقد وجدت عليه-: إن ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخى لوطا، كان يأوى إلى ركن شديد» «1» وقرئ «أو آوى» بالنصب بإضمار «أن» كأنه قيل: لو أن لي بكم قوة أو أويا، كقولها:
للبس عباءة وتقر عينى «2»
وقرئ «إلى ركن» بضمتين. وروى أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، فتسوروا الجدار.

[سورة هود (11) : آية 81]
قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81)
فلما رأت الملائكة ما لقى لوط من الكرب قالوا: يا لوط، إن ركنك لشديد إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه- وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى فطمسنا أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوما سحرة لن يصلوا إليك جملة موضحة للتي قبلها، لأنهم إذا كانوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في أثناء حديث.
(2) .
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلى من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عينى ... أحب إلى من لبس الشفوف
لميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية، ضاق صدرها من عشرة معاوية فقال: أنت اليوم في ملك لا تدرين قدره، وكنت قبله في العباءة، فقالت ذلك، أى: لبيت من الشعر تضطرب الرياح فيه، أحب إلى من قصر عال مرتفع، من أناف إنافة: ارتفع. ومن العرب من يقول: أرياح في جمع ريح، خوف الاشتباه بجمع روح، كأعياد في عيد، خوف الاشتباه بالعود. ولبس: عطف على ما قبله، ورواية «للبس» على أنه هو المبتدأ تحريف وأن كثرت. ولبس عباءة خشنة من الصوف وقرة عيني مع ذلك. وسروري، أحب إلى من لبس الشفوف وسخونة عينى وحزنى. والشفوف- جمع شف-: الرقيق من الثياب، كأنه لا يحجب ما وراءه. وشف يشف شفوفا. نحل جسمه. وشفه يشفه بالكسر شفا: نحله.

(2/415)


فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد (83)

رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره. قرئ: فأسر بالقطع والوصل. وإلا امرأتك بالرفع والنصب. وروى أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال:
أريد أسرع من ذلك. فقالوا أليس الصبح بقريب وقرئ «الصبح» بضمتين. فإن قلت:
ما وجه قراءة من قرأ إلا امرأتك بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله فأسر بأهلك والدليل عليه قراءة عبد الله: فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك. ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعنى قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد. وفي إخراجها مع أهله روايتان: روى أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: يا قوماء، فأدركها حجر فقتلها.
وروى أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.

[سورة هود (11) : الآيات 82 الى 83]
فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد (83)
جعلنا عاليها سافلها جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم من سجيل قيل هي كلمة معربة من سنككل، بدليل قوله حجارة من طين. وقيل: هي من أسجله، إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله لنرسل عليهم حجارة وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان منضود «1» نضد في السماء نضدا معدا للعذاب. وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعا مسومة معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة. وقيل عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمى به وما هي من كل ظالم ببعيد. وفيه وعيد لأهل مكة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال: يعنى ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة «2» . وقيل الضمير للقرى، أى هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم ببعيد بشيء بعيد. ويجوز أن يراد: وما هي بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.
__________
(1) . قوله «منضود» في الصحاح: نضد متاعه ينضده بالكسر نضدا، أى: وضع بعضه فوق بعض. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند.

(2/416)


وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84) وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (86)

[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86]
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (86)
إني أراكم بخير يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا يوم محيط مهلك من قوله وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. فإن قلت: النهى عن النقصان أمر بالإيفاء «1» فما فائدة قوله أوفوا؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأن في التصريح بالقبيح نعيا على المنهي وتعييرا له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحا بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيدا بالقسط: أى ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمرا بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أن الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط، لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.
البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت النهى عن النقصان أمر بالإيفاء ... الخ» قال أحمد: ولمن قال إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده أن يستدل بهذه الآية، فان الأمر لو كان عين النهى عن الضد، لكان وروده عقيبه تكرارا. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه وهم، فاعتقد أن النهى في الآية قبل الأمر، وذلك سهو وغفلة، وكل مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم: وأما قوله: إن الإيفاء حسن في العقول، فتفريع على قاعدة التحسين والتقبيح، وقد سبق بطلانها، وبينا أن التحسين والتقبيح موظفان من الشرع، ولا مجال العقل في حكم سمعي.

(2/417)


وفى كل ما باع امرؤ بخس درهم «1»
وروى: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئا، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثى في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض بقيت الله ما يبقى لكم من الحلال «2» بعد التنزه عما هو حرام عليكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس «3» والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت: لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر.
وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير «4» لكم،
__________
(1) .
أفى كل أسواق العراق إتاوة ... وما كل ما باع امرؤ مكس درهم
ألا تستحي منا ملوك وتتقى ... محارمنا لا تتقى الدم بالدم
لزهير. وقيل: لجابر بن حيي التغلبي، والاستفهام للتعجب أو للتوبيخ، والاتاوة كالكتابة: الرشوة والجعالة:
يقال: أتوته أأتوه أتوا وإتاوة: أعطيته الخراج، فهي في الأصل مصدر. والمكس: ما يأخذه العشار. ويروى «بخس درهم» أى نقص درهم» وكان أهل العراق يفعلون ذلك في أسواقهم مع العرب وغيرهم، فقال زهير: لا ينبغي ذلك. و «ألا» في الأصل مركبة من همزة الاستفهام التوبيخي ولا النافية، فصارت أداة تحضيض. ويقال: استحيا واستحى كما هنا، بنقل حركة الياء إلى الحاء وحذفها، أى: لتستح منا الملوك، وتتوقى عقوبة التعرض لمحارمنا وأموالنا، لئلا تتوقى القتل منا لهم بقتلنا لبعضهم، أى لئلا ترجع إلا بذلك، أو لئلا تتوقى أخذ الدم بدل الدم.
وروى «ألا يستحى منا المليك ويتقى» إلى آخره، وهو لغة في الملك، والمراد به ملك العراق.
(2) . قال محمود: «بقية الله ما يبقى لكم من الحلال ... الخ» قال أحمد: المنقول عن المعتزلة أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لا نهيا ولا أمرا، وقد جوز بعضهم خطابهم بالنهى. وهذه الآية تدل على أنهم مخاطبون في حال الكفر بشرط الايمان، وقد قررها الزمخشري على ذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «فان قلت بقية الله خير للكفرة لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من إقرار الزمخشري للآية على ظاهرها، ومعنى السؤال: أن الكفار إذا قدرنا خطابهم بالفروع، انتفعوا باجتناب المنهيات في الدار الآخرة، لأن ثمرة الخلاف في مسألة خطاب الكفار إنما تظهر في الدار الآخرة، وإذا كانوا ينتفعون بذلك فلا معنى لاشتراط الايمان والحال مع وجوده وعدمه في الانتفاع بالامتثال سواء. ومعنى الجواب: أن ظهور الانتفاع بالامتثال إنما يتحقق مع الايمان، وأما مع الكفر فهم مخلدون في العذاب، فإنما تظهر الفائدة على خفاء في تحقيق مأمن العذاب، والله الموفق.
(4) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يراد ما يبقى لكم من الطاعات عند الله ... الخ» قال أحمد: قد تقدم أن عقيدة أهل السنة: أن لا خالق ولا رازق إلا الله، إيمانا بقوله هل من خالق غير الله يرزقكم وإذا كان الرزق عبارة عن كل ما يقيم به الخلق بنيتهم، لزم اندراج الحرام في هذا الإطلاق عقدا وحقيقة. وأما إطلاق القول بإضافته على الخصوص إلى الله تعالى، فأمر خارج عن الاعتقاد راجع إلى الاتباع، والله الموفق.

(2/418)


قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد (87)

كقوله والباقيات الصالحات خير عند ربك وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأما الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقا «1» ، وإذا أريد بها الطاعة فكما تقول: طاعة الله. وقرئ: تقية الله، بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح وما أنا عليكم بحفيظ وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغا ومنبها على الخير وناصحا، وقد أعذرت حين أنذرت.

[سورة هود (11) : آية 87]
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤا إنك لأنت الحليم الرشيد (87)
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم أصلاتك تأمرك السخرية والهزء- والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأن يقال:
إن الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه- إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز «2» وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أن هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأن مثله لا يدعوك إليه داعى عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى تأمرك أن نترك تأمرك بتكليف أن نترك «3» ما يعبد آباؤنا لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ أصلاتك بالتوحيد. وقرأ ابن أبى عبلة: أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء، بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير.
__________
(1) . قوله «ولا يسمى رزقا» هذا مذهب المعتزلة وأما مذهب أهل السنة فالرزق ما ينتفع به ولو حراما. (ع)
(2) . قوله «مساق الطنز» في الصحاح: الطنز السخرية. وطنز يطنز فهو طناز، وأظنه مولدا أو معربا اه. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه تأمرك بتكليف أن نترك ما يعبد آباؤنا إلى قوله بتاء الخطاب فيهما» قال أحمد: فعلى هذه القراءة يكون أن نفعل معطوفا على أن نترك، وعلى المشهور: لا يجوز ذلك والله أعلم لاستحالة المعنى، فيتعين العطف فيها على ما يعبد كأنهم قالوا: أصلواتك تأمرك أن نترك عبادة آبائنا أو معبود آبائنا، على أنها مصدرية أو موصولة، ثم قالوا: أو أن نفعل، أى أو أن نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء، هذه لطيفة فتنبه لها، ولا حاجة إلى إضمار الزمخشري لمضاف تقديره: تأمرك بتكليف أن نترك، واحتجاجه لذلك بأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره إذا والمسألة فرع من فروع خلق الأفعال، ومع ذلك كله فتقدير المضاف في الآية متوجه ليس بناء على القراءة المذكورة، ولكن لأن عرف التخاطب في مثله يقتضى ذلك، والله أعلم. [.....]

(2/419)


قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (88)

وقيل: كان ينهاهم عن حذف الدراهم «1» والدنانير وتقطيمها، وأرادوا بقولهم إنك لأنت الحليم الرشيد نسبته إلى غاية السفه والغى، فعكسوا ليتهكموا به، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبض حجره «2» فيقال له: لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل: معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به.

[سورة هود (11) : آية 88]
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (88)
ورزقني منه أى من لدنه رزقا حسنا وهو ما رزقه من النبوة والحكمة. وقيل رزقا حسنا حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف. فإن قلت: أين جواب أرأيتم وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأن إثباته في القصتين دل على مكانه، ومعنى الكلام ينادى عليه. والمعنى: أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربى وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه؟
فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا. ومنه قوله تعالى وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم إن أريد إلا الإصلاح ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتى ونصيحتي وأمرى بالمعروف ونهي عن المنكر ما استطعت ظرف، أى: مدة استطاعتي «3» للإصلاح،
__________
(1) . قوله «عن حذف الدراهم» الذي في الصحاح: حذفت من شعري ومن ذنب الدابة، أى: أخذت اه (ع)
(2) . قوله «لا يبض حجره» في الصحاح: بض الماء بضيضا: سال قليلا قليلا. وفي المثل: ما يبض حجره، أى ما تندى صفاته. (ع)
(3) . قال محمود: «ما استطعت ظرف أى مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنا منه، ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو يكون مفعولا للمصدر كقوله: «ضعيف النكاية أعداءه» قال أحمد: والظاهر أنه ظرف. كهو في قوله فاتقوا الله ما استطعتم وأما جعله مفعولا للمصدر وقد عرف بالألف واللام فبعيد، لأن إعمال المصدر المعرف في المفعول الصريح ليس بذاك. قالوا: ولم يوجد في القرآن عاملا في مفعول صريح ولا في غيره إلا في قوله لا يحب الله الجهر بالسوء فأعمله في الجار والعدول عن إقفاء الاعراب إلى وجوعه وهي ممكنة عنيدة متعين خصوصا في أفصح الكلام. والله أعلم،

(2/420)


وياقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود (90)

وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهدا. أو بدل من الإصلاح، أى: المقدار الذي استطعته منه.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت.
أو مفعول له كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه «1»
أى ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم وما توفيقي إلا بالله وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما آتى وأذر، ووقوعه موافقا لرضا الله إلا بمعونته وتأييده. والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه.

[سورة هود (11) : الآيات 89 الى 90]
ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود (90)
«جرم» مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول: جرم ذنبا وكسبه، وجرمته ذنبا وكسبته إياه، قال:
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا «2»
ومنه قوله تعالى لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم أى لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب.
وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنبا، إذا جعلته جار ما له، أى كاسبا، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل: أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظا، كما إن كسبته مالا أفصح من أكسبته.
__________
(1) .
ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخى الأجل
نكأ القرح نكأ بالهمز: جرحه بعد اند ماله، ونكى العدو نكاية: قتله وجرحه. وأعداءه: مفعول النكاية. وعمل المصدر المقرون بأل كما هنا نادر. يخال: أى يظن الهرب من العدو بطيل الأجل من جبنه.
(2) .
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
لزيادة بن أسماء. ويقال: جرم ذنبا إذا اكتسبه. وجرم النخل: قطعه. وجرمته كذا: إذا أكسبته إياه او حملنه عليه. يقول: طعنت ذلك الرجل الفزاري طعنة قتلته. «جرمت فزارة» أى حق لها بعدها الغضب، أو اكتسبت فزارة بعدها الغضب فقط، واشتهر الرفع عنهم، لكن قال الجوهري «فزارة» مفعول أول، أى: أحقتهم الغضب، أو أكسبتهم إياه، أو حملتهم على أن يغضبوا بعدها، فهو على إسقاط الخافض.

(2/421)


والمراد بالفصاحة: أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالا. وقرأ أبو حيوة، ورويت عن نافع: مثل ما أصاب، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت «1»
وما قوم لوط منكم ببعيد يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت:
ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه «2» ؟ قلت: إما أن يراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما رحيم ودود عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، من الإحسان والإجمال.
__________
(1) .
ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا ... فيها فصرت إلى وجناء شملال
تعطيك مشيا وإرقالا ودأدأة ... إذا تسربلت الآكام بالآل
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة فوق غصن ذات أو قال
لأبى قيس بن رقاعة يصف ناقته. وقوله «فيها» أى في دار المحبوبة. وللوجناء: الشديدة الصلبة. والشملال:
الخفيفة السريعة. والإرقال والدأدأة: نوعان من السير، وقد شبه استتار الآكام وهي الجبال الصغيرة بالآل، وهو السراب الذي يرى في الهاجرة أبيض يشبه الماء في جريانه على وجه الأرض، بالتسربل وهو لبس السرابيل: أى الثياب على طريق التصريحية، ثم وصفها بحدة الفؤاد وهو محمود عندهم، أو بحنينها إلى وطنها، وعطفها لما سمعت صوت الحمامة. والشرب- بالكسر: - النصيب من الماء. وبالضم المصدر. والأوقال: جمع وقل كجبل وهي الحجارة، أو البقايا التي بقيت في جذع الشجرة بعد تقليم بعض أغصانها، بارزة يمكن الارتقاء عليها. يقول: لم يمنع نصيبها من الماء عنها، أو لم يمنعها من شربها الماء. ففيه قلب على الثاني وغير فاعل لأنه تضرع إليه العامل» وبنى على الفتح لاضافته إلى مبنى، واستعار النطق لتغريد الحمامة على سبيل التصريحية، وكأنها كانت داخل الغصون فسمعت الناقة صوتها ولم ترها ففزعت. أو كانت على غصن من الشجرة فكان تغريدها مطربا لذيذا، فحنت الناقة إلى وطنها. وذات أو قال: وصف لغصن، لأنه جمع غصن كما قيل في فلك، المفرد والجمع باعتبار التغير التقديري.
ويجوز أن يقرأ باضافة غصن إلى ذات، والمعنى: غصن أرض أو شجرة ذات أو قال، لكن الأول أحسن في الوزن.
وقد روى: في غصون ذات أو قال، أى: ذات قطع بارزة بعد التعليم، فتكون مشوهة المنظر توجب النفرة والوحشة، أو صاحبه أحجار، فتكون أنضر حيث ترى مخضرة وسط أرض قفرة، أو لتكون في غير محلها فتوجب حنين الناقة إلى محلها أو فزعها لغرابة ذلك. وقيل: إنه جمع «وقل» بالسكون، وهو شجر المقل. وقيل: يجوز أنه من وقل كوعد إذا صعد، أى ذات ارتفاعات.
(2) . قوله «على ما يقتضيه قوم من عمله» وذلك بأن بعامل معاملة المؤنث، نحو كذبت قوم نوح المرسلين أو معاملة جمع الذكور، نحو إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون لأن الأول مقتضى حمله على لفظه، كما سيأتى في سورة الشعراء، من أن القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة، والثاني مقتضى حمله على معناه وهو ظاهر. (ع)

(2/422)


قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (91) قال ياقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط (92) وياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب (93) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود (95)

[سورة هود (11) : الآيات 91 الى 95]
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (91) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط (92) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب (93) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود (95)
ما نفقه ما نفهم كثيرا مما تقول لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه:
ما أدرى ما تقول. أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء، وقيل: كان ألثغ فينا ضعيفا لا قوة لك ولا عز فيما بيننا «1» ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن ضعيفا مهينا. وقيل ضعيفا أعمى. وحمير تسمى المكفوف: ضعيفا، كما يسمى ضريرا، وليس بسديد، لأن فينا يأباه.
ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاما، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطا. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة.
وإنما قالوا: ولولاهم، احتراما لهم واعتدادا بهم، لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم لرجمناك لقتلناك شر قتلة وما أنت علينا بعزيز أى لا تعز علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعز علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع
__________
(1) . قال محمود: «معنى قولهم ضعيفا، أى: لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ... الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكتة الدالة على أنه كان مليا بالحذاقة في علم البيان والله المستعان.

(2/423)


في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم أرهطي أعز عليكم من الله ولو قيل: وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب.
فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله أرهطي أعز عليكم من الله قلت: تهاونهم به- وهو نبى الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله، واتخذتموه وراءكم ظهريا ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهرى: منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس:
أمسى بما تعملون محيط قد أحاط بأعمالكم علما، فلا يخفى عليه شيء منها على مكانتكم لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدرا من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها إني عامل على حسب ما يؤتينى الله من النصرة والتأييد ويمكنني من يأتيه يجوز أن تكون من استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقى الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.
فإن قلت: أى فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفى تقديرى بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه وارتقبوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إني معكم رقيب أى منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت:
قد ذكر عملهم على مكانتهم «1» وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ذكر عملهم على مكانتهم ... الخ» قال أحمد: والظاهر- والله أعلم- أن الكلامين جميعا لهم، فالأول وهو قوله من يأتيه عذاب يخزيه مضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، ويكون من باب عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد، كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وإنما يعنى المخاطب في الكلامين، فإذا ثبت صرف الكلامين إليهم لم يخل ذلك من دلالة على ذكر عاقبته هو، لأن أحد الفريقين إذا كان مبطلا فالآخر هو المحق قطعا، فذكره لإحدى العاقبتين صريحا يفهم ذكر الأخرى تعريضا:
والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح، وهذا منه، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر، استغناء عنها بذكر عاقبتهم، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة، وهي قوله تعالى قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، وكذلك قوله في سورة الأنعام قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك، كقوله والعاقبة للمتقين واستغنى عن ذكر مقابلتها، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز، وضم بعضها إلى بعض، والله الموفق للصواب.

(2/424)


ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (99)

فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال ومن هو كاذب يعنى في زعمكم ودعواكم، تجهيلا لهم. فإن قلت: ما بال ساقتى قصة «1» عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت. قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد، وذلك قوله إن موعدهم الصبح، ذلك وعد غير مكذوب فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. الجاثم: اللازم لمكانه لا يريم، كاللابد، «2» يعنى أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا «3» كأن لم يغنوا كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين. البعد: بمعنى البعد وهو الهلاك، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله كما بعدت؟ وقرأ السلمى: بعدت، بضم العين، والمعنى في البناءين واحد، وهو نقيض القرب، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا: وعد وأوعد، وقراءة السلمى جاءت على الأصل اعتبارا لمعنى البعد من غير تخصيص، كما يقال: ذهب فلان ومضى، في معنى الموت. وقيل: معناه بعدا لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.

[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (99)
__________
(1) . قوله «ساقتى قصة» في الصحاح: ساقة الجيش مؤخره اه. ومثله ساقة القصة هنا. (ع)
(2) . قوله «كاللابد» أى المتلبد اللاصق بالأرض، أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بحيث هو قعصا» في الصحاح: يقال مات فلان قعصا، إذا أصابته ضربة فمات مكانه. (ع)

(2/425)


ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (100) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)

بآياتنا وسلطان مبين فيه وجهان: أن يراد أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته، وأن يراد بالسلطان المبين: العصا، لأنها أبهرها وما أمر فرعون برشيد تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل، وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتى إلا من شيطان مارد، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتا وأفعالا، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته. والأمر الرشيد: الذي فيه رشد: أى: وما في أمره رشد إنما هو غى صريح وضلال ظاهر مكشوف، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم، لا من يضلهم ويغويهم. وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط يقدم قومه أى كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه. ويجوز أن يريد بقوله: وما أمر فرعون برشيد وما أمره بصالح حميد العاقبة. ويكون قوله يقدم قومه تفسيرا لذلك وإيضاحا. أى: كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، كما استعمل الغى في كل ما يذم ويتسخط. ويقال: قدمه بمنى تقدمه. ومنه: قادمة الرجل، كما يقال: قدمه بمعنى تقدمه. ومنه مقدمة الجيش. وأقدم بمعنى تقدم. ومنه مقدم العين. فإن قلت: هلا قيل: يقدم قومه فيوردهم؟
ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت: لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به، فكأنه قيل: يقدمهم فيوردهم النار لا محالة. والورد المورود. والمورود الذي وردوه. شبه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة، ثم قيل: بئس الورد الذي يردونه النار، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضده وأتبعوا في هذه في هذه الدنيا لعنة أى يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة بئس الرفد المرفود رفدهم. أى: بئس العون المعان. وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى.

[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 101]
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (100) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)
ذلك مبتدأ من أنباء القرى نقصه عليك خبر بعد خبر، أى: ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك منها الضمير للقرى، أى: بعضها باق وبعضها عافى الأثر،

(2/426)


وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (102) إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103)

كالزرع القائم على ساقه والذي حصد. فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما به أهلكوا فما أغنت عنهم آلهتهم فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله يدعون يعبدون وهي حكاية حال ماضية. ولما منصوب بما أغنت أمر ربك عذابه ونقمته تتبيب تخسير. يقال تب إذا خسر. وتببه غيره، إذا أوقعه في الخسران.

[سورة هود (11) : آية 102]
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (102)
محل الكاف الرفع، تقديره: ومثل ذلك الأخذ أخذ ربك والنصب فيمن قرأ:
وكذلك أخذ ربك، بلفظ الفعل. وقرئ: إذ أخذ القرى وهي ظالمة حال من القرى أليم شديد وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال.

[سورة هود (11) : آية 103]
إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103)
ذلك إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم لآية لمن خاف لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدته اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه إن في ذلك لعبرة لمن يخشى. ذلك إشارة إلى يوم القيامة، لأن عذاب الآخرة دل عليه. والناس رفع باسم المفعول «1» الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت: لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ «2» قلت: لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بد من أن يكون ميعادا
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم عدل عن الفعل إلى اسم المفعول ... الخ» قال أحمد: ولهذا السر ورد قوله تعالى إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة فاستعمل الفعل حيث يليق به، واسم المفعول حيث يحسن استعماله أيضا ... الخ.
(2) . قوله «من دلالة» عبارة النسفي: دلالته. (ع) [.....]

(2/427)


مضروبا لجمع الناس له، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضا لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، ونظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله يوم يجمعكم ليوم الجمع تعثر على صحة ما قلت لك. ومعنى يجمعون له: يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب يوم مشهود مشهود فيه، فاتسع في الظرف «1» بإجرائه مجرى المفعول به، كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا «2»
أى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بالمشهود: الذي كثر شاهدوه.
ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور. قال:
فى محفل من نواصى الناس مشهود «3»
فإن قلت: فما منعك أن تجعل اليوم مشهودا في نفسه دون أن تجعله مشهودا فيه، كما قال الله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه؟ قلت: الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام، فإن جعلته مشهودا في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها، ولكن يجعل مشهودا فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها، ولم يجز أن يكون مشهودا في نفسه، لأن سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده، وكذلك قوله:
فمن شهد منكم الشهر فليصمه الشهر منتصب ظرفا لا مفعولا به، وكذلك الضمير في فليصمه والمعنى: فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه، يعنى: فمن كان منكم مقيما حاضرا لوطنه في شهر رمضان
__________
(1) . قال محمود: «المراد مشهود فيه فاتسع في الظرف ... الخ» قال أحمد: يكون المشهود الذي هو المفعول به مسكونا عنه مبهما، ومن الإبهام ما يكون تفخيما، وهذا مكانه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
من الخصوم إذا حد الضجاج بهم ... بعد ابن سعد ومن الضمر القود
ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في محفل من نواصي القوم مشهود
فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مزؤد
لأم قيس الضبية. وضج ضجيجا وضجاجا: صاح. وضج البعير من الحمل: تعب من ثقله، والضمر بالتشديد:
جمع ضامر. وفرس أقود: طويل العنق. ورجل أقود: يقبل بوجهه ولا ينثني. والقرد: جمعه. ومشهد:
عطف على الخصوم. ويجوز جره برب، أى مجلس كفيت فيه الغائبين عنه بالتكلم عنهم بين محفل من رؤساء الناس وأشرافهم، فالنواصى: استعارة لهم. وفرجته، فككت كربته، وكشفت غمته بكلام واضح الدلالة صادر عن قلب مطمئن غير خائف عند الحفاظ، أى غيرة الخصوم ومحافظة كل منهم على رأيه أو المغاضبة. ويقال: أحفظه إحفاظا إذا أغضبه.

(2/428)


وما نؤخره إلا لأجل معدود (104) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد (105) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد (107)

فليصم فيه، ولو نصبته مفعولا فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر، لا يشهده المقيم، ويغيب عنه المسافر:

[سورة هود (11) : آية 104]
وما نؤخره إلا لأجل معدود (104)
الأجل: يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها، فيقولون: انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون: حل الأجل فإذا جاء أجلهم يراد آخر مدة التأجيل، والعد إنما هو للمدة لا لغايتها ومنتهاها، فمعنى قوله وما نؤخره إلا لأجل معدود إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ: وما يؤخره بالياء.

[سورة هود (11) : آية 105]
يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد (105)
قرئ يوم يأت بغير ياء. ونحوه قولهم: لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتى ما هو؟ قلت: الله عز وجل، كقوله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله، أو يأتي ربك، وجاء ربك وتعضده قراءة: وما يؤخره، بالياء. وقوله بإذنه ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم، كقوله تعالى أو تأتيهم الساعة. فإن قلت: بما انتصب الظرف؟ قلت: إما أن ينتصب بلا تكلم. وإما بإضمار «اذكر» وإما بالانتهاء المحذوف في قوله إلا لأجل معدود أى ينتهى الأجل يوم يأتى، فإن قلت: فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم، فقد جعلت اليوم وقتا لإتيان اليوم وحددت الشيء بنفسه قلت: المراد إتيان هو له وشدائده لا تكلم لا تتكلم، وهو نظير قوله لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن. فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقوله تعالى هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، قلت: ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها: يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم فمنهم الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا، لأن ذلك معلوم، ولأن قوله لا تكلم نفس يدل عليه، وقد مر ذكر الناس في قوله مجموع له الناس والشقي الذي وجبت له النار لإساءته، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه.

[سورة هود (11) : الآيات 106 الى 107]
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد (107)

(2/429)


قراءة العامة بفتح الشين. وعن الحسن شقوا بالضم، كما قرئ سعدوا. والزفير: إخراج النفس. والشهيق: رده. قال الشماخ:
بعيد مدى التطريب أول صوته ... زفير ويتلوه شهيق محشرج «1»
ما دامت السماوات والأرض فيه وجهان، أحدهما: أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سموات وأرضا قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله. وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم: إما سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع، كقول العرب: ما دام تعار، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فإن قلت: فما معنى الاستثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة: وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعا منهم، وهو رضوان الله، كما قال وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء. والدليل عليه قوله عطاء غير مجذوذ ومعنى قوله في مقابلته إن ربك فعال لما يريد أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطى أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمله فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة «2» . إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإن الاستثناء الثاني ينادى على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت «3»
__________
(1) . للشماخ يصف حمار وحشى. والمدى: المسافة والغاية. والتطريب: ترديد الصوت وترخيمه. والزفير:
إخراج النفس بشدة. والمحشرج اسم مفعول: الصوت الذي يردده في حلقه وصدره.
(2) . قوله «ولا يخدعنك عنه قول المجبرة» يريد أهل السنة. أما المعتزلة فيقولون: فاعل الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر وخلوده في النار أبدى، وتحقيق بطلانه في علم التوحيد. (ع)
(3) . قوله «لما روى لهم بعض النوابت» في الصحاح: إن بنى فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحداث الأعمار. (ع)

(2/430)


وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109)

عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد «1» ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، وقد بلغني أن من الضلال من اغتر بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيها على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها، وأقول:
ما كان لابن عمرو في سيفيه، ومقاتلته بهما على بن أبى طالب رضى الله عنه، ما يشغله عن عن تسيير هذا الحديث.

[سورة هود (11) : الآيات 108 الى 109]
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109)
غير مجذوذ غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، كقوله لهم أجر غير ممنون.
لما قص قصص عبدة الأوثان، وذكر ما أحل بهم من نقمه، وما أعد لهم من عذابه قال:
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء أى: فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرصهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم ووعيدا لهم ثم قال ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلن بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهى عن المرية. و «ما» في مما، وكما: يجوز أن تكون مصدرية وموصولة، أى: من عبادتهم، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان، ومثل ما يعبدون منها وإنا لموفوهم نصيبهم أى حظهم من العذاب «2» كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت:
__________
(1) . الحديث أخرجه البزار قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبى بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال «يأتى على النار زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، يعنى من الموحدين» كذا فيه ورجاله ثقات. والتفسير لا أدرى ممن هو، وهو أولى من تفسير المصنف، ويؤيده ما رواه ابن عدى عن أنس رضى الله عنه مرفوعا «ليأتين على جهنم يوم تصفق أبوابها، ما فيها من أمة محمد أحد» وفي الباب عن أبى أمامة رفعه «يأتى على جهنم يوم ما فيها من بنى آدم أحد، تخفق أبوابها، يعنى من الموحدين» وأما الحديث الذي أخرجه الحارث بن أبى أمامة في مسنده من طريق الحسن عن عمرو رفعه «إن جهنم تخلو حتى ينبت فيها الجرجير، فهو منقطع. ومراسيل الحسن عندهم واهية. لأنه كان يأخذ من كل أحد. فان كان محفوظا فعلى التأويل الأول، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «أى حظهم من العذاب، وإنما نصب غير منقوص حالا من النصيب الموفى، لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وحقه كاملا» قال أحمد: وهم والله أعلم، فان التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصا، فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصانه، فما وجه انتصابه حالا عنه؟ والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء، كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ. ومن قال:
أعطيت فلانا حقه. كان جديرا أن يؤكده بقوله «غير منقوص» والله أعلم.

(2/431)


ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (110) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير (111) فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112)

كيف نصب غير منقوص حالا عن النصيب الموفى؟ قلت: يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول. وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملا وناقصا،

[سورة هود (11) : آية 110]
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (110)
فاختلف فيه آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القرآن ولولا كلمة يعنى كلمة الإنظار إلى يوم القيامة لقضي بينهم بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضا.

[سورة هود (11) : آية 111]
وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير (111)
وإن كلا التنوين عوض من المضاف إليه، يعنى: وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه ليوفينهم جواب قسم محذوف. واللام في لما موطئة للقسم، و «ما» مزيدة. والمعنى:
وإن جميعهم والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود. وقرئ:
وإن كلا بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة، اعتبارا لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبى: وإن كل لما ليوفينهم، على أن إن نافية. ولما بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها.
وإن كل إلا ليوفينهم، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لما ليوفينهم، بالتنوين، كقوله أكلا لما والمعنى: وإن كلا ملمومين، بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإن كلا جميعا، كقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون.

[سورة هود (11) : آية 112]
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112)
فاستقم كما أمرت فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق، غير عادل عنها ومن تاب معك معطوف على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى: فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك ولا تطغوا ولا تخرجوا عن حدود الله إنه بما تعملون بصير عالم فهو مجازيكم به، فاتقوه. وعن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت

(2/432)


ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)

أشد ولا أشق عليه من هذه الآية. ولهذا قال: شيبتني هود والواقعة وأخواتهما «1» . وروى أن أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب. فقال: شيبتني هود. وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: روى عنك أنك قلت: شيبتني هود. فقال: نعم. فقلت:
ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله فاستقم كما أمرت.
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه فاستقم كما أمرت قال: افتقر إلى الله بصحة العزم.

[سورة هود (11) : آية 113]
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)
قرئ: ولا تركنوا، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبى عمرو: بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم. ونحوه قراءة من قرأ فتمسكم النار بكسر التاء. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا تركنوا، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله، والنهى متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله ولا تركنوا فإن الركون هو الميل اليسير.
وقوله إلى الذين ظلموا أى إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين. وحكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشى عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم. وعن الحسن رحمه الله: جعل الله الدين بين لاءين: ولا تطغوا، ولا تركنوا ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه لتبيننه للناس ولا تكتمونه واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف
__________
(1) . وفي الترمذي من حديث شيبان عن أبى إسحاق عن عكرمه عن ابن عباس قال قال أبو بكر «يا رسول الله قد شبت، قال: قد شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون. وإذا الشمس كورت» وقال حسن غريب.
وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال: اختلف فيه على أبى إسحاق، فقال شيبان كذا. وقال على بن صالح: عن أبى إسحاق عن أبى حجية قال: وقال زكريا عن أبى إسحاق عن مسروق أن أبا بكر قال. وأطال الدارقطني في ذكر علله- واختلاف طرقه في أوائل كتاب العلل- ورواه البيهقي في الدلائل من رواية عطية بن سعيد قال قال عمر ابن الخطاب: يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب. فقال شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» وأخرجه ابن سعد وابن عدى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس. وفيه «الواقعة والقارعة وسأل وإذا الشمس كورت» .

(2/433)


وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114)

ما احتملت: أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغى بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا، حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلو، الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك «1» من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعى: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وعن محمد ابن مسلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه «2» » ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموت؟ فقال: دعه يموت.
وما لكم من دون الله من أولياء حال من قوله فتمسكم أى: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه: وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه، لا يقدر على منعكم منه غيره ثم لا تنصرون ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: معناها الاستبعاد، لأن النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.

[سورة هود (11) : آية 114]
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114)
طرفي النهار غدوة وعشية وزلفا من الليل وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه، وصلاة الغدوة: الفجر. وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشى. وصلاة الزلف: المغرب والعشاء. وانتصاب طرفى النهار على الظرف، لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار
__________
(1) . قوله «وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك» لعل هنا سقطا تقديره: في جنب ما أعطوك، وما أقل ما أصلحوا لك في جنب ما أفسدوا ... الخ. (ع)
(2) . قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله. وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.

(2/434)


وأوله وآخره، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. ونحوه وأطراف النهار وقرئ: وزلفا، بضمتين. وزلفا، بسكون اللام. وزلفى: بوزن قربى. فالزلف: جمع زلفة، كظلم في ظلمة. والزلف بالسكون: نحو بسرة وبسر. والزلف بضمتين نحو بسر في بسر. والزلفى بمعنى الزلفة، كما أن القربى بمعنى القربة: وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل: وزلفا من الليل: وقربا من الليل، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أى: أقم الصلاة طرفى النهار، وأقم زلفا من الليل، على معنى: وأقم صلاة تتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل إن الحسنات يذهبن السيئات فيه وجهان، أحدهما: أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات، وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر «1» » والثاني: إن الحسنات يذهبن السيئات، بأن يكن لطفا في تركها، كقوله إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقيل: نزلت في أبى اليسر عمرو بن غزية الأنصارى، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إن في البيت أجود من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها، فقالت له:
اتق الله، فتركها وندم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتظر أمر ربى، فلما صلى صلاة العصر نزلت، فقال: نعم، اذهب فإنها كفارة لما عملت: وروى أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال: استر على نفسك وتب إلى الله، فأتى عمر رضى الله عنه فقال له مثل ذلك، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فقال عمر: أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
توضأ وضوآ حسنا وصل ركعتين إن الحسنات يذهبن السيئات «2» ذلك إشارة إلى قوله فاستقم فما بعده ذكرى للذاكرين عظة للمتعظين.
__________
(1) . أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة رفعه «الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» .
(2) . كان في الأصل أبو اليسر عمرو بن غزية وهو غلط. وإنما هو أبو اليسر كعب بن عمرو. وكذا هو في كتب أسماء الصحابة. وإنما تبع المصنف الثعلبي فانه قال كذلك نزلت في عمرو بن غزية الأنصارى. والحديث عند الترمذي والنسائي والبزار والطبراني والطبري من رواية عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة بن أبى اليسر ابن عمرو قال: أتتنى امرأة تبتاع تمرا- فقلت لها: في البيت تمر أطيب من هذا فدخلت معى في البيت. فأهويت إليها فقبلتها. فقالت: اتق الله. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له: فقال استر على نفسك وتب. فأتيت عمر فقال مثل ذلك. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأطرق طويلا حتى أوحى إليه أقم الصلاة ... الآية قال ابن أبى اليسر: أتيته فقرأها على. فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة.
وفي رواية لأحمد فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أله وحده أم للناس كافة؟» وللدارقطنى والحاكم والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ أنه كان قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يأتيه الرجل من امرأته إلا أصاب منها غير أنه لم يجامعها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وضوآ حسنا ثم صل. فأنزل الله تعالى الآية. فقال معاذ: أهى له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها دون أن أمسها وأنا هذا فاقض فى ما شئت.
فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. فدعاء فتلا عليه أقم الصلاة طرفي النهار ... الآية فقال رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة أم للناس؟ فقال: بل للناس كافة» .

(2/435)


واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (115) فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116)

[سورة هود (11) : آية 115]
واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (115)
ثم كر إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله، كأنه قال: وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، فلا يتم شيء منه إلا به فإن الله لا يضيع أجر المحسنين جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.

[سورة هود (11) : آية 116]
فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116)
فلولا كان من القرون فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل: كل «لولا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء، ولولا رجال مؤمنون، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم.
أولوا بقية أو لو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأن الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال: فلان من بقية القوم، أى من خيارهم.
وبه فسر بيت الحماسة:
إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم «1»
__________
(1) .
يا أيها الراكب المزجى مطيته ... سائل بنى أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إنى أنا الموت
إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم ... فما على بذنب عندكم فوت
لروشيد بن كثير الطائي. وزجاه- بالتخفيف والتشديد- وأزجاه: ساقه. وأراد بالصوت: الصيحة أو القصة التي بلغته عنه، وأخبر عن نفسه بالموت مبالغة. وبقية القوم: خيارهم، وتأتى مصدرا بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى. والمعنى على الأول. إن تذنبوا ثم يأتينى أماثلكم يعتذرون عنكم فلا فوت، ولا بأس على بسبب ذنب غيركم. وعلى الثاني: ثم يأتينى منكم ذو الإبقاء على أنفسهم، يقولون: لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فكذلك.
ويجوز أن المعنى: إن تجتمعوا على للمحاربة أو للاعتذار، فلا تفوتني مؤاخذتكم بل لا بد منها. وإثبات الياء في «يأتينى» للإشباع، لكن الأخير غير مناسب لقوله «بادروا بالعذر» . [.....]

(2/436)


ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى، أى: فهلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه.
وقرئ: أولو بقية، بوزن لقية، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه: «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» » والبقية المرة من مصدره. والمعنى: فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم إلا قليلا استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهى. ومن في ممن أنجينا حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله تعالى أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا. فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام، كان المعنى فاسدا، لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية على النهى عن الفساد، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول:
هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا، وكان انتصابه على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه أراد بالذين ظلموا: تاركي النهى عن المنكرات، أى: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرياسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، واتبع الذين ظلموا، يعنى: واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة: أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قوى لتقدم الإنجاء، كأنه قيل: إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت: علام عطف قوله واتبع الذين ظلموا؟ قلت: إن كان معناه: واتبعوا الشهوات، كان معطوفا على مضمر، لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت: فقوله وكانوا مجرمين؟ قلت: على أترفوا أى: اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام
__________
(1) . أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل قال «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة، فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج ... الحديث» .

(2/437)


وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتظروا إنا منتظرون (122)

إغفالهم للشكر. أو على اتبعوا، أى اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون.

[سورة هود (11) : آية 117]
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117)
كان بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. وبظلم حال من الفاعل. والمعنى:
واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل: الظلم الشرك، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر.

[سورة هود (11) : الآيات 118 الى 119]
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمة واحدة أى ملة واحدة وهي ملة الإسلام، كقوله إن هذه أمتكم أمة واحدة وهذا الكلام يتضمن نفى الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك قال ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه ولذلك خلقهم ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأول وتضمنه، يعنى: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره وتمت كلمة ربك وهي قوله للملائكة لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين لعلمه بكثرة من يختار الباطل.

[سورة هود (11) : الآيات 120 الى 122]
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتظروا إنا منتظرون (122)
وكلا التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ نقص عليك ومن أنباء الرسل بيان لكل. ما نثبت به فؤادك بدل من كلا. ويجوز أن يكون المعنى: كل واقتصاص

(2/438)


ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)

نقص عليك، على معنى: وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك، يعنى: على الأساليب المختلفة، وما نثبت به مفعول نقص. ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم وجاءك في هذه الحق أى في هذه السورة.
أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون من أهل مكة وغيرهم اعملوا على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها إنا عاملون وانتظروا بنا الدوائر إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.

[سورة هود (11) : آية 123]
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)
ولله غيب السماوات والأرض لا تخفى عليه خافية مما يجرى فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم وإليه يرجع الأمر كله فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم فاعبده وتوكل عليه فإنه كافيك وكافلك وما ربك بغافل عما يعملون وقرئ: تعملون، بالتاء:
أى أنت وهم على تغليب المخاطب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح ومن كذب به، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك «1»
__________
(1) . تقدم إسناده في آل عمران ويأتى في آخر الكتاب.

(2/439)


الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)

سورة يوسف
(مكية [إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية] وهي مائة وإحدى عشرة آية [نزلت بعد سورة هود] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)
تلك إشارة إلى آيات السورة. والكتاب المبين السورة، أى تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم. أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روى أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف أنزلناه أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآنا عربيا وسمى بعض القرآن قرآنا، لأن القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه لعلكم تعقلون إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته. القصص على وجهين: يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص، تقول: قص الحديث يقصه قصصا، كقولك:
شله يشله شللا، إذا طرده. ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصيد.
وإن أريد المصدر، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن أى بإيحائنا إليك هذه السورة، على أن يكون أحسن منصوبا نصب المصدر، لإضافته إليه، ويكون المقصوص محذوفا، لأن قوله بما أوحينا إليك هذا القرآن مغن عنه. ويجوز أن

(2/440)


إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4)

ينتصب هذا القرآن بنقص، كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك. والمراد بأحسن الاقتصاص: أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن. وإن أريد بالقصص المقصوص، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها «1» والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، كما يقال في الرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه. فإن قلت: مم اشتقاق القصص؟ قلت: من قص أثره إذا اتبعه، لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، كما يقال: تلا القرآن، إذا قرأه، لأنه يتلو أى يتبع ما حفظ منه آية بعد آية وإن كنت إن مخففة من الثقيلة. واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية. والضمير في قبله راجع إلى قوله: ما أوحينا. والمعنى: وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أى: من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.

[سورة يوسف (12) : آية 4]
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4)
إذ قال يوسف بدل من أحسن القصص، وهو من بدل الاشتمال، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قص وقته فقد قص. أو بإضمار «اذكر» ويوسف اسم عبراني، وقيل عربى وليس بصحيح، لأنه لو كان عربيا لا نصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف. فإن قلت: فما تقول فيمن قرأ «يوسف» بكسر السين، أو «يوسف» بفتحها، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربى» لأنه على وزن المضارع المبنى للفاعل أو المفعول من آسف. وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت: لا، لأن القراءة المشهورة قامت بالشهادة، على أن الكلمة أعجمية، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى، ونحو يوسف:
يونس، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربى لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا قيل: من الكريم؟ فقولوا: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم «2» » يا أبت
__________
(1) . قوله «ليست في غيرها» لعله «في غيره» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الكريم ابن الكريم إلى آخره» وفي البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكريم بن الكريم إلى آخره» وهو في المتفق عليه عن أبى هريرة لكن بلفظ «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أى الناس أكرم؟ فقال أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: يا رسول الله ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبى الله بن نبى الله بن نبى الله بن خليل الله» .

(2/441)


قرئ بالحركات الثلاث. فإن قلت: ما هذه التاء؟ قلت: تاء تأنيث وقعت عوضا من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأن التأنيث والإضافة يتناسبان في أن كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. فإن قلت: فما هذه الكسرة؟ قلت: هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك: يا أبى، قد زحلقت إلى التاء، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحا: فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها، لأنها اسم، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرك تخفيفا، لأنها حرف لين. وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتى» لا يجوز «يا أبت» . قلت الياء والكسرة قبلها شيئان والتاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعد ذلك جمعا بين العوض والمعوض منه، فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة، لأنها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوضة لغو: وجودها كعدمها.
قلت: بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبى. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت: أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ويجوز أن يقال: حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبى» .
وأما من ضم فقد رأى اسما في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال:
«يا أبت» كما تقول «يا تبة» «1» من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الاضافة. وقرئ:
__________
(1) . قوله «كما تقول يا تبة» بكسر التاء وتشديد الباء: الحالة الشديدة. وفي نسخة: يا ابنة، كذا بهامش الأصل. (ع)

(2/442)


إنى رأيت، بتحريك الياء. وأحد عشر: بسكون العين، تخفيفا لتوالى المتحركات فيما هو في حتم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثنى عشر، لئلا يلتقى ساكنا، ورأيت من الرؤيا، لا من الرؤية، لأن ما ذكره معلوم أنه منام، لأن الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت: ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت: روى جابر أن يهوديا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرنى عن النجوم التي رآهن يوسف، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم» ؟ قال: نعم. قال: «جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ. ووثاب، وذو الكتفين.
رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له «1» » فقال. اليهودي: إي والله، إنها لأسماؤها. وقيل: الشمس والقمر أبواه. وقيل: أبوه وخالته: والكواكب. إخوته. وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتى عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل:
كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بيانا لفضلهما واستبدادهما بالمزية على عيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. فإن قلت: ما معنى تكرار رأيت «2» قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف
__________
(1) . أخرجه الحاكم من طريق أسباط عن السدى عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال «جاء بستان اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، هل تعرف النجوم التي رآها يوسف فسجدن له؟ فسكت الحديث» ولم يذكر فيهن الشمس والقمر وقال: رآها يوسف محيطة بأكتاف السماء ساجدة له، وزاد: فقصها على أبيه فقال له:
إن هذا أمر قد تشتت وسيجمعه الله بعد» رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل والطبراني وأبو حاتم في رواية الحاكم بن زهير عن السدى نحوه، وذكره العقيلي من حديثه وقال: لا يثبت. وقال البزار: لا نعلم له طريقا إلا هكذا. والحاكم ليس بقوى، وكذا قال البيهقي: إن الحاكم تفرد به. وغفل عن طريق شيخ الحاكم وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وأعله بالحاكم. وطريق الحاكم يدفع على الحكم وذكر ابن أبى حاتم في العلل عن أبى زرعة أنه قال: حديث منكر.
(2) . قال محمود: «إن قلت ما معنى تكرار رأيت ... الخ» قال أحمد: وأحسن من ذلك أن الكلام طال بين الفعل. الحال، فطري ذكر الفعل لمناسبة الحال وهي المقصودة، إذ الآية في السجود كانت، والله أعلم.

(2/443)


قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (6)

على تقدير سؤال وقع جوابا له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله إني رأيت أحد عشر كوكبا كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال رأيتهم لي ساجدين. فإن قلت. فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 5 الى 6]
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (6)
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغا من الحكمة، ويصطفيه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم.
والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفى التأنيث كما قيل: القربة والقربى. وقرئ: روياك، بقلب الهمزة واوا. وسمع الكسائي: رياك ورياك، بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة، لأن الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار، و «اتجر» من الأجر فيكيدوا منصوب بإضمار «أن» والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك: فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك، كما قيل: فكيدوني؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر عدو مبين ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شر، ليورط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله وكذلك ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربك يعنى وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام.
وقوله ويعلمك كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. والاجتباء. الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض: جمعته. والأحاديث: الرؤيا: لأن الرؤيا إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وتأويلها. عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم

(2/444)


لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7)

عبارة لها. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث، لأنه يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون، الله نزل أحسن الحديث وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل: أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد.
وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل:
علم يعقوب أن يوسف يكون نبيا وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال وعلى آل يعقوب وقيل: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضى أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه. وقيل: كان يعقوب مؤثرا له بزيادة المحبة والشفقة لصغره، ولما يرى فيه من المخايل. وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل: لما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل. وآل يعقوب: أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل آل:
أهل، بدليل تصغيره على أهيل، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال: آل النبي، وآل الملك. ولا يقال: آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. وأراد بالأبوين: الجد، وأبا الجد، لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون: ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدة. وإبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك إن ربك عليم يعلم من يحق له الاجتباء حكيم لا يتم نعمته إلا على من يستحقها.

[سورة يوسف (12) : آية 7]
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7)
في يوسف وإخوته أى في قصتهم وحديثهم آيات علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء للسائلين لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب.
وقرئ: آية، وفي بعض المصاحف: عبرة. وقيل: إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغى إخوته عليه، لما رأى من بغى قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم:
يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر:
السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين: زلفة، وبلهة:

(2/445)


إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8) اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9)

فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف.

[سورة يوسف (12) : آية 8]
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8)
ليوسف اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابت «1» لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جميعا إخوته، لأن أمهما كانت واحدة. وقيل أحب في الاثنين، لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من» ولا بد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في ونحن عصبة واو الحال. يعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما إن أبانا لفي ضلال مبين أى في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة: العشرة فصاعدا. وقيل: إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن على رضى الله عنه: ونحن عصبة، بالنصب. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنبارى هذا كما تقول العرب، إنما العامري عمته، أى يتعهد عمته.

[سورة يوسف (12) : آية 9]
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9)
__________
(1) . قال محمود: «اللام للتوكيد، دخلت للاشعار بأن زيادة محبة أبيهم لهما أمر ثابت ... الخ» قال أحمد:
وهذه تؤيد قراءة ابن مروان هؤلاء بناتي هن أطهر لكم بالنصب. وقد قال سيبويه فيها: احتبى ابن مروان في لحنه، أى تمكن. وحيث تأيدت بقراءة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فلا بد من التماس المحمل الصحيح لها وليس ذلك ببعيد إن شاء الله فنقول: لو قالوا «ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن نحن» على طريقة:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ونحو: أنا أنا وأنت أنت. لم يكن في فصاحته مقال: وقد علمت أن معنى أنا أنا: أى أنا الموصوف بالأوصاف الشهيرة التي استغنى عن ذكرها، فلا بعد والحالة هذه في حذف الخبر، لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا، وراحة من تكرار اللفظ بعينه، والسياق يرشد إلى المحذوف، وإذا كان كذلك فقول القائلين ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن معناه: ونحن نحن، ولكن استغنوا عن الخبر للسر الذي ذكرناه، فقولهم: نحن كلام تام بالتقدير بالمذكور، فلا غرو في وقوع الحال بعده، وهذا بعينه يجرى في قوله هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فقوله هن في حكم الكلام التام. والمراد: هؤلاء بناتي هن المشهورات بالأوصاف الحميدة الظاهرة. وأصل الكلام: هن هن، فوقع الحال بعد التمام، والله أعلم.

(2/446)


قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين (10)

اقتلوا يوسف من جملة ما حكى بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال لا تقتلوا يوسف وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين أرضا أرضا منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة يخل لكم وجه أبيكم يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى ويبقى وجه ربك وقيل يخل لكم يفرغ لكم من الشغل بيوسف من بعده من بعد يوسف، أى من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا قوما صالحين تائبين إلى الله مما جنيتم عليه.
أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلو وجه أبيكم. وتكونوا إما مجزوم عطفا على يخل لكم أو منصوب بإضمار «أن والواو» بمعنى مع، كقوله وتكتموا الحق.

[سورة يوسف (12) : آية 10]
قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين (10)
قائل منهم هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال، فلن أبرح الأرض.
قال لهم: القتل عظيم ألقوه في غيابت الجب وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل:
وإن أنا يوما غيبتنى غيابتى ... فسيروا بسيرى فى العشيرة والأهل «1»
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرئ غيابات، على الجمع. وغيابات، بالتشديد. وقرأ الجحدري: غيبة. والجب: البئر لم تطو، لأن الأرض تجب جبا لا غير يلتقطه يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرئ: تلتقطه. بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة سيارة، كقوله:
كما شرقت صدر القناة من الدم «2»
__________
(1) . للمنخل. والغيابة: ما غاب عن الناظر من أسفل البئر ونحوه. يقول: وإن غيبتني مقبرتى، كناية عن موته، فسيروا بسيرى، أى فانعونى وسيروا بذكر خصالى، على عادة العرب إذا مات منها رئيس. ويحتمل أنه يوصى أقاربه بالخير، وأنهم يسيرون بمثل سيره، ويفعلون كفعله في جيرانه وقرابته.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/447)


قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)

ومنه: ذهبت بعض أصابعه إن كنتم فاعلين إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأى.

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 12]
قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12)
ما لك لا تأمنا قرئ بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و: تيمنا: بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة «1» وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه يرتع نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. وقرئ: نرتع، من ارتعى يرتعى. وقرئ: يرتع ويلعب، بالياء، ويرتع، من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة:
يرتع بكسر العين، ويلعب، بالرفع على الابتداء. فإن قلت: كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت: كان لعبهم الاستباق والانتضال، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدو لا للهو، بدليل قوله إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعبا لأنه في صورته.

[سورة يوسف (12) : آية 13]
قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)
ليحزنني اللام لام الابتداء، كقوله إن ربك ليحكم بينهم ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه «2» برعيهم ولعبهم، أو قل به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم: «البلاء موكل بالمنطق» . وقرئ الذئب بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من «تذاءبت الريح» إذا أتت من كل جهة.
__________
(1) . قوله «ما يدل على خلاف النصيحة والمقة» أى المحبة. وقد ومقه يمقه، بالكسر فيهما: أى أحبه، فهو وامق، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «اعتذر لهم بأمرين: أحدهما حزنه لمفارقته، والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه ...
الخ» قال أحمد: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل، فأمر سهل، فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه، والله أعلم.

(2/448)


قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (14) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15)

[سورة يوسف (12) : آية 14]
قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون (14)
القسم محذوف تقديره: والله لئن أكله الذئب واللام موطئة للقسم. وقوله إنا إذا لخاسرون جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط، والواو في ونحن عصبة واو الحال:
حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم- وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب- إنهم إذا لقوم خاسرون، أى هالكون ضعفا وخورا وعجزا.
أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون.
وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها. فإن قلت: قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت: هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمرين «1» فأعاروه آذانا صما ولم يعبئوا به.

[سورة يوسف (12) : آية 15]
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15)
أن يجعلوه مفعول أجمعوا من قولك: أجمع الأمر وأزمعه فأجمعوا أمركم.
وقرئ: في غيابات الجب: قيل هو بئر بيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب «لما» محذوف. ومعناه: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روى أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح: يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتمونى موثقا ألا تقتلوه فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردوا على قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكى، فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان
__________
(1) . قوله «ويذيقهم الأمرين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي، كذا بهامش. وفي الصحاح: الأمران:
الفقر والهرم. وفيه أيضا: الأمر: المصارين يجتمع فيها الفرث. قال الشاعر:
فلا تهد الأمر وما يليه ... ولا تهدن معروق العظام
وقال أبو زيد: لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي اه (ع)

(2/449)


وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16) قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)

يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وجرد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه وأوحينا إليه قيل أوحى إليه في الصغر كما أوحى إلى يحيى وعيسى: وقيل كان إذ ذاك مدركا. وعن الحسن: كان له سبع عشرة سنة لتنبئنهم بأمرهم هذا وإنما أوحى اليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أمره. ومعناه: لتتخلصن مما أنت فيه، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم: أكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بقوله وأوحينا على أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أنيس له. وقرئ: لننبئنهم، بالنون على أنه وعيد لهم. وقوله وهم لا يشعرون متعلق بأوحينا لا غير.

[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17]
وجاؤ أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)
وعن الحسن: عشيا، على تصغير عشى. يقال: لقيته عشيا وعشيانا، «1» وأصيلا وأصيلانا ورواه ابن جنى: عشى، بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء. وروى أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية، أما تراها تبكى؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة: ولا ينبغي لأحد أن يقضى إلا بما أمر أن يقضى به من السنة المرضية. وروى أنه لما سمع صوتهم «2» فزع وقال: ما لكم يا بنى؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال:
فما لكم وأين يوسف؟ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أى نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان
__________
(1) . قوله «يقال: لقيته عشيا وعشيانا» وهذا لو حذفت نونه صار عشيا، كقراءة الحسن. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «روى أنه لما سمع أصواتهم قال: يا بنى، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا.. الخ» قال أحمد: وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولا.
أكل الذئب إياه، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم وأخاف أن يأكله الذئب وكثيرا ما الأعذار الباطلة من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار.

(2/450)


وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18)

كالانتضال والتناضل: والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى. نتسابق في العدو أو في الرمي.
وجاء في التفسير: ننتضل بمؤمن لنا بمصدق لنا ولو كنا صادقين ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا، غير واثق بقولنا؟

[سورة يوسف (12) : آية 18]
وجاؤ على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18)
بدم كذب ذى كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه، والزور بذاته. ونحوه:
فهن به جود وأنتم به بخل
وقرئ، كذبا. نصبا على الحال، بمعنى: جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولا له.
وقرأت عائشة رضى الله عنها: كدب، بالدال غير المعجمة، أى كدر. وقيل: طرى، وقال ابن جنى: أصله من الكدب، وهو الفوف «1» البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزل عنهم أن يمزقوه. وروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تا لله ما رأيت كاليوم ذنبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات: كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا، ودليلا على براءة يوسف حين قد من دبر. فإن قلت: على قميصه ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت: لا، لأن حال المجرور لا تتقدم عليه سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء، أى: سهلت لكم أنفسكم أمرا عظيما ارتكبتموه من يوسف وهونته في أعينكم: استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أوحى إليه بأنهم قصدوه فصبر جميل خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا أى فأمرى صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وفي قراءة أبى: فصبرا جميلا. والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع «أنه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» «2» ألا ترى إلى قوله نما أشكوا بثي وحزني إلى الله
__________
(1) . قوله «وهو الفوف البياض» عبارة الصحاح: الفوف البياض الذي يكون في أظفار الأحداث اه، فجعل البياض خبرا عن الفوف وتفسيرا له، فلعله هنا: أى البياض. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق حيان بن أبى حثلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله فصبر جميل قال: «صبر لا شكوى فيه. من بث لم يصبر» هذا مرسل.

(2/451)


وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19) وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20)

وقيل: لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت. وقيل: سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب. خطيئة فاغفرها لي والله المستعان أى أستعينه على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.

[سورة يوسف (12) : آية 19]
وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19)
وجاءت سيارة رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحا. فعذب حين ألقى فيه يوسف فأرسلوا رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقى للقوم يا بشرى نادى البشرى، كأنه يقول: تعالى، فهذا من آونتك. وقرئ: يا بشراى، على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: يا بشرى، بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومولى. وعن نافع:
يا بشراى بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حده، إلا أن يقصد الوقف. وقيل: لما أدلى دلوه أى أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراى هذا غلام وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به وأسروه الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أن الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وبضاعة نصب على الحال، أى: أخفوه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أى قطع والله عليم بما يعملون لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.

[سورة يوسف (12) : آية 20]
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20)
وشروه وباعوه بثمن بخس مبخوس ناقص عن القيامة نقصانا ظاهرا، أو زيف

(2/452)


وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21)

ناقص العيار دراهم لا دنانير معدودة قليلة «1» تعد عدا ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقيه وهي الأربعون، ويعدون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة، لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها. وعن ابن عباس: كانت عشرين درهما. وعن السدى:
اثنين وعشرين وكانوا فيه من الزاهدين ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن «2» لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى وشروه واشتروه، يعنى الرفقة من إخوته وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا أنه آبق فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله فيه ليس من صلة الزاهدين لأن الصلة لا تتقدم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيدا من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أى شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه.

[سورة يوسف (12) : آية 21]
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21)
الذي اشتراه قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه
__________
(1) . قال محمود: «المعدودة كناية عن القليلة ... الخ» قال أحمد: ومن التعبير عن القلة بالعدد: الدعوة المأثورة على الكفرة: «اللهم أحصهم عددا، واستأصلهم بددا ولا تبق منهم أحدا» فالمدعو به وإن كان إحصاؤهم عددا في الظاهر، إلا أن هذا ليس مرادا لأن الله تعالى أحصى كل شيء عددا وأحاط به علما، فلا بد من مقصود وراء ذلك وهو لازم العدد وذلك القلة، فلما كان كل قليل معدودا وكل كثير غير معدود، دعى عليهم بالقلة وعبر عنها بلازمها وهو الإحصاء. والله أعلم.
(2) . قوله «فيبيعه بماطف من الثمن» أى قل. وفي الصحاح: الطفيف القليل. (ع)

(2/453)


ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22) وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)

مسكا وورقا وحريرا، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ أكرمي مثواه اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما، أى حسنا مرضيا، بدليل قوله إنه ربي أحسن مثواي والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في لامرأته متعلقة بقال، لا باشتراه عسى أن ينفعنا لعله إذا تدرب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيما لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر رضى الله عنهما. وروى أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه وكذلك الإشارة إلى ما تقدم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف مكنا له، أى: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين لأن غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل والله غالب على أمره على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضى. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله.

[سورة يوسف (12) : آية 22]
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22)
قيل في الأشد: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون حكما حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها وكذلك نجزي المحسنين تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

[سورة يوسف (12) : آية 23]
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)
المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أى:

(2/454)


ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)

فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها وغلقت الأبواب قيل: كانت سبعة.
وقرئ هيت بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين، وعيط. وهيت كجير وهيت كحيث. وهثت بمعنى تهيأت. يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. وهيئت لك. واللام من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان «1» كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك معاذ الله أعوذ بالله معاذا إنه إن الشأن والحديث ربي سيدي ومالكى، يريد قطفير أحسن مثواي حين قال لك أكرمى مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم.
وقيل: أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب.

[سورة يوسف (12) : آية 24]
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)
هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه. قال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله «2»
ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيدا ولا هما. أى ولا أكاد أن أفعله كيدا، ولا أهم بفعله هما، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا هم بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله ولقد همت به معناه. ولقد همت بمخالطته وهم بها وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف، لأن قوله وهم بها يدل
__________
(1) . قوله «وأما في الأصوات فللبيان» في الصحاح: هيت به وهوت به، أى صاح به ودعاه. وفيه أيضا قولهم «هيت لك» أى هلم لك وفيه. هلم يا رجل- بفتح الميم-: بمعنى تعالى. (ع)
(2) . لعمير بن ضابئ البرجمي، دخل على عثمان وهو مقتول فوطئ بطنه وكسر ضلعه وقال: عزمت على قتل عثمان ولم أقتله، وكدت أن أفعل وليتني قتلته. وكنى عن ذلك بقوله: «تركت على عثمان تبكى حلائله» وهو من باب التنازع. وأصله: تركت على عثمان حلائله تبكى فجعل حلائله فاعلا. وحذف مفعول تركت الأول لعلمه من الكلام، ولأنه فضلة وهي لا تضمر في هذا الباب. والمعنى ليتني قتلته فصيرت نساءه تبكى عليه، ودخل هذا الرجل على الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين: أنا شيخ ضعيف، وخرج اسمى في هذا البعث، فاقبل ابني بديلا عنى فقبله منه وخرج فقال عتبة بن سعيد: أيها الأمير، هذا هو الذي فعل بعثمان كذا وكذا، فقال: ردوه على، فقال له:
أيها الشيخ، هلا بعثت إلى عثمان أمير المؤمنين بديلا يوم الدار؟ إن في قتلك صلاحا، يا حرسى، اضربا عنقه.
أمير الحرسي بقتله وخاطبه خطاب المثنى على لغة الحرس الذين نسب المخاطب إليهم هذا. وقيل: إن القصة مع ضابئ نفسه، وأن عثمان كان حبسه في هجوه بنى نهشل، فلما قتل عثمان أفلت وفعل به ذلك.

(2/455)


عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت الله، معناه لولا أنى خفت الله. فإن قلت:
كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه «1» ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله وهم بها وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته «2» . كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله وهم بها داخل تحت حكم القسم في قوله ولقد همت به أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدر خروجه من حكم القسم وجعله كلاما برأسه أن يقف على قوله ولقد همت به ويبتدئ قوله وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفا يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هو الجواب مقدما؟ قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز، فإن قلت: فلم جعلت «لولا» متعلقة بهم بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله ولقد همت به وهم بها لأن الهم لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معا، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال ولقد همت به وهم بها فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير. ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها، لولا أن رأى برهان ربه، فترك التوصل إلى حظه من الشهوة، فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده، وقد فسرهم يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتا: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانيا فلم يعمل به، فسمع ثالثا: أعرض عنها، فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب
__________
(1) . قوله «وقرمه» أى شدة شهوته، أفاده الصحاح.
(2) . قوله «مشافهته» لعله: ومشابهته.

(2/456)


عاضا على أنملته. وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل:
بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين فلم ينصرف، ثم رأى فيها ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا فلم ينته، ثم رأى فيها واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام:
أدرك عبدى قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحيى منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحيى من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر «1» الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذى النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمى مخلصا، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوة والعزم، ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجده الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدى به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدى إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه بثلاث كرات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهى ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره. ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجها لقى بأدنى ما لقى به
__________
(1) . قوله مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى» يريد بهم أهل السنة، ويريد بأهل العدل المعتزلة. وبهت الشخص: نسبه إلى قبيح لم يفعله، ولولا أن ذلك دائر بين السلف لما أوردوه. (ع)

(2/457)


واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)

نبى الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرك. فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه كذلك الكاف منصوب المحل، أى مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أى الأمر مثل ذلك لنصرف عنه السوء من خيانة السيد والفحشاء من الزنا إنه من عبادنا المخلصين الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح. الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.
ويجوز أن يريد بالسوء. مقدمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله من عبادنا معناه بعض عبادنا، أى: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم إنا أخلصناهم بخالصة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 29]
واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)
واستبقا الباب وتسابقا إلى الباب على حذف الجار وإيصال الفعل، كقوله واختار موسى قومه على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت: كيف وحد الباب، وقد جمعه في قوله وغلقت الأبواب؟ قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل «1» يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب وقدت قميصه من دبر اجتذبته من خلفه فانقد، أى انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه وألفيا سيدها وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي.
وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأن ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيدا له على الحقيقة. قيل:
ألفياه مقبلا يريد أن يدخل. وقيل جالسا مع ابن عم للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك
__________
(1) . قوله «فراشة القفل» هو ما ينشب فيه. يقال أقفل فأفرش. (ع)

(2/458)


الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها «1» جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعا في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و «ما» نافية، أى: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أى شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: من في الدار إلا زيد. فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا «2» قلت:
قصدت العموم، وأن كل من أراد بأهلك سوءا فحقه أن يسجن أو يعذب، لأن ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: هي راودتني عن نفسي ولولا ذلك لكتم عليها وشهد شاهد من أهلها قيل كان ابن عم لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالسا مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» «3»
__________
(1) . قوله «إذ لم يؤاتها» في الصحاح: وتقول آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت: لم قالت ما قالت غير مصرحة بذكر يوسف ... الخ» ؟ قال أحمد: أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها: هذا أراد بى سوءا ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد، وإبعاد للتهمة عنها بتوقى ما يشعر منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال: قول ابنة شعيب تمدح موسى عليه السلام فيما حكى الله عنها قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ولم تقل: إنه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفرا، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، والله أعلم.
(3) . أخرجه الحاكم وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة والبزار وأبو يعلى. والطبري والبيهقي في السادس عشر من الشعب كلهم من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «لما أسرى بى مرت رائحة طيبة- الحديث» فيه قصة الماشطة، وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكلم في المهد أربعة، وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وفي الحاكم أيضا من رواية مسلم بن إبراهيم عن جريج بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رفعه «لم يتكلم في المهد إلا أربعة وهم صغار: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وذكره بلفظ ثلاثة. وذكر الثالث ابن المرأة التي ألقيت في النار. فخشيت على ولدها فكلمها» وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبى كان يرضع فمر رجل راكب على دابة- الحديث» اقتصر الطيبي على هذا الأخذ فلم يصب، وبهذا الاعتبار صاروا خمسة. وروى الثعلبي عن الضحاك أنهم ستة زادهم يحيى بن زكريا. [.....]

(2/459)


فإن قلت: لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ «1» قلت: لما أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمى شهادة: فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل:
وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. فإن قلت: إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدته، فمن أين دل قده من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟
قلت: من وجهين، أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه «2» . وقرئ: من قبل،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة ... الخ» ؟ قال أحمد: مهما قدره من ذلك في اتباعه لها، يحتمل مثله في اتباعها له، فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون اجتذبها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة أن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين، ثم جذبت قميصه إليها من قبل، بل هاهنا أظهر، لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع.
(2) . عاد كلامه. قال: «والثاني أن يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فينقد» قال أحمد: وهذا بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها فانقد قميصه في إسراعه للفرار، والله أعلم. فليس كلام الزمخشري في هذا الفصل بذاك. والحق- والله ولى التوفيق- أن الشاهد المذكور إن كان صبيا في المهد كما ورد في بعض الحديث، فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه، حتى لو قال: صدق يوسف وكذبت، لكفى برهانا على صدقه عليه السلام، كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تبقى المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها، لأن العمدة في الدلالة نصبها لا مناسبتها، وإن كان الشاهد بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له وإقامة الحق كما ذكر الزمخشري. فهذا والله أعلم كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف ويكذبها، ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفى عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها- والله أعلم- هو التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم فقدم قسم الكذب على قسم الصدق إزاحة التهمة التي خشي أن تنطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع. فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة. ومن ثم قال بعض الذي يعدكم ولم يقل: كل ما يعدكم تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن بخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه، والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة الآخرة فقط.
والمناسبة فيها محققة. وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم. فلم يلتمس لها مناسبة جلية صحيحة على اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قدمن قبل فهي صادقة.
لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة، فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير، فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم. وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.

(2/460)


ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبى إسحاق أنه قرأ: من قبل ومن دبر بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا «1» بسكون العين. فإن قلت: كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان» ؟ قلت: لأن المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قد، ونحوه كقولك: إن أحسنت إلى فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن على أمتن عليك فلما رأى يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها قال إنه إن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءا «2» أو إن الأمر وهو طمعها في يوسف من كيدكن الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أن النساء ألطف كيدا وأنفذ حيلة. ولهن في ذلك نيقة «3» ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى ومن شر النفاثات في العقد والقصريات من بينهن معهن ما ليس مع غيرهن من البواتق «4» وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال للنساء إن كيدكن عظيم. يوسف حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله أعرض عن هذا الأمر واكتمه ولا تحدث به واستغفري أنت لذنبك إنك كنت من الخاطئين من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال:
خطئ، إذا أذنب متعمدا، وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروى أنه كان قليل الغيرة.
__________
(1) . قوله «وقرئا» أى: قبل ودبر، وقوله «بسكون العين» : أى الباء. (ع)
(2) . قال محمود: «الضمير راجع إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ... الخ» قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكي. وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فان كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى، فكان ضعيفا بالنسبة إليه. ألا ترى أول الآية الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا وأيضا فان الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيد هن أعظم من كيده، والله أعلم.
(3) . قوله «نيقة» اسم للتأنق في الأمر. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «مع غيرهن من البوائق» أى الدواهي. أفاده الصحاح. (ع)

(2/461)


وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 32]
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)
وقال نسوة وقال جماعة من النساء وكن خمسا: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة: اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقى كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها في المدينة في مصر امرأت العزيز يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب فتاها غلامها. يقال: فتاي وفتأتي، أى غلامى وجاريتي شغفها خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب.
قال النابغة:
وقد حال هم دون ذلك والج ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع «1»
__________
(1) .
وقد حال هم دون ذلك والج ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبى قابوس في غير كنهه ... أتانى ودوني راكش فالضواجع
النابغة، يعتذر إلى النعمان ملك العرب عما قذفه به الواشون، أى وقد حال هم دون التغزل في المحبوبة وغيره من اللذات «والج» داخل مكان الشغاف. ويروى «ولوج الشغاف» أى كولوجه، والشغاف: داء في القلب جهة اليمين تخرجه الأطباء بأصابعهم، فتبتغيه الأصابع: من صفته على أنه حال منه. وقيل: حجاب القلب، أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، فتبتغيه: صفة للهم، وشبه الأصابع بمن يصح منه الطلب على طريق المكنية والابتغاء تخييل، ثم إنه شبه الهم المعقول بمحسوس وبالغ في ذلك حتى ادعى أن الأصابع تفتش عليه فلا تجده لشدة ولوجه وكمونه في القلب، أو تلمسه وتريد إخراجه. وبين الهم بقوله: وعيد النعمان أبى قابوس وتهديده حال كونه في غير كنه وحقيقته، أى: لم يبلغني بكماله. أو لأنه بلا سبب حصل منى، بل افترى الوشاة على كذبا جاءني. ودوني:
؟؟؟ أمامى هذين الموضعين وهما مسافة بعيدة، ومع ذلك أدركنى الخوف أو بعد المسافة، دلالة على غضب الملك عليه غضبا شديدا.

(2/462)


وقرئ: شعفها، بالعين، من شعف البعير إذا هنأه «1» فأحرقه بالقطران، قال:
كما شعف المهنوءة الرجل الطالى «2»
وحبا نصب على التمييز في ضلال مبين في خطإ وبعد عن طريق الصواب بمكرهن باغتيابهن وسوء قالتهن، وقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانى ومقتها، وسمى الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحالى غيبة، كما يخفى الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها أرسلت إليهن دعتهن. قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات وأعتدت لهن متكأ ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي فعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن: أن يدهشن «3» ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهن، فتضع الخناجر في أيديهن ليقطعن أيديهن، فتبكتهن بالحجة، ولنهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر، وتوهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: متكأ:
مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك «نهى أن يأكل الرجل متكئا» «4» وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل متكأ طعاما، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا «5» ، على سبيل الكناية، لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له
__________
(1) . قوله «إذا هنأه» في الصحاح «هنأت البعير» إذا طليته بالهناء. وهو القطران. (ع)
(2) .
أتقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالى
لامرئ القيس، والاستفهام للإنكار والاستبعاد، أو للتعجب. وشعف الجمل: إذا أحرقه بالقطران المغلي على النار، وهنأه: دهنه بذلك القطران، فأطلق الشعف وأريد منه مطلق الإحراق، ثم أريد منه الإحراق بالعشق مجازا مرسلا ليصح التشبيه في قوله: كما أحرق الإبل المدهونة الداهن لها. وإن كان شغفت بالغين المعجمة فالمعنى:
أصبت شغاف قلبها بالحب، وهو حجاب القلب أو لسانه أو حبة سوداء في وسطه، كما شغف: أى أخاف الإبل المدهونة وراع قلبها الرجل الداهن لها. لأنها تخافه في الأول. وقيل: شبه حبها باستلذاذ الإبل لذلك الطلى بعد دهنها به.
(3) . قوله «يدهشن» أى يتحيرن. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن ابن الزبير عن جابر قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أحدنا بشماله وبأن يأكل متكئا» وفي الطبري من حديث ابن مسعود «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين وصلاتين ولباسين ومطعمين وبيعتين» ومنكحين- إلى أن قال: وأما المطعمان فأن يأكل الرجل بشماله ويمينه صحيح. وأن يأكل متكئا، إسناده جيد. وله في الأوسط وفي مسند الشاميين من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تأكل متكئا. ولا تتخط رقاب الناس يوم الجمعة» وأعله ابن حبان في الضعفاء بزريق بن عبد الله رواية عن عمرو بن الأسود عن أبى الدرداء. وفي الباب عن ابن أبى إهاب.
أخرجه البزار بلفظ «نهى أن نأكل متكئين» .
(5) . قوله «طعمنا» لعله «أى طعمناه» . (ع)

(2/463)


تكأة يتكئ عليها. قال جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله «1»
وعن مجاهد متكأ طعاما يحز حزا، كأن المعنى يعتمد بالسكين، لأن القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. وقرئ متكا بغير همز. وعن الحسن: متكاء بالمد، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله «بمنتزاح» «2» بمعنى بمنتزح. ونحوه «ينباع» «3» بمعنى ينبع. وقرئ:
متكا وهو الأترج، وأنشد:
فأهدت متكة لبنى أبيها ... تخب بها العثمثمة الوقاح «4»
وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل: الزماورد «5» وعن وهب: أترجا وموزا وبطيخا.
وقيل: أعتدت لهن ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج: متكأ مفعلا، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ أكبرنه أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق.
قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بى إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟
فقال يوسف» فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال «كالقمر ليلة البدر «6» » وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها.
__________
(1) . لحميد بن ثور. وقيل لجميل بن معمر. وظل يظل من باب علم. يقول: فظللنا في نعمة أو ملتبسين بنعمة.
واتكأنا: أصله اوتكأنا فتاؤه الأولى واو: أى اتخذنا متكأ اضطجعنا عليه، وشربنا الشراب الحلال يمنى النبيذ، من قلله: جمع قلة، وهي الجرة العظيمة. ففي ذكر القلل دلالة على التوسع في الشرب وعدم التحجر فيه.
(2) . قوله «بمنتزاح» هو من قول الشاعر:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... وعن ذم الرجال بمنتزاح
والبيت لابن هرمة يرثى ابنه. والغوائل: الحوادث التي تغتال النفوس وتهلكها. ونزح: إذا بعد، والمنتزح:
اسم لمكان البعد، وأشبعت فتحته فتولدت منها الألف كقولهم: ينباع في ينبع، وعقراب في عقرب. [.....]
(3) . قوله «ينباع» هو من قول الشاعر:
ينباع من ذفرى أسيل حرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم
وقد مر شرح هذا البيت في سورة الأعراف بهذا الجزء صفحة 122 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . المتكة: الأترجة، وكأنه التي ذكر أبو داود في سننه أنها شقت نصفين وحملت على ناقة. والخبب:
نوع من السير. والعثمثمة: الصلبة: والوقاح- بالفتح-: شديدة وقع الخف على الأرض.
(5) . قوله «الزماورد» هو الرقاق المحشو باللحم. (ع)
(6) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى هارون العبدى عن أبى سعيد. وأخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه من هذا الوجه مطولا.

(2/464)


وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدته سارة. وقيل: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت فى الخدور العواتق «1»
قطعن أيديهن جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها حاش كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال:
حاشا أبى ثوبان إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم «2»
وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا الله» براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ:
حاشا لله، فنحو قولك: سقيا لك، كأنه قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه.
والدليل على تنزيل «حاشا» منزلة المصدر: قراءة أبى السمال: حاش لله، بالتنوين. وقراءة أبى عمرو حاش لله بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش حاش لله بحذف الألف الأولى.
وقرئ حاش لله بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حده. وقرئ: حاشا الإله. فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينون بعد إجرائه مجرى: براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى
__________
(1) . لأبى الطيب، يقول: اتق الله واستر هذا الجمال الذي في وجهك ببرقع، لأنك إن ظهرت حاضت العواتق، أى خيار النساء وهن في خدورهن، لما ينظرن من جمالك. ولاح يلوح: ظهر يظهر.
(2) .
حاشا أبى ثوبان إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم
عمرو بن عبد الله إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم
للمنقذ بن الطماح وهو الجميح الأسدى. وحاشا: كلمة تبرئة وتنزيه واقعة موقع المصدر مضافة لما بعدها، كسبحان الله. ويجوز أنها حاشا الاستثنائية، وهي حرف جر عند الأكثر. ورواه الضبي: حاشا أبا ثوبان بالنصب، فهو فعل، واحتمال لغة القصر ضعيف لشهرة لغة الاعراب بالحروف. وعلى الأول فبناؤها لمشابهتها للحرفية لفظا ومعنى.
وبكم الرجل- كتعب-: إذا عجز عن الكلام. وقدم كسهل وظرف، إذا عجز عن الحجة كأن فمه مسدود.
والضن- بالكسر-: البخل. والملحاة: مفعلة، من لحاه إذا لامه. واللحاء- كالرداء- مفاعلة من اللحن والعذل، من لحوت العود إذا قشرته. وتكرير أبى ثوبان لتعظيمه والتنويه باسمه، ليس ببكمة بالضم، أى ذى بكمة، أى:
ليس بأبكم، ولا قدم: أى عاجز عن الكلام. وعمرو: قيل إنه بدل من أبى ثوبان، فقوله: إن أبا ثوبان الخ:
جملة اعتراضية مبينة لوجه التنزيه. وفي قوله: إن به ضنا، بيان لوجه سكوته عن مؤاخذة اللئام. والمعنى: إن به امتناعا وتنزها عن اللؤم والشتم.

(2/465)


قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى «1» في قوله «غدت من عليه» منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله حاش لله ما علمنا عليه من سوء فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما هذا بشرا نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه «2» ، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة «3» المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية «4» وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى ما هن أمهاتهم ومن قرأ على سليقته من بنى تميم، قرأ «بشر» بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: ما هذا بشرى، أى ما هو بعبد مملوك لئيم إن هذا إلا ملك كريم تقول هذا بشرى، أى حاصل بشرى، بمعنى: هذا مشرى. وتقول: هذا لك بشرى أم بكرى؟
والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف، ومطابقة بشر لملك قالت فذلكن ولم تقل فهذا وهو حاضر «5» ، رفعا لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئا بحاله واستبعادا
__________
(1) . قوله «على أصله وعلى في قوله» عطفه يحتاج إلى تكلف، أى: وإلى قوله غدت من عليه بعد مأتم ظمؤها كيف ترك على في قوله. ويمكن أن التقدير: ألا ترى إلى قولهم الخ وعلى في قوله أى: وألا ترى على ... الخ. (ع)
(2) . قال محمود: «نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه ... الخ» قال أحمد: تقدم القول في مسألة التفضيل شافيا، والزمخشري لا يدعه التعصب للمعتقد الفاسد أن يحمله على مثل هذه المشافهات، يرمى بها أهل الحق فينسب إليهم الإجبار والخسار والمكابرة في الضروريات وجحد الحقائق تعكيسا، وهذا كله هم برآء منه، وحسبه من المقابلة بذلك خطؤه في اعتقاد أن تفضيل الملك عند قائله ليس ضروريا ولا عقليا نظريا، ولكن سمعيا، وقد قنع في الاستدلال على هذه العقيدة بالضرورة التي ادعى أنها مركوزة في الطباع، ثم حكم بأن كل مركوز في الطباع حق، وخصوصا والكلام في طباع النساء القائلات: ما هذا بشرا. وإذا كان كل مركوز في الطباع حقا، فما ركز فيها حب الشهوات وإيثار العاجلة وجميع أمهات. الذنوب مركوز في الطباع، أفيكون ذلك حقا إلا عند ناظر بعين الهوى، أعشى في سبيل الهدى، والله ولى التوفيق.
(3) . قوله «إلا ما عليه الفئة الخاسئة» يريد أهل السنة، وقد أساء في تعصبه للمعتزلة فعفا الله عنه. (ع)
(4) . قوله «ليس هي اللغة القدمى الحجازية» بمعنى القديمة، لكن لم يذكرها في الصحاح. (ع)
(5) . قال محمود: «لم لم تقل فهذا وهو حاضر ... الخ» قال أحمد: وبهذا أجبت عما أورده من السؤال في قوله تعالى أول البقرة الم ذلك الكتاب لما جعل الاشارة إلى الحروف المذكورة فقال: إن قلت كيف أشار إليها وهي قريبة كما يشار إلى البعيد، وأجاب هو بأن كل متقض بعيد، وأجبت أنا بأن الاشارة بذلك إلى بعيد منزلة هذا الكتاب بالنسبة إلى كتب الله تعالى.

(2/466)


قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)

لمحله. ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن: عشقت عبدها الكنعانى. تقول: هو ذلك العبد الكنعانى الذي صورتن في أنفسكن، ثم لمتنني فيه. تعنى: أنكن لم تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتننى في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأى واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهم والبرهان. فإن قلت: الضمير في آمره راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية، فيرجع إلى يوسف. ومعناه: ولئن لم يفعل أمرى إياه، أى موجب أمرى ومقتضاه. قرئ وليكونا بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34]
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)
وقرئ السجن بالفتح، على المصدر. وقال يدعونني على إسناد الدعوة إليهن جميعا، لأنهن تنصحن له وزين له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: رب نزول السجن أحب إلى من ركوب المعصية. فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحب إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحب إليه وآثر عنده نظرا في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظرا في مشتهى النفس ومكروهها وإلا تصرف عني كيدهن فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه أصب إليهن أمل إليهن. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. وقرئ: أصب إليهن، من الصبابة من الجاهلين من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأن الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدم الدعاء، لأن قوله وإلا تصرف عني

(2/467)


ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (35) ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36)

فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف السميع لدعوات الملتجئين إليه العليم بأحوالهم وما يصلحهم.

[سورة يوسف (12) : آية 35]
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (35)
بدا لهم فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: ليسجننه، والمعنى: بدا لهم بداء، أى: ظهر لهم رأى ليسجننه، والضمير في لهم للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الآيات وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب «1» وكان مطواعة لها وجميلا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أو عدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: لتسجننه، بالتاء على الخطاب: خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم حتى حين إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زمانا حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود: عتى حين، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقرأ «عتى حين» فقال: من أقرأك؟ قال:
ابن مسعود. فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.

[سورة يوسف (12) : آية 36]
ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36)
«مع» يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحبا له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له فتيان عبدان للملك: خبازه وشرابيه: رقى إليه أنهما يسمانه، «2» فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام إني أراني يعنى في المنام، وهي حكاية حال ماضية أعصر خمرا يعنى عنبا، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر- بلغة عمان-: اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود: أعصر عنبا من المحسنين من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أمى: يجيدونها، رأياه يقص عليه بعض أهل السجن
__________
(1) . قوله «وفتلها منه في الذروة» أى دورانها من وراء خديعته. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «رقى إليه أنهما يسمانه» في الصحاح: رقى إليه الكلام ترقية، أى: رفع إليه. (ع)

(2/468)


قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون (37) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38)

رؤياه فيؤولها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم.
أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روى أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا. اصبروا تؤجروا، إن لهذا لأجرا، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال، أنا يوسف ابن صفى الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكنى أحسن جوارك، فكن في أى بيوت السجن شئت. وروى أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشد كما بالله أن لا تحبانى، فو الله ما أحبنى أحد قط إلا دخل على من حبه بلاء، لقد أحبتنى عمتي فدخل على من حبها بلاء، ثم أحبنى أبى فدخل على من حبه بلاء، ثم أحبتنى زوجة صاحبي فدخل على من حبها بلاء، فلا تحبانى- بارك الله فيكما- وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي، إنى أرانى في بستان، فإذا بأصل حبلة «1» عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله نبئنا بتأويله؟ قلت: إلى ما قصا عليه. والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك.

[سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 38]
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون (37) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38)
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك «2» فوصل به وصف نفسه بما هو فوق
__________
(1) . قوله «فإذا بأصل حبلة» في الصحاح «الحبلة» بالضم: ثمر العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك والحبلة- بالتحريك-: القضيب من الكرم. وفيه أيضا: سلة الخبز معروفة. (ع) [.....]
(2) . قوله «افترص ذلك» أى اتخذه فرصة، أى نوبة وحظا ونصيبا، أفاده الصحاح. (ع)

(2/469)


ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40)

علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذى علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، فيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأن ذلك بشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ذلكما إشارة لهما إلى التأويل، أى ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مما علمني ربي وأوحى به إلى ولم أقله عن تكهن وتنجم إني تركت يجوز أن يكون كلاما مبتدأ، وأن يكون تعليلا لما قبله. أى علمني ذلك وأوحى إلى، لأنى رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة، وأن غيرهم كانوا قوما مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيها على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء. ويجوز أن يكون فيه تعريض بما منى به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأن ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبى يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله ما كان لنا ما صح لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله أى شيء كان من ملك أو جنى أو إنسى، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر، ثم قال ذلك التوحيد من فضل الله علينا وعلى الناس أى على الرسل وعلى المرسل إليهم، لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا يتنبهون. وقيل: إن ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40)

(2/470)


ياصاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان (41)

يا صاحبي السجن يريد يا صاحبي في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك: يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول رجلا صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنة أأرباب متفرقون يريد التفرق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبد كما هذا ويستعبد كما هذا خير لكما أم أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو القهار الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام ما تعبدون خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر إلا أسماء يعنى أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى سميتموها سميتم بها. يقال: سميته بزيد، وسميته زيدا ما أنزل الله بها أى بتسميتها من سلطان من حجة إن الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم الثابت الذي دلت عليه البراهين.

[سورة يوسف (12) : آية 41]
يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان (41)
أما أحدكما يريد الشرابي فيسقي ربه سيده. وقرأ عكرمة: فيسقى ربه، أى يسقى ما يروى به على البناء للمفعول. روى أنه قال للأول: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضى في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل قضي الأمر قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمر كما وشأنكما. فإن قلت: ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا من أجله، وظنا أن ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما: قضى الأمر الذي فيه تستفتيان، أى: ما يجر إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل: جحدا وقالا: ما رأينا شيئا، على ما روى

(2/471)


وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (42)

أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.

[سورة يوسف (12) : آية 42]
وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (42)
ظن أنه ناج الظان هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحى فالظان هو الشرابي، ويكون الظن بمعنى اليقين اذكرني عند ربك صنفي عند الملك بصفتى، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشنى من هذه الورطة فأنساه الشيطان فأنسى الشرابي ذكر ربه أن يذكره لربه. وقيل فأنسى يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره بضع سنين البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين. فإن قلت: كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت: يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره. وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل ما ننسخ من آية أو ننسها. فإن قلت: ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت: قد لابسه في قولك: فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأن الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير: فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار. فإن قلت: لم أنكر على يوسف الاستغاثة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وقال حكاية عن عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله وفي الحديث «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم» «1» «من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كربات الآخرة» وعن عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه «2» . وهل ذلك إلا مثل التداوى بالأدوية والتقوى بالأشربة والأطعمة. وإن كان ذلك لأن الملك كان كافرا، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضار؟
قلت: كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في أثناء حديث.
(2) . متفق عليه من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عنها بلفظ «أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابى يحرسنى الليلة. قال: وسمعت صوت السلاح فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سعد بن أبى وقاص: يا رسول الله جئت أحرسك. فقالت عائشة فنام حتى سمعت غطيطه» وغفل الحاكم فاستدركه.

(2/472)


وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)

والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلى ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصا إذا كان المعتضد به كافرا، لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا. وعن الحسن أنه كان يبكى إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.

[سورة يوسف (12) : آية 43]
وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون (43)
لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر «الريان بن الوليد» رؤيا عجيبة هالته: رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس. وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها سمان جمع سمين وسمينة، وكذلك رجال ونسوة كرام. فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للميز وهو بقرات دون المميز وهو سبع وأن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت:
إذا أوقعتها صفة لبقرات. فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا بجنسهن. ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟
قلت، التمييز موضوع لبيان الجنس، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده. فإن قلت:
فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها:
صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجر في غيرها. ألا تراك لا تقول:
عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ. فإن قلت: ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه.
ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف، لوقوع العلم بأن المراد البقرات؟ قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء بقولك سبع عجاف عما تقترحه من التمييز بالوصف. والعجف: الهزال الذي ليس بعده، والسبب في وقوع «عجاف» جمعا «لعجفاء» وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال: حمله على سمان، لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض. فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد

(2/473)


قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (44)

في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله وأخر يابسات بمعنى وسبعا أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله وأخر يابسات على سنبلات خضر فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدى إلى تدافع، وهو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضى أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزا للسبع المذكورة، ولفظ الأخر يقتضى أن تكون غير السبع، بيانه: أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود، بالجر، فيصح، لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أن بعضهم قيام وبعضهم قعود، فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود، تدافع ففسد يا أيها الملأ كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء. واللام في قوله للرءيا إما أن تكون للبيان، كقوله وكانوا فيه من الزاهدين وإما أن تدخل، لأن العامل إذا تقدم عليه معموله لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل، إذا قلت: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوة. ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه. وتعبرون خبر آخر. أو حال، وأن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره «1» . ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. وعبرت الرؤيا- بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد والتعبير والمعبر. وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا «2»

[سورة يوسف (12) : آية 44]
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (44)
أضغاث أحلام تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان.
وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات وحزم، الواحد: ضغث، فاستعيرت لذلك،
__________
(1) . قوله «آخر عرضه وهو عبره» في الصحاح: «عبر النهر، وعبر شطره وجانبه. (ع)
(2) . أنشده المبرد في كتابه. والرؤيا- بالألف: مصدر رأى المنامية، ويقل مجيئه بالتاء. ومصدر البصرية بالعكس، وعبرت الرؤيا- بالتخفيف وبالتضعيف كما هنا-: ذكرت عاقبتها وأدركت غايتها كأولتها، إذا ذكرت مآلها ومرجعها. والأحلام: جمع حلم بالضم، وهو ما يراه النائم. والعبار: مبالغة في المعبر أو في العابر، واللام تزاد في المعمول لتقوية العامل إذا ضعف بالتأخر، أو بكونه فرعا عن الفعل، وقد اجتمع الأمران هاهنا فزيدت اللام.

(2/474)


وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45)

والإضافة بمعنى «من» أى أضغاث من أحلام. والمعنى: هي أضغاث أحلام. فإن قلت: ما هو إلا حلم واحد، فلم قالوا: أضغاث أحلام فجمعوا؟ قلت: هو كما تقول: فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وما له إلا عمامة فردة، تزيدا في الوصف، فهؤلاء أيضا تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان، فجعلوه أضغاث أحلام. ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة «1» خاصة، فيقولوا: ليس لها عندنا تأويل، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير «2» .

[سورة يوسف (12) : آية 45]
وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45)
قرئ وادكر بالدال وهو الفصيح. وعن الحسن: واذكر، بالذال المعجمة. والأصل:
تذكر، أى تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه بعد أمة بعد مدة طويلة، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك. وقرأ الأشهب العقيلي بعد أمة بكسر الهمزة، والإمة النعمة. قال عدى:
ثم بعد الفلاح والملك و ... الإمة وارتهم هناك القبور «3»
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون مرادهم بالأحلام المنامات ... الخ» قال أحمد: وهذا هو الظاهر، وحمل الكلام على الأول يصيره من وادى:
على لا حب لا يهتدى بمناره
كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا إن كنتم للرءيا تعبرون دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله- إلى قوله- لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون: دليل أيضا على ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «بنحارير» جمع نحرير وهو العالم المتقن، كما في الصحاح. (ع)
(3) .
أين كسرى كسرى الملوك أبو سا ... سان بل أين قبله سابور
ثم بعد الفلاح والملك والامة ... وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فأولت به الصبا والدبور
لعدي بن زيد. وكسرى وساسان وسابور: أسماء ملوك وساسان: هو أبو الأكاسرة. ويروى: أنو شروان، بدل أبو ساسان، فهو كلمة واحدة. وكسرى الثاني بدل من الأول، مضاف لما بعده، كما يقال: ملك الملوك، وهو فارسى معرب، وأصله خسرو، فغيرته العربية. وإن كان عربيا مأخوذا من الكسر، فالمعنى أنه كان يكسر شوكة الملوك، وما بعد عطف بيان له وقيله متعلق بمحذوف حال من سابور وفي «بل» دلالة على أن سابور أعظم منهما. وثم- بالفتح- ظرف خبر لمحذوف أى هم ثم. وإن ضمت فهي عاطفة على محذوف، أى أفلحوا ثم بعد الفلاح، أى البقاء أو الفوز والملك. وروى بدله «الرشد» . والامة- بالكسر-: النعمة، وبالضم: الجيش العظيم. وارتهم: أى سترتهم قبورهم في ذلك المكان، كناية عن موتهم، فيدفنون في باطن الأرض بعد عظمتهم على وجهها، ثم شبههم بالورق الذي جف فاختلفت به الصبا والدبور، فهذه نظيرة كذا وهذه نظيرة كذا، فألوت بمعنى التوت، أو بمعنى: أوقعت به الى، يعنى تطاول بهم الزمان حتى تفتت عظامهم وصارت كذلك.

(2/475)


يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49)

أى بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرئ بعد أمة بعد نسيان «1» . يقال: أمه يأمه أمها، إذا نسى. ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ «2» أنا أنبئكم بتأويله أنا أخبركم به عمن عنده علمه.
وفي قراءة الحسن: أنا آتيكم بتأويله فأرسلون فابعثونى إليه لأسأله، ومرونى باستعباره.
وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة.

[سورة يوسف (12) : آية 46]
يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46)
المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال يوسف أيها الصديق أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أول، ولذلك كلمه كلام محترز فقال لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون لأنه ليس على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا. أو معنى لعلهم يعلمون لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك.

[سورة يوسف (12) : الآيات 47 الى 49]
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49)
تزرعون خبر في معنى الأمر، كقوله: تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه.
والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فذروه في سنبله. دأبا بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدرا: دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أى دائبين: إما على تدأبون دأبا، وإما على إيقاع المصدر حالا، بمعنى: ذوى دأب فذروه في سنبله لئلا يتسوس. ويأكلن
__________
(1) . قوله «قرئ بعد أمه بعد نسيان» لعله أى بعد. (ع)
(2) . قوله «ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ» بمعنى أثم من الخطأ بالكسر، وهو الإثم. أفاده الصحاح. (ع)

(2/476)


وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)

من الإسناد المجازى: جعل أكل أهلهن مسندا إليهن تحصنون تحرزون وتخبؤن يغاث الناس من الغوث أو من الغيث. يقال: غيثت البلاد، إذا مطرت. ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.
يعصرون بالياء والتاء: يعصرون العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع.
وقرئ: يعصرون، على البناء للمفعول، من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبنى للفاعل بمعنى ينجون، كأنه قيل: فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أى يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا وقيل يعصرون يمطرون، من أعصرت السحابة. وفيه وجهان: إما أن يضمن أعصرت معنى مطرت، فيعدى تعديته. وإما أن يقال: الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل. تأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحى. وعن قتادة: زاده الله علم سنة.
فإن قلت: معلوم أن السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لم توصف بالانتهاء، فلم قلت إن علم ذلك من جهة الوحى؟ قلت: ذلك معلوم علما مطلقا لا مفصلا. وقوله فيه يغاث الناس وفيه يعصرون تفصيل لحال العام، وذلك لا يعلم إلا بالوحي.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 51]
وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف «1» به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون «2» إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شره.
وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفى التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه السلام:
__________
(1) . قال محمود: «إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك لتظهر براءة ساحته عما قرف به ... الخ» قال أحمد: ولقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة بقوله: ولو لبثت في السجن بعض ما لبثت يوسف لأجبت الداعي، وكان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم من أنه هم بزليخا هما يؤاخذ به، لأنه إذا صبر وتثبت فيما له أن لا يصير فيه وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوفرة على الخروج منه، فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر، والله أعلم.
(2) . قوله «عما قرف به الخ» أى اتهم به. والتسلق: التوسل. (ع)

(2/477)


«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم «1» » ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- للمارين به في معتكفه وعنده بعض نسائه- «هي فلانة» «2» اتقاء للتهمة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره- والله يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجونى. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة «3» وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة» . وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجد في التفتيش عن حقيقة القصة وفص الحديث «4» حتى يتبين له براءته بيانا مكشوفا يتميز فيه الحق من الباطل. وقرئ النسوة بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن إن ربي إن الله تعالى بكيدهن عليم أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قرف به. أو أراد الوعيد لهن، أى: هو عليم بكيدهن فمجازيهن عليه ما خطبكن ما شأنكن إذ راودتن يوسف هل وجدتن منه ميلا إليكن قلن حاش لله تعجبا من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أى ثبت واستقر وقرئ حصحص على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته «5» للإناخة. قال
__________
(1) . يأتى في الأحزاب.
(2) . متفق عليه من حديث على بن الحسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معى ليقلبنى. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار. فلما رأياه أسرعا. فقال: على رسلكما، إنما صفية- الحديث» [.....]
(3) . أخرجه عبد الرزاق والطبري من طريقه عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة بهذا بدون قوله «إن كان لحليما ذا أناة» وصله إسحاق من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بمعناه وزاد: ولولا الكلمة التي قالها ما لبث في السجن حتى يبتغى الفرج من عند غير الله- يعنى قوله اذكرني عند ربك وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق إسحاق. وأما قوله «إن كان لحليما ذا أناة» فأخرج الطبري من رواية أبى إسحاق عن رجل لم يسم عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلى لخرجت سريعا، إن كان لحليما ذا أناة» ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبى بكر عن الزهري وعن الأعرج عن أبى هريرة.
(4) . قوله «وفص الحديث» في الصحاح «فص الأمر» مفصله. (ع)
(5) . قوله «ألقى ثفناته للاناخة» هي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما، كذا في الصحاح. (ع)

(2/478)


ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين (52)

فحصحص فى صم الصفا ثفناته ... وناء بسلمى نوءة ثم صمما «1»
ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة «2» واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهن خصومه. وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. وقالت المجبرة والحشوية «3» نحن قد بقي لنا مقال، ولا بد لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته.

[سورة يوسف (12) : آية 52]
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين (52)
ذلك ليعلم من كلام يوسف، «4» أى ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته. ومحل بالغيب الحال «5» من الفاعل أو المفعول، على معنى: وأنا غائب عنه خفى عن عينه أو وهو غائب عنى خفى عن عينى. ويجوز أن يكون ظرفا، أى بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون تأكيدا لأمانته، وأنه لو كان خائنا لما هدى الله كيده ولا سدده.
__________
(1) . لحميد بن ثور يصف بعيرا بأنه ألقى في الحجارة الصلبة أعضاءه التي يبرك عليها عند الاناخة، والصم جمع صماء أو أصم أى صلب. وناء: أى قام متثاقلا بسلمى محبوبتى نوأة ونهضة واحدة لم يتردد، ثم صمم وعزم على السير. وروى أن سمرة بن جندب أتى برجل عنين، فاشترى له جارية من بيت المال وأدخلها معه ليلة، فلما أصبح قال له: ما صنعت؟ قال: فعلت حتى حصحصت فيه، فسألها فقالت: لم يصنع شيئا. فقال: دخل سبيلها.
(2) . قال محمود: «لا مزيد على شهادتهن له بالبراءة واعترافهن على أنفسهن ... الخ» قال أحمد: الصحيح من مذاهب أهل السنة تنزيه الأنبياء عن الكبائر والصغائر جميعا، وتتبع الآي المشعرة بوقوع الصغائر بالتأويل. وذهب منهم طائفة مع القدرية إلى تجويز الصغائر عليهم، بشرط أن لا تكون منفرة. والصحيح عندنا في قصة يوسف عليه السلام أنه مبرأ عن الوقوع فيما يؤاخذ به، وإن الوقف عند قوله همت به ثم يبتدأ وهم بها. لولا أن رأى برهان ربه كما تقول. قتلت زيدا لولا أننى أخاف الله، فلا يكون الهم واقعا لوجود المانع منه، وهو رؤية البرهان. فان كان الزمخشري يعرض بأهل السنة فقد بينا معتقدهم، وإن كان يعرض بالمجبرة والحشوية حقيقة، فشأنه وإياهم.
(3) . قوله و «قالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال ولا بد لنا من أن ندق في فروة» يريد أهل السنة وقوله نحن قد بقي لنا الخ يعنى أن حالهم في تفسير الهم والبرهان يمثل بذلك. والفروة: جلدة الرأس. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب الخ: من كلام يوسف عليه السلام والمعنى أن ذلك الجد في ظهور البراءة ليعلم ... الخ» قال أحمد: وإرادته لعموم الأحوال أدخل في تنزيهه، وأدل على أن الغرض بهذا الكلام التواضع منه والتبري من تزكية النفس، فهو أدل على هذا المعنى من حمله على الحادثة الخاصة والله أعلم.
(5) . قوله «ومحل بالغيب الحال من الفاعل» لعله محل الحال أو النصب على الحال. (ع)

(2/479)


وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)

[سورة يوسف (12) : آية 53]
وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1» وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال وما أبرئ نفسي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إما أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهم الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإما أن يريد به عموم الأحوال إن النفس لأمارة بالسوء أراد الجنس، أى إن هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات إلا ما رحم ربي إلا البعض الذي رحمه ربى بالعصمة كالملائكة. ويجوز أن يكون ما رحم في معنى الزمن، أى: إلا وقت رحمة ربى، يعنى أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أى:
ولكن رحمة ربى هي التي تصرف الإساءة، كقوله ولا هم ينقذون إلا رحمة وقيل معناه: ذلك ليعلم أنى لم أخنه لأن المعصية خيانة. وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، «2» أى ذلك الذي قلت ليعلم
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة، دون قوله «ولا فخر» وذكره بإثباتها أبو نعيم في الدلائل، من رواية سهيل عن أبيه عنه في أثناء حديث. ورواه ابن أبى عاصم في الآداب له من حديث عائشة بإثباتها. وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وواثلة وأبى بكر الصديق. ورواه الترمذي من رواية أبى نضرة عن أبى سعيد بلفظ «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» الحديث وقال: حسن. ورواه بعضهم عن أبى نضرة ابن عامر. وهو عند أحمد وأبى يعلى وأبى نعيم والبيهقي في الدلائل. وهما من طريق أبى نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فذكره. ولحديث ابن عباس طريق آخر أخرجها الدارقطني في الأفراد من رواية خارجة بن مصعب. وهو ضعيف عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأخرى عن ابن مردويه في أثناء حديث الاسراء بإسناد واه. وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند الحاكم وإسناده منقطع وعن أنس عن البزار. وفيه مبارك بن سحيمة. وهو متروك، وعند أبى يعلى وفيه زيادة بن ميمون البختري وعن عبد الله بن سلام أخرجه أبو يعلى والطبراني من رواية بشر بن شفاف عنه. وهو معلول. والمحفوظ عن بشر بن شفاف عن عبد الله بن عمرو. وعن جابر أخرجه الحاكم. وفيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل. وهو متروك.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقيل ذلك كله كلام امرأة العزيز أى ذلك الذي قلت ... الخ» قال أحمد: وإنما يجرى الكلام على هذا الوجه إذا ألجأ إليه محوج، كقوله فماذا تأمرون إذ لا يمكن جعله من قول الملأ بوجه، فتعين أن يصرف الضمير عنه إلى فرعون. وأما هذه الآية فهي تتلو قوله وإنه لمن الصادقين إلى ما قبل ذلك من الضمائر العائدة إلى يوسف عليه السلام قطعا، ولا ضرورة تدعو إلى حمل الضمير في ليعلم على العزيز وجعله من كلام يوسف، وقد تضمنته الآية المصدرة بقول زليخا، وذلك قوله قالت امرأة العزيز وفي سياق الآية ما يرشد إلى أن هذا القول جرى منها ويوسف عليه السلام بعد في السجن لم يحضر إلى الملك، وأنه لما تحتمت براءته بقولها بعث يخرجه من السجن، فذلك قوله وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي.

(2/480)


وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (54)

يوسف أنى لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة، فإنى قد خنته حين قرفته «1» وقلت «جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن وأودعته السجن- تريد الاعتذار مما كان منها- إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى: إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إن ربي غفور رحيم استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟
قلت: كفى بالمعنى دليلا قائدا «2» إلى أن يجعل من كلامه. ونحوه قوله قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ثم قال فماذا تأمرون وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم. وعن ابن جريج: هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن ذلك ليعلم متصل بقوله فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ولقد لفقت المبطلة «3» روايات مصنوعة، «4» فزعموا أن يوسف حين قال أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت بها، وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله «5» .

[سورة يوسف (12) : آية 54]
وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (54)
يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصا لنفسه وخاصا به فلما كلمه وشاهد منه ما لم يحتسب قال أيها الصديق إنك اليوم لدينا مكين ذو مكانة ومنزلة أمين مؤتمن على كل شيء. روى أن الرسول جاءه فقال: أحب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى «6» وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة
__________
(1) . قوله «حين قرفته» أى اتهمته. (ع)
(2) . قوله «دليلا قائدا» أى مؤديا. (ع)
(3) . قوله «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة» يريد أهل السنة الذين سماهم المجبرة فيما مر. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة ... الخ» قال أحمد: ولقد صدق في التوريك على نقله هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة، كما لفقت القدرية على قصة موسى حين طلب الرؤية وخر صعقا أن الملائكة جعلت تلكزه بأرجلها وتقول: يا ابن النساء الحيض طمعت في رؤية رب العزة، كل ذلك ليتم لهم غرضهم في أنه طلب محالا في العقول على الله تعالى، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل، والله الموفق. [.....]
(5) . قوله «وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله» أى اتهامهم بما لم يفعله. أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قوله «البلوى» عبارة النسفي البلواء. (ع)

(2/481)


قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55) وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين (56)

الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جددا»
فلما دخل على الملك قال:
اللهم إنى أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصديق، إنى أحب أن أسمع رؤياى منك. فقال:
رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء «2» ، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.

[سورة يوسف (12) : آية 55]
قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)
اجعلني على خزائن الأرض ولنى خزائن أرضك إني حفيظ عليم أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخى يوسف، لو لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك، سنة «3» فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعا له وتحت أمره وطاعته؟
قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم: وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.

[سورة يوسف (12) : آية 56]
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين (56)
__________
(1) . قوله «ولبس ثيابا جددا» في الصحاح: جديد وجدد، كسرير وسرر. (ع)
(2) . قوله «أن تجمع الطعام في الأهراء» كذا عبارة النسفي أيضا ولكنه ليس في الصحاح بل الذي فيه هرأه البرد بهرأه هرأ أى أشتد عليه حتى كاد بقتله وهرئ المال وهرئ القوم فهم مهرؤون اه فأصل الاهراء مواضع يشتد فيها البرد. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عنه، وهذا إسناد ساقط

(2/482)


ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون (57) وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58)

وكذلك ومثل ذلك التمكين الظاهر مكنا ليوسف في أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين يتبوأ منها حيث يشاء قرئ بالنون والياء، أى: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روى أن الملك توجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت. روى أنه قال له: أما السرير فأشد به ملكك. وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسى ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين: إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلى والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا، فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه، فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بى فيما خولنى فما ترى؟ قال: الرأى رأيك:
قال: فإنى أشهد الله وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر عن آخرهم. ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين برحمتنا بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم من نشاء من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك ولا نضيع أجر المحسنين أن نأجرهم في الدنيا.

[سورة يوسف (12) : آية 57]
ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون (57)
ولأجر الآخرة خير لهم. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الاخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.

[سورة يوسف (12) : آية 58]
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58)
لم يعرفوه لطول العهد «1» ومفارقته إياهم في سن الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان
__________
(1) . قال محمود: «إنما أنكروه لبعد العهد وتغيير الصورة ... الخ» قال أحمد: وتوارد القادمين في دخولهم عليه ومعرفته لهم عند ذلك، تدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبته المعرفة بلا مهلة، والله أعلم.

(2/483)


ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60)

عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر، مشريا بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأن الملك مما يبدل الزى ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل: رأوه على زى فرعون «1» عليه ثياب الحرير جالسا على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذلك، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمل ويتفطن. وعن الحسن: ما عرفهم حتى تعرفوا له.

[سورة يوسف (12) : الآيات 59 الى 60]
ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60)
ولما جهزهم بجهازهم أى أصلحهم بعدتهم وهي عدة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة. وقرئ بجهازهم بكسر الجيم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم لا بد من مقدمة سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبرونى من أنتم وما شأنكم؟ فإنى أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال، لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا: معاذ الله، نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق نبى من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا كنا اثنى عشر، فهلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأن الذي تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون- وكان أحسنهم رأيا في يوسف- فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم ولا تقربون فيه وجهان، أحدهما: أن يكون داخلا في حكم الجزاء مجزوما، عطفا على محل قوله فلا كيل لكم كأنه قيل: فإن لم تأتونى به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهى.
__________
(1) . قوله «وقيل رأوه على زى فرعون» إن أريد فرعون موسى، فلم يكن قد وجد. وعبارة الخازن: زى ملوك مصر عليه ثياب الخ. (ع)

(2/484)


قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63) قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)

[سورة يوسف (12) : آية 61]
قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون (61)
سنراود عنه أباه سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى تنتزعه من يده وإنا لفاعلون وإنا لقادرون على ذلك لا نتعايى به. أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى.

[سورة يوسف (12) : آية 62]
وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62)
لفتيانه وقرئ «لفتيانه» وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، و «فعلة» للقلة.
و «فعلان» للكثرة، أى لغلمانه الكيالين لعلهم يعرفونها لعلهم يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين إذا انقلبوا إلى أهلهم وفرغوا ظروفهم لعلهم يرجعون لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها.
وقيل: معنى لعلهم يرجعون لعلهم يردونها.

[سورة يوسف (12) : آية 63]
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63)
منع منا الكيل يريدون قول يوسف فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندي، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل نكتل نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرئ «يكتل» بمعنى يكتل. أخونا، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سببا للاكتيال فإن امتناعه بسببه.

[سورة يوسف (12) : آية 64]
قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)
هل آمنكم عليه يريد أنكم قلتم في يوسف وإنا له لحافظون كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال فالله خير حافظا فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم. وحافظا تمييز، كقولك: هو خيرهم رجلا، ولله دره فارسا. ويجوز أن يكون حالا.

(2/485)


ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا ياأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65)

وقرئ «حفظا» وقرأ الأعمش: فالله خير حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين وهو أرحم الراحمين فأرجوا أن ينعم على بحفظه ولا يجمع على مصيبتين.

[سورة يوسف (12) : آية 65]
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65)
وقرئ ردت إلينا بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد ما نبغي للنفي، أى: ما نبغى في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغى شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أى شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود. ما تبغى، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه: أى شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله هذه بضاعتنا ردت إلينا جملة مستأنفة موضحة لقوله ما نبغي والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردت إلينا، فنستظهر بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك ونحفظ أخانا فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائدا على أو ساق أباعرنا، فأى شيء نبتغى وراء هذه المباغى التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا ونزداد كيل بعير لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط. فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله هذه بضاعتنا ردت إلينا بيانا لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله ما نبغي على معنى: لا نبغى فيما نقول ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد: ما نبغى وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع، بيانا لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح ذلك كيل يسير أى ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أى ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه

(2/486)


قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66)

متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله ذلك ليعلم «1»

[سورة يوسف (12) : آية 66]
قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66)
لن أرسله معكم مناف حالى «2» - وقد رأيت منكم ما رأيت- إرساله معكم حتى تؤتون موثقا من الله حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، أراد أن يحلفوا له بالله: وإنما جعل الحلف بالله موثقا منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه لتأتنني به جواب اليمين، لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتننى به إلا أن يحاط بكم إلا أن تغلبوا «3» فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت: أخبرنى عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: أن يحاط بكم مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله لتأتنني به في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أى: لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة: وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأول بمعنى النفي قولهم: أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، تريد: ما أطلب منك إلا الفعل على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع.
__________
(1) . قوله «كقوله ذلك ليعلم» هل المراد أن جواز كونه من كلام يعقوب، لأن المعنى يؤدى إليه، كما جاز في قوله تعالى ذلك ليعلم كونه من كلام يوسف، لأن المعنى يقود إليه، فتدبر. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه أن إرساله معكم مناف ... الخ» قال أحمد: لن للنفي المؤكد. وأما قول الزمخشري في المنافاة له، فله وراء ذلك غرض إنما يطلع عليه من قتل كلامه علما، وذلك أنه اعتمد في إحالة الرؤية على الله تعالى، على أن قوله تعالى لن تراني معناه أن الرؤية منافية لحالي، وجعل هذه المنافاة من مقتضى لن ثم التزم ذلك في هذه اللفظة حيثما وقعت، كل ذلك لتمرن الأذهان على أن هذا مقتضى لن وقد سبق وجه الرد عليه في ذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم معناه إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا الإتيان ... الخ» قال أحمد: وإنما اختص هذا النوع من الاستثناء بالنفي، لأن المستثنى منه مسكوت عنه، والنفي عام، إذ يلزم من نفى الإتيان مثلا نفى جميع العوارض اللاحقة به ضرورة، فكأنه لعمومه مقرون بذكر المستثنى منه، ولا كذلك الإتيان، فانه لا إشعار له بعموم الأحوال، لأنه لا يتوقف إلا على أحدها، والله أعلم. ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم «البلاء موكل بالمنطق» فان يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وأخاف أن يأكله الذئب، فابتلى من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانيا: إلا أن يحاط بكم، أى تغلبوا عليه، فابتلى أيضا بذلك، وأحيط بهم، وغلبوا عليه.

(2/487)


وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (68)

[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (68)
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة، «1» اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصح عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصانا فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحانا لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو «2» فيقول المحقق:
هذا فعل الله، ويقول الحشوى: هو أثر العين، كما قال تعالى: وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة» «3» وما أغني عنكم من الله من شيء يعنى إن أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة إن الحكم إلا لله ثم قال ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم أى متفرقين ما كان يغني عنهم رأى يعقوب ودخولهم متفرقين شيئا قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع
__________
(1) . قوله «كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة اشتهرهم» في الصحاح: الشارة: اللباس والهيئة. وفيه. اشتهر الأمر، أى وضح. ولفلان فضيلة اشتهرها الناس. (ع)
(2) . قوله «ليتميز المحققون من أهل الحشو» إن كان مراده أهل السنة، فهم يقولون: تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسببات، كربط النار بالإحراق، فالسبب مؤثر في الظاهر، والله هو الفاعل في الحقيقة. قال النسفي:
وأنكر الجبائي العين اه وهو من مشايخ المعتزلة. (ع)
(3) . أخرجه البخاري وأصحاب السنن من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هذا وأتم منه.

(2/488)


ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72)

تفرقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم إلا حاجة استثناء منقطع، على معنى: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به وإنه لذو علم يعنى قوله وما أغني عنكم وعلمه بأن القدر لا يغنى عنه الحذر.

[سورة يوسف (12) : آية 69]
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69)
آوى إليه أخاه ضم إليه بنيامين. وروى أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة. فبقى بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخى يوسف حيا لأجلسنى معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه مع على مائدته وجعل يؤاكله، قال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثانى له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويشم.
رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرف إليه. وعن وهب: إنما قال له:
أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم.
وروى أنه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بى، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى مالا يجمل. قال: لا أبالى فافعل ما بدا لك. قال: فإنى أدس صاعي في رحلك، ثم أنادى عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم.
قال: افعل.

[سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 72]
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72)
السقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعا يكال

(2/489)


قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75)

به. وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقيل: كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك.
وقيل: هي المكوك الفارسي الذي يلتقى طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل: كانت من فضة مموهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل: كانت مرصعة بالجواهر ثم أذن مؤذن ثم نادى مناد. يقال: آذنه أعلمه. وأذن: أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روى:
أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك.
والعير: الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير: أى تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد «1» ، والمراد أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. وقرأ ابن مسعود: وجعل السقاية، على حذف جواب لما، كأنه قيل: فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: تفقدون، من أفقدته إذا وجدته فقيدا. وقرئ: صواع، وصاع، وصوع. بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة وأنا به زعيم يقوله المؤذن، يريد: وأنا بحمل البعير كفيل، أؤديه إلى من جاء به، وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.

[سورة يوسف (12) : آية 73]
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73)
تالله قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم. وإنما قالوا لقد علمتم فاستشهدوا بعلمهم. لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرتى مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة «2» ، لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد من أهل السوق.
ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم وما كنا سارقين وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا.

[سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 75]
قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75)
فما جزاؤه الضمير للصواع، أى، فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم
__________
(1) . قوله «ما فعل ببيض وعيد» لعله: وغيد، بإعجام الغين، وهو جمع غيداء أى ناعمة. أو أغيد، بمعنى وسنان مائل العنق، كذا في الصحاح، فليحرر لفظ المصنف. (ع) [.....]
(2) . قوله «وأفواه رواحلهم مكعومة» يقال: كعمت البعير، إذا شددت فمه بالكعام، وهو شيء يجعل في فم البعير عند هياجه، كذا في الصحاح. (ع)

(2/490)


فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)

وادعائكم البراءة منه قالوا جزاؤه من وجد في رحله أى جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة، فلذلك استفتوا في جزائه.
وقولهم فهو جزاؤه تقرير للحكم، أى: فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك:
حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أى: فهو حقه لتقرر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه «1» ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فيقول لك: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو، يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ، ثم تقول «فهو أخوه» مقيما للمظهر مقام المضمر. ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدإ محذوف، أى: المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم: من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول: من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم، ثم يقول: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم.

[سورة يوسف (12) : آية 76]
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)
فبدأ بأوعيتهم قيل: قال لهم من وكل بهم: لا بد من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال:
ما أظن هذا أخذ شيئا، فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه. وقرأ الحسن: وعاء أخيه، بضم الواو، وهي لغة. وقرأ سعيد ابن جبير: إعاء أخيه، بقلب الواو همزة. فإن قلت: لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه؟ قلت:
قالوا رجع بالتأنيث على السقاية، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث، ولعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعا كذلك كدنا مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعنى علمناه إياه وأوحينا به إليه ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد إلا أن يشاء الله
__________
(1) . قوله «من استحقاقه وتلزمه. ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ» سيذكر أن حكم السارق في دين ملك مصر:
أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد. (ع)

(2/491)


قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)

أى ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه نرفع درجات من نشاء في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرئ: يرفع بالياء. ودرجات بالتنوين وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا. فإن قلت:
ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسنا، فمن أى وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله إنكم لسارقون، فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قلت: هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة، لأن قوله إنكم لسارقون تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله إن كنتم كاذبين فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيبا، على أنه لو صرح لهم بالتكذيب كما صرح لهم بالتسريق. لكان له وجه، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام:
وخذ بيدك ضغثا ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: هي أختى، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلما وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.

[سورة يوسف (12) : آية 77]
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)
أخ له أرادوا يوسف. روى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسودت وجوهنا، يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخى فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم.
واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة، فقيل: كان أخذ في صباه صنما لجده أبى أمه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيرا من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل: كانت في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف- وهي عمته- بعد وفاة أمه وكانت لا تصبر عنه، فلما شب أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت: فقدت منطقة إسحاق،

(2/492)


قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)

فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت: إنه لي سلم أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت فأسرها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أنتم شر مكانا وإنما أنث لأن قوله أنتم شر مكانا جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله أنتم شر مكانا والمعنى: قال في نفسه:
أنتم شر مكانا، لأن قوله قال أنتم شر مكانا بدل من أسرها. وفي قراءة ابن مسعود: فأسره، على التذكير، يريد القول أو الكلام. ومعنى شر مكانا أنتم شر منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أحاكم من أبيكم والله أعلم بما تصفون يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخى سرقة، وليس الأمر كما تصفون.

[سورة يوسف (12) : آية 78]
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78)
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السن أو كبير القدر، وأن بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولدا له قد هلك وهو عليه ثكلان، «1» وأنه مستأنس بأخيه فخذ أحدنا مكانه فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد إنا نراك من المحسنين إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجر على عادتك ولا تغيرها.

[سورة يوسف (12) : آية 79]
قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)
معاذ الله هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه: إن الله أمرنى وأوحى إلى بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرنى بأخذه كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحى. ومعنى معاذ الله أن نأخذ نعوذ بالله معاذا من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من. وإذا جواب لهم وجزاء، «2» لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا.
__________
(1) . قوله «قد هلك وهو عليه ثكلان» أى حزين أسيف على فقد ولده. (ع)
(2) . قوله «وإذا جواب لهم وجزاء» أى لقولهم فخذ أحدنا مكانه. (ع)

(2/493)


فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80)

[سورة يوسف (12) : آية 80]
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80)
استيأسوا يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مر في استعصم. و «النجي» على معنيين: يكون بمعنى المناجى، كالعشير والسمير بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى وقربناه نجيا: وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل: قوم نجى، كما قيل وإذ هم نجوى تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجى، كما قيل: هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال:
إنى إذا ما القوم كانوا أنجيه «1»
ومعنى خلصوا اعتزلوا وانفردوا عن النسا خالصين لا يخالطهم سواهم نجيا ذوى نجوى، أو فوجا نجيا، أى مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجيا، لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه يجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أى صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور كبيرهم في السن وهو روبيل. وقيل:
رئيسهم وهو شمعون: وقيل: كبيرهم في العقل والرأى وهو يهوذا ما فرطتم في يوسف فيه وجوه: أن تكون «ما» صلة، أى: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم.
وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو من قبل
__________
(1) .
إنى إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
وشد فوق بعضهم بالأرويه ... هناك أوصينى ولا توصى بيه
من أبيات الحماسة. و «ما» زائدة. والأنجية. جمع نجى بمعنى المناجى، كالسمير والجليس والعشير، بمعنى المفاعل.
أو النجي: مصدر كالدوى والأزيز والنشيج والنئيج والصهيل، كلها أنواع من الصوت، فيكون على حد «زيد عدل» ولو قلت: إنه جمع نجاء مصدر ناجاه، كقتال مصدر قاتله لجاز، وكان كالأرشية جمع رشاء وهو حبل الاستقاء، والأروية جمع رواء وهو حبل الارتواء والاستقاء أيضا، أى: كانوا فرقا متناجين ومتشاورين فيما نزل بهم واضطربوا قياما وقعودا وذهابا وإيابا، كاضطراب الأرشية على الماء. ويروى: واضطربت أعناقهم كالأرشية. وشد: مبنى للمجهول، أى: شد بعضهم بعضا وشمره وحزمه بحبال الاستقاء، كناية عن استعدادهم للحرب. ويبعد كونه كناية عن الاستعداد للاستقاء في الزمن الجدب هناك، أى: في ذلك الزمان أو المكان.
قيل: أو فيهما أكون شجاعا صبورا، فأوصينى بغيري ولا توصى غيرى بيه. وظاهر البيت جواز الاخبار عن اسم إن بجملة إنشائية وليس كذلك، بل هو على التأويل كما ترى. والخطاب لمؤنثة. ويجوز: أنه لمذكر. وثبوت الياء في الفعلين للإشباع. والهاء في «بيه» للسكت. فهذا كناية عن شجاعته وتجلده. أو كناية عن كرمه على البعد.

(2/494)


ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)

ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفا على مفعول ألم تعلموا وهو أن أباكم كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أى قدمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين فلن أبرح الأرض فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخى، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم أبدا إلا بالعدل والحق.

[سورة يوسف (12) : آية 81]
ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81)
وقرئ سرق أى نسب إلى السرقة وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا من سرقته «1» وتيقناه، لأن الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا وما كنا للغيب حافظين وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق «2» . أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ سرق فمعناه: وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، وما كنا للغيب: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر.

[سورة يوسف (12) : الآيات 82 الى 83]
وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)
__________
(1) . قال: محمود «معناه وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه من سرقته ... الخ» قال أحمد: إما أن يكون مقتضى شرعهم حينئذ أن مجرد وجود الشيء بيد المدعى عليه بعد إنكاره يوجب له أحكام السارق فيكون العلم على ظاهره إذا. وإما أن لا يكون كذلك، فهذا القدر من مجرد وجوده في رحله لا يوجب علم كونه سارقا. وغايته أن يفيد ظنا بينا، فيكون المراد بالعلم هاهنا الظن. وقد ورد مثله، ويكون قولهم وما كنا للغيب حافظين تنبيها على أن مستندهم فيما قالوه ظن بمقتضى ظاهر الحال. وأما كشف باطن الأمر الموجب للعلم فليسوا يدعونه عليه.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقولهم وما كنا للغيب حافظين معناه: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق ...
الخ» قال أحمد: وإنما تلتئم القراءتان على التأويل الذي ذكرته، وهو أنهم إنما أضافوا إليه السرقة ظنا بمقتضى ظاهر الحال، واحترزوا أن يعتقد أنهم علموا ذلك حقيقة فقالوا: وما كنا للغيب حافظين فالقراءتان على التأويل المذكور يقتضيان تبرئتهم من دعوى العلم الجازم عليه. وأما على غيره من التأويلات المذكورة فلا تنتظم القراءتان لأن مقتضى الأولى الجزم عليه بالسرقة علما. ومقتضى الثانية التبري من الجزم، والله أعلم.

(2/495)


وتولى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84)

القرية التي كنا فيها هي مصر، أى أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة والعير التي أقبلنا فيها وأصحاب العير، وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا أردتموه «1» وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم بهم جميعا بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره إنه هو العليم بحالي في الحزن والأسف الحكيم الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة.

[سورة يوسف (12) : آية 84]
وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84)
وتولى عنهم وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به يا أسفى أضاف الأسف وهو أشد الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعا غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم، وهم ينهون عنه وينأون عنه. يحسبون أنهم يحسنون، من سبإ بنبإ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لم تعط أمة من الأمم- إنا لله وإنا إليه راجعون- عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله
__________
(1) . قال محمود: «إن هذا شيء أردتموه ... الخ» قال أحمد: وهذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرا بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيا بل سولت لكم أنفسكم أمرا كما قال لهم أولا، وإذا ورد السؤال على هذا التقرير فلا بد من زيد بسط في الجواب فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن بإتمامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده لا من دين غيره من الناس ولا من عادتهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعى عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة اليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه، فان كان شرعهم مثل شرعنا في ذلك ففتواهم إذا غير محررة، وهو إشعار بأنهم كانوا حراصا على ثبوت السرقة عليه، ويؤكد ذلك قولهم إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يؤكدون بذلك ثبوت السرقة عليه، والله أعلم. وقوله لهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضى ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول، والله المستعان.

(2/496)


عليه وسلم «1» . ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى» فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشد على النفس وأظهر أثرا؟ قلت: هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضا عنده طريا.
ولم تنسنى أوفى المصيبات بعده «2»
ولأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به وابيضت عيناه إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمى بصره. وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفا. قرئ من الحزن.
ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف «3» ؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط. فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من حديث محمد بن سعيد الهادي عن إسحاق بن الربيع بن سفيان بن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بهذا مرفوعا وأخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر عن سفيان بن زياد. ورواه عبد الرزاق من طريق الطبري عن الثوري عن سفيان عن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير أقول وكذا رواه البيهقي في الشعب من رواية أبى عامر عن الثوري قال: ورفعه بعض الضعفاء وليس بشيء.
(2) .
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين ملآن مترع
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكأ القرح بالقرح أوجع
لهشام بن عقبة العذرى، يرثى أخاه ذى الرمة، واسمه غيلان بن عقبة. ويرثى أوفى بن دلهم. وقيل: يرثى أخويه.
يقول: تعزيت أى تسليت عن أوفى بموت غيلان بعده، أى نابني ما يوجب النسيان الأول ولم أنسه، والحال أن جفن عينى ممتلئ بالدموع. أو المعنى: تكلفت التسلي فلم أقدر. ويقال: أترع الحوض إذا ملئ بالماء في المترع توكيد. ويجوز تشبيه الجفن بالحوض على طريق المكنية والاتراع تخييل، فلم تنسني أو في المصيبات التي أصابتنى بعده موت أخى غيلان، ولكن زادتنى حزنا على حزنى. والقرح: الجرح إذا اندمل ويبست جلبته. والنكاء:
كشط تلك الجلبة. ويروى: ولكن نكأ بتشديد النون. والنكأ: التي منها وزن الضرب، فشبه حال مصيبته الأولى التي طرأ عليها غيرها فزادها بحال ذلك الجرح على سبيل التمثيلية، أى: ولكن نكأ القرح أوجع به من الحالة الأولى. وأظهر محل المضمر لإظهار التوجع والتفجع. أو المعنى: ولكن نكأ القرح الأول بقرح غيره أوجع بالإنسان مما كان، فبالقرح متعلق بأوجع، أو بنكاء.
(3) . لم أجده مرفوعا، وأخرجه الطبري من رواية عيسى بن يزيد عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بلغ ... فذكره.

(2/497)


قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85)

إبراهيم وقال: «القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون «1» » وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكى وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح «2» : وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب فهو كظيم فهو مملوة من الغيظ «3» على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله وهو مكظوم من كظم السقاء إذا شده على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس.
يقال: أخذ بأكظامه.

[سورة يوسف (12) : آية 85]
قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85)
تفتؤا أراد: لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون. ونحوه:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا «4»
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس.
(2) . قال المخرج: عزاه الطيبي إلى الصحيحين فلم يصب. ولم يرد هذا في ولد بعض بناته وإنما ورد في ولده إبراهيم كما أخرجه الترمذي وابن أبى شيبة وإسحاق وعبد بن حميد وغيرهما من حديث جابر. وأخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن ابن عوف نحوه. والذي ورد في بعض بناته متفق عليه من حديث أسامة وفيه «ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» قلت والأول إنما هو بلفظ «قال عبد الرحمن بن عوف:
أتبكي، أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند مصيبة، وخمش وجوه، ورنة شيطان، وشق جيوب. وصوت نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان» .
(3) . قوله «فهو مملوء من الغيظ» أى الغضب الكامن. أفاده الصحاح. قوله «ولا يظهر ما يسوؤهم» أى لما صنعوا بيوسف وأخيه. (ع) [.....]
(4) .
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
لامرئ القيس. يقول: سموت إلى محبوبتى سلمى بعد نوم أهلها، ولم يسمع لي أحد صوتا، ولم تشعر بى هي إلا وأنا عندها، كسمو حباب الماء فوقه بسهولة. وحباب الماء- بالضم: اسم لثعبان الماء. وحباب الماء- بالفتح-:
فقاقعه التي تعلوه. وقوله: «حالا على حال» واقع موقع الحال المؤكدة للتشبيه، أى: حالا منطبقا على حال ومساويا له، كقولك «سواء بسواء» وهاهنا حذف، أى: فخوفتنى بالقوم، فقلت: يمين الله أبرح، أى: لا أبرح قاعدا.
وحذف «لا» النافية للمضارع بعد القسم كثير لأمن اللبس، ولأنه لولا تقديرها لوجب اقتران الفعل بلام جواب القسم أو بنون التوكيد أو بهما. ويمين: نصب بمحذوف، أى أحلف يمين الله، فهو كالمصدر النائب عن فعله.
وبقية القصة تقدمت.

(2/498)


قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86) يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)

ومعنى تفتؤا لا تزال. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين.
يقال: ما فتئ يفعل. قال أوس:
فما فتئت خيل تثوب وتدعى ... ويلحق منها لاحق وتقطع «1»
حرضا مشفيا على الهلاك مرضا، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة: حرض، بكسر الراء. ونحوهما: دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعا. وقرأ الحسن: حرضا، بضمتين، ونحوه في الصفات: رجل جنب وغرب.

[سورة يوسف (12) : آية 86]
قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86)
البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أى ينشره. ومنه: باثه أمره، وأبثه إياه. ومعنى نما أشكوا
إنى لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربى داعيا له وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أى فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. وقيل: دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال: هشمنى وأفنانى ما ابتلاني الله به من هم يوسف، فأوحى الله إليه:
يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله. وروى أنه أوحى إلى يعقوب: إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلى الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جارية مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت أعلم من الله ما لا تعلمون
أى أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظنى به أنه يأتينى بالفرج من حيث لا أحتسب. وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال، لا والله هو حى فاطلبه. وقرأ الحسن: وحزنى، بفتحتين. وحزنى، بضمتين: قتادة.

[سورة يوسف (12) : آية 87]
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)
__________
(1) . لأوس بن حجر، وكنى بالخيل عن أصحابها. ويقال: ثاب وثوب. إذا لوح بطرف ثوبه عند النداء من بعيد. وتدعى: تفتعل من الدعاء أى يدعو بعضهم بعضا. ويحتمل أن تثوب بمعنى ترجع، أى تذهب وترجع.
ومعنى «تدعي» تلاحق وينتسب بعضها إلى بعض مجازا، فيجوز أن الخيل حقيقة. أو شبه الخيل بالناس على طريق المكنية، والادعاء بمعنى التنادى تخييل، وهذان الوجهان أنسب بقوله «ويلحق» أى يسبق منها سابق. وتقطع:
أى تتقطع وينقطع بعضها عن بعض قطعا قطعا، فهي تجتمع وتفترق: صور الحرب من أولها إلى آخرها في هذا البيت، أى: فما زالت الخيل تفعل كذلك حتى انتهت الحرب.

(2/499)


فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين (88) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون (89)

فتحسسوا من يوسف وأخيه فتعرفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة فلما أحس عيسى منهم الكفر ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس من روح الله من فرجه وتنفيسه. وقرأ الحسن وقتادة: من روح الله، بالضم: أى من رحمته التي يحيا بها العباد.

[سورة يوسف (12) : آية 88]
فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين (88)
الضر الهزال من الشدة والجوع مزجاة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجى السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفا وسمنا. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط.
وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة فأوف لنا الكيل الذي هو حقنا وتصدق علينا وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأن الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع وتصدق علينا أراد أنها كانت حلالا لهم.
والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه. وقوله إن الله يجزي المتصدقين شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة: العطية التي تبتغى بها المثوبة من الله: ومنه قول الحسن- لمن سمعه يقول: اللهم تصدق على: - إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغى الثواب، قل: اللهم أعطنى، أو تفضل على، أو ارحمني.

[سورة يوسف (12) : آية 89]
قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون (89)
قال هل علمتم أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا،»
فكلمهم مستفهما عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون
__________
(1) . قال محمود: «أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح ... الخ» قال أحمد: ومن تلطفه بهم قوله إذ أنتم جاهلون كالاعتذار عنهم، لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه أسهل من فعله على علم، وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما اعتذر عن نفسه لم يرد على أن قال: فعلتها إذا وأنا من الضالين.

(2/500)


لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعنى: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم في الدين، لا معاتبة وتثريبا، إيثارا لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، «1» ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها «2» ولله حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها. وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل «3» ، سماهم جاهلين. وقيل:
معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا: مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه: ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدى، فشدت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادى إلى فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته على وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟
قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل «4» بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.
__________
(1) . قوله «وينفث المصدور ... الخ» المصدور: الذي يشتكى صدره. والمحنق: المغيظ. والموتور: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ما أوطأها وأسجحها» أى ما أسهلها وما أرفقها، أفاده الصحاح. وفيه: فلان ذو حصاة، أى ذو عقل ولب، فحصا عقولهم: إضافة بيانية. (ع)
(3) . قوله «ولا يقدم عليه إلا جاهل» لعله عطف على المعنى لأن قوله «لم يفعلوا ... الخ» بمعنى فعلوا مالا يقتضيه العلم. (ع)
(4) . والثكل: فقدان المرأة ولدها، كما في الصحاح. والمراد هنا الحزن. (ع)

(2/501)


قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين (93)

[سورة يوسف (12) : الآيات 90 الى 93]
قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين (93)
قرئ أإنك على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب. وفي قراءة أبى: أإنك أو أنت يوسف، على معنى أإنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه «1» وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلوما لهم. قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه من يتق من يخف الله وعقابه ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات فإن الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين لقد آثرك الله علينا أى فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإن شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أن الله أعزك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك لا تثريب عليكم لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع «2» ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ «3» قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم
__________
(1) . قوله «قلت رأوا في روائه» بالضم، أى منظره. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والقرع» في الصحاح «القرع» بالتحريك: بثر أبيض، يخرج بالنصال. والتقريع: معالجة الفصيل من القرع، وينزع ذلك منه. (ع)
(3) . قال: «فان قلت بم تعلق اليوم في قوله لا تثريب عليكم اليوم ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا المعنى إنما يتوجه على الاعراب الأول وهو الأوجه. ألا ترى إلى قولهم بعد ذلك يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين وقوله سوف أستغفر لكم ربي دل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب، ولو كان متعلقا بيغفر للزم أن يقطعوا بغفران ذنبهم حينئذ باخبار النبي الصديق. ويحتمل أن يقال: إنما أراد مغفرة ما يرجع إلى حقه دون حق أبيه، إذ الإثم كان مشتركا بينهما، والله أعلم.

(2/502)


ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون (94) قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95) فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون (96)

من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال يغفر الله لكم فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال:
غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعا. ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم» واليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيرا، أخ كريم وابن أخر كريم، وقد قدرت. فقال: أقول ما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم «1» . وروى أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه لا تثريب عليكم ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك ولمن علمك «2» . ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه:
إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف:
إن أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إلى بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتى، وأنى من حفدة إبراهيم اذهبوا بقميصي هذا قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي يأت بصيرا يصر بصيرا، كقولك: جاء البناء محكما، بمعنى صار. ويشهد له فارتد بصيرا أو يأت إلى وهو بصير. وينصره قوله وأتوني بأهلكم أجمعين أى يأتنى أبى، ويأتنى آله جميعا وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم إليه، فأفرحه كما أحزنته. وقيل: حمله وهو حاف حاسر «3» من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا.

[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 96]
ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون (94) قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95) فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون (96)
__________
(1) . أخرجه النسائي والبيهقي من رواية ثابت عن عبد الرحمن بن رباح عن أبى هريرة بمعناه وأتم منه. وأخرجه الثعلبي من رواية سمعان عن عطاء عن ابن عباس بهذا اللفظ وأتم منه. وكذا ذكره ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وقال فيه «قدرت فاسمح» وكذا أخرجه الواقدي في المغازي من حديث برة بنت تجراة. ورواه أبو عبيد في الأموال عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين.
(2) . لم أجده
(3) . قوله «وهو حاف حاسر» أى لا مغفر له ولا درع، أفاده الصحاح. (ع)

(2/503)


قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم (98) فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100)

فصلت العير خرجت من عريش مصر. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس: فلما انفصل العير قال لولد ولده ومن حوله من قومه:
إني لأجد ريح يوسف أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد:
النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياى لصدقتمونى لفي ضلالك القديم لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات ألقاه طرح البشير القميص على وجه يعقوب.
أو ألقاه يعقوب فارتد بصيرا فرجع بصيرا. يقال: رده فارتد، وارتده إذا ارتجعه ألم أقل لكم يعنى قوله إني لأجد ريح يوسف أو قوله ولا تيأسوا من روح الله وقوله إني أعلم كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله نما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون
ورى: أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر:
فقال: ما أصنع بالملك؟ على أن دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 97 الى 98]
قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم (98)
سوف أستغفر لكم قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل: ليتعرف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه: إن الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروى أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يغنى عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبدا، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة، وقد اختلف في استنبائهم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (100)

(2/504)


فلما دخلوا على يوسف قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشى يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقيل إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت على حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف آوى إليه أبويه ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبى إسحاق: كانت أمه تحيى، وقيل: هما أبوه وخالته. ماتت أمه فتزوجها وجعلها أحد الأبوين، لأن الرابة تدعى أما، لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب. ومنه قوله وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب «1» أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه، ثم قال لهم ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخروا له يعنى الإخوة الأحد عشر والأبوين سجدا ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقربهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر. فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفا بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازى: ارجع سالما غانما إن شاء الله. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقا، ولكن مقيدا بالسلامة والغنيمة، مكيفا بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذى الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله
__________
(1) . قوله «في مضرب» عبارة النسفي: مضرب خيمة. (ع) [.....]

(2/505)


إن شاء الله من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب، وما أدرى ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد.
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجدا يأباه. وقيل: معناه وخروا لأجل يوسف سجدا لله شكرا. وهذا أيضا فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه. قال:
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة «1»
من البدو من البادية، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع نزغ أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال، نزغه ونسغه، إذا نخسه لطيف لما يشاء لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحلى، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنى، ما أعقك: عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى على ثمان مراحل؟
قال: أمرنى جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منى فسله. قال جبريل عليه السلام:
الله تعالى أمرنى بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب قال: فهلا خفتنى؟ وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبى قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيبا طاهرا، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه: كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأى أن عملوا له صندوقا من مر مر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحدا «2» ، وولد له:
إفراثيم وميشا، وولد لإفراثيم نون، ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد صفحة 279 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «ليكونوا كلهم فيه شرعا واحدا» في الصحاح: الناس في هذا الأمر شرع، أى سواء، يحرك ويسكن. (ع)

(2/506)


رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين (104)

[سورة يوسف (12) : آية 101]
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)
«من» في من الملك ومن تأويل الأحاديث للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل أنت وليي أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي توفني مسلما طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ويجوز أن يكون تمنيا للموت على ما قيل وألحقني بالصالحين من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز: أن ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له:
صنع الله على يديك خيرا كثيرا: أحييت سننا وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقر الله عينه وجمع له أمره قال: توفني مسلما وألحقنى بالصالحين. فإن قلت: علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله رب كقولك أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء.

[سورة يوسف (12) : آية 102]
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102)
ذلك إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء. وقوله من أنباء الغيب نوحيه إليك خبر إن. ويجوز أن يكون اسما موصولا بمعنى الذي، ومن أنباء الغيب صلته ونوحيه الخبر. والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحى، لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر، كقوله وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقى فيها أحدا ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقص هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحى، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهدا لمن مضى من القرون الخالية: ونحوه: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، وهم يمكرون بيوسف ويبغون له الغوائل.

[سورة يوسف (12) : الآيات 103 الى 104]
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103) وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين (104)

(2/507)


وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107) قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108)

وما أكثر الناس يريد العموم، كقوله ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وعن ابن عباس رضى الله عنه. أراد أهل مكة، أى وما هم بمؤمنين ولو حرصت وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم وما تسئلهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا ذكر عظة من الله للعالمين عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.

[سورة يوسف (12) : آية 105]
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105)
من آية من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده يمرون عليها ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرئ «والأرض» بالرفع على الابتداء، ويمرون عليها: خبره. وقرأ السدى «والأرض» بالنصب على: ويطؤن الأرض يمرون عليها.
وفي مصحف عبد الله: والأرض يمشون عليها، برفع الأرض، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.

[سورة يوسف (12) : آية 106]
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)
وما يؤمن أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الذين يشبهون الله بخلقه.

[سورة يوسف (12) : آية 107]
أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107)
غاشية نقمة تغشاهم. وقيل: ما يغمرهم من العذاب ويجللهم. وقيل: الصواعق.

[سورة يوسف (12) : آية 108]
قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108)
هذه سبيلي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق: يذكران ويؤنثان، ثم فسر سبيله بقوله أدعوا إلى الله على بصيرة أى أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء. وأنا تأكيد للمستتر في أدعوا. ومن اتبعني عطف عليه. يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتبعنى. ويجوز أن يكون أنا مبتدأ، وعلى بصيرة خبرا مقدما، ومن اتبعني عطفا على أنا إخبارا مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة

(2/508)


وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109) حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110)

وبرهان، لا على هوى. ويجوز أن يكون على بصيرة حالا من أدعوا عاملة الرفع في أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وأنزهه من الشركاء «1» .

[سورة يوسف (12) : آية 109]
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109)
إلا رجالا لا ملائكة، لأنهم كانوا يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد ليست فيهم امرأة. وقيل: في سجاح المتنبئة
ولم تزل أنبياء الله ذكرانا «2»
وقرئ: نوحى إليهم، بالنون «3» . من أهل القرى لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة ولدار الآخرة ولدار الساعة، أو الحال الآخرة خير للذين اتقوا للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ: أفلا تعقلون، بالتاء والياء.

[سورة يوسف (12) : آية 110]
حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110)
__________
(1) . قوله «وأنزهه من الشركاء» لعله «عن» . (ع)
(2) .
أضحت نبيتنا أنثى نساء بها ... ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا.
أعنى مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا
لقيس بن عاصم. ويروى: نطيف بها، بدل نساء بها. وطاف به يطوف: دار حوله. وطاف به يطيف: أتى عليه ونزل به. وهذا مبنى للمجهول منه، عطف على أضحت. ويروى بدل الشطر الأول، فما سمعت بأنثى قط أرسلها، فالفاعل ضمير الله وإن لم يتقدم له مرجع لظهوره. ويروى بدل الثاني: وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا.
وسجاح: علم امرأة من سجح إذا سمح وعفا، وهي بنت المنذر، كانت شريفة في قومها بنى حنيفة، فادعت النبوة، ثم تزوجت بمسيلمة الكذاب فاتبعه قومها، ثم حاربه أبو بكر رضى الله عنه فقتل على يدي وحشى قاتل حمزة، فأسلمت بعده وحسن إسلامها. ويروى «باللؤم» بدل الافك. ولا سقيت: جملة دعائية. والأصداء: جمع صدى، وهو ذكر اليوم: كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة تزقو وتصيح: أدركونى أدركونى، حتى يؤخذ بثأره، وهي هنا مجاز عن جثته كلها. والمزن واحده مزنة وهو السحاب، أى: اللهم اجعل قبره حارا عليه لا يناله غيث.
(3) . قوله «وقرئ نوحي إليهم بالنون مبنيا للمعلوم، فتكون القراءة الأصلية بالياء، مبنيا للمجهول. (ع)

(2/509)


لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111)

حتى متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام، كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى استيأسوا عن النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أى كذبتهم أنفسهم «1» حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم: رجاء صادق، ورجاء كاذب. والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر «2» وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله فإن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظن: ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح؟ وقيل: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أى: أخلفوا. أو: وظن المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أى: كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه. وقرئ: كذبوا، بالتشديد على: وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد: كذبوا، بالتخفيف، على البناء للفاعل، على: وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة، إما على تأويل ابن عباس، وإما على أن قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثرا قالوا لهم:
إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا.
ولو قرئ بهذا مشددا، لكان معناه، وظن الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. قرئ:
فننجي، بالتخفيف والتشديد، من أنجاه ونجاه. وفنجى، على لفظ الماضي المبنى للمفعول.
وقرأ ابن محيصن: فنجا. والمراد ب من نشاء المؤمنون، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين.

[سورة يوسف (12) : آية 111]
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111)
__________
(1) . قال محمود: «معناه يئسوا من النصر وظنوا أن أنفسهم كذبتهم ... الخ» قال أحمد: ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا، بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن إخبار ووحى،
(2) . عاد كلامه. قال: «ونقل عن ابن عباس أنه قال: فظنوا حين ضعفوا وغلبوا ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا تأويل حسن ينظم بين القراءتين، لأن ظن الأمم كذب رسلهم تكذيب لهم، فيؤدى مؤدى قراءة التشديد.

(2/510)


المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1)

الضمير في قصصهم للرسل، وينصره قراءة من قرأ في قصصهم بكسر القاف. وقيل:
هو راجع إلى يوسف وإخوته. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في ما كان حديثا يفترى فيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن، أى: ما كان القرآن حديثا يفترى ولكن كان تصديق الذي بين يديه أى قبله من الكتب السماوية وتفصيل كل شيء يحتاج إليه في الدين، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد لكن للعطف على خبر كان. وقرئ «ذلك» بالرفع على: ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هؤن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما «1» .

سورة الرعد
( [مدنية، وقيل] مختلف فيها وهي ثلاث وأربعون آية [نزلت بعد سورة محمد] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الرعد (13) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1)
تلك إشارة إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة، أى: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، ثم قال والذي أنزل إليك من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه، لا هذه السورة وحدها، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية: هم كالحلقة «2» المفرعة، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة.
__________
(1) . تقدم إسناده في تفسير آل عمران وهو في آخر آل عمران، وفي آخر الكتاب أيضا.
(2) . قوله «الأنمارية هم كالحلقة» أى في أولادها. (ع)

(2/511)


الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)

[سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 3]
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3)
الله مبتدأ. والذي خبره، بدليل قوله وهو الذي مد الأرض ويجوز أن يكون صفة. وقوله يدبر الأمر يفصل الآيات خبر بعد خبر. وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات رفع السماوات بغير عمد ترونها كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. وقيل هي صفة لعمد. ويعضده قراءة أبى. ترونه. وقرئ: عمد، بضمتين يدبر الأمر يدبر أمر ملكوته وربوبيته يفصل آياته في كتبه المنزلة لعلكم بلقاء ربكم توقنون بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن: ندبر، بالنون جعل فيها زوجين اثنين خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل:
أراد بالزوجين: الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة يغشي الليل النهار يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا. وقرئ: يغشى، بالتشديد.

[سورة الرعد (13) : آية 4]
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)
قطع متجاورات بقاع مختلفة، مع كونها متجاورة متلاصقة: طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، «1» وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعا في جنس الأرضية. وذلك دليل على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجه.
وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع، مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها.
__________
(1) . قوله «زهيدة» في الصحاح: واد زهيد قليل الأخذ للماء، وأرض زهاد: أى لا تسيل إلا عن مطر كثير. (ع)

(2/512)


وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5) ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)

وفي بعض المصاحف: قطعا متجاورات على: وجعل. وقرئ: وجنات، بالنصب للعطف على زوجين. أو بالجر على كل الثمرات. وقرئ: وزرع ونخيل، بالجر عطفا على أعناب أو جنات والصنوان: جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان، وأصلهما واحد. وقرئ بالضم. والكسر: لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بنى تميم وقيس يسقى بالتاء والياء ونفضل
بالنون. وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعا في الأكل بضم الكاف وسكونها.

[سورة الرعد (13) : آية 5]
وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5)
وإن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب أإذا كنا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوبا بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله أإنا لفي خلق جديد. أولئك الذين كفروا بربهم أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وصف بالإصرار، كقوله إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا. ونحوه:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد «1»
أو هو من جملة الوعيد

[سورة الرعد (13) : آية 6]
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)
بالسيئة قبل الحسنة بالنقمة قبل العافية، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره وقد خلت من قبلهم المثلات أى عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة:
__________
(1) .
ضلوا وإن سبيل الغى مقصدهم ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
سبيل الغى: مجاز عما هم عليه من الأحوال الخبيثة. والغل: ما تشد به اليد إلى العنق والقيد للرجلين «وهما مجاز عن الغفلة واتباع رأى النفس. يقول: سلكوا طريق الهوى وتركوا طريق الهدى.

(2/513)


ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7)

العقوبة، بوزن السمرة. والمثلة لما بين «1» العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال: القصاص. وقرئ المثلات بضمتين لإتباع الفاء العين. والمثلات، بفتح الميم وسكون الثاء، كما يقال: السمرة «2» . والمثلات بضم الميم وسكون الثاء، تخفيف المثلات بضمتين. والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات «3» لذو مغفرة للناس على ظلمهم أى مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب. ومحله الحال، بمعنى ظالمين لأنفسهم «4» وفيه أوجه. أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر. أو الكبائر بشرط التوبة. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. وروى أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» «5»

[سورة الرعد (13) : آية 7]
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7)
لولا أنزل عليه آية من ربه لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى، من انقلاب العصاحية، وإحياء الموتى، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل أرسالات منذرا ومخوفا لهم من سوء العاقبة، وناصحا كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطى كل نبى آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها ولكل قوم هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأنبياء شرعا واحدا «6» في آيات مخصوصة. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أنهم
__________
(1) . قوله «المثلة لما بين» عبارة النسفي «والمثلة العقوبة لما بين ... الخ. (ع)
(2) . قوله «كما يقال السمرة» لعله السمرة والسمرات. (ع)
(3) . قوله «كركبة وركبات» في الصحاح الركبة معروفة وجمع القلة ركبات وركبات وركبات. وفي هامشه عن مرتضى: أى بسكون الكاف وضمها وفتحها، والراء مضمومة فيهن. (ع) [.....]
(4) . قال محمود: «ومحل على ظلمهم الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم ... الخ» قال أحمد: والوجه الحق بقاء الوعد على إطلاقه إلا حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فان ظلمه أعنى شركه لا يغفر وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. والزمخشري يبنى على عقيدته التي وضح فسادها، في استحالة الغفران لصاحب الكبائر وإن كان موحدا إلا بالتوبة، فيقيد مطلقا، ويحجر واسعا، والله الموفق.
(5) . أخرجه ابن أبى حاتم والثعلبي من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب: لما نزلت وإن ربك لذو مغفرة الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
(6) . قوله «ولم يجعل الأنبياء شرعا واحدا» أى سواء، كذا في الصحاح. (ع)

(2/514)


الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9)

يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم، ولست بقادر عليه، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء، وهو الله تعالى. ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره: أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيرا ومصلحة، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم، العالم بأى طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره.

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 9]
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9)
الله يعلم يحتمل أن يكون كلاما مستأنفا، وأن يكون المعنى: هو الله، تفسيرا لهاد على الوجه الأخير، ثم ابتدئ فقيل يعلم ما تحمل كل أنثى «وما» في ما تحمل، وما تغيض، وما تزداد. إما موصولة، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة، فالمعنى: أنه يعلم ما تحمله من الولد على أن حال هو. من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج «1» ، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة، ويعلم ما تغيضه الأرحام: أى تنقصه. يقال:
غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى وغيض الماء وما تزداده: أى تأخذه زائدا، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا. ومنه قوله تعالى وازدادوا تسعا ويقال: زدته فزاد بنفسه وازداد، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبى حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك. وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين، ولذلك سمى هرما. ومنه الدم، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أن الفعلين غير متعديين، ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن تزيد
__________
(1) . قوله و «خداج» في الصحاح: خدجت الناقة خداجا: ألقت ولدها قبل تمام الأيام، فهي خادج، وهو خديج، أو أخدجت: إذا جاءت به ناقص الخلق، فهو مخدج، وهو مخدج اه. (ع)

(2/515)


سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (10) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)

على تسعة أشهر. وعنه. الغيض الذي يكون سقطا لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام بمقدار بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله إنا كل شيء خلقناه بقدر. الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المتعال المستعلى على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.

[سورة الرعد (13) : الآيات 10 الى 11]
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (10) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)
سارب ذاهب في سربه- بالفتح- أى في طريقه ووجهه. يقال: سرب في الأرض سروبا. والمعنى: سواء عنده من استخفى: أى طلب الخفاء في مختبإ بالليل في ظلمته، ومن يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت: كان حق العبارة أن يقال:
ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار «1» ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفى والسارب، وإلا فقد تناول واحدا هو مستخف وسارب. قلت: فيه وجهان: أحدهما أن قوله وسارب عطف على من هو مستخف، لا على مستخف، والثاني أنه عطف على مستخف، إلا أن من في معنى الاثنين، كقوله:
نكن مثل من ياذئب يصطحبان «2»
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كان من حق الكلام أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ...
الخ» قال أحمد: فمقتضى السؤال الذي أورده الزمخشري أن تكون الواو عاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى، ومقتضى ما أجاب به أن يعطف أحد الموصوفين على الآخر، وتحتمل الآية وجها آخر: وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية. والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، وخصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا، ومنه قوله تعالى وما أدري ما يفعل بي ولا بكم والأصل: ولا ما يفعل بكم، وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه، لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهى موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة. ومنه:
فمن بهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أى ومن يمدحه وينصره، والله أعلم.
(2) .
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكا ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعال فان عاهدتني لا تخوننى ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان
للفرزدق، يصف ذئبا أتاه في مفازة فبات يقطع الزاد ويقسمه بينه وبينه، حال كونهما مشرفين على ضوء نار تارة وعلى دخانها أخرى، دلالة على تكرر إيقادها. وتكشر: أبدى أنيابه كالضاحك. وقائم سيفي: أى والحال أن مقبض سيفي بمكان عظيم من يدي، دلالة على الحرص والجرأة. تعال: أى أقبل إلى نتعاهد. ويروى تعش أى كل العشاء، فان عاهدتني بعد ذلك والتزمت أنك لا تخوننى: نكن مثل من يصطحبان يا ذئب. ومعنى «من» مثنى، فعاد عليه الرابط كذلك. والنداء. اعتراض بين الصلة والموصول. وأ أنت: استفهام توبيخي. وتكرير النداء فيه نوع توبيخ أيضا. وأخيين: مصغر أخوين. واللبان: لبن المرأة خاصة. شبه الذئب والغدر بتوأمين نشئا معا من صغرهما ترضعهما أم واحدة، دلالة على كمال التلازم والتآلف. وتسمية الذئب امرأ، مبنية على تنزيله منزلة العاقل المصحح لخطابه. وشبههما بالأخوين من نوع الإنسان، كما دل على ذلك لفظ اللبان، لأن التآلف فيه أكمل وأظهر منه في غيره.

(2/516)


هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)

كأنه قيل: سواء منكم اثنان: مستخف بالليل، وسارب بالنهار. والضمير في له مردود على من كأنه قيل: لمن أسر ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب معقبات جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله وجاء المعذرون بمعنى المعتذرون. ويجوز معقبات، بكسر العين ولم يقرأ به. أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه، كما يقال: قفاء، لأن بعضهم يعقب بعضا. أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه يحفظونه من أمر الله هما صفتان جميعا، «1» وليس من أمر الله بصلة للحفظ، كأنه قيل: له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله، أى: من أجل أن الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة على رضى الله عنه وابن عباس وزيد بن على وجعفر بن محمد وعكرمة: يحفظونه بأمر الله. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب، كقوله قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن وقيل: المعقبات الحرس والجلاوزة «2» حول السلطان، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أى من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به، وقرئ له معاقيب جمع معقب أو معقبة.
والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير إن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحال الجميلة بكثرة المعاصي من وال ممن يلي أمرهم ويدفعه عنهم.

[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 13]
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: ومعنى قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله هما صفتان جميعا وليس من أمر الله بصلة الحفظ كأنه قيل له ... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا الوجه أنهم يحفظونه من الأمر الذي علم الله أنه يدفعه عنه بسبب دعائهم. ولولا هذا السبب لكان في علم الله أن النقمة تحل عليه، لأن الله عز وجل يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وسع ربنا كل شيء علما.
(2) . قوله «والجلاوزة» في الصحاح «الجلواز» الشرطي، والجمع الجلاوزة. (ع)

(2/517)


خوفا وطمعا لا يصح أن يكونا مفعولا لهما «1» لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوف وطمع. أو على معنى إخافة وإطماعا. ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على: ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين، أى: خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع: أن وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق «2»
وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر، كالمسافر، ومن له في جرينه التمر والزبيب، ومن له بيت يكف «3» ، ومن البلاد مالا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، ويطمع فيه من له فيه نفع، ويحيا به السحاب اسم الجنس، والواحدة سحابة. والثقال جمع ثقيلة، لأنك تقول سحابة ثقيلة، وسحاب ثقال، كما تقول: امرأة كريمة ونساء كرام، وهي الثقال بالماء ويسبح الرعد بحمده ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أى يضجون بسبحان الله والحمد لله. وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «سبحان من يسبح الرعد بحمده» «4» وعن على رضى الله عنه: سبحان من سبحت له. وإذا اشتد الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» «5» وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من
__________
(1) . قال محمود: «خوفا وطمعا لا يصح أن يكون مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل ... الخ» قال أحمد: أو مفعولا لهما، على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى، لأنه إذا أراهم فقد رأوا، والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا، أى: ترقبونه وتتراءونه، تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع، والله أعلم.
(2) . يقول: هو فتى شجاع جواد، يخشى شره، ويرجى خيره، فهو كالسحاب الأسود. والجون: الأسود:
ويطلق على الأبيض. ورواه ابن جنى بالضم ليكون جمعا، أى السود المظلمات، لأن السحاب جمع في المعنى. يرتجى الحياء: أى المطر، منها. ونخشى صواعقها، وهي قطع النار التي تنزل منها.
(3) . قوله «ومن له بيت يكف» وكف البيت يكف: قطر يقطر، كذا في الصحاح. (ع)
(4) . أخرجه الطبري من رواية إسرائيل عن ليث عن رجل عن أبى هريرة رفعه «أنه كان إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده» ورواه البخاري في الأدب المفرد، موقوفا على كعب بن مالك.
(5) . أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وأبو يعلى والحاكم من رواية الحجاج بن أرطاة عن أبى مضر عن سالم ابن عبد الله عن أبيه قال الترمذي: غريب.

(2/518)


الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق «1» من نار يسوق بها السحاب» «2» وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملك. ومن بدع المتصوفة. الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم والملائكة من خيفته ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله.
ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده، وما دل على قدرته الباهرة ووجدانيته ثم قال وهم يعنى الذين كفروا وكذبوا رسول الله وأنكروا آياته يجادلون في الله حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم من يحي العظام وهي رميم ويردون الواحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم «الملائكة بنات الله» فهذا جدالهم بالباطل، كقولهم وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق وقيل: الواو للحال. أى: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم. وذلك أن أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حين وفد عليه معه عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامرا بغدة كغدة البعير «3» وموت في بيت سلولية، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته- أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ «4» المحال المماحلة، وهي شدة المماكرة والمكايدة. ومنه: تمحل لكذا، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث: «ولا تجعله علينا ماحلا «5» مصدقا» وقال الأعشى:
__________
(1) . قوله «معه مخاريق من نار» في الصحاح المخراق: منديل يلف ليضرب به. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد من رواية بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أخبرنا يا أبا القاسم عن الرعد. فذكره- وزاد: قالوا: فما هذا الصوت قال: زجره للسحاب قالوا: صدقت» وفي الطبراني والأوسط من رواية أبى عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصارى «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد. فقال: هو ملك بيده مخراق إذا رفع برق وإذا زجر رعدت وإذا ضرب صعقت،.
(3) . قوله «بغدة كغدة البعير» في الصحاح: غدة البعير: طاعونه. (ع)
(4) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني وابن مردويه عنه من رواية زيد بن أسلم عن عطاء عنه «أن أريد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة- فذكر الحديث مطولا» وأخرجه النسائي والطبري والعقيلي وأبو يعلى من رواية على بن أبى سارة عن ثابت عن أنس قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى رجل من خزاعة العرب فقال: ادعه قال: يا رسول الله هو أخى من ذلك. قال: اذهب فادعه.
فأتاه. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. قال: وما الله؟ أمن ذهب هو أو من فضة، أم من نحاس- الحديث. وفيه: فأنزل الله تعالى ويرسل الصواعق ... الآية قال العقيلي: لا مانع على حديثه إلا ممن هو دونه.
وقد رواه البزار والبيهقي في الدلائل من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت نحوه.
(5) . قلت: الذي في الحديث «القرآن شافع مشفع وما حل مصدق» أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر والحاكم من حديث معقل بن يسار، والطبراني من حديث ابن مسعود عن أنس. أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن.

(2/519)


له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)

فرع نبع يهش فى غصن المج ... د غزير الندى شديد المحال «1»
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث. لا يحتسبون. وقرأ الأعرج بفتح الميم، على أنه مفعل، من حال يحول محالا إذا احتال. ومنه: أحول من ذئب، أى أشد حيلة. ويجوز أن يكون المعنى: شديد الفقار «2» ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء:
فساعد الله أشد، وموساه أحد، لأن الحيوان إذا اشتد محاله، كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه.

[سورة الرعد (13) : آية 14]
له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)
دعوة الحق فيه وجهان، أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق «3» الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك: كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، لكونه حقيقا بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدى دعاؤه. والثاني: أن
__________
(1) . فرع كل شيء أعلاه. والنبع: شجر تتخذ منه القسي. والهش من كل شيء: ما فيه رخاوة وليونة. وهش إليه، من باب تعب وضرب: ضحك وانبسط إليه، أى هو كفرع النبع في العلو وللصلابة في الحروب. وشبه المجد بشجرة طيبة على طريق المكنية، فاضافة الغصن إليه تخييل لذلك. ويحتمل أنه شبه قومه بأغصان الشجرة المثمرة على طريق التصريحية، وإضافتها للمجد قرينة على ذلك. وفيها دلالة على أن المجد منهم كالثمر من الأغصان، غزير الندى كثير العطاء شديد المحال، أى المماحلة والمكايدة، وهو كالتفسير التشبيه الأول، وغزير الندى كالتفسير الثاني، وهو من بديع الكلام.
(2) . قوله «ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار» في الصحاح: والمحالة أيضا: الفقارة، وفيه «الفقارة» واحدة فقار الظهر. (ع)
(3) . قال محمود: «فيه وجهان: أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق ... الخ» قال أحمد: دس تحت تأويل الأول نبذة من الاعتزال على وجه الاختزال. فحجر واسعا من لطف الله واستجابته أدعية عباده، وحتم رعاية المصالح، وجعل معنى إضافة الدعوة إلى الحق التباسها بالمصلحة، وقد انكشف الغطاء وتبين أن الله تعالى لا تعلل أفعاله ولا تقف استجابته على الشرط المذكور، وغرضنا إيقاظ المطالع لهذه المواضع من غفلة يتحيز بها إلى بدعة وضلالة، والله الموفق.

(2/520)


ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15) قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16)

تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى: دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.
وعن الحسن: الحق هو الله، وكل دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت: ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله «1» ؟ قلت. أما على قصة أربد فظاهر، لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله: اللهم اخسفهما بما شئت، فأجيب فيهما «2» ، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأول فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم والذين يدعون والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا كباسط كفيه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أى كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشرا أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئا ولم يبلغ طلبته من شربه.
وقرئ: تدعون، بالتاء. كباسط كفيه، بالتنوين إلا في ضلال إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.

[سورة الرعد (13) : آية 15]
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15)
ولله يسجد أى ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له ظلالهم أيضا، حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. وقرئ: بالغدو والإيصال، من آصلوا: إذا دخلوا في الأصيل.

[سورة الرعد (13) : آية 16]
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16)
__________
(1) . قوله «اتصال هذين الوصفين بما قبله» عبارة النسفي: واتصال شديد المحال وله دعوة الحق بما قبله. (ع)
(2) . ذكره الواحدي في الأسباب عن ابن عباس في القصة المذكورة. ولم أره فيها في الطريقين المتقدمين من رواية الكلبي وغيره.

(2/521)


أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)

قل الله حكاية لاعترافهم وتأكيد لم عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بد من أن يقولوا الله. كقوله قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك، فإذا قال: هذا قولي قال:
هذا قولك، فيحكى إقراره تقريرا له عليه واستيثاقا منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقينا، أى: إن كعوا عن الجواب «1» فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه أفاتخذتم من دونه أولياء أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضررا، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكم! أم جعلوا بل اجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار «2» وخلقوا صفة لشركاء، يعنى أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله فتشابه عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق قل الله خالق كل شيء لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة وهو الواحد المتوحد بالربوبية القهار لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور.

[سورة الرعد (13) : آية 17]
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)
__________
(1) . قوله «أى إن كعوا عن الجواب» أى امتنعوا جبنا أو احتبسوا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «أم مقدرة ببل والهمزة ومعناها هاهنا الإنكار ... الخ» قال أحمد: وفي قوله تعالى خلقوا كخلقه في سياق الإنكار تهكم بهم، لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله- تقدس عن التشبيه- ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفى في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كخلقه تهكم يزيد الإنكار تأكيدا. والزمخشري لا يطيق التنبيه على هذه النكتة مع كونه أفطن من أن تستتر عنه، لأن معتقده أن غير الله يخلق وهم العبيد يخلقون أفعالهم على زعمه، ولكن لا يخلقون كخلق الله، لأن الله تعالى يخلق الجواهر والأعراض، والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم لا غير. وفي قوله عز من قائل الله خالق كل شيء إلقام لأفواه المشركين الأولين، ثم لأفواه التابعة لهم في هذه الضلالة كالقدرية، فان الله تعالى بت هذه البتة أن كل شيء يصدق عليه أنه مخلوق جوهرا كان أو عرضا، فعلا لعبيده أو غيره، فالله خالقه، فلا يبقى بقية يحتمل معها الاشتراك إلا عند كل أثيم أفاك، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم، فلأمر ما تقاصر لسان الزمخشري عند هذه الآية وقرن شقاشقه، والله الموفق.

(2/522)


هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به «1» في صوغ الحلى منه واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب، والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزيد السيل الذي يرمى به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت: لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت: فما معنى قوله بقدرها؟
قلت: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار. ألا ترى إلى قوله وأما ما ينفع الناس لأنه ضرب المطر مثلا للحق، فوجب أن يكون مطرا خالصا للنفع خاليا من المضرة، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف «2» . فإن قلت: فما فائدة قوله ابتغاء حلية أو متاع؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله بقدرها لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله وأما ما ينفع الناس لأن المعنى: وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب، وهو الحلية والمتاع. وقوله ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع عبارة جامعة لأنواع الفلز، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك، نحو ما جاء في ذكر الآجر فأوقد لي يا هامان على الطين و «من» لابتداء الغاية. أى: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبدا رابيا منفخا مرتفعا على وجه السيل، أى يرمى به. وجفأت القدر بزبدها، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج: جفالا. وعن أبى حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ:
يوقدون، بالياء: أى يوقد الناس.
__________
(1) . قوله «وبالفلز الذي ينتفعون به» في الصحاح «الفلز» بالكسر وتشديد الزاى: ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض اه فليحرر، ولعله ما يبقيه الكير ... الخ. (ع)
(2) . قوله «السيول الجواحف» في الصحاح «سيل جحاف» بالضم: إذا جرف كل شيء وذهب به. (ع)

(2/523)


للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد (18) أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24)

[سورة الرعد (13) : آية 18]
للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد (18)
للذين استجابوا اللام متعلقة بيضرب، أى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا، أى: هما مثلا الفريقين. والحسنى صفة لمصدر استجابوا، أى: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله لو أن لهم كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيبين. وقيل: قد تم الكلام عند قوله كذلك يضرب الله الأمثال وما بعده كلام مستأنف. والحسنى: مبتدأ، خبره للذين استجابوا والمعنى: لهم المثوبة الحسنى، وهي الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره. «لو» مع ما في حيزه وسوء الحساب المناقشة فيه. وعن النخعي: أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء

[سورة الرعد (13) : آية 19]
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19)
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله أفمن يعلم لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم أنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب: كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز إنما يتذكر أولوا الألباب أى الذين عملوا على قضيات عقولهم، فنظروا واستبصروا.

[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24)

(2/524)


الذين يوفون بعهد الله مبتدأ. وأولئك لهم عقبى الدار خبره كقوله: والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولى الألباب، والأول أوجه.
وعهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى. ولا ينقضون الميثاق ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه: من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان إنما المؤمنون إخوة بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق منهم بسبب، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين ويخشون ربهم أى يخشون وعيده كله ويخافون خصوصا سوء الحساب فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا صبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف ابتغاء وجه الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله:
وتجلدى للشامتين أريهم «1»
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مرد فيه للفائت، كقوله:
ما إن جزعت ولا هلع ... ت ولا يرد بكاى زندا «2»
__________
(1) .
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع
لأبى ذؤيب خويلد بن خالد المخزومي، يرثى بنيه. روى أن معاوية مرض، فعاده الحسن بن على رضى الله عنهما فقال: كحلونى وألبسونى عمامتي، وأظهر القوة وأنشد له البيت الثاني، فأجابه الحسن بغتة بالأول. وشبه المنية بالسبع على طريق المكنية. وإنشاب الأظفار: تخييل. ومنى له: قدر له. والمنية: الموت لأنه مقدر.
والانشاب: الغرز والتعليق. ألفيت: أى وجدت كل تميمة لا تنفع، وهي ما يعلق على الولدان خوف الجن والحسد. وتجلدي: أى تصبرى وتصلبي. مبتدأ. وأريهم: خبره، أى أظهر لهم به أنى لا أتضعضع وأتخشع وأضعف لأجل ريب الدهر، أى حدثانه الطارئ من حيث لا أشعر. [.....]
(2) .
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن ... ومناقب أورثن مجدا
أعددن للحدثان سا ... بقة وعداء علندى
نهدا وذا شطب يقد ... البيض والأبدان قدا
كم من أخ لي صالح ... بوأته بيدي لحدا
ما إن هلعت ولا جز ... عت ولا يرد بكاى زندا
لعمرو بن معد يكرب. يقول: ليس الجمال بفاخر الثياب. وفاعلم: اعتراض. والخطاب لغير معين، أى ليس كذلك وإن ألبستها والبرد، ثوب سابغ يرتدى به إن الجمال خصال حميدة أكسبت أصحابها الشرف. والحدثان: مكروه الدهر المنقلب. والسابغة الدرع، وكانت له درع من ذهب. والعداء: الفرس الكثير العدو. والعلندى- بالفتح-: الغليظ الشديد السريع. وشيء علند: صلب- واعلندى البعير: اشتد. والنهد: الضخم الطويل. والشطب- بالضم-:
طرائق السيف. والأبدان: الدروع القصيرة، وإذا قطع البيضة والبدن مع أنهما من الحديد، قطع غيرهما بالأولى:
مدح نفسه بالشجاعة، ثم بالصبر فقال: كثير من إخوانى أنزلتهم اللحود بيدي، ومع ذلك ما جزعت لا قليلا ولا كثيرا فان زائدة. والهلع: شدة الجزع. وفي الحديث «من شر ما أوتى العبد: شح هالع، وجبن خالع» أى يهلع فيه وكأنه يخلع فؤاده. وتزند فلان. ضاق بالجواب وغضب. والمزند: مثل في الشيء. ويقال للحقير: زندان في مرقعة، فالزند: الشيء الحقير. ويروى: زيدا: بالياء، على أنه زيد بن الخطاب أخو عمر رضى الله عنه، كان صديقا له في الجاهلية. ويروى: وهل يرد بكائي؟ أى: لم أجزع، لعلمي أنه لا ينفع.

(2/525)


وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله، وإلا لم يستحق به ثوابا، وكان فعل كلا فعل مما رزقناهم من الحلال، لأن الحرام لا يكون رزقا «1» ولا يسند إلى الله «2» سرا وعلانية يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل- والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفيا للتهمة ويدرؤن بالحسنة السيئة ويدفعونها. عن ابن عباس:
يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم. وعن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا. وقيل: إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره عقبى الدار عاقبة الدنيا وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها «3» . وجنات عدن بدل من عقبى الدار. وقرئ: فنعم، بفتح النون.
__________
(1) . قوله «لأن الحرام لا يكون رزقا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيكون رزقا كالحلال. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد مما رزقناهم من الحلال، لأن الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله تعالى» قال أحمد:
الحق أن لا رازق إلا الله إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين كما أنه لا خالق إلا الله هل من خالق غير الله فإذا اقتضى العقل والسمع جميعا أن لا رازق إلا الله فأى مقال بعد ذلك يبقى للقدرى الزاعم أن أكثر العبيد يرزقون أنفسهم لأن الغالب الحرام وهو مع ذلك مصمم على معتقده الفاسد لا يدعه ولا تكفه القوارع السمعية والعقلية ولا تردعه فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون.
(3) . قال محمود: «المراد عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ... الخ» قال أحمد: قد تكرر مجيء العاقبة المطلقة مثل وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار، من تكون له عاقبة الدار. والعاقبة للمتقين والمراد في جميع ذلك: عقبى الخير والسعادة، والزمخشري يستنبط من تكرار مجيء العاقبة المطلقة والمراد عاقبة الخير أنها هي التي أرادها الله فهي الأصل والعاقبة الأخرى لما لم تكن مرادة بل عارضة على خلاف المراد والأصل لم يكن من حقها أن يعبر عنها إلا بتقييد يفهمها كقوله وعقبى الكافرين النار كل ذلك من الزمخشري تهالك على أن ينسب إلى الله إرادة ما لم يقع ومشيئة ما لم يكن مصادمة لما أنطق الله به ألسنة حملة الشريعة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس في مجيء ذلك على الإطلاق ما يعين أنه الأصل باعتبار الارادة، ففعله الأصل باعتبار الأمر، ونحن نقول: إن المؤدى إلى حمد العاقبة مأمور به، والمؤدى إلى سوئها منهى عنه، فمن ثم كانت عاقبة الخير هي الأصل، والله الموفق.

(2/526)


والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع (26)

والأصل: نعم. فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرى:
يدخلونها على البناء للمفعول. وقرأ ابن أبى عبلة صلح بضم اللام، والفتح أفصح، أعلم أن الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوى كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم سلام عليكم في موضع الحال، لأن المعنى: قائلين سلام عليكم، أو مسلمين. فإن قلت: بم تعلق قوله بما صبرتم؟ قلت: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم. والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة، كقوله:
بما قد أرى فيها أوانس بدنا «1»
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» «2» ويجوز أن يتعلق بسلام، أى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.

[سورة الرعد (13) : آية 25]
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25)
من بعد ميثاقه من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول سوء الدار يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا، لأنه في مقابلة عقبى الدار،. ويجوز أن يراد بالدار جهنم، وبسوئها عذابها.

[سورة الرعد (13) : آية 26]
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع (26)
الله يبسط الرزق أى الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط
__________
(1) .
أرى الوحش ترعي اليوم في ساحة الحما ... بما قد أرى فيها أوانس بدنا
يقول: أرى الوحش ترعى في ساحة الحما في هذا الزمان، بدل ما كنت أرى فيها الأحبة، فقد أرى: حكاية حال ماضية، وقد لتقريبها. والأوانس: جمع آنسة. والبدن: جمع بادنة، أى سمينة البدن.
(2) . أخرجه عبد الرزاق والطبري من رواية سهيل بن أبى صالح عن محمد بن إبراهيم التيمي قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره» وزاد «كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك» .

(2/527)


ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب (27) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب (29)

رزق أهل مكة ووسعه عليهم وفرحوا بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة، وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.

[سورة الرعد (13) : الآيات 27 الى 29]
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب (27) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب (29)
فإن قلت: كيف طابق قولهم لولا أنزل عليه آية من ربه قوله قل إن الله يضل من يشاء؟ قلت: هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبى قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه فط، كان موضعا للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم: إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة في الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم أناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في نوبة الخير، والذين آمنوا بدل من من أناب. وتطمئن قلوبهم بذكر الله بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته، كقوله ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها الذين آمنوا مبتدأ، وطوبى لهم خبره. ويجوز أن يكون بدلا من القلوب، على تقدير حذف المضاف، أى: تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا، وطوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى. ومعنى «طوبى لك» أصبت خيرا وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك:
طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك. والقراءة في قوله وحسن مآب بالرفع والنصب، تدلك على محليها. واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كموقن وموسر. وقرأ مكوزة الأعرابى: طيبي لهم، فكسر الطاء لتسلم الياء، كما قيل: بيض ومعيشة.

(2/528)


كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30) ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31)

[سورة الرعد (13) : آية 30]
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30)
كذلك أرسلناك مثل ذلك الإرسال أرسلناك، يعنى: أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، ثم فسر كيف أرسله فقال في أمة قد خلت من قبلها أمم أى أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون وحال هؤلاء أنهم يكافرون بالرحمن بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم قل هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء عليه توكلت في نصرتي عليكم وإليه متاب فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.

[سورة الرعد (13) : آية 31]
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31)
ولو أن قرآنا جوابه محذوف، كما تقول لغلامك: لو أنى قمت إليك، وتترك الجواب والمعنى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال عن مقارها، وزعزعت عن مضاجعها أو قطعت به الأرض حتى تتصدع وتتزايل قطعا أو كلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف، كما قال لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله هذا يعضد ما فسرت به قوله لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. وقيل: معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة الآية. وقيل: إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع،

(2/529)


كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبيا كما تزعم، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام. أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا: منهم قصى بن كلاب «1» فنزلت. ومعنى تقطيع الأرض على هذا: قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء: هو متعلق بما قبله. والمعنى: وهم يكافرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وليس ببعيد من السداد. وقيل قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهارا وعيونا بل لله الأمر جميعا على معنيين، أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله يعنى مشيئة الإلجاء والقسر «2» لهدى الناس جميعا ومعنى أفلم ييأس أفلم يعلم. قيل: هي لغة قوم من النخع. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسروننى ... ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم «3»
ويدل عليه أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبين، وهو تفسير أفلم ييأس وقيل: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق، وقد روى ابن ربيعة عن أبى أسامة عن مجالد عن الشعبي قال قالت قريش النبي صلى الله عليه وسلم «إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة- أحسبها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة حتى تزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرون أنك نبى، أو احملنا إلى الشام، أو إلى اليمن، أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلت. فأنزل الله تعالى ولو أن قرآنا- الآية وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق عطية بن أبى سعيد قال قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: «لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه الريح» وروى أبو يعلى من حديث الزبير بن العوام يقول «لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا آل قريش، فجاءته قريش. فحذرهم وأنذرهم فقالوا: تزعم أنك نبى وأن سليمان سخر له الريح والجبال، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسى كان يحيى الموتى. فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال وتنفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذها محارث فنزرع ونأكل أو ادع الله أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا أو ادع الله أن يصبر هذه الصخرة التي بجنبك ذهبا فننحت منها ويغنينا قال: فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحى. فلما سرى عنه قال: والذي نفسي بيده، لقد أعطانى ما سألتم ولو شئت كان ولكن أخبرنى أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم. فنزلت» .
(2) . قوله «أن لو يشاء الله يعنى مشيئة الإلجاء» هذا عند المعتزلة دون أهل السنة. (ع)
(3) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 261 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/530)


ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد (33) لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق (34)

في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام. وكان متقلبا في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء بآمنوا، على: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولهداهم تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها، ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة. وقيل: ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا «1» فتغير حول مكة وتختطف منهم، وتصيب من مواشيهم. أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك، كما حل بالحديبية، حتى يأتى وعد الله وهو فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك

[سورة الرعد (13) : آية 32]
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32)
الإملاء: الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن، كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم. استهزاء به وتسلية له.

[سورة الرعد (13) : الآيات 33 الى 34]
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد (33) لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق (34)
أفمن هو قائم احتجاج عليهم في إشراكهم بالله، يعنى أفا الله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة أو طالحة بما كسبت يعلم خيره وشره، ويعد لكل جزاءه،
__________
(1) . قلت: هو موجود في المغازي لابن اسحق. والواقدي، وطبقات ابن سعد في عدة سرايا منها سرية زيد ابن حارثة ليلقى عير قريش، وسرية على الحر بن سعد بن بكر وغيرهما.

(2/531)


مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35)

كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدإ ويعطف عليه وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده شركاء قل سموهم أى جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، ثم قال: أم تنبئونه على أم المنقطعة، كقولك للرجل: قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف، ومعناه: بل أتنبؤونه بشركاء «1» لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفى أن يكون له شركاء. ونحوه: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض، أم بظاهر من القول بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كقوله ذلك قولهم بأفواههم، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة «2» التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق: أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ «أتنبئونه» بالتخفيف مكرهم كيدهم للإسلام بشركهم وصدوا قرئ بالحركات الثلاث. وقرأ ابن أبى إسحاق:
وصد بالتنوين ومن يضلل الله ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدى فما له من هاد فما له من أحد يقدر على هدايته لهم عذاب في الحياة الدنيا
وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر، ولذلك سماه عذابا وما لهم من الله من واق
وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته.

[سورة الرعد (13) : آية 35]
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35)
مثل الجنة صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه، أى فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره: الخبر تجري من تحتها الأنهار كما تقول: صفة زيد أسمر. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة تجرى من تحتها الأنهار، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ على رضى الله عنه: أمثال الجنة، على
__________
(1) . قال محمود: «معناه بل أننبئونه بشركاء ... الخ» قال أحمد: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء، وأن الله لا يعلمهم كذلك، لأنهم ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة، ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع، لا تكنه بلاغنه وبراعته، ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء، فلم يكن بهذا الموقع التي اقتضته التلاوة.
(2) . عاد كلامه. قال: «وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ... الخ» قال أحمد: هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلا، لأنه يعرض فيها بخلق القرآن فتنبه لها، وما أسرع المطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه وهو غافل عما تحته، لولا هذا التنبيه والإيقاظ، والله أعلم.

(2/532)


والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب (36) وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق (37)

الجمع، أى صفاتها أكلها دائم كقوله لا مقطوعة ولا ممنوعة وظلها دائم لا ينسخ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

[سورة الرعد (13) : آية 36]
والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب (36)
والذين آتيناهم الكتاب يريد من أسلم من اليهود، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن، هؤلاء يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعنى ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفى نجران وأشياعهما من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع. فإن قلت: كيف اتصل قوله قل إنما أمرت أن أعبد الله بما قبله؟
قلت: هو جواب للمنكرين معناه: قل إنما أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله ولا أشرك به.
فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا وقرأ نافع في رواية أبى خليد: ولا أشرك بالرفع على الاستئناف كأنه قال: وأنا أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى: أمرت أن أعبد الله غير مشرك به. إليه أدعوا خصوصا لا أدعو إلى غيره وإليه لا إلى غيره مرجعي، وأنتم تقولون مثل ذلك، فلا معنى لإنكاركم.

[سورة الرعد (13) : آية 37]
وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق (37)
وكذلك أنزلناه ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء حكما عربيا حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها، فقيل له: لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك

(2/533)


ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39) وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41)

فلا يقيك منه واق، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان.

[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39]
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ. فقيل: كان الرسل قبله بشرا مثله ذوى أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أى: يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم يمحوا الله ما يشاء ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت عيره. وقيل. يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسى وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، والكلام في نحو هذا واسع المجال وعنده أم الكتاب أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأن كل كائن مكتوب فيه. وقرئ: ويثبت.

[سورة الرعد (13) : آية 40]
وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)
وإن ما نرينك وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم. أو توفيناك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم.

[سورة الرعد (13) : آية 41]
أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41)
أولم يروا أنا نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما نفتح على

(2/534)


وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار (42) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)

المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، أفهم الغالبون، سنريهم آياتنا في الآفاق والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تبهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. وقرئ: ننقصها، بالتشديد لا معقب لحكمه لا راد لحكمه. والمعقب: الذي يكر على الشيء فيبطله. وحقيقته: الذي يعقبه أى يقفيه بالرد والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد:
طلب المعقب حقه المظلوم «1»
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس وهو سريع الحساب فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت: ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت: هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، تريد حاسرا.

[سورة الرعد (13) : آية 42]
وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار (42)
وقد مكر الذين من قبلهم وصفهم بالمكر، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال فلله المكر جميعا ثم فسر ذلك بقوله يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار لأن من علم ما تكسب كل نفس، وأعد لها جزاءها فهو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ: الكفار. والكافرون. والذين كفروا. والكفر:
أى أهله، والمراد بالكافر الجنس: وقرأ جناح بن حبيش، وسيعلم الكافر، من أعلمه أى سيخبر.

[سورة الرعد (13) : آية 43]
ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)
__________
(1) .
حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم
للبيد بن ربيعة، يصف حمار وحش خرج في الهاجرة وراء أنانه، وهاجها: أى بعثها على السير ونشطها لسرعة سيره في طلبها، كما يطلب المعقب المظلوم حقه ودينه ممن هو عليه، فالمظلوم بالرفع صفة للمعقب، لأنه فاعل في المعنى.
ومعناه الذي رجع إلى حقه الذي كان أعطاه للدين، فكأنه رجع على عقبه، أو لأنه يعقب المدين ويتبعه.

(2/535)


كفى بالله شهيدا لما أظهر من الأدلة على رسالتي ومن عنده علم الكتاب والذي عنده علم القرآن «1» وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر. وقيل: ومن هو من علماء أهل الكتاب «2» الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم: وقيل هو الله عز وعلا «3» والكتاب: اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله. والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو، شهيدا بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب، على من الجارة، أى. ومن لدنه علم الكتاب، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرئ: ومن عنده علم الكتاب على من الجارة. وعلم، على البناء للمفعول. وقرئ:
وبمن عنده علم الكتاب. فإن قلت: بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت: في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدر في الظرف، فيكون فاعلا، لأن الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل عمل الفعل، كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه. وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالابتداء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الرعد أعطى من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله «4»
__________
(1) . قال محمود: «المراد والذي عنده علم القرآن ... الخ» قال أحمد: فيكون المراد حينئذ: جنس المؤمنين. [.....]
(2) . قال محمود: «وقيل ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم» قال أحمد: فالكتاب على التأويل الأول مراد به القرآن خاصة، وعلى الثاني جنس الكتب المتقدمة عليه.
(3) . قال محمود: «وقيل هو الله عز وجل، والكتاب، اللوح المحفوظ. وعن الحسن: لا والله ما يعنى إلا الله والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو، شهيدا بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب على من الجارة» قال أحمد: وإنما قدر الزمخشري في المعطوف عليه اسم الله بالذي يستحق العبادة، حذرا من عطف الصفة على الموصوف، وعدولا إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى تقديرا وإنما أخذ الحصر حيث يقول: ومن لا يعلم علم الكتاب إلا هو من أنه قدم الخبر الذي هو عنده على مبتدئه، وشأن الزمخشري أخذ الحصر من التقديم، والله الموفق للصواب.
(4) . تقدم إسناده في آل عمران.

(2/536)


الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد (3)

سورة إبراهيم
(مكية، [إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان] وآياتها 52 [نزلت بعد سورة نوح] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد (3)
كتاب هو كتاب، يعنى السورة. وقرئ: ليخرج الناس. والظلمات والنور:
استعارتان للضلال والهدى بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق إلى صراط العزيز الحميد بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل، كقوله للذين استضعفوا لمن آمن منهم ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أى نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله الله عطف بيان للعزيز الحميد، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو الله. الويل: نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ قلت: لأن المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون:
يا ويلاه، كقوله دعوا هنالك ثبورا الذين يستحبون مبتدأ خبره: أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجرورا صفة للكافرين، ومنصوبا على الذم، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأن المؤثر

(2/537)


وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (4)

للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: ويصدون، بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صده عن كذا، وأصده. قال:
أناس اصدوا الناس بالسيف عنهم «1»
والهمزة فيه داخلة على صد صدودا، لتنقله من غير التعدى إلى التعدى. وأما صده، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأن الفصحاء استغنوا بصده ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة ويبغونها عوجا ويطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجا، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل في ضلال بعيد أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضال، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جد جده. ويجوز أن يراد: في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد، لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وبعيدا.

[سورة إبراهيم (14) : آية 4]
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (4)
إلا بلسان قومه ليبين لهم أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله «2»
__________
(1) .
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواني في أنوف الحوايم
لذي الرمة، أنشده عنه الفراء، يقال: صده عن كذا، ولغة كلب: أصده عنه إذا منعه، فوضع الصدود موضع الأصداد. والسيافى- بالفاء-: الرياح، لأنها تسفو التراب. وقيل: هي بالقاف جمع ساق أو ساقية، وهي فوق الجدول. والحوايم: الجمال العطاش، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم، ويطلق على طير إذا اشتد عطشه حام حول الماء، فإذا ناله سقط ريشه فيغرق فيه. وجمعه حوايم أيضا. ويجوز أن يراد هنا، أو الجبال لأنها لارتفاعها تشرف من بعد كأنها حائمة، أو لأن الطير يحوم فوقها فنسبة الفعل إليها مجاز لأنها محله، يقول: قوم منعوا الناس عن أنفسهم بالسيف لمنع الرياح وضربها في أنوف. الجمال، أو في أعالى الجبال، أو كمنع السقاة إبل غيرهم عن إبلهم في السقي، أو كمنع الأنهار لبعد مائها الإبل العطاش أو الطيور العطاش عن الشرب، لأن الطيور تخاف الغرق فيه.
ويروى: عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف، أو السيوف بالرياح ضمنا.
(2) . قال محمود: «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة ... الخ» قال أحمد: جميع الفصل مرضى، لكن في هذه الخاتمة نظر، لأن فيها إشعارا بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه، لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به، وهذا فيه نظر، والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين، هذا هو التحقيق، والله أعلم. والزمخشري يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى، وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.

(2/538)


ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته.
فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعا قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضا. قلت: لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، «1» والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربى كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا- لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء. ومعنى بلسان قومه بلغة قومه. وقرئ:
بلسن قومه. واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبى بلغة قومه، وليس بصحيح، لأن قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب، فيؤدى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء كقوله فمنكم كافر ومنكم مؤمن لأن الله لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن.
ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف «2» ، وبالهداية:
التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف
__________
(1) . قوله «والأقطار المتنازحة» أى المتباعدة جدا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)

(2/539)


ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6)

[سورة إبراهيم (14) : آية 5]
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)
أن أخرج بمعنى أى أخرج، لأن الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر.
وكذلك التقدير بأن أخرج قومك وذكرهم بأيام الله وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذى قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نعماؤه وبلاؤه.
فإهلاك القرون لكل صبار شكور يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل: أراد لكل مؤمن، لأن الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيها عليهم.

[سورة إبراهيم (14) : آية 6]
وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6)
إذ أنجاكم ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم عمل فيه، ويتبين «1» الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاما حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله، أى: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة يذبحون وفي الأعراف يقتلون وهاهنا ويذبحون مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيرا للعذاب وبيانا له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على
__________
(1) . قوله «ويتبين» لعله: وتبيين. (ع)

(2/540)


وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9)

جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا، قال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذى يبلوا «1»

[سورة إبراهيم (14) : آية 7]
وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7)
وإذ تأذن ربكم من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله نعمة الله عليكم كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
ومعنى تأذن ربكم: أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا بليغا تنتفى عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال لئن شكرتم أو أجرى تأذن مجرى، قال، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: «وإذ قال ربكم لئن شكرتم» ، أى لئن شكرتم يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لأزيدنكم نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم ولئن كفرتم وغمطتم «2» ما أنعمت به عليكم إن عذابي لشديد لمن كفر نعمتي.

[سورة إبراهيم (14) : آية 8]
وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8)
وقال موسى إن كفرتم أنتم يا بنى إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بد لكم منه وأنتم إليه محاويج، الله لغني عن شكركم حميد مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.

[سورة إبراهيم (14) : آية 9]
ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 208 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «وغمطتم ما أنعمت به عليكم» في الصحاح «غمط الشيء» بطره وحقره. (ع)

(2/541)


قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)

والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جملة من مبتدإ وخبر، وقعت اعتراضا: أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. ولا يعلمهم إلا الله اعتراض. والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدعون علم الأنساب، وقد نفى الله علمها عن العباد فردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل «1» ، كقوله عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أى هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطا لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وهذا قول قوى. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل:
الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله. وقرئ: «تدعونا» ، بإدغام النون مريب موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب «2» الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.

[سورة إبراهيم (14) : آية 10]
قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)
أفي الله شك أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم
__________
(1) . قال محمود: «معناه عضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ... الخ» قال أحمد: وأقوى هذه الوجوه هذا الوجه الذي نبه المصنف على اختصاصه بالقوة، وإنما كان كذلك لأن إقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم، هو المناسب لحسدهم في الكفر. وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد وليس السياق بمناسب الضحك ولا الغيظ ولا لتصميت الرسل كمناسبته لاقناطهم من القبول. ألا ترى أنهم لما أعادوا للرسل القول ولم ينكروا عليهم عودهم إلى المجادلة، دل على أنهم لم يسكتوهم أولا، ولا كان غرضهم ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «وأراب الرجل» لعله: أو أراب. (ع)

(2/542)


أى يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله: دعوته لينصرنى، ودعوته ليأكل معى، وقال:
دعوت لما نابنى مسورا ... فلبى فلبى يدى مسور «1»
فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: من ذنوبكم؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم وقال في خطاب المؤمنين: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم إلى أن قال يغفر لكم ذنوبكم وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد. وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها ويؤخركم إلى أجل مسمى إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة «2» دوننا، ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة «3» بسلطان مبين بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتا ولجاجا.
__________
(1) . لأعرابى من بنى أسد. ولبى: بمعنى أجاب، ورسمه ابن حبيب بالألف وإن كان يائيا للفرق بينه وبين المثنى بعده. ولبى من الأسماء اللازمة للاضافة إلى الضمير، وشذ إضافته للظاهر كما هنا، من لب بالمكان لبا أقام به والمراد ملازمة إجابته إجابة بعد إجابة لا اثنين فقط، وهو منصوب على المصدرية بفعل محذوف. هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أنه مفرد مقصور، قلبت ألفه مع الضمير ياء كلدى وعلى، فرد عليه سيبويه بأنه لو كان كذلك لم تنقلب ألفه مع الظاهر ياء كلدى وعلى، لكنهم لما أضافوه للظاهر قلبوها ياء كما في البيت. يقول: دعوت مسورا لما أصابنى، فأجابنى فلبى يديه، أى أجاب الله دعاءه بعد إجابة، وأقحم اليدين لأنهما يرفعان عند الدعاء، فكأنهما المجابتان، أو لأن نصره حصل بهما، ففيه إشارة إلى أنه أنقذه. وقيل: إنه دعاه ليغرم عنه الدية، فأجابه، فذكر يديه لأنه بذل بهما. قيل: وكانت عادة العرب ذلك فنهى عنه. وروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال. إذا دعا أحدكم أخاه فقال: لبيك، فلا يقولن لبى يديك، وليقل أجابك الله بما تحب.
(2) . عاد كلامه. قال: «وقولهم إن أنتم إلا بشر مثلنا: معناه فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» ؟ قال أحمد: ومن تهالكه على الانتصار لاعتقاده تفضيل الملائكة على الرسل من البشر، يستعين حتى يحمل الكفار على أنهم كانوا يعتقدون كمعتقد القدرية في تفضيل الملك على الرسول، لأنه يدعى ذلك أمرا مركوزا في الطباع معلوما ضرورة، والله الموفق. [.....]
(3) . قوله «لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» هذا على مذهب المعتزلة، أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)

(2/543)


قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12) وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14)

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 12]
قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12)
إن نحن إلا بشر مثلكم تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده بالنبوة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم إلا بإذن الله أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله وما لنا ألا نتوكل على الله ومعناه: وأى عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وقد هدانا وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت: كيف كرر الأمر بالتوكل «1» ؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله فليتوكل المتوكلون معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 12 الى 14]
وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12) وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14)
لنخرجنكم، أو لتعودن ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين «2» على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف كرر ذلك بعد قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ... الخ» قال أحمد: وبهذا يخرج عن وادى «من قتل قتيلا فله سلبه» والله أعلم.
(2) . قوله «حالفين» حال من فاعل قال. وعبارة النسفي «وحلفوا» . (ع)

(2/544)


واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17)

صار، ولكن عاد، ما عدت أراه عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد لنهلكن الظالمين حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة: «ليهلكن» ، و «ليسكننكم» بالياء اعتبارا لأوحى، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك: أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن.
والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، وأورثكم أرضهم وديارهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من آذى جاره ورثه الله داره «1» » ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثتهم به، وسجدنا شكرا لله ذلك إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أى ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف «2» فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أن ذلك حق للمتقين، كقوله والعاقبة للمتقين

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 15 الى 17]
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17)
واستفتحوا واستنصروا الله على أعدائهم إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو معطوف على فأوحى إليهم وقرئ: «واستفتحوا» ، بلفظ الأمر. وعطفه على لنهلكن أى: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكن وقال لهم استفتحوا وخاب كل جبار عنيد معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وخاب كل جبار عنيد، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه من ورائه من بين يديه. قال:
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «يقف فيه عباده» في الصحاح: يتعدى ولا يتعدى. (ع)

(2/545)


عسى الكرب الذى أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «1»
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. فان قلت: علام عطف ويسقى؟ قلت:
على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى من ماء صديد؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال ويسقى من ماء فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله صديد وهو ما يسيل من جلود أهل النار يتجرعه يتكلف جرعه ولا يكاد يسيغه دخل كاد للمبالغة. يعنى: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله لم يكد يراها أى لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ويأتيه الموت من كل مكان كأن أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه «2» وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل من كل مكان من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة ومن ورائه ومن بين يديه عذاب غليظ أى في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أى استمطروا- والفتح المطر- في سنى القحط التي أرسالات عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. واستفتحوا- على هذا التفسير-:
__________
(1) .
يؤرقنى اكتئاب أبى نمير ... فقلبي من كآبته كئيب
فقلت له هداك الله مهلا ... وخير القول ذو اللب المصيب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
لهدبة بن خشرم العذرى. ويروى: خرشم. وكان مسجونا للقتل. والتأريق: التسهير، والاكتئاب: الانكسار وتغير اللون من الحزن، والكآبة كذلك. وأبو نمير كان صديقا له، فزاره لك السجن وحزن عليه. ومهلا: مصدر بدل من اللفظ بفعله. وخبر القول: جملة اعتراضية في أثناء مقول القول. واللب: العقل. وعسى الكرب: تتمة مقول القول. ويروى: أمسيت، بالضم والفتح. وقال الجوهري «وراء» يأتى بمعنى خلف، وقد يأتى بمعنى قدام، فهو من الأضداد اه، لأنه ما وراء الشخص بجرمه عن نفسه أو عن غيره، ومواراته عن نفسه لا يمكن إلا في الخلف، فكثر فيه. أو هو مكان المواراة مطلقا، وهو في الخلف أكثر. واسم «يكون» ضمير الكرب، ووراءه متعلق بمحذوف خبر ليكون، و «فرج» فاعل بالظرف. ويجوز أن «فرج» مبتدأ و «وراءه» متعلق بمحذوف خبر له، والجملة خبر ليكون، ويجب كون المحذوف كونا تاما لا ناقصا، لئلا يحتاج إلى تقدير محذوف أيضا، فيتسلسل التقدير، ولم يجعل «فرج» مرفوع بيكون، لأن خبر أفعال المقاربة لا يرفع الأجنبى عن أسمائها. وجملة «يكون» خبر ليس «وتجريد خبرها من «أن» قليل أى عسى أن يحصل الفرج بعد الكرب.
(2) . قوله «قد تألبت عليه» أى تجمعت. أفاده الصحاح. (ع)

(2/546)


مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد (18) ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20)

كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم.

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد (18)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك مثل الذين كفروا بربهم والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله أعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدإ، أى صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون أعمالهم بدلا من مثل الذين كفروا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر. وقرئ: الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها «1» وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء أى لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ذلك هو الضلال البعيد إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب بالحق بالحكمة والغرض الصحيح «2» والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 20]
ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20)
وقرئ: خالق السموات والأرض إن يشأ يذهبكم أى هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده وما ذلك على الله بعزيز بمتعذر،
__________
(1) . قوله «وإنما السكور لريحها» في الصحاح: سكرت الريح، تسكر سكورا: سكنت بعد الهبوب. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه خلقها بالحكمة والغرض الصحيح ... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي وقد تقدمت أمثاله.

(2/547)


وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21)

بل هو هين عليه يسير «1» ، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف، تكون من غير توقف: كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف. وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد، ويخاف عقابه ويرجى ثوابه في دار الجزاء.

[سورة إبراهيم (14) : آية 21]
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21)
وبرزوا لله ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأن ما أخبر به عز وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه ونادى أصحاب الجنة، ونادى أصحاب النار ونظائر له. ومعنى بروزهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له- أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت: لم كتب «الضعفؤا» بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره «علمؤا بنى إسرائيل» والضعفاء:
الأتباع والعوام. والذين استكبروا: ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم تبعا تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب «2» أو ذوى تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعا. فان قلت: أى فرق بين من في من عذاب الله وبينه في من شيء؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معا، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أى: بعض بعض عذاب الله
__________
(1) . عاد كلامه. قال: معناه وما ذلك على الله بعزيز، أى: هين عليه، لأنه قادر بالذات الخ ... قال أحمد: وهذا اعتزال صراح لهم يتقنع في إبرازه، وما أبشع قوله عن الله جل جلاله، خلص له الداعي وأمضى الصارف، وما أنباه عن سمع المحققين العارفين بآداب الله تعالى وبما يجب في حق جلاله، وقد تقدم ما فيه كفاية.
(2) . قوله «خادم وخدم وغائب وغيب» في الصحاح: وإنما ثبتت فيه الياء في التحريك، لأنه شبه بصيد وإن كان جمعا، وصيد مصدر قولك «بعير أصيد» لأنه يجوز أن ينوى به المصدر. (ع)

(2/548)


فإن قلت: فما معنى قوله لو هدانا الله لهديناكم؟ قلت الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم «1» وعتابا على استتباعهم واستغوائهم. وقولهم فهل أنتم مغنون عنا من باب التبكيت، لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم: بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم، إما موركين الذنب «2» في ضلالهم وإضلالهم على الله، كما حكى الله عنهم وقالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا. ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. وإما أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. وقيل: معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم، أى: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مستويان علينا الجزع والصبر. والهمزة وأم للتسوية. ونحوه:
فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم وروى أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: سواء علينا. فإن قلت: كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أن عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطم. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا ما لنا من محيص أى منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعا، كأنه قيل: قالوا جميعا سواء علينا، كقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه
__________
(1) . قال محمود: «الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم ... الخ» قال أحمد: لما استشعر دلالة الآية لعقيدة السنة المشتملة على أن الله تعالى مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن هد آية المشركين مما لم يشأه، ولو شاءها لاهتدوا. وإنما تنشأ هذه الدلالة من إيراد هذا الكلام عن الكفار في دار الحق حين حقت لهم الحقائق وانكشف الغطاء. والمقصود من اقتصاصه: إنذار أمثالهم في الدنيا، وتحذيرهم من الحسرة والندم في الآخرة إذا حق عليهم العذاب واعترفوا بالحق وقالوا القول المذكور، وهذا يرشد إلى أنه كلام صحيح المعنى، فلما فطن الزمخشري لذلك شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا، ليتم له اعتقاد أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، ومن ذلك هد آية الكفار فان الله تعالى يشاؤها في الدنيا، لكنها لم تكن. وأنى له ذلك، وسياق الآية يصوب الكلام المذكور وينذر الغافلين عنه في الدنيا، ويحذرهم من التورط فيما يؤدى إلى هذا الندم، حيث لا ينفع ويجر إلى هذه الحسرة، إذ لا ينجع، كما أورد كلام الشيطان عقيب ذلك حين يعترف بالحق في دار الحق، وحيث لا ينفعه إيمانه، فيقول: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ... الخ. وإنما سيق تحذيرا وإنذارا اتفاقا، والله الموفق.
(2) . قوله «موركين الذنب» في الصحاح: ورك فلان ذنبه على غيره، أى: قرفه به اه، أى: اتهمه به. (ع)

(2/549)


وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22)

والمحيص يكون مصدرا، كالمغيب والمشيب. ومكانا، كالمبيت والمصيف. ويقال: حاص عنه وجاض، بمعنى واحد.

[سورة إبراهيم (14) : آية 22]
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22)
لما قضي الأمر لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا «1» في الأشقياء من الجن والإنس فيقول ذلك إن الله وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إلا أن دعوتكم إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم بى وأطعتمونى إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم. وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، «2» وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت:
__________
(1) . قال محمود: «روى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا ... الخ» قال أحمد: قد حمل قول الكفار في الآية الأولى على إبطال الانتحال، لأنه لا يلائم معتقده، واستشهد على أن الكذب حينئذ غير ممتنع ولا متعذر بقول تعالى فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم لما ظن أن قول الشيطان هذا يلائم معتقده، اجتهد في الاستدلال على تصويبه وتصحيحه وإن كان قائله الشيطان، كل ذلك منه اتباع للهوى حيثما توجه وأية سلك. ونحن معاشر أهل السنة الملقبين عنده بالمجبرة نقول: إن الله تعالى إنما أورد هذا الكلام غير راد له، ولا مخطئ فيه الشيطان، كما اقتص كلام الكفار في الآية الأولى كذلك. ونحن نعتقد أن الملامة إنما تتوجه على المكلف وأما الله تعالى فمقدس عن ذلك.
وحجته البالغة، وقضاؤه الحق. وذلك أنا نعترف بما خلقه الله تعالى للعبد من الاختيار الذي يجده من نفسه عند تجاذب طرفى الأفعال الارادية ضرورة، وبذلك قامت الحجة له على خلقه، وإن سلبنا عن قدرة الخلق تأثيرها في الفعل، فلا تناقض إذا بين عقيدة السنة وبين صرف الملامة إلى المكلف، والله الموفق. [.....]
(2) . قوله «يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه» هذا مذهب المعتزلة، وقوله «المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم أن الله هو الخالق لأسباب السعادة وأسباب الشقاوة، لكن العبد له فيها الكسب. ومن هذا يتوجه عليه اللوم، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لها، وهو الذي يحصل لنفسه. وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)

(2/550)


قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به. قلت: لو كان هذا القول منه باطلا لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام: ألا ترى إلى قوله إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم كيف أتى فيه بالحق والصدق، وفي قوله وما كان لي عليكم من سلطان وهو مثل قول الله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي لا ينجى بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ: الإغاثة. وقرئ: بمصرخي، بكسر الياء وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قال لها هل لك يا تافى ... قالت له ما أنت بالمرضى «1»
وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو عصاي، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. «ما» في بما أشركتمون مصدرية، ومن قبل متعلقة بأشركتمونى، يعنى: كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم، أى في الدنيا، كقوله تعالى ويوم القيامة يكفرون بشرككم ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وقيل: من قبل يتعلق بكفرت.
وما موصولة، أى: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل، تقول: شركت زيدا، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أشركنيه فلان، أى: جعلني له شريكا.
ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم: سبحان ما سخركن لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم
__________
(1) .
قال لها هل لك يا تافى ... قالت له ما أنت بالمرضى
ماض إذا ما هم بالمضي
قائله مجهول. وتا: اسم إشارة، أى: هل لك يا هذه المرأة رغبة في. وأصل ياء المتكلم السكون، فان حركت فبالفتح، لكن لما التقت هنا ساكنة مع الياء قبلها ساغ كسرها، على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
وقالت: استئناف، كأنه قيل له: فماذا قالت؟ فقال: قالت له لست مرضيا، فإنك رجل ماض في كل أمرتهم فيه، فماض: خبر لمبتدإ محذوف. والجملة: استئناف جواب للسؤال عن علة عدم الرضا. وعبر بضمير الغيبة في قوله: هم نظراء للخير. ويجوز تقدير المبتدأ لفظ «هو» فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة، دلالة على الاعراض عنه، وذكر السبب لغيره.

(2/551)


وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23) ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)

له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها، وهذا آخر قوله إبليس. وقوله إن الظالمين قول الله عز وجل. ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. وقرئ: فلا يلومونى، بالياء على طريقة الالتفات، كقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم.

[سورة إبراهيم (14) : آية 23]
وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا، «1» على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قوله إبليس بإذن ربهم متعلق بأدخل، أى:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. فإن قلت: فبهم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك:
وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله:
بإذن ربهم بما بعده، أى تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم، يعنى: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 25]
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)
قرئ ألم تر ساكنة الراء، كما قرئ: من يتق، وفيه ضعف ضرب الله مثلا اعتمد مثلا ووضعه. وكلمة طيبة نصب بمضمر، أى: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهو
__________
(1) . قال محمود: «وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا على فعل المتكلم ... الخ» قال أحمد:
فان قلت: ما الذي صرف الزمخشري عن حمله على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وألجأه إلى تعليقه بما بعده، وقد كانت له في ذلك مندوحة، والالتفات على هذا الوجه كثير مستفيض. ألا ترى إلى قوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ثم قال تنزيلا ممن خلق الأرض ولم يقل تنزيلا منا. قلت: لأمر ما صرف الكلام عن هذا الوجه، وهو أن ظاهر أدخل بلفظ المتكلم، يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة، بل من الله تعالى مباشرة، وظاهر الاذن يشعر باضافة الدخول إلى الواسطة، فبينهما تنافر، ولكن يحسن عندي أن يعلق بخالدين، والخلود غير الدخول، فلا تنافر، والله أعلم.

(2/552)


ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26)

تفسير لقوله ضرب الله مثلا كقولك: شرف الأمير زيدا: كساه حلة، وحمله على فرس.
ويجوز أن ينتصب مثلا وكلمة بضرب، أى: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا ثم قال كشجرة طيبة على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة أصلها ثابت يعنى في الأرض ضارب بعروقه فيها وفرعها وأعلاها ورأسها في السماء ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها فإن قلت: أى فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأن في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأن المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل:
كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة النمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبرونى ما هي» «1» فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبيا، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروى: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنى لو كنت قلتها لكانت أحب إلى من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: شجرة في الجنة وقوله في السماء معناه في جهة العلو والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه تؤتي أكلها كل حين تعطى ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها بإذن ربها بتيسير خالقها وتكوينه لعلهم يتذكرون لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.

[سورة إبراهيم (14) : آية 26]
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26)
كشجرة خبيثة كمثل شجرة خبيثة، أى: صفتها كصفتها. وقرئ: ومثل كلمة بالنصب، عطفا على كلمة طيبة. والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأما الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث «2» ونحو ذلك. وقوله اجتثت من فوق الأرض في مقابلة قوله أصلها ثابت ومعنى اجتثت استؤصلت. وحقيقة الاجتثاث
__________
(1) . متفق عليه وله ألفاظ.
(2) . قوله «والكشوث» في الصحاح الكشوث نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض.
قال الشاعر:
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع)

(2/553)


يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)

أخذ الجثة كلها ما لها من قرار أى استقرار. يقال: قر الشيء قرارا، كقولك: ثبت ثباتا، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إما يضمحل عن قريب لبطلانه، من قولهم: الباطل لجلج «1» . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا، ولا في السماء مصعدا، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها القيامة.

[سورة إبراهيم (14) : آية 27]
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)
بالقول الثابت الذي ثبت بالحجة «2» والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر. وعن البراء ابن عازب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال «ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فيقول: ربى الله، ودينى الإسلام، ونبيي محمد، فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» «3» ويضل الله الظالمين الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأذل ويفعل الله ما يشاء أى ما توجبه الحكمة، لأن مشيئة الله تابعة
__________
(1) . قوله «من قولهم الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج، والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفذ. (ع)
(2) . قوله «القول الثابت الذي ثبت بالحجة» لما فسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد والخبيثة بكلمة الشرك، فالمتجه تفسير القول الثابت بقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وإضلال الظالمين بابقائهم على كلمة الشرك، إن الشرك لظلم عظيم وأما التمسك بالحجة وتقليد الشيوخ فبعيد عن السياق. وفيه رد على أهل السنة المكتفين بالتقليد في تحقق الايمان. (ع)
(3) . هذا طرف من حديث له طويل أخرجه أبو داود وأبو عوانة والحاكم وأحمد وابن راهويه وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية سعد بن عبيدة عند البخاري مرفوعا في قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت قال: نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك ومن نبيك؟ فيقول: ربى الله. ونبى محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا ... الآية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسماء الله الحسني بتحقيق أبي نعيم الاصبهاني

طرق حديث الأسماء الحسنى أبو نعيم الأصبهاني وصف الكتاب ومنهجه : لقد رأى الحافظ العَلَمُ أبو نعيم أن حديث " إن لله تسعة...الحديث ...