كتاب- رؤوس المسائل «المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية» جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467 هـ - 538 هـ)
رؤوس المسائل
«المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية» العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
(467 هـ - 538 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله نذير أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
رؤوس المسائل
دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام
على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فلما كان علم الفقه من أجل العلوم حث الله عز وجل عليه في قوله: {فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون} (1)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: "من يرد الله به خيرا يفقهه
في الدين" (2). وكان من عظيم امتنان الله سبحانه وتعالى علي أن وفقني لمواصلة
دراستي الشرعية عامة والفقهية بخاصة.
ولما عزمت العمل في هذا الفن بدأت البحث عن كتاب في الفقه بعامة، وفي علم الخلاف
بخاصة، جدير بأن يجد طريقه إلى أيدي الدارسين وينفض عنه غبار السنين، فساقتني
عناية المولى عز وجل إلى العثور على كتب عديدة في تراثنا الفقهي، كلها جديرة بأن
تكون موضع اهتمام الباحثين.
ووقع اختياري من بينها على كتاب "رءوس المسائل" للإمام جار الله محمود
بن عمر الزمخشري (467 - 538 هـ). (1) سورة التوبة: آية 122.
(2) أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: البخاري، في فرض
الخمس، باب قوله تعالى: {فأن لله خمسه}، (3116)، 6/ 217؛ مسلم، في الإمارة، باب
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "،
(1037)، 3/ 1524.
(1/7)
وكان مما زاد تعلقي بهذا الكتاب:
اهتمام الدارسين والباحثين في الوقت الحاضر بفقه الخلاف، حيث الاتجاه العام إلى
التجديد الفقهي، والخروج بآراء تتناسب والعصر الحديث.
ومن ثم وجدت في هذا الكتاب ضالتي التي أنشدها، فهو يشتمل على أهم مسائل الخلاف بين
المذهبين: الحنفي والشافعي، ويعرض المسائل الفقهية عرضا واضحا مبسطا، وفي أسلوب
علمي مستقيم، يميزه عن كثير من الكتب في هذا المجال العلمي، كما لا يفوته في منهج
العرض إيراد الأدلة بإيجاز لكلا المذهبين، في أمانة وإنصاف.
وضاعف من هذه الرغبة لدي المكانة العلمية التي يحتلها مؤلفه في تراثنا اللغوي، حيث
شهرته وتميزه، غير أنه لم يعرف عنه في الأوساط العلمية الآن شيئا عن نفقهه أو
إفراده لهذا العلم بمصنفات.
بدأت العمل وسرت في طريق لم تخل من العقبات والصعوبات، كان من أهمها: عدم عثوري
على نسخة أخرى للكتاب، في فهارس المكتبات العالمية، العربية منها والأجنبية،
الموجودة في المكتبة المركزية بجامعة أم القرى وغيرها.
والمشتغلون بالتحقيق يدركون مدى صعوبة العمل على نسخة واحدة، وبخاصة إذا لم تخل في
بعض الأحيان من السقطات في الجمل، بالإضافة إلى الأخطاء الإملائية والنحوية
الكثيرة، التي كثيرا ما تخل بالمعنى. كما أن المؤلف لم ينوه بذكر مصادر كتابه
كلية، ولم يذكر أيضا أسماء رواة الحديث، مما جعلني أعاني مشقة عظيمة في الوقوف على
مصادره، وأخيرا تغلبت على هذه العقبة باعتماد الكتب الفقهية المعتمدة المؤلفة قبل
عصر الزمخشري، وكتب المعاصرين له، التي كانت متداولة بين أيدي الدارسين للفقه
الحنفي والشافعي حينذاك، وجعلها مصادر لكتابه؛ لأن غالب الظن أن المؤلف استمد مادة
كتابه من هذه المصادر.
ورغم كل ما لاقيته من صعوبات، وطنت العزم على المضي في العمل مستعينا بالله عز
وجل، ثم مسترشدا بآراء وتوجيهات أستاذي الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو
سليمان، التي كان لها الأثر الكبير في إنجاز هذا العمل على هذه الصورة.
(1/8)
وقد قسمت العمل في هذه الرسالة إلى
قسمين رئيسيين:
قسم الدراسة، وقسم التحقيق.
أما قسم الدراسة فقد جعلته على ثلاثة فصول:
* الفصل الأول: تحدثت فيه عن عصر المؤلف فتضمن العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية بعامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* الفصل الثاني: تحدثت فيه عن حياة المؤلف، فتضمن العناصر التالية:
- نسبه ومولده.
- عقيدته.
- أسرته.
- مذهبه الفقهي.
- نشأته ومراحل حياته.
- الزمخشري فقيها.
- شيوخه.
- أخلاقه.
- تلامذته.
- وفاته.
- مؤلفاته.
- ثناء العلماء عليه.
* الفصل الثالث: تحدثت فيه عن كتاب "رءوس المسائل" موضوع الرسالة، وقد
تضمن العناصر التالية:
- عنوان الكتاب.
- منهج المؤلف في الكتاب.
- نسبة الكتاب لمؤلفه.
- مصادر الكتاب.
- أهمية الكتاب.
- نقد الكتاب.
- موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها.
- الكتب المؤلفة في علم الخلاف.
وأما قسم التحقيق فقد جعلت له مقدمة، تحدثت فيها عن النسخة المخطوطة الوحيدة،
شارحا منهجي في تحقيق الكتاب.
يتلخص هذا المنهج في النقاط التالية:
- كتابة النص حسب قواعد الإملاء المتعارف عليها في الوقت الحاضر.
- تخريج الآيات القرآنية، بتعيين السورة التي ذكرت فيها، ورقمها بين آياتها.
(1/9)
- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة، والآثار
المروية عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
- عزو آراء المذاهب إلى أصحابها، وتوثيقها من مصادر المذهب المعتمدة.
- بيان معاني الألفاظ الغريبة، والمصطلحات الفقهية والأصولية.
- وضع عناوين جانبية لكل مسألة من مسائل الكتاب، وترقيمها، وتسجيل أرقام أوراق النسخة
المخطوطة على الهامش، لسهولة العودة إلى الأصل.
- وضع فهارس فنية مفصلة للمسائل الفقهية، والآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة.
ولما كانت نصوص الكتاب خالية من أسماء الأعلام في أكثر الأحيان، لم أجد موجبا لوضع
فهرسة خاصة بها.
وبعد، فهذا واحد من كتب التراث الفقهي المغمورة، يجد طريقه إلى النور، وقد بذلت
غاية الجهد في إخراجه بصورة علمية تتناسب ومكانته. فإن أصبت فمن الله عز وجل
وتوفيقه، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم، وأبرأ إلى الله تعالى
من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته، ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، وبصرني
بأخطائي، وأسال الله سبحانه وتعالى أن يتقبله مني، ويجعله خالصا لوجهه الكريم،
وينفعني به في الدارين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
أجمعين.
* * *
(1/10)
قسم الدراسة
ويشتمل على:
• الفصل الأول: عصر الزمخشري.
• الفصل الثاني: حياة المؤلف.
• الفصل الثالث: كتاب رءوس المسائل.
(1/11)
الفصل الأول:
عصر الزمخشري
ويشتمل على العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية العامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* * *
الحالة السياسية في عصر الزمخشري
(467 - 538 هـ)
عاش الزمخشري في فترة أفول شمس الخلافة العباسية وضعفها، حتى إنه لم يبق من
الخلافة إلا اسمها.
عاصر الزمخشري من الخلفاء العباسيين:
1 - عبد الله المقتدي بالله بن محمد بن القائم (467 - 487 هـ).
2 - أحمد المستظهر بالله بن المقتدي (487 - 512 هـ).
3 - الفضل المسترشد بالله بن المستظهر (512 - 529 هـ).
4 - المنصور الراشد بالله بن المسترشد (529 - 529 هـ).
5 - محمد المقتفي بالله بن المستظهر (529 - 555 هـ) (1).
__________
(1) انظر بالتفصيل: خلفاء الدولة العباسية، من السابع والعشرين إلى الحادي والثلاثين.
خضري بك، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، الدولة العباسية، ص 427 - 450؛ حسن
إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، 4/ 35.
(1/13)
وكانت نتيجة هذا الضعف والتفكك ظهور
دويلات إسلامية متعددة، ففي بغداد عاصمة الخلافة العباسية، تعاقب في الاستيلاء على
النفوذ والسلطات في الخلافة بعد آل بويه: الأتراك السلاجقة، وكانوا يلقبون:
بالسلاجقة العظماء.
وقد أسس دولتهم ركن الدين أبو طالب طغرل (429 - 522 هـ) (1)، وعاصر الزمخشري من
سلاطين هذه الدولة:
1 - جلال الدين أبو الفتح ملكشاه (465 - 485 هـ).
فقد ولد الزمخشري في عصره، ويعد عصره من أزهى عصور الدولة السلجوقية (2).
2 - ناصر الدين محمود (485 - 470 هـ).
3 - ركن الدولة أبو المظفر بركيا رق (478 - 498 هـ).
4 - ركن الدين ملكشاه الثاني (498 - 498 هـ).
5 - غياث الدين أبو شجاع محمد بن أبي الفتح ملكشاه (498 - 511 هـ).
وقد اتصل به الزمخشري، ومدحه منوها بأفعاله وسجاياه التي خدم بها الإسلام (3).
6 - معز الدين أبو الحارث سنجر (511 - 552 هـ) (4).
وفي إطار التفكك والضعف للخلافة العباسية ظهرت دولة عرفت: (بالخوارزمية)، حيث مسقط
رأس الزمخشري، ومكان إقامته. وامتد حكمها من خراسان إلى ما وراء النهر وتنسب هذه
الدولة إلى مدينة خوارزم، وتطلق على منطقة شاسعة تقع في الجنوب من نهر جيحون
وشمالي شرق خراسان، وهي منطقة معروفة
__________
(1) انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 5/ 171؛ الدولة العباسية، ص 412؛ تاريخ
الإسلام، 4/ 34.
(2) انظر: الأصفهاني، تاريخ دولة آل سلجوق، ص 52 وما بعدها.
(3) الزمخشري، ديوان الأدب، مخطوط؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 64.
(4) انظر: تاريخ دولة آل سلجوق، ص 64 وما بعدها.
(1/14)
بخصوبة أراضيها، وقامت بدور كبير في
تطور الحضارة في أواسط آسيا منذ أقدم العصور (1). ودخلها الإسلام في عام (93 هـ)،
بعد أن فتحها القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي (م 96 هـ) (2).
عمرت هذه الدولة في هذه المنطقة من سنة (470 هـ) حتى سنة (628 هـ) (3).
ومن الأسر التي حكمت خوارزم، وعاصرها الزمخشري، أسرة: أنوشتكين، وقد عاصر من
ملوكها وأمراءها:
1 - أنوشتكين (470 - 490 هـ).
2 - قطب الدين محمد بن أنوشتكين (490 - 521 هـ).
3 - أتسز بن محمد (521 - 551 هـ) (4).
وكان للزمخشري صلة وثيقة بالأمير الخورازمشاة: محمد بن أنوشتكين، حيث مدحه بقصيدة
مطلعها:
أي الملوك تلاقت في مجالسه ... غرائب العلم والأداب والحكم (5)
وكانت له مكانة مرموقة عند هذا الأمير، وكذلك مع ابنه أتسز الذي حرر له الزمخشري
كتابه "مقدمة الأدب" وأثنى عليه في مقدمته (6).
__________
(1) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة (خوارزم)، جاء في الموسوعة: خوارزم:
امبراطورية في العصور الوسطى بوسط آسيا، عاصمتها: أورجنش ... غزاها جنكيز خان (1218
م). انظر: الموسوعة العربية الميسرة، معهد الدراسات العربية، مادة: (خوارزم)،
تاريخ الإسلام، 4/ 95.
(2) انظر: الكامل في التاريخ، 4/ 125، 138؛ الزركلي، الأعلام، 5/ 189.
(3) انظر: تاريخ الإسلام، 4/ 94.
(4) انظر الدولة العباسية، ص 399 - 410.
(5) نقله الشيرازي في كتاب "الزمخشري لغويا ومفسرا"، ص 24، 25، عن ديوان
الزمخشري.
(6) المصدر نفسه عن "مقدمة الأدب".
(1/15)
ومن أشهر الدول التي حكمت البلدان
الإسلامية في تلك الحقبة من الزمن:
1 - الدولة الفاطمية في مصر والشام (297 - 567 هـ) (1).
2 - دولة المرابطين في المغرب والأندلس (448 - 541 هـ) (2).
وفي هذه الظروف القاسية من الضعف والانقسام التي كان يعاني منها العالم الإسلامي،
وجدت أوروبا الصليبية الفرصة مواتية لغزو الشرق الإسلامي، وإقامة كيان صليبي فيه،
وقد رصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشام عام (491 هـ). وسقطت مدينة القدس عام
(492 هـ) (3) في أيديهم.
الحالة الاجتماعية في عصر الزمخشري
كان المجتمع الإسلامي في عصر الزمخشري مكونا من أجناس مختلفة أهمها: الجنس العربي
والفارسي والتركي، وأجناس أخرى، ممن يسكنون المدن والقرى والخيام، من مختلف
القوميات والشعوب.
وكان المجتمع على فئات متفاوتة، باعدت بينها موازين الحياة (4)، يسودها الدين
الإسلامي، ولم يخل من أقليات من اليهود والنصارى، الذين كانت لهم الحرية والأمن
والأمان ولهم كافة الصلاحيات في ممارسة شعائرهم، وتقلد مناصب كبيرة في الدولة،
وعمل التجارة وغيرها. وكانت اللغة العربية، هي اللغة السائدة، غير أنه تسبب اندماج
هذه الأمم المتفرقة ذات النوازع المختلفة في مجتمع واحد، إلى ظهور عادات وأخلاق
غير إسلامية، مثل أعياد جاهلية: كالنيروز والمهرجان، وظهور نحل ومذاهب هدامة
مختلفة. ومن ثم كثر الخلاف بين أصحاب النحل والأهواء، حول الأديان، وحول الاعتزال
والمسائل الكلامية، مما أدى إلى فتن ومحن، من أهمها ما حدث من
__________
(1) تاريخ الإسلام السياسي، 4/ 178.
(2) المصدر نفسه، 4/ 116.
(3) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 155، 156.
(4) انظر: أحمد أمين، ظهر الإسلام، 1/ 3 وما بعدها.
(1/16)
الفتن الطائفية بين الشيعة والسنة سنة
(482 هـ)، مما أدى إلى إزهاق الكثير من الأرواح. وتتكرر أمثال هذه الحوادث بعد كل
فترة دون انقطاع (1).
ومن أغرب تلك الفتن ما كان يستعر بين أهل السنة أنفسهم، وبالأخص بين الحنابلة
والأشاعرة كما حدث سنة (447 هـ) حيث "وقعت بينهما فتنة عظيمة، حتى تأخر
الأشاعرة عن الجمعات خوفا من الحنابلة" (2). كما ظهرت جماعة الباطنية، وهي
جماعة إرهابية واسعة النشاط، فأخافوا البلاد والعباد، وقتلوا ونهبوا وعاثوا في
الأرض فسادا (3).
وبلغ بهم التمرد إلى قتل الخلفاء والوزراء، إلى أن كفى الله تعالى الناس شرهم على
يد السلطان محمد بن ملكشاه (م 511 هـ) فقضى عليهم (4).
وكذلك سرى الفساد في النظام المالي والقضائي، وانقسم ولاء الجيش لجهات متعددة،
وفسدت أخلاق سكان المدن، خاصة مع ظهور كثرة العبيد والجواري.
وأمام هذه الحياة المضطربة لم يقف المصلحون مكتوفي الأيدي، بل بذلوا جهودهم في
سبيل دعوة الناس، وإرشادهم ونصحهم إلى التمسك بدينهم، ومكافحة الشكوك التي يثيرها
أصحاب الملل والنحل، ونظرة عابرة إلى كتب التراجم، والحالة العلمية، لهذا العصر
تبين عظم جهودهم.
وأما التجارة فكانت لها أطوار مختلفة، حسب الوضع الاجتماعي، وحسب الأمن
والاستقرار، واختلف نشاطها وركودها من جهة إلى أخرى. ولكنها كانت متدهورة بصورة
عامة في منطقة العراق وما حولها، بسبب الفتن الداخلية، وظهور قطاع الطرق.
__________
(1) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 9/ 47، 49، 10/ 198، 285.
(2) المصدر نفسه، 8/ 163، 10/ 286.
(3) المصدر نفسه، 9/ 150، 10/ 95.
(4) المنتظم، 9/ 150، 10/ 95.
(1/17)
كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى انتشار
الفوضى والاضطراب الاجتماعي (1).
هذا ولا تختلف الحالة الاجتماعية في خوارزم عن جاراتها، من المناطق الإسلامية، بيد
أن أهلها كانوا شديدي التمسك بأمور الدين.
وينوه ياقوت بهذا قائلا: "وما أظن كان في الدنيا لمدينة خوارزم نظير في ...
ملازمة أسباب الشرائع والدين" (2).
وكانوا أهل جهاد دائم، وعلى ثغر من ثغور الإسلام، "وقد اكتنفها أهل الشرك،
وأطافت بها قبائل الترك، فغزو أهلها معهم دائم، والقتال فيما بينهم قائم، وقد
أخلصوا في ذلك نياتهم، وأمحصوا عن طوياتهم، وقد تكفل الله بنصرهم في عامة الأوقات،
ومنحهم الغلبة في كافة الوقعات ... " (3).
وقد كان لهذه البيئة الدينية أثر عظيم في الحماس الديني الذي نشأ عليه أبناؤها.
كان أهل خوارزم يمتازون باهتمامهم باللغة العربية والعلوم الإسلامية، فتخرج فيها
جماعة من الأدباء والشعراء والعلماء (4). وتحدث الرحالون عن مظاهر ازدهارها
بعمائرها الكثيرة، وشوارعها الفسيحة، وأسواقها المليحة، وسكانها الكثيرين ووفرة
أسباب المعيشة والترف فيها (5).
ومع هذه الوفرة المعيشية، فإن عامة الشعب لا يختلف وضعهم المعيشي في الفقر والبؤس
عن بقية الأقطار الإسلامية.
__________
(1) انظر: المنتظم، 9/ 193، 10/ 14، 176، 189، 212. وانظر: الحياة الاجتماعية
بالتفصيل: ظهر الإسلام، 1/ 3 - 130؛ التاريخ الإسلامي، 4/ 625 - 632.
(2) معجم البلدان، 2/ 486.
(3) ما نقله الصاوي عن ربيع الأبرار، ص 18.
(4) كما يأتي تفصيل ذلك في الحياة العلمية.
(5) رحلة ابن بطوطة، ص 359.
(1/18)
يصور لنا الزمخشري هذه الحالة في كثير
من قصائده التي يشكو فيها الزمان (1) ومنها:
ومما شجاني أن غر مناقبي ... يغنى بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدي ... وسارت مسير النيران رسائلي
وكم من آمال لي وكم من مصنف ... أصاب بها ذهني محز المفاصل
غني من الآداب لكنني إذا ... نظرت فما في الكف غير الأنامل
فيا ليتني أصبحت مستغنيا ولم ... أكن في خوارزم رئيس الأفاضل
ويا ليتني مرض صديقي ومسخط ... عدوي وأني في فهاهة باقل
وما حق مثلي أن يكون مضيقا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلي (2)
الحالة العلمية في عصر الزمخشري
رغم ما كان في هذا العصر من حروب وأحداث داخلية وخارجية، وجدت هناك حركات علمية
ونهضات أدبية، ازدهرت فيها الحضارة والعلوم والآداب، خلد التاريخ مآثرها ومفاخرها.
أهمها: بناء المدارس في أنحاء أقطار العالم الإسلامي وحظيت هذه الصروح العلمية
باهتمام الملوك والأمراء والوزراء وتنافسهم في تشييدها، وإحضار أفاضل العلماء لها،
وتشجيع الطلاب على التحصيل فيها. فمن ذلك ما أسسه الوزير السلجوقي: نظام الملك
الحسن بن عاب بن إسحاق الطوسي (م 485 هـ) من مدارس نظامية في المدن الإسلامية
الكبرى (3).
ولم يقتصر هذا الاهتمام على الأمراء والوزراء فقط، بل كان العلماء وعامة الناس
يسهمون في هذا العمل الجليل (4).
__________
(1) يأتي تفصيل ذلك في مراحل حياته.
(2) نقله صاحب كتاب: "الزمخشري لغويا ومفسرا"، ص 37، ص ديوان الزمخشري
(مخطوط).
(3) انظر: الكامل لابن الأثير، 8/ 162، 163؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 32، 54،
الأعلام، 2/ 202.
(4) انظر: السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، 4/ 256، 292.
(1/19)
وكان إلى جانب هذه المدارس حلقات
التدريس في المساجد، ومجالس الجدل والمناظرات في النوادي ويؤمها عدد كبير من طلاب
العلم وعشاق المعرفة، حتى رجالات الدولة.
كما كان لهم الاهتمام الكبير، بالكتب والمكتبات التي تضم شتى العلوم والفنون (1).
وكان للخوارزميين الحظ الأوفر في هذا النشاط العلمي الجليل، إذ كانت البيئة الخوارزمية
تتسم بنشاط كبير في مختلف ميادين العلم والمعرفة.
يصور هذا المقدسي (م 597 هـ) في وصف أهل خوارزم حيث يقول: "أهل فهم وفقه
وقرائح وأدب، وقل إمام في الفقه والأدب والقرآن لقيته إلا وله تلميذ خوارزمي"
(2).
وهكذا كانت جميع المدن الإسلامية حافلة بمدارس ومكتبات علمية عظيمة (3). ومن ثم
كان عصر الزمخشري عصرا ذهبيا في النتاج الفكري، وعصر خير وبركة في العطاء العلمي.
أنجب هذا العمى علماء وأدباء أفذاذا، كانوا أئمة في العلوم النقلية والعقلية،
وظهرت فيه المعاجم التاريخية والموسوعات الأدبية، ونمت فيه الحركة العقلية، يظهر
هذا جليا بنظرة عابرة إلى بعض أعلام هذا العصر وأثرهم الفكري.
فمن الأعلام النابغين في العلوم الدينية:
في القراءات:
- أحمد بن محمد (ابن العريف) (م 536 هـ).
- عبد الله بن أحمد (الخشاب) (م 567 هـ).
- القاسم بن فيرا (الشاطبي) (م 590 هـ).
__________
(1) انظر: التاريخ الإسلامي، 4/ 430 - 433.
(2) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 284، 285.
(3) انظر: التاريخ الإسلامي؛ 4/ 430 وما بعدها.
(1/20)
وفي التفسير:
- عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن (ابن عطية الأندلسي) (م 542 هـ).
وفي الحديث:
- يحيى بن عبد الوهاب (ابن منده) (م 511 هـ).
- الحسين بن مسعود الفراء (البغوي) (م 510 هـ)، وقيل (م 516 هـ).
- أبو الطاهر أحمد بن محمد (السلفي) (م 576 هـ).
وفي الأديان:
- محمد بن عبد الكريم (الشهرستاني) (م 548 هـ).
وفي علوم التاريخ:
- عبد الكريم بن محمد (السمعاني) (م 562 هـ).
- علي بن الحسن (ابن عساكر) (م 571 هـ).
بعض أعلام اللغة:
- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد (الجرجاني) (م 471 هـ).
- يحيى بن علي (أبو زكريا التبريزي) (م 502 هـ).
- حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني) (م 502 هـ).
- أحمد بن محمد (الميداني النيسابوري) (م 518 هـ).
- عبد الله بن محمد (ابن السيد البطليوسي) (م 521 هـ).
- موهوب بن أحمد (الجواليقي) (م 540 هـ).
- هبة الله بن علي (ابن الشجري) (م 542 هـ).
- عبد الرحمن بن محمد (كمال الدين الأنباري) (م 577 هـ).
بعض أعلام الجغرافيا والرحلات:
- أبو بكر الزهري الغرناطي (م 532 هـ).
- الشريف الإدريسي (م 548 هـ).
ومن مؤلفي الموسوعات العامة:
- عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (م 597 هـ).
(1/21)
ومن الفلاسفة المشهورين في هذا العصر:
- محمد بن محمد (الغزالي) (م 505 هـ).
- محمد بن يحيى (ابن ماجه) (م 533 هـ).
- محمد بن عبد الملك (ابن الطفيل) (م 581 هـ).
- محمد بن أحمد (بن رشد الحفيد) (م 595 هـ).
بعض الشعراء والأدباء والكتاب:
- الحسين بن علي (الطغرائي) (م 513 هـ).
- القاسم بن علي (الحريري) (م 516 هـ).
- أحمد بن محمد (ابن الخياط الدمشقي) (م 517 هـ).
- إبراهيم بن أبي الفتح (ابن خفاجة) (م 533 هـ).
- محمد بن محمد بن عبد الجليل (رشيد الدين الوطواط) (م 573 هـ) (1).
وأما بالنسبة لمنطقة خوارزم، فإنها كانت زاخرة بالعلماء والأدباء والمحدثين
واللغويين، ذكر الثعالبي بعضهم في اليتيمة ونبذا من أدبهم وشعرهم، وهم كثيرون
ومشهورون (2).
ومن ثم فإن المحيط العلمي الذي عاشه الزمخشري كان أكبر حافز له ليبتوأ الدرجات
العالية في العلوم العربية والدينية.
الحركة الفقهية في عصر الزمخشري
يمثل العصر الذي عاشه الزمخشري مرحلة انتهاء التجديد الفقهي، حيث استقرت المدارس
الفقهية المختلفة، فالقرن الرابع الهجري يحدد بداية دور التقليد
__________
(1) انظر الحركة العلمية في القرن السادس الهجري، بالتفصيل: تاريخ الإسلام، 4/ 439
- 559؛ وراجع تراجمهم في الأعلام.
(2) الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، 4/ 194 - 254.
(1/22)
والتزام مذاهب المتقدمين (1)، فقد بدأ
طور جديد في الفقه الإسلامي ذلك هو طور التهذيب والتنقيح، وتحرير أقوال علماء
المذاهب وتوجيهها، والاستدلال لها والتفريع والتخريج عليها.
وجد في هذا العصر أعلام من الفقهاء الذين كان لهم دور كبير في تفصيل المذاهب
وتطويرها وتهذيبها، وكان لهم أثر كبير في الأجيال من بعدهم: بأخذ أقوالهم
وترجيحاتهم في المذهب. فعلى سبيل المثال في مذهب الحنفية عاصر الزمخشري فقهاء من
الطبقة الثالثة: "طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب
المذهب، كالسرخسي (م 483 هـ) "، وبعض فقهاء الطبقة الخامسة: "طبقة أصحاب
الترجيح من المقلدين، كالقدوري (م 428 هـ) " (2).
وكان وما زال التعويل والاعتماد على أقوالهم في المذهب، ويعد عصرهم المرحلة
الثانية التي هي دور التوسع والنمو والانتشار في تطور المذهب الحنفي (3).
وهكذا في المذهب الشافعي، عاصر بعضا من الفقهاء الذين كان التعويل على كتبهم، وجرى
الاعتماد عليها في تحرير الذهب، كالشيرازي (م 476 هـ) في كتابه " المهذب
"، والغزالي (م 505 هـ) في كتابه "الوسيط" (4).
وكان الفقه الشافعي في هذا العصر يعيش حركة نشطة للجمع بين طريقة العراقيين
والخراسانيين، والتي تلاها تحرير المذهب على يد الإمامين الجليلين: الرافعي (م 623
هـ)، والنووي (م 676 هـ) (5).
__________
(1) انظر: الدهلوي، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الأحكام الفقهية، ص 40؛
الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 163؛ تاريخ المذاهب الفقهية، ص
7؛ خلاف، خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، ص 5، 8.
(2) ابن عابدين، محمد أمين، حاشية ابن عابدين، 1/ 77.
(3) انظر: الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، "المذهب عند الحنفية" دراسات
في الفقه الإسلامي، 1403 هـ.
(4) النووي، المجموع شرح المهذب، 1/ 9.
(5) انظر: مقالة الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، "المذهب عند الشافعية"،
ص 33 - 35.
(1/23)
وإليك أشهر فقهاء المذاهب، الذين
عاصرهم الزمخشري، وامتازوا بالتأليف مذاهب أئمتهم وقيامهم بنشره:
أشهر فقهاء الحنفية:
1 - شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، المتوفى سنة (483 هـ)، وقيل (500 هـ) وقيل
غير ذلك.
2 - أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني، المتوفى سنة (478 هـ).
3 - علي بن محمد البزدوي، المتوفى سنة (483 هـ).
4 - شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجري، المتوفى سنة (512 هـ).
5 - طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، المتوفى سنة (542 هـ).
6 - أبو بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، المتوفى سنة (552 هـ).
7 - أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار، المتوفى سنة (574 هـ).
8 - أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، المتوفى سنة (587 هـ).
9 - فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني، المعروف بقاضيخان، المتوفى سنة
(592 هـ).
10 - علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، المتوفى سنة (593 هـ).
أشهر فقهاء المالكية:
1 - أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفى سنة (494 هـ).
2 - أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الصقلي، المتوفى سنة (526
هـ).
3 - أبو بكر محمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي، المتوفى سنة (534 هـ).
4 - القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي، المتوفى سنة (541 هـ).
5 - إسماعيل بن مكي العوفي، المتوفى سنة (581 هـ).
6 - محمد بن أحمد بن رشد الحفيد، المتوفى سنة (595 هـ).
(1/24)
أشهر فقهاء الشافعية:
1 - أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز آبادي، المتوفى سنة (476 هـ).
2 - أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ، المتوفى سنة (477 هـ).
3 - أبو سعيد عبد الرحمن بن مأمون المتولي، المتوفى سنة (488 هـ).
4 - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (إمام الحرمين)، المتوفى سنة (487
هـ).
5 - أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، المتوفى سنة (502 هـ).
6 - حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي، المتوفى سنة (505 هـ).
7 - أبو إسحاق إبراهيم بن منصور العراقي، المتوفى سنة (596 هـ).
8 - أبو سعد عبد الله بن محمد هبة الله (ابن أبي عصرون التميمي الموصلي).
ولحق بهم الإمامان الجليلان:
- أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي، المتوفى سنة (623 هـ).
- محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (676 هـ) (1).
أشهر فقهاء الحنابلة:
1 - الشريف، أبو جعفر الهاشمي، المتوفى سنة (470 هـ) (2).
2 - ابن البناء، الحسن بن أحمد بن عبد البغدادي، المتوفى سنة (471 هـ) (3)
3 - الحلواني، محمد بن علي بن محمد بن عثمان، المتوفى سنة (505 هـ) (4).
4 - أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن، المتوفى سنة (510 هـ) (5).
5 - ابن عقيل، علي بن محمد بن عقيل البغدادي، المتوفى سنة (513 هـ).
__________
(1) انظر: الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي، ص 253 - 264.
(2) ابن بدران، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص 208.
(3) المصدر نفسه، ص 206.
(4) المصدر نفسه، ص 210.
(5) المصدر نفسه، ص 211.
(1/25)
6 - ابن الزاغواني، علي بن عبد الله بن
نصر، المتوفى سنة (527 هـ).
7 - عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي، المتوفى سنة (536 هـ).
8 - ابن عبدوس، علي بن عمر بن أحمد، المتوفى سنة (559 هـ) (1).
9 - ابن هبيرة، يحيى بن أبي منصور الوزير، المتوفى سنة (565 هـ) (2).
وبوجود هذا النشاط العلمي في تحرير المذاهب الفقهية مع التقاء فقهاء مختلف المذاهب
الفقهية في قطر من الأقطار الإسلامية، تمخضت هذه الحالة عن اتصالات علمية واسعة
بين علماء المذاهب، يقول أبو زهرة: "والاتصال بين المذاهب المتضاربة في بعض
نواحيها (كالعراق وما جاورها) وإن أوجد تناحرا في بعض المسائل، يمكن أصحاب كل مذهب
من أن يفهموا بعض ما عند مخالفيهم، مما يحسن أخذه، إذ الالتقاء الفكري والمادي
يجعل الأفكار تتبادل بينهم، أرادوا أم لم يريدوا، وأن المذهب الشافعي قد صاقب في
بعض البلاد النائية عن البلاد العربية (كخراسان ونيسابور ونحوهما) المذهب الحنفي،
وكانت المعركة شديدة بين المذهبين (خاصة مع تساهل الناس في الخلاف مع مالك وسفيان
وأحمد وغيرهم) وبلغت أقصى حدتها، فكانت المناظرات تقام في المساجد وفي المجتمعات،
وكل يتقرب إلى الله تعالى بالدفاع عن مذهبه، والاحتجاج له بالأدلة التي يراها
مقوية له، ويضعف المذهب الآخر بكل ما يراه مضعفا له، حتى أن المآتم كانت تحيا
بالمناظرات" (3).
وشاعت مجالس المناظرات والجدل شيوعا كثيرا حتى لا تكاد مدينة كبيرة تخلو من عقد
تلك المجالس، ووجد لها روادها وجمهورها، حتى الخلفاء والوزراء كانوا يشجعونها
بحضورها، وألفت كتب في قواعد النظر، وأطلق عليها علم: أدب البحث، وأصبحت المناظرات
فنا من الفنون، ولقد ترتب على ذلك: التعصب المذهبي الشديد، وأفرط فيه بعض الكاتبين
في تفضيل مذهب على آخر، حتى أن
__________
(1) المصدر نفسه، ص 209.
(2) المصدر نفسه، ص 211.
(3) تاريخ المذاهب الفقهية، ص 278؛ انظر: وتاريخ التشريع الإسلامي، ص 252، وما
بعدها.
(1/26)
بعض أنصاف العلماء كانوا يطعنون في
المذاهب بتصيد قول ضعيف للمذهب المخالف له.
ويقدم لنا الزمخشري صورة حية عما كان يجري من منابزة بين المذاهب في القصيدة
التالية:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به ... وأكتمه كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت، قالوا بأنني ... أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن ماليكا قلت، قالوا بأنني ... أبيح لهم أكل الكلاب وهم وهم
وإن شافعيا قلت، قالوا بأنني ... أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت، قالوا بأنني ... ثقيل حلولي بغيض مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه ... يقولون تيس ليس يدري ويفهم
تعجبت من هذا الزمان وأهله ... فما أحد من ألسن الناس يسلم
وأخرني دهري وقدم معشرا ... على أنهم لا يعلمون وأعلم (1)
* * *
__________
(1) انظر: مقدمة الفائق في غريب الحديث للمحققين: علي محمد البجاوي، عمد أبو
الفضل، 1/ 9.
(1/27)
الفصل الثاني:
حياة المؤلف
ويشتمل على العناصر التالية:
- نسبه ومولده.
- شيوخه.
- عقيدته.
- أخلاقه.
- أسرته.
- تلامذته.
- مذهبه الفقهي.
- وفاته.
- نشأته ومراحل حياته.
- مؤلفاته.
- الزمخشري فقيها.
- ثناء العلماء عليه.
* * *
نسبه ومولده
نسبه: هو الإمام أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (1) الخوارزمي. يلقب: بفخر
خوارزم، وجار الله، لمجاورته بمكة المكرمة زمانا، وغلب عليه هذا اللقب فصار معروفا
به.
__________
(1) الإمام الزمخشري: علم فذ مرموق ومعروف في الأوساط العلمية بعامة، والأوساط
اللغوية بخاصة، ومن ثم تندر كتب التراجم والقواميس التي لم تترجم له إجمالا أو
تفصيلا. كذلك اهتم الباحثون في العصر الحديث بهذا الإمام الجليل، فخصوه بدراسات
وافية لجوانب شخصيته، وإبراز خصائصه وإبداعه وتفوقه، وآثاره في العلوم العربية
بخاصة، والعلوم الدينية بعامة، ظهر من هذا النوع من الدراسات: كتاب
"الزمخشري" للدكتور محمد أحمد الحوفي؛ و "منهج الزمخشري في تفسير
القرآن" للدكتور مصطفى الصاوي الجويني؛ وكذلك "الزمخشري لغويا
ومفسرا" رسالة جامعية مقدمة لجامعة الأزهر، من الدكتور مرتضى آية الله زاده
الشيرازي.
(1/29)
ولد بإحدى قرى خوارزم: (زمخشر) (1)،
يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب، سنة سبع وستين وأربعمائة (2)، في عهد
السلطان جلال الدين والدنيا أبي الفتح ملكشاه (465 - 485 هـ)، ووزيره نظام الملك
(م 485 هـ).
أسرته
ولد الزمخشري بين أبوين تدثرا بدثار الصلاح والتقى - وإن عز التعريف بهما في كتب
التاريخ - وهذا ما يمكن استخلاصه من الأحداث التالية:
منها ما ذكره الزمخشري أن مؤيد الملك (م 494 هـ) سجن والده الشيخ عمر بن محمد بن
أحمد الزمخشري (م 488 هـ) تقريبا، فيستعطفه الزمخشري ويتوسل إليه أن يطلقه مستشفعا
بفضله وتقواه، حيث يقول:
أكفى الكفاة مؤيد الملك الذي ... خضع الزمان لعزه وجلاله
ارحم أبي لشبابه ولفضله ... وارحمه للضعفاء من أطفاله
__________
(1) زمخشر: بفتح الزاي والميم وسكون الخاء وفح الشين المعجمة وبعدها راء، وهي قرية
كبيرة من قرى خوارزم. وفيات الأعيان، 5/ 173.
(2) انظر ترجمته: السمعاني، الأنساب 6/ 297، 298؛ ابن الأنباري، نزهة الألباء في
طبقات الأدباء، ص 290 - 292؛ ياقوت الحموي، معجم الأدباء 20/ 126 - 134؛ ابن
الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب 2/ 74؛ القفطي، إنباه الرواة على أنباء النحاة 3/
265 - 272؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 5/ 168 - 174؛ القرشي،
الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 2/ 161، 162؛ الفاسي، العقد الثمين في تاريخ
البلد الأمين 7/ 137 - 150؛ العيني، كشاف القناع المرنى عن مهمات الأسامي والكنى
(مخطوط)، ص 93؛ ابن قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية، ص 71؛ السيوطي، بغية
الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 279، 280؛ طبقات المفسرين، ص 41؛ طاش كبري
زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم 2/ 97 - 100؛ حاجي خليفة 2/
1475 وما بعدها؛ اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209؛ بروكلمان،
تاريخ الأدب العربي 5/ 215 - 238؛ الزركلي، الأعلام 7/ 178؛ كحالة، معجم المؤلفين
12/ 186.
(1/30)
ارحم أسيرا لو رآه من العدى ... أقساهم
قلبا لرق لحاله
ما أطول الليل الذي يفنيه في ... سهر وأطول منه ليل عياله
يشكو قيودا قصرت من خطوه ... وسلاسلا حكمت بضيق مجاله
ما ضر مثلك لو عفا عنه فمن ... دأب الكرام العفو عن أمثاله
هب أنه ممن أساء فما له ... غلب الرزانة منك سوء فعاله (1)
وعندما رزئ بفقد وألده رثاه بالقصيدة التالية، منوها عن صلاحه واستقامته بقوله:
فقدته فاضلا فاضت مآثره ... العلم والأدب المأثور والورع
أخا طباع مصفاة مناسبة ... ماء السحابة ما في بعضها طبع
وذا حقائق لا في لحظه طلب ... لغير رشد ولا في لفظه قذع
لم يأل ما عاش جدا في تقاه يرى ... إن الحريص على دنياه منخدع
صام النهار وقام الليل وهو شج ... من خشية الله كابي اللون ممتقع (2)
وأما والدته فقد كانت شديدة العطف رقيقة القلب، وكان مجابة الدعوة وهذا ما يلتمس
في القصة التي حكاها الزمخشري بقوله: "كنت في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط
في رجله، فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط،
فتألمت والدتي، وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت رجله" (3). وقطعت رجله عندما
سقط عن دابته.
والأسرة بصفة عامة كانت أسرة متدينة، ملتزمة بآداب الشرع وتعاليمه، وهو ما أشاد به
الزمخشري في الأبيات التالية:
هات التي شبهت ظلما بشمس ضحى ... لو عارضتها لغطتها بإشراق
__________
(1) انظر: الصاوي، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 25.
(2) منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 26.
(3) وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/31)
استغفر الله أني قد نسبت بها ... ولم
أكن لحمياها بذواق
ولم يذقها أبي قبلا ولا أحدا ... من أسرتي واتفاق الناس مصداقي (1)
نشأته ومراحل حياته
إذا أمعنا النظر في حياة الإمام الزمخشري، نجد أن حياته لم تسر على نمط ونسق واحد،
بل طرأت عليها تطورات وتغيرات، وسجل الزمخشري بنفسه كثيرا من سيرته ومراحل حياته،
في قصائد شعرية ومقطوعات نثرية، يستخلص منها الدارس وقائع مجريات حياته على مدى
السبعين سنة التي عاشها.
المرحلة الأولى: مرحلة الصبا:
نشأ في قريته (زمخشر) وتعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم،
ولعله كان على يد والده الذي سبق الحديث عن علمه وفضله، "قيل كان أبوه إماما
بقرية زمخشر" (2)، ولا نعرف كثيرا عن مشايخه، في هذه المرحلة من عمره، حيث لم
يهتم المؤرخون بتدوينها. حينما جاوز سن الطفولة وأصبح غلاما يافعا، أدى ضيق ذات
اليد بوالده إلى أن يسلم ابنه محمود إلى خياط وقال: "أعلمه الخياطة؛ لأنه صار
زمنا مبتلى" (2)، إلا أن رغبته الشديدة في تعلم العلم جعلته يستعطف أباه
ويقول له: "احملني إلى البلد واتركني بها".
وأمام هذه الرغبة الملحة اقتنع والده "فحمله إلى البلد، ورزقه الله حظا حسنا،
فكفاه الله رزقه" (3).
يقول الزمخشري عن نفسه، كما يروي ابن خلكان: "إنه لما بلغ سن الطلب رحل إلى
بخارى لطلب العلم" (4). وكانت بخارى في ذلك الحين إحدى مراكز العلوم
__________
(1) انظر: منهج الزمخشري، ص 24.
(2) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(3) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) وفيات الأعيان 5/ 170.
(1/32)
والآداب كما يصفها الثعالبي:
"كانت بخارى في الدولة السامانية بمثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد
الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر" (1).
وكانت هذه المرحلة من حياة الزمخشري مرحلة حرجة، يكتنفها الفقر والآلام، ومن
الأمور البارزة في هذه المرحلة التي ضاعفت آلامه: أن رجله قطعت وهو في سن الصبا،
ورويت لذلك أسباب مختلفة: قيل بسبب البرد، وقيل بسبب جرح أصابه، ويقال: أنه سقط عن
دابته بسبب دعاء والدته عليه، كما يرويه الفقيه الدامغاني (م 540 هـ) أنه سأل
الزمخشري عن ذلك؛ فأجابه: بأنه سقط من الدابة فقطعت رجله بسبب دعاء والدته عليه
(2).
المرحلة الثانية: طلبه العلم:
تمثل هذه المرحلة من حياته الفترة العلمية الأولى التي عاشها الزمخشري بكل مواهبه
وقواه وآماله. وتبدأ بخروجه من قريته زمخشر إلى خوارزم، وقيل إلى بخارى، طالبا
للعلم وطمعا في الاستزادة، من شتى العلوم الإسلامية، وفروع المعرفة.
أقبل الزمخشري على حلقات العلم، ومجالسة الشيوخ والأخذ عنهم مجدا في التحصيل مكبا
على الحفظ والقراءة، مقبلا على دراسة علوم عصره، التي أخذ منها بنصيب وافر.
فكان من تلك العلوم: أصول الفقه، والحديث، والتفسير، والتوحيد، والمنطق، والفلسفة،
والعلوم العربية. وقد قيض الله سبحانه وتعالى له علماء أفذاذا، عرفوا بثقافاتهم
الواسعة في العلوم، فأخذ العلوم من منابعها الوافرة الصافية.
لم يصف له الحال في هذه الفترة أيضا، فقد بلغه نعي والده في سجن المؤيد فكان له
التأثير الكبير على نفسيته لبعده عنه، وكذلك لفقره وانقطاع المعونة عنه، كما يصور
ذلك في قصائده التي نظمها:
__________
(1) انظر: الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر 4/ 101.
(2) وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/33)
وإن مما قراني حسرة وأسى ... وضاقني
الكرب من جراه والوجع
أن عاقني شحط دار عن تفقده ... حتى مضى وهو من ذكراي ملتذع
يا حسرتا أنني لم أرو غلته ... وغلتي بزمان فيه نجتمع
قد كنت أشكو فراقا قبل منقطعا ... وكيف لي بعده بالعيش منتفع (1)
ويصف فقره ورقة حاله في موضع آخر:
أشكو الزمان ولا أرى لي مشكيا ... ممن يرى شعثي ورقة حالي
يا حسرتا من لي بصفقة رابح ... في متجر والفضل رأس المال (2)
وقد أدى به ضيق ذات اليد إلى مدح عدد من الملوك والوزراء من خلال قصائده مع
الإشادة بمكانته العلمية، طمعا في منصب يناله، أو حظوة يجدها عند الأمراء ومن ذلك
يقول:
وما حق مثلي أن يكون مضيعا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلي
وأعظمها أني نسيب نصابه ... إذا عرضت أنساب هذي القبائل
فكل امرئ آماله عدد الحصا ... وهات نظيري في جميع المحافل
لئن كان أمري في خوارزم ما أرى ... فإن رحالي في ظهور الرواحل (2)
وسجلت هذه المرحلة نشاطه ورحلاته الأولى في طلب العلم فزار (مرو) ولقي فيها الإمام
السمعاني (م 562 هـ)، وطاف بكثير من مدن خوارزم وخراسان محصلا للعلم، مجالسا
للعلماء، مناظر لأقرانه.
هذه المرحلة كانت من أهم مراحل حياته العلمية الحافلة، إذ نضج فيها عقله، وقويت
ملكاته، ووضحت شخصيته، وحصل الكثير من العلوم الإسلامية، ونبغ في الأدب. نثره
وشعره، وطارت فيها شهرته (3).
__________
(1) انظر: ديوان الزمخشري (منهج الزمخشري)، ص 26.
(2) انظر ذلك بالتفصيل فيما نقله الصاوي في مقدمته، منهج التفسير، ص 31، 33 وما
بعدها.
(3) انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 97، 98.
(1/34)
المرحلة الثالثة: تكامل شخصيته العلمية:
ما لبث أن تكاملت شخصية الزمخشري العلمية، حتى طور صلاته الاجتماعية: بالملوك
والوزراء ورجالات الدولة، وكذلك أكثر من الرحلات والاتصال بأهل العلم والفضل،
والاستفادة منهم وإفادتهم: حيث رحل إلى مكة المكرمة حوالي عام (502 هـ) (1) وكانت
هذه أولى رحلاته إلى الديار الحجازية، فأقام فيها مجاورا لبيت الله الحرام، ولقب
نفسه بجار الله، واتصل في مكة المكرمة بالشريف علي بن حمزة بن وهاس (526 هـ) الذي
كان معدودا في صفوف الأدباء (2) فلقى منه كل عناية وعطف، وأهدى له كثيرا من مؤلفاته.
وفي أثناء إقامته بالحجاز زار اليمن ومدنها، وأكثر أنحاء جزيرة العرب، كما جاء في
أساس البلاغة: "وطئت كل تربة في أرض العرب" (3). ولكنه بعد مضي فترة
اشتاق إلى وطنه الأول، وعاوده الحنين إليه، ثم لام نفسه على عودته، كما يصور ذلك
في قصائده التي حفل بها ديوانه، منها:
بكاء على أيام مكة إن بي ... إليها حنين النيب فاقدة البكر
تذكرت أيامي بها فكأنني ... قد اختلفت زرق الأسنة في صدري (4)
وما لبث أن عاد إلى مكة المكرمة مرة أخرى نحو عام (518 هـ) (5)، وفي أثناء عودته
مر بالشام ومدح تاج الملك، صاحب دمشق (م 526 هـ) (6).
قضى الزمخشري هذه الفترة من حياته في استقرار ورخاء نسبي، كما نستخلص هذا من شعره،
ويظهر من شعره أيضا أنه تزوج غير أنه لم يوفق في زواجه، ولم يقدر له
__________
(1) الززمخشري لغويا مفسرا، ص 105.
(2) معجم الأدباء 14/ 86.
(3) أساس البلاغة، مادة (ترب).
(4) انظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 37.
(5) طبقات المفسرين للسيوطي، ص 41.
(6) الكامل في التاريخ 9/ 337.
(1/35)
الخلف منه (1). ويصور ذلك بقوله:
تزوجت لم أعلم وأخطأت لم أصب ... فيا ليتني قد مت قبل التزوج
فوالله ما أبكي على ساكني الثرى ... ولكنني أبكي على المتزوج (2)
وكان لهذا ردة فعل سيئة على نفسية الزمخشري، سجلها في قصائده الكثيرة التي تطفح
ألما وكراهية للحياة الزوجية، ومنها:
تصفحت أولاد الرجال فلم أكد ... أصادف من لا يفضح الأم والأبا
رأيت أبا يشقى لتربية ابنه ... ويسعى لكي يدعى مكبا ومنجبا
أراد به النشء الأغر فما درى ... أيوليه حجرا أم يعليه منكبا
أخو شقوة ما زال مركب طفله ... فأصبح ذاك الطفل للناس مركبا
لذاك تركت النسل واخترت سيرة ... مسيحية أحسن بذلك مذهبا (3)
وقد استبدل كتبه وتلاميذه بالحياة الزوجية، حيث يقول:
وحسبي تصانيفي وحسبي رواتها ... بنين بهم سيقت إلى مطالبي (4)
ومهما اعتذر لموقفه هذا من الحياة الزوجية، فهي أعذار مردودة وأوهام خاطئة، قال
الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيرا} (3).
المرحلة الأخيرة: إنتاجه العلمي:
أدركت الزمخشري سن الخامسة والأربعين وهو بمكة، وأصابه مرض تسبب في انقطاعه عن
المجتمع الذي كان يعيشه، وآثر العزلة، حيث يقول متحدثا عن نفسه:
__________
(1) وقد عده بعض الباحثين من ضمن العلماء الذين لم يتزوجوا، وآثروا العلم على
الزواج، ولعله أراد كونه عازبا: أنه آثر حياة العزوبة، بعد تجربة زواجه غير الناجح
فعاش متبتلا عازبا.
انظر: أبو غدة، عبد الفتاح، العلماء العزاب، ص 70 وما بعدها.
(2) الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 108.
(3) مقدمة منهج التفسير عند الزمخشري، ص 43.
(4) سورة الأحزاب: آية 21.
(1/36)
"فلما أصيب من سنة ثنتي عشرة بعد
الخمسمائة بالمرضة الناهكة التي سماها المنذرة وكانت سبب إنابته وفيئته وتغير حاله
وهيئته ... " (1). فندم على ما بدر منه من مطامع للوصول إلى المناصب، وما صدر
منه من مدائح للملوك والسلاطين في سبيل ذلك.
وعاهد الله إن من عليه ألا يطأ بأخمصه عتبة سلطان، ولا يتصل بخدمتهم ويربأ بنفسه
عن مديحهم، وأن يعكف على العلم تعليما وتعلما وتأليفا (2).
وفي الحقيقة تعد هذه المرحلة من حياته مرحلة عطاء وإنتاج وتمخض لما كابده في سنوات
التحصيل والطلب، حيث ألف أشهر مؤلفاته وأنفعها في هذه الفترة وكانت أغلب تصانيفه
بين زمزم والمقام، كتفسيره العظيم الكشاف، وأطواق الذهب، وأساس البلاغة، ونوابغ
الكلم، والمستقصى في أمثال العرب، وربيع الأبرار (3). وقد وجد من رعاية ومحبة
الشريف ابن وهاس، له الدافع الكبير لهذا العطاء الزاخر، وقد نوه الزمخشري بهذا
العطف والعناية التي لقيها من ابن وهاس في مقدمة تفسيره الكشاف والذي من أجله صنفه
(4)، وبإشارته جمع الزمخشري منظوماته في (ديوان الأدب) يقول في مقدمته، منوها
بفضله:
ومما أجل الصنع فيه إناختي ... بمكة مرضيا مرادا وموردا
ولولا ابن وهاس وسابغ فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصردا (5)
وبعد أن طالت إقامته بمكة المكرمة، من رحلته الثانية (6) عاوده الحنين إلى وطنه
مرة أخرى. وفي أثناء عودته عرج على بغداد، وزاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن
الشجري (م 542 هـ) مهنئا بقدومه، ومدحه وأثنى عليه وعرف له فضله ومكانته العلمية
(7).
__________
(1) الزمخشري، مقدمة شرح مقامات الزمخشري.
(2) المصدر نفسه.
(3) مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) انظر: مقدمة الكشاف 1/ 3.
(5) منهج الزمخشري، ص 37.
(6) نزهة الألباء، ص 391.
(7) نزهة الألباء، ص 292؛ بغية الوعاة 2/ 280.
(1/37)
عاد الزمخشري إلى وطنه شيخا كهلا، وقد
أصبح بعد رجوعه فخر خوارزم، ومرجع العلماء في كل عويصة، وأصبحت له شهرة علمية في
أنحاء العالم الإسلامي.
شيوخه
لقد توافر للزمخشري أعلام في الفكر الإسلامي، تتلمذ عليهم وتخرج لهم، واستقى من
منابعهم، ولم يقتصر على التلقي على شيوخ بلدة معينة، بل كان يجوب البلاد ويستفيد
من علمائها، بأدب وتواضع، فلم ير غضاضة في أن يتتلمذ وهو في شيخوخته وأستاذيته،
على من يراه أهلا ومحلا للعلم والفضل، ومن أبرز شيوخه:
- محمود بن جرير الضبي الأصفهاني (أبو مضر) (م 507 هـ) الذي كان يلقب بفريد العصر،
ووحيد الدهر في علم اللغة والنحو، ويضرب به المثل في أنواع الفضائل، وهو الذي أدخل
على خوارزم مذهب الاعتزال.
وقد درس عليه: النحو والأدب، واستفاد منه كثيرا (1) ورثاه الزمخشري بقوله:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني (2)
كما أخذ الأدب عن الشيخ أبي الحسن علي بن المظفر النيسابوري الضرير، كما ذكره
ياقوت، والسيوطي (3).
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(2) معجم الأدباء 19/ 124؛ الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 96.
(3) يرى الدكتور الحوفي بأن الصواب هنا هو: (أبو علي الحسن بن المظفر النيسابوري)
اعتمادا على ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء في ترجمته: "وأنه شيخ أبي القاسم
الزمخشري"، إلا أننا نجد أن وفاته كانت سنة (442 هـ)، ومن ثم لا يصح أن يكون
(أبو علي الحسن) شيخا للزمخشري، لأن الزمخشري ولد بعد وفاته بخمس وعشرين سنة.
انظر: معجم الأدباء 9/ 119، 120، 19/ 127؛ بغية الوعاة 2/ 279؛ مفتاح السعادة 2/
100؛ الزمخشري، ص 50.
(1/38)
- الشيخ السديد الخياطي، وقد أخذ عنه
الفقه (1).
- ركن الدين محمد الأصولي، وقد أخذ عنه الأصول (2).
وأخذ الحديث عن شيخ الإسلام أبي منصور نصر الحارث، وأبي سعد الشقاني النيسابوري،
والمحدث أبي الخطاب نصر بن أحمد بن عبد الله البطر (م 494 هـ) (3).
- أبو السعد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، (م 494 هـ) (4).
وممن استفاد منهم: الإمام الفقيه أبو الحسين أحمد بن علي الدامغاني (م 540 هـ)
(5).
ومما يدل على حرصه واهتمامه بالعلم ما حكاه القفطي عن الإمام أبي اليمن زيد بن
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(2) الفوائد البهية، ص 232.
(3) انظر: معجم الأدباء 19/ 127؛ بغية الوعاة 2/ 279؛ طبقات المفسرين، ص 41.
(4) وذكر الشيرازي في "كتابه الزمخشري لغويا ومفسرا" أنه توفي سنة (464
هـ) وهذا سهو واضح، والصحيح ما ذكره الزركلي في الأعلام كما أثبته.
انظر: الزمخشري لغويا مفسرا، ص 97؛ الأعلام 5/ 289.
(5) ذهب الدكتور الحوفي في كتابه "الزمخشري" إلى أن المراد من الدامغاني
هو: قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني الذي توفي سنة (498 هـ)، ونسب
ذلك إلى السمعاني في الأنساب، وبالرجوع إليه نجده يقول: "وكانت ولادته
بالدامغان سنة أربعمائة، ووفاته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد"، ومن ثم
يستبعد أن يكون المراد بالدامغاني هو: قاضي القضاة أبو عبد الله، الذي ذكره
الدكتور الحوفي؛ لأننا نجد بالمقارنة، أن الزمخشري لم يبلغ عند وفاته سوى أحد عشر
عاما، وفي هذا السن لم يرحل من بلده لطلب العلم.
ويؤيد هذا ما ذكره العماد الأصبهاني في تاريخ دولة آل سلجوق عن حوادث سنة (458 هـ)
ما نصه: "وعزل الوزير فخر الدولة بن جهير، ليلة المهرجان في ذي القعدة
بالتوقغ الإمامي بمحضر من قاضي القضاة) بي عبد الله الدامغاني".
ويتضح من هذا بأن الدامغاني الذي استفاد منه الزمخشري كما ذكره المترجمون له هو:
(أبو الحسين أحمد بن علي الدامغاني).
انظر: الأنساب 5/ 290؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 33؛ الجواهر المضيئة 1/ 83؛
الزمخشري للحوفي، ص 50.
(1/39)
الحسن الكندي قال: "قدم علينا
[الزمخشري] بغداد سنة (533 هـ)، ورأيته عند شيخنا أبي المنصور الجواليقي (1) (446
- 539 هـ) مرتين، قارئا عليه بعض كتب اللغة من فواتحها، ومستجيزا لها" (2).
ويظهر من هذه الرواية مدى حب الزمخشري للعلم، وتحصيله والاستزادة منه، حيث لم يأنف
أن يجلس جلسة الطالب المستزيد مع ما وصل إليه من مكانة علمية عظيمة.
ونجد كذلك في تاريخ حياته الحافلة أنه قرأ في مكة من رحلته الثانية كتاب سيبويه
على: عبد الله بن طلحة اليابري الأندلسي (م 518 هـ) (3).
واستفاد كذلك من الشريف أبي الحسن علي بن موسى بن حمزة بن وهاس العلوي (م 526 هـ)،
كما استفاد هو الآخر من الزمخشري (4).
تلامذته
تتلمذ على الإمام الزمخشري كثيرون من طلاب العلم، وأصبحوا بعد ذلك أئمة في اللغة
والأدب وعلوم الدين.
يذكر السمعاني بأنه روى عن الزمخشري طائفة كبيرة من العلماء من أقطار البلاد،
منهم: أبو المحاسن إسماعيل بن عبد الله الطويلي بطبرستان، وعبد الرحيم
__________
(1) الجواليقي: هو موهوب بن أبي طاهر أحمد الجواليقي، كان إماما في فنون الأدب،
وهو من مفاخر بغداد، درس الأدب في المدرسة النظامية بعد الخطيب التبريزي. وكان ثقة
دينا متواضعا، وكان من أهل السنة، وله عدد من المصنفات.
انظر: معجم الأدباء 19/ 207؛ بغية الوعاة 2/ 308.
(2) انظر: إنباه الرواة 3/ 270؛ وفيات الأعيان 2/ 340.
(3) انظر: بغية الوعاة 2/ 264؛ طبقات المفسرين، ص 41.
(4) انظر: معجم الأدباء 14/ 86.
انظر بالتفصيل: معجم الأدباء 19/ 128؛ مفتاح السعادة 2/ 100؛ الزمخشري للحوفي، ص
48 - 51؛ الزمخشري للشيرازي، ص 96 - 102.
(1/40)
البزار بابيورد، وأبو عمر عامر بن
الحسن السمار بزمخشر، وأبو سعد أحمد بن محمود الشاشي بسمرقند، وأبو طاهر سامان بن
عبد الملك الفقيه بخوارزم، وجماعة سواهم (1).
ومن تلاميذه: علي بن محمد العمراني، الخوارزمي، أبو الحسن الأديب، الملقب بحجة
الأفاضل وفخر المشائخ (م 560 هـ) (2).
ومنهم أيضا: محمد بن أبي القاسم بايجوك، أبو الفضل البقالي الخوارزمي الآدمي،
المقلب بزين المشائخ، وجلس مكانه بعده (3).
ومنهم أيضا: أبو يوسف يعقوب بن علي بن محمد بن جعفر البلخي، أحد الأئمة في النحو
والأدب (4).
ومنهم أيضا: علي بن عيسى بن حمزة بن وهاس العلوي (5) وقد مدح أستاذه بأبيات من
الشعر منها:
وكم للإمام الفرد عندي من يد ... وناهيك مما قد أطاب وأكثرا
وممن استجازه، أو أجازهم:
ومما يدل على علو مكانته في الأوساط العلمية، استجازة أكابر علماء ذلك العصر
لرواية كتبه. منهم:
الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي (م 576 هـ). الذي قال عنه ابن خلكان:
"كان أحد الحفاظ المكثرين، قصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه
وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله" (6).
__________
(1) الأنساب 6/ 298.
(2) معجم الأدباء 15/ 61.
(3) المصدر نفسه 19/ 5.
(4) المصدر نفسه 20/ 55.
(5) انظر: معجم الأدباء 14/ 86.
(6) انظر: العقد الثمين 7/ 141؛ وفيات الأعيان 1/ 105، 106، 4/ 256، 5/ 170.
(1/41)
ومحمد بن عبد الملك البلخي، المعروف
بالأديب رشيد الوطواط (م 578 هـ)، وكان من أبرع معاصريه في النظم والنثر (1).
وأجاز لأبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وكذلك السيدة أم المؤيد زينب بنت عبد
الرحمن الشعري (2).
مؤلفاته
قدم الزمخشري للمكتبة الإسلامية مؤلفات قيمة في فنون شتى: في العلوم الشرعية،
واللغة، والنحو، والأدب، والعروض. تبلغ تأليفه خمسين مؤلفا كما ذكرها المترجمون
له، وفيما يأتي عرضها على حسب الحروف:
- أساس البلاغة (وهو معجم يهتم بالاستعارة والمجاز) (3).
- أطواق الذهب (أو النصائح الصغار) (مائة مقالة في الوعظ والنصائح والحكم) (4).
- أعجب العجائب في شرح لامية العرب (5).
- الأمالي في كل فن (6).
- الأمكنة والجبال والمياه والبقاع المشهورة في أشعار العرب (7).
- الأنموذج (كتاب صغير في النحو مختصر من المفصل) (8).
__________
(1) انظر: معجم الأدباء 1/ 103، 19/ 29.
(2) العقد الثمين 7/ 149؛ وفيات الأعيان 5/ 171.
(3) طبع مرارا في حيدر آباد دكن والقاهرة.
انظر: بروكلمان، تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(4) طبع في بيروت (1293 هـ)، وبعدها مرارا، تاريخ الأدب العربي 5/ 235.
(5) طبع الطبعة الأولى بالقسطنطينية، وبالقاهرة سنة (324 أهـ).
انظر: تاريخ الأدب العربي 1/ 107، 5/ 238.
(6) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(7) طبع في بغداد (سنة 1918 هـ)، تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(8) طبع حديثا في بيروت، مع كتاب، نزهة الطرف في علم الصرف " "
للميداني، دار الآفاق الجديدة، 1401 هـ.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 227.
(1/42)
- تسلية الضرير (1).
- تعليم المبتدئ وإرشاد المهتدى (جمل مفردة عربية وترجمتها بالفارسية للناشئين)
(2).
- جواهر اللغة (3).
- خصائص العشرة الكرام البررة (4).
- ديوان التمثيل (5).
- ديوان الرسائل (6).
- ديوان الزمخشري (7).
- ديوان الشعر (8).
- رءوس المسائل (في الفقه الخلافي بين المذهبين الحنفي والشافعي) هذا هو الكتاب
الذي بين أيدينا، وسيأتي الكلام عنه مفصلا (9).
- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (مختارات شتى من الأدب والتاريخ والعلوم) (10).
- الرسالة الناصحة (11).
- سوائر الأمثال (12).
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 99.
(2) مخطوط بدار الكتب المصرية (برقم س - 4254).
انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 123.
(3) انظر: كشف القناع المزني عن مهمات الأسامي والكنى (للعيني) مخطوط، ص 93.
(4) مخطوط في برلين. انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(5) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(6) المصدر نفسه.
(7) مخطوط بدار الكتب المصرية، تاريخ الأدب العربي 5/ 237.
(8) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(9) انظر: ص 64 - 76 من الرسالة.
(10) طبع محققا في العراق، تحقيق الدكتور سليم النعيمي، بغداد: ديوان الأوقاف 1976
م.
(11) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(12) المصدر نفسه 5/ 169.
(1/43)
- شافي العي (من كلام الشافعي رحمه
الله تعالى) (1).
- شرح أبيات كتاب سيبويه (2).
- شرح بعض مشكلات المفصل (3).
- شرح مقامات الزمخشري (وهو كتاب النصائح الكبار) (4).
- شقائق النعمان في حقائق النعمان (مناقب أبي حنيفة رحمه الله) (5).
- صميم العربية (6).
- ضالة الناشد في علم الفرائض (7).
- الفائق (في غريب الحديث) (8).
- القسطاس (9).
- القصيدة البعوضية، (وأخرى في مسائل الغزالي) (10).
__________
(1) المصدر نفسه 5/ 169.
(2) وفيات الأعيان 5/ 169.
(3) انظر: مفتاح السعادة 2/ 98.
(4) طبع بالقاهرة سنة (1312 هـ).
انظر تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(5) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(6) انظر: مفتاح السعادة 2/ 98.
(7) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(8) طبع في حيدر آباد الدكن، والقاهرة محققا سنة (1364 هـ).
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(9) مخطوط في ليدن وبرلين وغيرهما.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 229.
(10) مخطوط في برلين. انظر: المصدر نفسه 5/ 237.
(1/44)
- (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) (في التفسير) بلغ هذا التفسير في نفوس العلماء
مبلغا عظيما، حتى وصلت شروحه وتعليقاته ومختصراته، والردود عليه بما يربو على ستة
وثلاثين مصنفا (1).
كما استفاد منه كثير من العلماء في تفاسيرهم، كأبي السعود (م 982 هـ)، في تفسيره
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ومحمود الألوسي (م 1270 هـ) في
تفسيره روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، وغيرهما كثير:
- الكشف في القراءات (2).
- متشابه أسامي الرواة (3).
- المحاجاة في الأحاجي والأغلوطات (4).
- مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة (5).
- مسألة في حكمة الشهادة (6).
- المستقصى (في أمثال العرب) (7).
- معجم الحدود (في الفقه) (8).
- المفرد والمركب أو والمؤلف (9).
__________
(1) طبع هذا التفسير مرارا، مع تعليقات: علي بن محمد الجرجاني، والانتصار لابن
المنير الاسكندري، وحاشية المرزوقي، والكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف لابن
حجر.
انظر بالتفصيل: تاريخ الأدب العربي، 5/ 216 - 224.
(2) مخطوط بالمدينة المنورة، رباط سيدنا عثمان رضي الله عنه، تاريخ الأدب العربي
5/ 238.
(3) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(4) طبع في بغداد، بعنوان "المحاجاة بالمسائل النحوية"، بتحقيق الدكتورة
بهيجة باقر الحسيني، مطبعة أسعد، 1973 م.
(5) انظر: المصدر نفسه 5/ 238.
(6) انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(7) طبع في حيدر أباد الدكن، سنة (1381 هـ).
انظر: هامش تاريخ الأدب العربي 5/ 232.
(8) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(9) مخطوط بكوبريلي، تاريخ الأدب العربي 5/ 238.
(1/45)
- المفصل في تعليم النحو (1).
- مقامات الزمخشري (2).
- مقدمة الأدب (معجم عربي فارسي) (3).
- المنهاج (في أصول الفقه) (4).
- نزهة المستأنس (5).
- النصائح الصغار والبوالغ الكبار (6).
- نكت الأعراب في غريب الإعراب (في غريب إعراب القرآن) (7).
- نوابع الكلم (مجموعة حكم وأقوال) (8).
عقيدته
كان الزمخشري معتزلي (9) العقيدة، مجاهرا بذلك، مفتخرا بها، منافحا ومدافعا عنها
بكل قواه، وكان إذا قصد صاحبا له، واستأذن عليه في الدخول، يقول له: "أبو
القاسم المعتزلي بالباب" (9).
ويقول أيضا: "أنا الشيخ المعتزلي من بيرزلي من بيرزلي".
__________
(1) طبع مرارا. المصدر نفسه 5/ 224.
(2) طبع بالقاهرة مع شرح المؤلف (سنة 1312 هـ)، المصدر نفسه 5/ 231.
(3) طبع في ليبسك سنة (1843 م)، المصدر نفسه 5/ 229.
(4) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(5) مخطوط في آيا صوفيا.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 237.
(6) مخطوط بدار الكتب المصرية بالقاهرة، برقم (13478 ز)، الزمخشري للحوفي، ص 63.
(7) مخطوط، بالقاهرة.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 238.
(8) طبع في القاهرة، المصدر نفسه 5/ 232.
(9) المعتزلة: من أهم الفرق الدينية الإسلامية، وتنسب نشأتها على قول أكثر العلماء
إلى واصل بن عطاء (م 131 هـ)، قام الاعتزال بادئ ذي بدء، دفاعا عن الدين، وحماية
للعمدة الإسلامية،
(1/46)
مذهبه الفقهي
كان الزمخشري حنفي المذهب كأهل بلاده خوارزم ويشيد الزمخشري عن مذهبه الحنفي
مفتخرا به، حيث يقول:
وأسند ديني واعتقادي ومذهبي ... إلى حنفاء اختارهم حنائفا
حنيفية أديانهم حنفية ... مذاهبهم لا يبتغون الزعانفا (1)
__________
=وكانت لمشاهيرهم مواقف في دحض أباطيل الديانات والمذاهب البائدة وأصبحت لها بعد
ذلك فلسفة وتفكير خاص، مخالفين في بعضها، عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن ثم كانوا
مثار فتنة وتشكيك لعقائد المسلمين، وذاق المسلمون من فتنتهم الكثير من المحن،
ومعروف ما وقع للمسلمين وبخاصة أئمتهم، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، في
عهد الخليفة العباسي المأمون (198 - 218 هـ) من فتنة خلق القرآن الكريم.
أصول المعتزلة:
1 - التوحيد: وفسروه تفسيرا خاصا، من حيث الحسفات الثبوتية، والسلبية في ذاته وأن
صفاته عين ذاته، وأنه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة.
2 - العدل: بمعنى أن الله تعالى عدل حكيم، لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، ولا
يخلق أفعال العباد.
3 - الوعد والوعيد: ويقصدون به أن وعد الله ووعيده، نازلان واقعان لا محالة، وأن
الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده ولا وعيده: "لا عفو لمرتكب كبيرة كما لا
حرمان لفاعل خير".
4 - المنزلة بين المنزلتين: إن الفاسق لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، بل هو في منزلة
بين الكفر والإيمان.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب: بمعنى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف
والنهي عن النكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك.
انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 149، 299، 609، 695؛ المرتضى، كتاب
المنية والأمل في كتاب الملل والنحل، ص 3، 6؛ ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء
والنحل 4/ 171؛ تاريخ الطبري 8/ 631 - 646؛ تاريخ أبي الفداء 2/ 30؛ تاريخ المذاهب
الإسلامية، ص 149.
انظر افتخاره بعقيدته: وفيات الأعيان 5/ 170؛ طبقات المفسرين للسيوطي، ص 41،
وغيرهما من كتب التراجم.
(1) انظر: الزمخشري للحوفي، ص 91.
(1/47)
ترجم له علماء الحنفية في مدونات
طبقاتهم، منهم: القرشي، في الجواهر المضيئة (1)، وابن قطلوبغا في التاج وقال:
"عده في الحنفية الشيخ مجد الدين" (2)، واللكنوي في الفوائد، وقال: إنه
من أكابر الحنفية (3).
ويختلف الزمخشري الحنفي عن الزمخشري المعتزلي، فهو متسامح مع مخالفيه في مسائل
الفقه، ولم يمنعه كونه حنيفا أن يتقبل مذاهب الآخرين، وربما أدى به الأمر إلى
ترجيح آراء مخالفيه (4)، على العكس مع مخالفيه في العقيدة، حيث سلك معهم أسلوب
التقريع والتسفيه والتجريح (5).
الزمخشري فقيها
عرف الزمخشري مفسرا، كما عرف لغويا، وأديبا، وشاعرا، أما الزمخشري الفقيه فهو
الجانب المغمور من صفاته، والذي لم يشتهر به بين الباحثين.
ويهمنا هنا بالأصالة التعرف على هذا الجانب من جوانبه العلمية، إذ المقاييس
المسلمة في مثل هذه الأمور هي:
أولا: إنتاجه العلمي في هذا المجال.
ثانيا: كيفية تناوله ومنهجه للموضوعات الفقهية إذا عرضت مناسبة لذلك.
ثالثا: تسليم العلماء المتخصصين له والثناء عليه في ذلك المجال.
وعلى ضوء هذه المقاييس سيكون الحديث عن الزمخشري الفقيه. أما إنتاجه فكتاب رءوس
المسائل، ليس كتاب فقه فحسب، بل هو أدق من ذلك، وهو: الخلاف بين مذهبه المذهب
الحنفي، والمذهب الشافعي؛ ولا يتناول هذا الموضوع
__________
(1) انظر: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية (493)، 2/ 160، 161.
(2) ابن قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية (217)، ص 71، 72.
(3) اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209، 210.
(4) انظر: تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض} في الكشاف 1/ 134.
(5) انظر: تفسير قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} في الكشاف 1/ 179.
(1/48)
بالتأليف إلا عالم ذو باع طويلة،
واقتدار علمي كبير في الفقه، إذ أنه لا يتحدث عن مذهبه فحسب وإنما عن مذهبه ومذهب
مخالفه مع ذكر أدلة كلا الطرفين، وسيتضح لنا جانب الإبداع في كتابه هذا في قسم
الدراسة الخاص به (1).
أولا: لم يكن إنتاجه الفقهي قاصرا على هذا الكتاب، بل إن له تأليف أخرى في فنون
الفقه وهي: (معجم الحدود) في الفقه، و (المنهاج) في أصول الفقه (2).
ثانيا: وأما كيفية عرضه وتناوله للموضوعات الفقهية، إذا عرضت مناسبة لذلك، ففي
كتابه الكشاف في التفسير نجده يفسر آيات الأحكام ويتحدث عن المسائل الفقهية،
ويعالجها بمهارة تدل على اطلاع واسع وإلمام كبير بآراء الفقهاء، مع مناقشة
لآرائهم، وإن كان ولاؤه غالبا لمذهبه الحنفي.
أمثلة ذلك من تفسير الكشاف:
قال الله سبحانه وتعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام} (3).
"الهدي هو هدي المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة، ويأكل منه، وعند الشافعي يجري
مجرى الجنايات، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عندنا، وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم
بحجته، {فمن لم يجد} الهدي فعليه {فصيام ثلاثة أيام في الحج} أي في وقته، وهو
أشهره، ما بين الإحرامين: إحرام العمرة وإحرام الحج وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله،
والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا
الدم، وعند الشافعي: لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكا بظاهر قوله: {في الحج
وسبعة إذا رجعتم} بمعنى: إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج، عند أبي حنيفة، وعند
الشافعي هو الرجوع إلى أهاليهم ... ، {ذلك} إشارة إلى
__________
(1) كما سيأتي في ص 67، 74.
(2) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(3) سورة البقرة: آية 196.
(1/49)
التمتع عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة
ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن، كان عليه دم وهو دم
جناية لا يأكل منه، وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق، فدمهما دم نسك، يأكلان
منه. وعند الشافعي إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام، ولم يوجب عليهم
شيئا.
وحاضروا المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبي حنيفة، وعند
الشافعي أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة" (1).
ونموذج آخر يبين ملكته الفقهية الراسخة في تناوله آيات الأحكام:
قول الله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض
ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (2).
قال الزمخشري: "وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال: فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان
اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج، وروى محمد
حديث عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمر سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي
حائض؟ فقالت: تشد إزارها على سفلتها ثم لتباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم، أن
رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لتشد
عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها (3)، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، وقد جاء ما هو
أرخص من هذا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
وقرئ يطهرن بالتشديد، أي يتطهرن، بدليل قوله: {فإذا تطهرن} وقرأ عبد الله: {حتى
يتطهرن، ويطهرن} هو بالتخفيف، والتطهر: الاغتسال، والطهر: انقطاع دم الحيض، وكلتا
القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن
__________
(1) انظر: الزمخشري، الكشاف 1/ 121.
(2) سورة البقرة: آية 222.
(3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وأبو داود نحوه من حديث حرام بن حكيم عن عمه:
أبو داود، في الطهارة، باب في المذي (212)، 1/ 55؛ الموطأ (93)، 1/ 57.
(1/50)
يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم،
وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاة، وذهب
الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر، فتجمع بين الأمرين، وهو قول واضح
ويعضده قوله: {فإذا تطهرن} " (1).
ففي النموذجين السابقين نجد الزمخشري المفسر هنا فقيها، له شخصية علمية واضحة، لم
يكتف بعرض الآراء، بل يناقش الأدلة، وأوجه الاستدلال، ويؤدي به الأمر أحيانا إلى
اختيار غير مذهبه الحنفي إذا رأى قوة أدلة المذهب المخالف، كما فعل هذا في الآية
الثانية.
ثالثا: لم يكن الزمخشري غفلا في هذا المجال العلمي بل شهد له بذلك وأثنوا عليه،
فالمترجمون له يصفونه: "بأنه كان فقيها مناظرا" (2)، كما يوصف:
"بالفقيه الحجة" (3).
وكل هذه الدلائل مجموعة تثبت أن الزمخشري كان فقيها مبرزا، كما كان لغويا، ومفسرا،
وأديبا، وشاعرا، إلا أنه اشتهر في الأوساط العلمية، وبخاصة في العصر الحديث،
باللغة والأدب، لبروزه وكثرة اشتغاله بهما أولا، ولتركيز الباحثين على هذا الجانب
في معارفه ثانيا، وأصبح الجانب الفقهي لديهم نسيا منسيا.
والزمخشري كغيره من علمائنا يجيدون فنونا متعددة، وعلوما شتى، ولكنهم يبرزون في فن
واحد أكثر من غيره، فيعرفون به، ويعدون حجة فيه.
أخلاقه
كان الزمخشري أبى النفس، معتزا بها، يأنف الضيم، ومن ثم كان شديد الاعتداد برأيه،
والثقة بنفسه والصلابة فيما يذهب إليه من آراء والتمسك بما يعتقد أنه
__________
(1) انظر: الكشاف 1/ 134 آية (203)، 1/ 125، 126، آية (233)، 1/ 141، وبالتفصيل:
تفسير سورة الحج والطلاق.
(2) الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209.
(3) انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 141.
(1/51)
الحق، ولكن هذا لم يمنعه من قبول الحق
والرجوع إليه إذا تبين له واقتنع بأن الصواب مع غيره، يقول تلميذه رشيد الدين
الوطواط عنه: "وقد جرى بيني وبينه، في حياته وأوقات راحته مما يتعلق بفنون
الآداب وأقسام علوم العرب، مسائل أكثر من أن يحصى عددها، أو يستقصى آمدها، رجع
فيها إلى كلامي، ونزل على قضيتي وأحكامي، فالسعيد من إذا سمع الحق، سكتت شقاشق
لجاجه، وسكنت صواعق حجاجه، ... ثم يقول: وإنما ذكرت هذا القدر اليسير ليعلم فتيان
هذه الخطة، أن هذا الإمام كان صبورا على مرارة الحق، وحرارة الصدق، مع أنه رب هذه
البضائع، وصاحب هذه الوقائع، فهو مع الحق ولو على نفسه" (1).
وكان متواضعا شديد التواضع جم الأدب، يقول في جوابه للحافظ السلفي حينما استجازه:
"ولا يغرنكم قول فلان في ... ، فإن ذلك اغترار منهم بالظاهر المموه، وجهل
بالباطن المشوه، ولعل الذين غرهم مني ما رأوا من حسن النصح للمسلمين، وتبليغ
الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإفادة المبار والصنائع عليهم، وعزة
النفس والربء بها عن السفاسف الدنيات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما يعنيني،
فجللت في عيونهم، وغلطوا في، ونسبوا إلي ما لست منه في قبيل ولا دبير، وما أنا
فيما أقول بها ضيم لنفسي ... " (2).
ويقول في مقاماته: "نعم يا أبا القاسم إن سمعتهم يقولون: ما أكثر فضلك! فقل:
إن فضولي أكثر، وما أغزر أدبك! فقل: إن قلة أدبي أغزر" (3).
وكان على حظ كبير من التدين والزهد والبعد عن الشبهات والعزوف عن الدنيا. حتى أن
بعض مؤرخيه لم يجدوا فيه مطعنا إلا الاعتزال، يقول ابن حجر: "إنه صالح لكنه
داعية إلى الاعتزال" (4).
__________
(1) نقله الشيرازي في كتابه الزمخشري، ص 147، من: رسائل البلغاء، كرد علي، ص 278،
380.
(2) انظر: معجم الأدباء 19/ 132؛ وفيات الأعيان 5/ 171.
(3) انظر: مقامات الزمخشري، ص 101 (مع الشرح).
(4) لسان الميزان 6/ 4.
(1/52)
وقد اضطرته الحاجة وضيق ذات اليد إلى
الاتصال بالملوك والأمراء يستمنحهم ويمدحهم بشعره، فترة من حياته الأولى، مع أن
مدائحه لم تخل من الدعاء لهم بالتوفيق، لإزالة الظلم والجور، ونشر العدل على
أيديهم (1).
ولكنه حينما أدرك - في مرحلته الأخيرة من حياته - مغبة صنعه آثر العزلة على الحياة
العامة، وأخذ على نفسه الميثاق: "بأن لا يطأ بأخمصه عتبة السلطان، ولا واصل
بخدمة السلطان أذياله، وأن يربأ بنفسه ولسانه عن قرض الشعر فيهم ... " (2).
وكان حربا على الجهلة من أدعياء التصوف كلما سنحت مناسبة لذلك، يقول في تفسير قوله
تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (3): "إذا رأيت من يذكر
محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب، وينعر ويصعق، فلا تشك في أنه لا يعرف ما
الله، ولا يدري ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصور في
نفسه الخبيثة، صورة مستملحة معشقة، فسماها الله بجهله ودعارته، ثم صفق وطرب ونعر
وصعق على تصورها ... " (4).
وفاته
أقام الزمخشري بخوارزم بعد رجوعه من مكة المكرمة، إلى أن توفاه الله تعالى، ليلة
عرفة سنة 538 هـ (1143 م) بجرجانيه (5).
__________
(1) انظر: ديوان الأدب، ورقة (16).
(2) انظر: خطبة مقامات الزمخشري.
(3) سورة آل عمران، آية 31.
(4) الكشاف 1/ 184.
(5) جرجانية: بضم الجيم الأولى وفتح الثانية، وسكون الراء بينهما وبعد الألف نون
مكسورة، وبعدها ياء مثناة من تحتها مفتوحة مشددة ثم هاء ساكنة، "وهو اسم لقصة
إقليم خوارزم، مدينة عظيمة على شاطئ نهر جيحون وأهل خوارزم يسمونها بلسانهم
كركانج".
انظر: وفيات الأعيان 5/ 173؛ مفتاح السعادة 2/ 100؛ مراصد الاطلاع على أسماء
الأمكنة والبقاع 1/ 323.
(1/53)
وأوصى بأن تكتب على قبره هذه الأبيات:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول (1)
"ويروى أنه تاب في آخر عمره ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المرجو عن
مثل هذا الإمام، والعلم عند الملك العلام" (2).
ثناء العلماء عليه
لقد استوجبت الخصائص الخلقية والعلمية التي اتصف بها العلامة الزمخشري، ثناء
العلماء والأدباء عليه قديما وحديثا، خلده له التاريخ عبر القرون لما كان له من
مكانة مرموقة في الأوساط العلمية. ويعد الزمخشري إمام عصره في اللغة بلا مدافع كما
وصفه الباحثون، ومن ذلك ما ينقله القفطي عن الإمام أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي،
قوله: "كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وأكثرهم اكتسابا
واطلاعا على كتبها، وبه ختم فضلاؤهم" (3).
وقال القفطي في ترجمة الزمخشري: "وكان ممن يضرب به المثل في علم الأدب والنحو
واللغة، وصنف التصانيف: في التفسير وغريب الحديث، والنحو وغير ذلك، ودخل خراسان،
وورد العراق، وما دخل بلدا إلا اجتمعوا عليه: وتلمذوا له واستفادوا منه، وكان
علامة الأدب، ونسابة العرب، أقام بخوارزم، تضرب إليه أكباد الإبل، وتحط بفنائه
رحال الرجال، وتحدى باسمه مطايا الآمال" (4).
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان 5/ 173.
(2) ذكره (البرتوس ميورسينخ) محقق كتاب طبقات المفسرين للسيوطي في ترجمة الزمخشري
(طبعة طهران، 1960 م)، ص 41.
(3) انظر: إنباه الرواة 3/ 270؛ مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) إنباه الرواة 3/ 265، 266، ما بعدها بالتفصيل.
(1/54)
ونقل ابن الأنباري في ترجمة الزمخشري
تكريم ابن الشجري له: "قدم بغداد للحج فجاءه شيخنا الشريف بن الشجري مهنئا له
بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن داود أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري (1)
ومدحه الشريف بن وهاس:
جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوءها دارا فداء زمخشرا
وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ ... إذا عد في أسد الشرى زمخ شرا (2)
وقال السيوطي عنه: "كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة
القريحة، متفننا في كل علم ... " (3).
* * *
__________
(1) نزهة الألباء، ص 291.
(2) إنباه الرواة 3/ 268، وما بعدها بالتفصيل.
(3) بغية الوعاة 2/ 279.
انظر بالتفصيل: معجم الأدباء 19/ 128 وما بعدها.
(1/55)
الفصل الثالث:
كتاب رؤوس المسائل، موضوع الرسالة
ويشتمل على العناصر التالية:
- عنوان الكتاب.
- منهج المؤلف في الكتاب.
- نسبة الكتاب لمؤلفه.
- مصادر الكتاب.
- أهمية الكتاب.
- نقد الكتاب.
- موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها.
- الكتب المؤلفة في علم الخلاف.
* * *
عنوان الكتاب
عنوان الكتاب: (رءوس المسائل)، وهو بهذه الصياغة، يوحي لأول وهلة، بمضمونه
ومدلوله، فموضوعه: المسائل الفقهية المهمة، مسبوكة في إيجاز، معروضة عرضا مذهبيا
محدودا، أو متجاوزا إلى المذاهب الأخرى، حسب قدرة المؤلف، ورسوخه العلمي فيما
يتعرض له من مباحث ومسائل.
هذا النوع من التأليف الفقهي، مخصوص بين الفقهاء: بالكتب الفقهية المختصرة التي
يؤثر مؤلفوها فيها الإيجاز لقصد تعليمي، ذلك هو تسهيل حفظها على الطلاب، لم يكن
الزمخشري مؤلف هذا الكتاب بدعا في هذه التسمية، بل سبقه بها عدد من المؤلفين في
مختلف المذاهب.
من هذه المؤلفات التي حفظ لنا التاريخ عناوينها، ما جاء ذكرها في كشف
(1/57)
الظنون (1) تحت عنوان رءوس المسائل:
لأبي الفتح سليم بن أيوب الرازي (م 447 هـ) في الفروع، ولأبي الحسن المحاملي (م
415 هـ) "يذكر فيها أصول المسائل ويستدل عليها" (2)، كما يوجد كتاب بهذا
العنوان، للإمام النووي (م 676) (3).
ورءوس المسائل من تأليف الشريف عبد الخالق بن عيسى الهاشمي الحنبلي (م 470 هـ)،
ويتحدث ابن بدران عن منهج هذا المؤلف في هذا الكتاب: "أنه يذكر المسائل التي
خالف فيها الإمام أحمد، واحدا من الأئمة أو أكثر ثم يذكر الأدلة منتصرا للإمام،
ويذكر الموافق له في تلك المسألة، بحيث إن من تأمل كتابه، وجده مصححا للمذاهب،
وذاهبا من أقوالها المذهب المختار" (4).
وألف أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني (م 695 هـ): الخلاف الكبير،
وهو: الانتصار، والخلاف الصغير، وسماه: رءوس المسائل (5).
ومن هذا العرض المجمل يتضح، أن هذه الكتب بهذا العنوان، أصبحت علما على الكتب
المختصرة في فقه الخلاف غالبا.
فكان رءوس المسائل للإمام الزمخشري واحدا من هذه الكتب في هذا الفن.
نسبة الكتاب لمؤلفه
تتحقق نسبة أي كتاب إلى مؤلفه بأمور منها:
أولا: غلاف الكتاب، وما دون عليه من عنوان ونسبة، وتعليقات للعلماء.
ثانيا: كتب التراجم، حيث يتعرضون غالبا للإنتاج العلمي، لمن يترجمون له.
__________
(1) حاجي خليفة، كشف الظنون 1/ 915.
(2) الحسيني، طبقات الشافعية، ص 132.
(3) طاش كبري زاده، مفتاح السعادة 2/ 564.
(4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص 208، 219.
(5) المدخل، ص 211.
(1/58)
ثالثا: كتب المصادر (البيبلوجرافية)
وما تحدث فيها أصحابها عن هذا الكتاب.
أما بالنسبة لهذا الكتاب، فإنه كتب على صفحة الغلاف بالنص:
"رءوس المسائل، للعلامة الزمخشري، صاحب الكشاف"
وعليها بعض التملكات (1) والمطالعات لبعض العلماء الذين تملكوه، أو استفادوا من
مطالعته، هذه الكتابات تعد من الاثباتات القوية الدالة على صحة نسبة الكتاب
لمؤلفه، إذ لو كان ثمة أدني شك في هذه النسبة، لبينوها وذكروها في تعليقاتهم، كما
هي عادتهم.
ثانيا: ذكر الكتاب، ونسبته لمؤلفه في كتب التراجم:
- ذكره ابن خلكان (م 681 هـ) في وفيات الأعيان، من ضمن مؤلفات الزمخشري وقال:
"وصنف التصانيف البديعة، منها: الكشاف، في تفسير القرآن العزيز، لم يصنف قبله
مثله ... ورءوس المسائل في الفقه" (2).
__________
(1) كتب على صفحة الغلاف القديمة ما يأتي: رءوس المسائل للزمخشري؛
- ملكه الشيخ البقاعي، سنة (930 هـ).
- من كتب الادخال، سنة (992 هـ)، للقاضي الشرعي الفقيه: حافظ إسماعيل بن محمد
الإمام بجامع فوجه.
- الحمد لله طالع فيه مستفيدا، الفقير علاء الدين الطرابلسي الحنفي، إمام الجامع
الأموي، عفى عنه، في سنة (1027 هـ).
- الحمد لله رب العالمين، نظر وطالع في هذا الكتاب، الفقير إلى الله إبراهيم بن
حسين الطباخ الرومي، ثم الدمشقي الحنفي، عفى عنه ربه الخفي.
- دخل في ملك الفقير: عبد الباقي بن موسى، القاضي بمدينة غلطة، عفى عنه.
- وذكر عليه أيضا بعض الفوائد العلمية، مما يتعذر قراءتها، بسبب آثار البلل.
- وعلى صفحة الغلاف الحديثة نسبيا: (رءوس المسائل، للعلامة الزمخشري، صاحب
الكشاف)، وعليها أيضا بعض التملكات: من كتب العبد الفقير السيد عبد الله القاضي
بسلانيك، رتبة أدرنة ساها عفى عنه.
- ثم انتقل إلى سلك الفقير إلى الله تعالى السيد عبد الله بن محمد الأدريه دي عفى
عنهما الباري.
(2) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/59)
- وذكره البدر العيني (م 855 هـ) في
كشف القناع المرني عن مهمات الأسامي والكنى (1). وذكره ابن قطلوبغا (م 879 هـ) في
تاج التراجم في طبقات الحنفية في ترجمته للزمخشري (2).
ئالثا: أما كتب المصادر، فقد أورده حاجي خليفة (كاتب جلبي) (م 1067) (3) في كشف
الظنون تحت عنوان (رءوس المسائل) (3).
- وذكره إسماعيل البغدادي (م 1339 هـ)، في هداية العارفين (4).
كما أنه لم يثر أي جدل أو شبهة حول نسبته له، بحيث يعد هذا إجماعا علميا على صحة
نسبة هذا الكتاب، للعلامة الزمخشري قطعا، وبدون أدني ريب أو شك.
أهمية الكتاب ومكانته بين كتب الفن
اشتهر عصر الزمخشري بالموسوعات المدونة في الفنون بعامة، وعلم الخلاف بخاصة، وأراد
الزمخشري أن يكون كتابه هذا بمثابة المتن بالنسبة للمطولات في علم الخلاف حيث إن
المتون لا تتعرض لكل المسائل الفقهية بل أهمها، ليستفيد منه المبتدئ والمنتهى:
"إذا قرأه المبتدئ وتصوره تنبه به على أكثر المسائل، وإذا نظر فيه المنتهى تذكر
به جميع الحوادث".
كما أنه يضيف إضافة جديدة إلى مجموعة مدونات علم الخلاف بعرض أقوال مذهبين من
مذاهب أهل السنة، حيث يمثل كل منهما اتجاها مغايرا، إذ ينتمي مذهب الأحناف إلى
مدرسة الرأي، ومذهب الشافعية إلى مدرسة الحديث.
فمن ثم تكون للكتاب أهميته العلمية بين مجموعة المؤلفات في هذا المجال الفقهي.
__________
(1) انظر: كشف القناع المرني عن مهمات الأسامي والكنى (ورقة 93).
(2) انظر: تاج التراجم في طبقات الحنفية (217)، ص 71.
(3) انظر: كشف الظنون 1/ 915.
(4) انظر: هدية العارفين 2/ 403.
(1/60)
موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها
احتوى الكتاب على معظم موضوعات الفقه الأساسية: العبادات، المعاملات، المناكحات،
الجنايات، الحدود، الجهاد، على أنه لم يستوف في العرض، لكافة أبواب المسائل
المتصلة بهذه الموضوعات، بل تخير بعضا من مسائلها، فكان يكتفي في بعض الأبواب،
بالمسألة والمسألتين والثلاث، من ذلك:
كتاب الحوالة والضمان: ذكر فيه مسألة واحدة (1).
وكتاب الكفالة: ذكر فيه مسألتين (2).
وكتاب العارية: ذكر فيه ثلاث مسائل (3).
فمجموع المسائل التي ذكرها تحت الأبواب المختلفة، لا تمثل كل الموضوعات الخلافية،
بين الحنفية والشافعية، بل تمثل بعضا منها وهو ما يمكن أن يعد من أهمها (4).
سار المؤلف رحمه الله في ترتيب كتابه على نمط مستقل في الموضوعات الفرعية، وإن
شابه ترتيب الأحناف من حيث الأساس؛ لأنهم يبدأون بالعبادات فالمعاملات، فالمناكحات
ثم يذكرون في آخرها كتاب العتق وما يلحقه من مسائل، فالجنايات والحدود، فيذكرون
بعدها كتاب الصيد والذبائح والأضحية" وبعده: الدعوى والبينات، ثم يذكرون
القضاء والإكراه، فالجهاد والمواريث. هذه طريقة الأحناف كما في ترتيب القدوري
وغيره.
- وأما ترتيب كتب الشافعية في عهد الزمخشري، فكان على النمط التالي:
أولا: العبادات ويلحق بها كتاب الصيد والذبائح والأطعمة.
ثانيا: المعاملات وفي آخرها كتاب العتق وما يتعلق به، وبعده المواريث.
__________
(1) انظر: مسألة (203، 204).
(2) انظر: مسألة (205، 206).
(3) انظر: مسألة (223، 224، 225).
(4) ويمكن إدراك ذلك بالرجوع إلى كتاب "النكت" للشيرازي (مخطوط -
ميكروفلم) بمركز البحث العلمي، كلية الشريعة، جامعة أم القرى تحت رقم (143) فقه
عام، مصورة عن مكتبة أحمد الثالث بتركيا، رقم (1154).
(1/61)
ثالثا: المناكحات.
رابعا: الجنايات ومن ضمنها الجهاد ومتعلقاته، والأقضية، والشهادات والإقرار، وهذه
طريقة الشيرازي في المهذب والتنبيه.
- أما ترتيب الغزالي من الشافعية في الوجيز:
العبادات، فالمعاملات، (وذكر فيها الإقرار) وبعده المواريث، فالمناكحات،
فالجنايات، وبعدها الجهاد، وفيه الجزية، والصيد، والذبائح والأطعمة والأيمان
والنذور، وبعدها القضاء، والشهادات والدعاوى والعتق وما يتعلق به.
- وهذا هو ترتيب النووي في المنهاج.
وبالمقارنة بين ترتيب المؤلف في كتاب رءوس المسائل وترتيب غيره، نجد تشابها كبيرا
بين ترتيب المؤلف وترتيب فقه الأحناف، من حيث الموضوعات الأساسية وإن كان يخالفهم
في بعض التبويبات الفرعية: ذكر المؤلف الإكراه بعد الطلاق، وعادة الأحناف ذكره في
كتاب القضاء، وأخر كتاب العتق إلى آخر الكتاب. مع أن الأحناف يذكرونه في آخر
المناكحات، وكذلك قدم وأخر في بعض الأبواب في المعاملات، ما عدا المحذوفة منها،
كما خالفهم في وضع كتاب السير، حيث ذكره بعد المعاملات وقبل المناكحات، وفصل عن
السير كتاب الجزية، حيث ذكره في آخر الجنايات.
وأما الاختلاف بين ترتيبه وترتيب الشيرازي فواضح جلي، حيث إن الشيرازي ذكر كتاب
الصيد والذبائح ضمن العبادات، في حين أن الزمخشري ذكر هذه الأبواب ضمن الجنايات،
كذلك ذكر الشيرازي كتاب العتق ومتعلقاته تحت العاملات وصاحب رءوس المسائل ذكره بعد
الجنايات في آخر الكتاب، وهكذا في مواضع أخرى.
والكتاب الذي يكاد يطابق ترتيبه ترتيب المؤلف هو: "كتاب الوجيز"، للإمام
الغزالي، مع اختلاف الزمخشري عنه في ترتيب كتاب السير.
(1/62)
منهج المؤلف في الكتاب
من المألوف بين المؤلفين، أن يقدم المؤلف بين يدي الكتاب مقدمة (خطبة) يبين فيها
الغرض من تأليف الكتاب، ومنهجه فيه، وتقسيمه لموضوعاته وخطته التي اعتمدها في
تصديه لمباحث الكتاب، ومصادره التي اعتمدها، إلى غير ذلك مما يتعلق بالكتاب.
عرى هذا الكتاب عن هذه المقدمة، بل بدأه الإمام الزمخشري مباشرة بالموضوع الأول من
الكتاب: كتاب الطهارة.
ليس هذا هو الكتاب الوحيد بين كتب الإمام الزمخشري الذي سار فيه بهذه الطريقة، بل
أن له كتابا آخر سلك فيه السلك نفسه ذلك هو كتاب الأنموذج في النحو (1)، حيث بدأه
مباشرة بموضوعات الكتاب، في حين أن خطته العامة في بقية كتبه التقديم بين يدي
الكتاب مقدمة، يفصل فيها السبب الداعي لتأليف الكتاب، وما سيتطرق إليه من موضوعات،
إلى غير ذلك.
كما نجد هذا جليا: في تفسيره الجليل "الكشاف"، و"أساس
البلاغة"، و "الفائق في غريب الحديث"، و "مقامات
الزمخشري"، وغيرها من الكتب.
ولما كان البحث يستوجب التعرف على منهجه في هذا الكتاب، من خلال عرضه، لموضوعات
الكتاب، ومسائله، وأسلوب بيانه.
فوضحت هذا المنهج في الخطوات التالية:
أولا: يفتتح المؤلف: المسألة مع ذكر حكمها لكلا المذهبين بأسلوب خبري، مبتدئا بقول
أبي حنيفة، ومثنيا بالشافعي رحمهما الله تعالى، وهو في ذلك لا يتعرض إلا لقول أبي
حنيفة - وإن كان المذهب خلافه.
ثانيا: يعقب المسألة لذكر دليلها لكلا الطرفين: مبتدأ بدليل قول أبي حنيفة ومثنيا
بدليل قول الشافعي.
__________
(1) انظر: أول كتاب الأنموذج، الزمخشري، (مع نزهة الطرف في علم الصرف، للميداني)،
الطبعة الأولى، 1401 هـ، بيروت، دار الآفاق الجديدة.
(1/63)
- يعرض الأدلة لكل مذهب كما يقررها كل
فريق، خالية من الجدل والمناقشة، مخالفا لما جرت عليه عادة كتب الخلاف عامة: حيث
يناقشون الأدلة، للانتصار لقول المذهب الذي ولاء المؤلف له.
هذا هو المنهج العام لعرض مسائل الكتاب في جميع الأبواب التي تعرض لها، وقد يخرج
عن هذا النهج في بعض الأحيان: فيعرض المسألة بطريقة الاستفهام ويعقبها بالإجابة
كما في مسألة: (65، 68، 75).
- أو يذكر أقوال غير الإمامين - أبي حنيفة والشافعي - كمالك وأبي يوسف ومحمد رحمهم
الله، كما في مسألة (8، 148، 318).
- أو يقدم دليل قول الشافعي على دليل قول أبي حنيفة كما في مسألة (39، 42).
- أو يعقب المسألة ببيان صورة توضيحية، إن كانت ثمة حاجة للتوضيح، كما في مسألة
(100، 212، 231، 236، 289).
- أو يذكر بعد الأدلة سبب الاختلاف بين الطرفين كما في المسألة (70، 72، 84، 87،
113).
- أو يذكر فائدة الخلاف في المسألة كما في (309، 329).
وقد يتعرض في بعض الأحيان لمناقشة دليل المخالف بطريقة ضمنية كما في مسألة (50،
55، 63، 77، 252، 258).
مصادر الكتاب
اعتاد الفقهاء المتقدمون، إرجاع نسبة القول لقائله في كتبهم، وحذا حذوهم المتأخرون
منهم، فيعقبون المسألة بالنص على مصدرها الذي تم النقل عنه، توثيقا للقارئ،
واعترافا بفضل السابق.
خالف الزمخشري هذا المبدأ في هذا الكتاب، حيث لم يذكر مصدرا من المصادر
(1/64)
التي اعتمدها في تأليفه، سواء المذهب
الحنفي أو الشافعي، كما أنه لم يخرج الأحاديث ولم يسندها إلى رواتها، إلا ما ندر
رغم إتقانه له.
وبعد التتبع الشديد للمصادر التي اقتبس مادته الفقهية منها، محاولا التعرف عليها
من خلال تشابه الجمل والعبارات والاستدلال للمسائل، فوجدت أن المؤلف استقى بعض
الأحكام وأدلتها للمذهبين من بعض كتب المذهب الحنفي، كالمبسوط حيث التشابه الكبير
بين ما يعرضه الزمخشري من استدلالات وأدلة المبسوط في بعض المسائل، وإن لم ينقلها
نصا، بل تصرف فيها بالاختصار، أو النقل بالمعنى، وهذا احتمال قوي، كما تكون من
الأدلة المشهورة لدى الفقهاء فتوافق النقل، وقد يكون نقله من كتب لا نعرفها، ولم
تصل إلينا، والله أعلم.
ولعلنا نجد للمؤلف مسوغا، لكل ما تقدم، في واحد من الأمور التالية:
(أ) قصد الاختصار، كما هو ظاهر من عنوان الكتاب، ومنهجه فيه.
(ب) شهرة المسائل التي عرض لها بين الفقهاء.
(ج) كتابته لها من محفوظاته من غير اعتماد على كتاب معين.
ومن ثم يبدو الأمر شاقا وعسيرا، إذ لا بد من تحقيق نصوصه، والتأكد من صحة نقله،
ونسبة القول إلى مصادره.
لم أجد أمام هذا الواقع، لإكمال هذه الثغرة العلمية المهمة إلا الرجوع إلى الكتب
المعتمدة: المطولة والمتوسطة والمختصرة، المدعمة بالأدلة، والمجردة عنها، مما ألف
قبل عصره، أو في عصره، حيث إنها مظنة رجوعه إليها واقتباسه منها، تيقنا بأنها
الكتب الشائعة، المتداولة بين فقهاء عصره.
ويضطرني البحث أحيانا الرجوع إلى الكتب المؤلفة بعد عصره، إما لزيادة شرط، أو
لتوضيح مسألة، أو لذكر القول المعتمد في المذهب، ووثقت كل هذه المعلومات بالهامش
مراعيا الترتيب على حسب وفاة مؤلفيها.
(1/65)
نقد الكتاب
اشتمل الكتاب على خصائص علمية ومنهجية، كما لم يخل من ثغرات ومآخذ، نعرض هنا
لأهمها:
تميز الكتاب بالخصائص التالية:
- اقتصاره على أهم المسائل الخلافية.
- جمع المسائل المتشابهة في الأحكام بباب واحد من الأبواب المتفرقة، كما في كتاب
البيوع، وفي هذا عون كبير للدارس على ربط الأحكام ببعضها، وأحرى به على تذكرها.
- عرضه السهل المبسط، بطريقة مقتضبة موجزة، وهو بهذا يحقق الهدف التعليمي من تأليف
الكتاب، لييسر حفظه على الدارسين.
- ذكره صورة الخلاف وتوضيحها، إن كان ثمة غموض في المسألة، كما هو في مسألة (100،
212، 231، 289). وهذا هو شأن الكتب التعليمية، حيث الابتعاد عن الغموض وتوضح
المعلومات ما أمكن.
- أمانته العلمية: صحة نسبته الآراء التي حكاها عن أصحابها وما شذ عن هذه الحقيقة
إلا مسألتي (209، 245) عند الأحناف فقط.
- وكذلك أن معظم المسائل التي حكاها عن الشافعي كانت على الأقوال الراجحة في
المذهب، إلا ما جاء في بعض المسائل التي حكي فيها الأقوال المرجوحة أو القديم من
قول الشافعي وذلك مثل ما يلي:
- أورد خمس مسائل على الأقوال المرجوحة لدى الشافعية: (163، 190، 261، 344، 377).
- وكذلك أورد ثلاث مسائل على القول القديم للشافعي: (253، 297، 335).
وهناك مسألتان أورد في أثناء الاستدلال والتمثيل لها أقيسة مخالفة لحكم المذهب:
(68، 83).
(1/66)
وأورد مسألة واحدة فقط مخالفا لقول
الشافعي: (11).
ولنا أن نتلمس عذرا للمؤلف، عن ذكره الأقوال القديمة والمرجوحة: حيث لم تظهر
الأقوال الراجحة تماما في المذهب الشافعي في ذلك الحين، كما بينت ذلك بشيء من
التفصيل أثناء الحديث عن منهج التحقيق (1).
- وكذلك نقل عن الإمام مالك مسألتين مخالفا لمذهبه: (8، 318).
- تنظيره بمسألة متفقة بين الطرفين، بعد استدلاله بالدليل الأساسي لقول المذهب -
تقوية الجانب المستدل.
أما المآخذ على الكتاب فقد سبق ذكر جملة منها وتلك هي:
- خلو الكتاب من المقدمة التي يتعرف القارئ من خلالها على منهج المؤلف، ومحتويات
كتابه.
- إغفاله التام للمصادر التي اعتمدها في التأليف.
- ترتيبه لأبواب الكتاب لم يكن منتظما ولا متناسقا.
- تكراره لبعض الأبواب، ووضعه لها في غير موضعها، كما في كتاب الأشربة، والأيمان،
وكذلك تكراره لبعض المسائل، كما كرر مسألة (عقوبة المرتدة): مرة في كتاب السير
(240) ومرة في قتال أهل البغي (45).
- ومسألة (دم الحامل) كررها مرة في الطهارة (37) ومرة في العدة (309).
- إغفاله لذكر قول أحد المذهبين كما في مسألة (95، 96).
- إغفاله للمسألة الخلافية بين الطرفين، بعد ذكر المتفق بينهما كما في مسألة
(101).
- ذكره المسألة مطلقة، بدون ذكر قيد أو شرط كما في مسألة (135).
__________
(1) كما يأتي ص 90، 91.
(1/67)
- عدم اعتنائه بالاصطلاحات الفقهية
الدقيقة، حيث يقول لا يجوز: ويقصد به: الكراهة، وكراهة تحريم، والحرام، (14) وحيث
يستعمل الشرط، ويقصد به الفرض، وغير الشرط، ويقصد به السنة، كما في مسألة (7، 9)
وغيرها من المسائل.
- ذكره للأحاديث بالمعنى كقوله (للمغرب وقتان) في مسألة (40) وكذلك في معظم
الأحاديث.
- دمجه لعدة أحاديث في حديث واحد كما في مسألة (42).
- عدم ذكر راوي الحديث وتخريجه، مع أن للزمخشري باعا طويلة في الحديث.
- نسبة بعض آثار الصحابة والتابعين، حتى بعض القواعد الفقهية أنها من كلام النبوة
الشريفة (85، 267، 344).
- استدلاله بالقياس مع وجود دليل نقلي كما في مسألة (16، 44، 54، 60، 104) وأمثلة
ذلك كثيرة.
- اكتفاؤه بدليل أحد الطرفين مع محاولة إلزام الطرف الثاني الحجة، برد ضمني، كما
في مسألة (47، 51، 76، 77).
- إغفاله لدليل أحد المذهبين كثيرا، أو دليل المذهبين معا كما في مسألة (101، 114،
150).
الكتب المصنفة في علم الخلاف
اهتم العلماء منذ القرن الأول بعلم الخلاف، حتى اشترطوا على المفتي أن يكون عالما
بأقوال العلماء المختلفة ومذاهبهم، كما نقل ابن القيم عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه
الله تعالى: "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا
يفتى" (1).
__________
(1) ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 54.
(1/68)
ومن ثم زخرت بها المصنفات العلمية
الكبرى: ككتب التفاسير بعامة، وكتب تفسير آيات الأحكام بخاصة، كالجصاص، وابن
العربي والقرطبي، والكيا الهراسي.
ومن المصنفات الحديثية التي اهتمت بهذه الناحية: مصنف عبد الرزاق، مصنف ابن أبي
شيبة، وموطأ الإمام مالك، وشرح معاني الآثار، وكذلك معظم كتب شروح الحديث.
كما اهتم به بعض كتب الفقه المذهبي: كالمبسوط والبدائع، والمجموع، والمغني، ومن
شدة اعتناء العلماء بهذا الفن، أفردوا له مؤلفات خاصة، وقسموا التأليف فيه إلى
قسمين:
قسم يتعرض لجميع الأقوال المتعددة في المسألة مع ذكر أدلتها، وبعضهم مع تجريدها عن
الأدلة.
وقسم يتعرض لأصول مسائل الخلاف، وسر منشأه، ومعرفة مآخذ أدلة الأئمة لاستنباط
الأحكام.
أهم الكتب المصنفة من القسم الأول: الذي يتعرض لذكر الأقوال المتعددة في المسألة
الواحدة قبل عصر الزمخشري:
- اختلاف الصحابة، للإمام أبي حنيفة النعمان (م 150 هـ) (1).
- اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (م 182
هـ) (2).
- والرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف (3).
- الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني (م 189 هـ) (4).
__________
(1) ذكره السيد أبو الوفاء الأفغاني في مقدمة كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن
أبي ليلى".
(2) طبع بتحقيق السيد أبي الوفاء الأفغاني، الطبعة الأولى، 1357 هـ، مصر، مطبعة
الوفاء.
(3) طبع بتحقيق السيد أبي الوفاء، الطبعة الأولى، بعناية لجنة إحياء المعارف
العثمانية.
(4) طبع بتحقيق السيد مهدي حسن الكيلاني، حيدر آباد الدكن، مطبعة المعارف الشرقية،
1385 هـ، وصور في بيروت، عالم الكتب.
(1/69)
ويشتمل "الأم" للإمام
الشافعي (م 204 هـ) أبوابا متعددة، من اختلاف الفقهاء مع الشافعي، رحمهم الله
تعالى (1).
الإجماع والاختلاف، لأبي عبد الرحمن الشافعي (2).
كتاب الاختلاف، لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (م 209 هـ) (3).
كتاب اختلاف الفقهاء، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (م 310 هـ) (4).
الأوسط في السنن والإجماع.
كتاب الاختلاف.
- الإشراف على مذاهب أهل العلم، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر الشافعي (م
318 هـ) (5).
- كتاب اختلاف الفقهاء، لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (م 321 هـ) (6).
- مختلف الرواية بين أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد
السمرقندي (م 373 هـ) (7).
- التجريد لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري الحنفي (م 428 هـ) (8).
__________
(1) انظر: الشافعي، الأم، الطبعة الثانية، 1393 هـ، تصوير بيروت، دار المعرفة 7/
95 وما بعدها.
(2) انظر: ابن النديم، كتاب الفهرست، ص 267.
(3) انظر: كتاب الفهرست، ص 111.
(4) طبع الجزء الموجود من الكتاب (في بعض أبواب المعاملات)، بتحقيق الدكتور فريدرك
كون الألماني، بيروت، دار الكتب العلمية.
(5) انظر: المصدر السابق، وفيه ذكر أماكن وجود مخطوطاتها، ص 5.
(6) طبع جزء من الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد صغير حسن المعصومي، إسلام آباد، مطبعة
البحوث الإسلامية، 1391 هـ.
(7) الأعلام 8/ 27.
(8) انظر: مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري للدكتور فريدريك.
(1/70)
- اختلاف الفقهاء الكبير، واختلاف
الفقهاء الصغير، لأحمد بن نصر المروزي.
- كتاب الاختلاف في الفقه، لأبي يحيى زكريا بن يحيى بن محمد الساجي (1).
- كتاب الاختلاف، لأبي إسحاق بن إبراهيم بن جابر (2).
الكتب المؤلفة في علم الخلاف في عصر الزمخشري:
- النكت، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ) (3).
- الخلافيات، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458 هـ) (4).
- الكفاية في مسائل الخلاف، لعلي بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري (م 493) (5).
- حلية العلماء في اختلاف الفقهاء، لأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي القفال (م 507
هـ) (6).
- منظومة النسفي، لنجم الدين عمر بن محمد النسفي (537 هـ) (7).
- الطريقة الرضوية، لرضي الدين محمد بن محمد السرخسي الحنفي (571 هـ) (8).
__________
(1) ذكرهما ابن النديم، في الفهرست، ص 666.
(2) قال ابن النديم عنه: "ولم يعمل أكبر منه"، الفهرست، ص 272.
(3) حققه الأستاذ زكريا المصري بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(4) للكتاب مختصر، لأحمد بن فرج اللخمي الأشبيلي (م 699)، ومصورة على ميكروفلم تحت
رقم (299 - الفقه العام) مصورة من مكتبة شستربتي برقم (1618) وهذا المختصر حقق
جزءا منه بكلية الشريعة بجامعة أم القرى.
(5) انظر: معجم المؤلفين 7/ 100.
(6) طبع منه قسم العبادات في ثلاثة أجزاء صغيرة، بتحقي الدكتور أحمد إبراهيم دراوكة،
الطبعة الأولى 1400، عمان، دار الأرقم.
(7) انظر: الأعلام 5/ 60.
(8) مخطوط، انظر: الأعلام 7/ 24؛ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري، ص 6.
(1/71)
- الإشراف على مذاهب الأشراف (1)،
والإفصاح عن معاني الصحاح (2) للوزير عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي (م
560 هـ).
- تقويم النظر في مسائل الخلاف، لمحمد بن علي بن شعيب، المعروف بابن الدهان (م 590
هـ) (3).
ومن تأليفات المتأخرين في هذا الفن:
- كتاب الميزان، لعبد الرحمن الشعراني (973 هـ) (4).
- كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (5)، لمحمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني
الشافعي (5).
والقسم الذي يتعرض لأصول مسائل الخلاف، وسر منشأ الخلاف ومعرفة مآخذ أدلة الأئمة
لاستنباط الأحكام:
- تأسيس النظر، للإمام عبيد الله بن عمر الدبوسي الحنفي (م 430 هـ) (6).
- الإنصاف في التنبيه على أسباب الخلاف، لأبي محمد عبد الله البطليوسى (م 521 هـ)
(7).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (م 595
هـ) (8).
__________
(1) مخطوط ومصورة على ميكروفلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، تحت رقم (304
- الفقه العام)، مصورة من مكتبة شستربتي، (3266).
(2) طبع مرارا، الطبعة الثانية، 1366 هـ، حلب، الطبعة الحلبية.
(3) انظر: معجم المؤلفين 11/ 15.
(4) و (5) مطبوع وبهامشه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، مصر، مطبعة العثمانية، 1311
هـ، وطبع رحمة الأمة مستقلا مرارا.
انظر بالتفصيل: مقدمة كتاب اختلاف الفقهاء للطبري، ص 5، 6.
(6) مطبوع مع رسالة أبي الحسن الكرخي في الأصول، القاهرة، زكريا علي يوسف.
(7) طبع الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، الطبعة الأولى، 1394 هـ، دمشق،
دار الفكر.
(8) طبع مرارا، ومتوفر في المكتبات.
(1/72)
- تخريج الفروع على الأصول، لأبي
المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (م 656 هـ) (1).
- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية (م 728
هـ) (2).
ومن الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة في هذا الفن:
- الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الاختلاف في الأحكام الفقهية،
لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي (م 1176 هـ) (3).
- أسباب اختلاف الفقهاء، للشيخ علي الخفيف (معاصر).
- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، للدكتور مصطفى سعيد الخن
(معاصر) (4).
- أسباب اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الله عبد المحسن التركي (معاصر) (5).
... وإلى غير ذلك من كتب حديثه في أصول الفقه وتاريخه.
* * *
__________
(1) طبع الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد أديب صالح، دمشق، جامعة دمشق 1382 هـ.
(2) طبع مرارا، بتحقيق محمد حامد الفقي.
(3) طبع مرارا بالمطبعة السلفية بالقاهرة، 1398 هـ.
(4) الطبعة الثالثة، 1402 هـ، بيروت، مؤسسة الرسالة.
(5) الطبعة الثانية، 1397 هـ، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة.
(1/73)
قسم التحقيق
ويشتمل على:
- وصف نسخة الكتاب.
- منهج التحقيق.
- النص المحقق.
(1/75)
(1/76)
(1/77)
(1/78)
نسخة الكتاب
من الأهمية بمكان لتحقيق المخطوط، البحث عن نسخ متعددة له، حتى يتمكن الباحث
بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، من إخراج نسخة مصححة، كما لو كانت النسخة الأصلية
التي دونها المؤلف بيده.
ولقد رجعت إلى فهارس مكتبات العالم (1) المتوافرة منها في المكتبة المركز بجامعة
أم القرى بمكة المكرمة، وفهارس مكتبة البحث العلمي بكلية الشريعة بالجامعة؛ للعثور
على نسخ متعددة لكتاب رءوس المسائل، فما وجدت منه إلا نسخة واحدة فقط، مصورة على
(ميكروفلم) بمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، بكلية الشريعة، بجامعة أم
القرى، تحت رقم (308 فقه عام)، مصورة من مكتبة شستربتي (بدبلن - ايرلندا) تحت رقم
(3600).
- وهي نسخة بخط عادي، وبأوراقها آثار رطوبة بلل، عدد أوراقها ست ومائة ورقة،
وسطورها: ثلاثة عشر سطرا، في كل سطر: ثلاث عشرة كلمة تقريبا،
__________
(1) وهي فهارس مكتبة الحرم المكي، ومكتبة المدينة المنورة المركزية، وجامعات
المملكة؛ وفهارس مكتبات: تركيا، ودمشق، وحلب، وبغداد، والموصل؛ وفهارس مكتبات مصر:
الأزهرية، دار الكتب، التميورية؛ ومكتبة دار الكتب الوطنية، والأحمدية بتونس؛
والخزانة الملكية بالمغرب؛ والعربية بالجامع الكبير بصنعاء؛ وآصفية بحيدرآباد
بالهند؛ والمخطوطات العربية بباريس ومكتبة برلين؛ وغيرها من فهارس المكتبات
الموجودة في المكتبة المركزية بجامعة أم القرى.
(1/79)
ومقاس الصفحة 17 × 13.1 سم. وهذه
المعلومات مطابقة لما هو مدون عليها باللغة الانجليزية كما هو مدون في فهرسة مكتبة
شستربتي برقم (3600) (1).
- تاريخ نسخها: يعود إلى سنة (576 هـ)، كما ورد ذلك في آخرها، حيث قال ناسخها:
"وقع الفراغ في شهر الله الأصم رجب، في آخر الظهر، في سنة ست وسبعين وخمسمائة
من هجرة النبي صلى الله عليه (وسلم) صاحبه شبلي بن عبد الرحمن بن جندر بن أيوب غفر
الله لهم أجمعين، وصلى الله على محمد وآله".
فهي ليست بعيدة العهد عن عصر المؤلف، إذا علمنا أن وفاته كانت عام (538 هـ). وقرب
نسخها من حياة المؤلف يعطيها أهمية خاصة، كما هو معروف في مجال تحقيق المخطوطات.
- خط النسخة واضح، وإن لم يسر الناسخ على نسق واحد في النسخ، فأحيانا يكتب بعض
الحروف منقوطة، وأحيانا غير منقوطة.
- وكذلك في رسم بعض الحروف من الناحية الإملائية.
- يبدو أن الناسخ كان وراقا محترفا، لم يتوفر له نصيب كبير من العلم، وكان ذا
معرفة ضعيفة بالنحو والإملاء، حيث لا تخلو صفحة واحدة من عدة أخطاء نحوية
وإملائية.
ومما يؤكد بأن الناسخ كان وراقا نسبة بعض الأقوال والأدلة لغير أصحابها، كما في
مسألة (243، 306).
ولم أشر إلى شيء من ذلك في الهامش، بل اكتفيت بتعديلها، وتركت ما وجدت له وجها
صحيحا منها.
- توجد على ورقة الغلاف بعض التملكات والمطالعات التي تدل على تداول
__________
(1) انظر: فهرسة مكتبة شستربتي بدبلن، إيرلندا، 3/ 41 (بالانجليزية).
(1/80)
هذه النسخة بين يدي كثير من العلماء،
كما بينت هذه التملكات في أثناء حديثي عن توثيق الكتاب (1).
- بعد تدوين الناسخ تاريخ انتهاء نسخ الكتاب، الذي يعتبر نهاية النهاية فيه، دون
مسألتين (405، 406)، في صفحة أخرى غير مستكملتي الحكم والدليل، مما يشير إلى أنهما
أضيفتا إليه مؤخرا، وليستا من صلب الكتاب.
- خصصت الصفحة الأخيرة من الكتاب لفهرسة الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر: ص 59.
(1/81)
منهج التحقيق
لما كانت النسخة كثيرة الأخطاء في النحو والإملاء وكثيرة السقطات، لزم إعادة
نسخها، لتقويم نصوصها، وإصلاح عباراتها، وإكمال الساقط منها، وتهذيب مسائلها،
لتصبح أقرب ما تكون من نسخة المؤلف بقدر الإمكان، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف قمت
بالخطوات التالية:
- نسخ الكتاب من الميكروفلم، مع مراعاة كتابة الكلمات حسب القواعد الإملائية
المعروفة في عصرنا.
- فقد جرت عادة الناسخ على إسقاط الألف في مثل الكلمات (الشفعى، تعلى، ثلثا،
السلم) التي أصبحت كتابتها بإثبات ألف المد فيها: (الشافعي، تعالى، ثلاثا،
السلام).
- وكذلك باستبدال الألف واوا كرسم المصحف، مثل: (الحيوة، والصلوة) مما أصبح رسمه
بالألف (الحياة، الصلاة).
- كما جرت عادته على حذف الهمزة في الممدودة، مثل: (الصحرا، ما، الأعضا، الأشيا،
الإنا) في حين أن الرسم الإملائي لها في الوقت الحاضر هو إثباتها رسما.
- وكذلك مده للمقصور منها، مثل: (المعنا، روا، يعطا).
- وإبداله الهمزة ياء مثل: (البير، المايعات، نسايه، البهايم) ونحوها كثير لم أشر
لكل هذه الأمور بالهامش، اكتفاء بذكرها هنا.
(1/82)
- ضبط المفردات اللغوية، بالرجوع إلى
المعاجم اللغوية وقواميسها.
- إتمام النقص والسقطات، بما يتفق مع العبارات المتقطعة الموجودة مستعينا بمدونات
الفقه في المذهبين لإكمال السقطات، واضعا ذلك داخل قوسين مربعين []، ومبينا سبب
الزيادة، وأترك الإشارة إلى الزيادة كثيرا، لدلالة الأقواس عليها.
وإن استبدلت شيئا من النص، فإني أبين ما في الأصل بالهامش وأضع البدل الذي رأيته
مناسبا في النص بين مربعين.
- جرت عادة المؤلف باستعمال صيغ ناقصة في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله
عليه وسلم -، مما ذكرها العلماء، فجاءت منه على النحو التالي:
فغالبا ما يقول: (النبي صلى الله عليه)، جريا على عادة المعتزلة التي ينبذها أهل
السنة، وأحيانا: (النبي صلى الله عليه السلام)، و (النبي عليه السلام)، واستبدلت
كل هذه الصيغ، بالصيغة الكاملة، المندوب إليها والتي حث على التزامها علماء (1)
السنة، وإن كان في ذلك تغيير لنسخة الكتاب، إيثارا للمنهج القويم: منهج أهل السنة
والجماعة.
__________
(1) وقد ذكر ابن الصلاح في مقدمته، في (كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده)
ما نصه: "التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره فإن ذلك من أكبر الفوائد
التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظا عظيما، وقد رأينا لأهل
ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته، لا كلام يرويه، فلذلك لا
يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على
الله سبحانه وتعالى عند ذكر اسمه، نحو: عز وجل، وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك ...
إلى أن قال: ... ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين، أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى، بألا يكتب (وسلم) وروى عن حمزة الكناني رحمه الله
تعالى، أنه كان يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي: صلى الله عليه،
ولا أكتب (وسلم)، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النام، فقال لي: ما لك لا تتم
الصلاة علي؟ فقال. فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت (وسلم) ... ، ثم قال
ابن الصلاح: ويكره=
(1/83)
- وتكميلا لأعمال التحقيق وإخراج
الكتاب إخراجا علميا مناسبا قمت بوضع عناوين جانبية للمسائل الفقهية، وترقيمها.
- وتسجيل أرقام أوراق النسخة المخطوطة على الجانب الأيسر لتسهيل العودة إلى الأصل
المخطوط.
تحقيق المسائل الفقهية ومصادرها:
ولما كان كتاب "رءوس المسائل" كتابا فقهيا خلافيا استدلاليا، فقد تأكد
وجوب توثيق النصوص الفقهية بالرجوع إلى مصادرها الأصلية، خاصة أن المؤلف لم يذكر
مرجعا من مراجعه.
أما الناحية الاستدلالية، فقد اشتملت على الاستدلالات: من الكتاب والسنة والعقل،
فاستوجب هذا توثيق تلك النصوص. وقد سرت في توثيق هذه العناصر: المسائل الفقهية،
والاستدلالات: الآيات والأحاديث كما يلي:
- المسائل الفقهية: يتعرض المؤلف للمقارنة والموازنة لبيان أقوال المذهبين في كل
مسألة، دون ذكر المصادر كلية، فتطلب تحقيق هذه المسائل الرجوع إلى المصادر الفقهية
المعتمدة في كل مذهب، بما يتفق ونقل المصنف، وتبيين المصادر والمراجع التي يمكن
الاطلاع عليها للتوسع في هذه المسائل.
ومن ثم رجعت إلى الكتب المعتمدة في كل مذهب حكى أقواله، متوخيا فيها الجانب الزمني
للمصادر: الكتب المؤلفة قبل عصره، أو في عصره، التي هي مظنة استفادته منها ورجوعه
إليها.
كما اقتضى البحث أحيانا الرجوع إلى المصادر الفقهية المؤلفة بعد عصر المؤلف وذلك،
إما لزيادة قيد أو شرط، أو لتوضيح وبيان مسألة، أو لبيان القول المعتمد في
__________
= أيضا الاقتصار على قوله (عليه السلام). وذكر النووي نحوه في التقريب: " ...
ولا يتقيد بما في الأصل إن كان ناقصا".
انظر: مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 91، 92؛ السيوطي، تدريب الراوي في شرح
تقريب النواوي، ص 74 وما بعدها.
(1/84)
المذهب، أذكر كل هذه المراجع مرتبة على
حسب وفاة مؤلفيها، والاعتماد غالبا في المذهب الحنفي، على المؤلفات السابقة
للزمخشري والمعاصرة له وهي:
أولا: مختصر الطحاوي، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (م 321 هـ).
ثانيا: متن القدوري، لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري (م 428 هـ).
ثالثا: المبسوط، لمحمد بن أحمد السرخسي (م 483 هـ)، وقيل غير ذلك.
رابعا: تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي (م 552 هـ).
خامسا: بدائع الصنائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (م 587 هـ).
سادسا: الهداية، لأبي الحسين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغيناني (م
593 هـ).
كما رجعت إلى بعض الكتب الفقهية المعتمدة التي ألفت بعد عصره مثل:
أولا: الاختيار شرح المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي (م 683 هـ).
ثانيا: شروح الهداية: العناية، لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي (م 786 هـ).
ثالثا: شرح البناية، لأبي محمد محمود بن أحمد العيني (م 855 هـ).
رابعا: شرح فتح القدير، للكمال ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد السيواسي (م 861
هـ).
خامسا: الدر المختار، لمحمد علاء الدين الحصكفي (م 1088 هـ)، مع حاشية (الرد
المحتار) المعروف بحاشية ابن عابدين، لمحمد أمين ابن عابدين (م 1258 هـ).
سادسا: اللباب في شرح الكتاب، لعبد الغني الغنيمي الميداني (م 1298 هـ).
وغيرها من الكتب الفقهية مما هو موضح في مكانه.
(1/85)
هذا ولم يختلف الأمر بالنسبة للمذهب
الشافعي رحمه الله تعالى، فكان الاعتماد في تخريج مسائله على أمهات كتب المذهب
المعتمدة، المؤلفة قبل عصره:
- الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (م 204 هـ).
- مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني (م 264 هـ).
- المهذب والتنبيه والنكت، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي (م
476 هـ).
ومن مؤلفات معاصريه: الوجيز، لمحمد بن محمد الغزالي (م 505 هـ).
كما رجعت إلى الكتب المتأخرة عن عصر الزمخشري فى كل مسألة من مسائل المذهب
الشافعي، زيادة في التأكد وتوخي الدقة لبيان القول الراجح لديهم، بحسب اصطلاحاتهم
الفقهية، ذلك لأن معظم المسائل المنقولة عن الشافعي، روى عنه فيها قولان أو أكثر،
ولم تظهر الأقوال الراجحة في المذهب تماما، إلا بعد جهود الشيخين الجليلين: أبي
القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي (م 623 هـ)، ومحيي الدين أبي زكريا
يحيى بن شرف بن مري النووي (م 676 هـ) حيث إن الفضل في تحرير المذهب الشافعي
وتنقيحه يرجع إليهما، ومن ثم أصبحا عمدة من جاء بعدهم من فقهاء الشافعية، وإليهما
ينتهي الاجتهاد؛ وعلى رأيهما يكون في الفتوى الاعتماد (1).
لذلك: ألزمت نفسي في كل مسألة الاعتماد على كتب الإمام النووي رحمه الله: منهاج
الطالبين وعمدة المفتيين، أو المجموع شرح المذهب، أو روضة الطالبين، لذكر القول
المعتمد في المذهب؛ لأن على قوله التعويل لدى الشافعية.
وأرجع أحيانا إلى شروح المنهاج للنووي أيضا (2).
__________
(1) انظر: د. محمد إبراهيم أحمد علي، المذهب الشافعي، مجلة جامعة الملك عبد
العزيز، العدد الثاني، (1398 هـ).
(2) مثل: شرح المحلي على منهاج الطالبين (مع حاشيتي قليوبي وعميرة) لجلال الدين
المحلي، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لحمد بن أحمد الخطيب
الشربيني، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد الرملي.
(1/86)
- تعريف الاصطلاحات الفقهية بالرجوع
إلى كتب المذهبين، وكذلك مقارنة المقاييس والموازين: (المثقال، والدرهم، والقلة
ونحوها)، بالمصطلحات الحديثة المتعارفة لدى الناس في هذا العصر.
- تتبع المؤلف فيما حكاه من أقوال على خلاف ما عليه القول المعتمد في المذهب، كما
في مسائل الحجر وغيرها عند الأحناف، وكذلك في بعض أقوال الشافعية حيث ذكر القول
القديم أو المرجوح.
- الاستدلال بأدلة أخرى أقوى من التي قدمها المؤلف، كالاستدلال بالنقل، حينما
يكتفي المؤلف بالاستدلال بالعقل فقط، مع توافر الأدلة النقلية.
- دراسة بعض المسائل الأصولية واللغوية، زيادة في توضيحها.
- بيان صور بعض المسائل وتوضيحها التي يكتنفها بعض الغموض.
- ذكر أسباب الخلاف لبعض المسائل التي لم تتضح أسباب الخلاف فيها بالاعتماد على
كتب الأصول والفروع كما في (138، 145، 146).
- بيان ثمرة الخلاف وفائدته إذا لم تتضح ذلك من المسألة كما في (130، 136).
وكما تقدم فإن المؤلف يستدل بالكتاب والسنة والعقل، أما بالنسبة للآيات القرآنية،
فإنني أعين السورة التي ذكرت فيها، ورقمها بين آياتها، والتعليق عليها، أو الإشارة
إلى مصدر التعليق من كتب آيات الأحكام، ككتاب أحكام القرآن للشافعي، وأحكام القرآن
للجصاص، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للكيا الهراسي، والجامع لأحكام
القرآن للقرطبي، وغيرها من كتب التفسير.
- وأما بالنسبة للأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرها المؤلف، أو أشار إليها أو
ضمنها كلامه - والتي تبلغ (215) حديثا - ونحوها مما أضفته أثناء التحقيق، فإني
خرجت جميع هذه الأحاديث على النحو التالي:
(1/87)
- إذا ثبت الحديث في الصحيحين -
البخاري ومسلم - (1) أو في أحدهما، فإنني لا أتتبعه في كتب السنة الأخرى.
كذلك إذا ثبت في السنن الأربعة (2) اكتفيت بتخريجه منها. وجاء تخريجي لهذه
الأحاديث من الكتب الستة، بذكر: كتب وأبواب الأحاديث المتضمنة تحتها، ثم أعقبت هذا
بذكر أرقام الأحاديث، وأجزاء وصفحات الكتاب.
فإذا لم أعثر على الحديث في الكتب الستة، فإني أبحث عنه في بقية كتب السنن،
والمعاجم، والمصنفات الحديثية، واكتفيت فيها بذكر أرقام أجزاء وصفحات الكتاب فقط.
- ثم تعقيبها بذكر أقوال علماء الحديث في الحديث سندا ومتنا إن وجد.
لم أكتف في تخريج الأحاديث بالاعتماد على كتب تخريج الأحاديث: كنصب الراية، وتلخيص
الحبير، والجامع الصغير، وإرواء الغليل، ونحوها، بل رجعت إلى أصولها إلا في حالة
افتقاد للكتب الأساسية فقد كانت هي المرجع في النهاية.
- آثرت عدم التعرض لتراجم الأعلام الواردة في نص الكتاب، حيث إن كافتهم من أعلام
الصحابة المشهورين، قصدا في عدم إثقال الكتاب بالهوامش التي يمكن أن يغني عنها
غيرها من الكتب المتوافرة في هذا المجال.
__________
(1) اعتمدت في ترقيم الأحاديث وذكر أجزاء وصفحات (صحيح البخاري) على شرحه فتح
الباري، الذي رقمه وهذبه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، مصر - المكتبة السلفية؛
وكذلك على صحيح مسلم الذي رقمه وحققه الأستاذ محمد فؤاد، بيروت - دار إحياء التراث
العربي.
(2) سنن أبي داود، مراجعة وضبط وترقيم محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت - دار
إحياء السنة النبوية؛ سنن الترمذي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر وزملائه، بيروت -
دار إحياء التراث العربي؛ سنن النسائي، مع شرح الجلال السيوطي، وحاشية السندي،
بيروت - دار الكتاب العربي، سنن ابن ماجه، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي،
بيروت - دار إحياء التراث العربي، 1395 هـ.
(1/88)
وأخيرا يستكمل التحقيق جوانبه الفنية
بعمل فهارس مفصلة للمسائل الفقهية، والآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية
الشريفة، على قائلها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(1/89)
رؤوس المسائل
«المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية»
تأليف
العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
(467 هـ - 538 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله نذير أحمد
(1/91)
بسم الله الرحمن الرحيم
(توكلت على الحي الذي لا يموت)
[كتاب (1) الطهارة] (2)
[مسألة: 1 - ] إزالة النجاسة بالمائعات
إزالة النجاسات بالمائعات (3) يجوز عندنا (4)، وعند الشافعي:
__________
(1) الكتاب، لغة: يدل على جمع شيء، من ذلك الكتاب والكتابة، ومنه الكتيبة: واحدة
الكتائب: وهو العسكر المجتمع.
انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة؛ مختار الصحاح، مادة: (كتب).
واصطلاحا: عرفه البعلي بأنه: "اسم لجنس من الأحكام ونحوها، وتشتمل على أنواع
مختلفة، كالطهارة مشتملة: على المياه والوضوء والغسل ... " ثم أصبح في اصطلاح
المؤلفين عبارة عن: مجموعة من الموضوعات المشتملة على قضايا علمية متعددة ومتميزة
عن بعضها البعض، بينها علاقة مشتركة، والكتاب: هو التقسيم الأعلى في التبويب.
انظر: البعلي، المطلع على أبواب المقنع، ص 5.
(2) الطهارة لغة: النظافة والنزاهة من الأدناس، وهم قوم يتطهرون أي: يتنزهون من
الأدناس، والطهور بفتح الطاء: ما يتطهر به، كالفطور والسحور والوقود، قال الله
تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (الفرقان 48).
انظر: مختار الصحاح، مادة: (طهر).
واصطلاحا: "النظافة عن الحدث أو الخبث". على القاري، فتح باب العناية
بشرح النقاية 1/ 19.
(3) المائعات، جمع مائع، مشتق من ميع، وهو يدل على جريان شيء واضطرابه وحركته،
يقال: ماع الشيء: جرى على وجه الأرض، والمائع: كل شيء ذائب.
انظر: معجم مقاييس اللغة، مادة: (ميع).
(4) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/ 266؛ المرغيناني؛ الهداية
على شرح بداية المبتدي 1/ 34.
(1/93)
لا يجوز (1).
مثل: الخل، وماء الورد، والدبس (2) وغيره (3). يجوز إزالة النجاسة بهذه الأشياء
وإن كان لا يجوز به التوضؤ (4).
لنا في ذلك: وهو أن المقصود من إزالة النجاسة: الطهارة، وهذا المعنى يحصل
بالمائعات كما يحصل بالماء، بخلاف الوضوء، لأن الوضوء إنما شرع لرفع الحدث حكما
(5)، فإنما يرفع بالماء المطلق (6).
احتج الشافعي بقول الله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (7) فإن
الله تعالى من علينا بإنزال الماء الطاهر، فلو قلنا: إن غير الماء يقوم مقام الماء
لبطل معنى الامتنان (8).
__________
(1) انظر: الشافعي، الأم 1/ 4؛ الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1/ 11؛ الغزالي،
كتاب الوجيز، ص 3.
(2) الدبس: هو عسل التمر وما يسيل من الرطب. انظر: المعجم الوسيط، مادة: دبس.
(3) ويمكن أن يدخل تحتها السوائل المطهرة الحديثة: كدواء الغسيل والصابون السائلة،
ونحوها من المواد المائعة المطهرة.
(4) انظر: البدائع 1/ 114.
(5) والطهارة على نوعين: حقيقية وحكمية، أما الحقيقية فهي الطهارة عن النجاسة
حقيقة، وهي ثلاثة أنواع: طهارة البدن، والمكان، والثياب. وأما الحكمية: فهي
الطهارة عن النجاسة حكما، وهي نوعان: الوضوء والغسل.
انظر: السمرقندي: تحفة الفقهاء 1/ 3.
(6) الماء المطلق: هو الماء الذي بقي على أصله، كماء البحار والأمطار والأنهار
ونحوه.
انظر: الهداية 1/ 17، 18.
(7) سورة الأنفال: آية 11.
(8) انظر: الجويني، الغياثي غياث الأمم في الثبات والظلم، ص 436.
واستدل الشيرازي على عدم جواز الغسل بغير الماء، بقوله سبحانه وتعالى: {فلم تجدوا
ماء فتيمموا} (المائدة: 6)، وبأدلة أخرى.
انظر: المهذب 1/ 11.
(1/94)
مسألة: 2 - الوضوء بنبيذ - التمر
يجوز التوضؤ بنبيذ التمر عندنا (1)، وعند الشافعي: لا يجوز (2).
وصورة نبيذ التمر: أن يلقى في الماء تميرات حتى تخرج عذوبة الماء، فإذا عصر صار
دبسا، لا يجوز التوضؤ به اتفاقا (3).
لنا في ذلك: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان في ليلة الجن مع ابن
مسعود، فسأله: هل معك ماء يا ابن مسعود؟ قال: لا، إلا إداوة (4) فيها تمر، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثمرة طيبة وماء طهور"، فأخذ وتوضأ به
(5). وهذا دليل على أنه يجوز.
__________
(1) انظر: البدائع 1/ 114، 115.
(2) انظر: المزني، مختصر المزني؛ ملحق بالأم، ص 1؛ النووي، المجموع شرح المهذب 1/
139.
(3) انظر: المهذب 1/ 11؛ القدوري، متن القدوري، ص 3.
(4) الإداوة: المطهرة، والجمع: الأداوي بوزن المطايا.
انظر: مختار الصحاح، مادة: (الاداوة).
(5) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أصحاب السنن، وكلهم في كتاب
الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، بألفاظ مختلفة: أبو داود (84)، 1/ 21؛ الترمذي (88)،
وقال: "وأبو زيد - الراوي - مجهول عند أهل الحديث، لا يعرف له رواية غير هذا
الحديث" 1/ 147، وليس في روايتهما لفظ (وتوضأ)، ابن ماجه (384)، وزاد فيه:
"فتوضأ" 1/ 135.
وقد ضعف الطحاوي الحديث، واختار أنه لا يجوز لأحد أن يتوضأ بالنبيذ لا في سفر ولا
في حضر، وقال: "إن حديث ابن مسعود روى من طرق لا تقوم مثلها حجة"، ثم
علله. وكذلك ضعفه الزيلعي وذكر له ثلاث علل: إحداها: جهالة أبي زيد - الراوي عن
ابن مسعود -، والثانية: التردد في أبي فزارة، هل هو: راشد بن كيسان أو غيره،
والثالثة: أن ابن مسعود لم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن.
انظر: الطحاوي، شرح معاني الآثار، 1/ 94، 96؛ الزيلعي، نصب الراية 1/ 138.
(1/95)
احتج الشافعي فقال: هذا مائع لا يجوز
التوضؤ به حضرا، فلا يجوز التوضؤ به سفرا (1)، دليله الدهن والدبس (2).
مسألة: 3 - الوضوء بماء الزعفران
يجوز التوضؤ بماء الزعفران عندنا: إذا كان رقيقا (3)، وعند الشافعي: لا يجوز (4).
دليلنا في ذلك: وهو أنا أجمعنا: أنه إذا تغير الماء بوقوع الأوراق يجوز التوضؤ به
(5)، فكذلك إذا تغير بالزعفران، وجب أن يجوز.
احتج الشافعي بقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (6)، فالله تعالى نقلنا من
الماء إلى التراب بلا واسطة، فمن جوز التوضؤ بماء الزعفران، فقد جعل بينهما واسطة.
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب 1/ 140.
(2) انظر: المهذب 1/ 11؛ القدوري، ص 3.
(3) انظر: القدوري، ص 3؛ الهداية 1/ 18.
(4) ولا يجوز التوضؤ بماء الزعفران عند الشافعية، إذا كان صفة التغير كثيرا، وأما
إن كان التغير يسيرا فلا يزول عن طهوريته، كما قال الغزالي: "ما تغير عن وصف
خلقته تغيرا يسيرا لا يزايله اسم الماء المطلق، كالمتغير بيسير الزعفران".
وهو المختار عند النووي.
انظر: مختصر المزني، ص 1؛ المهذب 1/ 152، مع المجموع؛ الوجيز 2/ 5.
(5) انظر: الأم 1/ 7؛ القدوري، ص 3؛ المجموع 1/ 159.
(6) سورة المائدة: آية 6.
(1/96)
مسألة: 4 - طهارة جلد الكلب
جلد الكلب يطهر بالدباغ (1) عندنا (2)، وعند الشافعي، لا يطهر (3).
لنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيما إهاب (4) دبغ فقد طهر، كالخمر
تخلل فتحل" (5)، ولم يفصل بين الكلب وغيره.
احتج الشافعي بقول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (6) والكلب هو الميتة؛ لأنه
نجس العين (7).
__________
(1) الدباغ: من دبغت الجلد دبغا دباغا ودباغة: أي عالجته بمادة ليلين ويزول ما به
من رطوبة ونتن، وهو من بابي: قتل ونفع، ومن باب ضرب لغة، حكاها الكسائي.
انظر: المغرب؛ مختار الصحاح؛ المصباح؛ التعريفات؛ معجم الوسيط؛ مادة: (دبغ). وشرعا
عرفه المرغيناني من الحنفية: "هو إزالة النتن والرطوبات النجسة من
الجلد" مطلقا، سواء كان تشميسا أو تتريبا. الهداية 1/ 20، 21.
وعرفه النووي من الشافعية: "هو نزع فضوله بحريف لا شمس وتراب" انظر:
النووي، منهاج الطالبين وعمدة المفتين 1/ 10 - 11؛ المجموع 1/ 283.
(2) انظر الطحاوي: مختصر الطحاوي، ص 17؛ القدوري، ص 3؛ الهداية 1/ 20.
(3) ونقل النووي الاتفاق على عدم طهارته؛ لأن نجاسة الكلب عند الشافعية نجاسة عين.
انظر: الأم 1/ 9؛ المهذب 1/ 17؛ الوجيز 1/ 10؛ المجموع 1/ 272.
(4) الإهاب: الجلد قبل أن يدبغ، وجمعه: أهب بفتحتين على غير قياس، ويقال: أهب،
بضمتين على القياس.
انظر: الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة (أهب)؛ المصباح المنير:
(أهاب).
(5) الحديث أخرجه الدارقطني من طريق فرج بن فضالة، عن أم سلمة رضي الله عنها،
بلفظ: "إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر"، وقال: "تفرد به فرج بن
فضالة، وهو ضعيف". وأورده السيوطي في الجامع الكبير، وقال: رواه ابن عدي
والبيهقي.
انظر: الدارقطني 1/ 49؛ الجامع الكبير 1/ 195؛ نصب الراية 1/ 119.
وأما الجزء الأول من الحديث: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فقد رواه مسلم من
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مسلم في الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ
(366)، 1/ 277.
(6) سورة المائدة: آية 3.
(7) راجع بالتفصيل: المجموع 1/ 272.
(1/97)
مسألة: 5 - طهارة جلد ما لا يؤكل لحمه
جلد ما لا يؤكل لحمه يطهر بالذكاة عندنا (1)، وعند الشافعي: لا يطهر إلا بالدباغ
(2).
بيانه: إذا ذبح حمارا أو بغلا أوذئبا، فإنه يطهر جلده بالذكاة.
لنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دباغ الأديم ذكاته" (3).
احتج الشافعي فقال: هذه الذكاة لم تفد طهارة اللحم فكيف تفيد طهارة الجلد (4).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 17؛ الهداية 1/ 21.
(2) ما عدا الكلب والخنزير فإنهما لا يطهران حتى بالدباغ لنجاسة عينهما.
انظر: المهذب 1/ 17؛ الوجيز 1/ 17.
(3) الحديث أخرجه: أبو داود والنسائي من حديث سلمة بن المحبق، بألفاظ مختلفة، وقال
ابن حجر: "إسناده صحيح".
أبو داود، في اللباس، باب أهب الميتة (4125)، 4/ 66؛ النسائي في الفروع والعثرة،
باب جلود الميتة 7/ 137، 174؛ ابن حجر، تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي
الكبير 1/ 49.
وعلل المرغيناني جواز ذلك بقوله: "ثم ما يطهر جلده بالدباغ، يطهر بالذكاة؛
لأنها تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة": الهداية 1/ 21.
(4) انظر: المهذب 1/ 17.
ومنشأ الخلاف بين المذهبين في المسائل السابقة: (1، 2، 3، 4، 5): هو أن أبا حنيفة
رضي الله عنه يرى: أن الأصل في الأحكام الشرعية: التعليل، ومن ثم بنى مسائله في
الفروع عليه، ويرى الشافعي رضي الله عنه: أن الأصل في الأحكام الشرعية: التعبد،
وبنى مسائله في الفروع بتغليب احتمال التبد.
انظر: أسباب الخلاف بالتفصيل: الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ص 38 - 43.
(1/98)
مسألة: 6 - حكم العظم والشعر
العظم والشعر لا حياة فيه، ولا ينجس بموت ذات الروح عندنا (1)، وعند الشافعي: فيه حياة،
وينجس بالموت (2).
دليلنا في المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبين من الحي فهو
ميت" (3) فدل على أنه لا حياة فيه، ودليل آخر: لو كان في الشعر حياة، كان
يألم بقطعه، فدل على أنه لا حياة فيه (4).
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {قال من يحي العظام وهي رميم} (5). فالله تعالى
أثبت الحياة في العظام، دل على أن في العظام حياة (6).
__________
(1) انظر: الهداية 1/ 21.
(2) لكن ذهب الشافعية إلى طهارة شعر الآدمي، لكرامته.
انظر: الأم 1/ 54؛ المهذب 1/ 290، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 11.
(3) هذه قاعدة فقهية اقتبست بلفظها من الحديث الشريف الذي أخرجه أصحاب السنن من
حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -
المدينة، وهم يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون إليات الغنم، فقال: "ما يقطع من
البهيمة، وهي حية فهو ميتة لا يؤكل". أبو داود، في الصيد، باب في صيد قطع منه
قطعة (2858)، الترمذي، في الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت (1480)، وقال:
"هو حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم" 4/ 74؛ ابن ماجه، عن
ابن عمر، في الصيد، باب ما قطع من البهيمة وهي حية (3216)، 2/ 1072.
وانظر: نصب الراية 4/ 317.
(4) وأدلة أخرى، انظر: ابن الهمام، شرح فتح القدير 1/ 97.
(5) سورة يس: آية 78.
(6) وضعف النووي الاستدلال بهذه الآية وقال: "فأثبت لها إحياء، فدل على
موتها، والميتة نجسة". ثم ذكر دليل الشافعية على نجاسة العظام: "بما روى
عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كره أن يدهن في عظم فيل لأنه
ميتة، والسلف يطلقون الكراهية ويريدون بها التحريم، ولأنه جزء متصل بالحيوان اتصال
خلقة، فأشبه الأعضاء". المجموع 1/ 298.
(1/99)
مسألة: 7 - حكم النية في الطهارة
النية (1) في الطهارة ليست بشرط عندنا، في الوضوء، وغسل الجنابة، والحيض والنفاس
(2)، ولا خلاف أنه شرط في التيمم (3)، وعند الشافعي: النية شرط في الجميع (4):
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم} (5)، فالله تعالى ذكر شرائط الطهارة، ولم يعين النية، فدل على أن
النية ليست بشرط في الطهارة (6).
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}
(7)، فالإخلاص: إنما هو النية (8).
__________
(1) النية: مأخوذة من نويته أنويه، أي قصدته، والاسم: النية مثقلة، والتخفيف لغة،
حكاها الأزهري، واصطلاحا: عزم القلب على أمر من الأمور.
انظر: المصباح، مادة: (نوى).
(2) النية سنة في الوضوء والغسل عند الأحناف.
انظر: القدوري، ص 3؛ تحفة الفقهاء 1/ 13؛ الهداية 1/ 13.
(3) أي فرض.
انظر: القدوري، ص 4؛ تحفة الفقهاء 1/ 13؛ الهداية 1/ 26.
وسبب التفريق بين الوضوء والتيمم: "هو أن الوضوء لا يقع قربة إلا بالنية،
ولكنه يقع مفتاحا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر، بخلاف التيمم؛ لأن التراب
غير مطهر، إلا في حال إرادة الصلاة، أو هو ينبئ عن القصد". الهداية 1/ 13.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 2؛ المهذب 1/ 21؛ الوجيز 1/ 11؛ المنهاج، ص 4، 5.
(5) سورة المائدة: آية 6.
(6) انظر: الهداية 1/ 12.
(7) سورة البينة: آية 5.
(8) والأمر يقتضي الوجوب. المجموع 1/ 363.
(1/100)
مسألة: 8 - المضمضة والاستنشاق في
الطهارة
المضمضة والاستنشاق: نفلان في الوضوء, فرضان في غسل الجنابة عندنا (1)، وعند
الشافعي: نفلان فيهما جميعا (2)، وعند مالك: فرضان فيهما جميعا (3).
دليلنا في ذلك: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بلو الشعر
وانقو البشر، فإن تحت كل شعرة جنابة" (4)، ولا شك أن في الأنف شعر، فيجب
إيصال الماء إليه.
واحتج الشافعي: بقول الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (5)، ولم يأمرنا
بالمضمضة والاستنشاق (6).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 14، 52؛ الهداية 1/ 16.
وسبب التفريق بين الوضوء والغسل: "أن الواجب في الوضوء: غسل الوجه، وداخل
الفم والأنف ليس بوجه؛ لأنه لا يواجه الناظر إليه بكل حال، وأما في الغسل،
فالواجب: غسل جميع أعضاء البدن، ويمكن إيصال الماء إليهما بلا حرج". تحفة
الفقهاء 1/ 14، 52.
(2) انظر الأم 1/ 24؛ المهذب 1/ 22، 38؛ المجموع 1/ 509.
(3) الصحيح في مذهب مالك رحمه الله تعالى: أنهما مندوبان فيهما جميعا.
انظر: الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى 1/ 15؛ القيرواني، رسالة ابن أبي زيد
القيرواني، مع شرح الثمر الداني، ص 14، 61؛ الدردير، الشرح الصغير علي أقرب
المسالك إلى مذهب مالك 10/ 118، 170.
(4) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه، وكلهم في كتاب الطهارة: أبو داود، باب في الغسل من الجنابة (248)، وقال:
"الحارث حديثه منكر، وهو ضعيف" 1/ 65؛ الترمذي، باب ما جاء أن تحت كل
شعرة جنابة (106)، وقال: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث الحارث، وهو: شيخ
ليس بذاك" 1/ 178؛ ابن ماجه، نحوه (597)، 1/ 196؛ وقال ابن حجر: "وهو
ضعيف جدا؛ وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت". تلخيص الحبير 1/ 142.
(5) سورة المائدة: آية 6.
(6) انظر: الأدلة بالتفصيل: المجموع 1/ 509، وما بعدها.
(1/101)
مسألة: 9 - حكم الترتيب في الوضوء
الترتيب (1) في الوضوء ليس بشرط عندنا (2)، وعند الشافعي: الترتيب شرط (3).
دليلنا: قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (4) إلى آخره، فالله تعالى
ذكر هذه الأسماء الثمانية مرتبة، ومع هذا لو قدم بعضها على بعض لجاز، فكذلك في
الوضوء (5).
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (6)، فالله
تعالى رتب الطهارة على وجه، فكان الترتيب شرطا في كل عبادة.
__________
(1) الترتيب في الوضوء: مراعاة مراتب المذكورات: فيبدأ بما بدأ الله تعالى بذكره
وبالميامن.
انظر: القدوري، ص 1؛ النسفي، طلبة الطلبة، ص 4.
(2) بل هو سنة.
انظر: القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 16؛ الهداية 1/ 13.
(3) انظر: الأم 1/ 30؛ المهذب 1/ 26؛ الوجيز 1/ 13؛ المنهاج، ص 5.
(4) سورة التوبة: آية 60.
(5) ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: مسألة أصولية: هل الواو للترتيب، أم لمطلق
الجمع؟ فذهب الأحناف إلى أن الواو تفيد مطلق العطف من غير تعرض لمقارنة ولا ترتيب،
وعلى هذا عامة أهل اللغة وأئمة الفتوى. نقل ابن هشام عن السيرافي قوله: "أجمع
النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين علي أن الواو للجمع من غير ترتيب".
انظر: البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2/ 109 - 111؛ ابن هشام،
شرح قطر الندى، ص 301.
(6) سورة المائدة: آية 6.
وعللها الشيرازي بقوله: "فأدخل المسح بين الغسلين، وقطع النظير عن النظير،
فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب، ولأنها عبادة تشتمل: علي أفعال متغايرة، يرتبط
بعضها ببعض، فوجب فيها الترتيب، كالصلاة والحج". المهذب 1/ 26؛ الوجيز 1/ 13.
(1/102)
مسألة: 10 - مقدار المسح المجزئ من
الرأس
لا يجوز عندنا: مسح (1) الرأس، بأقل من ربعه (2)، وعند الشافعي: غير مقدر بربعه،
ولا أقل من ذلك، حتى لو أصاب الماء شعرة أو شعرتين جاز (3).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم} (4)، فالله تعالى ذكر الرأس
مطلقا، وبيانه علي لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - والشرع فيه إلى فعله: والنبي
- صلى الله عليه وسلم - مسح بناصيته (5) وهو: ربع الرأس (6).
واحتج الشافعي: بقول الله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم} (7)، ولم يقدر فيه المسح، فإذا
مسح بعض رأسه فقد خرج عن العهدة (8).
__________
(1) المسح لغة: إمرار اليد علي الشيء، يقال: مسحت الشيء بالماء مسحا: أمررت اليد
عليه. قال أبو زيد: "المسح في كلام العرب يكون: مسحا وهو: إصابة الماء، ويكون
غسلا، يقال: مسحت يدي بالماء، إذا غسلتها، وتمسحت بالماء، إذا اغتسلت".
المصباح المنير، مادة: (مسح).
واصطلاحا عرفه الشرنبلالي من الأحناف بأنه: "إصابة اليد المبتلة العضو، ولو
بعد غسل عضو، لا مسحه، ولا ببلل أخذ من عضو". الشرنبلالي، مراقي الفلاح شرح
نور الإيضاح، ص 11.
(2) انظر: القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 9؛ الهداية 1/ 12؛ الاختيار 1/ 6.
(3) انظر: الأم 1/ 26؛ المهذب 1/ 24؛ الوجيز 1/ 13؛ المنهاج، ص 5.
(4) سورة المائدة: آية 6.
(5) أخرج مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه
وسلم -، توضأ فمسح بناصيته، وعلى عمامته، وخفيه". مسلم، في الطهارة، باب
المسح على الناحية والعمامة (274)، 1/ 230.
(6) الناصية هي: قصاص الشعر، وجمعها النواصي، وقول أهل اللغة: النزعتان هما
البياضان اللذان يكتنفان الناصية. المصباح، مادة: (نص).
وراجع الأدلة بالتفصيل، بأن الناصية يقصد بها: ربع الرأس. البدائع 1/ 89؛ فتح
القدير 1/ 18.
(7) سورة المائدة: آية 6.
(8) انظر أدلتهم بالتفصيل: الأم 1/ 26؛ المجموع 1/ 441.
(1/103)
مسألة: 11 - تكرار المسح
مسح الرأس عندنا: مرة واحدة (1)، وعند الشافعي: ثلاث مرات (2).
دليلنا: ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه مسح على رأسه مرة
واحدة" (3)، والمعنى فيه: أنه مسح في الطهارة، فلا يجب التكرار فيه، كالمسح
على الخفين.
واحتج الشافعي رحمه الله، بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه توضأ
ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد أو نقص فقد
تعدى وظلم" (4)، فدل على أن التكرار شرط.
__________
(1) انظر: القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 8؛ الهداية 1/ 13.
(2) ما حكاه المؤلف عن الشافعي: بأن المسح ثلاث مرات شرط في الوضوء غير صحيح،
والصحيح: أن المجزئة في المسح مرة واحدة كما قال الشافعي: "وأحب لو مسح ثلاثا
وواحدة تجزئه".
انظر: الأم 1/ 26؛ المهذب 1/ 24؛ المنهاج، ص 5.
(3) الحديث أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: "أنه توضأ ثلاثا
ثلاثا، ومسح برأسه مرة واحدة، وقال: هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-". وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: "أنه مسح مرة
واحدة".
انظر: البخاري، في الوضوء باب غسل الرجلين إلى الكعبين (186)، فتح الباري 1/ 294؛
مسلم، في الطهارة، باب وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - (235)، 1/ 210.
(4) الحديث "غريب بجميع هذا اللفظ" كما قاله الزيلعي، والصحيح أن الحديث
مركب من حديثين: الأول: ما رواه ابن ماجه عن أبي بن كعب في صفة وضوء النبي - صلى
الله عليه وسلم -: " ... ثم توضأ ثلاثا ثلاثا فقال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين
من قبلي". ونقل محمد فؤاد عبد الباقي عن الزوائد في تعليقه على ابن ماجه:
"في إسناده زيد وهو: العمي، ضعيف، وكذا الراوي عنه، ورواه الإمام أحمد في
مسنده عن أبي إسرائيل عن زيد العمي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما" 1/
145.
والثاني: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده: =
(1/104)
مسألة: 12 - موقع الأذنين في المسح
الأذنان عندنا من الرأس، يمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس (1)، وعند الشافعي: لا من
الرأس ولا من الوجه، بل يأخذ لهما ماء جديدا (2).
دليلنا في المسألة: ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الأذنان من الرأس" (3).
واحتج الشافعي في المسألة: أن الأذنين ليستا من الرأس، بالحلق في نسكه، فكذلك في
الوضوء (4).
__________
= "أن رجلا أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يارسول الله كيف الطهور؟
فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثا ...
ثم قال: "هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم
وأساء"، وفي لفظ لابن ماجه: "فقد أساء أو تعدى أو ظلم"، وللنسائي:
"فقد أساء وتعدى وظلم". وكلهم في الطهارة: أبو داود، باب الوضوء ثلاثا
ثلاثا (135)، 1/ 69؛ النسائي، باب الاعتداء في الوضوء 1/ 88؛ ابن ماجه، باب ما جاء
في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه (422)، 1/ 146؛ نصب الراية 1/ 27، 29؛ تلخيص
الحبير 1/ 83.
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 18؛ الهداية 1/ 13.
(2) انظر: الأم 1/ 23؛ المهذب 1/ 25، مع المجموع.
(3) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي، من حديث أبي أمامة وغيره من
الصحابة رضي الله عنهم، وكلهم في كتاب الطهارة: أبو داود، باب صفة وضوء النبي -
صلى الله عليه وسلم - (134)، الترمذي، باب ما جاء أن الأذنين من الرأس (37)، وقال
أبو داود والترمذي: "قال قتيبة، قال حماد: لا أدري هذا من قول النبي - صلى
الله عليه وسلم - أو من قول أبي أمامة". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن،
ليس إسناده بذاك القائم، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: من أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - ومن بعدهم".
انظر: سنن أبي داود 1/ 68؛ الترمذي 1/ 53؛ ابن ماجه، باب الأذنان من الرأس (444)،
1/ 52؛ نصب الراية 1/ 18، 19.
(4) واستدل الشافعية لمذهبهم من النقل، بما رواه البيهقي في سننه من حديث عبد الله
بن زيد رضي الله عنه: "أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأخذ
لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه"، وقال: "وهذا إسناده صحيح".
السنن الكبرى 1/ 65؛ المجموع 1/ 452.
(1/105)
مسألة: 13 - حكم الاستنجاء
الاستنجاء (1) ليس بواجب عندنا (2)، وعند الشافعي: هو واجب (3).
دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فليوتر ومن لا فلا حرج
عليه" (4)، والمعنى فيه: أنا أجمعنا لو ترك الاستنجاء بالماء أصلا جاز (5)،
فلو كان واجبا لما جاز تركه بالماء، فدل على أنه ليس بواجب.
واحتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ذهب
أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها،
__________
(1) الاستنجاء: "طلب طهارة القبل والدبر مما يخرج من البطن بالتراب أو
الماء". طلبة الطلبة، ص 3.
(2) الاستنجاء سنة عند الأحناف، بشرط أن لا يتجاوز النجاسة المخرج، فإن جاوزت
المخرج لم يجز فيه إلا الماء. انظر: القدوري، ص 7؛ الهداية 1/ 37.
وأصل الحنفية في المسألة: "هو أن قليل النجاسة الحقيقية في الثوب والبدن عفو
في حق جواز الصلاة".
انظر: البدائع 2/ 121؛ فتح القدير 1/ 212، 215.
(3) انظر: المهذب 1/ 34؛ الوجيز 1/ 15؛ المنهاج، ص 4.
(4) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ:
"من استجمر فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج".
والحديث في الصحيحين عنه من غير هذه الزيادة: البخاري، في الوضوء, باب الاستجمار
وترا (162)، 1/ 263؛ مسلم، في الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار
(237)، 1/ 212؛ أبو داود، في الطهارة، باب الاستتار في الخلاء (35)، 1/ 39؛ ابن
ماجه، في الطهارة، باب الارتياد للغائط والبول (377)، 1/ 121؛ نصب الراية 1/ 217.
(5) انظر: المهذب 1/ 34، 35؛ الهداية 37.
(1/106)
وليستنج بثلاثة أحجار" (1)، وهذا
أمر، وظاهر الأمر يدل على الوجوب (2).
مسألة: 14 - استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة
ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها في الصحاري والبيوت عندنا، [في قضاء الحاجة]
(3)، وعند الشافعي، يجوز في البنيان استقبالها واستدبارها (4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم
إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" (5)، ولم يفصل بين الصحراء
والبنيان، فهو على العموم.
واحتج الشافعي، وقال: إنما لا يجوز استقبالها في الصحراء،
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه مرفوعا، وكلهم في كتاب الطهارة: أبو داود، باب كراهية استقبال القبلة عند
قضاء الحاجة (8)، 1/ 3؛ النسائي، باب النهي عن الاستطابة بالروث 1/ 38؛ ابن ماجه،
باب الاستنجاء بالحجارة (313)، 1/ 114؛ السنن الكبرى، باب وجوب الاستنجاء بثلاثة
أحجار 1/ 102.
(2) الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، انظر: مبحث الأمر في كتب الأصول، الأسنوي:
نهاية السول في شرح منهاج الأصول (مع حاشية المطيعي) 2/ 235 وما بعدها.
(3) ويعني بعدم جواز استقبال القبلة واستدبارها في حالة قضاء الحاجة مطلقا عند
الأحناف: كراهة تحريم كما ذكره الموصلي والشرنبلالي.
انظر: الاختيار 1/ 37؛ مراقي الفلاح، ص 9.
(4) ويحرم استقبالها واستدبارها في غير البناء عند الشافعية كما نص عليه النووي في
المنهاج.
انظر: مختصر المزني، ص 3، المهذب 1/ 33؛ الوجيز 1/ 14؛ المنهاج، ص 4؛ الشربيني،
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 10/ 40.
(5) وقد سبق تخريجه في المسألة (13)، إلا لفظ (لولده)، فإنه لم يذكره إلا ابن
ماجه، ص 106.
(1/107)
للتعظيم وهتك الحرمة، فإذا كان بينه
وبين القبلة حائط، فلا يؤدي إلى هتك حرمتها (1).
مسألة: 15 - حكم الخارج من غير السبيلين
الخارج من غير السبيلين ينقض الطهارة عندنا (2)، وعند الشافعي: لا ينقض الطهارة
(3).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قاء أو رعف في
صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبن علي صلاته ما لم يتكلم أو يحدث" (4)، فدل على
أن القيء والرعاف حدث ينقض الوضوء. والمعنى فيه: أنه نجس خارج عن البدن، فيوجب نقض
الطهارة، كدم الحيض.
__________
(1) واستدل الشافعي لجواز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، بما رواه الشيخان
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "رقيت السطح مرة فرأيت النبي - صلى الله
عليه وسلم - جالسا على لبنتين، مستقبلا بيت المقدس". وقال الشافعي: فدل أن
البناء مخالف للصحارى. وأحاديث أخرى وقد ذكر النووي شروطا لجوازها في البنيان.
انظر: مختصر المزني، ص 3؛ المجموع 2/ 86 وما بعدها؛ تلخيص الحبير 2/ 101 - 105.
(2) انظر: القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 23؛ الهداية 1/ 14.
(3) انظر: الأم 1/ 18؛ المهذب 1/ 28؛ الوجيز 1/ 15؛ المنهاج، ص 3.
(4) الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها، في الصلاة، باب ما جاء في
البناء على الصلاة (1221)، وفي الزوائد: في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد روى عن
الحجازين، وروايته عنهم ضعيفة 1/ 385، 386.
وللحديث شاهد أقوى منه وهو ما أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك عن أبي
الدرداء: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فتوضأ". أبو داود: في
الصوم، باب الصائم يستقي عامدا (2381)، 2/ 310؛ الترمذي، في الطهارة، باب ما جاء
في الوضوء من القيء والرعاف (87)، وقال: "هو أصح شيء في هذا الباب" 1/
146؛ المستدرك، في الصوم، باب الإفطار من القيء، وقال: "صحيح علي شرط الشيخين
ولم يخرجاه" 1/ 426.
انظر: الأحاديث بالتفصيل: نصب الراية 1/ 38 - 41.
(1/108)
واحتج الشافعي: بما روى عن ابن عباس
أنه قال: "ليس على المحتجم وضوء" (1).
فدل على أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء.
مسألة: 16 - أثر القهقهة في الصلاة
القهقهة (2) في الصلاة تنقض الوضوء عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تنقض (4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يصلي مع أصحابه،
فدخل عليه رجل أعمى، فتردى في بئر، فضحك بعض أصحابه، فلما فرغ من الصلاة، أمرهم:
بإعادة الوضوء والصلاة" (5)، فدل على أن الضحك يوجب نقض الطهارة، فكان سببه
الاستهزاء به؛ لأنه موضع بكاء، فأوجب ذلك تشديدا عليهم.
__________
(1) الأثر أخرجه البيهقي في سننه عن ابن مسعود وغيره من التابعين ولم أعثر عليه من
رواية ابن عباس. وللأثر شاهد مما أخرجه الدارقطني من حديث أنس بن مالك قال:
"احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلي ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل
محاجمه". ورواه البيهقي من طريق الدارقطني وقال في إسناده ضعف.
انظر: الدارقطني 1/ 151، 152؛ السنن الكبرى 1/ 141؛ نصب الراية 1/ 43.
(2) القهقهة: تكرار الضحك، يقال: قهقه قهقهة، إذا قال في ضحكه: قه، وكررها.
انظر: مختار الصحاح، المصباح، مادة (قه).
(3) انظر: القدوري، ص 2، تحفة الفقهاء 1/ 39.
(4) انظر: الأم 1/ 21؛ المهذب 1/ 31؛ الوجيز 1/ 15؛ المنهاج، ص 4.
(5) ورد الحديث بطرق كثيرة مختلفة، فمن أصحها ما أخرجه الدارقطني والطبراني في
معجمه، عن أبي موسى رضي الله عنه، وقال الهيثمي: وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي،
وبقية رجاله موثقون.
انظر: الدارقطني 1/ 162، 163؛ مجمع الزوائد للهيثمي 1/ 246؛ نصب الراية 1/ 47 وما
بعدها.
(1/109)
واحتج الشافعي: بالمعنى وقال: ما لا
ينقض الوضوء خارج الصلاة، فلا ينقض الوضوء في الصلاة، كالمشي القليل (1).
مسألة: 17 - حكم مس الفرج
مس (2) الفرج لا ينقض الوضوء عندنا (3)، وعند الشافعي: ينقض إذا مس بباطن الكف
(4).
دليلنا: ما روى قيس بن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - حين سئل -
""هل هو إلا بضعة منك؟ " (5)، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه أنه قال: "لا أبالي مسست ذكري، أو أنفي" (6).
__________
(1) واستدل الشافعية من النقل على أن الضحك غير ناقض للوضوء بحديث جابر رضي الله
عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض
الوضوء". قال النووي: حديث جابر هذا روى مرفوعا وموقوفا على جابر، ورفعه
ضعيف. وقال البيهقي وغيره: الصحيح أنه موقوف على جابر، وذكره البخاري في صحيحه
تعليقا موقوفا علي جابر.
انظر: سنن الدارقطني 1/ 172، 173؛ السنن الكبرى 1/ 144؛ المجموع 6/ 65.
(2) المس: بمعنى الإفضاء إلى الشيء باليد من غير حائل، ويستعمل أيضا كناية عن
الجماع، يقال: مس امرأته مسا ومسيسا.
انظر: المصباح، مادة (مسس).
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 19؛ القدوري، ص 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 35.
(4) انظر: الأم 1/ 19؛ المهذب 1/ 31؛ الوجيز 1/ 16؛ المنهاج، ص 4.
(5) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عنه، وكلهم في كتاب الطهارة: أبو داود، باب
الرخصة في ذلك (182، 183)، 1/ 46؛ الترمذي، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر
(85)، وقال: "هذا الحديث أحسن شيء يروى في هذا الباب" 1/ 131، 132؛
النسائي 1/ 101؛ ابن ماجه (483)، 1/ 163.
(6) الأثر رواه يوسف في كتاب الآثار، ص 6.
(1/110)
واحتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "من مس ذكره فليتوضأ" (1)، وهذا نص.
مسألة: 18 - حكم لمس المرأة
لمس (2) المرأة عندنا: لا ينقض الوضوء (3)، وعند الشافعي: ينقض (4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يقبل بعض نسائه،
ثم يقوم ويصلي ولا يتوضأ" (5)، والمعنى فيه: أن هذه
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها،
وكلهم في كتاب الطهارة، باب الوضوء مس الذكر: أبو داود (181)، 1/ 46؛ الترمذي
(82)، وقال: "حديث حسن صحيح" 1/ 126 - 129؛ النسائي 1/ 100؛ ابن ماجه
(479)، 1/ 160.
(2) اللمس في اللغة: الجس، وقيل: المس باليد: لمسه يلمسه لمسا ولا مسة، وهو من
بابي: قتل وضرب، واللمس كناية عن الجماع، وفي التنزيل: {أو لامستم النساء} وفي
قراءة (لمستم).
انظر: ابن منظور، لسان العرب، المصباح، مادة (لمس).
وفي الشرع: "وهو أن يلمس الرجل بشرة المرأة، أو المرأة بشرة الرجل بلا حائل
بينهما" المهذب 1/ 30.
(3) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 35؛ البدائع 1/ 148.
(4) ولا ينقض الوضوء عند الشافعية بلمس محرم في الأظهر، وكذا صغيرة وشعر وظفر وسن
في الأصح، والملموس كلامس في النقض على القول الأظهر.
انظر: الأم 1/ 15؛ المهذب 1/ 30؛ الوجيز 1/ 16؛ المنهاج، ص 4.
(5) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها واختلف
في طرقه اختلافا كثيرا، كما روى بألفاظ متعددة، ولكنها ترجع إلى معنى واحد، وكلهم
في كتاب الطهارة: أبو داود، باب الوضوء من القبلة (179)، 1/ 46؛ الترمذي، باب ما
جاء في ترك الوضوء من القبلة (86)، وقال بعد ذكر أقوال الصحابة والتابعين:
"ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء"، 1/ 139
وما بعدها؛ النسائي، وقال: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان
مرسلا 1/ 104؛ ابن ماجه (502)، 1/ 168؛ نصب الراية 1/ 73.
(1/111)
الملامسة لو كانت بين رجلين أو بين
امرأتين لا ينقض الطهارة، فكذلك إذا كان بين الرجل والمرأة، لا ينقض الطهارة،
دليله: إذا لمس البهائم.
واحتج الشافعي: بقول الله تعالى: {أو لامستم النساء} (1).
__________
(1) سورة المائدة: آية 6، وقال الشافعي مبينا وجه الاستدلال: "وأوجبه من
الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة أن تكون
اللمس باليد والقبل غير الجنابة"، ثم استدل عليه بآثار.
انظر: الشافعي، أحكام القرآن 1/ 46 وما بعدها.
انظر الأدلة بالتفصيل، الأم 1/ 12، 13؛ المجموع 2/ 32، 33.
(1/112)
باب التيمم (1)
[مسألة]: 19 - التيمم قبل دخول الوقت
يجوز التيمم قبل دخول وقت الصلاة عندنا (2)، وعند الشافعي لا يجوز (3).
دليلنا: ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "التيمم وضوء
المسلم ولو إلى عشر حجج" (4)، ولم يفصل بين ما إذا كان قبل الوقت أو بعده.
__________
(1) التيمم لغة: القصد، يقال: تيممت فلانا ويممته وتأممته وأممته: أي قصدته، ومنه
قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]، وتيممت الصعيد تيمما،
ثم كثر استعمال هذه الكلمة على التيمم في العرف الشرعي.
انظر: مختار الصحاح، المصباح، مادة (يمم).
وفي الشرع عرفه الكاساني من الأحناف هو: "عبارة عن استعمال الصعيد في عضوين
مخصوصين، على قصد التطهير بشرائط مخصوصة".
وفصله الشربيني من الشافعية بأنه: "إيصال التراب إلى الوجه واليدين بدلا عن
الوضوء والغسل، أو عضو منهما بشرائط مخصوصة". انظر: البدائع 1/ 180؛ مغني
المحتاج 1/ 87.
(2) انظر: السرخسي، المبسوط 1/ 109؛ البدائع 1/ 202.
(3) انظر: الأم 1/ 46؛ المهذب 2/ 261، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 22؛ المنهاج، ص 7.
(4) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو
إلى عشر سنين، ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خيرا"،
وكلهم في كتاب الطهارة: أبو داود، باب الجنب يتيمم (332)، 1/ 90؛ الترمذي، باب ما
جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (124)، وقال: "حديث حسن صحيح"، 1/
211؛ النسائي، باب الصلوات بتيمم واحد، 1/ 171، نصب الراية 1/ 148.
(1/113)
واحتج الشافعي بقول الله تعالى:
{ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ... فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}
(1)، فالله تعالى أوجب الطهارة والتيمم عند القيام إلى الصلاة، ثم قبل دخول الوقت
لا يلزمه القيام، فكذلك التيمم، وجب أن لا يلزمه (2).
مسألة: 20 - حكم تيمم الحاضر
للحاضر يجوز له التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة والعيدين (3) عندنا، وعند الشافعي:
لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة: وهو أن خوف فوت الفعل آكد من خوف فوت الوقت (5)، ثم أجمعنا على
أن التيمم يجوز عند خوف فوت الوقت (6)، فلخوف فوت الفعل أولى.
__________
(1) سورة المائدة: آية 6.
(2) راجع الأدلة بالتفصيل: المجموع 2/ 264، 265.
(3) انظر: القدوري، ص 5؛ تحفة الفقهاء 1/ 74؛ الهداية 1/ 15.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 7؛ المهذب 1/ 41 الوجيز 1/ 18.
(5) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 74.
(6) إيراد الإجماع على جواز التيمم عند خوف فوت الوقت في غير محله؛ لأنه لا يجوز
عند أحد المذهبين: التيمم للمقيم لخوف فوت الوقت، ولكنه يتوضأ ويصلي فائتة.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 20؛ القدوري، ص 5؛ الهداية 1/ 27؛ المهذب 1/ 41؛ الوجيز 1/
18؛ المجموع 2/ 281 - 283.
واستثنى الأحناف الصلاتين المذكورتين؛ لأنهما لا تقضيان ولا تعادان فيتحقق العجز.
واستدل الأحناف من النقل بما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه أتي بجنازة وهو
على غير وضوء فتيمم ثم صلى عليها)، ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال البيهقي في المعرفة في رواية ابن عمر: "وهذا لا أعلمه إلا من هذا الوجه
فإن كان محفوظا فإنه يحتمل أن يكون ورد في سفر، وإن كان الظاهر بخلافه، وقال في
السنن: "في إسناده ضعف"، وقال فيما روى عن ابن عباس: "إنه لا يصح
عنه إنما هو قول عطاء".
انظر: السنن الكبرى 1/ 230، 231؛ شرح فتح القدير 1/ 138؛ واعتمدوا أيضا على أصل:
"أن كل ما يفوت لا إلى بدل جاز أداؤه بالتيمم مع وجود الماء". شرح
العناية على الهداية، مع شرح فتح القدير 1/ 138.
(1/114)
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (1). وما شرط جواز التيمم إلا لعدم الماء، والعدم
في الحضر لا يتصور، فوجب أن لا يجوز التيمم (2).
مسألة: 21 - حكم التيمم لواجد ماء لا يكفي لغسل جميع الأعضاء
إذا كان للمسافر ماء، لم يكفه لغسل الأعضاء الأربعة، يتيمم عندنا (3)، وعند
الشافعي: يستعمل الماء ويتيمم للباقي (4).
دليلنا: وهو أن كلما ينقسم إلى أصل وبدل، فعدم بعض الأصل كعدم الكل، في جواز
الانتقال إلى البدل.
دليله: إذا وجب عليه عتق الرقبة في كفارة القتل، إذا وجد نصف ثمن الرقبة، ولم يجد
نصف الآخر، جاز له الانتقال إلى الصوم، فكذلك ها هنا (5).
احتج الشافعي بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (6)، فأمر بالتيمم
عند عدم الماء، وهذا واجد للماء، فلا يجوز له التيمم (7).
__________
(1) سورة المائدة: آية 6.
(2) انظر المسألة مع أدلتها بالتفصيل: المجموع 2/ 265 وما بعدها.
(3) انظر: المبسوط 1/ 113؛ البدائع 1/ 184.
(4) هذا هو القول الأظهر عند الشافعية، انظر: مختصر المزني، ص 7؛ المهذب 2/ 294 مع
المجموع؛ الوجيز 1/ 19؛ المنهاج، ص 6.
(5) انظر: المجموع 2/ 293، 294. والمراجع السابقية للحنفية.
(6) سورة المائدة: آية 6.
(7) انظر المسألة مع أدلتها بالتفصيل: المجموع 2/ 293 - 295.
(1/115)
مسألة: 22 - التيمم بغير التراب
التيمم بالحجر والزرنيخ (1) والنورة (2)، جائز عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يجوز
(4).
دليلنا: قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (5) والصعيد: هو ما
يتصاعد على وجه الأرض (6)، وهذه الأشياء متصاعدة على وجه الأرض، فوجب أن يجوز،
والنورة جائز عندنا.
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (7)، قال ابن
عباس، الصعيد: هو التراب الطاهر المنبت (8)، وهذه الأشياء ليست بتراب، ولا يجوز
التيمم بها.
__________
(1) الزرنيخ، بالكسر: حجر معروف، وهو فارسي معرب، وله أنواع كثيرة، منه: أبيض ومنه
أحمر، ومنه أصفر. انظر: لسان العرب، مادة: (زرنخ)، المصباح، مادة: (زرنيخ).
(2) النورة، بضم النون، من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس، ثم غلبت على أخلاط
تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، ويستعمل لإزالة الشعر.
انظر: لسان العرب؛ والمصباح، مادة: (نور).
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 20؛ القدوري، ص 4؛ تحفة الفقهاء 1/ 80.
(4) انظر: الأم 1/ 50؛ المهذب 1/ 39، 40؛ الوجيز 1/ 21؛ المنهاج، ص 7.
(5) سورة المائدة: آية 6.
(6) الصعيد: وجه الأرض، ترابا كان أو غيره، قال الزجاج: ولا أعلم اختلافا بين أهل
اللغة في ذلك، ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على
وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق، وتجمع على صعد، بضمتين، وصعدات، انظر
المصباح، مادة (صعد).
(7) سورة المائدة: آية 6.
(8) روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "الصعيد: الحرث حرث
الأرض"، وأورد ابن كثير في تفسيره عنه أنه قال: "أطيب الصعيد تراب
الحرث". وقال الأزهري: "مذهب أكثر العلماء، أن الصعيد في قوله تعالى:
{فلم تجدوا ماء فتيمموا} أنه التراب الطاهر، الذي على وجه الأرض، أو خرج من
باطنها". =
(1/116)
مسألة: 23 - الجمع بين فريضتين بتيمم
واحد
المتيمم يجوز له أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد عندنا (1)، وعند الشافعي: لا يجوز
(2).
دليلنا، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "التيمم وضوء المسلم ولو إلى عشر
حجج" (3)، فجعل حكم التيمم كحكم الوضوء, بالوضوء يجوز الجمع بين فريضتين،
فكذلك في التيمم، وجب أن يجوز.
واحتج الشافعي، بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (4) فأمر بغسل
الوجه عند القيام إلى الصلاة فالآية مطلقة (5) أمر بالطهارة عند القيام إلى
الصلاة، والطهارة إنما تكون بالماء، وتارة بالتراب (6).
__________
= انظر: السنن الكبرى 1/ 214؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/ 504؛ تهذيب اللغة،
مادة: (صعد).
(1) انظر: القدوري، ص 5؛ تحفة الفقهاء 1/ 91.
(2) انظر: الأم 1/ 47؛ المهذب 1/ 43؛ الوجيز 1/ 21؛ المنهاج، ص 7.
(3) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي في سننهم من حديث أبي ذر رضي الله
عنه، وقد سبق تخريجه في المسألة (19)، ص 113.
(4) سورة المائدة: آية 6.
(5) في الأصل: (مطلقة أمر، أمر الطهارة).
(6) وأظهر من هذا ما ذكره النووي في وجه الاستدلال بالآية، بقوله: "فاقتضى
وجوب الطهارة عند كل صلاة، فدلت السنة على جواز صلوات بوضوء فبقي التيمم على
مقتضاه"، وذكر أيضا أدلة أخرى؛ المجموع 1/ 324.
منشأ الخلاف في هذه المسألة، هو: أن الأصل عند الأحناف "أن التيمم بدل مطلق،
وليس بضروري، يعني به: أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء، في حق الصلاة
المؤداة، لا أن تباح له مع قيام الحدث للضرورة.
وعند الشافعي، هو: بدل ضروري، ويعني به: أن تباح له الصلاة بالتيمم مع قيام الحدث
حقيقة، وجعل عدما شرعا بضرورة صحة الصلاة، بمنزلة طهارة المستحاضة". انظر:
تحفة الفقهاء 1/ 89، 90.
(1/117)
مسألة: 24 - تيمم وصلى ناسيا الماء في
الرحل
إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى، ثم بان أن [في] رحله ماء، لا يلزمه الإعادة
عندنا (1)، وعند الشافعي (2): يلزم.
دليلنا: قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (3) فالعبد لا يكون
مؤاخذا بالنسيان.
واحتج الشافعي: بقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (4) أمر بالتيمم عند عدم
الماء، وهاهنا الماء موجود (5).
مسألة: 25 - رؤية المتيمم الماء أثناء الصلاة
إذا تيمم ودخل في الصلاة، ثم رأى الماء خلال صلاته، بطلت صلاته عندنا (6)، وعند
الشافعي: لا تبطل (7).
واحتج الشافعي، بقول الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} (8)، فلو قلنا بأنه تقطع،
أدى إلى إبطال العمل، وهذا لا يجوز (9).
_________
(1) انظر: القدوري، ص 5؛ بدائع الصنائع 1/ 190؛ الاختيار 1/ 21.
(2) انظر: الأم 1/ 46؛ المهذب 1/ 41؛ الوجيز 1/ 20؛ المجموع 2/ 289.
(3) سورة البقرة: آية 286.
(4) سورة المائدة: آية 6.
(5) راجع أدلة الشافعية بالتفصيل: المجموع 2/ 292، 293.
(6) وذلك إن كانت الرؤية للماء "قبل أن يقعد قدر التشهد من القعدة الأخيرة
فإنه تفسد صلاته".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 21؛ تحفة الفقهاء 1/ 87؛ البدائع 1/ 209.
(7) المسألة ليست على إطلاقها بل فيها تفصيل: إن كان المتيمم ممن لا إعادة عليه
كالمسافر، فإنه لا تبطل صلاته؛ لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود، فلا يلزمه
الانتقال إليه، وأما إن كان ممن تلزمه الإعادة، كالمتيمم في الحضر، فبطل تيممه
وصلاته على المذهب الصحيح.
انظر: الأم 1/ 48؛ المهذب 1/ 44؛ الوجيز 1/ 22؛ المجموع 2/ 342؛ المنهاج، ص 7.
(8) سورة محمد: آية 33.
(9) راجع المسألة مع أدلتها بالتفصيل: المجموع 2/ 342 وما بعدها.
(1/118)
دليلنا في ذلك: وهو أن التراب بدل عن
الماء، فإذا وجد الماء خلال الصلاة فقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود، والمبدل
يبطل حكم البدل فتعلق الحكم بالأصل (1).
مسألة: 26 - حد الماء الكثير
حد الماء الكثير، عندنا، وهو: إذا حرك من جانب لم يتحرك من جانب آخر (2) إذا كان
عمقه قدر شبر (3)، وهكذا روى عن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: أن يكون عشرا في عشر
(4)، وفي رواية أخرى: ثمان في ثمان (5) فإذا وقع فيهما نجاسة لم ينجس عندنا (6).
وعند الشافعي: حد الماء الكثير الذي لا يحمل النجاسة،
__________
(1) راجع أدلة الحنفية في المسألة بالتفصيل: المبسوط 1/ 124، 125؛ البدائع 1/ 209
وما بعدها.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 16؛ القدوري، ص 3؛ تحفة الفقهاء 1/ 101؛ الهداية 1/ 77
مع فتح القدير.
(3) "والمعتبر في العمق، أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف، وهو الصحيح، كما
ذكره المرغيناني: الهداية 1/ 19؛ مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، ص 4.
(4) وعليه الفتوى، ويقصد بالعدد: الذراع، وهو: بذراع العامة، ويساوي الذراع
بالمقاييس الحديثة: 2، 46 سم.
انظر: الهداية 1/ 19؛ ابن الرفعة الأنصاري، الإيضاح والبيان في معرفة المكيال
والميزان، ص 77.
(5) انظر: فتح القدير 1/ 77.
(6) قال الكمال ابن الهمام: "وقال أبو حنيفة في ظاهر الرواية: يعتبر فيه أكبر
رأي المبتلى، إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر، لا يجوز
الوضوء والإجاز، وعنه: اعتباره بالتحريك .. ثم قال: والأول أصح عند جماعة .. وهو
الأليق بأصل أبي حنيفة، أعني: عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي،
والتفويض فيه إلى رأي المبتلى، بناء على عدم صحة ثبوت تقديره شرعا". فتح
القدير 1/ 77.
(1/119)
وهو: إذا كان قلتين (1) فصاعدا،
والقلتان (2): خمس قرب كبار، وهي: مائتان وخمسون منا (3)، أو ستمائة رطل.
دليلنا، ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يبولن
__________
(1) القلة: إناء العرب، كالجرة الكبيرة شبه الحب - بالضم -، والجمع: قلال مثل:
برمه وبرام، قال الأزهري: ورأيت القلة من قلال هجر والأحساء، تسع ملء مزادة،
والمزادة: شطر الراوية، وإنما سميت قلة؛ لأن الرجل القوي يقلها، أي: يحملها، وعن
ابن جريج قال: أخبرني من رأى قلال هجر، أن القلة تسع فرقا، قال عبد الرزاق:
والفرق، يسع أربعة أصواع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 107؛ المصباح، مادة: (قلل).
(2) القلتان: خمسمائة رطل بالبغدادي؛ لأنه روى في الخبر (بقلال هجر) قال ابن جريج:
"رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع: قربتين، أو قربتين وشيئا، فجعل
الشافعي رحمه الله الشيء نصفا احتياطا" وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة: مائة
رطل، فصار الجميع: خمسمائة رطل.
انظر المهذب 1/ 13؛ المنهاج، ص 3.
(3) المن: كيل أو ميزان، وهو شرعا: 180 مثقالا، وعرفا: 280 مثقالا، وجمعه أمنان.
المنجد، (من).
وقد أوردت كتب الفقه الشافعي، مواصفات مساحة الماء في الفلاة المقدرة بالقلتين
بأنها: "ذراع وربع بذراع الآدمي، وهو: شبران تقريبا، وهذا في المربع طولا
وعرضا وعمقا، وأما في المدور: فذراعان طولا وعرضا بذراع النجار، الذي هو بذراع
الآدمي: ذراع وربع، والمراد بالطول: العمق، وإذا كان الظرف مدورا مثل: البئر أو
البركة المستديرة، فيكون قطر الدائرة ذراعا، وعمق البئر: ذراعين ونصفا، فيكون محيط
الدائرة: (3,14) ذراع. وإذا كان الظرف مثلثا متساوي الأضلاع، فيجب أن يكون طول
وعرض كل ضلع: (5 ,1) ذراع، طولا وعرضا وعمقا، ونصفه ذراعان، وإن كان الظرف مكعبا
فيجب أن تكون أبعاده الثلاثة: (25, 1) ذراع، طولا وعرضا وعمقا".
وخلاصة القول فإن القلتين تقدران بحوالي (307) لترات.
انظر: الإيضاح والتبيان، مع تعليقات المحقق د. الخاروف، ص 79، 80.
(1/120)
أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه
من الجنابة" (1)، فدل على أنه نجس.
واحتج الشافعي بقول الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (2) وقوله - صلى
الله عليه وسلم -: "الماء طاهر لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه، أو طعمه أو
ريحه" (3).
مسألة: 27 - عدد الغسلات من ولوغ الكلب
إذا ولغ (4) الكلب في إناء يكفيه أن يغسل ثلاث مرات عندنا (5) وعند الشافعي لا
يكفيه إلا سبعا أولاهن وأخراهن بالتراب (6).
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكلهم في
كتاب الطهارة، وباب البول في الماء الراكد، إلا النسائي فإنه ذكره في باب النهي عن
اغتسال الجنب في الماء الدائم: "أبو داود (70)، 1/ 18؛ الترمذي (68)، وقال:
"حديث حسن صحيح"، 1/ 100.
النسائي 1/ 175؛ ابن ماجه (343)، 1/ 124؛ نصب الراية 1/ 101.
(2) سورة الفرقان: آية 48.
(3) الحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه
ولونه": ابن ماجه، في الطهارة، باب الحياض (521)، ونقل فؤاد عبد الباقي عن
زوائد ابن ماجه: ضعيف لضعف رشد بن سعد في سنده 1/ 174.
والحديث بدون الاستثناء أخرجه الثلاثة عن أبي سعيد: أبو داود (66)، 1/ 7؛ الترمذي
(66)، 1/ 95؛ النسائي 1/ 174.
(4) ولغ الكلب يلغ ولغا: من باب نفع، وولوغا: شرب، وسقوط الواو كما في يقع، وولغ
يلغ من باب وعد، ورث لغة، ويولغ: مثل وجل يوجل لغة أيضا، ويعدى بالهمزة فيقال أو
لغته: إذا سقيته، ومنه يقال رجل مستولغ: لا يبالي ذما ولا عارا.
انظر: معجم مقاييس اللغة، المصباح، مادة: (ولغ).
(5) انظر: البدائع 1/ 275؛ الهداية 1/ 23.
(6) انظر: المهذب 1/ 55؛ التنبيه، للشيرازي، ص 17؛ المجموع 2/ 585.
يتضح من المسألة أن المؤلف لم يذكر دليل الأحناف كعادته في الكتاب، ودليلهم كما
ورد في=
(1/121)
واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعا، أخراهن وأولاهن
بالتراب" (1).
مسألة: 28 - التحري في الإناءين
لا يجوز التحري في الإناءين عندنا (2)، وعند الشافعي: يجوز (3)،
__________
=كتب المذهب، ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يغسل الإناء
من ولوغ الكلب ثلاثا".
الحديث أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين: عنه قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكلب يلغ في الإناء: "يغسله ثلاثا
أو خمسا أو سبعا"، قال: تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل وهو متروك، وغيره
يرويه عن إسماعيل بهذا الإسناد "فاغسلوه سبعا" قال: وهو الصواب، ثم رواه
بسند صحيح عن عطاء موقوفا على أبي هريرة: أنه قال: إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه
ثم اغسله ثلاث مرات"، قال الشيخ تقي الدين في الإمام: وهذا سند صحيح.
انظر: سنن الدارقطني 1/ 65، 66؛ السنن الكبرى 1/ 240؛ نصب الراية 1/ 130، 131؛
البدائع 1/ 275؛ الهداية 1/ 23.
واستدل الأحناف أيضا بالقياس: "لأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث، فما يصيبه
سؤره وهو دونه أولى". الهداية مع شرح فتح القدير 1/ 109.
(1) أورد المؤلف الحديث بلفظ العطف في الغسل بالتراب، ولم أعثر على الحديث بهذا
اللفظ، وإنما الثابت هو بلفظ التخيير كما رواه الترمذي، أو مجردا عن القيد بالتراب
كما رواه البخاري ومسلم، أو بقيده بالأولى كما رواه مسلم، وكلهم عن أبي هريرة رضي
الله عنه: البخاري، في الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (172)، 1/ 274؛
مسلم، في الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب (279)، 1/ 234؛ الترمذي، في الطهارة، باب ما
جاء في سؤر الكلب (91)، 1/ 151.
وذكر الدارقطني والبيهقي في سننهما جيمع الروايات المختلفة في الباب، سنن
الدارقطني 1/ 63 - 66؛ السنن الكبرى 1/ 240.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 17؛ مراقي الفلاح، ص 6.
(3) ذكر النووي رحمه الله في المجموع لهذه المسألة ثلاثة وجوه: الأول: أنه لا تجوز
الطهارة بواحد منهما، إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر، فإن ظنه
بغير علامة تظهر، لم تجز الطهارة به، وهذا الوجه هو الذي قطع به الجمهور وهو
الصحيح.
انظر: الأم 1/ 11؛ المهذب 1/ 236، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 10؛ المنهاج، ص 3.
(1/122)
ويجوز التحري بالثوبين بالاتفاق (1).
دليلنا: وهو: أن الماء لا يخلو إما أن يكون نجسا، أو طاهرا، فإن كان طاهرا فلا
يدخل التحري فيه، وإن كان نجسا فلا يجوز استعماله (2).
احتج الشافعي: بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (3)، وها هنا واجد
للماء، فلا يباح له التيمم (4).
مسألة: 29 - طلب الماء لجواز التيمم
لا يلزم طلب الماء لجواز التيمم عندنا (5) وعند الشافعي: يلزم طلب الماء (6).
دليلنا: ما روى عن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أنه قال: "التراب وضوء
المسلم ولو إلى عشر حجج" (7) وهذا غير واجد للماء (8).
__________
(1) انظر: الوجيز 1/ 10؛ مراقي الفلاح، ص 6.
وعلة جوازه في الثوبين دون الإنائين عند الأحناف، "لأنه لا خلف للثوب في ستر
العورة، والماء يخلفه التراب". مراقي الفلاح، ص 6.
(2) انظر: المصادر السابقة للأحناف.
(3) سورة المائدة: آية 6.
(4) انظر المسألة مع أدلتهما بالتفصيل: المجموع 1/ 236.
(5) لا يلزم طلب الماء للتيمم لدى الأحناف، بشرط: أن يكون مسافرا أو خارج المصر
بينه وبين المصر نحو ميل أو أكثر؛ لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر، والماء معدوم
حقيقة، وإن كان أقل من ميل، أو بقرب العمران، وجب عليه الطلب.
انظر: القدوري، ص 4؛ البدائع 1/ 185؛ الهداية 1/ 25.
(6) انظر: الأم 1/ 46؛ التنبيه، ص 15؛ المهذب 1/ 271، مع المجموع؛ المنهاج، ص 6.
(7) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي في سننهم من حديث أبي ذر رضي الله
عنه، وقد سبق تخريجه في المسألة (19)، ص 113.
(8) راجع الأدلة بالتفصيل البدائع 1/ 185، 186.
(1/123)
واحتج الشافعي: بقوله تعالى: {فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (1)، ونفي [الوجود] (2)، إنما يكون بعد الطلب (3).
مسألة: 30 - حكم المني
المني نجس عندنا (4)، وعند الشافعي: طاهر، رطبا كان أو يابسا (5) ولا خلاف أنه إذا
يبس وفركه يطهر، ولا يحتاج إلى الغسل (6).
دليلنا: أن المني مائع، ينتقض به الطهارة، فوجب أن يكون نجسا، كدم الحيض؛ لأن مجرى
المني ومجرى البول واحد، فإذا استويا في المجرى وجب أن يستويا، في النجاسة، لقوله
تعالى: {ألم نخلقكم من ماء مهين} (7)، والمهين هي: للنجس (8).
__________
(1) سورة المائدة: آية 6.
(2) في الأصل (الوجوب). والظاهر أنها: (الوجود). لأنها مأخوذة من قوله تعالى: {فلم
تجدوا} والله أعلم.
(3) راجع الأدلة بالتفصيل: المجموع 1/ 271 وما بعدها.
(4) انظر: القدوري، ص 7؛ البدائع 1/ 267؛ الهداية 1/ 35.
(5) انظر: الأم 1/ 55؛ المهذب 1/ 54؛ التنبيه، ص 17؛ المنهاج، ص 6.
(6) انظر: الأم 1/ 55؛ القدوري، ص 7.
(7) سورة المرسلات: آية 20.
(8) والذي ذكر في كتب التفاسير واللغة، أن معنى المهين: هو الحقير الذليل الضعيف.
انظر: كتاب مجموعة من التفاسير: تفسير البيضاوي؛ النسفي؛ الخازن؛ تنوير المقباس 6/
432؛ الصحاح، مادة: (مهن).
واستدلوا كذلك بما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى
أثر الغسل فيه". مسلم، في الطهارة، باب حكم المني (289)، 1/ 239، راجع أدلتهم
بالتفصيل: العيني، البناية في شرح الهداية 1/ 720 وما بعدها.
(1/124)
احتج الشافعي بقوله تعالى: {ولقد كرمنا
بني آدم} (1)، وكرامته أن يكون طاهرا من أصل طاهر.
مسألة: 31 - المسح على الخفين من غير إتمام الطهارة
إذا غسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم لبس الأخرى (2)، فإن عندنا: يجوز المسح (3)، وعند
الشافعي: ما لم ينزع الأول ثم يلبس قبل الحدث لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة: أن استدامة اللبس كالابتداء، ألا ترى: أن من حلف أن لا يلبس
خفا وهو لابسه، حنث في يمينه إذا لم ينزع (5) ولو نزع خفه الملبوس الأول قبل الحدث
ثم لبسه جاز له المسح عليه.
احتج الشافعي: فإن كان حصل لبس الأول حال قيام الحدث فلم يجز المسح عليه. كما إذا
لبس قبل أن يغسل، فإنه لا يجوز المسح عليه (6).
__________
(1) سوره الإسراء: آية 70.
وانظر أدلتهم بالتفصيل: المجموع 2/ 560 - 562. واستدلوا على اتفاقهم: بأن الفرك
بعد الجفاف مطهر: بما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:
"كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا، فيصلي
فيه". مسلم، في الطهارة، باب حكم المني (288)، 1/ 238.
(2) صورة المسألة كما ذكرها السرخسي: "لو توضأ وغسل إحدى رجليه ولبس الخف ثم
غسل الرجل الأخرى ولبس الخف ثم أحدث". المبسوط 1/ 99، 100؛ انظر: الأم 10/
33.
(3) انظر: المبسوط 1/ 99، 100؛ الهداية 1/ 28.
(4) انظر: الأم 1/ 33؛ المهذب 1/ 28؛ الوجيز 1/ 23.
(5) انظر: القدوري، ص 101؛ الهداية 2/ 77؛ فتح القدير 5/ 104، حاشية سعد جلبي على
شرح فتح القدير 1/ 146.
(6) واستدل الشافعية للمسألة بما رواه الشيخان من حديث المغيرة رضي الله عنه قال:
(صببت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال:
"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" =
(1/125)
مسألة: 32 - المسح على الجرموقين
المسح على الجرموقين (1) يجوز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان مسح على عمامته
وعلى جرموقه" (4).
__________
= ومسح عليهما. البخاري، في الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان (206)، 9/
301؛ مسلم، في الطهارة، باب المسح على الخفين (274)، 1/ 230.
وبما رواه الشافعي والبيهقي عن أبي بكرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح
عليهما".
وقال البيهقي: "وكذلك رواه الشافعي عن عبد الوهاب ألا أن الربيع شك في قوله:
"إذا تطهر فلبس خفيه" فجعله من قول الشافعي، وهو في الحديث".
والصحيح: ما قاله الربيع. كما هو وارد في الأم للشافعي، أنه من كلامه وليس من
الحديث.
وكما أخرجه ابن ماجه عن أبي بكرة بدون هذه الزيادة في كتاب الطهارة وسننها، باب ما
جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر (556)، 1/ 184 الأم 1/ 33؛ السنن الكبرى
1/ 381.
انظر بالتفصيل: المجموع 1/ 554 - 557.
(1) الجرموق: ما يلبس فوق الخف، والجمع: الجراميق، مثل عصفور وعصافير.
انظر: المغرب في ترتيب المعرب؛ المصباح، مادة: (جرموق).
(2) انظر: القدوري، ص 6؛ المبسوط 1/ 102؛ البدائع 1/ 103؛ الهداية 1/ 29، 30.
(3) انظر: الأم 1/ 34؛ التنبيه، ص 12؛ المهذب 1/ 28؛ الوجيز 1/ 24؛ المنهاج، ص 5.
(4) الحديث أخرجه أبو داود في سننه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه،
وصححه، من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه سأل بلالا عن وضوء رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فقال: "كان يخرج يقضي حاجته، فأتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على
عمامته وموقيه": أبو داود، في الطهارة، باب المسح على الخفين (153)، 1/ 39؛
صحيح ابن خزيمة 1/ 95؛ المستدرك 1/ 170؛ نصب الراية 1/ 183.
قال الجوهري: "الموق الذي يلبس فوق الخف، فارسي معرب". الصحاح: (موق).
راجع أدلة الأحناف بالتفصيل: البدائع 1/ 103، 104.
(1/126)
واحتج الشافعي بقوله تعالى: {وامسحوا
برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (1)، فالله تعالى أمر بغسل الرجلين، إلا أنه قام
الدليل على جواز المسح على الخف، فبقي الباقي على ظاهره (2).
مسألة: 33 - مقدار المفروض في المسح
الفروض في المسح على الخف، مقدر بثلاثة أصابع عندنا (3)، وعند الشافعي: غير مقدر،
بل يجوز أن يمسح بأصبع واحدة (4).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان مسح على خفيه
بثلاثة أصابع" (5).
واحتج الشافعي: أن المسح بدل عن الغسل المسنون، وفي الغسل إنما هو بالثلاث، فكذلك
في البدل (6).
__________
(1) سورة المائدة: آية 6.
(2) راجع أدلتهم بالتفصيل: المجموع 1/ 544 - 552.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 22؛ القدوري، ص 5؛ المبسوط 1/ 100؛ البدائع 1/ 106،
107.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 10؛ التنبيه، ص 13؛ المهذب 1/ 563 مع المجموع؛ الوجيز
1/ 24؛ المنهاج، ص 5.
(5) ما ذكره المصنف دليلا للحنفية ليس بدليل، بل هو أقل ما ينطبق عليه المسح
عندهم. وإنما استدلوا على القدر المفروض للمسح بثلاثة أصابع، بما أخرجه أبو داود،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: "لو كان الدين بالرأي، لكان باطن
الحف أحق بالمسح من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على
ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع". قال ابن حجر في التلخيص: "إسناده
صحيح"؛ أبو داود، في الطهارة، باب كيف المسح (162)، 1/ 42؛ تلخيص الحبير 1/
160.
(6) واحتجاج المؤلف للشافعية بدليل القياس على الغسل المسنون غبر بين وذلك؛ لأن
مذهبهم يصادم هذا الدليل، حيث يقولون: بكراهية التكرار في المسح قال الرملي:
"ويكره تكرار مسحه وإن أجزأ". =
(1/127)
مسألة: 34 - حكم الوطء قبل الغسل لأكثر
الحيض
المرأة إذا انقطع دمها لأكثر الحيض (1) يحل للزوج وطئها عندنا (2)، وعند الشافعي:
لا يحل ما لم تتطهر بالماء (3).
دليلنا في المسألة: وهو أنا أجمعنا على أن المرأة إذا انقطع دمها يلزمها الصوم
(4)، فوجب أن لا يمنع الوطء، كما إذا كان بعد الغسل.
واحتج الشافعي، بقول الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (5) والطهارة لا تحصل
إلا بالاغتسال (6).
__________
= وقال النووي في استدلال الشافعية لما يجزئ في المسح: "واحتج أصحابنا بأن
المسح ورد مطلقا، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقدير واجبه شيء
فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم". انظر: المجموع 1/ 567؛ الرملي، نهاية
المحتاج إلى شرح المنهاج 1/ 207.
(1) الحيض لغة: السيلان، ومنه يقال: حاضت السمرة إذا سال صمغها، وحاضت المرأة:
حيضا ومحيضا، وحيضتها: نسبتها إلى الحيض، والمرة حيضة، والجمع: حيض مثل: ضيعة
وضيع، وخيمة وخيم، والقياس: حيضات مثل: بيضة وبيضات.
انظر: معجم مقاييس اللغة، المصباح المنير، مادة: (حيض)، وشرعا: "اسم لدم خارج
من الرحم لا يعقب الولادة، مقدر بقدر معلوم في وقت معلوم" البدائع 1/ 167.
(2) انظر: القدوري، ص 6؛ الهداية 1/ 32؛ شرح فتح القدير 1/ 171.
(3) انظر: الأم 1/ 59؛ المهذب 1/ 45؛ التنبيه، ص 16؛ المنهاج، ص 8؛ المجموع 2/
380، 381.
(4) راجع: المراجع السابقة للمذهبين.
(5) سورة البقرة: آية 222، وتمامها: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله
يحب التوابين ويحب المتطهرين}.
(6) واستدلالهم بالآية بقراءة التشديد في قوله: {يطهرن}؛ لأنهما صريحة في اشتراط
الغسل.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكان مبينا في قول الله عز وجل: {حتى يطهرن}
أنهن حيض في غير حال الطهارة وقضى الله على الجنب: أن لا يقرب الصلاة حتى يغتسل،
فكان مبينا: أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، ولا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب
الحيض ثم الغسل، =
(1/128)
مسألة: 35 - أقل مدة الحيض
أقل الحيض عندنا: ثلاثة أيام ولياليهن (1)، وعند الشافعي: يوم وليلة (2).
دليلنا: ما روى عن أنس بن مالك: "أقل الحيض من الثلاثة إلى العشرة" (3)
دل على أن مدة الحيض بالقلة والكثرة، من الثلاثة إلى العشرة.
واحتج الشافعي، وقال: يوم وليلة، إحدى طرفي المسح، فجاز أن يكون حيضا، كالثلاثة
(4).
__________
= لقول الله عز وجل: {حتى يطهرن} وذلك انقضاء الحيض: {فإذا تطهرن} يعني بالغسل،
لأن السنة دلت على أن طهارة الحائض الغسل". الشافعي، أحكام القرآن 1/ 53.
انظر أيضا للتفصيل: الأم 1/ 59؛ المجموع 2/ 382.
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 6؛ البدائع 1/ 169؛ الهداية 1/ 30.
(2) انظر: الأم 1/ 64؛ التنبيه، ص 16؛ المهذب 2/ 388، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 25؛
المنهاج، ص 8.
(3) أخرج ابن عدي في الكامل، عن طريق الحسن بن دينار عن أنس - رضي الله عنه -
مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحيض ثلاثة أيام،
وأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وتسعة، وعشرة، فإذا جاوزت العشر، فهى
مستحاضة"، وأعله الحسن بن دينار، وقال: إن جميع من تكلم في الرجال، أجمعوا
على ضعفه، وقال: ولم أر له حديثا جاوز الحد في النكارة، وهو إلى الضعف أقرب، وقيل
في تضعيفه غير ذلك، كما ذكره الزيلعي، وروى عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في
سننه، عن أنس موقوفا عليه: نحوه، مع اختلاف في اللفظ، وقال البيهقي: وقد روى في
أقل الحيض وأكثره أحاديث ضعاف، وبين ضعفها في كتابه الخلافيات.
انظر: مصنف عبد الرزاق 1/ 299؛ السنن الكبرى 1/ 322، 323؛ كتاب مختصر الخلافيات
للبيهقي، (ورقة 24)، نصب الراية 1/ 192.
(4) استدل المؤلف للشافعي بالقياس على مدة المسح، ولم أعثر في مدونات فقههم على
هذا القياس، وإنما استدل الشافعي لأقل الحيض بالاستقراء: من المشاهدات والوقائع
وإخبارات النساء، حيث يقول: "قد رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض
يوما ولا يزيد عليه، وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاث، وعن نساء،
أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوما، وعن امرأة أو أكثر أنها لم تزل تحيض ثلاث عشرة
... " الأم 1/ 64.
(1/129)
مسألة: 36 - أكثر مدة الحيض
أكثر الحيض عندنا: عشرة أيام (1)، وعند الشافعي: خمسة عشر يوما (2).
دليلنا: بما روى عن أنس موقوفا عليه، ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال: "أكثر الحيض عشرة أيام" (3).
واحتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنكن
ناقصات العقل والدين"، قيل يا رسول الله، عرفنا نقصان عقلهن، فما نقصان
دينهن؛ فقال رسول الله: "أما نقصان دينهن: فإن الواحدة منهن تقعد شطر عمرها
لا تصوم ولا تصلي" (4).
مسألة: 37 - حكم دم الحيض
الحامل عندنا: لا تحيض، إلا أن يكون نادرا (5)، وعند الشافعي: تحيض (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 6؛ البدائع 1/ 169؛ الهداية 1/ 30.
(2) انظر: الأم 1/ 67؛ التنبيه، ص 16؛ المهذب 2/ 388، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 25؛
المنهاج، ص 8.
(3) الحديث سبق تخريجه والكلام عليه في المسألة (35)، ص 129.
(4) الحديث: بهذا اللفظ لا أصل له، وقال البيهقي في المعرفة: "هذا الحديث،
يذكره بعض فقهائنا، وقد طلبته كثيرا فلم أجده في شيء من كتب الحديث، ولم أجد له
إسنادا"، وقال الشيرازي: "لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه"،
وقال النووي: "باطل لا يعرف". ونقل ابن حجر في التلخيص غير ذلك.
وإنما يقرب من المعنى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا:
"أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها":
البخاري، في الحيض، باب ترك الحائض الصوم، 304، 1/ 405.
انظر: المهذب 1/ 46؛ المجموع 2/ 389؛ وبالتفصيل: تلخيص الحبير 1/ 162، 163.
(5) انظر: القدوري، ص 6؛ البدائع 1/ 175؛ الهداية 1/ 133.
(6) انظر: المهذب 1/ 52؛ الوجيز 1/ 31؛ المنهاج، ص 8؛ المجموع 2/ 395، 396.
(1/130)
دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا لا توطأ الحبالى حتى تضع، ولا الحبالى حتى تستبرئ بحيضة" (1)، فجعل
عدة الحامل بوضع الحمل، فلو كانت تحيض، لما جعل انقضاء العدة بوضع الحمل.
احتج الشافعي، بقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} (2)، فالله تعالى قد
أخبر [عن] (3) حقيقة الحيض، أنه أذى، والأذى موجود في حال الحبل، فوجب أن يتعلق
الحكم به (4).
مسألة: 38 - مدة النفاس
أكثر النفاس (5) عندنا: أربعون يوما، وأقله ساعة (6)، وعند الشافعي: ستون يوما
(7).
دليلنا: ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت:
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود والبيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،
مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ
حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة": أبو داود، في الطلاق، باب في
وطء السبايا (2175)، 2/ 247؛ السنن الكبرى 5/ 329.
(2) سورة البقرة: آية 222.
(3) في الأصل: (على).
(4) انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 2/ 395 - 398.
(5) النفاس: مصدر نفست المرأة، بضم النون وفتحها إذا ولدت، فهي: نفساء، وهن: نفاس،
مثل: عشراء وعشار.
انظر المغرب في ترتيب المعرب، المصباح مادة: (نفس). وشرعا هو الدم الخارج عقيب
الولادة)، البدائع 1/ 172؛ الهداية 1/ 33.
(6) انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 6؛ الهداية 1/ 33؛ البدائع 1/ 172.
(7) انظر: مختصر المزني، ص 11؛ المهذب 1/ 52؛ الوجيز 1/ 31، المنهاج، ص 8.
(1/131)
"كانت النساء تقعدن على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوما في النفاس" (1).
واحتج الشافعي: بأنه حكم يسقط به الصوم والصلاة، فجاز أن يزيد على غالبه، كما قلنا:
في الحيض (2).
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي عنها، كلهم في كتاب الطهارة،
باب ما جاء في وقت النفساء، أبو داود (311، 312)، 1/ 130؛ الترمذي (139)، وقال:
"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي سهل عن مسة الأزدية عن أم
سلمة" 1/ 256؛ ابن ماجه (648)، 1/ 213.
(2) انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 2/ 526 - 529.
(1/132)
كتاب الصلاة
[مسألة: 39 - آخر وقت الظهر]
آخر وقت صلاة الظهر، عندنا: إذا صار ظل كل شيء مثليه، يلزمه الظهر (1)، (2) [وعند
الشافعي: إذا صار ظل كل شيء مثله سوى ظل استواء الشمس] (3).
احتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن جبريل عليه
السلام صلى به يومين: صلى في اليوم الأول: حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني: حين
صار ظل كل شيء مثله، ثم قال جبريل: هذا وقت ما بين الوقتين" (4).
وأصحابنا احتجوا بهذا الحديث، وهو أنه: لما بدأ بالصلاة بعدما صار كل شيء مثله،
وفراغ الصلاة إنما يحصل بعد ما صار
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 7؛ البدائع 1/ 351؛ الهداية 1/ 38.
(2) ما بين القوسين المربعين زيدت لإتمام العبارة؛ لأن طريقة المؤلف بيان المذهبين
في المسألة، ولم يذكر هنا قول الشافعي، ولعله سهو من الناسخ.
(3) انظر: الأم 1/ 72؛ التنبيه، ص 18؛ المهذب 3/ 21، مع المجموع؛ الوجيز 1/ 32؛
النهاية، ص 8.
(4) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، (أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: أمني جبريل عند البيت مرتين: فصلى بى الظهر حين زالت
الشمس - إلى أن قال: وصلى بى الظهر في المرة الثانية، حين صار ظل كل شيء مثله ...
ثم قال: والوقت ما بين هذين الوقتين". أبو داود، في الصلاة، باب في المواقيت
(393)، 1/ 107؛ الترمذي، نحوه (149) وقال: "حديث حسن صحيح" 13/ 278 -
282؛ وبالتفصيل. المجموع 3/ 21 - 29.
(1/133)
ظل كل شيء مثليه (1)، وعنده: الصلاة
توجب بشروع الوقت (2)، فدل على أن الحديث حجة لنا عليكم.
مسألة: 40 - وقت المغرب
للمغرب وقتان عندنا (3)، وعند الشافعي: له وقت واحد (4).
احتج الشافعي: أن جبريل صلى في يومين في وقت واحد، وهو: وقت إفطار الصائم (5).
لنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "للمغرب وقتان" (6).
__________
(1) انظر أدلتهم: البدائع 1/ 351.
(2) قال الغزالي: "تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا".
انظر: الوجيز 1/ 33؛ المجموع 3/ 49؛ راجع المسألة الأصولية بالتفصيل: في المسألة
(45)، ص 149، 150.
(3) للمغرب وقتان: أول وقتها: إذا غربت الشمس، وآخر وقتها: ما لم يغب الشفق، ولكن
يكره تأخيرها بعد غروب الشمس إلا بقدر ما يستبرئ به فيه الغروب.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 8؛ المبسوط 1/ 144؛ البدائع 1/ 353، 354؛
الهداية 1/ 38.
(4) وللشافعي في المسألة قولان: قديم: يمتد إلى مغيب الشفق، وله أن يبدأ بالصلاة
في كل وقت من هذا الزمان، وجديد: ينقضي بمضي قدر وضوء وستر عورة، وأذان، وإقامة
وخمس ركعات، وصحح النووي القول القديم واختاره في المجموع، وقال في المنهاج:
"القديم أظهر والله أعلم".
انظر: الأم 1/ 73؛ المهذب 1/ 59؛ الوجيز 1/ 33؛ المجموع 3/ 33؛ المنهاج، ص 8.
(5) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: أمني جبريل عند البيت مرتين: ... ثم صلى المغرب حين وجبت
الشمس، وأفطر الصائم ... وصلى المرة الثانية ... ثم صلى المغرب لوقته الأول ...
الحديث.
وقد سبق تخريجه في المسألة (39)، ص 133.
(6) أورد المؤلف الحديث بمعناه، كعادته في أكثر الأحاديث، والحديث بطوله أخرجه:
مسلم في صحيحه، عن بريدة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فسأله عن وقت الصلاة، فقال: =
(1/134)
مسألة: 41 - ما هو الشفق؟
الشفق هو: البياض عندنا دون الحمرة (1)، وقال الشافعي، هو الحمرة دون البياض (2).
واحتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشفق هو
الحمرة" (3).
لنا في ذلك: وهو ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه صلى العشاء حين اسود
الأفق) (4).
مسألة: 42 - أذان الصبح قبل الفجر
أذان الصبح قبل الفجر، لا يجوز عندنا (5)، وعند الشافعي: أذان الصبح قبل الفجر
يجوز (6).
احتج الشافعي بما روى: (أن بلالا يؤذن لصلاة الفجر نصف الليل) (7).
__________
= "صل معنا هذين اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ... ثم أمره فأقام
المغرب حين غابت الشمس ... فلما أن كان اليوم الثاني ... وصلى المغرب قبل أن يغيب
الشفق ... الحديث"؛ مسلم، في المساجد ومواضع الصلاة (613)، 1/ 428
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 23؛ القدوري، ص 8؛ البدائع 1/ 354؛ الهداية 1/ 39.
(2) انظر: الأم 1/ 74؛ المهذب 1/ 59؛ الوجيز 1/ 33؛ المنهاج، ص 8.
(3) الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما عن ابن عمر رضي الله عنهما،
مرفوعا، وموقوفا عليه، قال البيهقي: "الصحيح موقوف".
انظر: سنن الدارقطني 1/ 269؛ السنن الكبرى 1/ 373.
(4) الحديث أخرجه أبو داود في سننه، عن أبي مسعود رضي الله عنه، في الحديث الطويل
عن المواقيت: أبو داود، في الصلاة، باب في المواقيت (394)، 1/ 108.
انظر: البناية في شرح الهداية 1/ 805، 806.
(5) انظر: مختصر الطحاوي، ص 25؛ البدائع 1/ 421؛ الهداية 1/ 43.
(6) انظر: الأم 1/ 83؛ المهذب 3/ 94، مع المجموع.
(7) أراد به الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى
الله عليه وسلم -، قال: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن، أو
قال: ينادي بليل، ليرجع قائمكم =
(1/135)
لنا في ذلك، وهو: ما روى عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يغرنكم أذان بلال، فإنه إنما يؤذن ليتسحر
صائمكم ولينتبه نائمكم، فعليكم بأذان ابن أم مكتوم فإن بلالا يؤذن بليل" (1).
مسألة: 43 - الترجيع في الأذان
الترجيع (2) في الأذان ليس بسنة عندنا (3)، وعند الشافعي: سنة (4).
احتج الشافعي، بما روى عن أبي محذورة أنه قال: "علمني رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الترجيع في الأذان" (5).
__________
= ويوقظ نائمكم": البخاري، في الأذان، باب الأذان قبل الفجر (621)، 2/ 103؛
مسلم، في الصوم، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1093)، 2/ 768.
وقال الشوكاني: "والحديث يدل على جواز الأذان قبل دخول الوقت، في صلاة الفجر
خاصة، وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور مطلقا". نيل الأوطار 2/ 32.
(1) الحديث مركب من ثلاثة أحاديث: أخذ جزءا من كل حديث، أما الجزء الأول فمن حديث
مسلم عن سمرة بن جندب. "لا يغرنكم أذان بلال"، وأما الجزء الثاني فمن
حديث الشيخين عن ابن مسعود، والسابق تخريجه، وأما الجزء الثالث فمن حديث الشيخين
أيضا عن ابن عمر: "أن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم
مكتوم".
انظر: البخاري (622، 623)، 2/ 104؛ مسلم (1092، 1094)، 2/ 267، 268.
(2) الترجيع: "هو أن يبتدئ المؤذن بالشهادتين، فيقول: أشهد أن لا إله إلا
الله مرتين، وأشهد أن محمدا رسول الله مرتين، يخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما
ويرفع بهما صوته". البدائع 1/ 405.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 25؛ القدوري، ص 8؛ البدائع 1/ 405؛ الهداية 1/ 41.
(4) انظر: الأم 1/ 84؛ التنبيه، ص 19؛ المهذب 1/ 63؛ الوجيز 1/ 36؛ المنهاج، ص 9.
(5) الحديث أخرجه مسلم عنه، في الصلاة، باب صفة الأذان (379)، 1/ 287، وروى عنه
أصحاب السنن الأربعة وغيرهم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان
تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة ... ".
فذكر الأذان مفسرا بتربيع التكبير أوله، وفيه الترجيع، والإقامة مثله، وزاد فيها:
"قد قامت الصلاة" مرتين.
(1/136)
لنا في ذلك، ما روى عن عبد الله بن زيد
الأنصاري: "أنه حكى الأذان الذي سمع من غير ترجيع" (1)، فلو كان سنة
لذكره (2).
مسألة: 44 - عدد ألفاظ الإقامة
الإقامة عندنا: مثنى مثنى (3)، وعند الشافعي، فرادى (4).
احتج الشافعي، بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أمر بلالا بأن
يشفع الأذان، ويوتر الإقامة" (5).
لنا في ذلك، وهو: أن الإقامة أحد الأذانين، فوجب أن يكون شفعا كالآخر (6).
__________
=أبو داود، في الصلاة، باب كيف الأذان (502)، 1/ 137؛ الترمذي في أبواب الصلاة،
باب ما جاء في بدء الأذان (192)، وقال: "حديث حسن صحيح" 1/ 367؛
النسائي، في الأذان، باب كيف الأذان 2/ 704؛ ابن ماجه، في باب الترجيع في الأذان
(708)، 1/ 234؛ ابن خزيمة 1/ 195؛ الدارقطني 1/ 233، وما بعدها.
(1) حديث رؤيا عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه للأذان، أخرجه أصحاب السنن
وغيرهم.
أبو داود، في الصلاة، باب كيف الأذان (499)، 1/ 195؛ الترمذي، في أبواب الصلاة،
باب ما جاء في بدء الأذان (189)، وقال: "حديث حسن صحيح"، 1/ 359؛ ابن
ماجه، في الأذان، باب بدء الأذان (706)، 1/ 232؛ ابن خزيمة 1/ 197؛ الدارقطني 1/
242؛ السنن الكبرى 1/ 391.
(2) راجع الأدلة الأحناف بالتفصيل: البدائع 1/ 405.
(3) انظر: القدوري، ص 8؛ المبسوط 1/ 129؛ تحفة الفقهاء 1/ 196؛ الهداية 1/ 41.
(4) انظر: التنبيه، ص 19؛ المهذب 1/ 64؛ الوجيز 1/ 36؛ المنهاج، ص 9.
(5) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه:
البخاري، في الأذان، باب الأذان مثنى مثى (605)، 2/ 82.
مسلم، في الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (378)، 1/ 286.
(6) واستدل المؤلف للأحناف بالقياس فقط مع وجود أدلة نقلية لهم: كحديث عبد الله بن
زيد رضي الله عنه: "أن النازل من السماء أتى بالأذان ومكث هنيها، ثم قال مثل
ذلك، إلا أنه زاد =
(1/137)
مسألة: 45 - وقت وجوب الصلاة
وجوب الصلاة يتعلق بآخر الوقت عندنا، ويجوز أداؤها في وسطها (1)، وعند الشافعي: في
أول الوقت (2).
لنا في ذلك وهو: أنا أجمعنا أنه لو أخر إلى آخر الوقت لا يأثم، فلو كان الوقت هو
أوله، لكان يأثم بتركه (3).
__________
= في آخره مرتين، قد قامت الصلاة".
انظر: الحديث ومتابعاته بألفاظها المختلفة: سنن الدارقطني 1/ 142. وكذلك ما روى في
حديث أبي محذورة: "والإقامة سبع عشرة كلمة"، و"إنما تكون كذلك إذا
كانت مثنى"، الحديث قد سبق تخريجه في المسألة (43)، ص 136.
وانظر أدلتهم بالتفصيل: البدائع 1/ 406 وما بعدها.
(1) هذا فرع من جملة فروع لقاعدة أصولية، جرى الخلاف حولها عند الأصوليين، وهو:
الواجب الموسع: وللأحناف رأيان فيها: رأي أكثر العراقين: أن الوجوب الموسع يتعلق
بآخر الوقت، قال السرخسي: "وأكثر العراقين من مشايخنا يقولون: الوجوب لا يثبت
في أول الوقت، وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت".
ورأى عامة الحنفية: إن كان الواجب موسعا فجميع الوقت وقت لأدائه؛ وأن سبب الوجوب
يختص بالجزء الأول من الوقت، إذا اتصل به الأداء، فإن لم يتصل به الأداء، انتقلت
السببية منه إلى ما يليه، وإلا تعين الجزء الأخير.
انظر: السرخسي، أصول السرخسي 1/ 30 - 33؛ كشف الأسرار 1/ 215، 219؛ الأنصاري،
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، مع المستصفى 1/ 76؛ أمير بإسناه، تيسير التحرير
على كتاب التحرير 2/ 189؛ البدائع 1/ 291.
(2) وعند الشافعية: الواجب الموسع يتعلق بأول الوقت وجوبا موسعا، كما قال الشيرازي
في اللمع: "وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة، كصلاة الزوال: ما بين الظهر
إلى أن يصير ظل كل شي مثله، وجب الفعل في أول الوقت وجوبا موسعا". واختلف
القائلون بتعلق الوجوب بأول الوقت على التوسع: في اشتراط العزم على الفعل في ثاني
الحال لجواز التأخير، ورجح الغزالي والنووي وعامة الفقهاء الاشتراط.
انظر: الشيرازي، اللمع، ص 9.
التبصرة في أصول الفقه، ص 60؛ الغزالي، المستصفى 1/ 70؛ البناني، حاشية البناني
على شرح الجلال على متن جمع الجوامع 1/ 188؛ المجموع 3/ 49.
(3) انظر الأدلة بالتفصيل: أصول السرخسي 1/ 30، 31.
(1/138)
احتج الشافعي، بقوله تعالى: {أقم
الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} (1). فالله تعالى أمر بالصلاة عقيب زوال الشمس،
ولو كان التأخير جائزا لما أمره، وظاهر الأمر يدل على الوجوب (2).
مسألة: 46 - أثر الإغماء في سقوط الصلاة
الإغماء إذا زاد عندنا: على يوم وليلة يسقط فرض الصلاة، وإذا كان أقل من ذلك لا
يسقط (3)، وعند الشافعي: يسقط قل أو كثر (4).
لنا في ذلك: "ما روى عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه ففاته أربع صلوات وقضاهن
على الولاء والترتيب" (5)، ولم ينقل
__________
(1) سورة الإسراء: آية 78.
(2) راجع المراجع الأصولية السابقة للشافعية.
أصل الخلاف وفائدته:
الظاهر أن حقيقة الخلاف بين المذهبين: في الفرق، بين الوجوب نفسه وبين وجوب
الأداء، فالحنفية يفصلون بينهما، والشافعية: لا يفرقون بين العبارتين في العبادات
البدنية.
وفائدة الخلاف تظهر: في المرأة إذا حاضت في آخر الوقت، لا يلزمها قضاء تلك الصلاة
عند الأحناف؛ لأن وجوب الأداء لم يوجد.
وعند الشافعية: "إن أدركت من أول الوقت مقدار ما تصلي فيه ثم حاضت يلزمها
قضاؤها".
انظر المسألة بالتفصيل: كشف الأسرار 1/ 221؛ حاشية البناني على جمع الجوامع 1/
189.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 24؛ المبسوط 1/ 217.
(4) انظر: المهذب 1/ 85؛ وشرحه المجموع 3/ 8.
(5) الأثر أخرجه البيهقي عن يزيد مولى عمار: "أن عمار بن ياسر أغمي عليه في
الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل فصلى الظهر والعصر والمغرب
والعشاء"، قال ابن التركماني: "سكت عنه البيهقي - وسنده ضعيف وهو مخالف
للباب". السنن الكبرى مع الجوهر النقي 1/ 387، 388.
وانظر أدلة الأحناف بالقياس في المبسوط 1/ 267.
(1/139)
مثل هذا إلا بتوقيف ونص. والمعنى فيه:
أن الإغماء معنى لا يسقط الصوم، فوجب أن لا يسقط الصلاة، دليله: السكران (1).
واحتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رفع القلم
عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم"
(2) والإغماء شعبة من الجنون فوجب أن يسقط فرض الصلاة.
مسألة: 47 - حكم إلزام الظهر بإدراك آخر العصر
المجنون إذا أفاق قبل غروب الشمس مقدار ما يصلي أربع ركعات، يلزمه العصر دون الظهر
عندنا (3)، وعند الشافعي: يلزمه العصر والظهر جميعا" (4).
لنا في ذلك: وهو ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من أدرك
ركعة من العصر فقد أدرك" (5) والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعله مدركا
للعصر،
__________
(1) قياس المؤلف الإغماء بالسكر قياس مع الفارق؛ لأن السكر بفعله، أما الإغماء
فخارج عن إرادته.
(2) الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة بلفظ: "رفع القلم عن
ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو
يفيق".
أبو داود، عن عائشة وعلي، في الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (4398 وما
بعدها)، 4/ 140؛ النسائي، في الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج 6/ 156؛ ابن
ماجه، في الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041)، 1/ 658؛ وأحمد وابن
حبان والحاكم، تلخيص الحبير 1/ 183.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 24؛ المبسوط 1/ 150.
(4) هذا هو الصحيح من المذهب.
انظر: المجموع شرح المهذب 3/ 67 - 70.
(5) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، في المواقيت،
باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (556)، 2/ 37؛ مسلم، في المساجد، باب من
أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (608)، 1/ 442.
انظر أدلة الأحناف: المبسوط 1/ 149، 150.
(1/140)
ولم يصر مدركا للظهر، وأنتم تجعلونه
مدركا للظهر والعصر جميعا (1).
مسألة: 48 - أفضل وقت صلاة الصبح
الإسفار (2) في صلاة الصبح أفضل عندنا (3)، وعند الشافعي: التغليس (4) أفضل (5).
لنا في ذلك وهو: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أسفروا
بالفجر فإنه أعظم للأجر" (6).
__________
(1) لم يذكر المؤلف هنا دليل الشافعي كعادته في الكتاب، ودليلهم: كما قال النووي:
"واستدلوا على وجوب الظهر بإدراك آخر وقت العصر، ووجوب الغرب بإدراك آخر وقت
العشاء: بأنهما كالصلاة الواحدة، ووقت إحداهما وقت الأخرى في حق العذور
بسفر"، وبما رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "إذا طهرت
الحائض قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب
والعشاء جميعا"، ونحوه عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وعن الفقهاء السبعة
من أهل المدينة. وضعف ابن التركماني: الآثار الواردة في الباب من حيث الإسناد.
انظر: السنن الكبرى مع الجوهر النقي 1/ 386، 387؛ المجموع 3/ 69، 70.
منشأ الخلاف بين المذهبين في هذه المسألة، هو: أن الشافعية يتداخل عندهم وقت الظهر
والعصر وكذلك المغرب والعشاء، وعند الأحناف لا تداخل بين الوقتين، بل كل واحد
منهما مختص بوقته.
انظر: المبسوط 1/ 150.
(2) الأسفار: ظهور ضوء الصبح. انظر مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (سفر).
(3) انظر: القدوري، ص 8؛ تحفة الفقهاء 1/ 182؛ البدائع 1/ 355؛ الهداية 1/ 39.
(4) التغليس: "ظلام آخر الليل".
انظر: المصباح، مادة: (غلس).
(5) انظر: الأم 1/ 75؛ المهذب 1/ 59؛ الوجيز 1/ 33؛ المنهاج، ص 9.
(6) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. أبو
داود، في المواقيت، باب وقت الصبح (424)، 1/ 171؛ الترمذي، في الصلاة، باب ما جاء
في الأسفار من الفجر (154)، وقال: "حديث حسن صحيح"، 1/ 289؛ النسائي، في
المواقيت، باب الأسفار 1/ 272؛ ابن ماجه، في الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (672)، 1/
221.
(1/141)
احتج الشافعي، بقوله تعالى: {وبالأسحار
هم يستغفرون} (1) دل على أن التغليس أفضل (2).
مسألة: 49 - صلاة المشتبه للقبلة
إذا اشتبهت القبلة على المصلي، فصلى ثم بان له الخطأ، فإن كان يمنة أو يسرة: جازت
صلاته بالاتفاق (3). وإن كان مستدبرا للقبلة: جاز عندنا (4)، وعند الشافعي: لا
يجوز (5).
لنا في ذلك: قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} (6) أي
قبلة الله (7).
__________
(1) سورة الذاريات: آية 18.
(2) واستدل الشافعية، بما أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى،
فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ولم يعد إلى أن يسفر": أبو
داود، في الصلاة، باب في المواقيت (394)، 1/ 108.
انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 3/ 53 - 56.
(3) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 112؛ البدائع 1/ 344؛ الأم 1/ 95؛ المهذب 2/ 208 - 210
مع المجموع؛ الوجيز 1/ 39.
(4) يجوز الصلاة مع استدبار القبلة عند الأحناف، بشرط أن لا يجد المشتبه من
يستخبره، ثم تحرى واجتهد لمعرفتها، لكن إن علم بالخطأ في أثناء الصلاة استدار إلى
القبلة وبنى عليها، وأما إذا صلى بدون التحري فله أوجه عندهم.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 26؛ القدوري، ص 9؛ تحفة الفقهاء 1/ 111 - 113؛ البدائع 1/
343، 344؛ الهداية 1/ 272 مع شرح فتح القدير.
(5) قال النووي في المنهاج: "من صلى بالاجتهاد فتيقن الخطأ، قضى في الأظهر
فلو تيقنه فيها، وجب استئنافها".
انظر: الأم 1/ 94؛ المهذب 3/ 208 - 210 مع المجموع؛ التنبيه، ص 21؛ الوجيز 1/ 39؛
المنهاج، ص 10.
(6) سورة البقرة: آية 115.
(7) ولهم أدلة أخرى، انظر بالتفصيل: البدائع 1/ 343؛ شرح فتح القدير 1/ 271.
(1/142)
واحتج الشافعي، بقول الله تعالى:
{فولوا وجوهكم شطره} (1).
مسألة: 50 - بلوغ الصبي أثناء الصلاة
إذا بلغ الصبي (2) في أثناء الصلاة، لا تقبل له، بل تلزمه الإعادة عندنا (3)، وعند
الشافعي: لا تلزمه الإعادة (4).
واحتج الشافعي بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مروهم
بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" (5)، فدل على أن الصبي له صلاة.
قلنا: إنما أمرهم ليعتادوا عليها.
__________
(1) سورة البقرة: آية 144.
وتمام الآية: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر
المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ... }.
(2) المسألة تصور على حالتين: أما أن يبلغ الصبي في أثناء أداء الصلاة وهذه هي
المنصوص عليها في رأس المسألة، وأما أن يصلي من أول الوقت ويبلغ في آخر. وهذه
الحالة هي التي أقام عليها استدلاله.
(3) انظر: المبسوط 2/ 95.
(4) بل يجزيه تلك الصلاة عن الفرض، على القول الصحيح، كما ذكره النووي في المنهاج.
انظر: التنبيه، ص 18؛ مختصر الخلافيات للبيهقي، مخطوط (ورقة 39/ ب)، المنهاج، ص 9.
(5) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي في السنن، من حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مروا أولادكم
بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في
المضاجع":
أبو داود، في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495)، 1/ 133؛ الترمذي، نحوه
(407)، وقال: "حديث حسن صحيح" 2/ 259؛ السنن الكبرى 2/ 14.
(1/143)
لنا في ذلك: أن الصلاة التي فعلها
الصبي في أول الوقت كانت نفلا، فلم يجز أن يقع النفل مقام الفرض (1)، دليله:
البالغ.
مسألة: 51 - كيفية صلاة العريان
العريان (2) يصلي قاعدا عندنا (3)، وعنده: يصلي قائما (4).
لنا في ذلك: وهو أن القيام فرض، والستر فرض، فإذا صلى قاعدا ستر بعض عورته، وترك
القيام، وإذا صلى قائما أتى بالقيام وترك الستر، فتساويا الأمران، فثبت له الخيار
(5).
__________
(1) والصلاة المؤداة غير مجزئة عن الفرض، "لأنه لم يكن أهلا للفرض حين أدى،
فإن الأهلية للفرض باعتبار الخطاب، والصبي غير مخاطب، ثم لما بلغ في آخر الوقت
لزمه أداء الفرض، والنفل لا يقوم مقام الفرض". المبسوط 2/ 95.
(2) العريان: أصله من عرى الرجل من ثيابه، يعرى عريا وعرية، من باب تعب فهو عار
وعريان، وهي عارية وعريانة، وقوم عراة، ونساء عاريات.
انظر: المغرب، المصباح، مادة: (عرى).
وعورة الرجل: ما تحت السرة إلى الركبة، والركبة من العورة عند الأحناف خلافا
للشافعية، فإن الركبة ليست من العورة عندهم.
وعورة المرأة الحرة: كل جسمها عورة، إلا الوجه والكفين والقدمين عند الأحناف،
خلافا للشافعية فى القدمين، فإنهما أيضا من العورة عندهم.
والمقصود بالعريان هنا: هو من لم يجد ما يستر به عورته المغلظة: (السوأتين).
انظر: القدوري، ص 8؛ المنهاج، ص 11؛ المجموع 3/ 173، 174.
(3) "ويومئ إيماء بالركوع والسجود، فإن صلى قائما أجزأه والقعود أفضل".
انظر: القدوري، ص 9؛ الهداية 1/ 44.
(4) انظر: الأم 1/ 61؛ المجموع مع المهذب 3/ 188، 189.
(5) واستدل الأحناف من النقل بما روى عن ابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله عنهم
(العاري يصلي قاعدا بالإيماء)، ونحوه ما روى عن عدد من التابعين: "بأن أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما خرجوا من البحر عراة، صلوا قعودا
بإيماء". أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وقال الزيلعي "غريب".
انظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 583، 584؛ نصب الراية 1/ 301؛ شرح فتح القدير 1/ 264.
لم يذكر المصنف دليل الشافعي كعادته، ودليلهم من العقل كما ذكره الشيرازي:
"وإن لم يجد =
(1/144)
مسألة: 52 - الترتيب في قضاء الفوائت
والترتيب في قضاء الفوائت شرط، إذا كان أقل من يوم وليلة، وإذا كان أكثر يسقط
ترتيب الصلاة عندنا (1)، وعند الشافعي: الترتيب لا يكون شرطا لا من القليل ولا من
الكثير (2).
واحتج الشافعي: لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نسي
صلاته أو نام عليها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقت لها" (3) ولم يشترط
الترتيب.
لنا في المسألة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن عليه صلاة
الفرض" (4) ولو لم يكن الترتيب واجبا، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
"لا صلاة لمن عليه صلاة الفرض".
__________
= شيئا يستر به العورة، صلى عريانا، ولا يترك القيام .. ؛ [لأنه بالقعود] يترك
القيام والركوع والسجود على التمام، ويحصل ستر القليل من العورة، والمحافظة على
الأركان أولى من المحافظة على بعض الفرض.
انظر: المهذب 1/ 73؛ المجموع 3/ 189.
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 29؛ القدوري، ص 11؛ تحفة الفقهاء 4/ 361 - 368؛
البدائع 1/ 371؛ الهداية 1/ 72، 73.
(2) بل الترتيب مستحب في المذهب. انظر: المهذب 1/ 61؛ المجموع 3/ 75.
(3) الحديث أخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها
إذا ذكرها" واللفظ لمسلم.
انظر: البخاري، في المواقيت، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر ولا يعيد تلك الصلاة
(597)، 2/ 70؛ مسلم، في المساجد، باب قضاء الفائتة واستحباب تعجيل قضائها (684)،
1/ 477.
(4) لم أعثر على الحديث بهذه الزيادة وإنما الذي ورد: "لا صلاة لمن عليه
صلاة"، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل بإسناده عن إبراهيم الحربي قال: سئل
أحمد بن حنبل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن عليه
صلاة"، فقال: لا أعرف هذا ولا سمعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
انظر: ابن الجوزي، العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 443.
والأصل عندهم في قضاء الفوائت القليل بالترتيب "ما أخرجه الترمذي عن ابن
مسعود، =
(1/145)
مسألة: 53 - التكبير بغير الله أكبر
ينعقد التكبير بكل اسم من أسماء الله عز وجل، بأي لسان كان عندنا (1)، وعند
الشافعي: لا ينعقد إلا بقوله: الله أكبر، أو الله الأكبر (2).
احتج الشافعي: بقوله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة:
"إذا رفعت يدك، فقل: الله أكبر" (3)، فقد شرط فيه التكبير (4).
__________
= والنسائي عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شغل عن أربع صلوات
يوم الخندق قضاهن بعد هوى من الليل على الترتيب".
الترمذي، في أبواب الصلاة، باب الرجل تفوته الصلاة بأيتهن يبدأ (179)، وقال: ليس
بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله 1/ 338؛ النسائي، في الأذان،
باب الأذان للفائت من الصلوات 2/ 17.
انظر طرقه بالتفصيل: نصب الراية 2/ 164 - 166.
وانظر أدلة الأحناف بالتفصيل: البدائع 1/ 371، 372.
(1) نحو أن يقول: "الله الأكبر، الله الكبير، الله أجل، الله أعظم، أو يقول:
الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله، وكذلك كل اسم ذكر مع الصفة: الرحمن
أعظم، الرحيم أجل، سواء كان يحسن التكبير، أو لا يحسن. وكذلك: لو افتتح بالفارسية
بأن قال: "خداي بزركز، أو خداي بزرك، يصير شارعا في الصلاة عند أبي حنيفة".
انظر: القدوري، ص 9؛ تحفة الفقهاء 1/ 215؛ البدائع 1/ 367، 370؛ الهداية 1/ 47.
(2) وقال الشافعي: "ومن لم يحسن التكبير بالعربية، كبر بلسانه ما كان وأجزأه،
وعليه أن يتعلم التكبير ... ".
انظر: الأم 1/ 100؛ المهذب 1/ 77؛ الوجيز 1/ 41؛ المنهاج، ص 10.
(3) حديث المسيء في صلاته، رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:
"إذا قمت إلى الصلاة فكبر ... ".
انظر الحديث بطوله: البخاري، في الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم (757)،
2/ 237؛ مسلم، في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397)، 1/ 298.
(4) انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 3/ 254 - 257.
(1/146)
لنا في ذلك: قوله تعالى: {قل ادعوا
الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (1) لم يفصل بين اسم واسم،
والمعنى في المسألة: وهو أنها عبادة، تفتتح باسم من أسماء الله تعالى، لا على سبيل
النداء، فوجب أن تستوي فيها جميع الأذكار (2)، دليله: لفظ الإيمان (3).
مسألة: 54 - حكم تكبيرة الإحرام
التكبير سنة، يدخل به المصلي في الصلاة عندنا (4)، وعند الشافعي: هو من الصلاة
(5).
دليلنا، قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى, وذكر اسم ربه فصلى} (6)، عقب الصلاة على
الذكر، فهذا يدل على أن التكبير غير الصلاة (7).
__________
(1) سورة الإسراء: آية 110.
(2) انظر الأدلة بالتفصيل: البدائع 1/ 367 - 370.
لم يذكر المؤلف دليل الجواز بغير اللسان العربي، ودليلهم: كما ذكره الكاساني - بأن
النص الوارد في اعتبار مطلق الذكر، واعتبر معنى التعظيم، وكل ذلك حاصل بالفارسية.
انظر: البدائع 1/ 370.
(3) بمعنى، أن التكبير لا يشترط فيه لفظ معين كالإيمان، بجامع الذكر، فيقال في
الإيمان: أسلمت، آمنت، ونحوه.
انظر: السرخسي، شرح السير الكبير للشيباني 5/ 2261.
(4) تحرير المسألة: أن التكبير شرط من شروط الصلاة، عند الأحناف، وإنما السنة هي:
رفع اليدين مع التكبير.
انظر: القدوري، ص 9؛ المبسوط 1/ 11؛ البدائع 1/ 367؛ الهداية 1/ 47.
(5) التكبير ركن من أركان الصلاة عند الشافعية.
انظر: الأم 1/ 100؛ المهذب 1/ 77؛ الوجيز 1/ 40؛ المنهاج، ص 10.
(6) سورة الأعلى: آية 14، 15.
(7) انظر الأدلة بالتفصيل: البدائع 1/ 367، وراجع حديث المسيء في صلاته، تلخيص
الحبير 1/ 217.
(1/147)
واحتج الشافعي وقال: هذا ذكر يشترط
وجوده لصحة الصلاة، فوجب أن يكون من الصلاة (1)، دليله: القرآن (2).
مسألة: 55 - قراءة الفاتحة في الصلاة
تجوز الصلاة، بغير فاتحة الكتاب عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تجوز (4).
دليلنا، قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} (5)، ولم يفصل بين فاتحة الكتاب
وغيرها، والمعنى في المسألة: أنه أتى بما يقع عليه اسم القرآن، فوجب أن تصح صلاته،
كما لو أتى بأقل ما يقع عليه اسم الركوع (6).
__________
(1) استدل المؤلف للشافعية بالقياس فقط، مع وجود أدلة نقلية، أوردها الشيرازي:
كحديث علي رضي الله عنه مرفوعا: "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير،
وتحليلها التسليم"، وبحديث أبي هريرة: المسيء في صلاته، السابق تخريجه في
المسألة (53)، ص 146.
قال النووي معلقا عليه: "وهذا أحسن الأدلة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم
يذكر في هذا الحديث إلا الفروض خاصة".
انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 3/ 252، 253.
(2) مقصود المؤلف الاستدلال للشافعية بأن التكبير داخل في الصلاة، كالقرآن بجامع
أن كلا منهما ذكر يشترط وجوده لصحة الصلاة.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف بين المذهبين بما يأتي: فيما لو كبر تكبيرة الإحرام، وفي يده
نجاسة ثم ألقاها في أثناء التكبيرة، أو شرع في التكبيرة قبل ظهور زوال الشمس، ثم
ظهر الزوال قبل فراغها، فلا تصح صلاته عند الشافعية في الصورتين، وتصح عند
الأحناف.
انظر: المجموع 3/ 253.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 28؛ القدوري، ص 10؛ تحفة الفقهاء 1/ 223؛ الهداية 1/
54.
(4) انظر: الأم 1/ 107؛ المهذب 1/ 79؛ التنبيه، ص 25؛ الوجيز 1/ 42؛ المنهاج، ص
10.
(5) سورة المزمل: آية 20.
(6) راجع أدلة الأحناف، بالتفصيل: البدائع 1/ 433، 434.
(1/148)
احتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - في رواية عبادة بن الصامت، أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب" (1).
قلنا: وقد روى، رواية أخرى: "لا صلاة إلا بقرآن" (2).
مسألة: 56 - أثر صلاة المرأة بجنب الرجل
إذا صلت المرأة إلى جنب الرجل، تبطل صلاته عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تبطل (4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أخروهن من حيث
أخرهن الله" (5)، فالله تعالى أمرنا بتأخيرهن، فالرجل مأمور بأن
__________
(1) حديث عبادة رضي الله عنه أخرجه الجماعة:
البخاري، في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات (756)، 2/
236؛ مسلم، في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (394)، 1/ 295؛ وراجع
أدلة الشافعية بالتفصيل: المجموع 3/ 318 - 327.
(2) أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه
قال: "لا صلاة إلا بقراءة". مسلم، في الصلاة، باب وجوب الفاتحة في كل
صلاة (396)، 1/ 297.
(3) ولا تبطل الصلاة بالمحاذاة إلا بتوفر شروط، وهي: "محاذاة مشتهاة، منوية
الإمام، في ركن صلاة مطلقة، مشتركة تحريمة وأداء مع اتحاد مكان وجهة دون حائل
وفرجة". وإن قامت المرأة "في صف الرجال: تفسد صلاة رجل، كان عن يمينها،
ورجل كان عن يسارها، ورجل خلفها بحذائها".
انظر: القدوري، ص 10؛ تحفة الفقهاء 1/ 360؛ البدائع 1/ 431؛ الهداية 1/ 57؛ حاشية
سعد جلبي على فتح القدير 1/ 362.
(4) قال النووي: "صلاة المرأة قدام رجل، وبجنبه مكروهة، ويصح صلاتها وصلاة
المأمومين الذين تقدمت عليهم، أو حاذتهم عندنا، وعند الجمهور".
انظر: الأم 1/ 170؛ المهذب 1/ 107؛ المجموع 4/ 193.
(5) الحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، في
حديث طويل، وقال الزيلعي: "غريب مرفوعا".
انظر: مصنف عبد الرزاق 3/ 149؛ نصب الراية 2/ 36.
(1/149)
يؤخرها، فإذا [حاذاها] (1) فقد ترك
الأمر، ومحاذاة المرأة للرجل، توجب فساد الصلاة (2).
واحتج الشافعي: بما روى أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه
قال: "لا تقطع الصلاة المرأة" (3).
مسألة: 57 - هل التسمية من القرآن؟
التسمية: آية من القرآن في سورة النمل (4)، وليست التسمية آية في سائر السور عندنا
(5)، وعند الشافعي: آية من فاتحة
__________
(1) في الأصل (أحاذها) بالهمزة، ولم أعثر في كتب اللغة (أحاذها) بمعنى الموازاة
والمماثلة، وإنما جاءت بمعنى (الإعطاء). ولعلها زيادة من الناسخ.
انظر: الصحاح؛ لسان العرب؛ المصباح، مادة: (حذا).
(2) راجع الأدلة بالتفصيل: فتح القدير 1/ 360 - 364.
(3) الحديث أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي عنه، قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤا ما استطعتم، فإنما هو
شيطان"، وفي السند مجالد بن سعيد، وهو: سيء الحفظ، لكنه يتقوى بما روى عن أبي
أمامة مرفوعا: "لا يقطع الصلاة شيء"، ونحوه عن أبي هريرة وأنس مرفوعا -
رضي الله عنهم - أبو داود، في الصلاة، باب لا يقطع الصلاة شيء (719)، وفي باب من
قال المرأة لا تقطع الصلاة 710 - 714، 1/ 189، 190؛ سنن الدارقطني 1/ 368؛ السنن
الكبرى 2/ 369.
انظر: شرح السنة للبغوي 2/ 462. وقال النووي: "وعمدتنا أن الأصل أن الصلاة
صحيحة، حتى يرد دليل صحيح شرعي في البطلان".
انظر أدلهم بالتفصيل: المجموع 3/ 233، 234.
(4) آية سورة النمل هي قوله سبحانه وتعالى: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن
الرحيم} آية: 30.
(5) لا من الفاتحة ولا من رأس كل سورة إنما أنزلت للفصل بين السور والافتتاح بها
تبركا.
انظر: المبسوط 1/ 15، 16؛ تحفة الفقهاء 1/ 221، 222.
(1/150)
الكتاب (1) وآية من أوائل كل سورة (2).
دليلنا في ذلك، قوله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما
سأل" (3)، وهذا إنما يستقيم إذا لم تكن التسمية في الفاتحة؛ لأن في قوله
{الحمد لله} إلى قوله {إياك نعبد} ثلاث آيات ونصف، ثم من بعد ثلاث آيات ونصف، إذا
قلتم:
__________
(1) "وقد أجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات، واختلف في السابعة: فمن جعل
البسملة آية، قال: السابعة {صراط الذين} إلى آخر السورة، ومن نفاها قال: {صراط
الذين أنعمت عليهم} سادسه، و {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} هي السابعة".
انظر: تفسير القرطبي 1/ 114: تفسير البيضاوي 1/ 5: شرح معاني الآثار 1/ 201: نصب
الراية 1/ 334.
(2) والمذهب: أن البسملة آية من أول الفاتحة بلا خلاف، وكذلك هي آية كاملة من أول
كل سورة غير براءة على الصحيح من المذهب، ثم هي في الفاتحة وغيرها قرآن على سبيل
الحكم لا على القطع، إذ لا خلاف بين المسلمين أن نافيها لا يكفر، ولو كانت قرآنا
قطعا لكفر، كمن نفى غيرها. كما ذكره النووي.
انظر: الأم 1/ 107؛ المهذب 1/ 79: الوجيز 1/ 42: المنهاج، ص 10: المجموع 3/ 290،
291.
(3) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه سمع النبي - صلى الله عليه
وسلم - يقول: "قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما
سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: أثنى على عبدي.
وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) فإذا قال:
{إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال:
{اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين}. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل":
مسلم، في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (395)، 1/ 296، وجه الاستدلال
من الحديث الشريف: استدل من النص من وجهين: قال السرخسي في أحد الوجهين:
"فالبداءة بقوله: {الحمد لله رب العالمين} دليل على أن التسمية ليست بآية من
أول الفاتحة". المبسوط 1/ 16.
(1/151)
إن التسمية آية من فاتحة الكتاب جعلتم
أربع آيات ونصف [نصف] الفاتحة (1).
واحتج الشافعي وقال: إن التسمية [آية] في كل سورة، فإنه يبدأ بها في الكتابة، ولو
لم تكن من القرآن على رأس كل سورة لما بدأوا بها الكتابة (2).
__________
(1) والوجه الثاني كما ذكره المؤلف بتقسيم آيات الفاتحة نصفين متساوين إذ لو جعلت
التسمية من الفاتحة يصبح النصف الأول أربع آيات ونصف، والنصف الثاني آيتين ونصف،
فلم تتحقق المناصفة، وهذا خلاف تصريح الحديث، وهذا على أساس اعتبار الفاتحة سبع
آيات بدون التسمية كما مر.
وقال السرخسي: "والسلف اتفقوا على أن سورة الكوثر ثلاث آيات، وهي ثلاث آيات
بدون التسمية، ولأن أدنى درجات اختلاف الأخبار والعلماء إيراث الشبهة، والقرآن لا
يثبت مع الشبهة فإن طريقه طريق اليقين والإحاطة". المبسوط 1/ 16.
انظر أدلة الحنفية بالتفصيل: نصب الراية 1/ 323 وما بعدها.
(2) واستدل الشافعية من النقل بما أخرجه: ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في سننه،
والحاكم في مستدركه عن طريق عمر بن هارون، عن أم سلمة، "أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، وعدها آية، و {الحمد لله رب
العالمين}، آيتين، و {وإياك نستعين}، وجمع خمس أصابعه".
وعمر ضعيف، نقل الزيلعي الإجماع على ضعفه عن علماء الحديث بل منهم من كذبه، ونقل
النووي أحاديث أخرى، إلا أنه قوى الاستدلال، بكتابتها في المصاحف، حيث إن الصحابة
أجمعوا على إثباتها في المصحف جميعا في أوائل السور، بخط المصحف.
انظر: صحيح ابن خزيمة (493)، 1/ 248؛ السنن الكبرى 4/ 42؛ المستدرك 1/ 232؛ شرح
معاني الآثار 1/ 201؛ نصب الراية 1/ 351 - 355: تلخيص الحبير 1/ 232.
انظر بالتفصيل: الأحاديث والآثار التي أوردها البيهقي في السنن 2/ 40 - 45:
المجموع 3/ 290 - 313.
(1/152)
مسألة: 58 - قراءة المأموم
لا تجب القراءة خلف الإمام عندنا (1)، وعند الشافعي: تجب (2).
دليلنا في ذلك: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما جعل
الإمام إماما ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قرأ
فانصتوا" (3). وقال عليه الصلاة والسلام، لما سمع قراءة الذي كان خلفه:
"ما لي أنازع في القرآن" (4)، المعنى: لم تقرأون خلفي.
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 27، القدوري، ص 10: تحفة الفقهاء 1/ 222: الهداية 5/
51: شرح فتح القدير 1/ 338 - 340.
(2) تجب القراءة على المأموم في كل ركعة من الصلاة، السرية منها والجهرية وهذا هو
الصحيح من المذهب.
انظر: مختصر المزني، ص 15: المهذب 1/ 81؛ الوجيز 1/ 42؛ المنهاج، ص 1؛ المجموع 3/
322.
(3) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة وعائشة وأنس رضي الله عنهم: البخاري، في
الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (688، 689)، 1/ 173: مسلم، في الصلاة، باب
ائتمام المأموم بالإمام (414)، 1/ 308، في باب التشهد (404)، 1/ 304.
(4) نص الحديث كما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي
أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: "إني أقول ما لي أنازع
القرآن" قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال أبوداود: "سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله "فانتهى الناس من
كلام الزهري".
أبو داود، في الصلاة، باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام، (826،
827) 1/ 218؛ الترمذي، في أبواب الصلاة، باب في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر
الإمام بالقراءة (312)، وقال: حديث حسن، 2/ 118.
(1/153)
احتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (1) ولم يفصل
بين الإمام وغيره (2).
مسألة: 59 - السنة في التأمين
السنة في التامين: الإخفاء عندنا، إماما كان أو مأموما (3)، وعند الشافعي يجهر به
(4).
دليلنا في ذلك: وهو أن التأمين ليس من القراءة بل هو تسبيح، فيكون السنة فيه
الإخفاء (5)، دليله: سائر التسبيحات (6).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عه وقد سبق تخريجه في
المسألة (55)، ص 149.
(2) راجع المسألة مع أدلتها بالتفصيل: المجموع 3/ 321 - 327.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 26؛ القدوري، ص 9؛ تحفة الفقهاء 1/ 228؛ الهداية 1/
49؛ شرح فتح القدير 1/ 295.
(4) القول الجديد عن الشافعي في المسألة الإسرار كما نص عليه الشافعي: "فإذا
فرغ الإمام من قراءة أم القرآن قال آمين ورفع بها صوته ليقتدي به من كان خلفه،
فإذا قالها قالوها وأسمعوا أنفسهم ولا أحب أن يجهروا بها فإن فعلوا فلا شيء
عليهم"، والجهر بالتأمين هو من القول القديم، إلا أن أئمة الشافعية المحققين
رجحوا في هذه المسألة: القديم على الجديد من ضمن المسائل التي يفتى فيها بالقديم
كلا ذكر هذا النووي في مقدمة كتابه المجموع.
انظر: الأم 9/ 101؛ المهذب 1/ 79، 80؛ التنبيه، ص 22، 23؛ الوجيز 1/ 43؛ المنهاج،
ص 11؛ المجموع 1/ 109، 3/ 332.
(5) قال السمرقندي: "لأنه من باب الدعاء، والأصل في الدعاء المخافتة دون
الجهر" تحفة الفقهاء 1/ 228؛ الهداية 1/ 49.
(6) واستدل الأحناف من النقل بأدلة كثيرة، منها: ما أخرجه الترمذي والحاكم عن طريق
شعبة عن وائل بن حجر بلفظ (فقال: آمين، وخفض بها صوته"، قال الترمذي:
"سمعت عمدا - البخاري - يقول: "حديث سفيان - الذي روى بالجهر - أصح من
حديث شعبة في هذا، وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث .. وقال: "وخفض بها
صوته" وإنما هو"مد بها =
(1/154)
والشافعي: جعله من القراءة فشرطه الجهر
(1).
مسألة: 60 - عبور الجنب للمسجد
يجوز للجنب العبور في المسجد لحاجة، ولا يجوز لغير حاجة (2)، وعند الشافعي: يجوز
لحاجة ولغير حاجة، وإنما المقام فيه لا يجوز (3).
__________
= صوته"، وروى نحوه عن أبي زرعة، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد
ولم يخرجاه".
انظر: الترمذي، في أبواب الصلاة، ما جاء في التأمين (248)، 1/ 28، 29؛ المستدرك 2/
232؛ نصب الراية 1/ 369. وراجع أدلتهم بالتفصيل: شرح فتح القدير 1/ 295.
(1) قال الشيرازي: وهو "تابع للفاتحة فكان حكمه حكمها في الجهر كالسورة"
المهذب 1/ 80.
واستدل الشافعية في الجهر بالتأمين بأحاديث منها: ما أخرجه أبو داود والترمذي عن
وائل بن حجر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {ولا الضالين}
قال: "آمين" ورفع بها صوته. وفي رواية: "حتى يسمع من يليه من الصف
الأول"، وفي رواية الترمذي: "ومد بها صوته"، رواه ابن ماجة وزادا
"فيرتج بها المسجد":
أبو داود، في الصلاة، باب التأمين وراء الإمام (932، 934)، 1/ 246؛ الترمذي نحوه
(248) وقال: حديث حسن 2/ 27.
وانظر ما ذكره أحمد محمد شاكر في سند الحديث في تحقيقه وشرحه للترمذي 2/ 27، 28.
وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه، في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجهر في
التأمين (853)، قال البوصيري في الزوائد: "في إسناده أبو عبد الله لا يعرف،
وبشر ضعفه أحمد، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه
بسند آخر. ابن ماجة 1/ 278. راجع المصادر السابقة للشافعية.
(2) أطلق جواز العبور للحاجة بدون ذكر شرط، والصحيح أنه يجوز العبور لحاجة بشرط
تقديم التيمم على الدخول كما صرحت به كتب المذهب.
قال الكاساني: ولا يباح للجنب دخول المسجد، وإن احتاج إلى ذلك يتيمم ويدخل، سواء
كان الدخول لقصد المكث أو للاجتياز".
انظر: البدائع 1/ 165؛ المبسوط 1/ 118؛ تحفة الفقهاء 1/ 59؛ الهداية وشرح فتح
القدير 1/ 165، 166.
(3) انظر: الأم 4/ 51؛ أحكام القرآن (للشافعي) 1/ 83؛ المهذب 1/ 37؛ الوجيز 1/ 18؛
المجموع 2/ 173.
(1/155)
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه [نهى] الحائض والجنب عن دخول المسجد" (1).
واحتج الشافعي: الأدمي أصله طاهر، فوجب أن لا يمنع عن عبور في المسجد، دليله: إذا
كان لحاجة (2).
مسألة: 61 - مواقع رفع الأيدي في الصلاة
لا ترفع الأيدي في الصلاة إلا عند الافتتاح عندنا (3)، وعند الشافعي: ترفع عند
القيام وعند رفع الرأس من الركوع والسجود (4).
__________
(1) الحديث رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا
جنب". أبو داود، في الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد (232)، 1/ 60، ورواه
ابن ماجة عن أم سلمة بلفظ نحوه، في الطهارة وسننها، باب ما جاء في اجتناب الحائض
المسجد (645)، وقال البوصيري في الزوائد في إسناد الحديث: "إسناده ضعيف،
محدوج لم يوثق. وأبو الخطاب مجهول".
انظر ابن ماجة 1/ 212.
(2) واستدل الشافعي بقول الله تعالى {ولا جنبا إلا عابري سبيل} (النساء: 43)، وقال
"فلا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارا ولا يقيم فيه للآية".
وقال النووي: "وأحسن ما يوجه به هذا المذهب أن الأصل عدم التحريم وليس لمن
حرم دليل صحيح صريح".
انظر: الأم 1/ 54؛ أحكام القرآن (للشافعي) 1/ 83؛ وبالتفصيل: المجموع 2/ 173 -
176.
(3) انظر: القدوري، ص 9؛ تحفة الفقهاء 1/ 218؛ الهداية 1/ 46.
(4) رفع الأيدي في تكبيرة الركوع والرفع منه سنة، في مذهب الشافعية كما نص عليه
النووي، وأما الرفع عند رفع الرأس من السجود، فلم يصح عن أحد من الأئمة.
انظر: الأم 1/ 110؛ التنبيه، ص 25؛ الوجيز 1/ 41؛ المنهاج، ص 10، 11؛ المجموع 3/
367؛ المدونة الكبرى 1/ 68؛ المغني (لابن قدامة) مع الشرح الكبير 1/ 537، 553.
(1/156)
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -، أنه قال لأصحابه: "ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل
شمس، اسكنوا في الصلاة" (1)، وهذا نص في هذا الباب (2).
واحتج الشافعي بالمعنى، فقال: إنه تكبير شرع في الصلاة، فوجب أن يكون رفع اليدين
شرطا (3)، دليله: تكبيرة الافتتاح.
مسألة: 62 - قراءة القرآن بالعجمية في الصلاة
إذا عبر فاتحة الكتاب أو القرآن بالفارسية أو بالعجمية، فقرأها في الصلاة، فإنه
تصح صلاته عندنا (4)، وعند الشافعي: لا تصح (5).
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة: مسلم، في الصلاة، باب الأمر
بالسكون في الصلاة (430)، 1/ 322.
(2) انظر أدلة الأحناف بالتفصيل: نصب الراية 1/ 389 - 407.
(3) استدل المؤلف للشافعية بالقياس فقط، مع وجود أحاديث صحاح وحسان كثيرة، استدلت
بها الشافعية لمذهبهم، منها: ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا افتتح الصلاة، رفع يديه حذو
منكبيه، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا ... "
الحديث: البخاري، في الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح
(735)، 1/ 272؛ مسلم، في الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين (390)، 1/
292.
انظر الأدلة بالتفصيل: السنن الكبرى، باب رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس
منه 2/ 68 - 76؛ المجموع 3/ 264، فما بعدها 423 - 426.
(4) تجوز قراءة الفاتحة بأي لغة عند أبي حنيفة مطلقا مع الكراهة، وعند الصاحبين لا
تجوز إلا عند العجز، وقال البابرتي: "وروى أبو بكر الرازي أن أبا حنيفة رجع
إلى قولهما (وعليه الاعتماد) لتنزله منزلة الإجماع".
انظر: المبسوط 71 - 3؛ البدائع 1/ 329، 335؛ العناية (مع شرح فتح القدير على
الهداية)، 1/ 285، 286.
(5) مذهب الشافعية: أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب مطلقا، فإن أتى بها
في صلاة أتصح صلاته، فإن عجز أتى بذكر .. فإن لم يحسن شيئا وقف قدر الفاتحة".
انظر: المجموع مع المهذب 3/ 335، 340 - 343؛ المنهاج، ص 11.
(1/157)
دليلنا في ذلك، قوله تعالى: {إن هذا
لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى} (1) وصحف إبراهيم وموسى ليست على لسان
العرب.
وروى عن عبد الكه بن مسعود أنه كان يلقن الرجل هذه الأية، قوله تعالى: {إن شجرت
الزقوم (43) طعام الأثيم} وكان لسان الرجل لا يقدر أن يقول هذه الكلمة، فعجز عن
الإتيان في لفظه، فقال له: قل طعام الفاجر، فدل على أنه يجوز بلغة أخرى (2).
والدليل عليه: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى العرب والعجم، وأمره
بالإنذار فكان ينذر العرب بلغته وبلسانه وينذر العجم بلسانه (3) دل على أنه يجوز.
احتج الشافعي، وقال؛ لأن الله تعالى قال في كتابه {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} (4)
فدل أن القرآن عربي، فإذا عبر بعبارة أخرى، لم تجز صلاته؛ لأنه لم يقرأ القرآن،
وقراءة القرآن شرط لجواز الصلاة (5).
__________
(1) سورة الأعلى: آية 18، 19.
(2) روى الطبري رحمه الله هذه الرواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه فقط: "عن
همام، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا: {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} (الدخان: 43،
44)، قال: فجعل الرجل يقول: إن شجرة الزقوم طعام اليتيم. قال: فلما أكثر عليه أبو
الدرداء فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم، طعام الفاجر".
الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل أي القرآن، الطبعة الثانية
1388 هـ (مصر: شركة مصطفى الحلبي)، 25/ 131.
(3) والدليل عليه قوله تبارك وتعالى {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا
........ } سورة سبأ: آية 28، وقوله تعالى: {قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم
جميعا ....... } سورة الأعراف: آية 158.
(4) سورة يوسف، آية 2.
(5) قال النووي: "وترجمة القرآن ليست قرآنا؛ لأن القرآن هو النظم المعجز،
وبالترجمة يزول الإعجاز". انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 3/ 342، 343.
(1/158)
مسألة: 63 - التحميد للإمام
إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، يقول المأموم: ربنا لك الحمد، ولا يقول
الإمام: ربنا لك الحمد، [عندنا] (1)، وعند الشافعي: يقول: ربنا لك الحمد، كما
يقول: سمع الله لمن حمده (2).
دليلنا: ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قال
الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد" (3)، والنبي - صلى الله
عليه وسلم - قسم بين الإمام والمأموم هذا الذكر.
مسألة: 64 - الكلام في الصلاة ناسيا
من تكلم في صلاف، تبطل صلاته عندنا إذا كان ناسيا أو ذاكرا (4)، وعند الشافعي: لا
تبطل صلاته إذا كان ناسيا (5).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 27؛ القدوري، ص 9؛ تحفة الفقهاء 1/ 131؛ الهداية 1/
49.
(2) انظر: الأم 1/ 112؛ التنبيه، ص 23؛ الوجيز 1/ 43؛ المنهاج، ص 11؛ المجموع 3/
387.
(3) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: البخاري، في
الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (689)، 2/ 173؛ مسلم، في الصلاة، باب
التسميع والتحميد والتأمين، وباب إنما جعل الإمام ليؤتم به (409، 411، 414)، 1/
306، 308.
لم يستدل المؤلف للشافعي كعادته، واستدل النووي، بما رواه الشيخان من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال سمع الله
لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد ... الحديث".
البخاري، في الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع (795)،
2/ 282؛ مسلم، في الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه
من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده (392)، 1/ 293، 294.
(4) انظر: القدوري، ص 11، المبسوط 1/ 170؛ البدائع 2/ 577؛ الهداية 1/ 61.
(5) إذا تكلم ناسيا كونه في الصلاة، أو جاهلا تحريم الكلام فيها، وكان ذلك يسيرا،
لم تبطل صلاته عند الشافعية بلا خلاف، كما نص عليه النووي في المجموع وغيره. =
(1/159)
دليلنا في ذلك وهو: أن كل ما كان
مناقضا للصلاة، لا يغير الحال بين الناسي والعامد، كالحدث (1).
والشافعي احتج: بدليل ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (2).
والدليل عليه وهو: أن هذا كلام الناسي، فوجب أن لا يخرجه من الصلاة، [كـ]ــسلام
الساهي عندكم (3).
__________
= انظر: الأم 1/ 124؛ المهذب 1/ 94؛ الوجيز 1/ 48، 49؛ المجموع 1/ 14؛ المنهاج، ص
14.
(1) واستدل السرخسي من النقل بحديث ابن مسعود رضي الله عنه حينما قدم من الحبشة
فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صلاته فلم يرد عليه السلام، وعندما
فرغ قال له: "يا ابن مسعود إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث
أن لا يتكلم في الصلاة".
أخرجه الشيخان بلفظ: "إن في الصلاة شغلا": البخاري، في العمل في الصلاة،
باب لا يرد السلام في الصلاة (1216)، 3/ 86؛ مسلم، في المساجد، باب تحريم الكلام
في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (538)، 1/ 382.
انظر: المبسوط 1/ 170، 171.
(2) الحديث أخرجه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، عن ابن عباس
رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: "إن الله وضع عن أمتي الخط
والنسيان وما استكرهوا عليه" قال البوصيري في زوائد ابن ماجة: "إسناده
صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع" وقال الحاكم: "صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال النووي في الأربعين: "حديث حسن".
انظر: ابن ماجة، في الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2045)، 1/ 659؛ المستدرك 2/
198؛ الأربعين النووية، الحديث التاسع والثلاثون؛ نصب الراية 2/ 64، 65.
(3) انظر: المبسوط 1/ 171.
(1/160)
مسألة: 65 - الصلاة في الأوقات المنهي
عنه
هل تجوز الصلاة في الأوقات المنهي (1) عن الصلاة فيها أم لا؟ عندنا لا تجوز (2)،
وعند الشافعي: تجوز إذا كان له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الجنازة (3).
دليلنا في المسألة: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا وقت الزوال حتى
تزول" (4) والخبر عام.
والشافعي احتج: بدليل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الصلاة خير دائم، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر (5).
__________
(1) الأوقات المنهى عن الصلاة: بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوع الشمس إلى
أن ترتفع وتبيض، ووقت استواء الشمس حتى تزول، وبعد صلاة العصر حتى تغرب، ووقت
احمرار الشمس واصفرارها حتى تغرب.
انظر: الأم 1/ 147؛ تحفة الفقهاء 1/ 187 - 193؛ القدوري، ص 12.
(2) قال القدوري: ولا بأس بأن يصلي بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة
العصر حتى تغرب، "الفوائت ويسجد للتلاوة ويصلي على الجنازة".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 24؛ القدوري، ص 12؛ المبسوط 1/ 150، 151؛ تحفة الفقهاء 1/
187 - 190؛ الهداية 1/ 40.
(3) انظر: الأم 1/ 147 - 149؛ التنبيه، ص 27؛ المهذب 1/ 99، 150؛ الوجيز 1/ 35؛
المنهاج، ص 9؛ المجموع 4/ 77.
(4) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد، ولا يوجد فيه ذكر وقت الزوال ولكن
ذكره مسلم، من حديث عقبة بن عامر الجهني:
البخاري، في المواقيت، لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس (586)، 2/ 61؛ مسلم، في
صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها (827، 831) 1/ 567 - 569.
(5) الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:
"الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر" كما ذكره السيوطي في
الجامع الصغير 2/ 51.
(1/161)
مسألة: 66 - حكم الوتر
الوتر واجب عندنا (1)، وعند الشافعي: سنة مؤكدة (2).
دليلنا: ما روى عن عمرو (3) بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال:
"إن الله تعالى زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الوتر، حافظوا
عليها" (4).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 10؛ المبسوط 1/ 155؛ تحفة الفقهاء 1/ 321، 322؛ بدائع
الصنائع 2/ 685؛ الهداية 1/ 65.
(2) انظر: الأم 1/ 142؛ التنبيه، ص 26؛ الوجيز 1/ 54؛ المنهاج، ص 16؛ المهذب
والمجموع 3/ 505 - 507، 515.
(3) هو أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي
السهمي المدني، اختلف فيه هل هو من التابعين أم من تابعي التابعين؟ قال الدارقطني:
إنه ليس من التابعين، وقال المزي: أنه من التابعين، وأثبت له سماعا من صحابيين،
وهو صدوق ثقة في نفسه، وإنما تكلم فيه بسبب كتاب كان عنده يرويه عن أبيه عن جده،
وكذا وقع الاختلاف في الاحتجاج بروايته عن أبيه عن جده، والمختار صحة الاحتجاج به
كما قال الأكثرون، قال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده، قال خليفة: مات منة ثماني عشرة ومائة.
انظر ترجمته: تهذيب الأسماء واللغات (18)، 2/ 28 - 30؛ تهذيب التهذيب 8/ 48 فما
بعدها؛ خلاصة تهذيب تهذيب الكمال، ص 290.
(4) حديث عمرو بن شعيب بنصه كما رواه الدارقطني:
عن أبي حمزة، قال: سمعت محمد بن عبيد الله يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده،
قال: مكثنا زمانا لا نزيد على الصلوات الخمس، فأمرنا رسول الله فاجتمعنا، فحمد لله
وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله زادكم صلاة فأمرنا بالوتر"،
قال الدارقطني: محمد بن عبيد الله العرزمي ضعيف. وقال الزيلعي: "ونقل ابن
الجوزي عن النسائي وأحمد، والفلاس: أنه متروك الحديث، ورواه أحمد في مسنده عن
الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب، والحجاج غير ثقة".
سنن الدارقطني 2/ 31؛ ومسند الإمام أحمد 2/ 208.
انظر: نصب الراية 2/ 110.=
(1/162)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"زادكم صلاة" فهذا دليل على أنه واجب من جهة الشرع، والسنة ليست بواجب.
احتج الشافعي، وقال: أجمعت الأمة (1) على أن الصلاة المفروضة خمس، فمن قال: بأن
الوتر واجب (2) فقد جعله ستا، وهذا لا يجوز.
__________
= وأما الحديث بلفظ المؤلف فقد رواه عمرو بن العاص وعقبة بن عامر، ورواه خارجة بن
حذافة بلفظ "إن الله أمدكم ... الحديث، وحديثه أخرجه: أبو داود، في الصلاة،
باب استحباب الوتر (1418)، 1/ 61؛ الترمذي (452)، وقال: "حديث غريب" 2/
314؛ وابن ماجة (1168)، 1/ 369؛ والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم
يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي 1/ 306.
انظر: فصل القول في أحاديث الوتر: نصب الراية 32/ 108 - 115.
(1) يشير بهذا إلى ما رواه الشيخان عن، طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال:
"جاء رجل من أهل نجد، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا إلا أن
تطوع ... الحديث" وما روى نحوه عن معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، وقال له
فيما قال: "فإن أطاعوك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم
والليلة".
وقال النووي: "وهذا من أحسن الأدلة؛ لأن بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن كان
قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأيام قليلة جدا".
البخاري، في الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (46)، 1/ 106؛ مسلم، في الإيمان، باب
الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11)، 1/ 40.
انظر: المجموع 3/ 516، 517، وراجه ما أورده البيهقي من الأحاديث في "باب ذكر
البيان أن لا فرض في اليوم والليلة من الصلوات من خمس وأن الوتر تطوع" 2/ 466
فما بعدها.
(2) وقوله: "فمن قال: بأن الوتر واجب فقد جعله ستا" غير مستقيم؛ لأن
الأحناف لم يقولوا بفرضيتها حتى تصبح ستا، وإنما قالوا بوجوبها. والواجب عندهم دون
الفرض كا هو معلوم في كتب الأصول.
انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1/ 58.
(1/163)
مسألة: 67 - أثر صلاة الكافر مع
الجماعة
الكافر إذا صلى بجماعة، هل يحكم بإسلامه؟ عندنا يحكم بإسلامه إذا كان بجماعة (1)،
وعند الشافعي: لا يحكم بإسلامه (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصلاة بجماعة من شعار الإسلام، فإذا أتى به وجب أن
يحكم بإسلامه (3)، دليله إذا صلى وأظهر كلمة الشهادة.
احتج الشافعي، وقال: الإسلام: إقرار باللسان واعتقاد بالقلب، ولم يوجد الإقرار
باللسان، والاعتقاد أمر باطن لا يمكن الوقوف عليه، فكيف يحكم بإسلامه (4)، ألا ترى
أنه إذا قرأ آية من القرآن لا يحكم بإسلامه.
__________
(1) ويشترط لهذه الصلاة "أن يصلي في الوقت، مع جماعة، مؤتما، متمما".
تنوير الأبصار 1/ 353 مع حاشية ابن عابدين.
(2) انظر: الأم 1/ 168؛ المجموع 4/ 152.
(3) واستدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو منا".
قالوا: المراد به صلاتنا بالجماعة على الهيئة المخصوصة".
الحديث أخرجه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، في الصلاة، باب فضل استقبال القبلة
(391)، 1/ 496، حاشية ابن عابدين 1/ 353.
(4) وقال الشافعي ولم تكن صلاته إسلاما له إذا لم يكن تكلم بالإسلام قبل
الصلاة"، الأم 1/ 168.
واستدل الشافعية من النقل بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله" متفق عليه: البخاري، في الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم (25)، 1/ 75؛ ومسلم، في الإيمان، باب الأمر بقتل الناس
حتى يقولوا لا إليه إلا الله محمد رسول الله (22)، 1/ 53؛ المجموع 4/ 152؛ انظر
مفصلا في باب الأذان 3/ 105، 106.
(1/164)
مسألة: 68 - إمامة الصبي
هل تجوز إمامة الصبي غير البالغ؟ عن أبي حنيفة رحمه الله قولان:
أحدهما: أنه يجوز في النفل ولا يجوز في الفرض، وفي قول: لا يجوز لا في الفرض ولا
في النفل (1) وعند الشافعي: يجوز في الجميع (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن هذا شخص غير مكلف وغير مخاطب، فلا تجوز إمامته، دليله:
المجنون (3).
__________
(1) وتفصيل قول الأحناف في هذه المسألة كالتالي:
اتفق الأحناف على عدم جواز إمامه الصبي في الفرائض؛ لأنه لا يصح منه أداء الفرائض،
لعدم كونه من أهل الفرض، وصلاته تعتبر نفلا.
وأما إمامته في النوافل: فقد اختلف فيه الأحناف على قولين: ذهب مشايخ بلخ إلى
جوازه، وذهب عامة فقهاء الأحناف إلى عدم الجواز، وهذا هو الأصح في المذهب كما ذكره
السرخسي، بل المختار كما ذكره المرغيناني: "والمختار أنه لا يجوز في الصلوات
كلها؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ، حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع، ولا
يبنى القوي على الضعيف".
والصحيح عن أبي حنيفة عدم جواز إمامته مطلقا، كما ذكره الموصلي.
انظر: المبسوط 1/ 180؛ تحفة الفقهاء 1/ 361؛ الهداية 1/ 56، 57؛ الاختبار 1/ 58؛
فتح القدير 1/ 358.
(2) انظر: الأم 1/ 166؛ التنبيه، ص 28؛ المهذب 1/ 104؛ الوجيز 1/ 56؛ المنهاج، ص
17.
(3) واستدل السرخسي للأحناف من النقل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"الإمام ضامن" وقال: "والصبي لا يصلح ضامنا بفلس، فكيف يصح منه
الضمان لصلاة المقتدي".
والحديث أخرجه البيهقي في السنن، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الإمام، وعفا عن
المؤذن".
انظر: السنن الكبرى 1/ 425، 426؛ الدبوسي، تأسيس النظر، (مصر، مطبعة الإمام)، ص
71؛ المبسوط 1/ 180.
(1/165)
وعند الشافعي: إنما تصح؛ لأن المقتدي
يصلي خلف الإمام صلاة نفسه (1)، بدليل: أنه لا يصح دون القراءة (2)، فيصح اقتداءه
بالصبي والمرأة (3).
مسألة: 69 - صلاة المسبوق من إمامه
ما أدرك المسبوق (4) من صلاة إمامه فهوآخر صلاته عندنا (5)، وعند الشافعي: هو أول
صلاته (6).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا
أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تسعون. فعليكم
__________
(1) "ولا شركة بين الإمام والمأموم بل كل في صلاة نفسه أداء وحكما، وإنما
معنى القدوة، المتابعة من أفعاله الظاهرة ليكون أحوط في إبعاد الصلاة عن السهو
والغفلة" الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ص 102.
(2) انظر: المهذب 1/ 81؛ الوجيز 1/ 42؛ المنهاج، ص 11؛ المجموع 3/ 322.
تخريج الفروع على الأصول، ص 103؛ وراجع المسألة (58)، ص 153.
(3) والصحيح من المذهب أنه لا يصح اقتداء رجل ولا صبي بامرأة، ونقل النووي اتفاق
الأصحاب "على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة".
واستدلوا لذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فقال: "إلا ولا تؤمن امرأة رجلا".
رواه البيهقي في السنن وقال: "في إسناده ضعف" 3/ 90؛ والجموع مع المهذب
4/ 154.
انظر: الأم 1/ 164؛ التنبيه، ص 8؛ الوجيز 1/ 55؛ المنهاج، ص 17.
واستدلت الشافعية على جواز إمامة الصبي للبالغين من النقل:
بما روى عن عمرو بن سلمة قال: "أممت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- وأنا غلام ابن سبع سنين" أخرجه البخاري، في المغازي، باب من شهد الفتح
(4302)؛ انظر: فتح الباري 8/ 22، 23؛ (الجموع 4/ 147).
(4) المسبوق: "هو الذي أدرك الإمام بعد ركعة أو أكثر" التعريفات، باب
الميم (المسبوق).
(5) انظر: المبسوط 1/ 35؛ حاشية ابن عابدين 1/ 596.
(6) انظر: الأم 1/ 178؛ المجموع مع المهذب 4/ 119.
(1/166)
بالسكينة والوقار، ما أدركتم فصلوا وما
فاتكم فاقضوا" (1) وما أدركه مع الإمام فهو آخر صلاة الإمام.
واحتج الشافعي، وقال: بأنه أول صلاته، بدليل أنه يحتاج فيه إلى القراءة، فلو كان
آخر صلاته، لكان يكتفي بفاتحة الكتاب (2).
مسألة: 70 - فوائت المرتد
المرتد هل يقضي مافاته من الصلاة؟ عندنا: لا يقضي (3)، وعند الشافعي يقضي (4).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم
السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم "فأتموا"، وفي رواية: "صل ما
أدركت واقض ما سبقك". واللفظ لمسلم، وأورد ابن حجر في الفتح اختلاف الرواة في
لفظ: "فأتموا واقضوا" ثم قال: "والحاصل أن أكثر الروايات بلفظ
"فأتموا" وأقلها بلفظ "فاقضوا".
انظر: البخاري، في الأذان، باب قول الرجل فاتتنا الصلاة (635)، 2/ 116؛ مسلم، في
المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (620)، 1/ 420؛ فتح الباري 2/
116، وما بعدها.
(2) قال الشافعي: "ما أدرك مع الإمام فهو أول صلاته ... وإن فاتته مع الإمام
ركعتان من الظهر وأدرك الركعتين الأخيرتين صلاهما مع الإمام فقرأ بأم القرآن وسورة
إن أمكنه ذلك" الأم 1/ 178.
وانظر: المجموع مع المهذب 4/ 190.
واستدل المؤلف للشافعية هنا بالمعنى فقط، مع استدلالهم بنفس حديث أبي هريرة رضي
الله عنه المذكور آنفا، برواية لفظ "فأتموا"، قال الغزالي والماوردي:
"وإتمام الشيء لا يكون إلا بعد تقدم أوله وبقية آخره". المجموع 4/ 120.
وانظر: ما أورده البيهقي وابن حجر من طرق هذا الحديث: السنن الكبرى 2/ 297، 298؛
فتح الباري 2/ 118، 119.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 29.
(4) انظر: الأم 1/ 70؛ التنبيه، ص 18؛ المجموع مع المهذب، 3/ 5.
(1/167)
دليلنا في المسألة: أن نقول هذا كافر،
ترك الصلاة في حال الكفر، فلا تلزمه الإعادة (1)، دليله: الكافر غير مخاطب
بالشرائع (2).
__________
(1) حيث ألحق المرتد بالكافر الأصلي.
(2) هذا هو المشهور عن أكثر الحنفية وإن كان في الأصل هذا قول للحنفية البخاريين،
كما ذكره الأنصاري: "الكافر مكلف بالفروع عند الشافعية ومشايخنا العراقيين
خلافا للحنفية البخاريين وقيل للمعتزلة أيضا".
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 1/ 128.
انظر: كشف الأسرار 4/ 243؛ تيسير التحرير 2/ 148؛ التلويح على التوضيح 1/ 213.
لم يذكر المؤلف هنا دليل الشافعي كعادته ودليله: حيث إن الشافعي فرق بين المرتد
وبين الكافر الأصلي وإن كان الله تعالى أحبط عمله بالردة إلا أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أبان: "أن عليه القتل إن لم يتب بما تقدم له من حكم
الإيمان" ولذلك يكون "مال المرتد موقوفا ليغنم إن مات على الردة أو على
ملكه إن تاب" خلافا لال الكافر غير المعاهد فإنه يكون مغنوما بحال "فلم
يجز إلا أن يقضي الصلاة ... وكل ما كان يلزم مسلما؛ لأنه كان عليه أن يفعل فلم تكن
معصيته بالردة تخفف عنه فرضا كان عليه". الأم 1/ 70، 71.
وأما مسألة تكليف الكفار بفروع الشرائع عند الشافعية، ففيها خلاف بين علماء الأصول
والفروع وقد وضحها الإمام النووي رحمه الله بقول فصل، وأزال الخلاف حيث يقول:
"وأما الكافر الأصلي فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة
والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، وأما في كتب الأصول فقال جمهورهم:
هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان ... ولبس هو مخالفا لقولهم في الفروع؛
لأن المراد هنا غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع: أنهم لا يطالبون بها في
الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة
الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب
الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعا لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة
في الدنيا فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين وفي الفروع حكم الطرف الآخر، والله
أعلم"، المجموع 3/ 5.
وهذه مسألة فرعية، فرضها الأصوليون مثالا لقاعدة وهي:
"إن حصول الشرط الشرعي، هل هو شرط في صحة التكليف أم لا".
فائدة الخلاف:
وفائدة الخلاف لا تظهر في أحكام الدنيا، فإنهم لو أدوها في حال الكفر لا تكون
معتبرة =
(1/168)
مسألة: 71 - سجود السهو
سجود (1) السهو، عندنا: بعد السلام (2)، وعند الشافعي: قبل الإسلام (3).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لكل سهو سجدتان
بعد السلام" (4).
__________
= بالاتفاق، ولو أسلموا لا يجب عليهم قضاء العبادات الفائتة بالإجماع، وإنما تظهر
في أحكام الآخرة، فإن عند الشافعية يعاقب الكفار بترك العبادات زيادة على عقوبة
الكفر، كما يعاقبون بترك الاعتقاد.
وعند الأحناف: لا يعاقبون بترك العبادات.
انظر: كشف الأسرار 4/ 243؛ نهاية السول 1/ 195.
(1) سجود السهو: من إضافة الشيء إلى سببه.
والسهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه، يقال: سهوت في الصلاة، أسهو سهوا: نسيت شيئا
منها.
انظر؛ معجم مقاييس اللغة، المصباح المنير، مادة (سهو).
والمراد به هنا: "مطلق الخلل الواقع في الصلاة، سواء كان عمدا أو نسيانا فصار
حقيقة عرفية في ذلك" وله أسباب كثيرة، مفصلة في بابه.
انظر: البدائع 1/ 441؛ اللباب 1/ 95؛ الشرواني، حاشية على تحفة المحتاج بشرح
المنهاج لابن حجر الهيتمي 2/ 168، 169.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 30؛ القدوري، ص 12؛ المبسوط 1/ 219؛ تحفة الفقهاء 1/
340؛ الهداية 1/ 74.
(3) انظر: الأم 1/ 130؛ المهذب 99/ 1؛ التنبيه، ص 27؛ المنهاج، ص 15.
(4) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا: أبو داود في
الصلاة، باب من قال بعد التسليم، ومن نسي أن يتشهد وهو جالس (1033، 1038)، 1/ 273؛
ابن ماجة، في الصلاة، باب ما جاء فيمن سجدها بعد السلام (1218، 1219)، 1/ 385.
وللحديث شاهد في الصحيحين من حديث ذي اليدين عن أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ
مختلفة: البخاري، في السهو، باب من صلى خمسا (1226)، 3/ 93؛ مسلم، في المساجد، باب
السهو في الصلاة والسجود له (573)، 1/ 403.
(1/169)
والشافعي يروي هذا الحديث: "لكل
سهو سجدتان قبل السلام" (1).
مسألة: 72 - صلاة المأمومين خلف إمام جنب
إذا صلى الجنب (2) بقوم، ولم يعلموا بجنابته، تلزمـ[ــهم] الإعادة عندنا إذا علموا
(3)، وعند الشافعي: لا تلزمهم الإعادة (4).
وحاصل الخلاف: راجع إلى أن المقتدي خلف الإمام يصلي صلاة نفسه، أو صلاة الإمام؟
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أنه قال: صلى
لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس،
فقام الناس معه، فلما قضى صلاته، ونظرنا تسليمه، كبر قبل السلام، فسجد سجدتين، وهو
جالس، ثم سلم. أخرجه الجماعة: البخاري، في السهو، ماجاء في السهو إذا قام من ركعتي
الفريضة (1224، 1225)، 3/ 92؛ مسلم، في المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له
(570)، 1/ 399؛ الأم 1/ 130.
(2) الجنب لغة: قال ابن فارس: الجيم والنون والباء أصلان متقاربان أحدهما الناحية،
والآخر البعد.
وجنب على وزن قرب فهو جنب ويطلق على الذكر والأنثى والمفرد والتثنية والجمع، وبه
جاء القرآن وفي لغة يثنى ويجمع فيقال: جنبان وجنبون وأجناب، ونساء جنبات.
وفي الشرع يطلق: "على من أنزل المنى وعلى من جامع" وسمى جنبا؛ لأنه يبعد
عما يقرب منه غيره من الصلاة والمسجد وغير ذلك.
انظر: معجم مقاييس اللغة، والمصباح، مادة: (جنب)، تهذيب الأساء واللغات 3/ 55؛
والمجموع 2/ 169.
(3) قال الطحاوي: "ومن صلى بالناس جنبا أعاد، وأعادوا". مختصر الطحاوي،
ص 31؛ القدوري، ص 11؛ الهداية 1/ 58.
(4) وإن علم في أثناء الصلاة لزمه مفارقته وأتم صلاته منفردا، وإن لم يعلم حتى سلم
منها أجزأته. انظر: الأم 1/ 167؛ الوجيز 1/ 55؛ المجموع مع المهذب 5/ 155، 156؛
المنهاج، ص 17.
(1/170)
عندنا: يصلي صلاة الإمام، حتى لو فسدت
صلاة الإمام لفسدت صلاة (1) المقتدي، وعند الشافعي بخلاف ما ذكرنا (2).
مسألة: 73 - حكم صلاة من زرع بجسمه عظم الكلب أو الخنزير، أو ألصق به
إذا وصل عظمه بعظم الكلب أو الخنزير أو ألصق بلحمه، ولا يمكن نزعه، صحت الصلاة،
ولا يلزمه نزعه عندنا (3)، وعند الشافعي: يجب نزعه ولا تصح الصلاة (4).
وحاصل الخلاف يعرف: أن عظم ما لا يؤكل لحمه طاهر عند أبي (5) حنيفة؛ لأن العظم لا
روح فيه.
__________
(1) الأصل عند الأحناف: أن صلاة المأموم تابعة لصلاة الإمام صحة وفسادا لا أداء
وعملا، وهي كالمندرجة في ضمن صلاة الإمام لقوله - "الإمام ضامن والمؤذن
مؤتمن" أي صلاة الإمام تتضمن صلاة المقتدي، والأصل أن المقتدي إذا اعتقد فساد
صلاة الإمام تفسد صلاته، وذلك لتنزيل حدث الإمام منزلة حدث المأموم.
انظر: تأسيس النظر، ص 70، 71؛ المبسوط 1/ 216؛ تخريج الفروع على الأصول، ص 101،
وقد سبق تخريج الحديث في المسألة (68)، ص 180.
(2) أن كل مصل يصلى لنفسه، ولا تعلق لصلاة المقتدي بصلاة الإمام إلا المتابعة في
أفعاله الظاهرة.
انظر: تخريج الفروع على الأصول، ص 102؛ راجع: المسألة (68)، ص 165.
(3) ما ذكره المؤلف ليس على إطلاقه بل الخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين كا نص عليه
الطحاوي والكاساني، "بمعنى أن ذاته بجميع أجزائه نجسة حيا وميتا" والحكم
فيما عداه كما ذكره المؤلف.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 17؛ البدائع 1/ 271؛ الهداية، مع شرح فتح القدير والعناية
1/ 96، 97؛ حافية ابن عابدين 4/ 201، فما بعدها.
(4) يجب نزعه إن لم يخف التلف، فإن خاف التلف أجزأته صلاته.
انظر: التنبيه، ص 21؛ المهذب 1/ 67؛ المجموع 3/ 145.
(5) راجع مراجع الأحناف السابقة. والمسألة (6) في حكم العظم والشعر، ص 99.
(1/171)
وعنده نجس (1)، فلهذا لا تجوز الصلاة،
وعندنا تجوز؛ لأنه طاهر وفي نزعه ضرر؛ لأنه يؤدي إلى إيلام الحيوان.
مسألة: 74 - ركعات الوتر
الوتر ثلاث ركعات عندنا (2)، وعند الشافعي: ركعة واحدة والركعتان قبلها سنة (3).
دليلنا: ما روى عن ابن مسعود أنه قال: "والله ما أجزأت ركعة قط" (4).
__________
(1) انظر: الأم 1/ 54؛ الوجيز 1/ 11؛ المجموع مع المهذب 1/ 290، والمسألة (6).
وألحق النووي رحمه الله تعالى بالعظم النجس: "مداواة الجرح بدواء نجس وخياطته
بخيط نجس ... وكذلك لو فتح موضعا من بدنه وطرح فيه دما أو نجاسة أخرى" كما
يحدث حاليا بالنسبة للعمليات الجراحية، "أو وشم يده أو غيرها فإنه ينجس عند
الغرز فله حكم العظم، أي يجب النزع حيث يجب نزع العظم" وكذلك إيصال المرأة
بشعرها "شعرا نجسا وهو: شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته ...
لأنه حمل النجاسة في الصلاة وغيرها عامدا". راجع المسألة بالتفصيل، في
المجموع 3/ 145 - 147.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 28؛ القدوري، ص 10؛ تحفة الفقهاء 1/ 322؛ الهداية 1/
66.
(3) "الوتر أقله ركعة واحدة"، وأكثره إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين
وأدنى الكمال ثلاث ركعات بتسليمتين".
انظر: الأم 1/ 140، 141؛ التنبيه، ص 26؛ الوجيز 1/ 54؛ المجموع مع المهذب 3/ 505 -
508؛ المنهاج، ص 16.
(4) الأثر روى عن حصين عن إبراهيم، قال: بلغ ابن مسعود أن سعدا يوتر بركعة، قال:
"ما أجزأت ركعة قط" رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: "وحصين
لم يدرك ابن مسعود وإسناده حسن".
وأخرج ابن عدي في الكامل عن يحيى بن معين، قال: "مراسيل إبراهيم النخعي صحيحة
ونقل الزيلعي عن النووي في الخلاصة أنه: "موقوف ضعيف".
انظر: أبو يوسف، كتاب الآثار (344)، ص 69؛ نصب الراية 2/ 120، 121؛ الهيثمي: مجمع
الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 242.
(1/172)
والشافعي احتج، وقال؛ لأن هذه صلاة
تسمى وترا، واسمه يدل على أنه ركعة واحدة (1).
مسألة: 75 - حكم قصر الصلاة
القصر رخصة (2) أو عزيمة (3)؟ عندنا: هي عزيمة (4).
__________
(1) استدل المصنف للشافعي بالمعنى فقط، مع استدلالهم بحديث ابن عمر رضي الله
عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا
خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، أخرجه مسلم، في صلاة
المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل (749)، 1/
516؛ الأم 1/ 140.
انظر الأدلة بالتفصيل: الأم 1/ 140، 141؛ المجموع مع المهذب 3/ 505 - 507.
انظر: أسباب الخلاف بين المذهبين: كشف الأسرار 3/ 396.
(2) الرخصة لغة: على وزان غرفة، وتضم الخاء للاتباع ومثله: ظلمة وظلمه ... والجمع
رخص ورخصات، والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير، يقال: رخص الشرع لنا في كذا
ترخيصا، وارخص إرخاصا إذا يسره وسهله، المصباح المنير مادة: "رخص".
وشرعا: كما عرفها ابن الهمام وغيره "ما شرع تخفيفا لحكم مع اعتبار دليله قائم
الحكم لعذر".
(3) والعزيمة لغة: القصد المؤكد، عزم على الأمر، يعزم عزما ومعزما وعزما - بالضم -
ومنه قوله تعالى {ولم نجد له عزما} [طه: 115] أي لم يكن له قصد مؤكد في الفعل بما
أمر به، وعزيمة الله: فريضة الله التي افترضها، والجمع: عزائم. انظر: المصباح
المنير؛ قاموس المحيط، مادة "عزم".
وشرعا: كما عرفها السرخسي: "بأنها: ما شرع ابتداء من غير إن يكون متصلا
بعارض" وعرفها الغزالي بأنها: "عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله
تعالى".
وعرف ابن السبكي كلا من الرخصة والعزيمة بأنها: "الحكم الشرعي أن تغير إلى
سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة".
انظر: أصول السرخسي 1/ 117؛ المستصفى 1/ 98؛ كشف الأسرار 2/ 300؛ تيسير التحرير 2/
228؛ جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/ 120.
(4) ويراد عند الحنفية بالعزيمة أربعة أقسام: "فريضة، وواجب، وسنة، ونفل،
فهذه أصول الشرع وإن كانت متفاوتة في نفسها". كشف الأسرار 2/ 300.
والمقصود بالعزيمة هنا: الفرض، كما قال المرغيناني: "وفرض المسافر في الرباعية
ركعتان لا يزيد عليهما".
انظر: القدوري، ص 14؛ تحفة الفقهاء 4/ 251، البدائع 1/ 283؛ الهداية 1/ 80.
(1/173)
وعند الشافعي: رخصة (1).
دليلنا في ذلك هو: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله
تعالى تصدق عليكم شطر صلاتكم، آلا فاقبلوا صدقته" (2) فمن جعل رخصة لم يقبل
هذه الصدقة.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من أتم الصلاة في السفر فقد عصى أبا
القاسم" (3) الشافعي: تاس قصر الصلاة بالإفطار، والإفطار رخصة. فكذا هذا.
(4).
__________
(1) انظر: الأم 1/ 179؛ التنبيه، ص 29؛ الوجيز 1/ 58؛ المجموع؛ مع المهذب 2/ 214؛
المنهاج، ص 19.
(2) أخرج مسلم عن يعلي بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: "ليس عليكم أن
تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" (النساء 101) فقد أمن
الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق
بها عليكم، فأقبلوا صدقته".
مسلم، في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (686)، 1/ 478.
انظر: أدلة الأحناف بالتفصيل في بدائع الصنائع 1/ 284، فما بعدها.
(3) لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ وإنما ذكر الكاساني رواية عن أبي حنيفة أنه
قال: "من أتم الصلاة في السفر فقد أساء وخالف السنة" (البدائع 1/ 283)،
وإنما يستأنس بما رواه مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس، كيف أصلي
إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه
وسلم - ": مسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (681)، 1/ 479.
(4) استدل المؤلف للشافعي بالقياس فقط مع استدلالهم بأدلة نقلية كثيرة لمذهبهم
منها: قوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين} (النساء: 101)، قال الشافعي:
"إن قصر الصلاة في الضرب في الأرض والخوف، تخفيف من الله عز وجل عن خلقه لا
أن فرضا عليهم أن يقصروا ... " واستدلوا أيضا بحديث يعلى المذكور! وقال
النووي: "وفيه التصريح بجواز القصر من غير خوف". وأدلة أخرى.
انظر: الأم 1/ 179، 180؛ المجموع مع المهذب 2/ 212، 214.
(1/174)
مسألة: 76 - الإقامة التي تنقطع بها
رخص المسافر
الإقامة التي تنقطع بها رخص المسافر، هي: خمسة عشر يوما عندنا (1)، وعند الشافعي
هي: أربعة أيام، سوى يوم الدخول، ويوم الخروج (2).
دليلنا: ما روي عن ابن عباس أنه قال: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
خمسة عشر يوما بمكة، فصلى ركعتين صلاة السفر" (3)، وكان المعنى وهو: أن
المقادير لا تجوز إثباتها بالقياس (4)، وإنما تثبت نصا أو إجماعا، وما ذكره من
الأربع ليس بإجماع ولا توقيف.
__________
(1) تنقطع رخص السفر بإقامة خمسة عشر يوما، مع توفر ثلاثة شروط، كما قال
السمرقندي: "نية الإقامة، ونية مدة الإقامة، والمكان الصالح للإقامة".
انظر: القدوري، ص 14؛ المبسوط 1/ 236؛ تحفة الفقهاء 1/ 256، 257؛ الهداية 1/ 81.
(2) انظر: الأم 1/ 186؛ التنبيه، ص 30؛ الوجيز 1/ 58؛ المنهاج، ص 20؛ المجموع 4/
242، 244.
(3) حديث ابن عباس رضي الله عنهما، روى بألفاظ مختلفة: رواه أبو داود والنسائي
بلفظ "خمس عشرة يقصر الصلاة" وفي رواية لأبي داود: سبع عشرة، وأخرى: تسع
عشرة، كما رواه البخاري والترمذي.
انظر: البخاري، في التقصير، باب ماجاء في التقصير (1080)، 2/ 561، (4299)، 8/ 21.
أبي داود، في الصلاة، باب متى يتم المسافر (1230 - 1232)، 2/ 10؛ الترمذي، في
أبواب الصلاة، باب في كم تقصر الصلاة (548)، 2/ 431، 432؛ النسائي 3/ 121.
(4) كما ذكروا في ذلك في مبحث: (القياس لا يجري في الكفارات والحدود) بأصول الفقه،
"لاشتمالها على تقديرات لا تعقل، كعدد المائة في الزنا، والثمانين في القذف
فإن العقل لايدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد، والقياس فرع تعقل المعنى، في
حكم الأصل". وكذلك ها هنا.
انظر: تيسير التحرير 4/ 103؛ فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/ 317.
لم يستدل المؤلف للمذهب الشافعي، كعادته في المسائل، واستدل الشافعي لمذهبه بما
أخرجه =
(1/175)
مسألة: 77 - القصر في سفر المعصية
هل يجوز القصر في سفر المعصية أم لا؟ عندنا يجوز (1)، وعند الشافعي (2): لا يجوز.
دليلنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر
ثلاثة أيام ولياليهن" (3) ولم يفصل بين ما إذا كان عاصيا أو طائعا، أو نقول:
أجمعنا على أن المرأة إذا زنت فحبلت من الزنا فولدت ولدا، وما دامت هي في دم
النفاس لا تلزمها الصلاة ولا الصوم، وترك الصلاة من حقها كالرخصة، وهي عاصية
بالزنا.
فإن قيل: ترك الصلاة، لمكان الحمل، والحمل من صنع الله تعالى، وإن كان الزنا من
فعلها، فلهذا قلنا: لا تلزمها الصلاة، فالجواب هذا لم يبطل بالسكر، فإن زوال العقل
من صنع الله تعالى، والشرب من فعله، ومع ذلك تلزمه إعادة ما فاته من الصلوات (4).
__________
= الشيخان من حديث العلاء بن الحضرمي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا" وذلك رخصة بعد أن حرم عليهم الإقامة
بمكة، وقال الشافعي معقبا: "فبهذا قلنا: إذا أزمع المسافر أن يقيم بموضع
أربعة أيام وليالهن ليس فيهن يوم كان فيه مسافرا، فدخل في بعضه، ولا يوم يخرج في
بعضه، أتم الصلاة" ثم ذكر أدلة أخرى.
انظر: (البخاري، في مناقب الأنصار، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه (3933)،
7/ 266؛ مسلم في الحج، باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج والعمرة
ثلاثة أيام بلا زيادة (1352)، 2/ 985)، الأم 1/ 186؛ المجموع مع المهذب 4/ 242،
وما بعدها.
(1) انظر: القدوري، ص 15؛ تحفة الفقهاء 1/ 255؛ البدائع 1/ 287؛ الهداية 1/ 82.
(2) انظر: الأم 1/ 184، 185؛ التنبيه، ص 29؛ الوجيز 1/ 59؛ الروضة 1/ 188.
(3) الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه،
مسلم، في الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين (276)، 1/ 232.
(4) لم يستدل المؤلف لمذهب الشافعي، واكتفى بذكر قياس متفق بين الطرفين، مع
مناقشته لهذا القياس على غير عادته في الأدلة. =
(1/176)
مسألة: 78 - الجمع بين الصلاتين
لا يجوز الجمع بين الصلاتين، إلا يوم عرفة عندنا (1)، وعند الشافعي: يجوز الجمع بين
الصلاتين، بعذر السفر والمطر (2).
دليلنا: كل صلاة لا يجوز الجمع بينهما في الحضر لغير عذر، لم يجمع بينهما في
السفر، دليله: [العصر] (3) مع المغرب (4).
واحتج الشافعي في ذلك: بأن عذر السفر إنما أبيح له القصر والإفطار، لمشقة السفر
(5).
__________
= استدل الشافعي بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة:
173]؛ وقال الشيرازي: "ولأن في جواز الرخص في سفر المعصية، إعانة على المعصية
وهذا لا يجوز" وأدلة أخرى. انظر: الأم 1/ 185؛ المجموع مع المهذب 4/ 226،
227.
(1) أجاز الأحناف الجمع في السفر والمطر - ما عدا جمع النسك - بالجمع الصوري هو:
"أن يصلي الأولى منهما وهي: الظهر والمغرب، في آخر وقتها، ثم يدخل وقت الأخرى
منهما، فيصليهما، وهي: العصر والعشاء".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 33، 34؛ القدوري، ص 27؛ المبسوط 4/ 14، 15؛ الهداية 1/
143.
(2) انظر: مختصر المزني، ص 25؛ التنبيه، ص 30؛ الوجيز 1/ 60؛ المجموع مع المهذب
253/ 4، 254؛ المنهاج، ص 20.
(3) في أصل المخطوط: "القصر".
(4) استدل أبو حنيفة من النقل بقوله سبحانه وتعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا} [النساء: 103]، وقال: "إن فرضا مؤقتا، فالمحافظة على الوقت في
الصلاة فرض بيقين، فلا يجوز تركه إلا بيقين، وهو: الموضوع الذي ورد به النص".
انظر بالتفصيل: المبسوط 4/ 16؛ نصب الراية 2/ 193، 194.
(5) واستدل الشافعي من النقل للجمع بين الصلاتين في السفر، بما رواه مسلم في
صحيحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جميعا"، وروى نحوه
عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا.
(مسلم، في صلاة - المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (705)، 1/
490، باب جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر (703)، 1/ 488، 489).
انظر بالتفصيل: مختصر المزني، ص 25، 26؛ المجموع 4/ 253 - 257.
(1/177)
مسألة: 79 - قضاء فوائت السفر في الحضر
إذا فاتته الصلاة في السفر، وأراد أن يقضيها في الحضر، يقصرها عندنا (1) وعند
الشافعي: يصليها أربعا (2).
دليلنا في ذلك: أن هذه صلاة مفروضة، فكان قضاؤها مثل أدائها، دليله: سائر الصلوات
(3).
واحتج الشافعي، في المسألة: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" (4)، وهذا
الرجل نسي صلاة في السفر، فإذا أعادها في الحضر وجب أن يقضيها أربعا؛ لأنه وقت لها
(5).
مسألة: 80 - كيفية الصلاة في السفينة
إذا صلى في سفينة سائرة، لا يلزمه القيام عندنا، وهو بالخيار إن شاء صلى قائما أو
قاعدا (6)، وعند الشافعى: يلزمه القيام إذا كانت فريضة (7).
دليلنا: ما روى عن أنس بن مالك: "أنه كان يصلي قاعدا في السفينة" (8).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 15؛ الهداية 1/ 82.
(2) انظر: الأم 1/ 182؛ التنبيه، ص 30؛ الوجيز 1/ 59؛ المجموع مع المهذب 4/ 249؛
المنهاج، ص 19.
(3) انظر: شرح فتح القدير، والعناية (على الهداية) 2/ 45، 46؛ البناية 2/ 776.
(4) سبق تخريجه في المسألة (52)، ص 145.
(5) راجع: الأم 1/ 182؛ والمجموع مع المهذب 4/ 249.
(6) انظر: مختصر الطحاوي، ص 34؛ المبسوط 2/ 2؛ تحفة الفقهاء 1/ 266.
(7) انظر: الأم 1/ 80؛ المجموع 3/ 224.
(8) الأثر رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه عن أنس، وعن ابن عباس وعدد من التابعين،
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات.
انظر: مصنف عبد الرزاق، في باب الصلاة في السفينة (4549 - 4562)، 2/ 581، وما
بعدها؛ مجمع الزوائد 2/ 163.
(1/178)
أو نقول: ولأنه غير مستقر على الأرض
فجاز له ترك القيام، كحالة المقاتلة والمسابقة بالحرب.
واحتج الشافعي وهو: أن القيام ركن من أركان الصلاة، ولا يجوز تركه إلا لعذر المرض
(1)، كالركوع والسجود.
مسألة: 81 - حكم الصلاة على سطح الكعبة
الصلاة في ظهر الكعبة، تصح عندنا (2)، وعند الشافعي لا تصح، إلا أن يكون بين يديه
سترا أو من يقتدي به (3).
دليلنا في المسألة: وهو أن كل موضع صحت الصلاة فيه، صحت الصلاة عليه (4)، دليله:
سائر المساجد.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الصلاة إنما شرعت للتوجه إلى الكعبة، والذي قام
على السطح لا يكون متوجها للكعبة (5).
__________
(1) الشافعي لم يعتبر ركوب السفينة عذرا مبيحا لجواز الصلاة قاعدا، كعذر المرض،
حيث يقول: "ولا يكون له أن يصلي قاعدا إلا من مرض لا يقدر معه على القيام ...
ولا يكون له بعذر غيره أن يصلي قاعدا ... " (الأم 1/ 80)، كما لم يعتبر العري
عذرا لترك القيام كما مر في المسألة (51)، وقال النووي: "قال أصحابنا إذا صلى
الفريضة في السفينة لم يجز له ترك القيام مع المقدرة، كما لو كان في البر ...
وقالوا: فإن كان له عذر من دوران الرأس ونحوه جازت الفريضة قاعدا؛ لأنه
عاجز". المجموع 3/ 224.
(2) انظر: القدوري، ص 19؛ الهداية 1/ 95.
(3) انظر: الأم 1/ 98؛ التنبيه، ص 21؛ الوجيز 1/ 38؛ المجموع مع المهذب 3/ 199،
200؛ المنهاج، ص 10.
(4) وذلك، "لأن الكعبة هي: العرصة والهواء إلى عنان السماء عند الأحناف، ولا
معتبر للبناء، لأنه ينقل ... إلا أنه يكره لمافيه من ترك التعظيم وقد ورد في النهي
عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". الهداية 1/ 95؛ وشرح فتح القدير 2/
152.
(5) وعلل لهذا الحكم بأن بناء الكعبة ليس بين يديه شيء منه يستره" الأم 1/
99، كما استدلوا أيضا بحديث عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: "سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، =
(1/179)
باب الجمعة
[مسألة]: 82 - حكم الجمعة لأهل القرى
هل تجب الجمعة على أهل القرى (1) أم لا؟ عندنا لا تجب (2)، وعند الشافعي تجب إذا
سمعوا النداء من المصر (3).
__________
= وذكر فوق بيت الله العتيق" أخرجه ابن ماجة، في المساجد والجماعات، باب
المواضع التي تكره فيها الصلاة (746)، 1/ 246، قال النووي: "حديث ضعيف"؛
المجموع 3/ 200، وبهذا استدل الأحناف على الكراهة.
(1) القرى، جمع قرية وهي: "بلدة دون المدينة أغلب ساكنيها من الفلاحين
والرعاة"، ويقال على المدينة أيضا لكن المقصود بها هنا هي: الضيعة التي لا
تتوفر فيها شروط المصر الآتية.
انظر: المصباح، معجم مقايس اللغة، مادة (قرى). والمصر: قال ابن فارس: "الميم
والصاد والراء أصل صحيح له ثلاثة معان، منها: كل كورة يقسم فيها الفيء والصدقات.
معجم مقاييس اللغة، مادة (مصر).
وذكر الأحناف عدة تعريفات لها، فمن أصحها ما روي عن أبي حنيفة: "هو بلدة
كبيرة فيها سكك وأسواق ولها رساتيق - السواد والقرى التابعة لها - وفيها وال يقدر
على إنصاف المظلوم من الظالم". تحفة الفقهاء 1/ 273؛ المبسوط 2/ 120.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 35؛ القدوري، ص 15؛ المبسوط 2/ 120؛ تحفة الفقهاء 1/
272؛ البدائع 2/ 661؛ الهداية 1/ 82.
(3) اشترط الشافعية للقرية: الأبنية المجتمعة التي يستوطنها شتاء أو صيفا من تنعقد
بهم الجمعة، قال النووي في المنهاج: "وأهل القرية إن كان فيهم جمع تصح به
الجمعة، أو بلغهم صوت عال في هدوء من طرف يليهم لبلد الجمعة لزمتهم وإلا
فلا". هذا إذا كان المقيمون في غير قرية ولم يبلغوا أربعين فإن بلغوا العدد
لزمتهم الجمعة بلا خلاف.
انظر: الأم 1/ 190؛ التنبيه، ص 31؛ الوجيز 1/ 61؛ المجموع مع المهذب 4/ 355، 370؛
المنهاج، ص 21.
(1/180)
دليلنا في المسألة: ما روى عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع"
(1).
واحتج الشافعي: في المسألة بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (2) فالله تعالى أوجب السعي إلى الجمعة على من
سمع النداء (3).
مسألة: 83 - نصاب الجمعة
هل تنعقد الجمعة بأقل من أربعين؟ عندنا تنعقد بأربعة (4)، وعند الشافعي: لا تنعقد
بأقل من أربعين (5).
دليلنا في المسألة: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
جمعة
إلا في جماعة" والأربعة جماعة (6).
__________
(1) الحديث أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفهما، والبيهقي في السنن عن علي
كرم الله وجهه، موقوفا، قال البيهقي:
"وهذا إنما يروى عن علي موقوفا، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا
يروى عنه في ذلك شيء".
انظر: مصنف عبد الرزاق، في باب القرى الصغار (5175)، 3/ 176؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/
101؛ السنن الكبرى 3/ 179.
(2) سورة الجمعة: آية 9.
(3) راجع المراجع السابقة للشافعية.
(4) أي: أربعة مع الإمام. انظر: مختصر الطحاوي 6 ص 35؛ القدوري، ص 15؛ البدائع 2/
680؛ الهداية 1/ 83.
(5) ويقصد بالأربعين مع الإمام على الصحيح ممن تنعقد بهم الجمعة بشروطها أن
يكونوا: رجالا: بالغين، عقلاء، أحرارا، مستوطنين للقرية أو البلدة التي يصلى فيها
الجمعة.
انظر: الأم 1/ 190؛ الوجيز 6/ 11؛ المجموع مع المهذب 1/ 374؛ المنهاج، ص 21.
(6) لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ، وإنما رواه الدارقطني عن أم عبد الله الدوسية
بلفظ: "الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة" وفي
رواية: "وإن لم يكونوا إلا ثلاثة، رابعهم إمامهم"، وأخرجه الدارقطني
بثلاثة طرق، وقال في جميعهم بأنهم متروكون، وكل من روى هذا=
(1/181)
احتج الشافعي: في المسألة وهو: أن صلاة
الجمعة يشترط فيها ما لا يشترط في سائر الصلوات، نحو: السلطان (1)، والخطبة، فوجب
أن يشترط فيها زيادة العدد في الجماعة (2).
مسألة - 84 - الجمعة في القرى مع اكتمل النصاب
إذا كان في قرية أربعون رجلا، لا تنعقد بهم الجمعة عندنا (3)، وعند الشافعي تنعقد
(4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق
إلا في مصر جامع" والقرية: ليس بمصر جامع، فوجب أن لا يكون مشروعا فيها (5).
__________
= عن الزهري متروك، ولا يصح هذا عن الزهري، ولا يصح سماع الزهري من الدوسية، وقال
عبد الحق في أحكامه: "لا يصح في عدد الجمعة شيء".
وقال الشوكاني: "وقد ضعفه الطبراني وابن عدي وفيه متروك".
انظر: سنن الدارقطني مع التعليق المغني 2/ 7، 8، 9؛ نصب الراية 2/ 197؛ نيل
الأوطار 3/ 284.
وانظر: أدلة الأحناف: البدائع 2/ 680 وما بعدها.
(1) لم يشترط الشافعي السلطان لصحة الجمعة بل قال: "وتجزئ الجمعة خلف العبد
والمسافر". الأم 1/ 192، وهذه من جملة المسائل التي وهم فيها المؤلف، وسيأتي
تفصيل الموضوع في المسألة (85)، ص 183.
(2) استدل الشيرازي من النقل على العدد لما روى جابر رضي الله عنه قال: "مضت
السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا".
قال النووي: "حديث جابر ضعيف، رواه البيهقى وغيره بإسناد ضعيف وضعفوه، وقال
البيهقي: "هو حديث لا يحتج بمثله".
وقال ابن حبان: "لا يجوز أن يحتج به" ونحوه عن عدد من المحدثين.
انظر: السنن الكبرى 3/ 177؛ المجموع 4/ 371؛ تلخيص الحبير 2/ 55.
(3) انظر: المبسوط 2/ 23؛ تحفة الفقهاء 1/ 267؛ البدائع 2/ 661؛ الهداية 1/ 82.
(4) انظر: الأم 1/ 190؛ التنبيه، ص 31؛ الوجيز 1/ 61؛ المجموع مع المهذب 4/ 355،
371.
(5) الحديث سبق تخريجه في المسألة (82)، ص 181.
(1/182)
وحاصل الخلاف راجع: أن المشروع الأصلي
في يوم الجمعة ما هو؟ عندنا: إنما هو: صلاة الظهر، إلا أنه يسقط إذا أدى صلاة
الجمعة (1).
وعند الشافعي: مشروع الأصل في يوم الجمعة، إنما هو: صلاة الجمعة، فلهذا أوجبنا على
أهل القرى (2).
مسألة: 85 - اشتراط الخليفة لإقامة الجمعة
هل تصح إقامة الجمعة، من غير الإمام والخليفة؟ عندنا: لا تصح (3)، وعند الشافعي:
تصح (4).
دليلنا في ذلك: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أربع إلى
الولاة فذكر منها الجمعة" (5).
__________
(1) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 267؛ البدائع 2/ 661.
(2) هذا هو القول الجديد والصحيح من المذهب، قال الشيرازي: "لأن الفرض هو
الجمعة ولو كان الفرض الظهر، والجمعة بدلا عنه لما أثم بترك الجمعة إلى الظهر، كما
لا يأثم بترك الصوم إلى العتق في الكفارة". المجموع مع المهذب 4/ 365.
(3) لا تصح إقامة الجمعة إلا من السلطان أو من أمره السلطان بإقامتها، عند
الأحناف.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 35؛ المبسوط 2/ 25؛ تحفة الفقهاء 1/ 272؛ البدائع 2/ 664؛
الهداية 1/ 83.
(4) انظر: الأم 1/ 192؛ الوجيز 1/ 62؛ المجموع 4/ 379؛ المنهاج، ص 21.
(5) هذا ليس بحديث كما ذكره المؤلف، وإنما هو أثر عن الحسن كما ذكره السرخسي وابن
الهمام، وإنما استدل الأحناف لمذهبهم بما رواه ابن ماجة عن جابر في فرض الجمعة
مرفوعا: " ... واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا ... ، فمن
تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر، استخفافا بها، أو جحودا لها، فلا
جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره ألا، ولا صلاة له ... " الحديث.
وفي الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف على بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد
العدوي". ابن ماجة (بطوله)، في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في فرض
الجمعة (1081)، 1/ 343.
انظر: المبسوط 2/ 25؛ فتح القدير 2/ 56.
(1/183)
احتج الشافعي وهو: أن الجمعة صلاة
مفروضة، فلا يشترط في صحتها الإمام، دليله: سائر الصلوا [ت] (1).
مسألة: 86 - حكم القيام في الخطة
قيام الخطيب في خطبة الجمعة، هل هو شرط، أم لا؟ عندنا: ليس بشرط، حتى لو قعد وخطب
جاز (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3).
دليلنا في ذلك: أن الخطبة ليست بصلاة على الحقيقة، فلا يشترط فيها القيام (4)،
دليله: أنها كسائر التسبيحات.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روى عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "إنما
قصرت الصلاة لمكان الخطبة" (5)، والخطبة
__________
(1) انظر ما أورده البيهقي من الآثار في باب من تكون خلفه الجمعة من أمير ومأمور
وغير أمير حرا كان أو عبدا، السنن الكبرى 3/ 224، 225.
(2) القيام في الخطبة سنة، وتجوز قاعدا مع الكراهة، لمخالفته التوارث، عند
الأحناف.
انظر: القدوري، ص 15؛ البدائع 2/ 670؛ الهداية 1/ 83.
(3) القيام في الخطبة شرط مع القدرة، عند الشافعية.
انظر: الأم 1/ 199؛ المهذب 4/ 385، 386؛ مع المجموع، الوجيز 4/ 61؛ المنهاج، ص 22.
(4) واستدل الأحناف من النقل بما رواه عبد الرزاق في مصنفه: "أن عثمان رضي
الله عنه كان يخطب قاعدا حين كبر وأسن". وقال الكاساني معلقا عليه: "ولم
ينكر عليه أحد من الصحابة، إلا أنه مسنون في حال الاختيار؛ لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يخطب قائما".
انظر: مصنف عبد الرزاق (5258، 5266، 5271)، 3/ 187 - 189؛ البدائع 2/ 670.
(5) لم أعثر على الأثر من رواية عائشة رضي الله عنها، وإنما رواه ابن أبي شيبة عن
مكحول أنه قال: "وإنما قصرت صلاة الجمعة من أجل الخطبة"، وروى البيهقي
في سننه عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير نحوه.
انظر: مصنف ابن أبي شيبة، باب الإمام إذا لم يخطب يوم الجمعة كم يصلي 2/ 122؛
السنن الكبرى 3/ 196.
(1/184)
حكمها: حكم الصلاة، دليله: أنه لا يباح
فيها كلام، فإذا كان حكمها، حكم الصلاة، اشترط فيها القيام (1).
مسألة: 87 - عدد تكبيرات صلاة العيدين
صلاة العيدين (2): تكبر في الركعة الأولى: خمس تكبيرات مع تكبيرة الافتتاح
والركوع، وفي الركعة الثانية: ثلاث تكبيرات. سوى تكبيرة الركوع عندنا (3).
__________
(1) دليل المؤلف لم يطابق المدلول مباشرة، وإنما توصل بالقياس إلى شرطية القيام في
الخطبة، في حين كان في استطاعته أن يأتي بأدلة المسألة مباشرة، كالأدلة التي ذكرها
الشافعي، منها قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}
[الجمعة: 11]، قال الشافعي: "فلم أعلم مخالفا أنها نزلت في خطبة النبي - صلى
الله عليه وسلم - يوم الجمعة".
ونحوه أدلة أخرى من الأحاديث والآثار في الباب.
انظر بالتفصيل: الأم 1/ 199؛ مصنف ابن أبي شيبة 2/ 122؛ السنن الكبرى 3/ 196، 197.
(2) حكم صلاة العيدين:
اختلف أئمة المذهبين في حكمها: فذهب الأحناف إلى أنها واجبة وهذا ما نص عليه
الكرخي فقال: "وتجب صلاة العيدين على أهل الأمصار كما تجب الجمعة" وروى
نحوه الحسن عن أبي حنيفة.
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 276؛ البدائع 2/ 695، 696.
وذهب الشافعية إلى القول بأنها سنة مؤكدة، وأولوا قول الشافعي في المختصر:
"ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين"، قال النووي:
"فقال أصحابنا هذا ليس على ظاهره، فإن ظاهره أن العيد فرض عين على كل من
تلزمه الجمعة، وهذا خلاف إجماع المسلمين، فتعين تأويله".
انظر: مختصر المزني، ص 30؛ التنبيه، ص 33؛ المجموع مع المهذب 5/ 3، 4؛ المنهاج، ص
24.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 37؛ القدوري، ص 16؛ تحفة الفقهاء 1/ 278؛ البدائع 700/
2؛ الهداية 1/ 86.
(1/185)
وعند الشافعي: في الأولى: سبع تكبيرات
سوى تكبيرة الافتتاح، [وتكبيرة الركوع، وفي الثانية: خمس تكبيرات سوى تكبيرة
القيام والركوع] (1).
والمسألة مبنية: على اختلاف [الصحابة] (2).
__________
(1) والظاهر من العبارة أن فيها سقطا ولعله سهو من الناسخ؛ لأن العبارة لا تستقيم
بغير هذه الزيادة.
ويؤيد هذا ما ذكره الشيرازي:
"والسنة أن يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة القيام والركوع لما روى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يكبر
في الفطر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة الصلاة". قال النووي في
حديث عمرو بن شعيب: "هذا صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة".
انظر: أبي داود، في الصلاة، باب التكبير في العيدين (1149، 1153)، 1/ 299؛ الترمذي
(536)، 1/ 416، 417؛ ابن ماجة (1277 - 1280)، 1/ 407.
انظر: المهذب 1/ 127؛ المجموع، ص 5/ 19.
انظر: الأم 1/ 136؛ التنبيه، ص 33؛ الوجيز 1/ 70؛ المجموع 9/ 15؛ المنهاج، ص 24.
(2) في الأصل: (الصلوة).
واختلف الصحابة في عدد تكبيرات العيدين، فأخذ الأحناف بقول عبد الله بن مسعود ومن
تابعه من الصحابة رضي الله عنهم، وأخذ الشافعية بحديث عمرو بن شعيب وابن عمر وابن
عباس وغيرهم رضي الله عنهم.
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 279؛ البدائع 2/ 700 فما بعدها؛ المجموع 5/ 23.
راجع كتب الحديث المذكورة آنفا.
وانظر: مصنف ابن أبي شيبة، في التكبير في العيدين واختلافهم فيه 2/ 172 - 176.
(1/186)
مسألة: 88 - تكبيرات أيام التشريق
تبتدأ تكبيرات (1) أيام التشريق (2): بعد صلاة الصبح من يوم عرفة عندنا (3)، وتقطع
بعد صلاة العصر من يوم النحر، وهو ثمان صلوات، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي:
تبتدأ بصلاة الصبح من يوم عرفة، وتقطع بعد صلاة العصر في آخر أيام التشريق، وهو
ثلاث وعشرون صلاة (4).
__________
(1) والتكبير الصحيح والمشهور بين الفقهاء "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا
الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد" تحفة الفقهاء 1/ 286.
(2) والتشريق: صلاة العيد، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت، أو من شرقت إذا أضاءت؛
لأن ذلك وقتها، وسميت أيام التشريق لصلاة يوم النحر، وصار ما سواه تبعا، أو لأن
الأضاحي فيها تشرق: أي تقدد في الشمس، وقيل تشريقها: تقطيعها وتشريحها، وأيام
التشريق: ثلاثة، وهي بعد يوم النحر: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
انظر: المغرب، مادة: (تشرق)، المصباح، مادة: (شرق).
(3) انظر الجامع الكبير، ص 13؛ مختصر الطحاوي، ص 38؛ القدوري، ص 16؛ تحفة الفقهاء
1/ 287؛ الهداية 1/ 87.
(4) وللشافعية في المسألة ثلاثة طرق، أصحها وأشهرها: من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر
التشريق، وبه نص الشافعي في القديم والجديد وقطع الشيرازي وأكثر الشافعية،
والثاني: من مغرب ليلة النحر إلى صبح آخر التشريق، والثالث: من صبح عرفة إلى عصر
آخر التشريق، والمختار عند محققي الشافعية هو الطريق الثالث، قال النووي في
المجموع "واختارت طائفة من محققي الأصحاب المتقدمين والمتأخرين أن يبدأ من
صبح يوم عرفة ويختم بعصر آخر التشريق .. وعليه عمل الناس في الأمصار .. وقال:
"وهو الذي اختاره"، وهذا ما ذكره المؤلف.
انظر: الأم 1/ 241؛ التنبيه، ص 33؛ الوجيز 1/ 70؛ والمنهاج، ص 24؛ راجع بالتفصيل
المجموع مع المهذب 5/ 35 - 40؛ وراجع المراجع السابقة للأحناف للنظر في قول
الصاحبين.
وما ذكره المؤلف في المدة يتعلق بالنسبة لغير الحجاج "وأما الحجاج فيبدأون
التكبير عقب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق"؛ لأنهم
يقطعون التلبية مع رمي جمرة العقبة.
انظر: الهداية 1/ 147؛ المجموع 5/ 37.
(1/187)
دليلنا في ذلك: أن هذا يوم عرفة، يوم
يختص بذكر، فكان التكبير مسنونا فيه: كيوم النحر (1).
وحجتهم في ذلك: قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} (2). إنما هو ثلاثة
أيام: وهو أيام التشريق (3).
مسألة: 89 - ركعات صلاة الكسوف
صلاة الكسوف (4): عندنا أربع ركعات، [يصليها كما يصلي سائر الصلوات] (5)، وعند
الشافعي: ركعتان، في كل ركعة قيام
__________
(1) استدل الأحناف من النقل: بما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان
يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر .. " الحديث. رواه
ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 168؛ شرح فتح القدير 2/ 81.
(2) سورة البقرة: آية 203.
(3) انظر: الكيا الهراسي، أحكام القرآن 1/ 121؛ تفسير ابن كثير 1/ 244، 245.
انظر: ما أورده ابن أبي شيبة من الآثار في مصنفه في التكبير في أي يوم هو إلى أي
ساعة 2/ 165 فما بعدها.
(4) قال ابن فارس:
كسف: الكاف والسين والفاء أصل بدل على تغير من حال الشيء إلى ما لا يحب وعلى قطع
شيء من شيء. من ذلك كسوف القمر، وهو زوال ضوئه:
وقال أبو زيد: كسفت الشمس كسوفا اسودت بالنهار، والخسوف بمعنى الكسوف عند اللغويين
والفرق بينهما: أن الكسوف هو ذهاب بعض نور الشمس، والخسوف: ذهاب الكل، وجعل
الفقهاء الخسوف للقمر، والكسوف للشمس.
أنظر: معجم مقاييس اللغة، المصباح المنير، مادة: (كسف وخسف)، البدائع 2/ 712؛
المجموع 5/ 48.
في الأصل: "يصلي فيه كما يصلى في سائر الصلاة".
(5) والصحيح في المذهب أنها ركعتان كما ذكر الطحاوي والقدوري والسرخسي وغيرهم،
وذكر السمرقندي رواية للحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: "إن شاؤا صلوا
ركعتين وإن شاؤا أربعا، وإن شاؤا أكثر من ذلك".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 39؛ القدوري، ص 16؛ المبسوط 2/ 75؛ تحفة الفقهاء 1/ 296؛
البدائع 2/ 759؛ الهداية 1/ 88.
(1/188)
وركوعان وسجودان (1).
دليلنا في المسألة: أن هذه صلاة مشروعة فلا تشترط فيها زيادة الفعل، دليله: سائر
الصلوا [ت] (2).
مسألة: 90 - عقوبة تارك الصلاة
هل يقتل تارك الصلاة أم لا؟ عندنا: لا يقتل، بل يحبس ويعزر (3)، وعند الشافعي يقتل
(4).
__________
(1) انظر: الأم 1/ 242؛ التنبيه، ص 33؛ الوجيز 1/ 71؛ المجموع مع المهذب 5/ 50،
51؛ المنهاج، ص 25.
(2) واستدل الأحناف من النقل بما روى عن أبي بكرة أنه قال: "كسفت الشمس على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجر
ثوبه حتى دخل المسجد، فصلى ركعتين فأطالهما حتى تجلت الشمس"، وفي رواية:
"ركعتين نحو صلاة أحدكم":
أخرجه البخاري في الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس (1040)، 2/ 526.
انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 2/ 75؛ البدائع 2/ 709 فما بعدها؛ شرح فتح القدير
1/ 85، 86.
ولم يذكر المؤلف هنا دليل الشافعي كعادته، والدليل كلما ذكره الشافعي في الأم.
رواية عن ابن عباس أنه قال: كسفت الشمس فصلى النبي والناس معه فقام قياما طويلا
نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم قام فقام قياما طويلا، وهو دون
القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد وانصرف وقد تجلت
الشمس".
"أخرجه الشيخان: البخاري، في الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة (1052)، 2/ 540؛
مسلم، في صلاة الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الجنة
والنار (907)، 2/ 626"؛ الأم 2/ 242.
(3) يحبس حتى يموت أو يتوب ويصلي.
انظر: تنوير الأبصار مع حاشية ابن عابدين 1/ 252، 353؛ الفتاوى الهندية 1/ 51.
(4) لكن يستتاب أولا فإن تاب وإلا قتل حدا. مختصر المزني، ص 34؛ التنبيه، ص 18؛
المجموع مع المهذب 3/ 15 - 17.
هذه العقوبة بالنسبة لتارك الصلاة تهاونا وتكاسلا مع إقراره بوجوبها، وأما الجاحد
بها فيكفر، ويقتل كفرا بالردة بلا خلاف.
انظر المراجع السابقة.
(1/189)
دليلنا: أن الصلاة من فروع الإيمان،
ولا يقتل بتركه، كالصوم والحج (1).
احتج الشافعي، في المسألة: ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
"الصلاة إيمان" (2) قارنه بالإيمان، وجعل الصلاة من الإيمان، وبترك
الإيمان يقتل فكذلك بالصلاة (3).
__________
(1) استدل الأحناف على حبس تارك الصلاة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5]. ووجه الدلالة كما ذكره الجصاص: إن الله تعالى
ذكر الحصر بعد ذكره القتل للمشركين، فإذا زال القتل بزوال سمة الشرك فالحصر والحبس
باق لترك الصلاة ومنع الزكاة، وتنتظم الآية: "حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك
الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلها".
انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 3/ 83.
(2) لم أعثر على هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وأدلة المسألة مشهورة كما يأتي،
وقد بوب البخاري في صحيحه: "باب الصلاة من الإيمان".
انظر: فتح الباري 1/ 95.
(3) واستدل الشافعية على قتل تارك الصلاة، أيضا بالآية الكريمة السابقة، التي
استدل بها الأحناف على الحبس.
وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يشهدوا أن لا إليه إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ... "
الحديث.
"أخرجه الشيخان، وقد سبق تخريجه في المسألة (67)، المجموع 3/ 19؛ راجع ما
أورده الشوكاني من الأحاديث في "باب قتل تارك الصلاة"؛ نيل الأوطار 1/
336.
(1/190)
باب الجنائز (1)
[مسألة]: 91 - تكفين الميت المحرم
إذا مات (2) المحرم هل ينقطع إحرامه أم لا؟ عندنا ينقطع الإحرام بعد الموت (3)،
وعند الشافعي لا ينقطع (4).
دليلنا في ذلك: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات
ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وولد صالح يدعو له بخير، وعالم يعلم
الناس فينتفعون به" (5).
[فإن] النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن كل العمل ينقطع بالموت.
__________
(1) الجنائز: جمع جنازة، وهو مشتق من جنزت الشيء أجنزه جنزا إذا سترته من باب ضرب،
والجنازة بكسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتان، وقيل بالفتح للميت، وبالكسر للنعش
وعليه الميت، وقيل عكسه.
انظر: معجم مقاييس اللغة؛ المصباح، مادة (جنز)، والمجموع 5/ 93.
(2) والمقصود من المسألة: هل يعامل الميت المحرم معاملة الأموات العاديين في
التكفين، أم يعامل معاملة المحرم: بأن لا يغطي رأسه ولا يطيب ... إلخ؟ فذهب
الأحناف إلى معاملته معاملة الحلال، وذهب الشافعية إلى معاملته معاملة المحرم.
(3) قال الكاساني: "المحرم يكفن كما يكفن الحلال عندنا، أي تغطى رأسه ووجهه
ويطيب". البدائع 2/ 770، 771.
(4) انظر الأم 1/ 269؛ التنبيه، ص 35؛ الوجيز 1/ 73؛ المجموع مع المهذب 5/ 162،
163.
(5) الحديث كما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة
جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". مسلم، في الوصية، باب ما يلحق
الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، 3/ 1255.
(1/191)
والشافعي احتج، في المسألة: أن الحج
عبادة فيها مشقة عظيمة، فوجب أن يبقى بعد موته حكما حتى يكون نظرا له (1).
مسألة: 92 - حكم غسل الزوج زوجته
هل يغسل الزوج زوجته أم لا؟ ولا خلاف أن المرأة تغسل زوجها (2). وأما الزوج هل
يغسل زوجته أم لا؟ عندنا لا يغسل (3)، وعند الشافعي يغسل (4).
دليلنا في ذلك: وهو أن الزوجة بالموت انقطعت فصارت أجنبية، فلا يحل للزوج أن ينظر
إليها، بخلاف [الزوجة] (5)؛ لأن الزوج إذا مات، فالزوجية باقية بوجوب العدة عليها،
فلهذا قلنا يباح لها الغسل (6).
__________
(1) واستدل الشافعي من النقل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر من بعيره فوقص فمات: "اغسلوه بماء وسدر،
وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، وفي رواية:
"ولا تقربوه طيبا ولا تغطوا وجهه، فإنه يبعث يلبي".
رواه الشيخان واللفظ لمسلم: "البخاري في الجنائز، باب كيف يكفن المحرم
(1267)، 3/ 137؛ ومسلم في الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات (1206)، 2/
865".
انظر: الأم 1/ 270؛ والمجموع مع المهذب 5/ 162، فما بعدها.
(2) نقل ابن المنذر الإجماع: على أن المرأة تغسل زوجها إذا مات. ابن المنذر،
الإجماع، ص 46؛ المجموع 5/ 110.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 41؛ تحفة الفقهاء 1/ 381؛ البدائع 1/ 762.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 36؛ التنبيه، ص 35؛ الوجيز 1/ 73؛ المجموع مع المهذب 5/
111.
(5) في الأصل: (الزوج).
(6) انظر: البدائع 2/ 762.
(1/192)
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن
علي رضي الله عنه: (أنه غسل فاطمة رضي الله عنها) (1) فلو لم يكن جائزا لما فعل
ذلك.
مسألة: 93 - الصلاة على الشهيد
إذا قتل (2) في المعركة لا يغسل ولكن يصلى عليه عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يغسل
ولا يصلى عليه (4).
دليلنا: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه صلى على قتلى
أحد"، ويروى "أنه صلى على حمزة مع كل شهيد" (5).
__________
(1) أخرجه الشافعي في مختصر المزني، والبيهقي، في السنن الكبرى، وقال الشوكاني:
"بإسناد حسن، ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي".
انظر: مختصر المزني، ص 36؛ السنن الكبرى 3/ 396؛ نيل الأوطار 4/ 58.
(2) المقتول في المعركة شهيد وهو: "من قتله المشركون أو وجد في المعركة وبه
أثر، أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب بقتله دية" وسمي شهيدا: إما لشهود الملائكة
إكراما له، أو لأنه مشهود له بالجنة، أو لأنه حي عند الله تعالى حاضر. انظر: شرح
فتح القدير مع العناية 2/ 142.
(3) انظر: القدوري، ص 19؛ المبسوط 2/ 49؛ تحفة الفقهاء 1/ 405؛ الهداية 1/ 94.
(4) انظر: الأم 1/ 167؛ التنبيه، ص 36؛ الوجيز 1/ 75؛ المجموع مع المهذب 5/ 218،
219.
(5) وأخرج عبد الرزاق عن أبي مالك قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
قتلى أحد"، وروى عن الشعبي مرسلا قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على حمزة يوم أحد سبعين صلاة كلما أتي برجل صلى عليه وحمزة موضوع يصلي عليه
معه".
وأخرج البيهقي حديث أبي مالك، من طريق شعبة بن حصين، مطولا، وقال: "هذا أصح
ما في الباب وهو مرسل، وأخرجه أبو داود في المراسيل بمعناه" وقال في حديث
الشعبي: "منقطع". وأخرج الحاكم في هذا الباب حديثا صحيحا مطولا عن جابر
رضي الله عنه: " ... ثم جيء بحمزة فصلى عليه، ثم يجاء بالشهداء فتوضع إلى
جانب حمزة فيصلي عليهم، ثم ترفع ويترك حمزة، حتى صلى على الشهداء كلهم .... "
الحديث. وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أتى بهم رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يوم أحد، =
(1/193)
احتج الشافعي، في المسألة، وهو: أن
المقصود من الصلاة الدعاء بالمغفرة للميت، والشهيد مغفور له، فلا يحتاج إلى الدعاء
(1).
مسألة: 94 - نزع ثياب المعركة من الشهيد
إذا أراد الأولياء أن ينزعوا ما على الشهيد من ثياب المعركة، ليس لهم ذلك عندنا
(2)، وعند الشافعي: لهم ذلك (3).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "زملوهم بكلومهم
ودمائهم، فإنهم يحشرون يوم القيامة، وأوداجهم تشخب دما، اللون لون الدم، والريح
ريح المسك" (4). فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالدفن مع الكلوم
والدماء.
__________
= فجعل يصلي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يرفعون وهو كما هو موضوع". قال
السندي: يظهر من الزوائد أن إسناده حسن.
انظر: ابن ماجة في الجنائز. باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم (1513)، 1/
485؛ مصنف عبد الرزاق (6636)، 3/ 541، (6653)، 3/ 546؛ المستدرك 2/ 120؛ السنن
الكبرى 4/ 12؛ نصب الراية 2/ 309.
(1) واستدل الشافعي من النقل بما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله في شهداء أحد:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل
عليهم". (رواه البخاري في الجنائز، في باب الصلاة على الشهيد (1343)، 9/
203).
راجع أدلة المسألة بالتفصيل: الأم 1/ 267، 268؛ والمجموع مع المهذب 5/ 218 فما
بعدها.
(2) انظر: القدوري، ص 19؛ تحفة الفقهاء 1/ 404؛ الهداية 1/ 94.
(3) أي بالتخيير إن شاؤا في ثيابهم وإن شاؤا نزعوها وكفنوهم في غيرها.
انظر: الأم 1/ 267؛ التنبيه، ص 36؛ الوجيز 1/ 76؛ المجموع 5/ 222؛ المنهاج، ص 28.
(4) الحديث بهذا اللفظ أورده الكاساني في البدائع 2/ 806، وقال ابن الهمام:
"غريب تمامه" والظاهر أن الحديث مركب من حديثين: الجزء الأول ما رواه
الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن صعير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف
على قتلى أحد فقال: "إني شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم وكلومهم". =
(1/194)
احتج الشافعي، في المسألة: أن من سنة
الميت التطهير، فإذا أراد أن ينزع الثوب [الملوث] (1) بالدم، حل له ذلك (2).
مسألة: 95 - غسل الشهيد الجنب
الشهيد الجنب يغسل عندنا: غسل الجنابة لا غسل الميت (3). وعند الشافعي: لا يغسل
(4).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن حنظلة الراهب قتل،
فغسلته الملائكة" (5) فلولا أن الغسل واجب، لما غسلته الملائكة.
__________
= والجزء الثاني ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: "لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في
سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح مسك" ..
واللفظ لمسلم: (مسند الإمام أحمد 5/ 431؛ البخاري، في الجهاد، باب من يخرج في سبيل
الله عز وجل (2803) 6/ 20؛ مسلم، في الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله
(1876) 3/ 1495؛ السنن الكبرى 4/ 11). انظر: البدائع 2/ 801؛ فتح القدير 2/ 143.
(1) في الأصل: (الملبوت).
(2) انظر: الأم 1/ 267؛ المجموع 5/ 222.
(3) الأصل في المسألة أن الطهارة من الجنابة شرط للشهادة حكما في قول أبي حنيفة.
انظر: القدوري، ص 19؛ المبسوط 2/ 57؛ تحفة الفقهاء 1/ 408؛ البدائع 2/ 802؛
الهداية 1/ 94.
(4) هذا أصح الوجهين، باتفاق جمهور الشافعية من المتقدمين كما ذكره النووي.
انظر: الوجيز 1/ 76؛ المجموع مع المهذب 5/ 218 - 220؛ المنهاج، ص 28.
(5) الحديث بتمامه أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، من حديث عبد الله
بن الزبير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وقد قتل حنظلة بن أبي
عامر الثقفي: "إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة، فأسألوا صاحبته"، فقالت:
خرج وهو جنب لما سمع الهائعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لذلك
غسلته الملائكة". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
انظر: المستدرك 3/ 204؛ السنن الكبرى 4/ 15.
وقال النووي: "وأما حديث حنظلة فرواه البيهقي بإسناد جيد من رواية عبد الله
بن الزبير متصلا، ورواه مرسلا من رواية عباد بن الزبير، ورواية عبد الله بن
الزبير، لهذا يكون مرسل =
(1/195)
واحتج الشافعي، فقال: هي طهارة وجبت في
حال الحياة، فإذا مات وجب أن يسقط عنه (1)، دليله: سائر الأوامر.
مسألة: 96 - حكم الصغير إذا قتل في المعركة
الصغير (2) إذا قتل في المعركة، يغسل ويصلى عليه، ولا يتعلق به حكم الشهداء عندنا
(3)، وعندالشافعي: حكمه كحكم الكبر، إذا قتل صار مغفورا له (4).
[دليلنا: أما الكبير] (5) فسقط، [عنه] لذنبه، فيقوم مقام الغسل، فأما الصبي فلا
ذنب له (6).
احتج الشافعي، وهو: أن هذا حكم يتعلق بمن قتل في المعركة، والصبي قتل في المعركة،
فوجب أن يثبت فيه سنة الشهداء (7).
__________
= صحابي رضي الله عنه، فإنه ولد قبل سنتين فقط، وهذه القضية كانت بأحد، ومرسل
الصحابي حجة على الصحيح، والله أعلم، ، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في
الكبير، وإسناده حسن".
انظر: المجموع 5/ 219؛ مجمع الزوائد 3/ 23.
(1) قال الشيرازي: "لأنه طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة كغسل الميت".
المهذب وانظر: المجموع 5/ 221.
(2) الأصل في الخلاف: أن التكليف شرط لصحة الشهادة حكما في قول أبي حنيفة.
(3) انظر: القدوري، ص 19؛ البدائع 2/ 802؛ الهداية 1/ 94.
(4) انظر: الأم 1/ 268؛ المجموع 5/ 226.
(5) الظاهر من العبارة إن فيها سقطا ولا تستقيم بدون هذه الزيادة، والله أعلم.
(6) استدل الكاساني "لأبي حنيفة أن النص ورد بسقوط الغسل في حقهم [الشهداء]
كرامة لهم، فلا يجعل واردا فيمن لا يساويهم في استحقاق الكرامة".
انظر: البدائع 2/ 802؛ الهداية مع شرحها فتح القدير والعناية 2/ 148.
(7) انظر: المجموع 5/ 226، 227.
(1/196)
مسألة: 97 - غسل البغاة والصلاة عليهم
من قتل من أهل البغي (1)، لا يغسل ولا يصلى عليه عندنا (2) وعند الشافعي: يغسل
ويصلى عليه (3).
دليلنا: أن عليا صلى على أصحابه، ولم يصل على الطائفة التي بغت عليه، فقيل: أكفار
هم؟ قال: لا، ولكنهم إخواننا بغوا علينا قتلناهم لبغيهم (4).
مسألة: 98 - الصلاة على رأس الميت وحده
المقتول إذا وجد منه أكثر البدن يغسل ويصلى عليه، وإذا كان الرأس موجودا من غير
البدن لا يغسل ولا يصلى عليه
__________
(1) البغي: من بغى يبغي بغيا، فهو بغاة، والجمع بغاة، وبغى: سعى بالفساد، وأصله:
من بغى الجرح، إذا ترامى إلى الفساد، ومنه: الفئة الباغية؛ لأنها عدلت عن القصد.
انظر: أساس البلاغة؛ المصباح المنير، مادة (بغى).
واصطلاحا، عرفه الأحناف بأنه: الخروج على الإمام العادل بغير حق.
وعرفه الرملي من الشافعية بأن "البغاة هم مسلمون خالفوا الإمام ولو جائرا
بخروج عليه، أو تركوا الانقياد له، أو منعوا حقا طلبه منهم".
انظر: البدائع 9/ 4396؛ شرح فتح القدير 8/ 404؛ حاشية ابن عابدين 4/ 260؛ نهاية
المحتاج 7/ 114، 115.
(2) وإنما لا يصلى عليهم إذا قتلوا في أثناء المحاربة والحرب.
انظر: القدوري، ص 19؛ تحفة الفقهاء 1/ 410؛ الهداية مع فتح القدير 2/ 150؛ البناية
2/ 1066.
(3) انظر: الأم 1/ 268؛ المهذب 1/ 142؛ المجموع 5/ 220.
(4) قال الزيلعي عن هذا الأثر: "أنه غريب"، وقال ابن حجر في الدراية:
"لم أجده".
انظر: نصب الراية 2/ 319؛ الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/ 245؛ البناية 2/
1066.
لم يستدل المؤلف للشافعي، والدليل كما ذكره الشيرازي، قياسا على من قتل في الحد
والقصاص: "من قتل من أهل البغي في قتال أهل العدل، غسل وصلى عليه؛ لأنه مسلم
قتل بحق، فلم يسقط غسله والصلاة عليه، كمن قتل في الزنا والقصاص" المهذب 1/
142.
(1/197)
عندنا (1)، وعند الشافعي: يغسل ويصلى
عليه (2).
دليلنا: أنه لم يوجد أكثر البدن، فلم تجب عليه الصلاة، كالظفر والشعر (3).
احتج الشافعي: أن الرأس قائم مقام كل البدن؛ لأنه يذكر ويراد به جميع البدن، ألا
ترى أنه يقال: أن فلانا يملك كذا وكذا رأسا، فدل على أن الرأس أقيم مقام البدن،
فإذا وجد أكثر البدن يصلى عليه، فالرأس أولى بذلك (4).
__________
(1) وكذلك إن "وجد عضو من أعضاء الآدمي كيد ورجل لا يغسل ولا يصلى عليه لكنه
يدفن" وإن وجد الرأس ومعه نصف البدن يصلى عليه.
انظر: المبسوط 2/ 54.
(2) وكذلك إذا عثر على عضو من أعضاء المتيقن موته، غسل وصلى عليه.
انظر: الأم 1/ 168؛ الوجيز 1/ 75؛ المجموع مع المهذب 5/ 210.
(3) "لأن للأكثر الكل، ولا يؤدي هذا إلى تكرار الصلاة على ميت واحد"؛
المبسوط 2/ 54.
(4) استدل الشافعي من النقل بما روي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه صلى على رؤوس،
وبما روي أن طائرا ألقى يدا بمكة في وقعة الجمل فعرفوها بالخاتم فغسلوها وصلوا
عليها.
انظر: الأم 1/ 268، 269؛ المجموع مع المهذب 5/ 210؛ السنن الكبرى 4/ 18.
ومنشأ الخلاف كما ذكره السرخسي: "أن الصلاة على عضو من الأعضاء يؤدي إلى
تكرار الصلاة على ميت واحد وذلك غير مشروع عندنا ... وعند [الشافعي] لا بأس بتكرار
الصلاة على ميت واحد".
انظر: المبسوط 2/ 54.
(1/198)
كتاب الزكاة (1)
[مسألة]: 99 - زكاة الإبل
إذا ازداد الإبل على مائة وعشرين، تستأنف الفريضة، كما كان في الابتداء عندنا (2)،
وعند الشافعي: لا تستأنف الفريضة، بل يستقر الواجب على العشرات (3)، في كل أربعين:
بنت (4) لبون، وفي كل خمسين: حقه (5).
__________
(1) الزكاة لغة: الطهارة والنماء، "وسمى القدر المخرج من المال زكاة؛ لأنه
سبب يرجى به الزكاة".
انظر: معجم مقاييس اللغة؛ المصباح المنير، مادة: (الزكاء).
وشرعا: "تمليك جزء مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص لله تعالى".
انظر: اللباب في شرح الكتاب 1/ 136؛ مغني المحتاج 1/ 368.
(2) ومعنى الاستئناف أن لا يجب على ما زاد على مائة وعشرين حتى تبلغ خمسة، فإذا
بلغت خمسا تستأنف بشاة مع الحقين، وهكذا حتى تبلغ مائة وخمسين، ففيها ثلاث حقاق،
ثم "يدار الحساب على الخمسينات في النصاب، وعلى الحقاق في الواجب، لكن بشرط
عود ما قبله من الواجبات والأوقاص بقدر ما يدخل فيه".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 43؛ القدوري، ص 20؛ المبسوط 2/ 151؛ تحفة الفقهاء 1/ 438؛
البدائع 2/ 864؛ الهداية 1/ 98.
(3) انظر: الأم 2/ 5؛ التنبيه، ص 38؛ الوجيز 1/ 80؛ المجموع مع المهذب 5/ 344،
345؛ المنهاج، ص 29.
(4) بنت لبون: هي التي اكتملت الثانية ودخلت في الثالثة.
(5) حقة: هي التي اكتملت الثالثة ودخلت في الرابعة. انظر: المجموع 5/ 347، 348.
(1/199)
دليلنا في المسألة: وهو أن هذا شيء
يتكرر بعد المائة، دليله: بنات اللبون (1).
احتج الشافعي، بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إذا زادت
الإبل على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقه" (2).
مسألة: 100 - زكاة الوقص
الوقص (3) هل هو عفو أو شائع في الوجوب؟ عندنا:
__________
(1) استدل الأحناف من النقل "بكتاب الصدقات: الذي كتبه رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لعمرو بن حزم برواية قيس بن سعد وفيه: "فإذا زادت الإبل على مائة
وعشرين استؤنفت الفريضة: فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود
شاة".
قال الزيعلي: روى أبو داود في المراسيل وإسحاق بن راهويه في مسنده، والطحاوي في
مشكله، وابن حزم في المحلى، وقال: ابن الجوزي في التحقيق: هذا حديث مرسل، وقال
البيهقي: "هذا حديث منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي، - صلى الله عليه
وسلم -، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب الاسماع".
انظر: المحلى 6/ 33، 34: السنن الكبرى 4/ 94.
راجع بالتفصيل: نصب الراية 2/ 343، 344: فتح القدير 2/ 176.
(2) هذا جزء من كتاب أبي بكر الصديق لأنس بن مالك رضى الله عنهما. كتب له لما وجهه
إلى البحرين.
رواه البخاري في صحيحه في أحد عشر موضعا في الزكاة. البخاري، في الزكاة، باب زكاة
الغنم (1454)، 3/ 317.
انظر: الأم 3/ 4، 5؛ المجموع مع المهذب 5/ 344 فما بعدها.
(3) الوقص: فيه لغتان: فتح القاف وإسكانها، وهو مشتق من قولهم: "رجل
أوقص" إذا كان قصير العنق.
واصطلاحا: يطلق لما بين الفريضتين في الصدقة، والشنق مثله، وبعض العلماء يجعل
الوقص: في البقر والغنم، والشنق: في الإبل خاصة.
انظر: معجم مقاييس اللغة، المغرب، مختار الصحاح، المصباح، مادة (وقص): تهذيب
الأسماء 3/ 193.
(1/200)
هو عفو (1)، وعند الشافعي: شائع في
الوجوب (2).
بيان المسألة: إذا ملك تسعة من الإبل تجب عليه شاة واحدة، والشاة تجب على الخمسة،
والأربعة عفو، عندنا، وعند الشافعي: تجب على الخمسة، وعلى الأربعة الزائدة.
دليلنا وهو: أن الأربعة الزائدة مال متقاصر عن النصاب، فلا يتعلق به وجوب الزكاة،
كالأربعة (3).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 21؛ المبسوط 2/ 176؛ البدائع 2/ 868؛ الهداية مع شرحها، فتح
القدير 2/ 197؛ البناية 3/ 81.
(2) ذكر النووي أن للشافعي في المسألة قولين: "أصحهما عند الأصحاب أنها عفو،
ويختص الفرض بتعلق النصاب، وهذا نصه في القديم وأكثر كتبه الجديدة المختصر وقال في
البويطي من كتبه الجديدة: يتعلق بالجميع .. وقال: وهو المذهب وبه قطع
الجمهور".
انظر: مختصر المزني، ص 41؛ التنبيه، ص 38؛ المجموع مع المهذب 5/ 354 - 356.
(3) استدل الأحناف من النقل، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في خمس من
الإبل شاة، وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشر"، قال الزيعلي: "غريب بهذا
اللفظ"، وقال ابن حجر: "لم أجده"، ونقلا ذكره عن أبي يعلى وأبي
إسحاق الشيرازي في كتابيهما، وقال العيني: إنما روى معناه أبو عبيد القاسم بن سلام
عن عمرو بن حزم في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الصدقة: "إن الإبل
إذا زادت على عشرين ومائة، فليس فيما دون العشر شيء، يعني حتى تبلغ ثلاثين
ومائة". انظر: نصب الراية 2/ 362؛ الدراية 1/ 256؛ البناية 3/ 82؛ مع المراجع
السابقة للأحناف.
لم يذكر المؤلف دليل الشافعي، واستدل الشيرازي للمذهب بحديث أنس - رضي الله عنه -
في الصدقات: "في أربع وعشرين من الإبل فما دونهما، الغنم في كل خمس شاة، فإذا
بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض". الحديث سبق تخريجه في
المسألة (99)، ص 200.
وقال الشيرازي معلقا: "فجعل الفرض في النصاب وما زاد، ولأنه زيادة على نصاب،
فلم يكن عفوا، كالزيادة على نصاب القطع في السرقة". المهذب 1/ 152.
(1/201)
مسألة: 101 - زكاة البقر
من ملك سائمة (1) من البقر (2)، فلا زكاة فيها حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين
ففيها تبيع أو تبيعة (3)، فإذا بلغ أربعين ففيها مسن (4).
__________
(1) السائمة: "هي حيوان مكتفية بالرعي في أكثر الحول" وجمعها: سوائم.
انظر: تصحيح التنبيه للنووي، بهامش التنبيه، ص 38؛ التعريفات، باب السين.
(2) والبقر: "اسم جنس، واحده باقورة وبقرة، وتقع البقرة على الذكر والأنثى
هذا هو المشهور". المجموع 5/ 383.
(3) تبيع، وجمعه أتبعة، والأنثى: تبيعة، وجمعها: تباع، وسمي تبيعا؛ لأنه يتبع أمه،
وهي التي طعنت في الثانية.
انظر: الهداية 1/ 99؛ تصحيح التنبيه، ص 38؛ المصباح، (تبع).
(4) مسن أو مسنة، وجمعه: مسان، وهي التي طعنت في الثالثة. راجع المراجع السابقة.
هذا الذي ذكره المؤلف هو موضع اتفاق بين المذهبين، ولم يذكر المؤلف شيئا كعادته
مما جرى الخلاف فيه بينهما، وهو: فيما زاد على الأربعين، وعدم ذكر موقع الخلاف
يحتمل احتمالين: الأول: سقوطه سهوا من الناسخ، والثاني: أن المؤلف لم يذكره أصلا
اكتفاء برواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه قال: "ليس في الزيادة شيء حتى
تكون ستين، فإذا كانت ستين ففيها تبيعان، فإذا زاد على الستين يدار الحساب على
الثلاثينات والأربعينات في النصب، وعلى الأتبعة والمسنات في الواجب ويجعل تسعة
بينهما بلا خلاف". وهي قول الشافعي، وقول الصاحبين أيضا. ورجحها الطحاوي وقال
الكاساني "هي أعدل الروايات"، ونقل الميداني عن الاسبيجابي قوله:
"وهذا أعدل الأقاويل وعليه الفتوى، وفي جوامع الفقه: قولها هو المختار".
والدليل على ذلك كما ذكره الشافعي في الأم، ما روي عن معاذ بن جبل: "أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين
مسنة". وروي عن طاءوس أن معاذ بن جبل أتى بوقص البقر، فقال: "لم يأمرني
فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء".
"الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ، في الزكاة، باب في صدقة البقر (24)، 1/
359؛ أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة (1576)، 1/ 101؛ الترمذي، باب زكاة
البقر (623)، 3/ 20؛ النسائي 5/ 5/ 25، 26؛ ابن ماجه (1803)، 1/ 576".
وأما رواية الأصل عن أبي حنيفة فما زاد على الأربعين وجب في الزيادة بقدر ذلك إلى
ستين: ففي الواحدة ربع عشر مسنة، وفي الاثنين نصف عشر مسنة .. ورجح القدوري
والسرخسي والمرغيناني وغيرهم هذه الرواية. =
(1/202)
مسألة: 102 - المال المستفاد أثناء
الحول
المستفاد (1) يضم بعضه إلى بعض، إذا كان من جنس النصاب عندنا (2)، وعند الشافعي:
لا يضم إليه (3).
__________
= واستدلوا لذلك بقولهم: "إن نصب النصاب بالرأي لا يكون، وإنما يكون طريق
معرفته النص، ولا نص فيما بين الأربعين والستين، فإذا تعذر اعتبار النصاب فيه،
أوجبنا الزكاة في قليله وكثيره بحساب ما سبق" كما ذكره السرخسي، ولأبي حنيفة
رواية ثالثة عن الحسن: "أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، فإذا بلغت
خمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع".
ولكن الخلاف في المذهب بين الروايتين الأوليين كما سبق
انظر: مختصر الطحاوي، ص 44؛ القدوري، ص 20؛ المبسوط 2/ 187؛ تحفة الفقهاء 1/ 441؛
بدائع 2/ 866، فما بعدها؛ الهداية مع فتح القدير 2/ 180؛ اللباب في شرح الكتاب 1/
141، 142؛ حاشية ابن عابدين 2/ 279.
وانظر: الأم 2/ 8، 9؛ التنبيه، ص 39؛ الوجيز 1/ 80؛ المجموع مع المهذب 5/ 382، فما
بعدها؛ المنهاج، ص 30.
(1) المستفاد على ضربين: متولد من الأصل حاصل بسببه، كالأولاد والأرباح، فهذا لا
خلاف فيه بين المذهبين بالضم؛ لأنه حاصل بسبب التفرع والاسترباح، وهو تابع للأصول
حقيقة، والضرب الثاني: إذا لم يكن متولدا ولا حاصلا بسببه، بل هو حاصل بسبب مقصود
في نفسه كالموروث والمشتري ونحو ذلك.
فهذا الذي حصل فيه الخلاف: فذهب الأحناف إلى الضم بالأصل، وذهب الشافعية إلى عدم
الضم؛ لأنه أصل ملك بملك جديد ليس مملوكا بما ملك به ما عنده ولا تفرع عنه".
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 432، 433؛ المجموع 5/ 331.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 49؛ القدوري، ص 21؛ المبسوط 2/ 164؛ تحفة الفقهاء 1/
433؛ البدائع 2/ 834؛ الهداية 1/ 102.
(3) قال النووي: "المال المستفاد في أثناء الحول بشراء أو هبة .. أو نحوها
مما يستفاد لا من نفس المال لا يجمع إلى ما عنده في الحول بلا خلاف ويضم إليه في
النصاب وبه قطع الشيرازي والجمهور".
انظر: الأم 6/ 12؛ المجموع مع المهذب 5/ 329، 331.
(1/203)
دليلنا في المسألة: أن هذا مال مستفاد
من جنس النصاب، فوجب أن يضم إليه: كما في الأرباح والأولاد (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن المستفاد مال لم يحل عليه الحول، فلا يجب فيه
الزكاة، كالمستفاد الذي لم يكن من جنس النصاب (2).
مسألة: 103 - زكاة المتولدة من الجنسين
يضم المتولد بين الظبي والغنم وتجب فيه الزكاة، عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تجب
فيه الزكاة (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن هذا حكم متعلق في الأم، فوجب أن يسري إلى الولد، كالعتق
والرق (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن هذا ليس من جنس مال الزكاة، فلا تجب فيه الزكاة
(6)، كالوحش.
__________
(1) حجة الأحناف في المسألة: قول عثمان، وابن عباس، - رضي الله عنهما -، وهو قول
الحسن البصري وسفيان الثوري.
انظر: الترمذي، في الزكاة، باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه
الحول تحت (632)، 3/ 26؛ المبسوط 2/ 164؛ البدائع 2/ 835؛ فتح القدير 2/ 196؛
البناية 3/ 81.
(2) استدل الشافعية من النقل بما رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر
- رضي الله عنهما - مرفوعا وموقوفا عليه: "من استفاد مالا، فلا زكاة عليه حتى
يحول عليه الحول عند ربه". قال الترمذي: الموقوف أصح؛ لأن في سند المرفوع:
عبد الرحمن بن زيد، وهو ضعيف. الترمذي في الزكاة، باب لا زكاة على المال المستفاد
حتى يحول عليه الحول (631)، 3/ 26؛ ابن ماجه، في الزكاة، باب من استفاد مالا
(1792)، 1/ 571؛ السنن الكبرى 4/ 103.
(3) بشرط أن تكون الأم شاة. انظر: البدائع 2/ 872.
(4) انظر: الأم 2/ 19؛ الوجيز 1/ 79؛ المجموع مع المهذب 5/ 306، 307.
(5) تحصل السراية للولد، لرجحان جانب الأم، راجع تفصيل ذلك: البدائع 2/ 872، 873.
(6) لأن الشرع إنما أوجبها في الإبل والبقر والغنم، "ولا يقع على هذه اسم
الغنم مطلقا". انظر: الأم 2/ 19؛ المجموع 5/ 308.
(1/204)
مسألة: 104 - أثر موت صاحب المال في
الزكاة
الزكاة هل تسقط بموت رب المال؟ عندنا تسقط (1)، وعند الشافعي: لا تسقط (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الزكاة عبادة، فوجب أن تسقط بالموت، كسائر العبادات
(3).
احتج الشافعي، وهو: أنه لما حال عليه الحول صارت الزكاة دينا في ذمته فلا تسقط
بالموت، كدين العباد (4).
مسألة: 105 - استرجاع الزكاة المعجلة من الفقير
إذا عجل زكاة ماله قبل حول الحول، وأعطاها للفقير، ثم تلف المال في يد رب المال
قبل حول الحول، فليس له أن يستردها
__________
(1) تسقط إذا لم يوص، انظر: مختصر الطحاوي، ص 52؛ أبو الليث السمرقندي، خزانة
الفقه وعيون المسائل 1/ 131؛ المبسوط 2/ 185؛ تحفة الفقهاء 1/ 481؛ البدائع 2/
923، 924.
(2) انظر: الأم 2/ 15؛ المجموع مع المهذب 6/ 250، 251.
(3) استدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم - "يقول ابن آدم ما
لي ما لي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما
سوى ذلك فهو مال الوارث". "أخرجه النسائي، في الوصايا، باب الكراهية في
تأخير الوصية 6/ 198".
قال السرخسي: "وهذا يقتضي أن ما لم يمضه من الصدقة يكون مال الوارث بعد
موته". انظر: المبسوط 2/ 186؛ بدائع الصنائع 2/ 924.
(4) استدل الشافعية من النقل بما رواه الشيخان عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في
الصوم أن رجلا قال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال -
صلى الله عليه وسلم -: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال:
نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقضى": "البخاري في الإيمان والنذور،
باب من مات وعليه نذر (6698)، 11/ 583، 585؛ مسلم، في الصيام، باب قضاء الصيام عن
الميت (1148)، 1/ 804.
انظر: المجموع مع المهذب 6/ 250، 251.
(1/205)
من الفقير عندنا (1)، وعند الشافعي: له
أن يستردها إذا أعلمه (2).
دليلنا وهو: أن الصدقة وصلت إلى يد الفقير، فلا يجوز استرجاعها، كما إذا لم يعلمه
أنها زكاة معجلة (3).
احتج الشافعي وهو: أن رب المال إنما أداه بنية الزكاة، فإذا هلك المال، قبل حول
الحول، تبين أن المأخوذ ليس من مال الزكاة، [فجاز (4) له] استرجاعه: كالهبة إذا
كان بشرط العوض (5).
مسألة: 106 - زكاة الخلطة
الخلطة (6) لا تجب الزكاة [فيها] (7) عندنا (8)، وعند الشافعي: تجب الزكاة إذا
كانت نصابا (9)، بيانه: إذا كان أربعون شاة بين رجلين، فحال الحول، لا تجب الزكاة
عندنا في الجملة، وعند الشافعي تجب.
__________
(1) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 485؛ البدائع 2/ 922.
(2) شرط أن يكون الدافع هو المالك الذي وجبت عليه الزكاة بالإضافة إلى إعلامه أنها
معجلة.
انظر: الوجيز 1/ 88؛ المجموع مع المهذب 6/ 144: 145؛ المنهاج، ص 34.
(3) انظر: البدائع 2/ 923.
(4) في الأصل: فوجب عليه واستبدلت لعدم استقامة العبارة، إذ الحكم للجواز وليس
للوجوب، كما قال النووي: "فله الرجوع بلا خلاف". انظر: مجموع 6/ 145.
(5) انظر: الأم 4/ 61؛ المهذب 1/ 448؛ الوجيز 1/ 250.
(6) الخلطة بضم الخاء، هي "أن يجعل مال الرجلين أو الجماعة كمال الرجل
الواحد". المجموع 5/ 406.
(7) زيدت لاقتضاء السياق.
(8) انظر: المبسوط 2/ 153؛ تحفة الفقهاء 1/ 453، 454؛ البدائع 2/ 868.
(9) ولكن بشروط كما سيأتي، انظر: الأم 1/ 13؛ الوجيز 1/ 83؛ المجموع مع المهذب 6/
405، 407؛ المنهاج، ص 30.
(1/206)
دليلنا في المسألة: لأن هذا حق الله
تعالى يتعلق بالنصاب الكامل، فلا يتعلق بالشركة (1)، دليله: القطع في السرقة (2).
احتج الشافعي: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في كل
أربعين شاة شاة" (3) وقد وجد ها هنا أربعون شاة، ويشترط أن يكون المرعى
واحدا، والمبيت واحدا (4).
__________
(1) استدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وسائمة المرء إذا
كانت أقل من أربعين من الغنم فليس فيها الزكاة"، قال السرخسي: "وهنا
سائمة كل واحد منه أقل من أربعين".
الحديث أخرجه البخاري في كتاب أبي بكر لأنس بلفظ: "فإذا كانت سائمة الرجل
ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" في كتاب الزكاة،
باب زكاة الغنم (1454)، 3/ 318.
انظر: المبسوط 2/ 154؛ البدائع 2/ 869.
(2) قياسا على السرقة، بمعنى: إذا اشترك اثنان في سرقة عشرة دراهم أو دينار لا
تقطع يداهما إلا إذا سرق كل واحد منهما نصابا كاملا.
قال الطحاوي: "ولا قطع على جماعة فيما سرقوا حتى يكون ما سرقه كل واحد منهم
عشرة دراهم فصاعدا.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 270؛ المبسوط 9/ 137.
(3) الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث علي وابن عمر - رضي الله
عنهم -. أبو داود، في الزكاة، باب زكاة السائمة (1572)، 2/ 100؛ النسائي في زكاة
الغنم 5/ 29؛ ابن ماجه في الزكاة، باب صدقة الغنم (1805)، 1/ 577.
(4) وأضاف الشافعية من الشروط: "أن لا تتميز في المشرب، والمسرح، والمراح،
وموضع الحلب، وكذا الراعي، والفحل في الأصح" بالإضافة إلى شروط الزكاة
العامة: من أهلية الزكاة، والنصاب والحول.
انظر: الأم 2/ 13؛ المهذب 1/ 158؛ والمنهاج، ص 30.
استدل الشافعي في المسألة بحديث: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية
الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".
الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر، وأنس، في كتاب أبي بكر في الصدقات - رضي الله
عنهم -: البخاري، في الزكاة، باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع (1450)، 3/
314.
انظر: الأم 2/ 13؛ المجموع مع المهذب 5/ 406.
(1/207)
مسألة: 107 - زكاة مال الصبي
هل تجب الزكاة في مال الصبي؟ عندنا لا تجب (1)، وعند الشافعي تجب (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الزكاة عبادة، والعبادات إنما تجب بطريق الابتلاء
والامتحان، فلو أوجبنا الزكاة على الصبي يؤديها الولي عنه، لم يحصل معنى الابتلاء
والامتحان. وهذا المعنى لا يحصل في حق الصبي، فلا (3) تجب كسائر العبادات.
احتج الشافعي، وقال: بأن هذا حق مالي يتعلق بالنصاب، فتجب على الصبي (4)، كالعشر
والخراج.
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 45؛ خزانة الفقه وعيون المسائل 1/ 128؛ المبسوط 2/
162؛ تحفة الفقهاء 1/ 481؛ بدائع الصنائع 2/ 814.
(2) انظر: الأم 2/ 28؛ المجموع مع المهذب 5/ 296، 298.
(3) استدل الأحناف من النقل، بحديث الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة .. .": البخاري، في الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه
وسلم - بني الإسلام على خمس (8)، 1/ 49؛ مسلم، في الإيمان، باب بيان أركان الإسلام
(16)، 1/ 45. وقال الكاساني معلقا عليه: "وما بني عليه الإسلام يكون عبادة،
والعبادات التي تحتمل السقوط تقدر في الجملة، فلا تجب على الصبيان، كالصوم
والصلاة".
انظر: المبسوط 2/ 162؛ البدائع 2/ 814؛ نصب الراية 2/ 333.
(4) استدل الشافعي من النقل بعموم قوله سبحانه وتعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وقال: "فلم يخص مالا دون مال .. .".
راجع أدلتهم بالتفصيل: الأم 2/ 28، 29، وما أورده البيهقي في السنن من الأحاديث
والآثار، باب من تجب عليه الصدقة 4/ 107، 108؛ المجموع 5/ 297، 298.
(1/208)
مسألة: 108 - زكاة الخيل
تجب الزكاة في الخيول عندنا (1)، وعند الشافعي: لا تجب إلا أن تكون للتجارة (2)،
كالإبل والبقر.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا تجب الزكاة في الجبهة، ولا في النخة، ولا في الكسعة" (3).
الكسعة: الحمير، والجبهة: الخيل، والنخة: البقر العوامل (4).
__________
(1) تجب الزكاة في الخيول إذا كانت سائمة مختلطة: ذكورا وإناثا، وزكاتها بالخيار:
أن شاء أدى عن كل فرس دينارا، وإن شاء مقوما بالقيمة.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 45؛ المبسوط 2/ 188؛ تحفة الفقهاء 1/ 451؛ البدائع 2/ 881؛
نصب الراية 2/ 359؛ البناية 3/ 60.
(2) انظر: الأم 2/ 26؛ الوجيز 1/ 79؛ المجموع مع المهذب 5/ 306، 307.
(3) الحديث أخرجه البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا بلفظ: "عفوت
لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة". وفي السند: أبو معاذ بن سليمان بن أرقم،
قال عنه البيهقي: متروك الحديث، لا يحتج به، مع أنه قد اختلف عليه فيه، فقيل عنه
هكذا، وقيل عنه من طريق آخر مرفوعا، ورواه غيره مرسلا وأخرجه أبو داود في
المراسيل.
لكن استدل الشافعي لمذهبه بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
مرفوعا: "ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة"؛ البخاري في الزكاة، باب
على المسلم في فرسه صدقة؟ (1463)، 3/ 326؛ ومسلم، في باب لا زكاة على المسلم في
عبده وفرسه (982)، 2/ 675؛ السنن الكبرى 4/ 117؛ منحة المعبود في شرح مسند أبي
داود الطيالسي 1/ 174).
انظر: الأم 2/ 26.
(4) انظر: معجم مقاييس اللغة، مختار الصحاح، مادة (جبة، جبهة، كسع، نخخ).
لم يستدل المؤلف لمذهب أبي حنيفة، ودليله كما ذكره السرخسي وغيره، بما رواه
الدارقطني والبيهقي وغيرهما: عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"في كل فرس سائمة دينار أوعشرة =
(1/209)
مسألة: 109 - زكاة مهر المرأة
لا تجب الزكاة في مهر المرأة ما لم تقبضه عندنا (1)، وعند الشافعي: تجب سواء قبضت
أو لم تقبض (2).
دليلنا: أن المهر بدل عوض لا في مقابلة مال، فلا تجب فيه الزكاة قبل القبض (3)،
كما في مال المكاتب (4).
احتج الشافعي، في المسألة: أنه دين وجب للمرأة شرعا، فوجبت فيه الزكاة كسائر
الديون (5).
مسألة: 110 - إخراج القيم في الزكاة
إخراج القيم في الزكاة جائز عندنا (6)، وعند الشافعي لا يجوز (7).
__________
= دراهم". قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه: الليث بن حماد
وغورك، وكلاهما ضعيف".
انظر: (الدارقطني 2/ 125؛ السنن الكبرى 4/ 119؛ مجمع الزوائد 3/ 69؛ نصب الراية
358).
انظر: المبسوط 2/ 188.
(1) ولا زكاة عليها حتى يحول عليه الحول بعد القبض.
انظر: المبسوط 2/ 167، 168، 208؛ تحفة الفقهاء 1/ 460.
(2) انظر: الأم 2/ 25؛ الوجيز 1/ 86؛ المجموع مع المهذب 6/ 22؛ المنهاج، ص 34.
(3) "لأنها ملكت المالية ابتداء لعقد النكاح، فلا يتم ملكها فيه إلا بالقبض،
كالدية على العاقلة بخلاف المبيع .. .". راجع المبسوط 2/ 168.
(4) قياسا على مال المكاتب، فإنه لا زكاة فيه، بجامع عدم التملك الكامل.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 45؛ السنن الكبرى، باب ليس في مال المكاتب زكاة 4/ 109.
(5) قاس مهر المرأة على الدين، بجامع الملكية في الذمة في كل منهما.
انظر: الأم 2/ 25؛ المجموع 6/ 26.
(6) انظر: القدوري، ص 21؛ المبسوط 2/ 156، 203؛ الهداية 1/ 101.
(7) انظر: المجموع مع المهذب 5/ 401.
(1/210)
بيانه: إذا وجبت عليه شاة في خمس من
الإبل، فأدى عن شاة خمس دراهم قبل ذلك.
دليلنا: وهو أن المقصود من الزكاة، إنما هو: إغناء الفقير أو حاجة الفقير، وهذا
المعنى يحصل بالقيمة، كما يحصل بالعين، فوجب أن يجوز (1)، كالجزية.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ
بن جبل: "خذ من الإبل الإبل، ومن البقر البقر، ومن الغنم الغنم" (2)
فأوجب بكل مال جنسه، ومن أدى القيمة فقد خالف هذا (3).
مسألة: 111 - النصاب في العشريات
النصاب (4) ليس بشرط في العشريات (5) عندنا (6)، وعند
__________
(1) استدل الأحناف من النقل بقوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]،
"فهو تنصيص على أن المأخوذ مال"، وبقول معاذ - رضي الله عنه - لأهل
اليمن: "ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة ...
" وذلك لا يكون إلا باعتبار القيمة: (البخاري في الزكاة، باب العرض في الزكاة
(1447)، 3/ 311).
وأدلة أخرى راجع: المبسوط 2/ 156، 157.
(2) الحديث أخرجه أبو داود، في الزكاة، باب صدقة الزرع (1599)، 2/ 109؛ ابن ماجه،
في الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال (1814)، 1/ 580.
(3) راجع أدلتهم بالتفصيل: الرسالة للشافعي، ص 187، (519) فما بعدها؛ المجموع 5/
402، 403.
(4) نصاب الشيء: أصله، والجمع: نصب وأنصبة، والمراد به هنا: نصاب الزكاة: القدر
المعتبر لوجوبها. انظر: معجم مقاييس اللغة، والمصباح مادة (نصب).
(5) العشريات، جمع: العشر، الجزء من عشرة أجزاء، والجمع، أعشار.
انظر: المصباح، (عشر). والمراد بالعشريات زكاة الخارج من الأرض الذي يقصد بزراعته
نماء الأرض والغلة، وتستغل الأرض به عادة.
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 497؛ حاشية ابن عابدين 2/ 325.
(6) انظر: مختصر الطحاوي، ص 46؛ القدوري، ص 22؛ تحفة الفقهاء 1/ 496؛ البدائع 2/
938؛ الهداية 1/ 109.
(1/211)
الشافعي: هو شرط (1) وهو: أن يكون خمسة
أوسق، كل وسق: ستون صاعا، كل صاع (2): أربعة أمداد (3)، كل مد: رطل (4) وثلث.
دليلنا: ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما سقت السماء
ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر" (5) ولم يشترط فيه النصاب.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن هذا حق وجب في المال فاشترط فيه النصاب (6)،
كسائر الأموال.
__________
(1) انظر: الأم 2/ 36؛ الوجيز 1/ 90؛ المجموع مع المهذب 5/ 439؛ المنهاج، ص 31.
(2) الصاع: هو المعروف: بالصاع المدني.
(3) أمداد، ومفرده: مد: وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، كما ذكره المؤلف، وبه أخذ
الشافعية، وهو ما يعادل اليوم 543.428 غراما، ورطلان عند أهل العراق، وبه أخذ
الأحناف، هو ما يعادل اليوم 20، 824 غراما.
(4) الرطل: بكسر الراء وفتحها، لغتان مشهورتان، وجمعه أرطال، وقد عرفت الأسواق
الإسلامية أنواعا من الأرطال، ولكن الفقهاء، اهتموا بالرطل العراقي، واعتبر الأساس
في جميع المكيلات والموزونات المتعلقة بالحقوق الشرعية، والرطل العراقي= اثنتا
عشرة أوقية، وهو ما يعادل اليوم 480 غراما.
انظر: المغرب في ترتيب المعرب؛ مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (صوع، مد، رطل)،
الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، مع تعليقات الدكتور الخاروف، ص 55،
56.
(5) الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة:
البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء
السماء (1483)، 3/ 347؛ مسلم عن جابر - رضي الله عنه - في الزكاة، باب ما فيه
العشر أو نصف العشر (981)، 2/ 675.
(6) استدل الشافعي من النقل، بما رواه الشيخان عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة":
(البخاري، في الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز (1406)، 3/ 271؛ مسلم، في كتاب
الزكاة (979)، 2/ 673).
انظر: الأم 2/ 35؛ المجموع 5/ 440؛ السنن الكبرى 4/ 120.
(1/212)
مسألة: 112 - فيما يجب العشر
العشر يجب فيما يقتات ويدخر غالبا، وما لا يقتات مثل الفواكه والخضروات عندنا (1)،
وعند الشافعي: لا يجب إلا فيما يقتات (2).
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن
جبل: "خذ من كل عشر باقات من البقل باقة" (3).
احتج الشافعي، في المسألة: أن هذا مال ليس له حرمة، فلا تجب فيه الزكاة، كالخشب
(4).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 22؛ تحفة الفقهاء 1/ 495؛ البدائع 2/ 936؛ الهداية 1/ 109.
(2) انظر: الأم 2/ 36؛ التنبيه، ص 40؛ الوجيز 1/ 90؛ المجموع مع المهذب 5/ 434،
435؛ المنهاج، ص 30.
(3) الحديث لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وإنما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن، مجاهد
عن ابن عمر قال: "في الخضروات زكاة"، وروى عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم
النخعي قوله: "في كل شيء أنبت الأرض العشر" وزاد ابن أبي شيبة (حتى في
عشر دستجات بقل)، ونحوه عن عمر بن عبد العزيز.
انظر: مصنف عبد الرزاق، في باب الخضر (7195، 7196)، 4/ 121؛ مصنف ابن أبي شيبة،
باب في كل شيء أخرجت الأرض زكاة، في الخضر من قال ليس فيها زكاة 3/ 139، 140؛ شرح
فتح القدير 2/ 243.
وضابط زكاة الخارج من الأرض عند أبي حنيفة "أن يكون الخارج من الأرض مما يقصد
بزراعته نماء الأرض به عادة، فلا عشر في الحطب والحشيش والقصب الفارسي". ومن
أقوى أدلته على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267].
قال الكاساني معلقا: "وأحق ما تتناوله هذه الآية: الخضروات؛ لأنها هي المخرجة
من الأرض حقيقة". وأدلة أخرى راجع: البدائع 2/ 936، 937.
(4) قاس الذي لا يقتات بالخشب بجامع عدم حرمة كل منهما.
واستدل النووي بحديث معاذ وأبي موسى الأشعري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لها لما بعثهما إلى اليمن: "لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة:
الشعير، والحنطة، والتمر والزبيب". (أخرجه البيهقي في السنن، في باب لا تؤخذ
صدقة شيء من الشجر غير النخل والعنب 4/ 125)، المجموع 5/ 434.
(1/213)
مسألة: 113 - اجتماع العشر والخراج
العشر والخراج (1) لا يجتمعان عندنا (2)، وعند الشافعي يجتمعان (3).
وحاصل الخلاف راجع وهو: أن العشر والخراج يجب في رقبة الأرض عندنا (4).
وعنده: العشر يجب في الزرع، والخراج [يجب في الأرض، فلا يمنع أحدهما الآخر، كأجرة
المتجر وزكاة التجارة، ولنا ما روي
__________
(1) الخرج والخراج واحد: وهو شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم
والخراج: ما يخرج من غلة الأرض أو الغلام، والأتاوة تؤخذ من أموال الناس لأنه مال
يخرجه المعطي. انظر: معجم مقاييس اللغة؛ المغرب في ترتيب المعرب؛ لسان العرب؛
المصباح المنير، مادة: (خرج).
والأراضي على قسمين: عشرية وخراجية، وكل واحد منهما لها أنواع، فمن أهم أنواع
العشرية: أرض العرب، وكل أرض أسلم أهلها طوعا، وكل ما اتخذه المسلم من بستان أو
إحياء من أرض ميتة بإذن الإمام، والأراضي التي فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين.
وأهم أنواع الخراجية: سواد العراق كلها، وكل أرض فتحت عنوة وقهرا وتركت على أيدي
أربابها، وكذلك كل ما اتخذه الذمي من بستان أو إحياء. ويتلخص: بأن ما كان سببه
الشرك: خراجية، وما كان سببه الإسلام عشرية.
انظر بالتفصيل: أبو يوسف، الخراج، ص 25 - 75؛ تحفة الفقهاء 1/ 493، 494؛ المجموع
5/ 482.
(2) انظر: المبسوط 7/ 202؛ تحفة الفقهاء 1/ 497؛ البدائع 2/ 933؛ شرح فتح القدير
2/ 258.
(3) انظر: المجموع مع المهذب 5/ 481 فما بعدها.
(4) توضيحه: "أن سبب وجوب العشر هو: الأرض النامية بالخارج حقيقة، وشب وجوب
الخراج هو: الأرض النامية بالخارج حقيقة أو تقديرا".
انظر: المبسوط 2/ 208؛ تحفة الفقهاء 1/ 497؛ بدائع الصنائع 2/ 933.
(1/214)
عن ابن مسعود أن العشر والخراج، (1) لا
يجتمعان على مسلم (2).
مسألة: 114 - العشر في الأرض المستأجرة
إذا استأجر أرضا ليزرع فيها، فإن العشر يجب على رب صاحب الأرض عندنا (3). وعند
الشافعي: يجب على المستأجر (4).
والخلاف يرجع إلى ما قلنا وهو: أن العشر يجب في عين الزرع [عنده]، فلهذا يؤخذ من
المستأجر (5). وعند أبي حنيفة:
__________
(1) هنا أصل عبارة المخطوط: "وعنده العشر يجب في الزرع والخراج لا يجتمعان
على مسلم" فيلاحظ على العبارة أنها غير مستقيمة، ولعل ذلك بسبب سقط بعض الجمل
من الناسخ، فلزم تعديلها حسب ما توحي المسألة، لتستقيم العبارة وتؤدي المعنى
سليما.
قال الشيرازي: "فإن كان على أرض خراج، وجب الخراج في وقته، ويجب العشر في
وقته، ولا يمنع وجوب أحدهما وجوب الآخر؛ لأن الخراج يجب للأرض، والعشر يجب للزرع،
فلا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر وزكاة التجارة". المهذب 1/ 164.
(2) استدل السرخسي وغيره: بما روي عن ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم - موقوفا
ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع العشر والخراج
في أرض مسلم".
ولعل المؤلف استدل بهذه الرواية، قال البيهقي: "هذا حديث باطل وصله ورفعه،
ويحيى بن عنبسة متهم بالوضع، قال أبو سعد: قال أبو أحمد ابن عدي إنما يرويه أبو
حنيفة عن حماد عن إبراهيم من قوله، رواه يحيى بن عنبسة عن أبي حنيفة فأوصله إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم -، قال: ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر، في ضعفه لرواياته عن
الثقات بالموضوعات". السنن الكبرى للبيهقي 4/ 132.
انظر: الأدلة بالتفصيل؛ المبسوط 2/ 208؛ البدائع 2/ 933؛ شرح فتح القدير 2/ 258.
(3) انظر: البدائع 2/ 931.
(4) انظر: المجموع مع المهذب 5/ 481، 482.
(5) وتتضح المسألة بما ذكره الشيرازي: "وإن كان الزرع لواحد والأرض لآخر، وجب
العشر على مالك الزرع عند الوجوب؛ لأن الزكاة تجب في الزرع فوجبت على مالكه كزكاة
التجارة، تجب على مالك المال دون مالك الدكان" المهذب 1/ 164.
(1/215)
تتعلق برقبة الأرض، والأرض للآجر، فوجب
أن يؤخذ منه (1).
مسألة: 115 - زكاة الحلي
الزكاة تجب في الحلى (2) عندنا، سواء كان للرجال أو للنساء (3)، وعند الشافعي لا
تجب إذا كان للنساء (4).
دليلنا في ذلك: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] رأى امرأتين تطوفان
بالبيت، وعليهما سواران من ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتحبان
أن يسوركما الله تعالى سوارين من نار؟ " فقالتا: لا، فقال: "أديا
زكاتهما" (5)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الزكاة في الحلى.
__________
(1) وذلك، "لأن الخارج في إجارة الأرض وإن كان عينا حقيقة، فله حكم المنفعة
فيقابله الأجر، فكان الخارج للآجر معنى، فكان العشر عليه"، البدائع 2/ 931؛
وراجع المسألة السابقة (113)، ص 237.
(2) الحلى: حلى المرأة، وجمعه حلي - بضم الحاء وكسرها - يقال: تحلى بالحلى: أي
تزين به. والمقصود بالحلى هنا: ما تتخذه النساء من الذهب والفضة للتزين.
انظر: الصحاح؛ المصباح، مادة: (حلا).
تجب الزكاة فيها بشرط بلوغ النصاب، وحولان الحول، ونصاب الذهب: عشرون مثقالا = 85
غراما. ونصاب الفضة: مائتا درهم ويعادل الدرهم: 2.97 غراما، فيكون نصاب الفضة =
200 × 2.97= 594 غراما.
انظر: القدوري، ص 22؛ الإيضاح والتبيان، مع تعليقات الدكتور محمد إسماعيل الخاروف،
ص 49.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 49؛ القدوري، ص 22؛ المبسوط 2/ 192؛ البدائع 2/ 841؛
الهداية 1/ 104.
(4) انظر: الأم 2/ 40، 41؛ التنبيه، ص 41؛ الوجيز 1/ 93؛ المجموع مع المهذب، 6/
29، 33، المنهاج، ص 31.
(5) الحديث أخرجه الترمذي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا
وليس عنده: (تطوفان بالبيت)، وقال: "هذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن
عمرو بن شعيب =
(1/216)
احتج الشافعي، في المسألة: أن هذا مال
مبتذل مباح، فلا تجب فيه الزكاة (1)، كثياب المهنة والبذلة.
مسألة: 116 - أثر الدين في الزكاة
هل يمنع الدين الزكاة؟ عندنا: يمنع (2)، وعند الشافعي: لا يمنع (3).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: "خذ
__________
= نحو هذا، والمثنى وابن لهيعة يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - شيء".
وأخرجه أبو داود والنسائي عن طريق خالد بن الحارث عن حسين المعلم، عن عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه، وأخرجه النسائي أيضا مرسلا على عمرو، وقال: إن المرسل
أولى بالصواب.
وصحح المنذري وابن القطان حديث أبي داود، وقالا: إنما ضعف الترمذي هذا الحديث؛ لأن
عنده فيه ضعيفين، كما نقله الزيلعي.
انظر: أبي داود، في الزكاة، باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي (1563)، 2/ 95؛ الترمذي،
باب في زكاة الحلي (737)، 3/ 29؛ النسائي 5/ 38؛ بالتفصيل: السنن الكبرى، باب سياق
أخبار وردت في زكاة الحلي 4/ 139، 140؛ نصب الراية 2/ 370، 371.
(1) استدل الشافعي من النقل بما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: (أنها كانت تلي
بنات أخيها يتامى في حجرها، لهن الحلى ولا تخرج من حليهن الزكاة).
قال النووي: "وهذا إسناد صحيح".
(أخرجه مالك، في الموطأ، باب ما لا زكاة فيه من الحلى 1/ 25؛ بالتفصيل: السنن
الكبرى، باب من قال لا زكاة في الحلى 4/ 138).
انظر: الأم 2/ 40؛ المجموع 60/ 31.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 50؛ القدوري، ص 19؛ المبسوط 2/ 184؛ البدائع 2/ 817؛
الهداية 1/ 96.
(3) انظر: الأم 2/ 50؛ المجموع مع المهذب 5/ 313؛ المنهاج، ص 33.
(1/217)
من أموالهم ورد إلى فقرائهم" (1)
فأمر برد الزكاة إلى الفقراء، وهذا المديون فقير: إذا كان عنده مائتا درهم وعليه
مائتا درهم فهو فقير، فلا تجب فيه الزكاة، كالفقير الذي ليس عنده نصاب (2).
احتج الشافعي: بأنه نصاب كامل حال عليه الحول وهو في يده، فوجبت فيه الزكاة (3)،
كالذي لا دين عليه.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري عنه بلفظ: " ... فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة
تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .. ." الحديث: البخاري، في الزكاة، باب
أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (1496)، 3/ 357.
(2) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 2/ 184؛ البدائع 2/ 817، 818؛ السنن الكبرى 4/
148.
(3) انظر: الأم 2/ 50؛ السنن الكبرى، باب الدين مع الصدقة 4/ 148، 149؛ المجموع 5/
113، وما بعدها.
(1/218)
باب زكاة الفطر (1)
[مسألة]: 117 - تحمل الزوج زكاة فطر زوجته
لا تجب زكاة الفطر على الزوج لأجل زوجته، عندنا (2)، وعند الشافعي تجب (3).
دليلنا في المسألة: وهو أن الزكاة على قسمين: زكاة مال، وزكاة بدن، ثم في زكاة
المال: لا يتحمل سبب الغير، فكذلك زكاة البدن، وجب أن لا يتحمل (4).
احتج الشافعي، وهو: أن صدقة الفطر تجري مجرى المؤن، فتجب على الزوج (5) كما في
سائر النفقات.
__________
(1) الفطر، والفطرة: اسم مصدر، بمعنى الخلقة، قال تعالى: {فطرت الله التي فطر
الناس عليها} [الروم: 30].
وشرعا: "اسم لما يعطى من المال بطريق الصلة والعبادة ترحما مقدرا"، طهرة
للصائم.
انظر: المصباح: "فطر)، البناية شرح الهداية 3/ 230؛ حاشية ابن عابدين 2/ 357.
(2) انظر: القدوري، ص 23؛ المبسوط 3/ 105؛ الهداية 5/ 115، 116.
(3) انظر: الأم 2/ 63؛ التنبيه، ص 43؛ الوجيز 1/ 98؛ المجموع مع المهذب 6/ 101؛
المنهاج، ص 33.
(4) وعلل ذلك المرغيناني بقوله: "لقصور الولاية والمؤنة، فإنه لا يليها في
غير حقوق النكاح، ولا يمونها في غير الرواتب كالمداواة".
انظر: المبسوط 3/ 105؛ الهداية 1/ 116.
(5) استدل الشافعي من النقل بما روى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:
"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر على الصغير والكبير
والحر والعبد ممن تمونون". أخرجه الشيخان، إلا قوله: "ممن تمونون"
فرواه بهذه اللفظة الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، قال البيهقي: "إسناده غير
قوي =
(1/219)
مسألة: 118 - فطر العبد المشترك
لا تجب صدقة الفطر على العبد المشترك عندنا (1)، وعند الشافعي، تجب (2). والمعنى
في هذه المسألة ومسألة الخلطة واحد، فلا يحتاج إلى الإعادة (3).
مسألة: 119 - شرط النصاب في زكاة الفطر
يعتبر النصاب في وجوب الزكاة، وزكاة الفطر عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يعتبر (5).
دليلنا في المسألة: أن هذا أحد نوعي الزكاة، يعتبر فيه
__________
= والله أعلم"، (البخاري، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر عل العبد وغيره من
المسلمين (1504) 3/ 369؛ مسلم في الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر
والشعير (984)، 2/ 677؛ الأم 2/ 62؛ سنن الدارقطني 2/ 140؛ السنن الكبرى 4/ 161؛
المجموع 6/ 101.
(1) انظر: القدوري، ص 23؛ بدائع الصنائع 2/ 964؛ الهداية 1/ 116.
(2) تجب عل كل واحد بقدر ما يملك.
انظر: الأم 2/ 63؛ التنبيه، ص 43؛ الوجيز 1/ 98؛ المجموع 6/ 103.
(3) راجع: "حكم الزكاة في الخلطة"، في المسألة (106)، ص 206، 207.
(4) انظر: القدوري، ص 23؛ المبسوط 2/ 103؛ تحفة الفقهاء 1/ 511، 512؛ بدائع
الصنائع 2/ 961؛ الهداية 1/ 115.
(5) لكن بشرط أن يدخل عليه شوال وعنده قوته وقوت من يقوته يومه وما يؤدي به زكاة
الفطر عنه وعنهم.
انظر: الأم 2/ 64؛ التنبيه، ص 42؛ الوجيز 1/ 99؛ المجموع مع المهذب 6/ 96؛
المنهاج، ص 33.
(1/220)
ما يعتبر في الزكاة. كسائر الأموال
(1).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"أدوا عن كل حر وعبد صغير وكبير، نصف صاع من حنطة، أو صاع من تمر أوصاع من
شعير" (2)، ولم يشترط فيه الغني.
مسألة: 120 - تعجيل زكاة الفطر
يجوز تعجيل زكاة الفطر قبل رمضان عندنا (3) وعند الشافعي لا يجوز (4).
__________
(1) واستدل الأحناف من النقل بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى .. .".
رواه الإمام أحمد في مسنده (7727)، 14/ 161؛ وذكره البخاري في صحيحه تعليقا، فى
كتاب الوصايا، باب تأويل قوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} 5/ 377؛ انظر:
البدائع 2/ 961؛ شرح فتح القدير 2/ 283.
(2) الحديث أخرجه أبو داود، عن ثعلبة بن أبي صعير قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر
أو أنثى .. ."، وفي رواية عنه: " ... فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر أو
صاع من شعير عن كل رأس".
وأخرج الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما - نحوه: أبو داود، في الزكاة، باب من
روى نصف صاع من قمح (1619، 1620)، 2/ 114؛ البخاري، في الزكاة، باب صدقة الفطر
صاعا من تمر (1507)، 3/ 371؛ مسلم، في الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من
التمر والشعير (984)، 2/ 677.
(3) يجوز التعجيل مطلقا على الصحيح عند الأحناف.
انظر: تحفة الفقهاء 1/ 519؛ البدائع 2/ 972.
(4) انظر: التنبيه، ص 43؛ المجموع 6/ 136؛ المنهاج، ص 34.
ما ذكره المؤلف بالنسبة لوقت الجواز، وأما وقت الوجوب: فعند الأحناف: وقت طلوع
الفجر الثاني من يوم الفطر، وعند الشافعي: هو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان،
ووقت الاستحباب: يوم الفطر قبل صلاة العيد اتفاقا.
انظر: القدوري، ص 24؛ تحفة الفقهاء 1/ 518؛ البدائع 2/ 971؛ الأم 2/ 70؛ التنبيه،
ص 43؛ المجموع 6/ 116، 136.
(1/221)
دليلنا: أنها زكاة مفروضة، فيجوز
أداؤها قبل وقتها، كزكاة الأموال (1).
احتج الشافعي في المسألة: أن زكاة الفطر تتعلق بوقت، فلا يجوز تعجيلها قبل الوقت
(2)، كالقربان.
__________
(1) انظر: البدائع 2/ 972؛ الهداية مع شرح فتح القدير والعناية 2/ 299.
(2) انظر: المجموع مع المهذب 6/ 155، فما بعدها.
(1/222)
كتاب الصيام (1)
[مسألة]: 121 - وقت انعقاد صوم الفرض
الصيام، لا خلاف بيننا وبين الشافعي: أن صوم النذر، والكفارة، والقضاء، لا يجوز
إلا بنية من الليل، ولا خلاف أيضا: أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار إلى وقت
الزوال.
واختلفوا في صيام رمضان، عندنا: يجوز بنية من النهار (2)، وعند الشافعي: لا يجوز
إلا بنية من الليل (3).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قدم المدينة، فوجد اليهود
يصومون صيام عاشوراء، قال: ما هذا الصوم؟ قالوا: هذا يوم عاشوراء، يوم أنجى الله
فيه موسى عليه السلام، وأغرق
__________
(1) الصوم لغة: الإمساك مطلقا، يقال: صام الفرس: أي قام على غير اعتلاف. قال
تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} [مريم: 26] أي إمساكا وسكوتا عن الكلام.
انظر: مختار الصحاح، الصباح، مادة: (صوم).
وشرعا عرفه الأحناف بأنه: "الإمساك عن المفطرات حقيقة أو حكما، في وقت مخصوص،
بنية من أهلها".
وعرفه النووي من الشافعية نحوه، بأنه: "إمساك مخصوص، عن شيء مخصوص، في زمن
مخصوص، من شخص مخصوص".
انظر: البناية 3/ 261؛ اللباب 1/ 162؛ المجموع 6/ 271؛ مغني المحتاج 1/ 420.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 53؛ القدوري، ص 24؛ المبسوط 3/ 59 - 62؛ تحفة الفقهاء
1/ 534؛ البدائع 2/ 993 - 998؛ الهداية 1/ 118، 119.
(3) انظر: الأم 2/ 95؛ التنبيه، ص 46؛ الوجيز 1/ 101؛ المجموع مع المهذب 6/ 322،
فما بعدها؛ المنهاج، ص 53.
(1/223)
فرعون، فنحن نصوم شكرا لله تعالى، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أحق بأخي موسى منكم"، فأمر مناديا
ينادي: "ألا من أكل، فلا يأكلن بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" (1)،
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جوز أداء الصوم بنية من النهار، وصوم عاشوراء كان
فرضا في ذلك الوقت.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل" (2).
وقي رواية: "لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل".
وفي رواية: "لا صيام لمن لم ينو قبل طلوع الفجر"، وهذا نص في هذا.
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
وهو في الصحيحين من حديث ابن عباس، وسلمة بن الأكوع - رضي الله عنهم - مع اختلاف
في اللفظ: البخاري، في الصيام، باب صيام يوم عاشوراء (2004، 2007)، 4/ 244، 245؛
مسلم، نحو (1130)، 2/ 795، وباب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه، (1135)، 2/
798؛ مسند الإمام أحمد 2/ 359، 360.
(2) هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن عبد الله بن عمر عن أخته حفصة
- رضي الله عنهم -، بألفاظ وطرق متعددة كما اختلفوا في رفعه ووقفه: قال ابن حجر:
واختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم: الوقف أشبه، وقال أبو داود: لا
يصح رفعه، وقال الترمذي: الموقوف أصح، ونقل في العلل عن البخاري أنه قال: هو خطأ،
وهو حديث فيه اضطراب.
والصحيح: عن ابن عمر موقوف، قال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روى موقوفا.
وقال: ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة.
انظر أبي داود، في الصيام، باب النية في الصوم (2454)، 2/ 329؛ الترمذي، باب لا
صيام لمن لم يعزم من الليل (730)، 3/ 108؛ النسائي في ذكر اختلاف الناقلين لخبر
حفصة 4/ 196؛ ابن ماجه، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، والخيار في الصوم
(1700)، 1/ 542.
انظر بالتفصيل: نصب الراية 2/ 434، 435؛ تلخيص الحبير 2/ 188.
(1/224)
مسألة: 122 - صيام الفرض بنية النفل
إذا صام رمضان بنية النفل، أو بنية مطلقة، يجوز عندنا (1).
وعند الشافعي: لا يصير صائما، ويكون عبثا ولغوا (2).
دليلنا في ذلك، وهو: أنه وقت متعين، فعلى أي وجه نوى، وجب أن يقع عنه، لا تفوته
العبادة، في هذا الوقت (3).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى" (4)، وهذا الرجل لم ينو
الفرض، فكيف يقع عن الفرض.
مسألة: 123 - كفارة الإفطار بالأكل والشرب
الإفطار بالأكل والشرب تجب فيه الكفارة (5) عندنا (6)، وعند
__________
(1) انظر: الأصل 2/ 197؛ المبسوط 3/ 59؛ تحفة الفقهاء 1/ 532؛ البدائع 2/ 993؛
الهداية 1/ 118؛ وراجع المراجع السابقة للأحناف من المسألة السابقة (121).
(2) انظر الأم 2/ 95؛ التنبيه، ص 46؛ الوجيز 1/ 105؛ المجموع مع المهذب 6/ 327،
وما بعدها.
(3) راجع المراجع السابقة للأحناف.
(4) الحديث رواه الشيخان عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب بدء الوحي،
باب كليف كان بدء الوحي (1)، 1/ 9.
مسلم، في الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال
بالنية" (1907)، 3/ 1515.
(5) الكفارة: أصلها من الكفر، بفتح الكاف، وهو الستر والتغطية، يقال لليل: كافر؛
لأنه يستر الأشياء بظلمته، ومنه الكفارة؛ لأنها تستر الذنب وتذهبه. ثم استعملت
شرعا فيما وجد فيه صورة لمخالفة أو انتهاك، وإن لم يكن فيه إثم كالقاتل خطأ وغيره.
انظر: مختار الصحاح؛ المصباح المنير، مادة: كفر "تهذيب الأسماء واللغات"
4/ 116؛ والمجموع 6/ 379.
(6) بشرط العمدية: انظر مختصر الطحاوي، ص 54؛ المبسوط 3/ 73؛ تحفة الفقهاء 1/ 553؛
البدائع 2/ 1025؛ الهداية 1/ 124.
(1/225)
الشافعي لا تجب (1)، ولا خلاف أنه إذا
أفطر بالجماع، فإنه تجب الكفارة (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الإفطار بالجماع إنما يوجب الكفارة لا لعين الجماع؛
لأن الجماع في الأصل ليس بجناية، وإنما تجب الكفارة بالإفطار الحاصل بالجماع؛ لأن
الصوم كف عن اقتضاء الشهوتين: شهوة البطن، وشهوة الفرج، بل شهوة البطن أقوى وآكد
من شهوة الفرج؛ لأن الإنسان يصبر على الجماع، وليس يصبر على الأكل، ثم أن الفطر
الحاصل بالجماع لما أوجب الكفارة، فالفطر الحاصل بالأكل والشرب أولى من طريق
الاستدلال (3).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: فقال: يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وماذا
صنعت؟ فقال: واقعت امرأتي في نهار رمضان،
__________
(1) انظر الأم 2/ 96، 100؛ التنبيه، ص 46؛ الوجيز 1/ 104؛ المجموع مع المهذب 6/
372، فما بعدها؛ المنهاج، ص 37.
(2) كفارة الجماع على الترتيب: هي عتق رقبة مطلقة - وعند الشافعية يقيد بالمؤمنة -
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 54؛ المجموع 6/ 377؛ المنهاج، ص 37.
(3) استدلوا من النقل بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال يا رسول الله
أفطرت في رمضان فقال: من غير مرض ولا سفر؟ فقال نعم، فقال: "أعتق رقبة"
وإنما فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سؤاله الفطر بما يحوجه إليه كالمرض
والسفر، وذكر أبو داود أن الرجل قال: "شربت في رمضان": المبسوط 3/ 73.
والذي في سنن أبي داود عنه: أن رجلا أفطر في رمضان فأمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا ... الحديث.
(أبو داود، في الصيام، باب كفارة من أتى أهله في رمضان (2392، 2393)، 2/ 313،
314)، راجع الأدلة بالتفصيل: المبسوط 3/ 73؛ البدائع 2/ 1026 فما بعدها؛ شرح فتح
القدير 2/ 338، 339.
(1/226)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أعتق رقبة"، فقال: يا رسول الله، لا أملك إلا رقبتي هذه، فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "صم شهرين"، فقال يا رسول الله: ما جاءني هذا إلا
من الصوم، فقال: "أطعم ستين مسكينا"، فقال: لا أملك، فأمر النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن يؤتى بوسق من تمر فقال: "أطعم هذا للمساكين"، فقال:
يا رسول الله، والله ما بين لابتي المدينة أحد أحوج إلى هذا مني ومن عيالي، فتبسم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "كل أنت وأطعم عيالك، يجزيك ولا يجزئ
أحدا بعدك" (1). [فإن] النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الكفارة بالفطر
بالجماع، ومن أوجب الكفارة بالفطر بالأكل والشرب، فقد أوجبها بالقياس (2)، ولا
مدخل للقياس في الكفارة (3).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان باختلاف في اللفظ (ما عد الجزء الأخير).
البخاري في الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء (1936) 4/ 163؛ مسلم، في
الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصيام (1111)، 2/ 781، 782.
وأما الجزء الأخير من الحديث: "يجزيك ولا يجزئ أحدا بعدك"، فقال الزيلعي
فيه: "لم أجد في شيء من طرق الحديث ولا رواية" نصب الراية 2/ 453.
(2) انظر ما ذكره الشافعي. فقد أطال الكلام في الموضوع بالاستدلال والمناقشة والرد
على المخالفين، الأم 2/ 100 فما بعدها.
ولكن السرخسي يقول: "نحن لا نوجب الكفارة بالقياس وإنما نوجبها استدلالا
بالنص؛ لأن السائل ذكر المواقعة، وعينها ليس بجناية، بل هو فعل في محل مملوك وإنما
الجناية الفطرية، فتبين أن الموجب للكفارة فطر هو جناية .. ." المبسوط 3/ 73؛
البدائع 2/ 1026، 1027.
(3) ما ذكره المؤلف في دليل الشافعية، ردا على الأحناف: بأن القياس لا مدخل له في
الكفارة، لا يستقيم مع مذهبهم؛ لأن الشافعية: هم الذين يقولون بأن القياس يجري في
الشرعيات حتى الحدود والكفارات لعموم الدلائل" بخلاف الأحناف، فإنهم يمنعون
القياس في الحدود والكفارات، "لاشتمالها على تقديرات لا تعقل". وإنما
يستقيم المعنى بحمل إرادة المؤلف: إلزام المذهب المخالف مخالفتهم لمذهبهم في عدم
جواز جريان القياس في الكفارات.
انظر بالتفصيل: التبصرة، ص 440؛ المستصفى 2/ 334؛ منهاج الوصول في علم الأصول (3/
31) مع شرح البدخشي والأسنوي؛ تيسير التحرير 4/ 103.
(1/227)
مسألة: 124 - كفارة الزوجة الموطوءة في
رمضان
إذا وطئ امرأته في نهار رمضان عندنا تجب الكفارة، على [الـ]ـــــزوج وعلى المرأة
(1).
وعند الشافعي: تجب على الزوج ولا تجب على المرأة، وفي رواية أخرى: تجب عليها ولكن
الزوج يتحملها كسائر المؤن (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن المرأة يجب عليها القضاء بإفساد الصوم، وكذلك تلزمها
الكفارة بالإفساد، كما نقول في الرجل؛ لأن المرأة والرجل يستويان في حقوق الله
تعالى، في خطاب الشرع (3).
احتج الشافعي: وهو أن المرأة محل للوطء، وفعل الوطء إنما يحصل من الرجل؛ لأن هذا
الأمر إنما يتم [بـ]ـــفعل الرجل، ولا فعل [لـ]ـــلمرأة ها هنا، إلا أن المرأة محل
للفعل فالرجل هو الذي أوقعها في هذه الوطيئة، فتجب على الزوج كما في أجرة الحمام
(4).
__________
(1) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 553؛ البدائع 2/ 1025؛ الهداية 1/ 124.
(2) في المسألة قول ثالث: "تجب على كل واحد منها كفارة" والأصح هو القول
الأول، قال النووي: "أصحها تجب على الزوج عن نفسه فقط، ولا شيء على المرأة
ولا يلاقيها الوجوب" وهذا المنصوص عن الشافعي في الأم.
انظر: الأم 2/ 100؛ التنبيه، ص 46؛ الوجيز 1/ 104: المجموع مع المهذب 6/ 376، 377،
380؛ المنهاج، ص 37.
(3) انظر: البدائع 2/ 100؛ شرح فتح القدير 2/ 338، 339.
(4) المؤلف هنا استدل للقول الثاني، ولكن الراجح في المذهب كما ذكرت هو القول
الأول ونص عليه الشافعي بقوله: "وإذا كفر أجزأ عنه وعن امرأته"، الأم 2/
100.
وانظر: المجموع 6/ 380.
(1/228)
مسألة: 125 - ثبوت هلال رمضان بالشهادة
تقبل شهادة رجل واحد على رؤية الهلال، إذا كانت السماء متغيمة، وإن كانت السماء
مصحية فلا تقبل إلا شهادة الجمع الكثير عندنا (1)، وعند الشافعي تقبل شهادة واحد
عدل في الهلال، وفي الافطار لا تقبل إلا عدلين (2).
دليلنا: أن هذه شهادة على إثبات أحد طرفي الشهر، فوجب أن لا يكتفي بالواحد، دليله:
الطرف الآخر (3).
احتج الشافعي، في المسألة: أن هذه شهادة، أقيمت على إثبات الحرمة والإباحة، وجب أن
يكتفي بواحد (4)، كما لو شهد أن هذا الماء (5) طاهر، أو شهد على هذا اللحم أنه
مذبوح.
__________
(1) لكن لا تقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين عدلين.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 56؛ القدوري، ص 24؛ البدائع 2/ 985؛ الهداية 1/ 121.
(2) انظر: الأم 2/ 94؛ التنبيه، ص 46؛ المجموع مع المهذب 6/ 303 - 305، 310؛
المنهاج، ص 34.
(3) الطرف الآخر: هلال شوال، حيث قاس ثبوت شهر رمضان على ثبوت شوال؛ وبما أن شوال
لا يثبت بشهادة واحد فكذلك رمضان، بجامع أن كلا منهما أحد طرفي الشهر.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 56؛ البدائع 2/ 988؛ شرح فتح القدير 2/ 325.
(4) كما استدلوا من النقل برواية ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تراءى
الناس الهلال فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وأمر الناس بالصيام". أخرجه أبو داود وغيره، وصححه ابن
حزم كما ذكره العسقلاني: أبو داود، في الصيام، باب شهادة الواحد على رؤية هلال
رمضان (2342)، 2/ 302؛ تلخيص الحبير 2/ 187.
(5) انظر: الأم 1/ 11.
(1/229)
مسألة: 126 - الموجب والمسقط للكفارة
إذا جامع امرأته ثم سافر أو مرض، تسقط عنه الكفارة عندنا (1)، وعند الشافعي: لا
تسقط عنه الكفارة (2)، وكذلك على هذا الخلاف، إذا أفطرت المرأة بالجماع ثم حاضت
تسقط عنها الكفارة (3).
دليلنا في المسألة: اجتمع ها هنا المسقط والموجب (4)، فوجب أن يغلب المسقط على
الموجب (5)، كما نقو [ل في الزكاة] (6) إذا تردد في الحول بين المعلوفة وبين
السائمة [تسقط عنها] (6) (7).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أنه لما أفطر بالجماع فقد تعلق به الكفارة، فإذا
خرج إلى السفر فقد قصد بهذا إسقاط
__________
(1) جعل المؤلف للصائم المجامع إذا سافر بعد الجماع، أو مرض بعده حكما واحدا،
والمذكور في كتب الأحناف المعتمدة أن الحالتين تخلف إحداهما عن الأخرى في الحكم:
إذ تسقط الكفارة عن المريض، كما ذكره المؤلف، وأما المسافر بعد الفطر بالجماع فلا
تسقط عنه؛ "لأن السفر من فعله فلا تبطل به الكفارة"، كما ذكره الشيباني
والسرخسي والكاساني.
انظر: الأصل 2/ 234؛ المبسوط 3/ 75، 76؛ البدائع 2/ 1032.
(2) انظر: المجموع مع المهذب 6/ 386، 389.
(3) لا خلاف بين المذهبين في سقوط الكفارة عنها "إذا قلنا بالتفريع على
القول: أن المرأة المفطرة بالجماع تلزمها الكفارة، على الخلاف المذكور في كفارتها
عند الشافعية". راجع المسألة (124)، ص 228.
انظر: الأصل 2/ 206؛ المبسوط 3/ 75؛ البدائع 2/ 1032؛ المجموع 6/ 389.
(4) المسقط للكفارة هنا: السفر والمرض، والموجب لها هو: الجماع.
(5) انظر الأدلة في: المبسوط 3/ 76؛ البدائع 2/ 1032.
(6) في الأصل طمس قدر كلمتين.
(7) قال الكاساني: "السائمة هي: الراعية التي تكتفي بالرعي عن العلف، ويمونها
ذلك ولا تحتاج إلى أن تعلف، فإن كانت تسام في بعض السنة، وتعلف وتمان في البعض،
يعتبر فيه الغالب؛ لأن للأكثر حكم الكل". البدائع 2/ 872.
(1/230)
الكفارة عن نفسه، فوجب أن لا تسقط
الكفارة بفعله (1)، كما لو سافر المعصية (2).
مسألة: 127 - صوم المجامعة النائمة
إذا جامع امرأته، وهي نائمة أو مغمى عليها لا يفسد صومها ولاتلزمها الكفارة عند
الشافعي (3)، وعندنا يفسد صومها ولا تلزمها الكفارة (4)، كما هو في حق الزوج.
دليلنا في المسألة وهو: أن فساد الصوم لا يعتبر فيه الاحتياط والقصد، ألا ترى أن
المرأة إذا حاضت بطل صومها (5)، وهي لم تقصد الحيض، كذلك إذا كانت نائمة فوطئها
زوجها، وجب أن يفسد صومها، وإن لم تقصد؛ لأن حكم الحيض والجماع سواء في الصوم.
احتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رفع القلم
عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم"
(6) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن النائم مرفوع عنه القلم، فلو أوجبنا
عليها الكفارة والقضاء، لأجرينا عليهما القلم، وهذا لا يجوز.
__________
(1) راجع المرجع السابق، للشافعية، من نفس المسألة.
(2) راجع المسألة (77) من هذا الكتاب حيث بين المؤلف فيها حكم القصر في سفر
المعصية، ص 176، وعلل الشيرازي لعدم سقوطها عن المريض بقوله: "لأنه معنى طرأ
بعد وجوب الكفار فلا تسقط الكفارة كالسفر". المجموع 6/ 386.
(3) انظر: المجموع 6/ 377.
(4) انظر: الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/ 342، 344؛ الفتاوى الهندية
1/ 205.
(5) انظر: تحفة الفقهاء 1/ 560.
(6) سبق تخريج الحديث في المسألة (46)، ص 140.
(1/231)
مسألة: 128 - كفارة تعدد المسيس
إذا جامع في نهار رمضان، ولم يكفر حتى جامع في اليوم الثاني والثالث فعندنا: فيه
كفارة واحدة (1)، وعند الشافعي: تلزمه بكل (2) جماع كفارة.
دليلنا في المسألة: أن الكفارة حق الله تعالى، فإذا اجتمع وجب أن تتداخل (3)، كما
نقول: في الحدود (4).
احتج الشافعي، في المسألة: أن الصوم كل يوم عبادة واحدة، فإذا أفسدها بالجماع وجب
أن تجب الكفارة (5)، دليله: إذا جامع وكفر، ثم جامع في اليوم الثاني، وجب عليه
الكفارة بالإجماع (6).
__________
(1) انظر: المبسوط 3/ 74؛ تحفة الفقهاء 1/ 555؛ البدائع 2/ 1033.
(2) كان الأولى أن يقول: تلزمه لكل يوم كفارة، وذلك؛ لأن الصائم وإن كرر الجماع في
اليوم الواحد مرات، فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة بلا خلاف عند الشافعية، كما نص
الشيرازي والنووي، وإنما المقصود هنا أنه تجب عن كل يوم كفارة، وفي قول المؤلف
"بكل جماع" إيهام. انظر: الأم 2/ 99؛ الوجيز 1/ 104؛ المجموع مع المهذب
6/ 384، 385؛ المنهاج، ص 37.
(3) انظر: المبسوط 3/ 74.
(4) مثال تداخل الحدود: "إذا زنى الرجل مرات، أو قذف مرات، أو سرق مرات، أو
شرب مرات، فلا يقام عليه إلا حد واحد؛ لأن مبنى الحدود على التداخل". المبسوط
9/ 102. واستدل الأحناف بمعنى حديث الأعرابي، أنه لما قال: "واقعت
امرأتي" أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعتاق رقبة واحدة بقوله:
"أعتق رقبة"، وإن كان قوله: واقعت، يحتمل المرة والتكرار، ولم يستفسر،
فدل على أن الحكم لا يختلف بالمرة والتكرار، ولأن معنى الزجر لازم في هذه الكفارة.
انظر المبسوط 3/ 74؛ البدائع 2/ 1033، 1034، والحديث قد سبق تخريجه في المسألة
(123)، ص 225.
(5) وذلك؛ لأن الحكم يتكرر بتكرر سببه "وصوم كل يوم عبادة منفردة، فلم تتداخل
كفارتها، كالعمرتين". انظر: الأم 2/ 99؛ المهذب 1/ 191.
(6) راجع: المصادر السابقة للمذهبين.
(1/232)
مسألة: 129 - ما يلزم الحامل والمرضع
بالفطر
الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما وعلى ولدهما أفطرتا، ويلزمهما القضاء، ولا
تلزمهما الفدية عندنا (1)، وعند الشافعي: يلزمهما القضاء والفدية (2).
دليلنا: المسافر والمريض (3).
احتج الشافعي، وقال: أفطرت مع القدرة على الصوم، فوجب أن تلزمهما الفدية (4)، كما
في الشيخ الفاني (5).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 25؛ المبسوط 3/ 99؛ البدائع 2/ 1022؛ الهداية 1/ 127.
(2) المسألة ليست على هذا الإطلاق الذي ذكرها المؤلف بل فيها تفصيل عند الشافعي:
"فالحامل والرضع إن خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضنا، ولا فدية عليهما
كالمريض". وأما إن خافتا على ولديهما، فلهما الفطر وعليها القضاء، والفدية
على القول الأظهر، وهو المنصوص عنه في الأم. انظر: الأم 2/ 103، 104؛ التنبيه، ص
46؛ الوجيز 1/ 105؛ المجموع مع المهذب 6/ 293، 294؛ الروضة 2/ 383.
(3) بنص قوله سبحانه وتعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}
[البقرة: 184]، وذلك لأن المراد من المرض المذكور: كل أمر يضر الصوم معه، وقد وجد
فيهما إن خافتا على ولديهما فتدخلان تحت رخصة الافطار. وأدلة أخرى.
راجع: المبسوط 3/ 99، 100؛ البدائع 2/ 1022، 1023.
(4) استدل الشافعي هنا بظاهر قول الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين} [البقرة: 184]، وقال: إن ظاهره أن الذين يطيقونه إذا لم يصوموا أطعموا،
ونسخ ذلك في غير الحامل والرضع، وهي في حقهما ظاهرة، ، وروي ذلك عن ابن عباس - رضي
الله عنهما -: "نسخت هذه الآية وبقيت للشيخ الكبير والعجوز، والحامل والمرضع
إذا خافتا، أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكينا".
انظر بالتفصيل: الأم 2/ 104؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 63؛ المجموع مع المهذب
6/ 293.
(5) القياس مع الشيخ الفاني قياس مع الفارق؛ لأنه لا قضاء عليه وعليهما القضاء،
والله أعلم.
(1/233)
مسألة: 130 - إفطار المردود شهادته
برؤية الهلال
إذا شهد عند القاضي برؤية الهلال، فرد القاضي شهادته، ثم أفطر هذا الشاهد متعمدا،
عندنا: لا تلزمه الكفارة (1)، وعند الشافعي: تلزمه الكفارة (2).
دليلنا في المسألة: أن نقول: الكفارة تسقط بالشبهة، وهي: رد الشهادة (3)؛ لأن
القاضي لما رد شهادته، فلم يثبت صوم الشهر، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون" (4).
احتج الشافعي: أنه أفطر في يوم من رمضان عنده فوجب أن تلزمه الكفارة (5)، كما لو
أفطر في اليوم الثاني.
__________
(1) إنما يلزمه القضاء فقط، لوجوب الأداء. انظر: الأصل 2/ 199؛ المبسوط 3/ 64؛
البدائع 2/ 986؛ الهداية 1/ 120، 121.
(2) تلزمه الكفارة، إذا أفطر بالجماع؛ لأن الكفارة عند الشافعية خاصة بمن جامع في
نهار رمضان، وقد مر الخلاف في المسألة (123)، ص 227.
انظر: المجموع 6/ 310؛ المنهاج، ص 37.
(3) تسقط الكفارة؛ لأن كفارة الفطر عقوبة، والعقوبة تدرأ بالشبهات.
انظر: المبسوط 3/ 64.
(4) الحديث أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ، وكذلك أصحاب
السنن عنه مع اختلاف في اللفظ. الدارقطني 2/ 164؛ أبو داود في الصوم، باب إذا أخطأ
القوم الهلال (2324)، 2/ 297؛ الترمذي، باب الصوم يوم تفطرون والفطر يوم تفطرون
(697)، وقال "حسن غريب" 3/ 80، ابن ماجه، باب ما جاء في شهري العيد
(1660)، 1/ 531.
(5) يستقيم الدليل هذا بشرط الفطر بالجماع كما ذكرته، وقال النووي: "لأن يقين
نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبينة". المجموع 6/ 310.
فائدة الخلاف: تظهر فائدة الخلاف في هذه المسألة: فيما لو صام المردود شهادته
وجامع في ذلك اليوم.
عند الشافعية: لزمته الكفارة بلا خلاف؛ لأنه أفطر يوما من رمضان في حقه.
وعند أبي حنيفة: يلزمه قضاه اليوم فقط، ولا كفارة عليه، لوجود الشبهة.
(1/234)
مسألة: 131 - إفساد صوم التطوع
إذا شرع في صوم التطوع، ثم أفسده فعليه القضاء، ويلزم بالشروع عندنا (1)، وعند
الشافعي: لا قضاء عليه، ولا يلزم بالشروع (2).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجل:
"أجب أخاك وأفطر واقض يوما مكانه" (3) فأوجب القضاء في صوم التطوع.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن هذا الرجل متبرع في هذه العبادة، فلا يلزمه
القضاء إذا أفسده كما لو شرع في الصدقة ثم امتنع، لا يلزمه القضاء [با] (4) لشروع،
فكذلك هذا (5).
__________
(1) انظر: المبسوط 3/ 68؛ تحفة الفقهاء 1/ 538؛ البدائع 2/ 1034.
(2) انظر: الأم 2/ 103؛ التنبيه، ص 48؛ المجموع مع المهذب 6/ 454؛ المنهاج، ص 37.
(3) الحديث بلفظه كما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد قال: صنع رجل
طعاما ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقال رجل: إني صائم، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخوك صنع طعاما ودعاك أفطر واقض يوما
مكانه". ورواه الدارقطني عنه بلفظ: "أفطر وصم يوما مكانه"، وقال:
"هذا مرسل"، وروى نحوه عن جابر - رضي الله عنهما -، ورواه البيهقي
برواية أخرى وزاد: "إن شئت".
انظر: منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود (918)، 1/ 191؛ سنن الدراقطني
177/ 2؛ السنن الكبرى 4/ 279؛ نصب الراية 2/ 465.
(4) في الأصل (في).
(5) استدل الشافعي من النقل بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت دخل على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقمت إنا خبأنا لك حيسا فقال: "أما إني كنت أريد
الصوم ولكن قربيه". رواه مسلم، في الصيام، باب جواز المنافلة بنية من النهار
قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر (1154)، 2/ 808.
وانظر ما أورده البيهقي من الأحاديث في باب صيام التطوع والخروج منه قبل تمامه 4/
274 فما بعدها.
انظر: الأم 2/ 103؛ المجموع 6/ 456.
(1/235)
مسألة: 132 - أهلية التكليف أثناء شهر
الصوم
إذا بلغ الصبي في خلال الشهر، أو أفاق المجنون يجب عليه قضاء ما فاته عندنا (1)،
وعند الشافعي: لا يجب عليه قضاء ما فاته (2).
دليلنا في المسألة: أن نقول الجنون معنى، لو زال في بعض النهار يلزمه قضاء ذلك
اليوم فكذلك إذا زال الجنون في بعض الشهر وجب أن يلزمه قضاء ما فاته (3)، دليله:
الإغماء (4)؛ لأن الشهر كله عبادة واحدة.
احتج الشافعي، في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي
حتى يحتلم" (5)، [فإن] النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن المجنون
حتى يفيق، فلو أوجبنا عليه قضاء ما فاته أجرينا عليه القلم، وهذا لا يجوز (6).
__________
(1) ذكر المؤلف الحكم هنا مجملا: وجعل للصبي والمجنون حكما واحدا في القضاء، مع أن
الصبي لا يجب عليه قضاء ما فاته، خلافا لما ذكره، وإنما القضاء على المجنون وحده
إذا أفاق.
قال الشيباني: "قلت: أرأيت الغلام يحتلم في النصف من شهر رمضان ثم يفطر بعد
ذلك متعمدا؟ قال: عليه القضاء والكفارة فيما أفطر بعد احتلامه في غير اليوم الذي
احتلم فيه". الأصل 2/ 233، 235؛ والمبسوط 3/ 88.
(2) انظر: المجموع مع المهذب 276/ 6، 277.
(3) واستدلوا على ذلك بالاستحسان كما قال السرخسي: "واستحسن علماؤنا بقوله
تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} والمراد منه شهود بعض الشهر .. فصار بهذا النص
شهود جزء من الشهر سببا لوجوب صوم جميع الشهر إلا في موضع قام الدليل على خلافه ..
.". المبسوط 3/ 88.
(4) واستدل بالتنظير بالإغماء؛ لأن "المغمى عليه في جميع الشهر إذا أفاق بعد
مضيه فعليه القضاء". المبسوط 3/ 87.
وانظر: المجموع 6/ 287.
(5) الحديث سبق تخريجه في المسألة (46)، ص 140.
(6) انظر: المجموع 6/ 277.
(1/236)
باب الاعتكاف (1)
[مسألة]: 133 - اشتراط الصوم للاعتكاف
الصوم شرط في الاعتكاف عندنا (2)، وعند الشافعي: ليس بشرط (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
اعتكاف إلا بصوم" (4)، وهذا نص في المسألة.
__________
(1) الاعتكاف: افتعال من عكف، وهو لغة يدل: على اللبث، والحبس، والملازمة على
الشيء خيرا كان أو شرا، وهو من بابي: قعد وضرب، عكف على الشيء عكفا وعكوفا.
انظر: معجم مقاييس اللغة؛ المصباح المنير، مادة: (عكف).
واختلف الفقهاء في تعريفه شرعا بحسب ما يشترطون له من أحكام: فعرفه المرغيناني من
الأحناف، بأنه: "اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف". وعرفه
الشربيني من الشافعية بأنه "اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية".
انظر: الهداية 1/ 132؛ الوجيز 1/ 106؛ مغني المحتاج 1/ 449؛ المجموع 6/ 504.
(2) انظر: الأصل 2/ 268؛ مختصر الطحاوي، ص 57؛ القدوري، ص 25؛ المبسوط 3/ 115؛
تحفة الفقهاء 1/ 568؛ الهداية 1/ 132.
(3) بل الصوم مستحب عند الشافعية. انظر: مختصر المزني، ص 60؛ التنبيه، ص 48؛
الوجيز 1/ 106؛ المجموع مع المهذب 6/ 511، 512.
(4) الحديث رواه عبد الرزاق، والدارقطني والبيهقي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا اعتكاف إلا بصيام"، وقال
الدراقطني: تفرد به سويد عن سفيان بن حسين، وسويد بن عبد العزيز الدمشقي ضعيف
باتفاق المحدثين، لكن روى أبو داود في سننه بطريق عبد الرحمن بن إسحاق عنها:
"ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع"، قال المنذري في
مختصره: وعبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم ووثقه ابن معين =
(1/237)
احتج الشافعي، وقال: إن الاعتكاف: مكث
في مقام مخصوص، فلا يشترط فيه الصوم، كما لو وقف بعرفة (1).
__________
= وأثنى عليه غيره، وتكلم فيه بعضهم. وروى أبو داود أيضا عن ابن عمر، أن عمر - رضي
الله عنهما - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة، فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "اعتكف وصم".
انظر: أبي داود، في الصوم، باب المعتكف يعود المريض (2473، 2474)، 2/ 334؛ مختصر
سنن أبي داود 3/ 345؛ مصنف عبد الرزاق 4/ 355؛ سنن الدارقطني، مع التعليق المغني
2/ 200؛ السنن الكبرى 4/ 317؛ المجموع 6/ 515؛ تهذيب التهذيب (473)، 4/ 276.
راجع الأدلة بالتفصيل: الجصاص، أحكام القرآن 1/ 245، 246.
(1) أصل الدليل جزء من أجوبة الشافعية على الأحناف. حيث إن الأحناف يشترطون الصيام
لصحة الاعتكاف قياسا على الوقوف بعرفة.
وتوضيحه: الاعتكاف لبث مخصوص، فلا يكون بمجرده قربة، إلا إذا انضم إليه عبادة
أخرى، وهي: الصوم، قياسا على الوقوف بعرفة، فإن مجرده غير قربة، وإنما صار قربة
بانضمام عبادة أخرى إليه، وهي: الإحرام.
أجاب الشافعية بجوابين:
الأول: بالقلب، وهو: "أن يربط خلاف قول المستدل على علته الحاقا بأصله"
بمعنى: أن هذا القياس مقلوب عليكم؛ لأنه ينتج منه عكس ما تريدون، فنقول: الاعتكاف
لبث مخصوص، فلا يشترط فيه الصوم، كما لا يشترط الصوم في الوقوف بعرفة.
الثاني: بالقول بالموجب: "وهو تسليم دليل المستدل مع بقاء النزاع".
بمعنى: نسلم لكم أن الاعتكاف لبث مخصوص وأنه لا يكون بمجرده قربة، بل يحتاج إلى ضم
عبادة أخرى، ولكن هذا لا يدل على مدعاكم، وهو: اشتراط الصوم، لجواز أن يكون هذا
الشيء الذي يجعله قربة: النية، بل هو المتبادر.
انظر: تيسير التحرير 4/ 165؛ نهاية السول 3/ 94؛ مع شرح البدخشي.
(1/238)
مسألة: 134 - اعتكاف المرأة في بيتها
يجوز اعتكاف المرأة في بيتها عندنا (1)، وعند الشافعي لا يجوز إلا في المسجد (2).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة
المرأة في قعر دارها أفضل من سبعين في غيرها" (3) كذلك الاعتكاف في دارها
أفضل؛ لأنه أستر لها (4).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن العبادات لا تعرف قياسا، وإنما تعرف نصا
وتوقيفا، ولو جوزنا: الاعتكاف في البيت، جوزناه قياسا، وهذا لا يجوز (5).
__________
(1) روى الحسن عن أبي حنيفة: جواز اعتكافها في المسجد والأفضل في مسجد بيتها.
انظر: الأصل 2/ 274؛ مختصر الطحاوي، ص 58؛ المبسوط 3/ 119؛ تحفة الفقهاء 1/ 570.
(2) هذا هو المذهب وبه قطع الشيرازي والغزالي والنووي والجمهور من العراقيين.
انظر: الوجيز 1/ 107؛ والمجموع مع المهذب 6/ 508، 509.
(3) لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ، وإنما روى عن أم سلمة - رضي الله عنه - أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير صلاة النساء في قعر
بيوتهن"، رواه الإمام أحمد في مسنده. وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في
الكبير، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام".
انظر: مسند أحمد 6/ 297؛ مجمع الزوائد 2/ 33 فما بعدها؛ نيل الأوطار 3/ 160 فما
بعدها.
(4) وجه الاستدلال: أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز بل أفضل قياسا على صلاتها في
بيتها، بجامع أن كلا منهما عبادة، ومكث، وتتطلب لهما الستر.
(5) انظر: المستصفى 2/ 331؛ الأمدي، الأحكام في أصول الأحكام 3/ 14.
(1/239)
مسألة: 135 - أثر الاستمتاع في
الاعتكاف
المعتكف إذا تلذذ بالجماع، فيما دون الفرج، يفسد اعتكافه عندنا (1)، وعند الشافعي:
لا يفسد (2).
دليلنا أن نقول: استمتاع يفسد الصوم، فيفسد الاعتكاف، كالوطء (3).
__________
(1) ليس الحكم على إطلاقه كما ذكره المؤلف، وإنما يفسد بالتلذذ فيما دون الفرج
بشرط الإنزال، "فإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه وقد أساء فيما صنع".
انظر: الأصل 2/ 280؛ المبسوط 3/ 123؛ تحفة الفقهاء 1/ 573؛ البدائع 3/ 1073؛
الهداية 1/ 133.
(2) المسألة بحاجة إلى شيء من التفصيل والتوضح:
أجمع الشافعية على تحريم المباشرة فيما دون الفرج للمعتكف واختلفوا في بطلان
اعتكافه، واضطربت النصوص فيها عن الشافعي، وللأصحاب فيها طرق: منهم من أفسد
الاعتكاف بذلك مطلقا، ومنهم من لم يفسده مطلقا، ومنهم من قيد الإفساد بالإنزال
كالأحناف. وجمع النووي الطرق باختصار حيث يقول: "ومختصرها أن جمهور العراقيين
لا يعتبرون الإنزال، واعتبره: أبو إسحاق المروزي والدارمي من العراقيين، وجماهير
الخراسانيين، واختلفوا في الأصح من القولين، وقال الرافعي: الأصح عند الجمهور أنه
إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا، والله أعلم".
انظر: مختصر المزني، ص 61؛ التنبيه، ص 48؛ راجع المسألة بالتفصيل في المجموع 6/
555 - 558.
(3) توضيح قياس المؤلف بقيد شرط الإنزال كما ذكرته آنفا: "أن المباشرة فيما
دون الفرج إذا اتصل بها الإنزال مفسد للصوم، والاعتكاف فرع عليه، وهي في معنى
الجماع في الفرج فيما هو المقصود فيفسد اعتكافه". فأما إذا لم يتصل بها
الإنزال فلا يفسد صومه، وإن كانت محرمة؛ لأنها ليست في معنى الجماع في الفرج، وهو
المفسد ولهذا لا يفسد بها الصوم وكذلك الاعتكاف. إلا أن المحققين من الأحناف لم
يسلموا اعتبار الاعتكاف بالصوم وتفريعه منه في فساده بالمباشرة؛ لأن حرمة المباشرة
في الاعتكاف بنص قوله سبحانه وتعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}
[البقرة: 187].
وفيما دون الفرج داخل في حقيقة المباشرة، "فلا وجه لاعتباره بالصوم".
أيضا أن الجماع من محظورات الاعتكاف بالنص، وكذا دواعيه فيحرم عليه إذ هي محظورة؛
لأن تحريم الشيء =
(1/240)
احتج الشافعي، وقال: لو أوجبنا إفساد
الاعتكاف بالتلذذ فيما دون الفرج، لأوجبناه بالقضاء والكفارة في الصوم، ولا خلاف أن
الكفارة لا تجب بالوطء، فيما دون الفرج، كذلك الاعتكاف (1) وجب أن لا يفسده.
مسألة: 136 - اعتكاف المكاتب
لا [يجوز] (2) للمكاتب (3) أن يعتكف من غير إذن موليه عندنا (4)، وعند الشافعي
يجوز (5).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" (6) جعل المكاتب عبدا، ثم إن العبد لا
يجوز [له] أن يعتكف بغير إذن السيد فكذلك المكاتب.
__________
= يكون تحريما لدواعيه؛ لأنها تفضي إليه فلو لم تحرم لأدى إلى التناقض. كما هو
الحال في الإحرام، بقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} [البقرة: 197]. بخلاف الصوم؛
لأن الكف عن الجماع ركنه، لا محظوره، فلم يتعد إلى دواعيه إلا إذا خاف الوقوع فيه.
انظر: المبسوط 3/ 123؛ البدائع 3/ 1072، 1073؛ راجع المسألة بالتفصيل: في الهداية
وشروحها: فتح القدير، والعناية، وحاشية سعدي جلبي 2/ 399، 400؛ البناية 3/ 419 -
422.
(1) راجع الأدلة بالتفصيل في المجموع 6/ 555 فما بعدها.
(2) في الأصل: "لا يجب"، ولا يستقيم بها الحكم.
(3) المكاتب: بفتح التاء، اسم مفعول، وبالكسر اسم فاعل، وأصله من باب المفاعلة،
وهو العبد يكاتب سيده على نفسه بثمنه، ولا يكون للمولى سبيل على إكسابه، فإذا سعى
وأداه عتق.
انظر: معجم مقاييس اللغة، مختار الصحاح؛ التعريفات؛ المصباح، مادة: (كتب).
(4) انظر: المبسوط 3/ 125؛ تحفة الفقهاء 1/ 574.
(5) انظر: الأم 2/ 108؛ التنبيه، ص 48؛ المجموع مع المهذب 6/ 506، 507.
(6) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده:
أبو داود، في العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت (3926، 3927)،
4/ 21؛ الترمذي، في البيوع، باب في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي (1260) وقال:
حسن=
(1/241)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
الاعتكاف: لبث في مقام، فوجب أن لا يفتقر إلى إذن السيد، كما في سائر العبادات
(1).
__________
= غريب، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
وغيرهم 3/ 561؛ ابن ماجه، في العتق، باب المكاتب (2519)، وفي الزوائد: "فيه
حجاج بن أرطأة وهو مدلس" 2/ 842.
(1) لكن الشيرازي قاس المكاتب بالحر بجامع عدم تعلق حق المولى في منفعته، إذ يقول:
"والمكاتب فإنه يجوز له أن يعتكف بغير إذن المولى؛ لأنه لا حق للمولى في
منفعته، فجاز أن يعتكف بغير إذنه كالحر". المهذب 1/ 197.
ويتلخص من أدلة المذهبين: أن المكاتب له جانبان: جانب العبودية، لبقاء بعض أقساط
المكاتبة عليه، كما ورد في الحديث السابق.
وجانب الحرية: لعدم تعلق حق المولى في منفعته كالحر، ومن ثم نظر الأحناف إلى جانب
العبودية، والشافعية إلى الجانب الآخر وأصبح لكل منهما حكم يختلف عن الآخر، والله
أعلم.
(1/242)
كتاب الحج (1)
[مسألة]: 137 - الإنابة في الحج
لا خلاف بيننا وبين الشافعي إذا كان موسرا، ثم صار فقيرا معسرا، يلزمه أن يستأجر
من يحج عنه، ولا يسقط عنه فرض الحج (2)، وأما إذا كان زمنا أو محصورا وله مال، فإن
عندنا لا يلزمه أن يستأجر من يحج عنه (3)، وعند الشافعي يلزمه (4).
__________
(1) الحج لغة: القصد، وكل قصد حج، قال الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة - يحجون سب الزبرقان المزعفرا. وهو من باب قتل.
وشرعا: "قصد لبيت الله تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة".
انظر: معجم مقاييس اللغة، المغرب؛ مختار الصحاح؛ المصباح؛ التعريفات، مادة: (حج).
(2) بمعنى: أنه يلزمه أن يستأجر من يحج عنه، إذا استغنى مرة أخرى، وهذا لتفريطه في
الأداء وقت وجوبه.
قال السرخسي: "واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد، فإنه إذا افتقر بهلاك ماله بعد
ما وجب الحج عليه يبقى واجبا، ثم لا يجب ابتداء على الفقير".
انظر: المبسوط 4/ 153؛ الأم 2/ 123.
(3) بل يسقط عنهم الحج، ولا يجب عليهم باعتبار ملك المال، بشرط "أن يبقى زمنا
كذلك حتى يموت، وإن صح قبل موته وأطاق الحج كان عليه الحج"."وروى الحسن
عن أبي حنيفة في المقعد والزمن أنه يجب عليهما إذا قدرا أن يشتريا عبدا، أو
يستأجرا أجيرا" والمذهب هو الأول كما نص عليه السرخسي.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 51؛ خزانة الفقه 1/ 140؛ المبسوط 4/ 153؛ تحفة الفقهاء 1/
585؛ البدائع 3/ 1085.
(4) انظر الأم 2/ 124؛ التنبيه، ص 49؛ الوجيز 1/ 110؛ المجموع مع المهذب 7/ 72،
73؛ المنهاج، ص 39.
(1/243)
دليلنا في المسألة، أن نقول: هذه عبادة
بدنية، تسقط بالعجز، كقيام الصلاة (1).
احتج الشافعي: في المسألة وهو: أن الحج عبادة لها تعلق بالمال، فلا تسقط بالعجز،
كالزكاة (2).
__________
(1) قول المؤلف: "بأنها عبادة بدنية" فيه بعض التجوز والتغليب، وإلا فهي
عبادة بدنية ومالية. والأصل عندهم: استطاعة البدن، والمال شرط ليتوسل به إلى
المقصود، "ولا يعتبر وجود الشرط - بمفرده - لأن الشرط تبع، والتبع لا يقوم
مقام الأصل في إثبات الحكم به ابتداء". قال السرخسي: "وحجتنا في ذلك
قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] فإنما أوجب الله تعالى الحج
على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى، والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله
تعالى: فلا يتناوله هذا الخطاب، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الشرط
مالا يؤصله إلى البيت بقوله: "من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى"
وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى، فصار وجوده كعدمه .. .".
المبسوط 4/ 152، 153.
الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -: الترمذي،
في الحج، باب ما جاء الحج بالزاد والرحلة (813)، وقال: "حديث حسن" 3/
177؛ ابن ماجه، في المناسك، باب ما يوجب الحج (2897)، 2/ 967.
(2) وللاستطاعة - عندهم - وجهان: "مستطيع بنفسه: أن يكون الرجل مستطيعا
ببدنه؛ واجدا من ماله ما يبلغه الحج، فتكون استطاعته تامة ويكون عليه فرض الحج، لا
يجزيه إلا أن يؤديه عن نفسه، ومستطيع بغيره: أن يكون مضنوا في بدنه لا يقدر أن
يثبت على مركب ... وقادر على مال يجد من يستأجره ببعضه فيحج عنه فيكون هذا مما
لزمته فريضة الحج كما قدر. بحديت ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي - صلى الله
عليه وسلم - فقالت: إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا
يستطيع أن يستمسك على راحلته فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "نعم"، فقالت: يا رسول الله فهل ينفعه ذلك؟ فقال: "نعم،
كما لو كان عليه دين فقضيته نفعه".
قال الشافعي معلقا: "ولو لم يلزمه لقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: لا فريضة على أبيك إذا كان إنما أسلم ولا يستطيع أن يستمسك على الراحلة إن شاء
الله تعالى .. ." الأم 2/ 113، 126. الحديث أخرجه الشيخان: البخاري، في جزاء
الصيد، باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة (1854)، 4/ 66؛ مسلم، في الحج،
باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوها، أو للموت (1334، 1335)، 2/ 973.
وانظر: السنن الكبرى، باب المضنو في بدنه لا يثبت على مركب وهو قادر على من يطيعه
أو يستأجره فيلزمه فريضة الحج 4/ 327.
(1/244)
مسألة: 138 - حجة المرتد
المسلم إذا حج حجة الإسلام، ثم ارتد والعياذ بالله، ثم أسلم ثانيا، عندنا تلزمه
إعادة الحج (1)، وعند الشافعي: لا تلزمه (2).
دليلنا: قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (3)، فالله تعالى أخبر أن الإشراك
يحبط العمل، والحج كان واجبا عليه، فإذا حبط وجب عليه قضاؤه.
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الحج عبادة لا يلزم إلا في العمر مرة واحدة،
وهذا الرجل قد أدى مرة واحدة، فوجب أن يخرج عن العهدة (4).
مسألة: 139 - أثر إيسار الولد في فرضية الحج على الوالد المعسر
الأب المعسر إذا كان له ولد موسر (5)، عندنا: لا يلزم الحج على الأب (6) بكون
الابن مطيعا موسرا، وعند الشافعي: يلزمه (7).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 261.
(2) انظر: المجموع 7/ 10.
(3) سورة الزمر: آية 65.
(4) المجموع مع المهذب 7/ 8، 10.
الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى توقيت إحباط العمل بالردة: "فعند الأحناف
تحبطه في الحال سواء أسلم بعدها أم لا [فيصير كمني لم يحج]، وعند الشافعية لا
تحبطه إلا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر
فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة: 217]، المجموع 7/ 10.
(5) هذه من إحدى حالتي الأب، والحالة الثانية: أن يكون الأب معضوبا ويبذل له الابن
الطاعة ويحج عنه لعدم استطاعته بنفسه.
(6) انظر: المبسوط 4/ 154.
(7) انظر: الوجيز 1/ 111؛ المجموع مع المهذب 7/ 72 فما بعدها.
(1/245)
دليلنا في المسألة، أن نقول: إن الحج
عبادة، يحتاج إلى قطع المسافة، فلا يجب على الأب بطاعة ابنه (1)، دليله: الجهاد.
احتج الشافعي، في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"أنت ومالك لأبيك" (2) جعل مال الابن في حكم الأب، ثم إن الأب لو كان
موسرا يلزمه الحج، فكذلك إذا كان ابنه موسرا، وجب أن يلزمه.
مسألة: 140 - المحرم في خروج المرأة للحج
المرأة إذا وجب عليها الحج، عندنا: لا يلزمها الخروج إلا مع ذي محرم (3)، وعند
الشافعي: أنها إذا وجدت نساء ثقات، يجب عليها الخروج (4).
__________
(1) لأن الأصل المعتبر عندهم: استطاعة توصله إلى البيت الحرام، راجع تفسير معنى
الاستطاعة بالتفصيل في المسألة (137)، ص 244.
انظر: المبسوط 4/ 154.
(2) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبي احتاج مالي، فقال: "أنت ومالك
لأبيك"، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أولادكم من أطيب
كسبكم، فكلوا من أموالهم". واللفظ لابن ماجه وفي رواية له عن جابر بن عبد الله
- رضي الله عنهما - بدون هذه الزيادة. وقال عنه في الزوائد: "إسناده صحيح
ورجاله ثقات على شرط الشيخين": (أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من
مال ولده (3528)، 3/ 289؛ ابن ماجه، في كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده
(2291، 2292)، 2/ 769).
(3) ذهب القدوري والمرغيناني إلى أنه لا يجوز لها أن تخرج للحج إلا مع زوج أو مع
ذي محرم إذا كانت المسافة بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام، وذكر الآخرون الحكم
على الإطلاق.
انظر: الأصل 2/ 514؛ مختصر الطحاوي، ص 59؛ القدوري، ص 26؛ المبسوط 4/ 163؛ البدائع
3/ 1089؛ الهداية 1/ 135؛ البناية 3/ 440، 441.
(4) انظر: الأم 2/ 117؛ التنبيه، ص 49؛ الوجيز 1/ 109؛ المجموع مع المهذب 7/ 64،
65.
(1/246)
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن
تسافر فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" (1) فلو أوجبنا
عليها الخروج بدون الزوج. فيكون مخالفا لهذا الخبر.
احتج الشافعي في المسألة: أن الحج وجبت عليها، فلو أوجبنا [عليها] (2) الخروج مع
الزوج ربما لا يتفق، فيؤدي إلى إبطال هذه العبادة، فوجب أن لا يشترط (3).
مسألة: 141 - موت من وجب عليه الحج قبل أدائه
إذا وجب عليه الحج في حال حياته فمات ولم يحج، عندنا: إذا أوصى يقضى من رأس ماله،
وإن لم يوص يسقط عنه بالموت (4)، وعند الشافعي: لا يسقط عنه، سواء أوصى أو لم يوص،
يجب أن يقضى من رأس ماله (5).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان وغيرهم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، البخاري،
في جزاء الصيد، باب حج النساء (1864)، 4/ 73؛ مسلم، في الحج، باب سفر المرأة مع
محرم إلى حج وغيره (1340) 2/ 977.
(2) في الأصل: (على).
(3) واستدل الشافعي بمفهوم حديث: "السبيل الزاد والراحلة"، في جوابه
للسائل ما السبيل؟ في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}
[آل عمران: 97] (وأخرجه الحاكم والدارقطني عن أنس، وقال الحاكم: "صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه"، المستدرك 1/ 442؛ سنن الدارقطني 2/ 218؛ السنن
الكبرى 4/ 327).
وقال: "لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن فيما يوجب الحج إلا
الزاد والراحلة ... وقد بلغنا عن عائشة وابن عمر وابن الزبير مثل قولنا: في أن
تسافر المرأة للحج وإن لم يكن معها محرم" الأم 2/ 117.
(4) قال الطحاوي: "وإن لم يوص بذلك فتبرع به وارثه أجزأه ذلك"، مع كونه
آثما لتفريطه في الأداء كما جاءت به الأحاديث. انظر مختصر الطحاوي، ص 59، المبسوط،
4/ 162، 164.
(5) انظر: الأم 2/ 125، 126؛ التنبيه، ص 49؛ المجموع مع المهذب 7/ 88، 89؛
المنهاج، ص 39.
(1/247)
دليلنا في المسألة: أن الحج عبادة
بدنية، فإذا مات وجب أن يسقط عنه كسائر العبادات (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الحج عبادة لها تعلق بالمال، فإذا مات ولم يؤد،
يلزمه القضاء بعد موته، كما في الزكاة (2).
مسألة: 142 - الحج عن الغير قبل أداء فرضه
هل يجوز أن ينوب في الحج عن غيره إذا لم يحج عن نفسه؟ عندنا يجوز (3)، وعند
الشافعي: لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة، أن نقول: إن هذه عبادة تدخلها النيابة، فجاز أدا [ؤ] ها عن
الغير، مع بقاء الفرض عليه، دليله: الزكاة (5).
__________
(1) كما أنه لا يجب على ورثته قضاء ما فاته من الصلاة والصيام، وإخراج الزكاة إذا
لم يوص. قال الشرنبلالي: "ولا يصح أن يصوم ولا أن يصلي عنه".
مراقي الفلاح، ص 88؛ راجع المسألة (104) في سقوط الزكاة.
(2) واستدل الشافعي بحديث الخثعمية، وقال مستنتجا: "رآه دينا عليه، وقاله في
كل ما كان في معناه، وقاله في كل ما أوجبه الله عز وجل عليه، فلم يكن له مخرج منه
إلا بأدائه ولم يكن له خيار فيه مثل زكاة المال ... ". وذلك مع موته عاصيا
على أصح الوجهين عند الأصحاب، ونقل أبو الطيب وآخرون الاتفاق عليه.
انظر: الأم 2/ 12؛ المجموع 7/ 90؛ وسبق تخريج حديث الخثعمية في المسألة (137)، ص
268.
(3) انظر: الأصل 2/ 505؛ المبسوط 4/ 151.
(4) قال الشيرازي: "فإن أحرم عن غيره، أو تنفل، وعليه فرضه انصرف إلى
الفرض".
انظر: الأم 2/ 123؛ التنبيه، ص 49؛ الوجيز 1/ 110؛ المجموع مع المهذب 7/ 98.
(5) استدلوا لذلك من النقل بحديث الخثعمية حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
جوز لها أن تحج عن أبيها ولم يستفسر أنها حجت عن نفسها أولا. المبسوط 4/ 151، وقد
سبق ذكر الحديث بنصه وتخريجه، راجع المسألة (137)، ص 244. وانظر نصب الراية 3/
156.
(1/248)
احتج الشافعي في المسألة: "ما روي
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رجلا يلبي بالحج عن شبرمة، فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حج عن
نفسك ثم حج عن شبرمة" (1). وهذا نص في هذه المسألة.
مسألة: 143 - وقت وجوب الحج
وجوب الحج عندنا: على الفور (2)، وعند الشافعي، هو: على التراخي (3).
دليلنا في المسألة: أن هذه عبادة مؤقتة، فوجب أن يجب على الفور، كالصوم والصلاة
(4).
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع
رجلا ... الحديث. رواه ابن حبان في صحيحه؛ والدارقطني والبيهقي في سننهما بألفاظ
متقاربة.
ثم اختلف المحدثون في رفعه ووقفه: قال ابن القطان في كتابه: وحديث شبرمة علله
بعضهم بأنه قد روى موقوفا والذي أسنده ثقة، فلا يضره، ووقع الاختلاف في سعيد بن
أبي عروبة؛ لأن أصحابه يختلفون عليه فقوم يرفعونه، منهم عبدة بن سليمان، وقوم
يقفونه: منهم غندر، وحسن بن صالح، والرافعون ثقات فلا يضرهم وقف الواقفين. ورجح
الطحاوي وأحمد بن حنبل وقفه، ورجح عبد الحق وابن القطان رفعه وقال البيهقي: إسناده
صحيح وليس في هذا الباب أصح منه.
(أبو داود في الحج، باب في الرجل يحج عن غيره (1811)، 2/ 162)، ابن ماجه، في
المناسك، باب الحج عن الميت (2903)، 2/ 969؛ سنن الدارقطني 2/ 269؛ السنن الكبرى،
باب من ليس له أن يحج عن غيره 4/ 336، 337.
انظر: الاختلاف في سند الحديث: نصب الراية 3/ 155، 156؛ تلخيص الحبير، 2/ 223،
224؛ وبلوغ المرام، ص 128.
(2) انظر: المبسوط 4/ 163، 164؛ البدائع 3/ 1080؛ الهداية 1/ 134.
(3) انظر: الأم 2/ 118؛ التنبيه، ص 49؛ الوجيز 1/ 110؛ المجموع 7/ 82، فما بعدها.
(4) "والمعنى فيه أن السنة الأولى بعدما تمت [شروط] الاستطاعة، متعينة، لأداء
الحج بعد دخول وقت الحج، فالتأخير عنه يكون تفويتا، كتأخير الصلاة والصيام عن
وقتها".=
(1/249)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الحج
عبادة مطلقة، موسع أداؤه في جميع العمر، فوجب أن يجب على التراخي، لا على الفور
(1)، دليله: قضاء الديون.
__________
= واستدلوا من النقل بما أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من وجد زادا وراحلة تبلغه إلى بيت
الله الحرام، ولم يحج فلا عليه، أن يموت يهوديا أو نصرانيا". وقال الترمذي:
"حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله
مجهول، والحارث يضعف في الحديث، وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث، وقال ابن
عدي: "هذا الحديث ليس بمحفوظ".
انظر: الترمذي في الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج (812)، 3/ 176؛ تفسير
الطبري 4/ 17؛ تفسير ابن كثير 1/ 386)، المبسوط 4/ 164؛ البدائع 3/ 1080، 1081.
(1) استدل الشافعي بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقريره؛ لأن فريضة الحج
افترضت في السنة السادسة من الهجرة، وتخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهله
وعامة أصحابه - مع قدرتهم على الأداء وعدم اشتغالهم بمانع - إلى السنة العاشرة:
ولم يحجوا إلا في حجة الوداع. فدل ذلك على جواز تأخيره.
انظر ذلك بالتفصيل: وقد أطال الشافعي رحمه الله تعالى في الاستدلال لهذه المسألة
في الأم 2/ 118؛ والمجموع 7/ 83، 84.
تحقيق المسألة:
اختلف العلماء في السنة التي افترض فيها الحج، فذهب بعضهم بأن الحج فرض في السنة
الثالثة من الهجرة، كالقرطبي، وقال ابن كثير في سيرته: "وقد قيل إن فريضة
الحج نزلت عامئذ، وقيل سنة تسع، وقيل سنة ست، وقيل قبل الهجرة، وهو غريب"،
وقيل غير ذلك.
وقال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية في زاد المعاد: إن الصحيح أن الحج فرض عام
حجة الوداع، "وعلى هذا فلم يؤخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج بعد فرضه
عاما واحدا، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه، وهذا هو الأليق بهديه
وحاله - صلى الله عليه وسلم - ... ".
انظر: تفسير القرطبي 4/ 144؛ ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 30، 31؛
سيرة ابن كثير 4/ 211.
(1/250)
مسألة: 144 - حكم العمرة
العمرة (1) عندنا ليست بواجبة في أصل الشرع (2)، وعند الشافعي هي: واجبة (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحج
جهاد والعمرة تطوع" (4) أو نقول؛ لأن العمرة عبادة لها مكان متعين، وزمانها
غير متعين، فلا تكون واجبة بأصل الشرع، كالاعتكاف (5).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه
__________
(1) العمرة: مأخوذة من الاعتمار، وهو الزيارة، يقال: المعمرة: إذا زاره. وشرعا:
زيارة البيت على وجه مخصوص، ويسمى الحج الأصغر، لمشاركتها للحج في الإحرام،
والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير.
انظر: المصباح مادة (عمر)، طلبة الطلبة، ص 30؛ مغني المحتاج 1/ 513.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 59؛ القدوري، ص 32؛ تحفة الفقهاء 1/ 595؛ الهداية مع
شرح البناية 3/ 839.
(3) انظر: الأم 2/ 132؛ مختصر المزني، ص 63؛ التنبيه، ص 48؛ المجموع مع المهذب 5/
7، 7؛ المنهاج، ص 38.
(4) الحديث رواه ابن ماجه مرفوعا عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وابن أبي
شيبة موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، كما ذكره الزيلعي، وقال: "غريب
مرفوعا". ابن ماجه، كتاب المناسك، باب العمرة (2989)، وفي الزوائد: "في
إسناده عمرو بن قيس المعروف بمندل، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهم والحسن أيضا
ضعيف". ابن ماجه 2/ 995.
وقد اورد البيهقي هذا الحديث وعدد طرقه وبين اختلافها وعللها في السنن الكبرى، باب
من قال: العمرة تطوع 4/ 348؛ نصب الراية 3/ 149، 150.
(5) قاس العمرة على الاعتكاف في عدم وجوبها بجامع تعيين المكان وعدم تعيين الزمان
في كل منهما.
(1/251)
قال: [من وقف] بعرفة فقد تم حجه"
(1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن تمام الحج بالوقوف بعرفة، ولم يشترط
فيه العمرة.
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة:
عن عروة بن مضرس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من شهد صلاتنا هذه - يعني المزدلفة - ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل
ذلك ليلا أو نهارا فقد أتم حجه وقضى تفثه"، اللفظ للترمذي: أبو داود في الحج،
باب من لم يدرك عرفة (1950)، 2/ 196؛ الترمذي، في باب من أدرك الإمام بجمع فقد
أدرك الحج (891)، وقال: "حديث حسن صحيح" 3/ 239؛ والنسائي، باب فيمن لم
يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5/ 263؛ ابن ماجه، باب من أتى عرفة قبل الفجر
ليلة جمع (3016)، 2/ 1004.
والظاهر من الحديث ووجه استدلاله كما ذكره المؤلف، أنه دليل لمذهب الأحناف، وإنما
وقع قوله: "احتج الشافعي في المسألة" سهوا من الناسخ؛ لأن المؤلف، نادرا
ما يذكر دليلين لمذهب واحد، والله أعلم.
استدل الشافعي لمذهبه، بقول الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]
وقال: "فقرن العمرة به، وأشبه بظاهر القرآن أن تكون العمرة واجبة ... "
وأدلة أخرى من الآثار.
انظر: مختصر المزني، ص 63.
واستدل البيهقي لوجوب العمرة بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة السائل الذي
سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام؟ وهو جبريل عليه
السلام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت
وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان"، قال: فإن قلت هذا
فأنا مسلم؟ ، قال: "نعم"، قال: صدقت، وذكر الحديث.
هكذا رواه البيهقي، وقال: "رواه مسلم في الصحيح .. إلا أنه لم يسق
متنه"، وذكر له أدلة أخرى، انظر السنن الكبرى، باب من قال بوجوب العمرة 4/
349 - 352؛ مسلم، في الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1)، 1/ 36.
(1/252)
مسألة: 145 - القران أفضل أم الإفراد
القران (1) عندنا أفضل (2)، وعند الشافعي: الإفراد أفضل (3).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حج وهو قارن (4)،
__________
(1) أنواع النسك: القران والتمتع والإفراد.
(أ) والقران: لغة: الجمع بين الشيئين مطلقا، وقرن بين الحج والعمرة قرانا بالكسر
أي جمع بينهما في الإحرام، وهو من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب. وشرعا "الجمع
بين إحرام العمرة والحج بسفر واحد".
(ب) والتمتع: من المتعة أي الانتفاع. وشرعا: "هو الجمع بين أفعال الحج
والعمرة في أشهر الحج في سنة واحدة بإحرامين بتقديم أفعال العمرة من غير أن يلم
بأهله إلماما صحيحا".
(ج) والإفراد من الفرد: الوتر وهو الواحد، يقال أفردت الحج عن العمرة: فعلت كل
واحد على حدة. وشرعا: "هو أن يحج أولا ثم يعتمر بعد الفراغ من الحج، أو يؤدي
كل نسك في سفر على حدة، أو يكون أداء العمرة في غير أشهر الحج".
انظر: الصحاح، المغرب، المصباح، التعريفات، مادة: (قرن، متع، فرد)، المبسوط 4/ 25،
30؛ البدائع 3/ 1189؛ اللباب في شرح الكتاب 1/ 96.
(2) الأفضل عند الأحناف: القران، ثم التمتع ثم الإفراد.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 61؛ القدوري، ص 28؛ المبسوط 4/ 25، 26؛ البدائع 3/ 1205؛
الهداية 1/ 153.
(3) وعند الشافعية أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران. وشرط تقديم الإفراد أن يحج
ثم يعتمر تلك السنة، فلو آخر العمرة عن سنته فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه.
انظر: مختصر المزني، ص 63، 64؛ التنبيه، ص 49؛ المجموع مع المهذب 7/ 138، 139؛
روضة الطالبين 3/ 44.
(4) قال السرخسي: "وعلماؤنا رحمهم الله استدلوا بحديث علي وابن مسعود وعمران
بن الحصين وأنس رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن بين الحج
والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين". المبسوط 4/ 26.
وانظر الأحاديث الواردة أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا، في نصب
الراية 3/ 99 - 101، والمصادر الآتية في حديث أنس رضي الله عنه.
(1/253)
فدل على أن القران أفضل، وروى أنس بن
مالك، أنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لبيك بحجة
وعمرة" (1).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن
أفضل الأعمال، قال: "أحرجها وأشقها على البدن" وهذا المعنى إنما يحصل
بالإفراد، لا بالقران (2).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان: والترمذي بلفظه: البخاري، في الحج، باب التحميد
والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة (1551)، 3/ 411؛ مسلم، في
الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة (1232)، 2/ 905؛ الترمذي، في الحج،
باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة (821)، 3/ 184.
(2) الحديث أورده علي القاري بلفظ: "أفضل العبادة أحمزها" أي أتعبها
وأصعبها، ونقل عن الزركشي أنه قال: "لا يعرف"، وعن ابن القيم في شرح
المنازل "لا أصل له"، وقال: "وسكت عليه السيوطي".
انظر: نور الدين علي بن محمد، الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، المعروف
بالموضوعات الكبرى، ص 100، 101.
وإنما استدل الشافعي على أفضلية الإفراد بحديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي
ولجعلتها عمرة".
وقال الشافعي: "وأحب إلي أن يفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أفرد". الحديث بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله
عنه، وأخرجه الشيخان أيضا بلفظ نحوه من حديث جابر، وعائشة رضي الله عنهما:
البخاري، في التمني، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمري ما
استدبرت (7229، 7230)، 13/ 218؛ مسلم، في الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1216)، 2/
884؛ مسند الإمام أحمد 3/ 148؛ انظر: مختصر المزني، ص 63؛ المجموع 7/ 128 فما
بعدها.
منشأ الخلاف في المسألة:
يرجع سبب الخلاف في تفضيل أحد النسك عن الأخريين إلى اختلاف الرواة عن حجة المصطفى
- صلى الله عليه وسلم -، فمن روى أنه قرن بين الحج والعمرة معا فضله على التمتع
والإفراد ومن روى أنه حج مفردا فضله على الأخريين.
ويرجح المحققون من العلماء: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارنا، يقول
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى - بعد عرضه ونقده لأحاديث أنواع النسك - وإنما
قلنا أنه أحرم قارنا لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة، في ذلك" ثم ساق اثنين
وعشرين حديثا، يستدل بها على أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم قارنا=
(1/254)
مسألة: 146 - قران وتمتع المكي
لا يصح القران والمتعة من المكي، ومن يكون حاضر المسجد الحرام (1) عندنا (2)، وعند
الشافعي يصح (3).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}
إلى قوله: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} (4)، فالله تعالى ذكر
التمتع، ثم أخبر أنه يصح، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وعندكم المكي يجوز
أن يكون متمتعا (5).
__________
= لا مفردا، ثم نقل عن شيخه: الإمام ابن تيمية رحمه الله ما يؤكد به أن الأحاديث
في هذا متفقة لا مختلفة وإن بدت بظواهرها مختلفة.
انظر: المبسوط 4/ 26، 7/ 138 وما بعدها؛ زاد المعاد 1/ 369 وما بعدها.
(1) حاضر المسجد الحرام: عند الأحناف هم: "أهل المواقيت فمن دونها إلى
مكة"، وعند الشافعية: "من كان من الحرم على مسافة القصر".
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 289؛ كتاب مجموعة من التفاسير: البيضاوي والخازن
والنسفي 1/ 287؛ القرطبي 2/ 404.
(2) وإذا تمتع المكي أو قرن كان عليه دم جناية، لا يأكل منه.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 60؛ البدائع 3/ 1192؛ الهداية مع البناية 3/ 646.
(3) ولا يجب في حقهم دم التمتع والقران.
انظر: التنبيه، ص 50؛ المجموع 7/ 161.
(4) سورة، البقرة: آية 196.
(5) واستعمل هنا أسلوب الرد على الشافعية بوجه استدلال الأحناف من الآية الكريمة
واكتفى بذلك، ولم يستدل لهم. واستدل الشافعية لمذهبهم بالمعنى كما قال النووي
واحتج أصحابنا: بأن ما كان من النسك قربة وطاعة في حق غير المكي، كان قربة وطاعة
في حق المكي كالإفراد". المجموع 7/ 162.
منشأ الخلاف بين المذهبين:
نشأ الخلاف بين المذهبين في هذه المسألة بسبب اختلافهم في المقصود من المشار إليه
بـ (ذلك) من الآية الكريمة السابقة، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المشار إليه:
التمتع وما ترتب=
(1/255)
مسألة: 147 - ذبح هدي المتمع قبل يوم
النحر
لا يجوز [لـ]ـمتمتع أن ينحر الهدي قبل يوم النحر، عندنا (1)، وعند الشافعي: يجوز
له أن ينحر الهدي، إذا أحرم قبل إحرامه بالحج، وبعد الفراغ من العمرة (2).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (3)
ومحله يوم النحر (4).
__________
= عليه؛ لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم، فلا متعة ولا قران
لحاضري المسجد الحرام".
وذهب الشافعي إلى القول بأن المقصود من المشار إليه: الحكم، الذي هو وجوب الهدي أو
الصيام على المتمتع؛ لأن عودة الإشارة إلى الأقرب أولى.
ومن ثم وقع الخلاف في هذه المسألة: فأوجب الأحناف على المتمتع أو المقرن المكي دما
(دم جناية). وذهب الشافعية إلى صحة تمتعه وقرانه مع عدم لزوم شيء عليه؛ لأن لزوم
الهدي على الآفاقي، والله أعلم.
انظر: الكشاف 1/ 345؛ النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان 2/ 164، 165؛ كتاب
مجموعة من التفاسير: البيضاوي، النسفي، الخازن، ابن عباس 1/ 287.
(1) انظر: أحكام القرآن (للجصاص) 1/ 294؛ البدائع 3/ 1205.
(2) انظر: التنبيه، ص 50؛ المجموع مع المهذب 7/ 178، 179.
(3) سورة البقرة: آية 196.
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 294؛ كتاب مجموعة التفاسير: تفسير الخازن 1/
285. لم يذكر المؤلف دليلا للشافعية، واستدل لمذهبهم النووي بقوله تعالى: {فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، وقال النووي معلقا:
"وبمجرد الإحرام يسمى متمتعا فوجب الدم حينئذ، ولأن ما جعل غاية، تعلق الحكم
بأوله كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]. ولأن شروط التمتع
وجدت، فوجب الدم، والله أعلم". المجموع 7/ 179.
(1/256)
مسألة: 148 - صيام أيام التشريق
للمتمتع
لا يجوز للمتمتع أن يصوم ثلاثة أيام التشريق، وهذا قول أبي حنيفة في القديم (1)،
وإليه ذهب الشافعي (2)، والقول الثاني: جائز (3)، وذهب إليه مالك (4).
والدليل على أنه جائز: قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} (5)، وأيام التشريق
من أوقات الحج (6).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه نهى
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 66؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 295؛ تحفة الفقهاء 1/ 628؛
البدائع 3/ 1203؛ الهداية مع شروحها: فتح القدير، والعناية 2/ 530، 531؛ البناية
3/ 622؛ الفتاوى الهندية 1/ 239.
(2) للشافعي في المسألة قولان مشهوران، القديم: يجوز للمتمتع العادم الهدي. صومها
عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج، الجديد: لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره،
وهذا الذي نص عليه الشافعي في المختصر، وقال النووي: "هذا هو الأصح عند
الأصحاب".
انظر: مختصر المزني، ص 59؛ الوجيز 1/ 115؛ المجموع مع المهذب 6/ 490، 7/ 181، 182؛
الروضة 3/ 53.
(3) أسلوب المؤلف في التعبير عن المسألة يوحي: بأن جواز الصيام هو القول المختار
عند أبي حنيفة، لكن الصحيح عنه: عدم الجواز، ولم أعثر لأحد من أئمة الأحناف أنه
نقل جواز ذلك عن الإمام أو أصحابه، بل يقولون: بتعيين الدم على من فاته الصيام قبل
يوم النحر.
راجع المصادر السابقة للأحناف.
(4) انظر: المدونة الكبرى 1/ 389؛ رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ص 384، 385، (مع
الثمر الداني).
(5) سورة البقرة: آية 196.
(6) وروى الطبري والجصاص عن علي وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم، جواز صبام أيام
التشريق لمن فاته الصيام، والدليل صالح للاحتجاج لمذهب مالك فقط. ولا يصح ما نسبه
المؤلف إلى الأحناف. وإنما استدل الأحناف لمنع صيام أيام التشريق بالنهي المشهور
عن صيام هذه الأيام (بالحديث الآتي) وبفتوى عمر رضي الله عنه في المسألة.
انظر: تفسير الطبري 2/ 249، 250؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 295؛ مختصر سنن أبي داود
3/ 295.
(1/257)
عن الصيام في أيام التشريق، قال:
"ألا لا تصوموا في هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال" (1).
مسألة: 149 - دخول الحج
التلبية (2) واجبة عندنا، كتكبيرات (3) الصلاة، ولا يدخل الحج إلا بالتلبية (4)،
وعند الشافعي: يدخل في الحج بمجرد النية (5).
__________
(1) الحديث روي بطرق وألفاظ متعددة مختلفة:
رواه (بلفظ المؤلف) الطحاوي، والدارقطني والبيهقي، والطبراني عن عدد من الصحابة
رضوان الله عليهم، إلا أن أكثر هذه الروايات ضعيفة.
ورواه مسلم في صحيحه عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أيام التشريق أيام أكل وشرب" وفي رواية: "وذكر الله"، ونحوه
أصحاب الأربعة إلا ابن ماجه.
انظر: شرح معاني الآثار، 2/ 244؛ السنن الكبرى 4/ 298؛ مجمع الزوائد 3/ 203؛ نصب
الراية 2/ 484، 485؛ مسلم، في الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق (1141، 1142)،
2/ 800؛ مختصر سنن أبي داود 3/ 295، 296.
(2) التلبية: مصدر لبى، وألب بالمكان إلبابا: أقام به ولزمه، ولب لغة فيه، ومنه
قولهم: "لبيك" أي: أنا مقيم على طاعتك، ونصب على المصدر كقولك حمدا لله
وشكرا وكان حقه أن يقال: لبا لك، وثنى على معنى التأكيد والتكرار، أي: البابا بك
بعد الباب، وإقامة بعد إقامة". انظر: الصحاح، المصباح (لبب) المغرب
(التلبية). ويراد بالتلبية شرعا قوله "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك
لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". القدوري، ص 26؛ المبسوط 4/
6.
(3) الظاهر من كلام المؤلف أنها واجبة مطلقا، والحكم ليس على إطلاقه، بل هي: شرط
مرة واحدة والزيادة سنة". وقياس تكرارها بتكبيرات الصلاة غير مستقيم أيضا؛
لأن تكبيرات الانتقال غير واجبة بل هي سنة ما عدا تكبيرة الإحرام فهي شرط، وتتلخص
المسألة عند الأحناف: بأن التلبية الأولى واجبة كما ذكره المؤلف، وشرط في الدخول
للحج، وما يتبقى فهي سنة كما ذكر في كتب المذهب. وهذا المعنى ينسجم مع دليل المؤلف
الآتي.
انظر: البدائع 3/ 1174؛ الهداية وشرحها مع فتح القدير 2/ 446.
(4) المبسوط 4/ 6؛ البدائع 3/ 1174؛ الهداية 1/ 138.
(5) انظر: مختصر المزني، ص 65؛ التنبيه، ص 50؛ الوجيز 1/ 116؛ المجموع مع المهذب
7/ 226.
(1/258)
دليلنا في المسألة: أن هذه عبادة في
أثنائها نطق واجب، وجب أن يكون في ابتدائها نطق واجب، دليله: الصلاة (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الحج عبادة، لا يشترط في أدائها القراءة وجب أن
لا يشترط في وجويها التلبية، دليله: العمرة (2).
مسألة: 150 - لبس المحرم القفازين
يجوز للمحرم لبس القفازين (3) عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يجوز في قول، ويجوز في
قول (5).
__________
(1) استدل الأحناف من النقل بما روى عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله
عنهم، في قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197]. "بأن فرض الحج
الإهلال".
انظر الأدلة بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 1/ 306؛ البدائع 13/ 174؛ شرح فتح
القدير 2/ 439.
(2) لم أجد هذا القياس في كتب الشافعية التي بين يدي، لكن الشيرازي قاسه بالصوم،
حيث يقول: "لأنها عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها
كالصوم".
واستدلوا من النقل بحديث النية: "إنما الأعمال بالنيات" الحديث سبق
تخريجه في المسألة (122)، ص 225 انظر: المجموع مع المهذب 7/ 226 فما بعدها.
(3) القفازان: تثنية قفاز، بالضم والتشديد، وأصله قفز من باب ضرب، والقفاز: شيء
تتخذه النساء في أيديهن يغطي كفى المرأة وأصابعها، ويحشى بقطن، ويكون له أزرار تزر
على الساعدين من البرد، كالذي يتخذه الصائد.
أنظر: الصحاح، معجم مقاييس اللغة؛ المغرب؛ الصباح المنير، مادة: (قفز).
(4) يجوز للنساء فقط.
انظر: المبسوط 4/ 128؛ البدائع 3/ 1231، 1232.
(5) قال النووي رحمه الله:
يحرم على الرجل لبس القفازين بلا خلاف، وفي المرأة قولان مشهوران:
أصحهما عند الجمهور تحريمه، وهو نص الشافعي في الأم، وتجب به الفدية.
(1/259)
مسألة: 151 - لبس المحرم السراويل
من لم يجد الإزار، ولبس السراويل تلزمه الفدية، عندنا (1)، وعند الشافعي: لا تلزمه
الفدية (2).
دليلنا في المسألة: ما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا يلبس المحرم قميصا ولا عمامة ولا برنسا (3) ولا سراويلا
__________
= انظر: الأم 2/ 148؛ التنبيه، ص 52؛ الوجيز 1/ 124؛ المجموع 7/ 261، 265، 269؛
المنهاج، ص 43.
لم يذكر المؤلف في هذه المسألة دليلا لأحد المذهبين:
واستدل الأحناف للجواز: "بما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان
يلبس بناته القفازين في الأحرام"، وأدلة أخرى. المبسوط 4/ 128؛ البدائع 3/
1232.
انظر ما رواه ابن أبي شيبة من الآثار 4/ 92.
واستدل الشافعية: "بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "نهى أن تنتقب المرأة وهي محرمة وتلبس القفازين"، ولأنه
عضو منها لبس يعم، فتعلق به حرمة الإحرام كالوجه"، وهذا قول علي وعائشة رضي
الله عنهما.
أخرجه البخاري في صحيحه، في جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة
(1238)، 4/ 52؛ السنن الكبرى، في باب المرأة لا تنتقب في إحرامها ولا تلبس
القفازين 5/ 46، 47).
(1) هذا إن لبسه على الوجه المعتاد، وإذا استمر لابسا يوما كاملا فعليه دم، وإن كان
دون ذلك فصدقة، وأما إذا ائتزر بالسراويل أو شقه ولبسه فلا شيء عليه.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 68؛ القدوري، ص 30؛ المبسوط 4/ 126؛ البدائع 3/ 1225؛
الهداية 1/ 138.
(2) انظر: الأم 2/ 147؛ التنبيه، ص 51؛ الوجيز 1/ 124؛ المجموع مع المهذب 7/ 253.
(3) البرنس، بضم الباء والنون وسكون الراء، قلنسوة طويلة، كان النساك يلبسونها في
صدر الإسلام.
انظر: الصحاح؛ المغرب، مادة: (البرنس).
(1/260)
ولا الخفين" (1) فالنبي - صلى
الله عليه وسلم - نهى عن لبس المخيط، فإذا لبسها وجب أن تلزمه الفدية، دليلنا: إذا
لبس القميص.
احتج الشافعي، وهو: أنه إذا لم يجد الإزار، كان عذرا، وجب أن لا تلزمه الفدية (2).
كما لو وضع القباء (3) على الكتف في البرد الشديد، فإنه لا تلزمه الفدية (4)، كذلك
ها هنا.
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما (بطوله): أن رجلا قال: يا
رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد
لا يجد النعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب
شيثا مسه زعفران أو ورس": البخاري، في الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب،
(1542)، 3/ 401؛ مسلم، في الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح له،
(1177)، 2/ 834.
(2) استدل الشافعي من النقل بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع النبي -
صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول:
"إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزارا لبس سراويل".
ثم قال الشافعي: "ومن لم يجد إزارا لبس سراويل فهما سواء، غير أنه لا يقطع من
السراويل شيئا؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقطعه".
الحديث أخرجه الشيخان: البخاري، في اللباس، باب السراويل (5804)، 10/ 272؛ مسلم،
في الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح (1178)، 2/ 835.
انظر: الأم 2/ 147.
(3) القباء: ثوب يجمع ويضم جميع أعضاء البدن، وهو مشتق من قولهم: قبوت الشيء:
جمعته وضممته.
انظر: معجم مقاييس اللغة، مادة (قبو).
(4) قياس المؤلف السراويل بالقباء، صحيح بالنسبة لمذهب الأحناف، وأما الشافعية -
كما أراده المؤلف - فلا يصح عندهم هذا؛ لأنه يحظر لبسه عندهم إطلاقا، كما نقل
النووي الإجماع عن ابن المنذر، على عدم جواز لبس القباء للمحرم سواء أخرج يديه من
كميه أم لا، ولو لبس لزمه الفدية.
وقال السرخسي في جواز لبسه: "ولا بأس بأن يلبس المحرم القباء ويدخل فيه
منكبيه دون يديه عندنا". انظرة المبسوط 4/ 125؛ المجموع 7/ 258.
(1/261)
مسألة: 152 - تطيب المحرم ولبس الثوب
إذا تطيب المحرم عضوا (1)، أو لبس الثوب واستدام اللبس أكثر النهار (2). فعليه
الفدية، وإن كان نصف اليوم أو أقل، لا تلزمه الفدية، بل تلزمه الصدقة (3) عندنا
(4)، وعند الشافعي: تلزمه الفدية، قل أو كثر (5).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الفدية إنما تجب بالطيب واللبس بما يحصل به الاستمتاع
والانتفاع، أما إذا لبس دون يوم، وتطيب دون عضو، لم يحصل المقصود منه، فلم تجب الفدية
(6)، كما لو قطع ظفرا.
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الفدية إنما تجب باللبس والطيب، بحصول المنفعة
به، فإذا لبس ساعة واحدة، فقد حصل له الانتفاع، فتلزمه الفدية، كما لو لبس أكثر
اليوم (7).
__________
(1) أي عضوا كاملا، كالفخذ والساق، عمدا كان أو سهوا.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 70.
(2) ذكر فقهاء الأحناف بأن الفدية لا تجب إلا باستدامة اللبس يوما كاملا، وما ذكره
المؤلف (بأكثر النهار) كان هذا قول الإمام أبي حنيفة أولا، ثم رجع عنه وقال:
"لا دم عليه حتى يلبس يوما كاملا"، كما ذكره الكاساني. انظر: البدائع 3/
1232.
(3) ويقصد بالصدقة: نصف صاع من بر، قال الكاساني: "وكل صدقة تجب بفعل ما
يخطره الإحرام، فهي مقدرة بنصف صاع"، البدائع 3/ 1233.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 68؛ القدوري، ص 30؛ المبسوط 4/ 122، 125؛ البدائع 3/
1232، 1233، 1238؛ الهداية 1/ 160، 161.
(5) انظر: الأم 2/ 147، 151؛ التنبيه، ص 51؛ الوجيز 1/ 124؛ المجموع مع المهذب 7/
253، 270، وما بعدها؛ المنهاج، ص 43.
(6) وإنما تجب عليه صدقة. انظر: القدوري، ص 30؛ المبسوط 4/ 77.
انظر: الأدلة بالتفصيل؛ البدائع 3/ 1232، 1233، 1239.
(7) واستدل الشافعي من النقل بعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما يلبس المحرم
من الثياب ... الحديث، وقد سبق تخريجه في المسألة السابقة (151)، ص 261.
انظر: الأم 2/ 147؛ المجموع 7/ 269، وما بعدها.
(1/262)
مسألة: 153 - إدهان المحرم
إذا دهن المحرم رأسه بالزيت (1) أقل من ربع (2) رأسه لا تجب الفدية عندنا (3)،
وعند الشافعي: تجب (4).
والمعنى فيه: ما ذكرنا في المسألة الأولى (5).
__________
(1) سواء كان مطيبا أو غير مطيب عند أبي حنيفة.
انظر: المبسوط 4/ 122.
(2) لأنهم يجعلون الربع بمنزلة الكمال، على قياس الحلق، كما اعتبر ذلك في مسح
الرأس. راجع المسألة: (10)، ص 103.
(3) انظر: المبسوط 4/ 122؛ البدائع 3/ 1239؛ الهداية 1/ 160.
(4) وفصل الشافعية القول في الأدهان: ففرقوا بين ما هو دهن مطيب وما هو غير مطيب
كالزيت، وكذلك بين أدهان البدن والرأس واللحية.
أما الدهن المطيب فهو ملحق بالطيب، وأما غير المطيب كالزيت فلا يحرم استعماله في
جميع البدن، إلا في الرأس واللحية فيحرم استعماله فيهما بلا خلاف عندهم، وتلزمه
الفدية بالاستعمال؛ "لأنه موضع الدهن وترجيل الشعر".
انظر: مختصر المزني، ص 66؛ التنبيه، ص 52؛ الوجيز 1/ 125؛ المجموع 7/ 279، 280.
(5) ودليلهم على تحريم الدهن للمحرم قوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل من
الحاج: "الشعث التفل".
(أخرجه الترمذي، في كتاب تفسير القرآن، باب من سورة آل عمران، (2998) وقال
الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر إلا من حديث إبراهيم بن يزيد، وقد
تكلم فيه بعض أهل الحديث 5/ 225؛ ابن ماجه، في المناسك، باب ما يوجب الحج (2896)،
2/ 967).
والمعنى: أن استعمال الدهن والطيب يزيل هذا الوصف "وهي صفة العبادة".
انظر: مختصر المزني، ص 66؛ المبسوط 4/ 122.
وأما من حيث تقدير الفدية فهو كما ذكر في المسألة السابقة (152)، ص 262.
(1/263)
مسألة: 154 - حجة الواطئ ناسيا
إذا وطئ (1) امرأته ناسيا (2) يفسد حجه (3)، وعليه الكفارة عندنا (4)، وعند
الشافعي فيه قولان (5): في قول يفسد حجه، وفي قول لا يفسد.
دليلنا في المسألة، وهو: أن الوطء مفسد للحج موجب للكفارة إذا كان عامدا، فكذلك
إذا كان ناسيا؛ لأن النسيان إنما يكون عندنا في موضع النسيان، وهذا لا يكون موضع
النسيان،
__________
(1) الوطء المفسد للحج ما كان في القبل، وفيما عدا ذلك خلاف، وسيأتي في المسألة
(155) تفصيله.
(2) يستوي العامد والمخطئ والناسي والذاكر في أحكام الحج عند الأحناف.
قال القدوري: "ومن جامع ناسيا كمن جامع عامدا"، "ويلزمه ما يلزم
العامد إلا أنه لا يأثم بعذر النسيان". القدوري، ص 30؛ المبسوط 4/ 121.
(3) هذا إذا وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، "فإنه يفسد حجهما، وعلى كل واحد
منهما دم، ويمضيان في حجهما حتى يفرغا منه، وعليهما قضاء الحج من قابل ولا
يتفرقان". وأما إن وقع الجماع بعد الوقوف، كان على كل واحد منهما بدنه ولا
يفسد حجهما.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 67؛ القدوري، ص 30؛ المبسوط 4/ 121؛ البدائع 3/ 1299 -
1303؛ فتح القدير 3/ 44 - 46.
(5) "أصحهما: أنه لا يفسد حجه، ولا تلزمه الكفارة، كما ذكره الشيرازي
والنووي، والجماع الذي يفسد الحج عند الشافعية: هو ما كان عمدا قبل الوقوف بعرفة
كالأحناف. وكذلك ما كان بعد الوقوف إلى ما قبل التحلل الأول - فعل اثنين من الرمي
والحلق والطواف - وعليهما المضي والقضاء من قابل ويستحب لهما المفارقة على الأصح.
وفي كلا الحالتين يلزمه: بدنة.
واختلف الشافعية في وجوب البدنة على المرأة على ثلاثة أقوال، كاختلافهم السابق في
كفارة جماع الصائم الصائمة. راجع المسألة: (124)، ص 228.
انظر: الأم 2/ 218؛ التنبيه، ص 51؛ الوجيز 1/ 126؛ المجموع 7/ 377، 378، 385، 388،
393؛ الروضة 3/ 143.
(1/264)
فلا يكون معذورا، كما لو تكلم في
الصلاة ناسيا تفسد صلاته (1).
مسألة: 155 - حجة الواطئ فيما دون الفرج
إذا وطئ فيما دون الفرج أو تلوط، أو وطئ البهيمة، لا يفسد حجه عندنا، وعند
الشافعي: يفسد (2).
__________
(1) "لأن الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقا مخصوصا وهو عين
الجماع"، وهذا لا ينعدم بسبب النسيان.
انظر: المبسوط 4/ 121؛ البدائع 3/ 1300؛ الهداية وشروحها: فتح القدير مع؛ والعناية
3/ 48، 49.
لم يذكر المؤلف دليلا للشافعي كعادته، وإنما استدل الشيرازي بالمعنى بقوله:
"لأنه عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فاختلف في الوطء فيها العمد والسهو
كالصوم".
انظر: المهذب 9/ 220؛ الوجيز 1/ 126؛ المجموع 7/ 293، 346.
(2) المسألة ليست على هذا الإجمال الذي ذكرها المؤلف، وإنما فيها تفصيل لدى
الطرفين: أولا: لا خلاف بين المذهبين بأن الوطء فيما دون الفرج - سواء أنزل أو لم
ينزل - لا يفسد الحج ولا يجب عليه بدنه، وإنما عليه كفارة.
انظر: المبسوط 4/ 120؛ المجموع 7/ 292.
ثانيا: وأما اللواطة ومواقعة البهيمة ففيهما خلاف كما يأتى:
في اللواطة: روي لأبي حنيفة روايتان: رواية: "أنه يفسد الحج؛ لأنه في معنى
الجماع في القبل" وهو قول الصاحبين، قال ابن الهمام: "وهو الأصح".
والثانية: لا يتعلق به الفساد "لعدم كمال الارتفاق لقصور قضاء الشهوة فيه
لسوء المحل فأشبه الجماع فيما دون الفرج".
وأما وطء البهيمة فلا خلاف فيه بين الأحناف: بأنه لا يفسد حجه، "ولا كفارة
عليه إلا إذا أنزل؛ لأنه ليس باستمتاع مقصود".
انظر: المبسوط 4/ 120؛ البدائع 3/ 1299؛ الهداية مع شرحها؛ فتح القدير 3/ 44.
ولا خلاف لدى الشافعية في إفساد الحج باللواطة وبإتيان البهيمة كما يذكر ذلك
الشافعي، بإجمال حيث يقول: "والذي يفسد الحج: الذي يوجب الحد من أن يغيب
الحشفة، لا يفسد الحج شيء غير ذلك"، ويوضح ذلك الشيرازي بقوله: ، والوطء في
الدبر واللواط وإتيان البهيمة كالوطء في القبل في جميع ما ذكرناه؛ لأن الجميع وطء،
والله أعلم". =
(1/265)
دليلنا في المسألة، وهو: أن الشرع إنما
أوجب فساد الحج بالوطء الكامل في محله؛ لأنه يحصل به اقتضاء الشهوة بكماله، وهذا
المعنى لا يحصل بهذه الأشياء، فلا تلزمه الكفارة (1)، دليله: الاحتلام (2).
احتج الشافعي، في المسألة: بأنه وطء يتعلق به الحكم، وهو الحد، فوجب أن يثبت به
فساد الحج، كالوطء في الفرج (3).
مسألة: 156 - حج الصبي
الصبي (4) ليس له حج صحيح عندنا (5)، وعند الشافعي،
__________
= وقال النووي معلقا عليه: "وهذا الذي قاله هو المذهب، وبه قطع الجمهور من
العراقيين والخراسانيين".
انظر: الأم 2/ 218؛ النكت للشيرازي (مخطوط) (ورقة 109/ أ)، المجموع 7/ 394؛ الروضة
3/ 138.
وعدم ذكر المؤلف المسألة بالتفصيل: إما لأجل الاختصار كعادته، ليسهل الحفظ والضبط،
وإما أنه ذكره من محفوظاته، بدون الرجوع إلى المراجع، والله أعلم، كما رأينا ذلك
أيضا في المسألة السابقة، وأشباهها كثيرة.
(1) قوله: (لا تلزمه الكفارة) صحيح إن أراد به البدنة، وإلا فغير صحيح، كما علم من
تفصيل المسألة.
(2) قياسه الوطء فيما دون الفرج بالاحتلام، غبر مستقيم؛ لأن الاحتلام ليس من فعله،
ولم يوجب أحد على المحتلم الكفارة، وأما الوطء فيما دون الفرج ففيه استمتاع، وإن
كان قاصرا، كما أن من فعله فعليه الكفارة كما بينته، وهذا قياس مع الفارق.
(3) وبالنسبة لدلالة عدم فساد الحج بالوطء فيما دون الفرج، كما ذكره الشيرازي،
بقوله: "لأنها مباشرة لا يجب الحد بجنسها فلم يفسد الحج كالمباشرة بغير
شهوة". المجموع 7/ 395.
وانظر: مراجع الشافعية في هامش (1) من المسألة.
(4) اتفق العلماء على عدم وجوب الحج على الصبي، وسقوط فرضيته عنه، ولو حج ثم بلغ
لا يجزئه عن حجة الإسلام، نقل ابن المنذر الإجماع فيها.
انظر: ابن المنذر، الإجماع، ص 68؛ البدائع 3/ 1082؛ المجموع 7/ 34.
(5) اشتهر في كتب الخلاف: بأن الأحناف يقولون: بعدم صحة حج الصبي، كما ذكر المؤلف
هنا، ونقل بعضهم ذلك عن بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله كالشيرازي في النكت، وابن=
(1/266)
إذا كان مميزا فأحرم بإذن وليه صح، وإن
لم يكن مميزا، فأحرم عنه الولي (1).
__________
= هبيرة في الإفصاح، إلا أن الباحث إذا رجع إلى كتب الأحناف للتأكد من مدى صحة هذا
القول في المذهب، فإنه لا يجد قولا واحدا يدل على صحة ما ذكر في كتب الخلاف، بل
الجميع متفقون على أن حج الصبي يقع تطوعا، اللهم إلا ما ذكره ابن عابدين في
حاشيته: "ذكر في البدائع، أنه لا يجوز أداء الحج من مجنون وصبي لا يعقل، كما
لا يجب عليهما، ونقل غيره صحة حجهما". وبالرجوع إلى البدائع للتأكد من صحة
نقل ابن عابدين عنه، نجد الكاساني يقول في شرائط فرضية الحج" فمنها البلوغ،
ومنها العقل، فلا حج على الصبي والمجنون؛ لأنه لا خطاب عليهما، فلا يلزمهما الحج،
حتى لو حج ثم بلغ الصبي، وأفاق المجنون، فعليهما حجة الإسلام، وما فعله الصبي قبل
البلوغ يكون تطوعا والجملة الأخيرة من قول الكاساني صريحة في صحة حج الصبي، ووقوعه
تطوعا.
ثم إن افترضنا صحة ما ذكر في كتب الخلاف عن الأحناف فرضا، وعدم عثورنا على هذا
القول في الكتب التي بين أيدينا، فمن الممكن التوفيق والجمع بين القولين، فيكون
معنى قولهم: إنه لا يصح حج الصبي "صحة يتعلق بها وجوب الكفارات عليه إذا فعل
محظورات الإحرام، زيادة في الرفق به، لا أنه يخرجه من ثواب الحج" كما ذكره
ابن هبيرة في الإفصاح. ومن ثم يظهر أنه لا خلاف بين الذهبين في صحة حج الصبي،
ووقوعه نفلا، سواء كان الصبي مميزا أو غير مميز.
(1) وإنما الخلاف في صفة حجه باختلاف حاله: الصبي إما أن يكون مميزا أو غير مميز.
(أ) أما الصبي المميز: فإنه يحرم عنه وليه، ويؤدي عنه المناسك، ويجنبه محظورات
الإحرام، ولكن لا يصلي عنه ركعتي الطواف، بل تسقطان عنه عند الأحناف، وعند
الشافعية: يصليهما الولي عنه.
(ب) وأما الصبي غير المميز: فلا يصح إحرامه إلا بنفسه، وينعقد بإذن وليه وبغير
إذنه عند الأحناف.
وأما عند الشافعية فيصح إحرام وليه عنه، وإذا أحرم بنفسه فلا ينعقد إلا بإذن وليه
على الأصح عندهم في المسألتين، ويفعل المميز كل ما يستطيع فعله بنفسه من المناسك،
ولا تجوز النيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه، وكل ما لا يقدر الصبي على أدائه بنفسه
ينوب عنه وليه في أدائه، وهذه باتفاق الطرفين.
(ج) وأما إن ارتكب الصبي محظورا من محظورات الإحرام، أو ترك فرضا أو واجبا من
الواجبات، فلا جزاء عليه عند الأحناف، لعدم الأهلية، ولأنه يأتي به للتخلق، وأما
الشافعية فعندهم: عليه الجزاء، ثم إن كان الصبي أحرم بإذن الولي وجبت الفدية في
مال الصبي، =
(1/267)
وحاصل الخلاف: راجع بالصبي، إذا أتى
بالنوافل من العبادات والصدقات، هل يصح هذا من؟ عند أبي حنيفة لا يصح (1)، وعند
الشافعي: يصح.
مسألة: 157 - جزاء قتل الصيد
إذا قتل [الحلال] (2) صيدا في الحرم، أو قتل المحرم خارج المصر، يضمنه بقيمته ثم
يصرف القيمة إلى النعم عندنا (3).
__________
= وإن أحرم بغير إذنه - على القول المرجوح بصحة ذلك منه - وجبت الفدية في مال
الصبي. انظر: الشيرازي، النكت، (مخطوط) (ورقة 98)، حلية العلماء 3/ 195؛ ابن
هبيرة، الإفصاح 1/ 266؛ العثماني، رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 102؛ المبسوط 4/
69؛ تحفة الفقهاء 1/ 583؛ البدائع 3/ 1082 - 1085؛ فتح القدير 2/ 423؛ البناية 3/
446؛ الفتاوى الهندية 1/ 217؛ البحر الرائق 2/ 335؛ منلا مسكين 1/ 461؛ المتقسط في
المنسك المتوسط مع الحاشية، ص 24؛ حاشية الطحطاوي 1/ 481، مع الدر المختار؛ حاشية
ابن عابدين 2/ 459، 466؛ الأم 2/ 111؛ المهذب 7/ 20، 34، مع المجموع؛ الوجيز 1/
108، 123؛ الروضة 3/ 119؛ الإيضاح، ص 99.
(1) والصحيح عند الأحناف: أن عباداته صحيحة، وإن لم تجب عليه، وثوابها له على
القول المعتمد عندهم، وكذلك جميع حسناته، وذكر ابن رشد أن سبب الخلاف معارضة الأثر
في ذلك للأصول، فمن أجاز ذلك أخذ بحديث ابن عباس المشهور: أن امرأة رفعت صبيا لها،
فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: "نعم ولك أجر"، ومن منع ذلك تمسك
بأصل: أن العبادة لا تصح من غير عاقل.
انظر: ابن رشد، بداية المجتهد 1/ 319؛ الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 266؛ ابن نحيم،
الأشباه والنظائر، ص 169.
(2) الظاهر من سياق العبارة أنها سقطت من الناسخ.
(3) ثم هو مخير في القيمة: بين الهدي، أو الإطعام، أو الصيام، بحسابها وإن كان
الحلال لا يجزيه إلا طعام وبالتأدي بالهدي روايتان.
انظر المسألة بالتفصيل: مختصر الطحاوي، ص 70، 71؛ القدوري، ص 31؛ المبسوط 4/ 82،
83، 97؛ تحفة الفقهاء 1/ 144؛ البدائع 8/ 1358.
(1/268)
وعند الشافعي: يضمنه بمثله من النعم
(1).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} (2)، فإنما
يحكم تارة بالمثل، وتارة بالقيمة (3).
احتج الشافعي، في المسألة: أن الله تعالى أوجب الجزاء بمثل ما قتل من النعم، ومثل
الشيء جنسه (4).
مسألة: 158 - جزاء الصيد على القارن
القارن إذا قتل صيدا، يلزمه جزاآن عندنا (5)، وعند الشافعي: جزاء واحد (6) وهذا
الخلاف مبني على ما ذكرناه: أن القران أفضل، أم الإفراد (7).
__________
(1) انظر: الأم 2/ 187 فما بعدها؛ مختصر المزني، ص 71؛ التنبيه، ص 52؛ الوجيز 1/
128؛ المجموع 7/ 404.
(2) سورة المائدة: آية 195.
(3) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 2/ 474.
(4) انظر تفسير آية منع الصيد: أحكام القرآن، للكيا الهراسي 3/ 109؛ تفسير
البيضاوي 1/ 292؛ والنكت للشيرازي (مخطوط)، (ورقة 13/ ب)، وراجع المصادر السابقة
للشافعية.
(5) انظر: مختصر الطحاوي، ص 71؛ القدوري، ص 31؛ المبسوط 4/ 81.
(6) انظر: النكت (مخطوط)، (ورقة 115)، الوجيز 1/ 129؛ روضة الطالبين 3/ 162؛
المجموع 7/ 336.
(7) ويتضح وجه الخلاف بما يأتي: الشافعية: يدخلون العمرة في إحرام الحج في القران،
فتندرج أعمال العمرة في أعمال الحج، فيكفي لهما طواف واحد وسعي واحد، وذلك لاتحاد
الإحرام، وبالتالي يجب على القارن الجاني جزاء واحد لاتحاد الحل، وأما الأحناف
فإنهم لا يدخلون أحدهما في الآخر وعليه أن يطوف طوافين ويسعى سعيين ويقدم أفعال
العمرة على أفعال الحج؛ "لأن القران ينبئ عن الضم والجمع دون التداخل، فصار
القارن بقتل الصيد جانبا على إحرامين فيلزمه جزاآن". انظر: المبسوط 4/ 81؛
تحفة الفقهاء 1/ 629، 630؛ الوجيز 1/ 114، 129؛ المجموع 7/ 164، 336؛ راجع المسألة
(145)، ص 253.
(1/269)
مسألة: 159 - جزاء الاشتراك في الصيد
إذا اشتركوا في قتل صيد واحد، يلزم كل واحد منهم جزاء عندنا (1)، وعند الشافعي:
يلز [مهم] جزاء واحد (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الجزاء إنما يجب بفعل القتل بحسب كل واحد منهم جزاء على
حدة، كما نقول في القتل إذا اجتمعوا على قتل رجل واحد، فإنه يلزم كل واحد منهم
كفارة (3).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الفدية إنما تجب بقتل الصيد فتجب على الكل فدية واحدة،
كما في الدية: أن جماعة لو اجتمعوا على قتل رجل أخطأ، تجب على الكل دية واحدة،
فكذلك هذا (4).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 71؛ المبسوط 4/ 80، 81؛ البدائع 3/ 1267.
(2) انظر: النكت، (ورقة 115/ أ، ب)، التنبيه، ص 53؛ الوجيز 1/ 129؛ الروضة 3/ 162.
(3) واستدل الأحناف من النقل بقوله سبحانه وتعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء
مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]، وكلمة "من" تتناول كل واحد من
القاتلين على حياله، كما في قوله عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}
[النساء: 93] ".
انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 2/ 477؛ المبسوط 4/ 81؛ البدائع 3/ 1267،
1268.
(4) واستدل الشيرازي من النقل بقضاء الصحابة: "أن رجلين رميا ظبيا فقتلاه
فقضى عمرو عبد الرحمن فيه بشاة واحدة" ونحوه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله
عنهم. النكت (ورقة 115/ أ).
(1/270)
مسألة: 160 - تحلل المريض
المحرم إذا مرض يجوز له التحلل عندنا (1)، وعند الشافعي: لا يجوز (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن المرض عذر يباح له التحلل، وتلزمه الفدية، كما لو أحصر
(3).
احتج الشافعي: في المسألة؛ لأنه لما أحرم وجب عليه
__________
(1) وعلى المريض "أن يثبت على إحرامه حتى ينحر عنه الهدى في الحرم فيحل به
ويكون عليه قضاء ما حل منه".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 71؛ القدوري، ص 32؛ المبسوط 4/ 108؛ تحفة الفقهاء 1/ 632؛
البدائع 3/ 1207؛ الهداية مع شروحها: فتح القدير، والعناية 3/ 124؛ البناية 3/
817.
(2) لا يجوز للمحرم إذا مرض التحلل ما لم يكن شرط التحلل مقترنا بنية الإحرام، فإن
اشترطه فله ذلك.
انظر: الأم 2/ 219؛ التنبيه، ص 58؛ الوجيز 1/ 130؛ المجموع مع المهذب 8/ 250 فما
بعدها.
(3) الإحصار في اللغة المنع، من حصره إذا منعه، والمحصر: هو الممنوع، تقول العرب،
أحصر فلان: إذا منعه خوف أو مرض من الوصول إلى أيام حجته أو عمرته.
انظر: مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (حصر)، البناية 3/ 817. وفي الشرع: هو المحرم
الذي منع عن المضي في موجب الإحرام، "سواء كان المنع من العدو أو المرض أو
الحبس ... " أي بمطلق المنع. كما ذكره السرخسي والكاساني.
انظر: المبسوط 4/ 108؛ البدائع 3/ 1206.
واستدل الأحناف، على أن المرض من الحصر، بعموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر
من الهدي} [البقرة: 196]، محتجين باتفاق أهل اللغة: أن لفظة الإحصار تتناول المرض.
انظر أدلتهم اللغوية والنقلية والعقلية بالتفصيل في المبسوط 4/ 108، 109؛ البدائع
3/ 1208، 1209؛ وما ذكره العيني في اختلاف العلماء في الإحصار، البناية 3/ 808 فما
بعدها.
(1/271)
إتمامه ولا يباح له التحلل، كما لو كان
له عذر لا من جهة السماء (1).
__________
(1) في المخطوط: (السماوي).
الأصل عند الشافعي: أن الإحصار: لا يكون إلا من عدو سواء كان مسلما أو كافرا وما
شابهه من حبس، كما نص عليه الشافعي في الأم، واستدل على ذلك بأن آية الإحصار نزلت
يوم الحديبية حيث أحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدو، وبما أخرجه البيهقي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا حصر إلا حصر العدو".
انظر: أدلتهم بالتفصيل في الأم 2/ 218، 219؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 92؛
السنن الكبرى 5/ 219؛ المجموع 8/ 250 - 255.
والظاهر من أدلة المذهبين أن سبب الخلاف في المسألة هو الاختلاف في تعريف الإحصار
حيث عرفه الأحناف: بأنه مطلق المنع، والشافعي قيده بمنع العدو فقط، والله أعلم.
انظر المسألة بالتفصيل: في تفسير قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}
أحكام القرآن للجصاص 1/ 268 وما بعدها، أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 92 وما
بعدها.
(1/272)
كتاب البيوع (1)
[مسألة]: 161 - بيع الغائب
بيع الغائب (2) وشراؤه جائز عندنا (3)، وعند الشافعي لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من
اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" (5).
__________
(1) البيوع: جمع بيع، وباع الشيء يبيعه بيعا ومبيعا وهو شاذ، وقياسه: مباعا.
وباعه: اشتراه فهو من الأضداد، والشيء مبيع ومبيوع، وهو في اللغة عبارة: عن مطلق
المبادلة، وفي الشرع: "مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا
وتملكا" على وجه التراضي. وينعقد: بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظي الماضي.
انظر: الصحاح، معجم مقاييس اللغة، التعريفات، المصباح، مادة: (بيع)، الهداية
وشرحها البناية 6/ 187، 192؛ مغني المحتاج 2/ 3.
(2) ويقصد به بيع العين الغائبة عن المتعاقدين التي لم تسبق لهما معرفة صفتها ولا
رؤيتها.
(3) لكن بشرط الإشارة إليه أو إلى مكانه، فلو لم يشر لذلك لم يجز، كما ذكره
السرخسي، وعلى مذهبهم، لا يثبت الخيار عند الرؤية إلا للمشتري، قال القدوري:
"ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز، وله الخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء
رده، ومن باع ما لم يره فلا خيار له". انظر: مختصر الطحاوي، ص 48؛ القدوري، ص
35؛ المبسوط 13/ 69، 68؛ تحفة الفقهاء 7/ 112، 118؛ الهداية وشرحها فتح القدير 6/
335.
(4) انظر: الأم 3/ 2003؛ مختصر المزني، ص 87؛ التنبيه، ص 63؛ المهذب 1/ 270؛
الوجيز 1/ 135؛ الروضة 3/ 368؛ المجموع 9/ 315.
(5) الحديث روي مسندا ومرسلا:
رواه الدراقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسندا، وفيه عمر بن
إبراهيم الكردي، وهو مذكور بالوضع، وذكر الدارقطني أنه تفرد به، وإنما يروي هذا من
قول =
(1/273)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
البيع مجهول، ألا ترى أن الجهالة [في] صفة المبيع، تمنع صحة العقد، وجهالة الأصل
أولى أن تمنع صحة العقد (1).
مسألة: 162 - توريث خيار الشرط
خيار (2) الشرط لا يورث عندنا (3)، وعند الشافعي: يورث (4).
__________
= ابن سيرين، حيث يقول: "عمر بن إبراهيم يقال له الكردي، يضع الأحاديث، وهذا
باطل لا يصح، لم يروها غيره، وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفا من قوله".
وقال ابن القطان في كتابه: "الراوي عن الكردي: داهر بن نوح وهو لا يعرف ولعل
الجناية منه". وأما المرسل فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه والدراقطني والبيهقي
في سننهما عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والراوي عنه أبو بكر بن أبي
مريم ضعيف، كما ذكره الدارقطني، ونقل النووي اتفاق الحفاظ على تضعيفه. وقال ابن حجر:
"وطريق مكحول المرسلة على ضعفها أمثل من الموصولة".
انظر: الدارقطني 3/ 4، 5، مع التعليق المغني؛ السنن الكبرى 5/ 268؛ نصب الراية 4/
9؛ تلخيص الحبير 3/ 6.
(1) واستدل الشيرازي بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر"، وفي هذا البيع غرر، ولأنه نوع بيع فلم يصح مع
الجهل بصفة المبيع كالسلم.
وأخرجه مسلم، في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513)، 3/
1153. راجع المسألة واختلاف الشافعية فيها في المجموع 9/ 315 فما بعدها.
(2) خيار الشرط: هو مركب إضافي، من إضافة الحكم إلى سببه، أي الخيار الذي سببه
الشرط، إذ لولا الشرط لما ثبت الخيار.
وهو: أن يشترط في العقد أو بعده الخيار، لأحد المتعاقدين أو كليهما في فسخ العقد
وإمضائه كان يقول البائع للمشتري: بعت لك هذه الدار بكذا، على أني بالخيار مدة
كذا.
انظر: البناية 6/ 258؛ أحمد أبو الفتح، المعاملات في الشريعة الإسلامية 1/ 214.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 75؛ القدوري، ص 35؛ المبسوط 13/ 42؛ تحفة الفقهاء 2/
102؛ الهداية وشروحها: فتح القدير والعناية 6/ 318؛ البناية 6/ 283.
(4) انظر: الأم 3/ 5؛ المجموع مع المهذب 9/ 221، 222؛ المنهاج، ص 41.
(1/274)
دليلنا في المسألة: أن الخيار مشيئته
وإرادته، والمشيئة لا تورث (1).
واحتج الشافعي وهو: أن الوارث قائم مقام [المورث] (2)، ألا ترى: أن خيار العيب
يورث، ويكون الوارث قائما مقام المورث، وهذا المعنى في خيار الشرط موجود (3).
مسألة: 163 - ملك المبيع أثناء مدة الخيار
إذا تبايعا، وشرطا الخيار، فإن عندنا: الملك للبائع في مدة الخيار، إذا كان الخيار
للبائع (4).
وعند الشافعي: الملك للمشتري (5).
__________
(1) انظر بالتفصيل: المبسوط 13/ 43؛ البدائع 7/ 3304.
(2) في أصل المخطوط: "الفرض".
(3) وعلل الشيرازي ذلك بقوله: "لأنه حق ثابت لإصلاح المال، فلم يسقط، كالرهن
وحبس المبيع على الثمن". المهذب 2/ 266.
(4) انظر: القدوري، ص 34؛ المبسوط 13/ 60، 61؛ الهداية وشروحها: فتح القدير
والعناية 6/ 305؛ البناية 6/ 267.
(5) اختلفت الشافعية في هذه المسألة اختلافا كبيرا، بسبب ورود ثلاثة أقوال عن
الشافعي رحمه الله تعالى فيها: أحدها: أنه ملك للمشتري ينتقل إليه بنفس العقد،
والثاني: أنه باق على ملك البائع ولا يملكه المشتري إلا بعد انقضاء الخيار من غير
فسخ، والثالث: أنه موقوف، فإن تم البيع فكان للمشتري، وإلا فهو باق على ملك البائع.
ومن ثم اختلف أصحاب الشافعي في الأصح من هذه الأقوال: قال إمام الحرمين: "إن
كان الخيار للبائع فالأصح أن البيع باق على ملكه". وصحح هذا القول القفال.
وصاحب البيان، والرافعي، وقطع به الروياني في الحلية وغيرهم من المحققين في المذهب
كما ذكره النووي في المجموع. وهذا ما ذهب إليه الغزالي في الوجيز، وقال النووي في
المنهاج: "إنه الأظهر".
انظر: الأم 2/ 63؛ التنبيه، ص 63؛ الوجيز 1/ 141؛ المنهاج، ص 42؛ بالتفصيل:
المجموع 9/ 228 - 231.
(1/275)
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما باع
وشرط الخيار لنفسه، لم يرض بزوال الملك؛ لأن الملك باق بدليل أنه لو أسقط الخيار
يعود إليه من غير سبب جديد (1).
احتج الشافعي وهو: أن العقد سبب لزوال الملك، ألا ترى أن البيع إذا كان باتا أوجب
زوال الملك، فكذلك إذا كان بشرط (2).
مسألة: 164 - شرط الخيار لأكثر من ثلاثة أيام
إذا اشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، يصح العقد ويبطل الشرط عندنا (3)، وعند
الشافعي: الشرط فاسد، والعقد باطل (4).
__________
(1) وذلك لأن تمام البيع بالمراضاة ولا يتم الرضا مع الخيار. راجع الأدلة
بالتفصيل: المبسوط 13/ 61؛ فتح القدير مع العناية 6/ 305.
(2) استدل الشيرازي على هذا القول بالقياس على النكاح بجامع أنهما "عقد
معاوضة يوجب الملك"، حيث يقول: "ينتقل بنفس العقد؛ لأنه عقد معاوضة يوجب
الملك، فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح".
وهذا القول - الأول - صححه طائفة من أئمة الشافعية، منهم: "الشيخ أبو حامد،
والماوردي، والقاضي أبو الطيب وإمام الحرمين وغيرهم"، وإن كان القول الثاني
هو الأصح في المذهب كما ذكرته آنفا في هامش (5). انظر: المجموع 9/ 230، 231.
(3) المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل والتوضيح:
ما ذكره المؤلف بصحة العقد وبطلان الشرط بسبب الزيادة على الثلاثة الأيام، غير
مستقيم على هذا الإطلاق؛ لأن المروي عن أبي حنيفة رحمه الله: بأن الشرط الزائد على
الثلاثة يفسد البيع؛ لأنه شرط مخالف لمقتضى العقد وهو: اللزوم، والشرع إنما أجاز
الخيار لثلاثة أيام، استثناء، فبقي ما زاد على أصل القياس - عدم الجواز -.
وإنما يصح حمل قول المصنف على الوجه الآتي: "إن شرط الخيار أكثر من ثلاثة
أيام، ثم أسقط من له الخيار خياره قبل مجيء اليوم الرابع صح العقد عند أبي
حنيفة"؛ لأنه أسقط المفسد قبل تقرره، فيعود جائزا، كما إذا باع بالرقم وأعلمه
بالمجلس وهو المذهب.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 75؛ القدوري، ص 34؛ المبسوط 13/ 42؛ تحفة الفقهاء 2/ 93.
(4) لأن العقد لا ينعقد إلا باطلا لمقارنته الشرط الفاسد، قال النووي في المجموع:
"قال أصحابنا: =
(1/276)
دليلنا في المسألة وهو: ما روي أن
رجلا: يسمى حبان بن منقذ جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول
الله إني رجل أغبن في البياعات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فقل لا
خلابة ولا خيانة، ولي الخيار ثلاثة أيام" (1).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن مدة الخيار ثلاثة أيام، فإذا زاد على ذلك
صار الشرط لغوا. والبيع جائزا، بوجود شرائطه.
احتج الشافعي بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: "نهى عن بيع
وشرط" (2) فلو خلينا القياس لكنا نقول: كل شرط إذا دخل في
__________
= فإن زاد على ثلاثة أيام ولو لحظة بطل البيع". وقال في الروضة: "إذا
فسد العقد بشرط فاسد ثم حذفا الشرط لم ينقلب العقد صحيحا سواء كان الحذف في المجلس
أو بعده".
انظر: المهذب 2/ 265؛ الوجيز 1/ 141؛ المجموع 9/ 204؛ الروضة 3/ 410؛ المنهاج، ص
42.
وانظر الشروط الفاسدة في المجموع 9/ 411، 438، 455.
(1) الحديث رواه الجماعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ذكر رجل لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من بايعت فقل لا خلابة" واللفظ لمسلم. وأما الزيادة: "ولك الخيار
ثلاثا" أو بألفاظ نحوها، فقد رواها ابن ماجه في سننه، والحميدي في مسنده،
والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، ولم أجد في
كتب السنن بلفظ المؤلف: "ولي الخيار" بضمير المتكلم، ولعله من تصرفه
كعادة الفقهاء.
انظر: البخاري، في البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع (2117)، فتح الباري 4/
337؛ ومسلم، في البيوع، باب من يخدع في البيع (1533)، 3/ 1165.
وراجع الاختلاف في ألفاظ الحديث وطرقه: السنن الكبرى 5/ 273، 274؛ نصب الراية 4/ 6
وما بعدها؛ تلخيص الحبير 3/ 21، 22.
وانظر أدلة الأحناف بالتفصيل: في المبسوط 13/ 41 وما بعدها؛ البدائع 7/ 3074،
3093؛ الهداية وشروحها: فتح القدير مع العناية 6/ 300؛ البناية 6/ 261.
(2) الحديث أخرجه ابن حزم في المحلى والخطابي في العالم، والطبراني في الأوسط
والحاكم في علوم الحديث عن أبي حنيفة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا في
ضمن حكاية طويلة يروى عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة كما ذكره ابن حجر في
التلخيص ونقل عن ابن أبي الفوارس أنه (غريب)، وقال النووي في المجموع: "حديث
عمرو غريب"، وقال=
(1/277)
العقد يوجب فساد العقد، إلا أنه قام
الدليل في شرط الخيار إذا كان ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك بقي على أصل القياس.
مسألة: 165 - العلة في الربا
العلة (1) في الربا (2) عندنا، هي: الكيل في المكيلات،
__________
= الهيثمي بعد ذكر القصة: "رواه الطبراني وفي طريق عبد الله بن عمرو
مقال"، وذكره ابن تيمية في القواعد النورانية إلا أنه أنكر وجوده في دواوين
الحديث حيث يقول! "وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من
دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث
الصحيحة تعارضه ... ".
والذي رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ:
"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس
عندك". "أخرجه: أبو داود في البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)،
3/ 283؛ ونحوه: الترمذي (1234) وقال: "حديث حسن صحيح" 3/ 535؛ والنسائي
7/ 288".
انظر: المحلى 8/ 415؛ معالم السنن (5/ 154)، مع مختصر سنن أبي داود؛ المجموع 9/
410؛ القواعد النورانية الفقهية، ص 188؛ مجمع الزوائد 4/ 85؛ تلخيص الحبير 3/ 12.
(1) العلة لغة: المرض الشاغل، وجمعها: علل.
انظر: مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (علل). والمقصود بها هنا تعريفها الأصولي، وهي
كما عرفها الرازي والبيضاوي: "بأنها المعرف للحكم"، بمعنى: "هي وصف
في الأصل بنى عليه حكمه، ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع".
انظر: شرح البدخشي والأسنوي، على منهاج الوصول 3/ 39.
(2) الربا: بكسر الراء، مقصور على الأشهر، ويثنى ربوان، بالواو على الأصل، وقد
يقال - ربيان - على التخفيف، والنسبة إليه ربوي بالكسر.
وهو لغة: مطلق الزيادة، وربا الشيء يربو ربوا، أي زاد، يقال: أربا الرجل: إذا عامل
بالربا. نظر: الصحاح؛ المصباح، مادة: (ربا).
وشرعا: كما عرفه الميداني بأنه: "فضل خال عن عوض بمعيار شرعي، مشروط لأحد
المتعاقدين في المعاوضة".
وعرفه الشربيني وغيره من الشافعية بأنه: "عقد على عوض مخصوص، غير معلوم
التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما".
انظر: اللباب 2/ 37؛ مغني المحتاج 2/ 21.
(1/278)
والوزن في الموزونات (1)، وعند
الشافعي: الأكل في الأكل هو: الطعم (2).
دليلنا، وهو: أن الشرع لا حرم الفاضل، فالفضل لا يظهر إلا بالكيل والوزن، فكانت
العلة في الحقيقة هي: الكيل؛ لأن التسوية التي توجب تحريم التفاضل، إنما هي:
الكيل، فيضاف الحكم إليه، كما نقول في الرمي؛ لأن إغراق السهم في القوس يوجب
المرور، والمرور يوجب الإصابة، والإصابة توجب الجرح، والجرح يوجب الإيلام؛
والإيلام يوجب الموت، فكان الكل مضافا إلى الرمي، وإن كان الموت قد حصل بوسائط،
فكذلك ها هنا (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الشرع إنما حرم التفاضل لحرمة هذا المال، وحرمته
لكونه مطعوما؛ لأنه يتعلق به بقاء الحياة، كما يتعلق في الدراهم والدنانير إنما
حرم لحرمة هذا العين؛ لأن حرمته كونه ثمنا، وكونه ثمنا يتعلق به بقاء الأموال،
وبقاء النفوس ببقاء الأموال، فكذلك في الطعم؛ لأن بقاء النفوس يتعلق بشيئين
بالمطعومات والتجارة، والمطعومات: تقوم بها النفوس، والتجارة تقوم بها الأموال
(4).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 175؛ القدوري، ص 38؛ المبسوط 12/ 131؛ تحفة الفقهاء 2/
31؛ البدائع 7/ 3106؛ الهداية مع فتح القدير 4/ 7؛ البناية 6/ 525.
(2) انظر: الأم 3/ 16 - 20؛ التنبيه، ص 64؛ المهذب 1/ 277؛ الوجيز 1/ 136؛ المجموع
9/ 446.
(3) والأصل في هذا الباب بإجماع القائسين: الحديث المشهور، الذي رواه مسلم عن
عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر،
والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم، إذا كان يدا بيد": مسلم في المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق
(1587)، 3/ 1211؛ وإنما وقع الاختلاف في العلة.
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 12/ 113، وما بعدها؛ البدائع 7/ 3106، وما بعدها.
(4) انظر الأدلة النقلية والعقلية بالتفصيل: الأم 3/ 14 - 20؛ المجموع 9/ 453، وما
بعدها.
(1/279)
مسألة: 166 - الربا في القليل
الربا لا يجري في قليل البر ما لا يتأتى به الكيل عندنا (1)، وعند الشافعي: يجري
(2) الأصل في هذه المسائل، هو: الحديث المعروف، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: "الذهب بالذهب مثل بمثل يد بيد، والفضل ربا، والفضة
بالفضة مثل بمثل يد بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد، والفضل
ربا، والشعير بالشعير مثل بمثل يد بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثل بمثل يد
بيد، والفضل ربا، والملح بالملح مثل بمثل يد بيد والفضل ربا" (3). فالنبي -
صلى الله عليه وسلم - أثبت الربا في هذه الأشياء الستة؛ لأن الحنطة مطعوم بني آدم،
وهو الأصل، والشعير مطعوم الحيوان، والتمر هكذا، والملح أصل التوابل، والدنانير
والدراهم أصل مال التجارة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أثبت الربا [في]
هذه الأشياء، لعزة هذه الأشياء، وما لا يدخل تحت الكيل يكون مهانا عند الناس،
كالحفنة بالحفنتين، فوجب أن لا يجري فيه الربا (4).
احتج الشافعي بأن اعتبر الطعم، فأثبت الربا قليلا كان أو كثيرا، حتى لو باع تفاحة
بتفاحتين، أو رمانة برمانتين، فإنه لا يجوز، لوجود الطعم (5)، وعند أبي حنيفة:
يجوز؛ لأن العلة فيه
__________
(1) انظر: المبسوط 12/ 114؛ تحفة الفقهاء 2/ 32؛ البدائع 7/ 3111؛ الهداية 6/ 534،
مع البناية.
(2) انظر. الأم 3/ 14؛ راجع المراجع السابقة للشافعية من المسألة: (165) في هامش
(2).
(3) الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد وعبادة بن الصامت
رضي الله عنهما، مسلم، في المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا (1587،
1588)، 3/ 1210، 1211، قال الزيلعي والعيني يروي قوله: "مثلا بمثل"
بروايتين: بالرفع والنصب. انظر بالتفصيل: نصب الراية 4/ 35؛ البناية شرح الهداية
6/ 527.
(4) لعدم وجود العلة وهي الكيل. انظر: البدائع 7/ 3111؛ النهاية 6/ 534، 535.
(5) راجع المراجع السابقة للشافعية في المسألة: (165)، ص 279، هامش (2، 4).
(1/280)
إنما هو الكيل، والفواكه ليست بمكيل بل
هي عددي، فلا يجري فيه الربا (1).
مسألة: 167 - علة الربا في النقود
الدنانير (2) والدراهم، معلولان بعلة الوزنية عندنا (3)، وعند الشافعي: معلولان
بالتنمية والنقدية (4).
والمعنى فيه: ما ذكرناه في المسألة الأولى (5).
مسألة: 168 - جريان الربا في غير الأشياء المنصوصة
يجري [الرب] (6) في الرصاص (7) والنحاس (8) وسائر
__________
(1) راجع المراجع السابقة للأحناف، هامش (3).
(2) الدينار، معرب، أصله: دنار بالتضعيف، فأبدل من إحداهما ياء، لئلا يلتبس
بالمصادر، ولهذا يرد في الجمع إلى أصله، فيقال: دنانير.
والدرهم: هو أيضا معرب، وزنه فعلل، بكسر الفاء وفتح اللام في اللغة المشهورة،
وجمعه: دراهم ودراهيم، والدينار والدرهم من العملات المستعملة المعروفة، في
الجاهلية والإسلام. والدينار الشرعي، لوزن النقد يعادل: 25، 4 غراما.
والدرهم الشرعي لوزن النقد (الفضة) يعادل: 2.975 غراما.
انظر: المغرب؛ المصباح (دينار، درهم)، الإيضاح والتبيان؛ في معرفة المكيال
والميزان، مع تعليقات الدكتور: محمد الخاروف، ص 49، 161.
(3) راجع: المراجع السابقة للأحناف، في المسألة: (165)، ص 278، هامش (1).
(4) راجع: المراجع السابقة للشافعية، في المسألة: (165)، ص 278، هامش (2).
(5) راجع: علة الربا في المذهبين في المسألة: (165).
(6) انظر: مختصر الطحاوي، ص 75؛ تحفة الفقهاء 2/ 33؛ البدائع 9/ 3107، 3110؛
الهداية وشرحها: البناية 6/ 528.
(7) الرصاص: بالفتح، والقطعة منه رصاصة، وهي العلاب، وفي الزيوف من الدراهم: هو
المموه، وهي من مادة فلزلين.
انظر: المغرب؛ المصباح؛ معجم الوسيط، (رص، رصص).
(8) والنحاس: بتثليث النون، عنصر فلزي قابل للطرق يوصف عادة بالأحمر، لقرب لونه من
الحمرة. انظر: المنجد؛ ومعجم الوسيط (نحس).
(1/281)
الموزونات والمكيلات، لما ذكرنا من علة
الكيل والوزن (1)، وعند الشافعي: لا يجري الربا إلا في الأشياء الستة (2)، أو [ما]
كان في معناها، لكونه مطعوما، والرصاص والنحاس ليس بمطعوم فلا يجري فيه الربا (3).
مسألة: 169 - الربا في دار الحرب
لا يجري الربا في دار الحرب عندنا (4)، وعند الشافعي: يجري (5)، وحاصل الخلاف
راجع: إلى أن الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا (6)؟ عندنا: الكفار مخاطبون بالإيمان،
وليسوا بمخاطبين بالشرائع (7).
__________
(1) راجع المراجع السابقة في المسألة: (165)، ص 279، هامش (1).
(2) الأشياء الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، راجع المسألة:
(165)، ص 279، هامش (3، 4).
(3) قال الشيرازي: "وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيها
الربا". المجموع مع المهذب 9/ 453، فما بعدها.
(4) انظر: القدوري، ص 38؛ المبسوط 14/ 56، 57؛ البدائع 7/ 3127؛ الهداية وشروحها:
فتح القدير مع العناية (7/ 38)، البناية 6/ 570، 571.
(5) انظر: المجموع 9/ 442، 443.
(6) وقد سبق بيان هذا الخلاف بالتفصيل في المسألة: (70)، ص 168.
(7) واستدل الأحناف من النقل بما روي عن مكحول مرسلا، قوله - صلى الله عليه وسلم
-: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب".
قال السرخسي مقويا له: "والحديث وإن كان مرسلا، فمكحول فقيه ثقة والمرسل من
مثله مقبول". قال النووي: "مرسل ضعيف". وقال العيني وابن الهمام:
"غريب ليس له أصل مسند".
واشترطوا أيضا لجريان الربا" أن يكون المتبادلان معصومين، فإن كان أحدهما غير
معصوم، فلا يتحقق الربا ... لأن مال الحربي ليس بمعصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا
أن المسلم المستأمن يمنع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا
بدله باختياره ورضاه، =
(1/282)
وعند الشافعي: الكفار مخاطبون
بالشرائع، فإذا كانوا عنده مخاطبين بالشرائع [تكون] (1) حرمة الربا ثابتة، في حق
الكفار (2).
مسألة: 170 - بيع اللحم بالحيوان
بيع اللحم بالحيوان جائز عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن اللحم إذا كان موزونا وصار ثمنا، فيجوز بيعه؛ لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان (5)، واللحم ليس بحيوان
فيجوز (6).
__________
= فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك". البدائع
7/ 3127؛ راجع المراجع السابقة للأحناف.
(1) في الأصل: (جعل).
(2) واستدلت الشافعية على تحريم الربا بدار الحرب: "بعموم القرآن والسنة في
تحريم الربا من غير فرق ... ولأن ما حرم في دار الإسلام حرم هناك [دار الحرب]
كالخمر وسائر المعاصي". المجموع 9/ 442.
(3) مطلقا: ولا يشترط كون اللحم من جنس ذلك الحيوان، ولا كونه مساويا للحيوان،
ولكن بشرط التعيين، وأما النسيئة فلا يجوز فيه، لامتناع السلم فيها.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 76؛ القدوري، ص 38؛ المبسوط 12/ 180؛ البدائع 7/ 3120؛
الهداية وشروحها: فتح القدير والعناية 7/ 25، 26؛ البناية 6/ 554.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 78؛ التنبيه، ص 64؛ المهذب 1/ 284؛ الوجيز 1/ 138؛
المنهاج، ص 46.
(5) الحديث أخرجه أصحاب السنن عن سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة": أبو داود، في كتاب البيوع، باب ما
جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (3356)، 3/ 250؛ ونحوه الترمذي (1237)
وقال: حديث حسن صحيح، وسماع الحسن عن سمرة صحيح 3/ 538؛ والنسائي 7/ 292؛ وابن
ماجه، في التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة (2270)، 2/ 763، ولم أر الحديث إلا
مقيدا بالنسيئة).
(6) بمعنى أنه بيع موزون بما ليس بموزون، أي بيع الجنس بخلافه.
انظر الأدلة: المبسوط 12/ 180، 181؛ البدائع 7/ 3120؛ الهداية 6/ 554؛ مع البناية.
(1/283)
احتج الشافعي في المسألة: أنه لما باع
اللحم بالحيوان، كأنه باع اللحم باللحم: أحدهما موزون، والآخر غير موزون، فوجب أن
لا يجوز كما لو باع الحيوان بالحيوان" (1).
مسألة: 171 - مبادلة الرطب بالتمر
الرطب بالتمر جائز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أو لا يكون تمرا، فإن كان
تمرا فإنه يجوز؛ لأن التمر بالتمر متساويان فيجوز، أما إذا لم يكن الرطب تمرا فإنه
يجوز؛ لأنه باع بخلاف جنسه، فيجوز كيفما كان (4).
__________
(1) واستدل الشافعي بسنده عن ابن المسيب مرسلا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"نهى عن بيع اللحم بالحيوان"، وروي عن ابن عباس: أن أبا بكر رضي الله
عنه امتنع عن بيع اللحم بالحيوان، وذكر أدلة أخرى. ثم قال الشافعي: " ... ولا
نعلم أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن
المسيب عندنا حسن".
قال ابن حجر: "رواه مالك والشافعي من حديث ابن المسيب مرسلا، وهو عند أبي
داود في المراسيل، ووصله الدارقطني في الغرائب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد
وحكم بضعفه، وصوب الرواية المرسلة التي في الموطأ، وتبعه ابن عبد البر وابن
الجوزي".
وللحديث شواهد، منها: ما روي عن سمرة بن جندب مرفوعا: "نهى أن تباع الشاة
باللحم".
رواه البيهقي وقال: "هذا إسناده صحيح".
انظر: (الموطأ؛ في البيوع؛ باب بيع الحيوان باللحم (64 - 66)، 2/ 655؛ السنن
الكبرى، باب بيع اللحم بالحيوان 5/ 296، 297).
وراجع الاختلاف في الحديث ورواته في: نصب الراية 4/ 39؛ تلخيص الحبير 3/ 10؛ مختصر
المزني، ص 78، 79؛ المهذب 1/ 284.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 77؛ القدوري، ص 38؛ المبسوط 12/ 184؛ الهداية وشروحها:
فتح القدير 7/ 27؛ البناية 6/ 555.
(3) انظر: الأم 3/ 24؛ المهذب 1/ 281؛ الوجيز 1/ 137؛ المنهاج، ص 45.
(4) واستدل لأبي حنيفة رحمه الله من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم - حين أهدى
إليه رطبا: "أو كل تمر خيبر هكذا"، سماه تمرا.=
(1/284)
احتج الشافعي في المسألة: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - إنما جوز بيع التمر بالتمر بشرط أن يكونا متساويين، وها هنا
لم [يوجد] التساوي؛ لأن الرطب إذا جف لا بد له أن ينتقص، فلم يوجد التساوي (1).
مسألة: 172 - رد الموطوءة بعيب
وطء الثيب يمنع (2) الرد بالعيب عندنا (3)، وعند الشافعي لا يمنع الرد بالعيب (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الوطء قام مقام استيفاء الجزء،
__________
= وهذا الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة وابي سعيد الخدري رضي الله عنهما في
مواضع، وليس فيها ذكر الرطب، وإنما الهدية كانت تمرا كما هي في نصوص الشيخين:
(البخاري، في كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201، 2202)، 4/ 399؛
ومسلم، في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل (1593)، 3/ 1215).
انظر: الهداية وشروحها: فتح القدير والعناية 7/ 27، 28؛ البناية 6/ 556.
(1) وهذا معنى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، "فنهى عن ذلك".
(أخرجه الإمام مالك، في الموطأ؛ في كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر (122)،
2/ 624؛ أبو داود، في كتاب البيوع، باب التمر بالتمر (3359)، 3/ 251؛ الترمذي، في
البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (1225) وقال: "حسن
صحيح" 3/ 528؛ والنسائي، في البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب 7/ 268؛ وابن
ماجه في التجارات، باب بيع الرطب بالتمر (2264)، 2/ 761).
انظر: الأم 3/ 24، 25؛ المهذب 1/ 281.
(2) بيان المسألة: بأن "كان البيع جارية فوطئها المشتري، ثم اطلع على عيب
بها، فإن كانت بكرا لم يردها بالإجماع" والخلاف في الثيب.
انظر: مختصر المزني، ص 83؛ المهذب 1/ 292؛ البدائع 7/ 3341.
(3) انظر: المبسوط 13/ 95؛ البدائع 7/ 3341.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 83؛ المهذب 1/ 292؛ الوجيز 1/ 145؛ المنهاج، ص 48.
(1/285)
كما لو قطع يدها أو رجلها، فوجب أن
يمنع الرد بالعيب، كما لو كانت بكرا. فافتضها، فإنه يمنع الرد بالعيب بالإجماع
(1).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن الوطء لا يوجب نقصانا في المبيع، فلا يمنع الرد
بالعيب، كالاستخدام (2).
مسألة: 173 - اشترى أمه على أنها كتابية فوجدها بخلافه
إذا اشترى أمة على أنها كتابية، فوجدت بخلافه، فإن عندنا لا يثبت له الخيار (3)،
[وعند الشافعي: يثبت له الخيار] (4).
دليلنا في المسألة؛ لأن هذا شرط لا يؤثر في البيع والمالية، فوجب أن لا يثبت له
الخيار، كالكافرة الأصلية (5).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن أغراض الناس متفاوتة، وهو إنما اشتراها بشرط أن
تكون كتابية، فإذا وجدها بخلافه، وجب أن يثبت له الخيار، كما لو شرطها أنها صناعة
فوجدها بخلافه. فإنه يثبت له الخيار (6).
__________
(1) واستدلوا من النقل بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم: بعدم جواز الرد مجانا،
لاعتبار الوطء بمنزلة الجناية.
انظر: أدلتهم النقلية والعقلية بالتفصيل: المبسوط 13/ 95، 96، 25/ 185؛ البدائع 7/
3341.
(2) انظر: المهذب 1/ 292.
(3) انظر: الهداية 6/ 333؛ مع شرح البناية؛ رد المختار مع حاشية ابن عابدين 5/ 11،
12.
(4) زيدت ما بين المربعين لإتمام العبارة، والظاهر أنها سقطت من الناسخ سهوا، قال
الشيرازي: "وإن اشتراه [عبدا] على أنه كافر، فوجده مسلما ثبت له الرد"،
المهذب 1/ 294.
(5) وكذلك إن وجدها مسلمة، فلا ترد، "لأن الإسلام زوال العيب"، فصار كما
لو اشتراها معيبة، فوجدها سليمة.
انظر: شرح العناية على الهداية 6/ 361، مع شرح فتح القدير؛ البناية 6/ 333.
(6) انظر: المهذب 1/ 294.
(1/286)
مسألة: 174 - ملكية العبد بالتمليك
العبد لا يملك بالتمليك عندنا (1)، وعند الشافعي: يملك بالتمليك (2).
دليلنا في المسألة، وهو: قوله تعالى: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}، {وهو كل على
مولاه} (3) فقد أخبر الله تعالى أن العبد لا يقدر على شيء، فلو أثبتنا له الملك
أثبتنا له القدرة (4).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن العبد أهل لملك النكاح إذا ملكه السيد، فكذلك
يجوز أن يكون أهلا لملك المال (5).
مسألة: 175 - بيع اللعبد الجاني
العبد الجاني عندنا يجوز بيعه (6)، وعند الشافعي: لا يجوز (7).
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 186؛ البناية شرح الهداية 8/ 312 - 314.
(2) انظر: التنبيه، ص 82؛ المهذب 1/ 397؛ الرجيز 1/ 152؛ المنهاج، ص 52.
(3) سورة النحل: آية 75، 76.
(4) انظر أحكام القرآن للجصاص 3/ 186، 187.
(5) انظر: المهذب 1/ 397؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/ 244.
(6) يجوز بيع العبد الجاني عند الأحناف، ولكن يضمنه الولى بحسب علمه: فإن باعه قبل
علمه بجنايته ضمن الأقل من قيمته ومن أرش الجناية، وإن باعه بعد علمه بها وجب عليه
الأرش كاملا.
انظر: القدوري، ص 92؛ الهداية 4/ 205.
(7) المسألة فيها أقوال وتفاصيل كثيرة لدى الشافعية، وخلاصتها كما قال النووي رحمه
الله في الروضة: "المذهب: أنه لا يصح بيعه أن تعلق برقبته مال، ويصح إن تعلق
به قصاص".
انظر: مختصر المزني، ص 83؛ المهذب 4/ 391؛ التنبيه، ص 63؛ الروضة 3/ 357، 358.
(1/287)
بيان المسألة: أن العبد إذا قتل رجلا
فعليه القصاص، ثم قبل أن يقتص منه باعه سيده، عندنا يجوز بيعه، وعند الشافعي: لا
يجوز.
دليلنا في المسألة، وهو: أن العبد محل للبيع قبل الجناية، فوجب أن يكون محلا للبيع
بعد الجناية (1)، كما لو قطع يد إنسان، ثم باعه سيده قبل القصاص، فإنه يجوز.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن العبد لما وجب عليه القصاص، جعل كالهالك، فلا
ينعقد بيعه (2)، كما لو باع مرتدا فإنه لا يجوز بيعه، لكونه مستحقا للهلاك لهذا
المعنى.
مسألة: 176 - أثر البيع الفاسد
البيع الفاسد (3) إذا اتصل به القبض، يفيد الملك
__________
(1) انظر: البناية في شرح الهداية 10/ 273.
(2) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(3) الفاسد والباطل مترادفان، ويقابلان الصحة الشرعية، عند جمهور الفقهاء سواء كان
في العبادات أو المعاملات.
فهما في العبادات: عبارة عن عدم سقوط القضاء، وفي المعاملات: عبارة عن عدم ترتب
الأثر عليها.
وفرق الأحناف بينهما في المعاملات مع اتفاقهم مع الجمهور في العبادات: فعرفوا
الفاسد بأنه "ما كان مشروعا بأصله دون وصفه"، مثاله: البيع بالخمر
والخنزير، وهذا بيع فاسد، لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال لأنهما مال
عند أهل الذمة، ومن ثم يفيد الملك عند اتصال القبض - موضوع مسألتنا - وعرفوا
الباطل بأنه "ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه"، مثاله: البيع بالميتة والدم،
فإنه لا يجوز بالإجماع، ولا يفيد الملك مطلقا، و"ذلك لانعدام ركن البيع وهو:
مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد".
انظر: شرح تنقيح الفصول، ص 77؛ تيسير التحرير 2/ 236؛ المحلى على جمع الجوامع 1/
106؛ شرح الكوكب المنير 1/ 473؛ البناية 6/ 374؛ شرح فتح القدير 6/ 404.
(1/288)
عندنا (1)، وعند الشافعي: لا يفيد
الملك (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن العقد تم بينهما، إلا أن الفساد (3) تمكن في العقد،
فإذا قبض فوجب أن يتأكد الملك وزوال الفساد، كما لو وهبه ثم قبضه، فإنه يثبت الملك
(4).
احتج الشافعي في المسألة وقال: لا خلاف أنه قبل القبض لا يوجب الملك، لكونه فاسدا،
وبزيادة القبض وجب أن لا يثبت الملك (5).
مسألة: 177 - شراء العبد بشرط العتق
إذا اشترى عبدا بشرط العتق، عندنا: لا يجوز (6)، وعند الشافعي: يجوز (7)، بيانه:
إذا قال المشتري: اشتريت منك هذا العبد، بشرط أن أعتقه.
__________
(1) التملك بالقبض مشروط بإذن البائع.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 85؛ القدوري، ص 36؛ المبسوط 3/ 22؛ تحفة الفقهاء 2/ 84؛
الهداية وشروحها: فتح القدير مع العناية 6/ 404؛ البناية 6/ 377.
(2) انظر: مختصر المزني، ص 87؛ المهذب 1/ 275؛ الوجيز 1/ 139؛ المجموع 2/ 419.
(3) في الأصل: (الفاسد).
(4) انظر: المراجع السابقة للأحناف.
(5) وقاس الشيرازي البيع الفاسد بالنكاح الفاسد في عدم وجوب الملك، حيث يقول:
"فإن قبض البيع [بشرط فاسد] لم يملكه؛ لأنه قبض في عقد فاسد، فلا يوجب الملك،
كالوطء في النكاح الفاسد". المهذب 1/ 275.
(6) أي يقع البيع فاسدا، وروى الحسن عن أبي حنيفة "بأن البيع يقع جائزا بهذا
الشرط". والمذهب: عدم جوازه، كما ذكر المؤلف، "ولو أعتقه قبل القبض لم
ينفذ عتقه وإن أعتقه بعد القبض عتق فانقلب العقد جائزا، استحسانا في قول أبي حنيفة
حتى يجب عليه الثمن" كما ذكره صاحب التحفة.
انظر: القدوري، ص 36؛ المبسوط 13/ 15؛ تحفة الفقهاء 2/ 77، 78؛ البدائع 7/ 3074.
(7) أي يقع البيع والشرط صحيحا على المذهب، وفي لزوم العتق قولان.
انظر: التنبيه، ص 74؛ المهذب 1/ 275؛ الوجيز 1/ 138؛ الروضة 3/ 401؛ المنهاج، ص
46؛ المجموع 9/ 405، 406.
(1/289)
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه: "نهى عن بيع وشرط" (1)، وهذا نص.
احتج الشافعي، في المسألة: أن هذا شرط ملائم العقد، فلا يوجب فساد العقد، فصار كما
لو شرط أن لا [يبيع] عبده، لا يمنع فساد العقد (2).
مسألة: 178 - شراء الكافر للعبد
الكافر إذا اشترى عبدا مسلما ينعقد بيعه، ولكن يجبر على البيع (3) [عندنا]، وعند
الشافعي: لا ينعقد (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الكافر أهل للبيع للمسلم، فوجب أن يكون أهلا للشراء،
كما في المسلم (5).
__________
(1) الحديث قد سبق تخريجه، والكلام فيه في المسألة (164)، ص 277، 278.
واستدل السرخسي بالمعنى: "لأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه، والعقد لا
يقتضيه، فيفسد به العقد كما لو شرط أن لا يبيع".
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 3/ 15؛ تحفة الفقهاء 2/ 78.
(2) واستدل الشيرازي من النقل بحديث بريرة "لأن عائشة رضي الله عنها اشترت
بريرة لتعتقها، فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: "اشتريها واعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق". رواه الشيخان:
البخاري، في الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد (456)، 1/ 550؛
مسلم، في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504)، 2/ 1141). المهذب 1/ 275.
(3) انظر: المبسوط 13/ 130.
(4) اتفق الشافعية على تحريم هذا البيع، واختلفوا في صحته على قولين مشهورين، وصحح
الجمهور قول البطلان، وهو قول النووي كما في المجموع.
انظر: التنبيه، ص 63؛ الوجيز 1/ 133؛ المنهاج، ص 45؛ المجموع مع المهذب 2/ 399،
393.
(5) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 13/ 132، 133.
(1/290)
احتج الشافعي وهو: أن الكافر ليس بأهل
للملك على المسلم، بدليل أنه لا يملك النكاح على المسلمة، وكذلك بالشراء وجب أن لا
يملك (1).
وكان المعنى فيها: إنما هو الاستذلال؛ لأن الكافر منهي عن الاستذلال للمسلم بالملك
(2).
مسألة: 179 - بيع الكلب المعلم
بيع الكلب المعلم جائز عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الكلب إذا كان معلما يكون حيوانا منتفعا به، فجاز بيعه،
كسائر الحيوانات (5).
__________
(1) انظر الأدلة: المجموع 9/ 392، 393.
(2) ودليل هذا قوله عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:
141].
انظر: المسألة مع اختلاف الفقهاء فيها بالتفصيل: تفسير القرطبي 5/ 421، 422.
(3) يجوز بيع الكلب مطلقا عند الأحناف، بدون تفريق بيع المعلم وغير المعلم، برواية
الأصل، كما ذكره الكاساني.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 84؛ البدائع 6/ 3006، 7/ 3073.
(4) لا يجوز بيع الكلب مطلقا عند الشافعية، سواء كان معلما أو غير معلم، لاعتباره
نجس العين كالخنزير، إلا أنه رخص اقتناؤه والانتفاع به، لأجل الاصطياد والحراسة،
لاستثناء الشارع ذلك، للحاجة.
انظر: مختصر المزني، ص 89، 90؛ المهذب 1/ 268؛ الوجيز 1/ 133؛ الروضة 3/ 348.
(5) واستدل الأحناف على جواز بيعه مطلقا: بأنه مال مباح الانتفاع به شرعا على
الإطلاق، فكان محلا للبيع، كالصقر والبازي.
انظر بالتفصيل: البدائع 6/ 3006.
(1/291)
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن بيع الكلب" (1)، وهذا نص.
مسألة: 180 - شراء الأعمى وبيعه
شراء الأعمى وبيعه جائز عندنا (2)، وعند الشافعى: لا يجوز (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الأعمى أهل لملك النكاح، فوجب أن يكون أهلا للشراء،
كالطلاق والعتاق (4).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن البيع بالجهالة لا يجوز، [و] هذا البيع من الأعمى
مجهول، فوجب أن لا يصح، كشراء الغائب (5).
__________
(1) الحديث رواه الشيخان عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: "نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن":
البخاري، في البيوع، باب ثمن الكلب (2237)، 4/ 426؛ مسلم، في المساقاة، باب تحريم
ثمن الكلب (1567)، 3/ 198.
واستدل الجميع على ترخيص اقتناءه والانتفاع به في الاصطياد والحراسة بما رواه أبو
داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط): أبو
داود، في الصيد، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره (2844) 3/ 108.
(2) حيث يقول الأحناف بصحة بيع الأعمى، فإنهم يثبتون له الخيار ما لم يجس، أو يوصف
له إن كان مما لا يجس؛ لأن هذا الفعل بمنزلة النظر من الصحيح.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 83؛ المبسوط 13/ 77.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 88؛ المهذب 1/ 271؛ الوجيز 1/ 135؛ المجموع 9/ 332.
(4) انظر: المبسوط 13/ 77.
(5) انظر: المجموع مع المهذب 9/ 331، 332.
(1/292)
مسألة: 181 - تصرفات الصبي
الصبي إذا تصرف في المال، إذا كان بإذن الولي يصح تصرفه عندنا (1)، وعند الشافعي:
لا يصح (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصبي العاقل يهتدي في التجارات، إلا أنه محجور عليه
لحق الولي، فإذا أذن الولي فقد ارتفع الحجر، كما في العبد؛ لأن العبد محجور عليه
مع كونه أهلا لحق المولى، فإذا أذن المولى صح بيعه وشراؤه، وكذلك الصبي (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الصبي ليس بأهل للتصرف قبل إذن وليه، فوجب أن لا
يكون أهلا بعد الإذن، كما في النكاح؛ لأن الإذن لا يصير ما ليس بأهل أهلا، بخلاف
العبد؛ لأن العبد أهل، بدليل أنه مخاطب بحقوق الله تعالى بخلاف الصبي (4).
__________
(1) يصح تصرف الصبي بإذن الولي إذا كان يعقل البيع والشراء عند الأحناف.
انظر: القدوري، ص 67؛ المبسوط 25/ 20، 21؛ تحفة الفقهاء 2/ 44، 49؛ الهداية وشرحها
فتح القدير والعناية 9/ 310 وما بعدها.
(2) لا ينعقد تصرفه مطلقا عند الشافعية.
انظر: المهذب 1/ 264، 339؛ الوجيز 1/ 133؛ المنهاج، ص 44؛ الروضة 3/ 342؛ حاشية
قليوبي وعميرة على شرح المحلى على المنهاج 2/ 155.
(3) انظر الأدلة النقلية والعقلية بالتفصيل. المبسوط 25/ 21، 22.
(4) استدلت الشافعية بحديث عائشة رضي الله عنها: "رفع القلم عن ثلاث: عن
الصبي حتى يبلغ ... " الحديث وقد سبق تخريجه في المسألة (46)، ص 140.
انظر: المهذب 2/ 264.
(1/293)
مسألة: 182 - تصرف العبد المأذون
[العبد] (1) المأذون في نوع من التجارة، يصير مأذونا في جميع أنواع التصرفات عندنا
(2)، وعند الشافعي: لا يصير مأذونا في الجميع (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن العبد محجور [عليه] في التصرفات لحق السيد، فإذا أذن له
السيد، فقد ارتفع الحجر، فوجب أن يكون أهلا لجميع التصرفات، كما لو أعتق (4).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن المولى لما أذن له بالتصرف في النوع، إنما خصه
هذا النوع؛ لأنه عرف حال العبد أنه يهتدي في هذا النوع؛ لأن الناس متفاوتون في هذا
التصرف، فربما يهتدي في نوع، ولا يهتدي في نوع آخر، فكان تخصيص المولى للعبد في
شيء إنما يكون لمعنى، فوجب أن لا يملك التصرف في (5) الجميع كما في الوكيل (6).
مسألة: 183 - أثر سكوت السيد في تصرفات العبد
المولى إذا رأى عبده يتجر فسكت فإنه يكون إذنا عندنا (7)، وعند الشافعي: لا يكون
مأذونا بالسكوت (8).
__________
(1) زيدت ما بين المربعين. لاقتضاء المسألة ذلك.
(2) انظر: القدوري، ص 66؛ المبسوط 25/ 5؛ تحفة الفقهاء 3/ 483؛ الهداية وشرحها:
فتح القدير والعناية 9/ 285.
(3) انظر: المهذب 1/ 397؛ التنبيه، ص 82؛ الوجيز 1/ 151؛ المنهاج، ص 52.
(4) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 5/ 25، 6؛ البدائع 10/ 4520.
(5) في الأصل: (كالتصرف).
(6) راجع الأدلة في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4/ 174.
(7) بسكوت المولى يصير العبد مأذونا في التجارات، ما عدا البيع الذي صادفه السكوت
فيه، عند أبي حنيفة.
انظر: المبسوط 25/ 11؛ تحفة الفقهاء 3/ 485؛ البدائع 10/ 4521؛ الهداية وشرحها
العناية 9/ 284، مع تكملة فتح القدير.
(8) انظر: المهذب 1/ 396؛ الوجيز 1/ 152؛ المنهاج، ص 52.
(1/294)
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما رأى
عبده يبيع ويشتري وسكت، يكون هذا إذنا من طريق الدلالة، كالإذن من طريق الإفصاح،
كالأب إذا زوج ابنته البالغة، فاستأذنها فسكتت، فإن ذلك يكون رضا منها، لهذا
المعنى، فكذلك ها هنا (1).
احتج الشافعي، في المسألة وقال؛ لأن السكوت ليس بحجة في الشرع بخلاف البكر؛ لأن
الشرع جعل سكوتها رضا لعلة الحياء، وهاهنا هذا المعنى معدوم، فوجب أن لا يثبت إلا
بالإفصاح (2).
مسألة: 184 - بيع لبن بني آدم
بيع لبن بني آدم لا يجوز عندنا (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن اللبن جزء من بني آدم، فلا يجوز بيعه، كما في سائر
الأجزاء، والخلاف بين الأمة والحرة واحد، كان ينبغي أن يجوز لبن الأمة، كما جاز
بيعها، إلا أنه لا يجوز بيع لبنها؛ لأن اللبن لا يحل فيه الرق، فلا يجوز بيعه،
كالبول والدم منها (5).
__________
(1) انظر الأدلة بالتفصيل في المراجع السابقة للأحناف.
(2) وعلل الشيرازي عدم اعتبار الإذن بالسكوت بقوله: "لأنه تصرف يفتقر إلى
الإذن فلم يكن السكوت إذنا فيه، كبيع مال الأجنبي". المهذب 1/ 396.
(3) انظر: البدائع 6/ 3011.
(4) انظر: الوجيز 1/ 134؛ المجموع 2/ 575؛ الروضة 3/ 353.
(5) واستدل الأحناف لمذهبهم بإجماع الصحابة، "لما روي عن عمر وعلي رضي الله
تعالى عنهما: "أنهما حكما في ولد المغرور بالقيمة، وبالعقر بمقابلة
الوطء" وما حكما بوجوب قيمة اللبن بالاستهلاك، ولو كان ما لا لحكما؛ لأن
المستحق يستحق بدل إتلاف ماله بالإجماع .. ولأن اللبن جزء من الآدمي، والآدمي
بجميع أجزائه محترم مكرم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشراء ...
".
البدائع 6/ 3011.
(1/295)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
اللبن شيء طاهر منتفع به فجاز بيعه كما في سائر الألبان (1).
مسألة: 185 - البيع بشرط البراءة من العيوب
إذا باع واشترى بشرط البراءة من العيوب، يجوز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز
(3).
دليلنا في المسألة: أن هذا شرط ملائم بهذا العقد، فوجب أن يجوز، كما لو برأه بعيب
معين (4).
احتج الشافعي وقال: إن هذا إبراء مجهول، والإبراء في المجهول لا يصح، كالإقرار في
المجهول (5).
__________
(1) انظر الدليل: المجموع 2/ 575.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 81؛ القدوري، ص 36؛ المبسوط 12/ 91؛ البدائع 7/ 3324؛
الهداية وشروحها: فتح القدير 6/ 396، 397؛ البناية 6/ 369.
(3) روي عن الشافعي في المسألة ثلاثة أقوال، مع التفريق بين الحيوان وغيره:
"وأظهرها: يبرأ في الحيوان عما لا يعلمه البائع دون ما يعلمه، ولا يبرأ في
غير الحيوان بحال ... ". ثم وإن بطل هذا الشرط لم يبطل به البيع على الأصح
كما ذكره النووي.
انظر: مختصر المزني، ص 84؛ المهذب 1/ 295؛ الروضة 3/ 470، 471؛ المنهاج، ص 46.
(4) واستدلوا من النقل باتفاق الصحابة على جواز البيع، قال السرخسي: "وحجتنا
في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ابتاع مملوكا من عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما بشرط البراءة من كل عيب، ثم طعن فيه بعيب فاختصما إلى عثمان بن عفان
رضي الله عنه، فحلفه بالله: لقد بعته وما به عيب يعلمه وكتمته، فنكل عن اليمين
فرده عليه". قال السرخسي مستدلا بالقضية: "فقد اتفقوا على جواز البيع
بهذا الشرط، وإنما اختلفوا في صحة الشرط فيستدل باتفاقهم على جواز البيع، وبقول
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" على صحة الشرط:
أخرجه أبوداود عن أبي هريرة، في الأقضية، باب في الصلح (3594)، 3/ 304؛ والحاكم في
المستدرك 2/ 49؛ السنن الكبرى 6/ 79 وغيرهم. المبسوط 13/ 92.
(5) واستدل الشافعي في الحيوان بقضاء عثمان رضي الله عنه: "أنه بريء من كل
عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه ولم يسمه له ويقفه عليه ... "
انظر: مختصر المزني، ص 84؛ المهذب 1/ 295.
(1/296)
باب السلم (1)
[مسألة]: 186 - السلم في المنقطع
السلم في المنقطع عندنا لا يجوز (2)، وعند الشافعي: جائز (3).
وصورته: إذا أسلم في العنب أو في الرطب في غير أوانه.
__________
(1) السلم لغة: التقديم والتسليم، والسلم: الاسم من أسلمت، وهو: تسليم رأس المال،
وهو بالتحريك بمعنى السلف (وزنا ومعنى) "وهو كل ما قدمه الإنسان من
قبله".
وشرعا: اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلا وفي المثمن آجلا" وباختصار هو:
(ما عجل ثمنه وأجل مثمنه)، ومن ثم يسمى المبيع: مسلما فيه، والثمن: رأس المال،
والبائع: مسلما إليه، والمشترى: رب السلم.
انظر: معجم مقاييس اللغة، القاموس المحيط؛ مختار الصحاح المصباح، التعريفات:
(سلم)، البدائع 7/ 3147؛ البناية 6/ 606.
والسلم من العقود اللازمة: بمعنى أنه لا يستطيع أحد المتعاقدين فسخه إلا برضا
الطرف الآخر.
(2) واشترط الأحناف لصحة عقد السلم: "أن يكون جنس المسلم فيه موجودا من وقت
العقد إلى وقت محل الأجل، ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب"، فإن
توهم انقطاعه بأي صورة من الصور الآتية فلا يصح فيه السلم:
أولا: أن يكون المسلم فيه موجودا عند العقد منقطعا عن أيدي الناس عند حلول الأجل.
ثانيا: أن يكون منقطعا وقت العقد موجودا عند حلول الأجل.
ثالثا: أن يكون موجودا عند العقد وعند حلول الأجل، ولكنه ينقطع فيما بين
ذلك".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 86؛ القدوري، ص 39؛ المبسوط 12/ 134؛ تحفة الفقهاء 2/ 11؛
البدائع 7/ 3171؛ الهداية وشروحها: فتح القدير والعناية 7/ 81؛ البناية 6/ 608.
(3) وإنما يجوز عند الشافعية إذا كان المسلم فيه مأمونا عن الانقطاع وقت حلول
الأجل.
انظر: الأم 3/ 94؛ المهذب 1/ 305؛ الوجيز 1/ 55؛ الروضة 4/ 11؛ المنهاج، ص 53.
(1/297)
دليلنا في المسألة: أنه أسلم في شيء
وهو غير قادر على تسليمه؛ لأن القدرة على التسليم شرط عند محل الأجل، وهاهنا ربما
يموت أحد المتعاقدين، فيحل الأجل ويعجز عن تسليمه، فوجب أن لا يجوز (1).
احتج الشافعي وقال: لأن القدرة على التسليم، إنما يشترط في السلم، عند محل المشروط
لأن الكلام ها هنا إنما وقع إذا أسلم في غير أوانه وحينه، وشرط وقت التسليم، حال
وجوده فينبغي أن يجوز (2).
مسألة: 187 - سلم الحال
سلم الحال لا يجوز عندنا (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
__________
(1) واستدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسلفوا في الثمار
حتى يبدو صلاحها"، أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما. (أبو
داود في البيوع، باب في السلم في ثمرة بعينها (3467)، 3/ 276؛ ابن ماجه في
التجارات، باب إذا أسلم في نخل بعينه لم يطلع (2284)، 2/ 767؛ نصب الراية 4/ 49).
انظر بالتفصيل: المبسوط 12/ 134، 135؛ البناية 6/ 618.
(2) واستدل الشافعي من النقل بمفهوم حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، فقال:
"من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم".
(أخرجه الجماعة: البخاري، في السلم، باب السلم في كيل معلوم (2239)، 4/ 428؛ مسلم،
في المساقاة، باب السلم (1604)، 3/ 1226).
وقال: " ... وإذا أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلف في التمر
السنتين بكيل ووزن وأجل معلوم كله، والتمر قد يكون رطبا، وقد أجاز أن يكون في
الرطب سلفا مضمونا في غير حينه الذي يطيب فيه؛ لأنه إذا سلف سنتين كان بعضها في
غير حينه".
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان لا يرى بأسا أن يبيع الرجل شيئا
إلى أجل ليس عنده أصله". الأم 3/ 94؛ المهذب 1/ 304.
(3) وذلك لأن "الأجل في المسلم فيه شرط لجواز السلم" عندهم.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 86؛ القدوري، ص 39؛ تحفة الفقهاء 2/ 10؛ الهداية وشروحها:
فتح القدير 7/ 86؛ البناية 6/ 623.
(4) انظر: الأم 3/ 95؛ التنبيه، ص 69؛ المهذب 1/ 304؛ الوجيز 1/ 154؛ المنهاج، ص
53؛ الروضة 4/ 7.
(1/298)
دليلنا في المسألة، وهو: أن السلم بيع
ما ليس عنده؛ لأنه بيع بأوكس ثمنه؛ لأن المسلم فيه لو كان حاضرا، لباعه بأوفر
الثمن، فلا حاجة [إلى] (1) قبول السلم (2).
احتج الشافعي، وقال: إنما جوز السلم لاعتبار الحاجة، إلا أن القياس يأبى جواز
السلم؛ لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز؛ لأن الشرع جوزه لحاجة الناس،
والحاجة أمر باطن لا يمكن الوقوف عليه، فكان إقدامه بالسلم دليلا على الحاجة،
فيجوز (3).
مسألة: 188 - السلم في الحيوان
السلم في الحيوان لا يجوز عندنا (4)، وعند الشافعي: يجوز (5).
__________
(1) في الأصل: (إلا).
(2) واستدلوا من النقل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما - السابق ذكره وتخريجه في
المسألة: (185)، ص 296 بقوله: "إلى أجل معلوم".
ولأنه "لو كان قادرا على التسليم [حالا] لم يوجد المرخص فبقي على
النافي".
انظر، أدلتهم بالتفصيل: البدائع 7/ 3174؛ وشرح فتح القدير 7/ 87.
(3) واستدل الشافعي من النقل بمفهوم حديث ابن عباس: "من أسلف فليسلف ...
" الحديث.
(الحديث سبق تخريجه في المسألة: (186)، ص 297، حيث يقول: فإذا أجاز رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بيع الطعام بصفة إلى أجل فكان بيعه حالا أجوز، "لأنه
ليس في البيع معنى إلا أن يكلون بصفة مضمونا على صاحبه، فإذا ضمن مؤخرا ضمن معجلا
وكان معجلا أعجل منه مؤخرا، والأعجل أخرج من معنى الغرر وهو مجامع له في أنه مضمون
له على بائعه بصفة"، الأم 3/ 95.
(4) حيث إن الأحناف يشترطون في السلم "أن يكون المسلم فيه مما يضبط بالوصف
وهو: أن يكون من الأجناس الأربعة: المكيل، والموزون، والذرعي، والعددي
المتقارب".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 86؛ القدوري، ص 39؛ المبسوط 12/ 131؛ تحفة الفقهاء 2/ 16؛
البدائع 7/ 3166؛ الهداية وشروحها؛ فتح القدير والعناية 7/ 76؛ البناية 6/ 614.
(5) يجوز عند الشافعية السلم في الحيوان: إذا كان معلوم الجنس والنوع والسن والصفة.
=
(1/299)
دليلنا في المسألة، وهو: أن الحيوان لا
يمكن ضبطه بالوصف؛ لأنه يتفاوت تفاوتا فاحشا، فرب دابتين على [سن] (1) واحد، وعلى
قامة واحدة، وعلى سمن واحد، يساوي أحدهما مائة، والآخر عشرة، فيؤدي إلى المنازعة؛
لأن الشرع إنما جوز السلم في شيء يمكن إثباته بالوصف، وهاهنا لا يمكن، فوجب أن لا
يجوز، كما لو أسلم في الجواهر واللآلئ (2).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الحيوان إنما يمكن ضبطه بالوصف إذا استقصى، فوجب
أن يجوز السلم فيه، كما قلنا في الثياب والديباج المنقشة (3).
__________
= انظر: الأم 3/ 117؛ المهذب 1/ 304؛ التنبيه، ص 68؛ الوجيز 1/ 156؛ الروضة 4/ 18؛
المنهاج، ص 53.
(1) في الأصل: (سنن).
(2) واستدلوا من النقل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "نهى عن السلم في الحيوان". أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال:
"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والدارقطني في سننه وقال ابن حبان:
"إسحاق بن إبراهيم - راوي الحديث - منكر الحديث جدا يأتي عن الثقات
بالموضوعات، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب".
(سنن الدارقطني 3/ 71؛ المستدرك 2/ 57؛ نصب الراية 4/ 46).
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 12/ 132؛ البدائع 7/ 3166، 3167؛ وشرح فتح القدير
7/ 78، 79؛ البناية 6/ 614.
(3) واستدل الشافعي من النقل بحديث أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
استسلف بكرا وقضاه رباعيا وقال: "فإن خيار الناس أحسنهم قضاء". أخرجه
مسلم في المساقاة، باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه (1600، 3/ 1224).
ثم قال الشافعي: "فهذا الحديث الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وبه أخذ، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمن بعيرا بصفة، وفي هذا ما دل
على أنه يجوز أن يضمن الحيوان كله بصفة في السلف". وأدلة أخرى، راجع الأم 3/
117، 118.
(1/300)
كتاب الرهن (1)
[مسألة]: 189 - رهن المشاع
رهن المشاع (2)، عندنا: لا يجوز (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
__________
(1) الرهن: لغة: الدوام والثبوت والحبس، يقال: ماء راهن، أي راكد، ونعمة راهنة: أي
ثابتة دائمة، وقال سبحانه وتعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} (القيامة: 38)، أي
مرهونة، بمعنى: محبوسة، ويطلق الرهن لغة: على العقد، وعلى الشيء المرهون، من باب
إطلاق المصدر وإرادة المفعول. وجمعه: رهان، ورهن، ورهون. وبابه: قطع.
انظر: معجم مقاييس اللغة؛ القاموس المحيط؛ مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (رهن).
واختلف الفقهاء في تعريفه تبعا لاختلاف أهل اللغة: فعرفه المرغيناني من الأحناف
بأنه: "جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون". وعرفه
الرملي من الشافعية بأنه: "جعل عين مال متمولة، وثيقة بدين ليستوفي منها، عند
تعذر وفائه".
ومن ثم يكون الراهن هو: المدين، والمرتهن هو: الدائن، والرهن هو: الشيء المرهون.
والرهن عقد له طرفان: طرف لازم، وطرف جائز، لازم في حق الراهن إذا قبضه المرتهن،
وجائز في حق المرتهن: بمعنى أنه يجوز له أن يفسخ العقد من جهته إذا شاء، ولا يجوز
للراهن أن يفسخه - بعد القبض - من جهته، من غير رضا المرتهن.
انظر: المبسوط 21/ 63؛ الهداية 4/ 126؛ الأم 3/ 146؛ المهذب 1/ 312، 314؛ المغني،
لابن قدامة 3/ 505؛ نهاية المحتاج 4/ 233.
(2) المشاع: مأخوذ من شاع الشيء يشيع شيوعا، ومنه شاع اللبن في الماء، إذا تفرق
وامتزج به، والمقصود منه هنا: هو جزء غير محدود في مال مشترك بين اثنين فأكثر.
انظر: المصباح، مادة: (شيع).
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 92، القدوري، ص 41؛ المبسوط 21/ 69؛ الهداية 10/ 52،
مع تكملة فتح القدير.
(4) انظر: الأم 3/ 190؛ المهذب 5/ 311؛ الوجيز 1/ 159؛ الروضة 4/ 39؛ المنهاج 54.
(1/301)
وصورته: إذا كان شقصا بين رجلين، أو
دارا، فرهن أحد الشريكين نصيبه، لا يجوز، ولا خلاف أنه إذا كان من شريكه، فهو
جائز.
دليلنا في المسألة، وهو: أن المقصود من الرهن، إنما هو الاستيفاء؛ لأنه قبضه على
وجه الاستيفاء، أو كان المقصود إنما هو الوثيقة، لكي يضجر قلب الراهن [أن] يكون
الرهن محبوسا في يد المرتهن، فيسارع إلى قضاء دينه، وهذا في المشاع لا يتصور؛ لأنه
لا يمكن إثبات اليد إلا بطريق المهايأة (1): يوم في يد هذا، ويوم في يد هذا، فيفوت
معنى الرهن (2).
احتج الشافعي، وقال: كل ما جاز بيعه جاز رهنه؛ لأن الشياع لا يمنع صحة البيع، فوجب
أن لا يمنع صحة الرهن (3).
مسألة: 190 - وطئ المرتهن الجارية المرهونة
المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة، بإذن الراهن يجب المهر عندنا (4)، وعند
الشافعي؛ لا يجب (5).
__________
(1) المهايأة، لغة: مشتقة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة للمتهيء للشيء، ومنه
التهايؤ، وهو: أن يتواضعوا على أمر، فيتراضوا به، وفي الحققة: "أن يتراضوا
بهيئة واحدة، يعني: الشريك منتفع بالعين على الهيئة التي ينتفع بها الشريك الآخر،
وفي عرف الفقهاء هي: قسم المنافع". انظر: المصباح، مادة: (هيأ)، البناية 8/
682.
(2) الذي هو الحبس على الدوام.
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 21/ 69؛ تحفة الفقهاء 3/ 50؛ تكملة فتح القدير مع
العناية 10/ 154.
(3) انظر: المهذب 1/ 315.
(4) ولا يجب عليه الحد للشبهة.
انظر: تحفة الفقهاء 3/ 61؛ حاشية ابن عابدين 6/ 482.
(5) ما حكاه المؤلف عن الشافعية، قول مجمل، يحتاج إلى تفصيل وتوضيح وقت الوجوب
وعدمه: فإن كان الوطء بإذن الراهن مع علم الواطئ بحرمته: لزمه الحد على الصحيح،
والمهر إن =
(1/302)
دليلنا في المسألة، وهو: أن الوطء
عندنا بمنزلة استيفاء جزء، ولهذا قلنا: الوطء في غير الملك [يوجب] (1) العقر (2)،
فإذا كان الوطء قائما مقامه في استيفاء الجزء [فهذا] (3) استيفاء جزء من الرهن
يضمن قيمته (4)، ويكون رهنا في يده، فكذلك ها هنا.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن المهر لو وجب، إنما وجب بالوطء، والمهر يجب
بالعقد، فلهذا لا يجب (5).
مسألة: 191 - حكم الرهن في يد المرتهن
الرهن أمانة، أو مضمونة في يد المرتهن؟ عندنا: الرهن مضمون بأقل من قيمته من
الدين، وما زاد على الدين يكون أمانة، حتى لو هلك الرهن في يد المرتهن، إن كان
الرهن بمثل الدين يسقط بالدين عندنا (6)، وعند الشافعي: لا يسقط، ويكون أمانة في
يد المرتهن، وهلاكه لا يوجب سقوط الدين (7).
__________
= أكرهها، وإن كان الواطئ جاهلا بالتحريم، سقط عنه الحد والمهر إن كانت المرأة
مطاوعة، وإن كانت مكرهة وجب المهر على الأظهر.
انظر: الروضة 4/ 99؛ المنهاج مع شرح المحلي مع حاشيتي قليوبي وعميرة 2/ 276، 277؛
مغني المحتاج 2/ 138.
(1) في الأصل: (يجب).
(2) العقر، بالضم: "دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها". المصباح، مادة:
(عقر).
(3) في الأصل: (فلهذا).
(4) راجع المصادر السابقة للأحناف.
(5) والدليل يصلح للحالة الثانية: (كون الواطئ جاهلا مع إكراهها) على وجه مرجوع في
المذهب؛ لأنه لا يجب لإذن مستحقة، فأشبه زنا الحرة.
ورد على هذا الدليل: بأن وجوبه في حق الشرع، فلا يؤثر فيه الإذن قياسا على المفوضة
في النكاح، فإنها تستحق المهر بالدخول. راجع المراجع السابقة للشافعية.
(6) انظر: القدوري، ص 41؛ المبسوط 21/ 64، 65؛ تحفة الفقهاء 3/ 56؛ البدائع 8/
3760؛ الهداية 10/ 140، 145، مع تكملة فتح القدير.
(7) انظر: الأم 3/ 167؛ التنبيه، ص 71؛ الوجيز 1/ 161؛ الروضة 4/ 96.
(1/303)
دليلنا في المسألة، وهو: أن المرتهن
إنما قبض الرهن على وجه الاستيفاء، ولو قبضه على حقيقة الاستيفاء كان مضمونا عليه،
فكذلك إذا قبضه على وجه الاستيفاء، كما نقول: بسوم البيع؛ لأن المقبوض بسبب البيع
يكون مضمونا عليه، كالمقبوض على الحقيقة (1).
احتج الشافعي في المسألة: بدليل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
"لا يغلق الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه" (2)
__________
(1) استدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم - للمرتهن بعد ما نفق فرس
الرهن عنده -: "ذهب حقك"، قال الكاساني: "وهذا نص في الباب لا
يحتمل التأويل".
أخرجه أبو داود في مراسيله، وابن أبي شيبة في مصنفه، وعبد الحق في أحكامه، وقال:
"هو مرسل ضعيف". وقال ابن القطان في كتابه: "مصعب بن ثابت: ضعيف
كثير الغلط وإن كان صدوقا". كما ذكره الزيلعي في نصب الراية 4/ 321.
وانظر ما أورده عبد الرازي في مصنفه من الآثار 8/ 238، وما بعدها.
واستدلوا أيضا بإجماع الصحابة، كما قال المرغيناني: "وإجماع الصحابة
والتابعين رضي الله عنهم من أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفيته".
انظر: المبسوط 21/ 65؛ البناية 9/ 653 - 655.
(2) هذا الحديث رواه الشافعي في الأم عن ابن المسيب مرسلا، وعن أبي هريرة مرفوعا
بلفظ: "لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه"،
ثم قال: "وبهذا نأخذ، وفيه دليل على أن جميع ما كان رهنا غير مضمون على
المرتهن".
واختلف المحدثون في إرساله واتصاله: أخرجه الدارقطني متصلا وقال: "هذا إسناد
حسن متصل". وأخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: "هذا
حديث صحيح أعلى الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
أخرجه أبو داود في مراسيله، وقال: "قوله: "له غنمة وعليه غرمه" من
كلام سعيد بن المسيب، نقله عنه الزهري، وقال: هذا هو الصحيح". وكذلك رواه
مرسلا البزار، والدارقطني، وابن القطان، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة في مصنفهما.
انظر: الأم 3/ 167، 168؛ سنن الدارقطني 3/ 32؛ المستدرك 2/ 51؛ السنن الكبرى 6/
42؛ مصنف عبد الرزاق 8/ 237.
انظر ما قيل في الحديث بالتفصيل: نصب الراية 9/ 314 - 321؛ التلخيص الحبير 3/ 36.
(1/304)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل
الغرم على الراهن، فمن جعل الغرم على المرتهن جعل مخالفا لهذا النص.
مسألة: 192 - إعتاق الراهن العبد المرهون
إذا أعتق الراهن عبد [ـه] المرهون ينفذ عتقه عندنا (1)، وعند الشافعي: لا ينفذ
(2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن العتق تصرف في الرق؛ لأن العتق إسقاط الرق، والرق
مملوك للراهن، فقد تصرف فيما هو مملوك، فوجب أن يكون كما قبل الرهن (3).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الراهن بالإعتاق أبطل حق المرتهن، فوجب أن لا
يجوز إلا برضاه، كما لو باع أو آجر فإنه لا يجوز لهذا المعنى؛ [لأ] نه (4) يبطل حق
المرتهن في الحبس (5) إلا أنه عند أبي حنيفة ينفذ عتقه، ولكن يضمن قيمة العبد
وتكون رهنا مكانه (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 93؛ القدوري، ص 41؛ المبسوط 21/ 135؛ تحفة الفقهاء 3/
65؛ الهداية 4/ 146.
(2) "إذا أعتق الراهن المرهون، ففي إيقاعه ثلاثة أقوال، أظهرها: الثالث، وهو
إن كان موسرا نفذ، وإلا فلا"، وأخذت منه القيمة وجعلت رهنا مكانه؛ لأنه أتلف
رقه فلزمه ضمانه"، ذكره الشيرازي والنووي.
انظر: المهذب 1/ 319؛ التنبيه، ص 71؛ الروضة 4/ 75.
(3) انظر: المبسوط 21/ 136، 137؛ البدائع 8/ 3798؛ الهداية 4/ 146.
(4) في الأصل: (أنه).
(5) انظر: المهذب 1/ 319.
(6) وبعد نفوذ العتق في العبد المرهون - عند الأحناف - يقضي دين المرتهن بحسب حال
الراهن أو الدين، ولم يذكر المؤلف إلا حالة واحدة وهي: إن كان الدين مؤجلا أخذت
منه قيمة العبد، وجعلت رهنا مكانه حتى يحل الأجل، وأما إن كان الراهن موسرا والدين
حالا، فيجبر الراهن على قضائه، وكذلك إذا حل الأجل المؤجل، وأما إن كان معسرا فسعى
العبد في قيمته، ويقضي منها الدين. انظر بالتفصيل: البدائع 8/ 3798؛ الهداية 4/
146.
(1/305)
مسألة: 193 - انتفاع الراهن بالمرهون
الراهن عندنا: ليس له أن ينتفع من المرهون (1)، وعند الشافعي [له] أن ينتفع (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن المقصود من الرهن، إنما هو الحبس والوثيقة، لكي يضجر
قلب الراهن فيسارع إلى قضاء دينه، فلو قلنا بأنه ينتفع الراهن بالرهن، يفوت هذا
المعنى، فوجب أن لا يجوز (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: الخبر الذي تقدم ذكره (4).
مسألة: 194 - ضمان الغاصب الرهن
إذا غصب رجل شيئا، ثم إن المغصوب منه رهن من الغاصب، يبرأ من ضمان الغصب عندنا
(5)، وعند الشافعي، لا يبرأ من الضمان بحدوث الرهن (6).
دليلنا في المسألة، وهو: أن من شرط جواز الرهن
__________
(1) انظر: المبسوط 21/ 106؛ تحفة الفقهاء 3/ 57؛ البدائع 8/ 3740.
(2) يجوز للراهن الانتفاع بالرهن - عند الشافعي - على وجه لا يتضرر به المرتهن.
انظر: الأم 3/ 155؛ المهذب 1/ 318؛ التنبيه، ص 71؛ الوجيز 1/ 164؛ المنهاج، ص 55.
(3) واستدل الأحناف من النقل بقوله عز وجل: {فرهان مقبوضة} (البقرة: 283).
قال السرخسي: فهذا يقتضي أن يكون مقبوضا للمرتهن في حال كونه مرهونا،
"وانتفاع الراهن بعدم هذا الوصف".
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 21/ 107 وما بعدها؛ والبدائع 8/ 3740.
(4) راجع الحديث في المسألة (191)، ص 304، هامش (2)، الأم 3/ 155؛ المهذب 1/ 319.
(5) انظر: تحفة الفقهاء 3/ 55.
(6) انظر: المهذب 1/ 381؛ الوجيز 1/ 163؛ الروضة 4/ 68.
(1/306)
القبض (1)، والمغصوب منه لما رهنه من
الغاصب جعل في الشرع كأنه قبضه من الغاصب، فكذلك ها هنا.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن القبض الحقيقي والتسليم لم يوجد، فوجب أن لا
يخرج [عن] (2) عهدة ضمان الغصب، كما قبل الرهن (3).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 40؛ المبسوط 2/ 681؛ تحفة الفقهاء 3/ 50.
(2) في الأصل: (عند).
(3) انظر: المهذب 1/ 381؛ الروضة 4/ 68.
(1/307)
كتاب الأشربة (1)
[مسألة]: 195 - تخليل الخمر
تخليل الخمر جائز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3). دليلنا في المسألة: ما
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه مر بشاة مرمية فقال: هلا انتفعتم
بإهابها، فقالوا: إنها ميتة يا رسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر، كالخمر تخلل فتحل" (4)، وهذا دليل على أن
التخليل جائز.
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن هذا تغيير وتقليب، وتقليب الأعيان لله تعالى،
وليس في وسع العبد تقليب الأعيان، ألا ترى أنه لو ألقى السكر والفانيد في الخمر،
حتى صار حلوا، فإنه لا يكون حلالا؛ لأنه لم يتغير من حكم الخمر، فكذلك إذا ألقى
فيه ملح أو غيره (5).
__________
(1) الأشربة، جمع شراب، وهو: اسم لما يشرب من المائعات، كالأطعمة، جمع طعام،
والمراد بها هنا: الأشربة المحرمة. انظر: المغرب، المصباح، مادة: (شرب)، البناية
9/ 494.
(2) انظر: القدوري، ص 98؛ المبسوط، 24/ 22؛ الهداية 4/ 113.
(3) بمعنى: إن تخليل الخمر بطرح عصير أو ملح ونحوهما - حرام بلا خلاف عند
الشافعية، ويكون الخل الناتج عن التخليل نجسا. انظر المسألة بالتفصيل في: المجموع
مع المهذب 2/ 581.
(4) سبق تخريج الحديث والكلام فيه على المسألة (4)، ص 97.
(5) واستدل الشافعية على تحريم تخليل الخمر ونجاسته بأدلة نقلية وعقلية كثيرة
منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي - صلى الله
عليه وسلم -: أنتخذ الخمر خلا؟ قال: "لا". مسلم، في الأشربة، باب تحريم
تخليل الخمر (1983)، 3/ 1573.
انظر الأدلة بالتفصيل: المجموع 2/ 581، 582.
(1/308)
كتاب الحجر (1)
مسألة: 196 - من أدرك ماله عند رجل قد أفلس
إذا باع من آخر شيئا ثم أفلس المشتري بالثمن، عندنا: إن كان بعد القبض فهو
والغرماء سواء (2)، وعند الشافعي، البائع أحق بعين ماله سواء قبض المشتري أو لم
يقبض (3).
دليلنا في المسألة أنه لما باع وقبض المشتري، زال ملك البائع ولم يبق [له] حق،
فصار هذا أسوة للغرماء (4).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أنا أجمعنا على أن أحد الغرماء إذا كان في يده رهن،
فمات من عليه دين مفلسا، فإن
__________
(1) كتاب الحجر في المخطوط في المسألة (197) ولكني قدمته هنا لمناسبة هذه المسألة
مع ما بعدها.
الحجر: بفتح الحاء وسكون الجيم - المنع - وفعله من باب: دخل، وهو لغة: مطلق المنع،
ومنه يقال: حجر عليه القاضي في ماله، إذا منعه من أن يفسده، فهو محجور عليه.
انظر: المغرب، المصباح، التعريفات، مادة: (حجر).
وشرعا: "المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف مخصوصة". وعرفه الميداني بأنه
"المنع من نفاذ تصرف قولي". وعرفه الشربيني بأنه "المنع من
التصرفات المالية".
انظر: الاختيار 2/ 94؛ اللباب 2/ 66؛ مغني المحتاج 2/ 165.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 95؛ القدوري، ص 44؛ الهداية 3/ 287.
(3) وعند الشافعية: البائع بالخيار: إن شاء فسخ البيع واسترد عين ماله، وإن شاء
اقتسمها مع الغرماء.
انظر: الأم 3/ 199؛ المهذب 1/ 329؛ التنبيه، ص 71؛ الوجيز 1/ 172؛ المنهاج، ص 58.
(4) راجع الدليل: الهداية 3/ 287.
(1/309)
المرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء،
لتعلق حقه بالرهن، فكذلك البائع، فوجب ها هنا بمثابته (1).
مسألة: 197 - الحجر على الحر
الحجر على الحر باطل عندنا (2)، وعند الشافعي: جائز، إذا كان الرجل سفيها مبذرا
(3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الحرية والبلوغ سبب لزوال الحجر، فلو قلنا بأنه يحجر
عليه، لسلب الولاية التي أثبتها الشرع (4).
__________
(1) واستدل الشافعي من النقل بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق
به"، متفق عليه: البخاري، في الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع
والقرض (2402)، 5/ 62؛ مسلم، في المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد
أفلس فله الرجوع فيه (1559)، 3/ 1193.
انظر: الأم 3/ 199؛ المهذب 1/ 239.
(2) عند أبي حنيفة إذا بلغ سفيها يحجر عليه إلى أن يبلغ خمسا وعشرين سنة، وبعدها
يدفع إليه وإن كان سفيها، خلافا للصاحبين، فإنهما يقولان: بالحجر على الحر بالسفه
والغفلة مع خلاف بينهما في أمر الحاكم، وعلى قولهما الفتوى في المذهب.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 97؛ القدوري، ص 42؛ المبسوط 24/ 157؛ البدائع 9/ 4464؛
الهداية 1/ 281، 285؛ الدر المختار 6/ 148، مع حاشية ابن عابدين.
(3) انظر: الأم 3/ 218؛ المهذب 1/ 338؛ التنبيه، ص 73؛ الوجيز 1/ 176؛ الروضة 4/
182؛ المنهاج، ص 59.
(4) استدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى، بعمومات البيع والهبة والإقرار .. من نحو
قاله سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع} (البقرة 275)، وقوله تعالى: {ياأيها الذين
آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله: {ولا يبخس منه شيئا}
(البقرة 282)، وقال الكاساني مبينا وجه الدلالة: "أجاز الله تعالى البدلين،
حيث ندب إلى الكتابة، وأثبت الحق، حيث أمر من عليه الحق بالإملاء ونهى عن النجس
عاما من غير تخصيصا، وأدلة أخرى.
انظر بالتفصيل: المبسوط 24/ 159؛ البدائع 9/ 4465.
(1/310)
احتج الشافعي في المسألة؛ لأن الرجل
إذا كان سفيها مبذرا احتاج إلى النظر والقاضي بحجره عن التصرف، لا يضيع ماله، نظرا
له (1) كما في الصبي العاقل المبذر، فكان المعنى فيه: تضييع المال؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم -، نهى عن إضاعة المال (2).
مسألة: 198 - بيع القاضي مال المديون
إذا ركبته الديون، فامتنع [عن] (3) أداء الحق، فإن القاضي يحبسه ولا يبيع عليه
ماله عندنا (4)، وعند الشافعي: يحبسه ويبيع
__________
(1) واستدل الشافعي رحمه الله تعالى من النقل بآيتين، حيث يقول: "الحجر على
البالغين في آيتين من كتاب الله عز وجل، وهما: قول الله تبارك وتعالى: {فليكتب
وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق
سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ... } (البقرة 282). ثم
قال مبينا وجه الدلالة: "وأثبت الولاية على السفيه والضعيف والذي لا يستطيع
أن يمل هو، وأمر وليه بالإملاء عليه؛ لأنه أقامه فيما لا غناء به عنه من ماله
مقامه".
والآية الأخرى، قول الله سبحانه وتعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} (سورة النساء 6).
انظر الأدلة بالتفصيل: الأم 8/ 213، 219؛ المهذب 1/ 338، 339.
(2) ويقصد به ما أخرجه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عز وجل حرم عليكم: عقوق الأمهات،
ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة
المال":
البخاري، في الاستقراض، باب ما ينهى عن إضاعة المال (2408)، 5/ 68؛ مسلم، في
الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة (1715)، 3/ 1341.
(3) في الأصل: (على).
(4) هذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لاعتبار البيع عليه من مسألة الحجر خلافا
للصاحبين، وإنما يجوز البيع عليه عنده، في حالة واحدة "إن كان دينه دراهم وله
دنانير، أو على ضد ذلك، باعها القاضي في دينه" استحسانا، وعند الصاحبين ببيع
القاضي عليه مطلقا، وعلى قولهما الفتوى في المذهب.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 95؛ المبسوط 24/ 163؛ البدائع 9/ 4474، 4476؛ الهداية 3/
285؛ الدر المختار 6/ 150، مع حاشية ابن عابدين.
(1/311)
ماله، ويؤدي الحقوق التي عليه من
الديون (1).
دليلنا في المسألة؛ لأن القاضي إنما تثبت له الولاية ببيع المال عند غيبة صاحب
المال، وها هنا صاحب المال حاضر، فوجب أن لا تثبت للقاضي الولاية عليه في ماله
(2).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن المديون لما امتنع عن قضاء دينه مع اليسار، فقد
ظلمه وتعنته، فوجب على القاضي أن يزيل هذا الظلم، ولا يمكن إلا بهذا الطريق،
فأثبتنا للقاضي الولاية في البيع، لانتصاف المظلوم من الظالم (3).
__________
(1) إنما يحبس المديون عند الشافعية؛ لأجل التثبت في دعواه، إذا ادعى الإعسار.
انظر: الأم 2/ 213؛ المهذب 1/ 327؛ الوجيز 1/ 171، 172؛ المنهاج، ص 57.
(2) واستدل لأبي حنيفة من النقل، بقوله سبحانه وتعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (النساء: 29)، "وبيع المال على
المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض".
انظر بالتفصيل: المبسوط 24/ 146؛ البدائع 9/ 4476؛ البناية 8/ 263، راجع أدلة عدم
جواز الحجر من المسألة (196)، ص 309.
(3) استدل الشافعية من النقل بما رواه: كعب بن مالك قال: "إن النبي - صلى
الله عليه وسلم - باع على معاذ رضي الله عنه ماله للغرماء، حتى قام معاذ بغير شيء".
الحديث أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي متصلا. ورواه أبو داود في المراسيل
مرسلا، وقال عبد الحق: "المرسل أصح من المتصل".
انظر: السنن الكبرى 6/ 48؛ نيل الأوطار 5/ 276؛ المهذب 1/ 327.
(1/312)
مسألة: 199 - سن البلوغ
حد البلوغ (1) عندنا: تسعة عشر، وعند الشافعي: خمسة عشر (2).
دليلنا في المسألة؛ لأن الناس بتفاوتون فيه، قد يبلغ الصبي لخمسة عشر أو أقل أو
أكثر، فأخذنا فيه بالأكثر احتياطا (3).
__________
(1) البلوغ في اللغة: الإدراك والنضوج والوصول، وفي الشرع هو: بلوغ الصبي سن
الحلم، أي مبلغ الرجال.
ويعرف البلوغ من الصبي والصبية، بإمارات حسية معروفة، منها ما يشترك فيها الذكر
والأنثى: الاحتلام، والإنزال، والإنبات. ومنها ما تختص بها الأنثى وهي: الحيض،
والإحبال. فإن ظهرت علامة أو أكثر من هذه العلامات، فيحكم ببلوغه، ويترتب عليه
أحكامه وآثاره، باتفاق بين الفريقين، وإن لم يظهر شيء من هذه العلامات فالحالة هذه
يحكم بالبلوغ بتحديد السن، على اختلاف بين المذهبين.
(2) فذهب أبو حنيفة في تحديد سن البلوغ إلى التفريق بين الجنسين: فيبلغ الصبي عنده
بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل حتى يستكمل تسع عشرة سنة، والصبية بتمام سبعة عشر سنة،
وبالطعن في الثامنة عشر سنة.
وأما الشافعية والصاحبان لأبي حنيفة رحمهم الله، فذهبوا إلى عدم التفريق بين
الجنسين، وبلوغهما بتمام: خمس عشرة سنة، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى،
وعليه الفتوى في المذهب.
وما ذكرته في تحديد سن البلوغ باعتبار أقصى مدة البلوغ، وقد يبلغان قبل هذه المدة
بحسب البيئة والمجتمع التي يعيش فيها، "وأدق المدة لذلك في حق الغلام اثنتا
عشرة سنة وفي حق الجارية تسع سنين".
انظر: القدوري، ص 43؛ البدائع 9/ 4470؛ الهداية 8/ 254، مع البناية؛ الأم 3/ 215؛
المهذب 1/ 337؛ الوجيز 1/ 176؛ الروضة 4/ 178؛ المنهاج، ص 59.
(3) واستدل لأبي حنيفة من النقل بقوله سبحانه وتعالى: {حتى يبلغ أشده (الأنعام:
152)، "وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس رضي الله عنه"،
في أقل ما قيل في تفسير الأشد. وقال المرغيناني في معرض استدلاله في حد بلوغ
الإناث: "إن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع، فنقصنا في حقهن سنة ... ".
راجع أدلة المسألة بالتفصيل: البدائع 9/ 4470؛ نصب الراية 4/ 166؛ البناية 8/ 257
وما بعدها.
(1/313)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الأمر
يبني على الغالب، والغالب في زماننا يبلغ الصبي: لخمسة عشر أو بأقل من ذلك، فوجب
أن يحكم بالبلوغ، لصحة التصرفات (1).
مسألة: 200 - نكاح وطلاق المحجور عليه
المحجور عليه لأجل السفه، هل يصح طلاقه ونكاحه؟ لا خلاف أن طلاقه يصح، وأما في
النكاح: يجوز نكاحه (2) وينظر في المهر.
فإن كان مثل مهر مثلها فإنه يصح، وإن زاد على مهر المثل، فهل يصح؛ عند أبي حنيفة
يصح (3)، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي لا يصح (4)، والمعنى ما قدمنا في المسألة
الأولى (5).
__________
(1) واستدل الشافعية من النقل بما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه
قال: "عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وأنا ابن أربع
عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه (يوم الخندق) وأنا ابن خمس عشرة سنة
فرآني بلغت فأجازني":
البخاري، في الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (2664)، 5/ 276؛ مسلم، في
الإمارة، باب بيان سن البلوغ (1868) 3/ 1490.
انظر الأدلة بالتفصيل في: المهذب 1/ 337، 338.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 97؛ القدوري، ص 43؛ الهداية 3/ 283؛ المهذب 1/ 339؛
الوجيز 1/ 176؛ الروضة 4/ 185؛ المنهاج، ص 43.
(3) يصح على فوله؛ لأن الحر العاقل البالغ لا يحجر عليه بالسفه عنده.
انظر: القدوري، ص 42؛ الدر المختار 6/ 147، مع حاشية ابن عابدين.
(4) وتبطل الزيادة على مهر المثل لدى الصاحبين، وعلى قولهما الفتوى في المذهب،
كالشافعية.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 97؛ الهداية 3/ 283؛ الدر المختار 6/ 148، مع حاشية ابن
عابدين؛ الأم 3/ 219؛ المهذب 1/ 339؛ الوجيز 1/ 176؛ الروضة 4/ 185؛ المنهاج، ص 43.
(5) راجع المسألة (197) ص 310.
(1/314)
كتاب الصلح (1)
[مسألة]: 201 - الصلح عن الإنكار
الصلح عن الإنكار (2) جائز عندنا (3)، وعند الشافعي لا يجوز (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصلح إنما جوز لقطع الخصومة والشغب، فلو قلنا: إنه لا
يجوز الصلح مع الإنكار، لطالت هذه الخصومة، فيفوت معنى الصلح الذي شرع لأجله (5).
__________
(1) الصلح لغة: قطع المنازعة، من صلح الشيء - بفتح اللام - وضمها لغة فيه وهو ضد
الفساد، يقال: صلح الشيء إذا زال عنه الفساد، وصلح فلان سيرته، إذا أقلع عن
الفساد. وشرعا: "عقد يرتفع به التشاجر والتنازع بين الخصوم".
انظر: تصحيح التنبيه للنووي، ص 73؛ المغرب؛ والمصباح؛ والتعريفات، مادة: (صلح)،
الاختيار 3/ 5؛ اللباب 2/ 162؛ مغني المحتاج 2/ 177.
(2) وصورة الإنكار: كان يدعي على المدعى عليه دارا فينكر، ثم يقول للمدعي: صالحني
على دعواك الكاذبة أو عن دعواك.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 98؛ القدوري، ص 58؛ البدائع 7/ 3492؛ الهداية 7/ 603؛
مع شرح البناية.
(4) أي يقع باطلا: انظر المسألة بالتفصيل: المهذب 1/ 340؛ التنبيه، ص 73؛ الوجيز
1/ 178؛ المنهاج، ص 60؛ نهاية المحتاج 3/ 387.
(5) استدل الأحناف من النقل بإطلاق قوله عز وجل: {والصلح خير} (النساء: 128)،
وبإطلاق الحديث الآتي في أدلة الشافعية.
انظر الأدلة بالتفصيل: البدائع 7/ 3493؛ البناية في شرح الهداية 4/ 607 وما بعدها.
(1/315)
احتج الشافعي: بما روي عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو
حرم حلالا، فهو غير جائز" (1)، وهذا المعنى قد وجد ها هنا، والمعنى أيضا وهو:
أن الخصم إذا كان منكرا، فالظاهر صدقه؛ لأنه مسلم. فلو جوزناه لكان ذلك يكون رشوة
والرشوة في الشرع محرمة.
مسألة: 202 - الصلح على مجهول
المصالحة [على شيء] (2) تصح، وإن كان مجهولا (3) عندنا (4)، وعند الشافعي: لا تجوز
(5).
دليلنا في المسألة وهو: أن المقصود من الصلح إنما هو قطع
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكذلك من حديث عمرو بن
عوف، إلا الكلمة الأخيرة: "فهو غير جائزا فإنها ليست من لفظ الحديث، وتكلم في
كثير بن عبد الله - من رجال سند الحديث - قال ابن حجر في الفتح: "هو ضعيف عند
الأكثر لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره":
أبو داود، في الأقضية، باب في الصلح (3594)، 3/ 304؛ الترمذي، في الأحكام، باب ما
ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس (1352)، وقال:
"حسن صحيح" 3/ 634؛ ابن ماجه، باب الصلح (2353)، 2/ 788؛ الحاكم في
المستدرك 2/ 49؛ البيهقي في السنن الكبرى 6/ 63.
انظر: تلخيص الحبير 3/ 23، 45؛ فتح الباري 4/ 371.
(2) زيدت ما بين المربعين للتوضيح، وفي الأصل: (المصالحة عليه يصح).
(3) أي صلح مجهول على معلوم، ويجوز هذا الصلح بشرط: أن لا يحتاج إلى قبضه فيكون
بذلك إسقاطا، وأن لا يحتاج إلى علمه به؛ لأنه لا يفضي إلى المنازعة، وأما إن احتاج
إلى قبضه فلا بد أن يكون معلوما؛ لأن جهالته تفضي إلى المنازعة، مثاله: أن يدعي
حقا في دار الرجل ولم يسمه وادعى المدعى عليه حقا في أرض المدعي فاصطلحا على ترك
الدعوى جاز.
(4) انظر: الاختيار 2/ 70؛ البحر الرائق 7/ 257؛ حاشية ابن عابدين 5/ 628.
(5) انظر: التنبيه، ص 73؛ الوجيز 1/ 183.
(1/316)
الخصومة، فلو قلنا: إنه لا يجوز الصلح
مع الجهالة، لأدى إلى تطويل المنازعة والشغب (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الصلح: مبادلة مال بمال (2)، فأشبه البيع، ثم
الجهالة تمنع صحة البيع، فكذلك [وجب] أن تمنع صحة الصلح، إذا كان مجهولا (3).
__________
(1) راجع المصادر السابقة للأحناف.
(2) هو ما يعرف "بصلح المعاوضة".
انظر: مغني المحتاج 2/ 177.
(3) راجع المصادر السابقة للشافعية.
(1/317)
كتاب الحوالة (1)
[مسألة]: 203 - موت المحتال عليه مفلسا
المحتال عليه إذا مات مفلسا فإنه يرجع إلى المحيل عندنا (2)، وعند الشافعي: لا
يرجع (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن صاحب الحق إنما قبل الحوالة بشرط السلامة، فإذا مات
مفلسا لم يسلم حقه، فكان له الرجوع إلى المحيل (4).
__________
(1) الحوالة: بفتح الحاء - مشتقة من التحول، بمعنى الانتقال، يقال: تحول من
المنزل، إذا تحول عنه وانتقل منه. نظر: المغرب؛ المصباح؛ التعريفات، مادة: (حال).
وشرعا عرفها العيني بأنها: "تحول الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحتال عليه
على سبيل التوثق بهإ. وعرفها الشربيني بأنها: "عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى
ذمة". وتتضح أركانها بقولك مثلا: (أحلت زيدا بما كان له علي وهو مائة على
رجل": فانا محيل، وهو الذي عليه الدين، وزيد محتال له، وهو الدائن، والمال،
محتال به، والرجل: محتال عليه، وهو الذي قبل الحوالة. انظر: الاختيار 3/ 3؛
البناية 6/ 807؛ مغني المحتاج 2/ 193.
(2) ويرجع المحتال له على المحيل عند أبي حنيفة في حالتين: إحداهما: "أن يجحد
الحوالة ويحلف ولا بينة عليه"، والثانية: المذكورة في مسألتنا.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 103؛ القدوري، ص 57؛ البدائع 7/ 3442؛ الهداية 6/ 812، مع
شرح البناية. وانظر فيه سبب الخلاف.
(3) انظر: الأم 3/ 228؛ المهذب 1/ 345؛ المنهاج، ص 62.
(4) استدل الأحناف على ذلك بما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحال عليه
إذا مات مفلسا: عاد الدين إلى ذمة المحيل، وقال: "لا توى على مال امرئ
مسلم". والتوى: (الهلاك). والأثر أخرجه البيهقي في السنن، وقال: "منقطع
عن عثمان".
انظر: السنن الكبرى 6/ 71؛ المصباح، مادة: (توى)، البدائع 7/ 3442.
(1/318)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
الحوالة مشتقة من حوالة الباذنجان: أي قلع وأحيل في موضع آخر، وقد فرغ المحل
الأول، كذلك هاهنا: ذمة من عليه الحق كانت مشغولة بهذا الدين، ومن له الحق إذا قبل
الحوالة، فقد رضي فراغ ذمة من عليه الحق، فصار ذمة المحتال عليه مشغولة، ألا ترى أنه
يطالبه بالدين فلو قلنا: إنه يعود هذا الدين بعد فراغ الذمة، يؤدي هذا إلى قلب
الحقيقة (1).
__________
(1) استدل الشافعي على عدم الرجوع إلى الحيل بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على
مليء فليتبع"، متفق عليه: البخاري، في الحوالة، باب في الحوالة، وهل يرجع في
الحوالة (2287)، 4/ 464؛ مسلم، في المساقاة، باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة
(1564)، 3/ 1197.
انظر: الأم 3/ 228، 229.
(1/319)
كتاب الضمان (1)
[مسألة]: 204 - ضمان المجهول
ضمان المجهول عندنا جائز (2)، وعند الشافعي باطل (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصلح والضمان، إنما شرعا [لـ]ـقطع الخصومة، ألا ترى
أنه إذا قال: ما ثبت لك على فلان فهو في، فإنه يصح هذا الضمان، وإن كان الذي ثبت
عليه من الضمان مجهولا، فكذلك ها هنا (4).
__________
(1) الضمان: مصدر ضمنته، أضمنه ضمانا، إذا كفلته فانا ضامن وضمين، وهو من باب
(علم)، والضمان بمعنى الكفالة، ومن ثم قال أهل اللغة: "يقال: ضامن وضمين،
وكافل وكفيل، وحميل وزعيم وقبيل". قال صاحب المغرب: "الضمان: الكفالة،
يقال: ضمن المال منه إذا كفل له به وضمنه غيره، والضمان لا يتحقق إلا
بالالتزام".
وعرف الشربيني الضمان شرعا بأنه "التزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من
هو عليه، أو عين مضمومة".
انظر: تصحيح التنبيه، ص 74؛ المغرب، المصباح، مادة: (ضمن)، مغني المحتاج 2/ 198.
(2) يجوز الضمان بالمجهول إذا كان دينا صحيحا، "كأن يقول: تكفلت عنه بمالك
عليه.
انظر: القدوري، ص 56؛ البدائع 7/ 3420؛ الهداية 6/ 744، مع شرح البناية؛ كنز
الدقائق 6/ 235، مع البحر الرائق؛ الدر المختار 5/ 301؛ مع حاشية ابن عابدين.
(3) وذهب الشافعي في الجديد إلى عدم جواز ذلك إلا في ضمان الدرك: ضمان الثمن عند
استحقاق المبيع. انظر: الأم 3/ 229؛ المهذب 1/ 347؛ التنبيه، ص 74؛ الروضة 4/ 444؛
المنهاج، ص 55؛ نهاية المحتاج 4/ 442.
(4) استدل الأحناف من النقل على جواز ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {ولمن جاء به حمل
بعير وأنا به زعيم} (يوسف: 72)، "لأن حمل البعير يختلف باختلاف البعير،
ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الزعيم غارم". =
(1/320)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
الكفالة والضمان، إنما شرعا لقطع الخصومة فلو قلنا: إنهه يصح في المجهول، يؤدي إلى
تطويل الخصومة، وهذا لا يجوز (1).
__________
= الحديث أخرجه أصحاب السنن عن أبي أمامة وغيره: أبو داود، في البيوع، باب تضمين
العارية (3565)، 3/ 296؛ الترمذي، في البيوع، باب ما جاء في أن العارية مواده
(1265)، 3/ 565؛ ابن ماجه، في الصدقات، باب العارية (2398).
انظر: البدائع 7/ 3420؛ البناية في شرح الهداية 6/ 744.
(1) وعلل الشيرازي ذلك بقوله: "لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي فلم يجز
مع الجهالة كالثمن في البيع". المهذب 1/ 347.
(1/321)
كتاب الكفالة (1)
[مسألة]: 205 - كفالة النفس
الكفالة بالنفس دون المال تصح عندنا (2)، وعند الشافعي: الكفالة بالنفس باطلة (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الكفيل التزم على نفسه إحضار المدعى عليه عند القاضي
وقت حاجة المدعي، فوجب أن يصح قياسا على الكفالة بالضمان (4).
__________
(1) الكفالة: بفتح الكاف - لغة: بمعنى الضم، قال تعالى: {وكفلها زكريا} (آل عمران:
37)، أي ضمها إلى نفسه، ويقال وقد كفل عنه لغريمه بالمال أو بالنفس كفلا، وكفالة
من باب قتل، وتكفل بالشيء: ألزمه نفسه وتحمل به، وتكفل بالدين: التزم به، قال صاحب
المغرب: الكفيل: "الضامن وتركيبه دال على الضم والتضمين".
انظر: تصحيح التنبيه، ص 74؛ المغرب، المصباح؛ التعريفات: (كفل).
وشرعا: "ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة".
وعرف الشربيني كفالة البدن، بأنها: "التزام إحضار المكفول إلى المكفول له
للحاجة إليها". الاختيار 2/ 166؛ مغني المحتاج 2/ 203.
(2) انظر: القدوري، ص 56؛ تحفة الفقهاء 3/ 409؛ الهداية 6/ 723، مع البناية.
(3) ذكر المؤلف: بأن الكفالة بالنفس باطلة عند الشافعية هذا باعتبار قول مرجوح
عندهم، "والمذهب صحة كفالة البدن" كما ذكره الشيرازي والنووي وأجاب
الشيرازي عن قول الإمام الشافعي في الأم - "إن الكفالة بالنفس ضعيفة" -
بقوله: "أراد من جهة القياس".
انظر: الأم 3/ 331؛ المهذب 1/ 350؛ التنبيه، ص 75؛ الوجيز 1/ 184؛ المنهاج، ص 62؛
مغني المحتاج 2/ 203.
(4) استدل الأحناف على صحة الكفالة بالنفس من النقل، بقوله - صلى الله عليه وسلم
-: "الزعيم غارم"، قال المرغيناني: "وهذا يفيد مشروعية الكفالة
بنوعيها" لعدم الفصل بين الكفالة بالمال والكفالة =
(1/322)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن
الكفيل ها هنا التزم شيئا وهو لا يقدر على تسليمه، ربما غاب المدعى عليه أو هرب
فيعجز الكفيل عن إحضار المدعى عليه، فوجب أن لا تصح هذه الكفالة، كما نقول: في
الكفالة في باب القصاص، فإنها لا تصح (1)، كذلك ها هنا (2).
مسألة: 206 - الضمان على الميت
لا يصح الضمان على الميت إذا كان معسرا، عندنا (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
دليلنا في المسألة: بأن الضمان إنما يصح على التضمين بشرط الرجوع إلى من عليه
الحق، أو يرجع إلى تركته إذا مات، وها هنا [كـ]ـــــلا (5) المعنيين معدوم فوجب أن
لا يصح (6).
__________
= بالنفس. قد سبق تخريج الحديث في المسألة (204)، ص 321.
انظر: الهداية 6/ 724، مع شرح البناية.
(1) والمذهب صحة الكفالة في القصاص، قال النووي: "والمذهب صحتها [الكفالة]
ببدن من عليه عقوبة لآدمي كقصاص وحد قذف". المنهاج، ص 62.
(2) واستدل الشيرازي لقول المذهب بما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه، قبل الكفالة،
من أناس من بني حنيفة، ارتدوا ثم تابوا وكفلهم عشائرهم.
انظر بالتفصيل: المهذب 1/ 349، 350؛ مغني المحتاج 2/ 302.
(3) انظر: القدوري، ص 57؛ البدائع 7/ 3412؛ كنز الدقائق 6/ 353، مع البحر الرائق؛
الدر المختار 5/ 312، مع حاشية ابن عابدين.
(4) انظر: الأم 3/ 230؛ المهذب 1/ 346؛ الوجيز 1/ 183.
(5) في الأصل: (كالمعنيين).
(6) ووجه قول أبي حنيفة: "أن الدين عبارة عن الفعل والميت عاجز عن الفعل
فكانت هذه كفالة بدين ساقط فلا تصح".
انظر؛ البدائع 7/ 3412.
(1/323)
احتج الشافعي، في المسألة: "بما
روي أن جنازة أحضرت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام ليصلي عليه،
فقال: هل على صاحبكم دين؟ فقالوا: عليه ديناران، فامتنع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن الصلاة، فأمر أصحابه أن يصلوا عليه، فقام علي رضي الله عنه فقال: ضما
[نه] علي يا رسول الله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى عليه وأما
علي رضي الله عنه فإنما ضمن عن الميت المعسر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جوز
ذلك ولم ينكر عليه، فدل على أنه يجوز (1).
__________
(1) الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي عن أبي سيد الخدري رضي الله عنه من طرق
بأسانيد ضعيفة، كما ذكره ابن حجر في التلخيص، ولكن روى البخاري في صحيحه من حديث
سلمة بن الأكوع نحوه، إلا أن الذي تكفل عن الميت هو أبو قتادة.
انظر: البخاري في الكفالة، باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع (2295)، 4/
474؛ السنن الكبرى، في باب الضمان عن الميت 6/ 75؛ التلخيص الحبير 473.
(1/324)
كتاب الشركة (1)
[مسألة]: 207 - شركة الأبدان
الشركة عندنا بالأبدان (2): جائزة (3)، وعند الشافعي: باطلة (4).
__________
(1) الشركة: بكسر الشين وإسكان الراء - وجمعه: شرك - بكسر الشين وفتح الراء - من
باب تعب، وهي لغة: الاختلاط، وقد تحذف تاؤها فتصير بمعنى النصيب. وشرعا عرفها
الأحناف بأنها: "اختصاص اثنين فأكثر بمحل واحد" وعرفها الرملي من
الشافعية بأنها: "ثبوت الحق شائعا في شيء واحد أو عقد يقتضي ذلك".
وتنقسم الشركة عند الفقهاء إلى قسمين: شركة ملك، وشركة عقد، وزاد بعض المتأخرين
قسما ثالثا وهي: شركة الإباحة، ولم يعدها المتقدمون قسيما فما، فأما شركة الملك
فهي: "أن يملك اثنان أو أكثر عينا كان أو دينا بسبب من أسباب الملك، وذلك:
كالشراء والهبة وقبول الوديعة".
وشركة العقد هي: "عبارة عن العقد بين المتشاركين في الأصل والربح".
والمعنى المقصود للشركة عند إطلاقها في كلام الفقهاء هي: شركة العقد. وتنقسم شركة
العقد إلى: شركة بالأموال، وبالأعمال. والشركة بالأموال أنواع: منها ما هي متفق
عليها بين الذهبيين، كالعنان، ومنها ما هي مختلف فيها: كالمفاوضة، والأبدان، مما
يأتي ذكرها في المسائل الآتية، ولكل نوع شروط، تنظر في مظانها.
انظر: المبسوط 11/ 155؛ تحفة الفقهاء 3/ 10، 11؛ الاختيار 2/ 75؛ شيخ زادة، مجمع
الأنهار شرح ملتقى الأبحر مع بدر المنتقى 1/ 714؛ المنهاج، ص 63، 64؛ الروضة 4/
285؛ نهاية المحتاج 5/ 3.
(2) وتسمى أيضا: بشركة الصنائع، والأعمال، والتقبل.
انظر: المبسوط 11/ 151؛ تحفة الفقهاء 3/ 15.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 107؛ القدوري، ص 53؛ المبسوط 11/ 154؛ تحفة الفقهاء 3/
15؛ الاختيار 2/ 18.
(4) انظر: المهذب 1/ 353؛ الوجيز 1/ 187؛ المنهاج، ص 63.
(1/325)
وصورتها: إذا اشترك رجلان في العمل
والحرفة على أن ما رزقهم الله تعالى، يكون بينهما فهو جائز عندنا، وعند الشافعي:
لا يجوز.
دليلنا في المسألة وهو: أن هذه الشركة متعارفة فيما بين الناس، ولتعارف الناس أثر
في الجواز (1)، كما نقول: في شركة الأعيان (2).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن من شرط صحة الشركة أن يكون المال موجودا حتى
تنعقد عليه الشركة، وها هنا لو اشتركا في العمل، والعمل معدوم، فلا تنعقد عليه
الشركة، كما في شركة الاحتطاب، والاحتشاش عنه (3).
__________
(1) وأضاف السرخسي أيضا بأن: "جواز الشركة باعتبار الوكالة، وتوكيل كل واحد
منهما صاحبه بتقبل العمل صحيح، فكذلك الشركة".
انظر بالتفصيل: المبسوط 11/ 155.
(2) شركة الأعيان: "أن يكون بين الرجلين أو بين الجماعة أرض، أو بهائم ملكوها
بالإرث، أو بالبيع أو الهبة مشاعا". تكملة المجموع، محمد نجيب المطيعي 13/
506.
(3) واستدل الشيرازي لبطلان هذه الشركة بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل".
أخرجه البخاري، في المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب (2561)، 5/ 187؛ مسلم، في
العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1509)، 2/ 141 - ثم قال: "وهذا الشرط ليس في
كتاب الله تعالى، فوجب أن يكون باطلا؛ لأن عمل كل واحد منهما ملك له يختص به، فلم
يجز أن يشاركه الآخر في بدله". المهذب 1/ 353؛ مغني المحتاج 2/ 212.
(1/326)
مسألة: 208 - شركة المفاوضة
شركة المفاوضة (1)، عندنا جائزة (2). وعند الشافعي: غير جائزة (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن شركة المفاوضة مشروعة [متعارفة] (4) فيما بين التجار،
فلو قلنا: إنه لا يجوز، يؤدي إلى سد باب التجارة (5).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن المفاوضة مشتقة من المساواة من جميع الوجوه: في
المال وفي العمل، ولا يمكن مراعاة التسوية من كل وجه، فوجب أن لا تجوز (6).
__________
(1) المفاوضة لغة: المساواة والانتشار، ومنه قولهم: الناس فوضى، أي مستوون، ومنه
قولهم: تفاوض الرجلان في الحديث: إذا شرعا فيه جميعا، ويقال: فاض الماء: إذا
انتشر.
وشرعا: "هي ما تضمنت وكالة وكفالة، وتساويا: مالا وتصرفا ودينا".
انظر: تصحيح التنبيه، ص 75؛ المصباح؛ التعريفات: (شرك)، القدوري، ص 51؛ المبسوط
11/ 152.
(2) ولها شروط لصحتها منها: المساواة في رأس المال، وعدم اختصاص أحدهما بملك مال
يصلح أن يكون رأس ماله في الشركة، والمساواة في الربح، وتصح من غير خلط المالين
على ظاهر الرواية.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 106، 107؛ القدوري، ص 51؛ المبسوط 11/ 103؛ تحفة الفقهاء
3/ 4، 10؛ الهداية 3/ 4.
(3) ولا تصح عند الشافعية من الشركات إلا شركة العنان، وقال الشافعي عن المفاوضة:
"شركة المفاوضة باطل ولا أعرف شيئا من الدنيا يكون باطلا إن لم تكن شركة
المفاوضة باطلا". الأم 1/ 233؛ انظر: مختصر المزني، ص 109؛ المهذب 1/ 353؛
الوجيز 1/ 187؛ المنهاج، ص 63؛ نهاية المحتاج 5/ 4.
(4) في الأصل: (متقاربة).
(5) واستدلوا لها بالاستحسان بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاوضوا فإنه
أعظم للبركة". قال العيني: "هذا غريب ليس له أصلا. انظر الأدلة بالتفصيل
في: المبسوط 11/ 153؛ البناية 6/ 81.
(6) واستدل الشافعية لعدم جواز المفاوضة بحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". ولأنها
شركة معقودة على أن يشارك كل واحد منهما =
(1/327)
مسألة: 209 - شركة العروض
الشركة في العروض (1) جائزة عندنا (2)، وعند الشافعي: لا تجوز (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن العروض مال للتجارة، فتنعقد عليها الشركة كالدراهم
والدنانير (4).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن من شرط صحة الشركة أن يكون في رأس المال نقد،
والعروض لا تسمى نقدا، فلا تنعقد عليها الشركة (5).
__________
= صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث والهبة
... ".
الحديث أخرجه الشيخان: البخاري، في الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد (5281) 9/
406؛ مسلم، في العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق (1504)، 2/ 1141.
انظر: المهذب 1/ 353.
(1) العروض مفرده: العرض بالسكون، وهو كل ما سوى الدراهم والدنانير.
انظر: المصباح، مادة: (عرض).
(2) ولا تجوز الشركة بالعروض عند الأحناف على الإطلاق الذي ذكره المؤلف وإنما تصح
الشركة بها إذا باع أحدهما نصف عروضه بنصف عروض الآخر، وكانت قيمتاهما على السواء،
ثم يعقدان الشركة.
انظر: القدوري، ص 51؛ المبسوط 11/ 160، 161؛ تحفة الفقهاء 3/ 6؛ الاختيار 2/ 78.
(3) ومذهب الشافعية كالأحناف في عدم تصحيح انعقاد الشركة بالعروض إلا بعد بيعها،
كما يقول النووي في المنهاج: "والحيلة في الشركة في العروض أن يبيع كل واحد
بعض عرضه ببعض عرض الآخر، ويأذن له في التصرف فيه بعد التقابض.
انظر: المهذب 1/ 352؛ المنهاج، ص 63، 64.
(4) استدل المؤلف لجوازها مطلقا، كما حكى المسألة، وقد ظهر مما تقدم عدم صحة هذا
الإطلاق في المذهب، وعلل الأحناف لعدم جواز هذا النوع من الشركة، بأن الشركة تقتضي
الوكالة والتوكيل على الوجه الذي تضمنه الشركة لا يصح بالعروض؛ لأنه يؤدي إلى ربح
ما لم يضمن، لتفاوت ثمن عروض كل منهما.
انظر بالتفصيل: المبسوط 11/ 160، 161.
(5) انظر الأدلة: المهذب 1/ 352؛ نهاية المحتاج 5/ 8.
(1/328)
مسألة: 210 - شرط التفاضل في الربح
إذا استويا في المال، وتفاضلا في الربح، فإن عندنا يجوز (1)، وعند الشافعي: لا
يجوز (2).
دليلنا في المسألة؛ لأن الناس متفاوتون في التجارة، فربما إنسان كان أهدى في
التجارة، والربح إنما يستحق بالتجارة، فإذا شرطا أن يكون لأحدهما زيادة، فيجوز على
ما اشترطا (3).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الربح إنما يقصد بين الشركاء باعتبار رأس المال،
فإذا أراد أخذ الربح زيادة على رأس المال، يكون هذا: رشوة، فيكون حراما (4).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 51، 52؛ تحفة الفقهاء 3/ 7؛ الهداية 7/ 3؛ الاختيار 2/ 79.
(2) فإن شرطا الزيادة لأحدهما في الربح فسد العقد.
انظر: المهذب 1/ 353؛ الوجيز 1/ 187؛ المنهاج، ص 64.
(3) واستدل الأحناف أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الربح على ما شرطا،
والوضيعة على قدر المالين". قال الكمال بن الهمام: "ولم يعرف في كتب
الحديث". وقال العيني: "هذا غريب جدا وليس له أصل". وروي في بعض
كتب الأصحاب من قول علي رضي الله عنه كما صرح به البابرتي والاترازي.
انظر: فتح القدير مع العناية 6/ 177؛ البناية 6/ 108.
(4) انظر: المهذب 1/ 353؛ نهاية المحتاج 5/ 12.
(1/329)
كتاب الوكالة (1)
[مسألة]: 211 - التوكيل بغير رضا الخصم
التوكيل (1) بغير رضا الخصم، لا يجوز عندنا (2)، وعند الشافعي: يجوز (3).
__________
(1) الوكالة: بكسر الواو وفتحها: التفويض والتسليم، من وكلت الأمر إليه: أي فوضته
إليه واكتفيت به، وهو من باب: وعد، وتقع الوكالة أيضا على الحفظ ومنه: {حسبنا الله
ونعم الوكيل} (آل عمران: 173)، "وهو اسم للتوكيل: من وكله توكيلا، والتوكيل:
"إظهار العجز والاعتماد على الغير" والاسم: التكلان، والوكيل: القائم
بما فوض إليه، والجمع: الوكلاء، فعيل بمعنى مفعول".
انظر: تصحيح التنبيه، ص 76؛ المصباح، (وكل)، تهذيب الأسماء 4/ 195.
وعرفها العيني شرعا بأنها: "إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوما.
وعرفها الشربيني بأنها: "تفويض شخص ماله وفعله مما يقبل النيابة إلى غيره
ليفعله في حياته".
انظر: البناية 8/ 261؛ مغني المحتاج 2/ 217.
(2) عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز التوكيل بالخصومة بغير رضا الخصم، إلا أن
يكون الموكل مريضا أو غائبا مسافة سفر، وخالفه الصاحبان، وأجاز التوكيل بغير رضا
الخصم مطلقا - والمقصود بالجواز هنا اللزوم، إذ لا خلاف بينهم في الجواز - واختار
السرخسي التفصيل في المسألة بحسب ما تقتضيه المصلحة لكلا الطرفين: حيث يقول:
"والذي نختاره في هذه المسألة، أن القاضي إذا علم من المدعي التعنت في إباء
الوكيل لا يمكنه من ذلك، ويقبل التوكيل من الخصم [من غير رضاه]، وإذا علم من
الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي في التوكيل لا يقبل منه ذلك إلا برضا الخصم، فيصير
إلى دفع الضرر من الجانبين". ونقل الميداني عن الدرر أن "عليه فتوى
المتأخرين".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 108؛ القدوري، ص 54؛ المبسوط 8/ 19؛ تحفة الفقهاء 3/ 383؛
البدائع 7/ 3450؛ البناية 7/ 270؛ اللباب 2/ 139.
(3) انظر: المهذب 1/ 355؛ الوجيز 1/ 188.
(1/330)
دليلنا في المسألة وهو: أن الناس
يتفاوتون في الخصومات، رجل أهدى في الخصومات، [من رجل] فلو قلنا: بأنه يصح بغير
رضا الخصم، يؤدي إلى إلحاق الضرر به (1)، الدليل: ما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: "إنما أنا بشر مثلكم، إنكم لتختصمون لدي. ولعل بعضهم ألحن
بحجته من بعض، فمن قطعت له بحق أخيه بشيء، فإنما أقطع له قطعة من النار" (2).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أنا أجمعنا أنه إذا كان المدعى عليه مريضا أو عارضا
على السفر، يصح الوكيل ها هنا، فلا يشترط رضا الخصم لصحة التوكيل، كذلك ها هنا،
وجب أن يكون كذلك (3).
مسألة: 212 - التوكيل بالتعليق
التوكيل بالتعليق، جائز عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يجوز (5).
__________
(1) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 7/ 19؛ الهداية 7/ 271، مع شرح البناية.
(2) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها مع اختلاف في
اللفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم
أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق
أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار"، وفي رواية:
"انما أنا بشر ... " الحديث. واللفظ لمسلم:
البخاري، في المظالم، باب أتم من خاصم في باطل وهو يعلمه (2458)، 5/ 107؛ مسلم، في
الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713)، 3/ 1337.
(3) وعلل الشيرازي ذلك بقوله: "لأنه توكيل في حقه، فلا يعتبر فيه رضى من
عليه، كالتوكيل في قبض الديون". المهذب 1/ 355.
(4) انظر: المبسوط 19/ 73؛ البدائع 7/ 3445؛ الفتاوى الهندية، عن المحيط السرخسي
3/ 567.
(5) انظر: المهذب 1/ 357، المنهاج، ص 64.
(1/331)
صورته: إذا قال لآخر: إذا جاء رأس
الشهر فأنت وكيلي، عندنا: يصير وكيلا له، وعند الشافعي: لا يصير وكيلا.
[احتج الشافعي، في المسألة] (1): أن التعليق بالشرط إنما يجوز؛ لأنه تصرف في نفسه،
وهذا تصرف في حق الغير، فوجب أن لا يصح تعليقه بشرط: كالبيع والشراء (2).
مسألة: 213 - تفرد أحد الوكيلين بالتصرف
إذا وكل وكيلين في طلاق امرأته، أو بعتاق عبده، فإن عندنا: ينفرد أحد الوكيلين دون
صاحبه (3)، وعند الشافعي: لا ينفرد (4).
دليلنا في المسألة: أن أحد الوكيلين إنما لا يملك الانفراد لمعنى: أنه يحتاج فيه
إلى الرأي والمشورة، فالظاهر: أنه لما وكل وكيلين فقد رضي بمشورتهما، [في] كل أمر
يحتاج فيه إلى الرأي
__________
(1) في الأصل: (دليلنا في المسألة وهو)، والظاهر من السياق أن هذه العبارة ذكرت
سهوا من الناسخ.
(2) كما علل الشيرازي هذا بقوله: "لأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح
تعليقه على شرط، كالبيع والإجازة". المهذب 1/ 357.
لم يذكر المؤلف دليل الحنفية كعادته، وإنما ذكر السرخسي والكاساني علة الجواز
بقولهما: "لأن التوكيل إطلاق التصرفات، والإطلاقات مما يحتمل التعليق
بالشرط".
انظر: المبسوط 19/ 73؛ البدائع 7/ 3446.
(3) ينفرد أحد الوكيلين بالتصرف دون الآخر في حالة توكيلهما: بطلاق زوجته بغير
عوض، أو بعتق عبده بغير عوض، وكذلك: بالخصومة، وبتسليم الهبة، ورد الوديعة، وقضاء
الدين.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 112؛ القدوري، ص 55؛ المبسوط 11/ 19، 12؛ البدائع 7/ 3475؛
الهداية 7/ 346 مع البناية.
(4) انظر: المهذب 1/ 358؛ التنبيه، ص 76؛ الروضة 4/ 321.
(1/332)
والمشورة، وها هنا لا يحتاج إلى الرأي
والمشورة فلذا قلنا: إنه يصح (1).
احتج الشافعي، في المسألة: أنه لما وكل وكيلين، فقد رضي باجتماعهما على هذا
التصرف، فلو قلنا: إنه ينفرد أحدهما دون الآخر، يؤدي إلى إلحاق الضرر بالموكل،
وهذا لا يجوز (2).
مسألة: 214 - توكيل الصبي
توكيل الصبي، يصح عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يصح (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصبي إذا كان عاقلا يهتدي في جميع التصرفات، إلا أنه
يحجر عليه نظرا له، كيلا يؤدي إلى إلحاق الضرر بنفسه، لنقصان حاله، والموكل إذا
وكله مع علمه بنقصان حاله، فقد رضي بإلحاق الضرر بنفسه (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الصبي [ليس] (6) من
__________
(1) لأن التوكيل في هذه التصرفات تعتبر تفويضا للتصرف إلى كل واحد منهما بانفراده،
لكونها تعبير محضا، وعبارة المثنى والواحد سواء. راجع المصادر السابقة للأحناف.
(2) انظر: المهذب 1/ 358.
(3) يصح توكيل الصبي إذا كان يعقل البيع والشراء، ولا تتعلق به الحقوق، وإنما
تتعلق بموكله.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 110؛ القدوري، ص 54؛ البدائع 7/ 3447؛ الهداية 7/ 275، مع
البناية.
(4) انظر: المهذب 1/ 356؛ الوجيز 1/ 89؛ المنهاج، ص 64.
(5) واستدل الأحناف بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل بالتزوج عمر بن أبي
سلمة من أم سلمة رضي الله عنها: "فزوجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكان صبيا".
الحديث أخرجه النسائي، في النكاح، باب النكاح الابن أمه 6/ 81؛ والحاكم في
المستدرك، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" 2/ 178؛ نصب الراية 4/
92.
(6) الأصل في المخطوط بدون (ليس)، وإنما يظهر من سياق العبارة سقوطها.
(1/333)
أهل التصرف في حق نفسه، فوجب أن لا
يكون أهلا للتصرف في حق غيره (1).
مسألة: 215 - إقرار الوكيل بالخصومة
الوكيل بالخصومة، إذا أقر على موكله، فإنه يصح عندنا (2)، وعند الشافعي لا يصح
(3).
دليلنا في المسألة وهو: أن التوكيل بالخصومة وكيل مطلق ألا ترى أنه يملك الإنكار،
فكذلك يملك الإقرار (4).
احتج الشافعي [في المسألة وهو]: أنه لما وكله بالخصومة، فقد وكله بالإنكار؛ لأن
الإنكار من باب الخصومة والمنازعة، وأما الإقرار فمن باب المسالمة، وهو وكله
بالخصومة، فوجب أن لا يملك الوكيل ما هو من نتائج الخصومة (5).
مسألة: 216 - عزل الوكيل في غيبته
إذا عزل الموكل الوكيل في غيبته، عندنا: لا ينعزل ما لم يبلغ الخبر إليه (6)، وعند
الشافعي: ينعزل (7).
__________
(1) انظر الدليل: المهذب 1/ 356.
(2) يصح - يلزم - إقراره على موكله عند القاضي فقط.
انظر: القدوري، ص 55، 56؛ المبسوط 4/ 19، 5؛ تحفة الفقهاء 3/ 383؛ البدائع 7/
3451.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 110؛ المهذب 1/ 358؛ الروضة 4/ 320.
(4) انظر الدليل بالتفصيل: المبسوط 5/ 19.
(5) انظر الدليل: المهذب 1/ 358.
(6) انظر: مختصر الطحاوي، ص 109؛ القدوري، ص 55؛ البسوط 15/ 19؛ تحفة الفقهاء 3/
385؛ الهداية 7/ 376، مع شرح البناية.
(7) ينعزل مطلقا على أظهر قولي الشافعي.
انظر: المهذب 1/ 363 - 364؛ الوجيز 1/ 193؛ الروضة 1/ 330.
(1/334)
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما وكله
بالبيع والشراء، ربما تصرف فيه بحكم الوكالة فلو قلنا: إنه ينعزل في غيبته، ربما
يؤدي إلى إلحاق الضرر بالوكيل (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الموكل لما وكله، فهو الذي أثبت له هذه الولاية
عنه، فوجب أن يملك ذلك عند غيبته (2)، دليله: الإعتاق.
مسألة: 217 - تصرف الوكيل المطلق
الوكيل المطلق، يملك البيع بما عز وهان: وبأي ثمن كان، بالنقد أو النسيئة، هذا عند
أبي حنيفة (3)، و [عند] أبي يوسف
__________
(1) استدل السرخسي بقوله: "بأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم
به كخطاب الشرع" وضرب أمثلة لعدم ثبوت الخطاب قبل علم المخاطب به، كإقرار
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة أهل قباء إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى
الكعبة المشرفة، لعدم علمهم بذلك، وأمثلة أخرى.
انظر: المبسوط 19/ 16.
(2) انظر: المهذب 1/ 364.
وفائدة الخلاف: تظهر فيما إذا تصرف الوكيل بما وكل إليه قبل علمه بعزله عن الوكالة:
فعلى قول الأحناف: يصح تصرفه ويلزم موكله، "لأنه أمر فلا يسقط حكمه قبل العلم
بالنهي كأمر صاحب الشرع" وعلى قول الشافعية - الأظهر -: لا ينفذ تصرفه ولا
يلزم موكله، "لأنه قطع عقدا لا يفتقر إلى رضاه فلم يفتقر إلى علمه
كالطلاق".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 109؛ المهذب 1/ 364.
(3) الوكيل المطلق في البيع، يراعي في تصرفه الإطلاق عند أبي حنيفة، خلافا
للصاحبين، فإنه لا يجوز عندهما: بيع الوكيل بنقصان فاحش بحيث لايحتمل الناس بمثل
هذا النقصان، ولا يجوز أيضا بيعه بالعرض، ونقل الكاساني رواية للإمام عن الحسن مثل
قولهما.
قال في البزازية: وعليه الفتوى. ولكن الأرجح والمعول عليه هو قول الإمام عند
المتأخرين، "وعليه أصحاب المتون الموضوعة لنقل المذهب بما هو ظاهر
الرواية"، والبيع بالنسيئة إنما يجوز إذا لم يكن في لفظ الموكل ما يدل على
البيع بالنقد، كأن يقول: "بعه واقض ديني، أو بعه فإني أحتاج إلى نفقة عيالي،
ففي هذه الصورة لا يجوز بيعه نسيئة بالاتفاق"، وعليه الفتوى. =
(1/335)
ومحمد والشافعي رحمهم الله: لا يملك
إلا بمثل ثمنه بالنقد، ولو باعه بالنسيئة لا يجوز (1).
دليل أبي حنيفة، وهو: أنه لما وكله بالبيع مطلقا، جعل البيع مملوكا [له]، ولو باع
ما يساوي مائة بعشرة، فقد تصرف فيما هومملوك له؛ لأن البيع بعشرة يسمى بيعا،
والبيع بالنسيئة يسمى بيعا، وهو وكيل بالبيع، وقد أتى به، فوجب أن يصح (2).
ودليلهم في المسألة وهو: أنه وكله بالبيع، فقد وكله بشيء لا يلحق فيه الضرر، فوجب
أن يتقيد هذا التوكيل بالعرف؛ لأن الظاهر من حال الموكل ما رضي بيعه إلا بمثل
الثمن. مثله: كما لو وكل إنسانا بشراء الخضر، فإنه يتقيد هذا التوكيل بالصيف، ولو
وكله بشراء الفحم مطلقا، لتقيد بالشتاء، وما كان ذلك إلا لاعتبار العرف، فكذلك ها
هنا (3).
__________
= انظر: مختصر الطحاوي، ص 111، 112؛ القدوري، ص 55؛ المبسوط 19/ 36؛ البدائع 7/
3463؛ الهداية 7/ 327، مع شرح البناية؛ اللباب 2/ 147؛ الدر المختار 5/ 522، مع
حاشية ابن عابدين.
(1) انظر: مختصر المزني، ص 111؛ المهذب 1/ 361؛ الوجيز 1/ 191.
(2) انظر أدلة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بالتفصيل: المبسوط 19/ 36، 37؛
والبناية في شرح الهداية 7/ 329.
(3) راجع أدلة صاحبي أبي حنيفة رحمهم الله في مصادر الأحناف السابقة.
وعلل الشيرازي لعدم الجواز بالإطلاق، بقوله: "لأنه منهي عن الإضرار بالموكل،
مأمور بالنصح له، وفي النقصان عن ثمن المثل في البيع إضرار وترك النصح؛ لأن العرف
في البيع: ثمن المثل، فحمل إطلاق الإذن عليه". المهذب 1/ 361.
(1/336)
كتاب الإقرار (1)
[مسألة]: 218 - إقرار الصبي
إقرار الصبى يصح عندنا: إذا كان [بإذن] (2) وليه (3) وعند الشافعي: لا يصح (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الصبي العاقل مع كونه أهلا للتصرف، يكون محجورا عليه
بالتصرف، بنقصان حاله، ولعدم هدايته إلى التصرف، والولي لما أذن له، فقد علم
هدايته إلى التصرف، فإذا صح إذنه في التصرف، وجب أن يصح إقراره؛ لأن التصرف لا
يقوم إلا بالإقرار، فوجب أن يصح: كالبالغ (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الصبى ليس بأهل
__________
(1) الإقرار لغة: الاعتراف والإثبات، يقال: قر الشيء: إذا ثبت، وأقر بالشيء إذا
اعترف به. انظر: المغرب؛ مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (قر).
وشرعا هو: "إخبار عن ثبوت الحق للغير على نفسه".
انظر: البناية في شرح الهداية 7/ 536؛ مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2/ 288؛ الدر
المختار مع حاشية ابن عابدين 5/ 588؛ نهاية المحتاج 5/ 64.
(2) وفي الأصل: "إذا كان بوليه".
(3) لا يصح إقرار الصبي إلا إذا كان مأذونا له في التجارة.
انظر: المبسوط 17/ 199؛ الهداية 3/ 180؛ اللباب في شرح الكتاب 2/ 76.
(4) انظر: الأم 3/ 235؛ المهذب 2/ 344؛ التنبيه، ص 164؛ الوجيز 1/ 194؛ المنهاج، ص
66.
(5) انظر: المبسوط 17/ 199، 200؛ الهداية مع شرحها: البناية 7/ 539.
(1/337)
للإقرار في حق نفسه قبل إذن الولي؛
لأنه إنما لم يصح لعدم أهليته، والإذن لا يصيره أهلا كما قبل العقد (1).
مسألة: 219 - ما يقبل في الإقرار بمال عظيم
إذا قال: لفلان علي مال كبير أو عظيم أو جليل، فعندنا: لا يقبل أقل من عشرة (2)،
وعند الشافعي: يرجع إلى تفسيره، فإذا فسره بما يتقوم، قبل منه (3).
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما قال: علي مال عظيم أو جليل، فقد أقر بمال له خطر
عند الناس، فلا يقبل أقل من عشرة؛ لأن العشرة مال له عزة عند الناس، ولهذا جعلنا
المهر مقدرا بعشرة،
__________
(1) واستدل الشيرازي على عدم صحة إقرار الصبي بحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن
الصبي حتى يبلغ ... " الحديث، وقد سبق تخريجه في المسألة (46)، ص 140. ثم
علله بقوله: "ولأنه التزام حق بالقول، فلم يصح من الصبي كالبيع".
انظر: الأم 3/ 235؛ والمهذب 2/ 344.
(2) إذا أقر بمال كثير أوعظيم فلا يصدق في أقل من عشرة دراهم عند أبي حنيفة وأما
عند الصاحبين فلا يصدق في أقل من مائتي درهم، وروى عن الإمام مثل قولهما. ويوجه
قول الإمام بأنه يبني على حال المقر في العسر واليسر؛ لأن القيل عند الفقير عظيم،
وأضعاف ذلك عند الغني ليس بعظيم وذكر الزيلعي: أن التفصيل في قوله هو الأصح،
والمعتمد في المذهب هو قول الإمام.
انظر: تحفة الفقهاء 3/ 325؛ الهداية مع شرح البناية 7/ 542، 543؛ الدر المختار مع
حاشية ابن عابدين 5/ 591، 592.
(3) يقبل تفسير المقر مطلقا في القليل والكثير. مع يمينه عند الشافعي كما ذكره في
الأم، وفي بقية كتب الشافعية لم تقيد الإطلاق باليمين.
انظر: الأم 3/ 237؛ المهذب 2/ 348؛ التنبيه، ص 164؛ الوجيز 1/ 197، المنهاج، ص 67؛
نهاية المحتاج 5/ 88.
(1/338)
ونصاب السرقة أيضا: عشرة، فإذا فسره
باقل من عشرة، فقد أقر بمال، وليس له خطر عند الناس، فوجب أن لا يصح (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أنه لما قال: علي مال كبير، فقد أجمل (2) فكان
البيان إليه، كما قلنا: في الطلاق والعتاق إذا قال إحدى نسائي طالق، أو إحدى إمائي
حرة، فإنه أجمل الطلاق والعتاق، فيرجع إلى بيانه؛ لأن المجمل هو ومن أجمل فعليه
البيان فكذلك ها هنا (3).
مسألة: 220 - تملك الظرف حال الإقرار بالمظروف
إذا قال: لفلان علي ثوب في منديل، فإن عندنا: المنديل يدخل تبعا للثوب (4)، وعند
الشافعي: لا يدخل (5).
دليلنا في المسألة؛ لأنه لما أقر بثوب في منديل، فالظاهر: أن المنديل لصاحب الثوب،
باعتبار العرف والعادة، فوجب أن يدخل تحت الإقرار، كما: لو أقر بثوبين (6).
__________
(1) "ولأن العشرة أقصى ما ينتهي إليه اسم الجمع".
وعلل الصاحبان قولهما: "لأنه أقر بمال موصوف، فلا يجوز الغاء الوصف، والنصاب
مال عظيم، حثى اعتبر صاحبه غنيا به، والغني عظيم عند الناس". راجع الأدلة في
المراجع السابقة للأحناف.
(2) والإجمال: "إيراد الكلام على وجه مبهم" التعريفات، (باب الألف).
(3) قال الشيرازي: "ولأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو
دونه".
راجع الدليل بالتفصيل: الأم 3/ 237؛ المهذب 2/ 348؛ مغني المحتاج 2/ 248.
(4) انظر: القدوري، ص 44؛ الهداية وشروحها: العناية مع تكملة فتح القدير 6/ 301؛
البناية 7/ 556.
(5) انظر: المهذب 2/ 351؛ التنبيه، ص 165؛ الوجيز 1/ 198؛ المنهاج، ص 68.
(6) انظر الدليل في المصادر السابقة للأحناف.
(1/339)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن هذا
الرجل أقر بثوب، إلا أنه حكى هذا الثوب في ظرف ووعاء، وكونه في ظرف ووعاء، لا يكون
دليلا على أن الظرف يكون لصاحب الثوب، كما: لو أقر بالخل وهو في دن، فإن الإقرار
بالخل، لا يكون إقرارا بالظرف، فكذلك ها هنا (1).
مسألة: 221 - قضاء الحقوق لغرماء الصحة والمرض
غرماء الصحة، يقدمون على غرماء المرض، عندنا (2) الشافعي يستويان (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الغريم الذي ثبت حقه في حالة الصحة، فقد تعلق حقه في
جميع المال، والذي ثبت دينه في المرض، تعلق حقه في ثلث المال، فكان غرماء الصحة،
الذي تعلق حقه في جميع المال، أولى أن تقدم (4).
احتج الشافعي، في المسألة: أنه قد استويا في سبب الاستحقاق، فوجب أن يستويا في
الاستحقاق، الدليل عليه: إذا ثبت حقهما في حال المرض، أو في حال الصحة (5).
__________
(1) راجع الدليل: المهذب 2/ 351.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 186؛ القدوري، ص 45؛ المبسوط 18/ 26؛ تحفة الفقهاء 3/
334؛ الهداية 3/ 188، 189.
(3) انظر: المهذب 2/ 345؛ المنهاج، ص 67؛ نهاية المحتاج 5/ 70.
(4) راجع الدليل بالتفصيل: المبسوط 18/ 26؛ البدائع 10/ 4597؛ الهداية وشروحها:
العناية مع تكملة فتح القدير 8/ 383؛ البناية 7/ 588.
(5) وعلل الشيرازي لاستواء الحالتين بقوله: "لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس
المال، ولم يقدم أحدهما على الآخر، كما لو أقر لهما في حال الصحة". المهذب 2/
345.
(1/340)
مسألة: 222 - الإقرار بالدين على والده
إذا ادعى على الميت دينا، فأقر أحد الورثة بهذا الدين على أبيه، فإن عندنا: يجب
أداؤه في حصة نفسه في نصيبه (1)، وعند الشافعي: يلزم على الكل (2).
دليلنا في ذلك؛ لأن إقرار الإنسان إنما يصح في حق نفسه؛ لأنه لا تهمة فيه، وأما في
حق غيره فإنه متهم، فوجب أن لا يصح (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أنه لما أقر بدين على أبيه، فالظاهر: أنه إنما أراد
بهذا الإقرار تخليص رقبة والده من هذا الدين، فوجب أن يقبل منه: كالمورث (4).
__________
(1) انظر: المبسوط 18/ 48؛ الهداية 3/ 192.
(2) المتبادر إلى الذهن من قول المصنف: (يلزم على الكل) أي يلزم على مجموع الورثة
تسديد الدين، ولم أعثر على هذا القول في كتب المذهب، وفي المسألة قولان مشهوران:
القديم: أن على المقر قضاء جمغ الدين من حصته من التركة إن وفى به، وإلا فيصرف جمغ
حصته إليه، والجديد: أنه لا يلزمه إلا بقسط حصته من التركة.
انظر: المهذب 2/ 355؛ التنبيه، ص 166؛ الروضة 4/ 411.
(3) انظر: المبسوط 18/ 48؛ الهداية وشروحها: العناية مع تكملة فتح القدير 8/ 401؛
البناية 7/ 601.
(4) وعلل الشيرازي القول الجديد بقوله: "لأنه لو لزمه بالإقرار جميع الدين لم
تقبل شهادته بالدين؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضررا والله أعلم".
المهذب 2/ 355.
(1/341)
كتاب العارية (1)
[مسألة]: 223 - حكم العارية
العارية: أمانة عندنا (2)، وعند الشافعي: مضمونة (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس
على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان" (4)، المغل
(5): هو الخيانة، ولم توجد الخيانة ها هنا،
__________
(1) العارية: بالتشديد والتخفيف، وجمعها: العواري، قال الأزهري: "هي مشتقة من
عار الرجل إذا جاء وذهب، وهي لغة: إعارة الشيء.
انظر: المغرب، مختار الصحاح، مادة: (عور)، تصحيح التنبيه، ص 78.
واختلف الفقهاء في تعريفها شرعا بحسب اختلاف ترتيب آثارها: فعرفها القدوري وغيره
من الأحناف، بأنها: "تمليك المنافع بغير عوض" وعرفها الشربيني من
الشافعية، بأنها: "إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به، مع بقاء عينه".
انظر: القدوري، ص 63؛ المنهاج، ص 69؛ مغني الحتاج، 2/ 263.
(2) العارية أمانة عند المستعير لدى الأحناف، ما لم يتعد فيها المستعير، فإن تعدى
فيضمن قيمتها ساعة التعدي. انظر: مختصر الطحاوي، ص 116؛ القدوري، ص 63؛ المبسوط
11/ 134؛ البدائع 8/ 3904.
(3) انظر: الأم 3/ 344؛ المهذب 1/ 370؛ الوجيز 1/ 204؛ المنهاج، ص 69.
(4) الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعف الدارقطني والبيهقي الرواية المرفوعة وإنما
صححا وقفه على شريح القاضي، وقال الدارقطني: "عمرو وعبيدة [روايان من السند]
ضعيفان، وإنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع".
انظر: سنن الدراقطني 3/ 41؛ السنن الكبرى 6/ 91؛ التلخيص الحبير 3/ 52.
(5) المغل: من أغل بالألف، يقال: أغل الرجل: خان في المغنم وغيره.
انظر: مختار الصحاح، والمصباح المنير، مادة: (غل).
(1/342)
فلا يكون الضمان عليه (1).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه استعار
أدرعا من صفوان، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارية مضمونة مؤداة"
(2)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، جعل العارية مضمونة مردودة، وأنتم تجعلونها
أمانة، فوجب أن لا تصح (3).
مسألة: 224 - إعارة المستعار لطرف ثالث
المستعير يجوز له أن يعير (4) غيره عندنا (5)، وعند الشافعي: لا يجوز (6).
دليلنا في المسألة وهو: أن المعير لما أعار مطلقا، فقد رضي بانتفاعه، فالإنسان إذا
استعار شيئا، إنما ينتفع به وينتفع به الغير، فوجب أن يملك ذلك، كما لو أذن له
(7).
__________
(1) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 11/ 351؛ البدائع 8/ 3904.
(2) الحديث أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم، وقال: "وله شاهد صحيح عن ابن عباس
رضي الله عهما"، وساق الحديث، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم".
والدراقطني والبيهقي في سننهما.
انظر: أبي داود، في البيوع، باب تضمين العارية (3562)، 3/ 296؛ المستدرك 2/ 47؛
وسنن الدارقطني 3/ 39، 40؛ السنن الكبرى 6/ 88؛ نصب الراية 6/ 114؛ التلخيص الحبير
3/ 52.
(3) راجع الأدلة بالتفصيل: المهذب 1/ 370.
(4) في الأصل: "أن يعير من غيره".
(5) وللمستعير أن يعيرها غيره، إذا استعارها مطلقا، وكان مما لا يختلف باختلاف
الاستعمال.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 116؛ القدوري، ص 63؛ المبسوط 11/ 140؛ البدائع 8/ 3901؛
الهداية 7/ 781، مع شرح البناية.
(6) انظر: المهذب 1/ 371؛ المنهاج، ص 69؛ نهاية المحتاج 5/ 120.
(7) انظر الدليل: المبسوط 11/ 140؛ الهداية وشروحها: العناية مع تكملة فتح القدير
9/ 11؛ شرح البناية 7/ 782.
(1/343)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الناس
يتفاوتون في الاستعمال للشيء، أو في ركوبه خصوصا، وهو إنما رضي بركوبه واستعماله
إذا لم يكن حيوانا، فوجب أن لا يملك المستعير أن يعير لآخر، كما نقول في الإجارة،
أن من استأجر من آخر دابة، فأراد أن يؤاجر من غيره (1)، [أو] أودع عند إنسان شيئا
فالمودع أراد أن يودع من غيره، فإنه لا يملك ذلك، كذلك ها هنا (2).
مسألة: 225 - رد العارية إلى مكانها المألوف
إذا استعار دابة من إنسان فردها إلى اصطبل مالكها، ولم يعلمه بذلك، فإذا تلفت لا
تكون من ضمان المستعير عندنا (3)، وعند الشافعي: تكون في ضمانه (4).
دليلنا في المسألة؛ لأن الإنسان إذا استعار دابة، إنما يردها في الموضع الذي
استعار، إنما تؤخذ من الاصطبل، ألا ترى أنه لو ردها إلى يد عبده، أو إلى تلاميذه
فهلكت. أنه لا ضمان عليه؛ لأن ردها إلى يد عبده أو إلى تلاميذه كردها إلى مالكها،
كذلك
__________
(1) أراد المؤلف أن ينظر بين عدم جواز إعارة المستعير العين لطرف ثالث بالإجارة،
(حيث لا يجوز تأجير العين لطرف ثالث) في حين أن الراجح جواز تأجير المستأجر العين
لآخر؛ لأنه يملك النافع، "ولهذا يملك أن يأخذ عليه العوض، فملك نقله إلى
غيره، كالمشتري للطعام"، بخلاف المستعير فإنه لا يملك النافع وإنما له
الإباحة بالانتفاع - عند الشافعية - "فلا يملك بها الإباحة لغيره .. ولهذا لا
يملك أخذ العوض عليه، فلا يملك نقله إلى غيره كمن قدم إليه الطعام". ويصح
تنظير المؤلف الإعارة على الإجارة، على قول مرجوح لدى الشافعية، كما يقول
الشيرازي: "ويجوز أن يعير غيره كما يجوز للمستأجر أن يؤجر".
انظر المهذب 1/ 371؛ المنهاج، ص 77.
(2) تنظيره الإعارة بالوديعة صحيح، بجامع أن كلا منهما لا يجوز نقله إلى غيرهما.
انظر: المهذب 1/ 368؛ المنهاج، ص 92.
(3) انظر: القدوري، ص 63؛ المبسوط 11/ 139؛ البدائع 8/ 3907.
(4) انظر: المهذب 1/ 371.
(1/344)
ها هنا ردها إلى اصطبل مالكها كردها
إلى مالكها، ولو ردها إلى مالكها لا ضمان عليه، فكذلك ها هنا (1).
احتج الشافعي وقال: إن فعل الحيوان غير معتبر؛ لأن كونه محفوظا لا يكون مضافا إلى
فعل الدابة، وإنما يكون مضافا إلى صاحب الدابة، فإذا ردها إلى الاصطبل ولم يعلمه،
فقد ضيعها، فتكون في ضمانه، كما لو لم يردها (2).
__________
(1) انظر الدليل: المبسوط 11/ 140؛ البدائع 8/ 3907.
(2) واحتج الشيرازي لتضمين المستعير بنحو من هذا: حيث يقول: "وتجب ردها إلى
المعير أو إلى وكيله، فإن ردها إلى المكان الذي أخذها منه لم يبرأ من
الضمان"، "لأن ما وجب رده إلى المالك أو إلى وكيله كالمغصوب والمسروق".
المهذب 1/ 371.
(1/345)
كتاب الغصب (1)
[مسألة]: 226 - ملكية المغصوب بعد الجناية عليه وأداء قيمته كاملا
إذا غصب عبدا، ثم فقأ عينيه، أو قطع يديه، يلزمه تمام القيمة، [و] إذا أدى قيمته
يصير العبد مملوكا للغاصب، عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يصير مالكا له (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن الغاصب لما أدى قيمة العبد بتمامه، وجب أن يكون المحل
مملوكا له، كما لو اشترى (4).
احتج الشافعي في المسألة، بأن قال: إن ما أداه ليس ببدل عن العين، وإنما هو بدل عن
جنايته وهو: تلف العينين وقطع
__________
(1) الغصب لغة: أخذ الشيء ظلما وقهرا، وهو مصدر غصبته أغصبه غصبا والشيء مغصوب
وغصب، وهو من باب ضرب.
انظر: الصحاح، المغرب، المصباح، مادة: (غصب)، تصحيح التنبيه، ص 78.
وشرعا: عرفه الكاساني عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بأنه: "إزالة يد
المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال" وعرفه
النووي من الشافعية هو: "الاستيلاء على حق الغير عدوانا".
وحدث الاختلاف في تعريف الغصب بين المذهبين تبعا لاختلافهم في بعض مسائل الغصب،
كما سيأتي (234).
انظر: البدائع 9/ 4403؛ الاختيار 3/ 58؛ المنهاج، ص 70.
(2) انظر: البدائع 9/ 4417.
(3) انظر: المهذب 1/ 376.
(4) المصدر السابق للأحناف.
(1/346)
اليدين، فبقيت العين مملوكا لصاحبه على
حاله، كما لو قطع إحدى اليدين (1) وأدى الأرش، فإن العين لا تكون مملوكا للجاني.
مسألة: 227 - ملكية المغصوب بعد أداء الغاصب
إذا غصب عبدا فابق من يد الغاصب، فأخذ المغصوب منه القيمة، ثم عاد العبد من
[إباقة] (2)، فإنه يعود إلى ملك الغاصب عندنا (3)، وعند الشافعي: يعود إلى ملك
المالك (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن القيمة التي أخذها المغصوب منه صار مملوكا له ولا يمكن
إثبات الملك له في البدل؛ [لأنه] (5) يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل
واحد، وهذا لا يجوز (6).
احتج الشافعي وهو: أن هذا الضمان ليس بضمان عين، وإنما هو ضمان حيلولة؛ لأن الغاصب
حال بينه وبين المال، فيحال أيضا البدل عن ملكه، جزاء لما فعله من الغصب، فإذا عاد
وجب أن يعود إلى ملك المالك؛ لأن ملكه لا يزول إلا برضاه، ولم يوجد ها هنا الرضا،
فلا يجوز (7).
__________
(1) المصدر السابق للشافعية.
(2) في الأصل: (أبقه).
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 118؛ القدوري، ص 62؛ تحفة الفقهاء 3/ 139؛ البدائع 9/
4425؛ الهداية 8/ 403، مع شرح البناية.
(4) انظر: الأم 3/ 251؛ المهذب 1/ 375؛ الوجيز 9/ 201.
(5) زيدت ما بين القوسين لتستقيم العبارة.
(6) انظر الدليل بالتفصيل: البدائع 9/ 4425؛ شرح البناية على الهداية 8/ 400 وما
بعدها.
(7) "لأنه لا يصح تملكه بالبيع، فلا يملك بالتضمين كالتالف".
انظر الدليل: المهذب 1/ 375؛ الوجيز 1/ 209.
(1/347)
مسألة: 228 - إراقة المسلم خمر الذمي
المسلم إذا أراق خمر ذمي، عندنا: يضمن قيمته (1)، وعند الشافعي: لا يضمن (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الخمر في حق الذمي كالخل في حق المسلم، فلو أراق المسلم
خل المسلم وجب عليه الضمان، فكذلك إذا أراق خمر الذمي؛ لأن خطاب حرمة الخمر خاص في
حق المسلم، لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (3) علمنا بهذا أن الخطاب خاص في حق
المسلم، بقي الخمر حلالا في حق الكافر (4).
احتج الشافعي، وقال: بأن الخمر ليس بمال، فلا يضمن متلفه، كما لو أتلفه في حق
المسلم (5)، وهذا وإن اختلفنا أن خطاب العبادات هل تثبت في حق الكافر، ولا خلاف أن
المحرمات يخاطب بها في حق المسلم والكافر (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 119؛ القدوري، ص 62؛ المبسوط 11/ 53؛ تحفة الفقهاء 3/
137؛ البدائع 9/ 4413؛ الهداية 8/ 422، مع البناية.
(2) انظر: مختصر المزني، ص 119؛ المهذب 1/ 381؛ الوجيز 8/ 201؛ المنهاج، ص 71.
(3) سورة المائدة: آية 90.
(4) انظر الأدلة بالتفصيل: البدائع 9/ 4413؛ وشرح البناية على الهداية 8/ 423،
424.
(5) راجع: مختصر المزني، ص 119.
(6) اتفق العلماء على أن الكفار مخاطبون بالإيمان، وبالمشروع من العقويات
والمعاملات، وكذا الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة. وإنما وقع
الخلاف: هل الخطاب بفروع الشرائع يتناولهم في وجوب الأداء في أحكام الدنيا أم لا؟
ذهب الجمهور أنه يتناولهم، وهو ظاهر مذهب الشافعي كما ذكر إمام الحرمين في
البرهان، ووافقهم على ذلك العراقيون من مشائخ الأحناف، ومشائخ سمرقند على الاعتقاد
فقط.
والمشهور عن أكثر الحنفية: أنهم ليسوا بمخاطبين، وهو قول للشافعي واختاره أبو حامد
=
(1/348)
مسألة: 229 - ملكية المغصوب إذا دخل في
بناء الغاصب
إذا غصب ساجة (1) وأدخلها في بنائه، فإن عندنا: ينقطع حق المالك عنه ويأخذ القيمة
(2)، وعند الشافعي: له أن يقلع البناء ويأخذ ساجته (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن المغصوب منه [لو] (4) أثبتنا له حق نقص البناء يفوت حق
الغاصب في البناء لا إلى بدل، فلو قلنا: بأنه ينقطع حق المغصوب منه في الساجة يفوت
حقه بالبدل وهو: القيمة، فكان مراعاة حق الغاصب الذي يفوته من الملك لا إلى بدل،
أولى من مراعاة حق المغصوب منه إلى بدل (5)، ألا ترى أنه لو غصب أبريسما وخاط به
بطن عبده أو بطن دابته، فإنه ينقطع
__________
= الاسفرائيني من الشافعية، وفصل بعض من العلماء بين المأمورات والمنهيات، وقالوا:
هم مخاطبون بالمنهيات كالزنا والقتل دون المأمورات كالصلاة والصوم. ونقل هذا
التفصل الفتوحي "رواية عن الإمام أحمد". وقال ابن قدامة في الروضة:
"وهذا قول أكثر أصحاب الرأي".
وقال الدكتور حسن هيتو في تعليقه على التبصرة: "وهو وجه لبعض أصحاب
الشافعي". ومن ثم يظهر: أن نقل المؤلف: بعدم الخلاف في خطاب المحرمات بين
المسلم والكافر، غير سليم. إلا إذا أراد المحرمات المنصوصة والمتفق على تحريمها
للجميع.
انظر: التبصرة، ص 80، 81؛ الجويني، البرهان في أصول الفقه، ص 107؛ روضة الناظر، ص
27؛ شرح الكوكب المنير 4/ 501؛ نهاية السول 1/ 195؛ وراجع المسألة (70)، ص 167،
168.
(1) الساجة: خشبة صلبة قوية تجلب من بلاد الهند، وقيل: خشبة منحوته مهيأة للأساس.
انظر: البناية 8/ 378.
(2) انظر: القدوري، ص 62؛ المبسوط 1/ 931؛ البدائع 9/ 4417؛ الهداية 8/ 379، مع
شرح البناية.
(3) انظر: الأم 3/ 255؛ المهذب 1/ 379، 380؛ الوجيز 3/ 211.
(4) في الأصل: (لما).
(5) انظر الدليل بالتفصيل: المبسوط 11/ 93، 94؛ البدائع 9/ 4417؛ الهداية مع شرح
البناية 8/ 379.
(1/349)
حق المالك بلا خلاف (1)، لحرمة النفس،
وحرمة المال كحرمة النفس، وجب أن يراعى.
احتج الشافعي، في المسألة بدليل: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من وجد عين ماله فهو أحق به" (2)، وهذا واجد لعين ماله، فيكون أحق به،
كما لو غصب ساجة وبنى عليها، فإنه يثبت له أن يقلع البناء ويأخذ ساجته، فكذلك ها
هنا (3).
مسألة: 230 - الضمان بالنسب
إذا كان في القفص طير مملوك لإنسان، أو دابة في الاصطبل، ففتح باب القفص أو باب
الاصطبل، فطار الطير أو خرجت الدابة، فإن عندنا: لا ضمان عليه (4). وعند الشافعي:
إن وقف ساعة ثم طار لا ضمان عليه، وإن طار عقيب الفتح أو خرجت الدابة عقيب فتح
الباب فإنه يضمن (5).
دليلنا في المسألة وهو: أن فعل الحيوان فعل غير معتبر؛ لأن الإنسان إنما يضمن
بالجناية وبالغصب إذا باشر يده، وها هنا ليس [لـ]ــــــــــفتح الباب فعل في
الطير؛ لأنه طار بنفسه، فلا يكون مضمونا عليه، كما لو أمسك بالراعي، فتلقت
الأغنام، فلا ضمان عليه، فكذلك ها هنا (6).
__________
(1) راجع: مصادر المذهبين في هامش (2، 3)، ص 349 من هذه المسألة.
(2) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "من أدرك ماله
بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره". وللحديث طرق وألفاظ
مختلفة: البخاري، في الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض
والوديعة فهو أحق به (2402)، 5/ 62؛ مسلم، في المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند
المشتري وقد أفلس فله الرجوع (1559)، 3/ 1193؛ التلخيص الحبير 3/ 38، 39.
(3) انظر: المهذب 1/ 379.
(4) انظر: البدائع 9/ 4459.
(5) انظر: مختصر المزني، ص 118؛ المهذب 1/ 381؛ الوجيز 6/ 201؛ المنهاج، ص 70.
(6) انظر الدليل: البدائع 9/ 4457.
(1/350)
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العجماء جبار" (1) أي فعله،
فإذا جعلنا فعله هدرا، صار الفاتح متلفا لهذا المال، فوجب أن يكون مضمونا عليه،
كما لو أخرجه (2).
مسألة: 231 - ضمان منافع الغصب
منافع الغصب، عندنا: لا تكون مضمونة عليه (3)، وعند الشافعي: تكون مضمونة عليه
(4).
وصورته: إذا غصب دابة أو عبدا، فاستخدمه أو آجره حتى استوفى منافعه، فإن عندنا:
هذه المنافع لا تكون مضمونة على الغاصب، والعين مضمونة بما فيه بلا خلاف.
دليلنا في المسألة وهو: أن الدراهم والدنانير جوهر يبقى زمانين، والمنافع عرض لا
يبقى زمانين، وما يبقى زمانين [خير] (5)
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري في الزكاة، باب
في الركاز الخمس (1499)، 3/ 364؛ مسلم، في الحدود، باب جرح العجماء والمعدن والبئر
جبار (1710)، 3/ 1334.
والعجماء: هي كل الحيوان سوى الآدمي "وسميت البهيمة عجماء؛ لأنها لا
تتكلم"، والجبار: أي الهدر. والمراد هنا بإتلاف العجماء، إذا أتلفت شيئا
بالنهار، ولم يكن معها أحد.
انظر: سنن أبي داود 4/ 196؛ فتح الباري 3/ 365.
(2) راجع: المهذب 1/ 381، 382.
(3) "لا يضمن الغاصب منافع ما غصبه، إلا أن ينقص باستعماله فيغرم
النقصان" ولكنه يأثم ويؤدب على فعله، "وهذا فيما عدا ثلاثة مواضع، فيجب
فيها أجر المثل على اختيار المتأخرين وعليه الفتوى، وهي: أن يكون وقفا، أو ليتيم،
أو معدا للاستغلال".
انظر: القدوري، ص 62؛ المبسوط 11/ 78؛ البدائع 9/ 4409؛ الدر المختار 6/ 186، مع
حاشية ابن عابدين؛ اللباب في شرح الكتاب 2/ 195.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 117؛ المهذب 1/ 374؛ الوجيز 1/ 214؛ المنهاج، ص 71.
(5) في الأصل: (غير).
(1/351)
من الذي لا يبقى زمانين، ولو أوجبنا
الدراهم والدنانير التي تبقى زما [نين] (1) بمقابلة المنافع التي لا تبقى زمانين،
لا يكون هذا إنصافا (2)؛ لأن الشرع قد أمر بالمماثلة في باب العبد، وهو قوله
تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (3).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن الغاصب في إمساك العبد فوت على المالك منافعه، لولا
إمساك الغاصب هذا العبد لحصل للمالك منافعه، فالغاصب هو الذي فوت هذه المنافع،
فوجب أن يضمن كما لو قطع جزءا منه (4).
مسألة: 232 - حكم ولد المغصوبة
ولد المغصوبة، أمانة عندنا (5)، وعند الشافعي: مضمونة (6).
__________
(1) في الأصل: (زماننا).
(2) واستدل السرخسي بقضاء عمرو علي رضي الله عنهما بأنهما لم يوجبا على المغرور -
في الجارية - بقيمة الخدمة مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها.
انظر الدليل: المبسوط 11/ 79؛ البدائع 9/ 4409.
(3) سورة الشورى: آية 40.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 117.
سبب الخلاف في المسألة هو: أن المنافع عند الشافعية: مال متقوم، "لأنه تعرف
مالية الشيء بالتمول، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة".
والأحناف: اعتبروا المنفعة أعراض؛ لأن صفة المالية إنما تثبت بالتمول، والتمول:
صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة، والمنافع لا تبقى وقتين؛ لأنها اعراض تخرج من
حيز العدم إلى حيز الوجود وتتلاشى، فلا تتصور فيها التمول.
انظر: المبسوط 11/ 78، 79؛ البدائع 9/ 4409؛ تخريج الفروع على الأصول، ص 225، 226.
(5) انظر: القدوري، ص 62؛ المبسوط 11/ 71، 72؛ تحفة الفقهاء 3/ 127 البدائع 9/
4404؛ الهداية 3/ 19.
(6) انظر: المهذب 1/ 377؛ الروضة 5/ 7، 27.
(1/352)
وصورته إذا غصب جارية، فولدت في يد
الغاصب، ثم هلك الولد والأم جميعا. عندنا: يلزمه ضمان الأم دون الولد، وعند
الشافعي: يضمن الأم والولد جميعا.
دليلنا في المسألة؛ لأن الولد في يده بغير صنعه، وتلف في يده من غير صنعه، فلا
يكون مضمونا عليه، كما لو جلس على قارعة الطريق فهبت الريح بثوب إنسان وألقاه في
حجره، ثم هلك في يده، فإنه لا ضمان عليه لهذا المعنى الذي ذكرناه، وإنما قلنا: حصل
في يده بغير صنعه فتلف بغير صنعه؛ لأن الولادة لا تكون من صنعه وإنما هي من صنع
الله تعالى لقوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم} (1). وإنما قلنا: إنه تلف
بغير صنعه؛ لأن الموت حصل بصنع الله تعالى، لقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين
موتها} (2)، فصح ما قلناه: إنه تلف في يده بغير صنعه، فلا يكون مضمونا عليه (3).
احتج الشافعي في المسألة وقال: إمساك الأمهات لتحصيل الأولاد، لولا إمساك الأم
وإلا حصل الولد في يد المالك، فكان إمساك الأم جناية بالغصب في حق الولد، فيكون
مضمونا عليه (4) كما لو حفر بئرا على قارعة الطريق، فجاء إنسان فوقع فيه ومات، فإن
الضمان على الحافر وإن لم يكن له صنع في الوقوع في البئر (5).
__________
(1) سورة النحل: آية 78.
(2) سورة الزمر: آية 42.
(3) انظر نحوه في: الهداية 8/ 407 مع شرح البناية.
(4) ذكر النووي رحمه الله تعالى في تعليل ثبوت الضمان - بإثبات اليد العادية
بالتسبب: "لأن إثبات اليد على الأصول سبب لإثباتها على الفروع، فيكون ولد
الغصوب وزوائده مغصوبة". الروضة 5/ 7.
(5) انظر: المهذب 2/ 194.
(1/353)
مسألة: 233 - جبر نقصان الولادة
نقصان الولادة يجبر بوفاء الولد عندنا، إن كان في الولد وفاء بنقصان الولادة (1)،
وعند الشافعي: لا يجبر (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن سبب الزيادة والنقصان واحد، وهو: الولادة؛ لأنه
بالولادة انتقص، وبالولد زاد، فيجبر هذه الزيادة بهذا النقصان، كما لو قلع سن
إنسان ثم نبت مكانه آخر، فإنه ينجبر ولا ضمان على القالع، لهذا المعنى؛ لأن سبب
الزيادة والنقصان واحد (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الولد ملك للمغصوب منه، وهذا النقصان حصل في يد
الغاصب، فلو قلنا: إنه ينجبر بالولد، يكون هذا جبر ملكه بملكه وهذا لا يجوز (4).
مسألة: 234 - تضمين غاصب الدور والعقار
غاصب الدور والعقار، لا يضمن عند أبي حنيفة (5)، وعند الشافعي: يضمن (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 118؛ القدوري، ص 62؛ المبسوط 11/ 58؛ البدائع 9/ 4437.
(2) قال النووي في الروضة: "ويرجح بأرش نقصان الولادة على المذهب، وبه قطع
العراقيون". انظر: المهذب 1/ 377، 380؛ الروضة 5/ 64.
(3) انظر الدليل: المبسوط 11/ 58؛ البدائع 4437.
(4) انظر: المهذب 1/ 377.
(5) لا يضمن غاصب العقار والدور عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد رحمهم الله،
"والفتوى في غصب العقار والدور الموقوفة [على قول محمد] بالضمان".
انظر: القدوري، ص 61؛ المبسوط 11/ 76؛ البدائع 9/ 4410؛ الهداية 4/ 13؛ الدر
المختار 6/ 186، مع حاشية ابن عابدين.
(6) انظر: الأم 3/ 249؛ المهذب 1/ 378؛ الوجيز 1/ 206؛ المنهاج، ص 70.
(1/354)
دليلنا في المسألة وهو: أن ضمان الغصب
ضمان الفعل، ولم يوجد ها هنا النقل والتحويل؛ لأن الدور والعقار لا يتصور تحوله؛
لأن أكثر ما في الباب أن يدخل هذا الغاصب [و] أن يزرع في الأرض، ويدخل المالك أيضا
في جانب ويزرع، فلو منعه يكون هذا فعلا للمالك لا في المملوك، وضمان الغصب ضمان
الفعل الذي يؤثر في المغصوب، ولم يوجد [هاهنا] هذا المعنى (1).
احتج الشافعي: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من غصب
شبرا من أرض طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة" (2). فالنبي - صلى الله
عليه وسلم - أثبت الغصب في العقار، وقد وجد ها هنا الغصب؛ لأن الغصب عند [هـ]:
إثبات اليد على مال الغير على سبيل العدوان، وقد وجد ها هنا هذا المعنى (3).
مسألة: 235 - ملكية المغصوب بعد زوال صفته
إذا غصب حنطة وطحنها، وغصب سويقا فلته بالسمن، فإن عندنا: تنقطع يد المالك عن
الحنطة وعن السويق (4)، وعند
__________
(1) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 11/ 76؛ والبدائع 9/ 4410، 4411؛ الهداية 4/
13.
(2) الحديث أخرجه الشيخان من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى
الله عليه وسلم - يقول: "من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه، طوقه في سبع أرضين
يوم القيامة". واللفظ لمسلم، وفي رواية: "من اقتطع".
وأما بلفظ المؤلف: (من غصب)، "لم يروه أحد منهم"، كما ذكره ابن حجر في
التلخيص: البخاري، في المظالم، باب أتم من ظلم شيئا من الأرض (2452)، 5/ 103؛
مسلم، في المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610)، 3/ 1230؛ التلخيص
الحبير 3/ 53, 54.
(3) وسبب الخلاف في الحكم راجع إلى اختلافهم في تعريف الغصب. راجع: تعريف الغصب في
المسألة (226)، ص 346.
(4) إذا غير الغاصب بفعله العين المغصوية، حتى زال اسمها وأعظم منافعها" فإنه
تزول ملكية المالك عنها، وعلى الغاصب: "ضمان المثل أو القيمة، وإن شاء المالك
وضمن للغاصب الزيادة =
(1/355)
الشافعي: لا تنقطع (1).
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما طحنه فقد جعله شيئا آخر، وهو كونه دقيقا، ومالية
الدقيق حدثت بصنعه، فلو قلنا: بأنه يأخذ بلا شيء يفوت حق الغاصب، وحق الغاصب فيما
وراء الغصب محترم، وحق المالك يفوت ببدل (2).
احتج الشافعي، في المسألة بدليل: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من وجد عين ماله فهو أحق به" (3)، والمالك وجد عين ماله، فيكون أحق به.
__________
= - إن زادت قيمة المغصوب بفعله - واسترد العين المغصوية منه، فله ذلك، كالسويق
إذا لته بالسمن.
انظر: القدوري، ص 61، 62؛ المبسوط 11/ 85؛ البدائع 9/ 4416.
(1) وعند الشافعية لا ينقطع حق المالك عن العين المغصوبة بحال: مع تفصيل في
الزيادة والنقصان، وخوف الضرر بنزع العين المغصوبة إن حصل.
انظر: الأم 3/ 254؛ المهذب 1/ 376؛ الوجيز 1/ 213؛ المنهاج، ص 72؛ نهاية المحتاج
5/ 184.
(2) انظر الدليل: البدائع 9/ 4417.
(3) الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسبق تخريجه في المسألة
(229)، ص 350.
(1/356)
كتاب الوديعة (1)
[مسألة]: 236 - ضمان المودع المخالف في الوديعة
المودع إذا خالف في الوديعة ثم عاد إلى الوفاق يبرأ من الضمان عندنا (2)، وعند
الشافعي: لا يبرأ (3).
وصورته: إذا أودع عند إنسان دابة أو ثوبا، فركب الدابة أو لبس الثوب، ثم نزل عن
الدابة أو نزع الثوب وحفظه كما كان يحفظه قبل اللبس، ثم هلك الثوب في يده، لا ضمان
عليه عندنا، وعند الشافعي يضمن.
دليلنا في المسألة وهو: أن هذا خلاف من طريق الفعل؛ لأن الخلاف من طريق الفعل لا
يوجب رفع الأمر؛ لأن الأمر بالحفظ باق، فيعتبر هذا بأوامر الشرع، كمن ترك الصوم أو
الصلاة
__________
(1) الوديعة لغة: الترك، مأخوذة من ودع الشيء يدع، إذا سكن واستقر، وجمعها: ودائع،
وهي من الأضداد، يقال: أودعته: دفعت إليه وديعة، وأودعته: قبلت وديعته، وهذا غير
معروف.
انظر: تصحيح التنبيه، ص 77؛ المغرب (وديعة)، مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (ودع).
"وفي الشرع، تطلق: على الإيداع، وعلى العين المودعة، وعلى العقد، وهو
الأصح". وعرفها المرغيناني من الأحناف بأنها: تسليط الغير على حفظ ماله.
وعرفها النووي من الشافعية بأنها: "المال الموضوع عند أجنبي ليحفظه".
وقال الشربيني بأن حقيقتها شرعا: "توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه
مخصوص".
انظر: الهداية 7/ 731، مع البناية؛ الروضة 6/ 324؛ مغني المحتاج 3/ 79.
(2) انظر: القدوري، ص 62، 63؛ المبسوط 11/ 114؛ الهداية 7/ 743، مع البناية.
(3) انظر: المهذب 1/ 368، 369؛ الروضة 6/ 334.
(1/357)
لا يكفر؛ لأنه خلاف من طريق الفعل، ولو
جحد الإيمان يكفر؛ لأنه خلاف من طريق القول، فكذلك ها هنا، المودع إذا طلب الوديعة
فأنكر المودع، فهلك في يده، فإنه يضمن؛ لأنه خلاف من طريق القول، والخلاف من طريق
القول يوجب رفع الأمر (1).
احتج الشافعي في المسألة: أنه لما خالف. فقد ظهر
خيانته، ودخل في ضمان الوديعة؛ لأن الخيانة تضاد الأمانة، كما لو جحد الوديعة، ولو
جحد الوديعة يضمن، كذلك ها هنا (2).
مسألة: 237 - الإيداع عند صبي محجور عليه
إذا أودع عند صبي محجور عليه مالا، فأتلفه، عندنا (3): لا يضمن، وعند الشافعي:
يضمن (4).
دليلنا في المسألة؛ لأنه لما أودعه عند الصبي، فقد سلطه على الإتلاف؛ لأن من عادة
الصبيان إذا أودع عندهم طعام يأكلونه، ولو كان دابة يركبونها، فإذا أودعه مع علمه
بحاله فكان راضيا بالإتلاف، فوجب أن لا يضمن، كما لو أمره بالإتلاف (5).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن المودع لما أودعه فقد أمره بالحفظ وما أمره
بالإتلاف، فإذا أتلفه وجب أن يضمن؛ لأن هذا ضمان فعل؛ لأن الصبي إن لم يؤخذ بضمان
الأقوال يؤخذ بضمان الأفعال، ألا ترى أنه لو أتلفه ابتداء يضمن كذلك ها هنا (6).
__________
(1) انظر: المبسوط 11/ 144، 115؛ البناية في شرح الهداية 7/ 743، 744.
(2) انظر: المهذب 1/ 369.
(3) انظر: المبسوط 11/ 118؛ البدائع 8/ 3881.
(4) يضمن على أظهر قولي الشافعي.
انظر: المهذب 1/ 366؛ الروضة 6/ 326.
(5) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 11/ 119؛ البدائع 8/ 3881.
(6) انظر المصادر السابقة للشافعية.
(1/358)
كتاب السير (1)
[مسألة]: 238 - إسلام الصبي العاقل
إسلام الصبي العاقل يصح عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يصح (3).
دليلنا في المسألة: الإسلام إنما يكون إقرارا باللسان واعتقادا بالقلب، وقد وجد ها
هنا؛ لأن الكلام [من] (4) الصبي العاقل [مقبول] (5) يقول هذه سماء وهذه أرض، يناظر
ويتكلم، فإذا أسلم
__________
(1) السير، بكسر السين وفتح الياء، جمع سيرة، والسيرة لغة: تستعمل في معنيين:
أحدهما: الطريقة، يقال: "سار في الناس سيرة حسنة أو قبيحة، والثاني: الهيئة،
قال الله عز وجل: {سنعيدها سيرتها الأولى} (طه 21). أي: هيئتها وغلب اسم السير في
ألسنة الفقهاء: بسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه". وسميت المغازي
سيرا؛ لأن أول أمرها السير إلى العدل؛ لأن المراد بها سير الإمام إلى العدو وتسمى
أيضا: بكتاب الجهاد، والمغازي، والجهاد: "مصدر جاهد، يقال: جاهد في سبيل الله
جهادا". المصباح، (سير، جهد)، البدائع 9/ 4299؛ البناية 5/ 642.
وعرفه السمرقندي شرعا بأنه: "هو الدعاء إلى الدين الحق، والقتال مع من امتنع
عن القبول بالمال والنفس، قال الله عز وجل: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل الله}. تحفة الفقهاء 3/ 499.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 260؛ البدائع 9/ 4315.
(3) قال الشيرازي: إن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار لم يصح إسلامه على
ظاهر المذهب، ويحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ، فإن بلغ ووصف الإسلام
حكم بإسلامه" انظر: الأم 4/ 290؛ المهذب 2/ 240.
(4) في الأصل: (في).
(5) زيدت لاستقامة العبارة.
(1/359)
وجب أن يقبل منه، فلو قلنا: إنه لا
يصح، يكون هذا حجرا عن الإسلام، والحجر عن الإسلام لا يجوز؛ لأن الإسلام مشروع من
الأزل إلى الأبد، فوجب أن يصح، نظرا للصبي، لما فيه من اكتساب السعادة الأبدية،
بخلاف سائر الإقرارات؛ لأن سائر الإقرارات إنما لا تصح؛ لأنه متردد بين النفع
والضرر، والإسلام فيه منفعة محضة، فوجب أن يصح (1).
احتج الشافعي، في المسألة وقال؛ لأن الإسلام إنما هو الإقرار، والصبي ليس من أهل
الإقرار، ألا ترى أنه لا يصح منه سائر الإقرارات لنقصان حاله؛ لأنه غير مخاطب،
والإسلام لو وقع إنما وقع فرضا، والصبي غير مخاطب بأداء الفرائض (2).
مسألة: 239 - تمليك الكفار أموال المسلمين بالإجزاء بدار الحرب
الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين وأحرزوها بدار الحرب ملكوها عندنا (3) وعند
الشافعي: لا يملكون (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الاستيلاء سبب لملك المسلم مال الكافر، فوجب أن يملك
الكافر مال المسلم كما في سائر أسباب الملك: كالبيع والهبة، وهذا؛ لأن الكافر مع
المسلم يستويان في نعيم الدنيا، وإنما يختلفان في حق الآخرة ألا ترى أن الكافر من
__________
(1) انظر: البدائع 9/ 4315.
(2) واستدل الشافعية على عدم صحة إسلام الصبي قبل البلوغ بحديث رفع القلم قوله -
صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن الناثم
حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". وقد سبق تخريج الحديث في مسألة (46)، ص
140؛ المهذب 2/ 240.
(3) انظر: القدوري، ص 114؛ تحفة الفقهاء 3/ 523؛ البدائع 9/ 4356؛ الهداية 5/ 753،
مع البناية.
(4) وعند الشافعية لا يملكونها مطلقا.
انظر: مختصر المزني، ص 73؛ المهذب 2/ 243؛ الروضة 10/ 293، 294.
(1/360)
أهل ملك النكاح وملك اليمين (1)، بل حظ
الكافر أكثر في الدنيا، لقوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن
يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا
عليها يتكئون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك
للمتقين} (2).
احتج الشافعي، في المسألة وقال: إن مال المسلم معصوم بعصمة الإسلام، فوجب أن لا
يملكه الكافر، كرقبة السلم (3).
مسألة: 240 - عقوبة المرتدة
المرتدة عندنا: لا تقتل (4)، وعند الشافعي: تقتل (5).
دليلنا في المسألة وهو: أن ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لما
دخل مكة يوم الفتح فرأى امرأة مقتولة، فقال: "ما كانت هذه
__________
(1) واستدل الأحناف بقوله سبحانه وتعالى: {للفقراء المهاجرين} (الحشر 8)، فإنه
تعالى: سماهم فقراء، والفقير من لا يملك شيئا، فلو لم يملك الكفار أموالهم لما
سموا فقراء، وأدلة أخرى.
انظر: الهداية مع شروحها: فتح القدير مع العناية 6/ 4، 5؛ البناية 5/ 755، 756.
(2) سورة الزخرف: آية 33، 34، 35.
(3) واستدل الشافعية لمذهبهم بما أخرجه مسلم عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال:
أغار المشركون على سرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبوا به وذهبوا
بالعضباء وأسروا امرأة من المسلمين، فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله تعالى
لتنحرنها، فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"بئس ما جزيتها، لا وفاء لنذر في معصية الله عز وجل، ولا فيما لا يملكه ابن
آدم". مسلم، في النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله (1641)، 3/ 1263.
ووجه استدلالهم بهذا: بأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين: فلو كانوا يملكونها
لملكت المرأة العضباء بالأخذ منهم.
انظر: مختصر المزني، ص 273؛ المهذب 2/ 243؛ السنن الكبرى 9/ 109.
(4) "المرأة المرتدة لا تقتل عند الأحناف" ولكن تحبس أبدا حتى تسلم أو
تموت.
"ويروى عن أبي حنيفة: أنها تضرب في كل الأيام مبالغة في الحمل على
الإسلام".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 259؛ القدوري، ص 117؛ الهداية 6/ 71، مع فتح القدير.
(5) انظر: المهذب 2/ 223؛ المنهاج، ص 132.
(1/361)
تقاتل، أدرك خالدا فقل له: لا تقتل
ذرية ولا عسيفا" (1)، أو نقول: وهو أن المرأة لا تقتل بسبب الكفر الأصلي،
فكذلك بسبب الكفر العارضي، وكان المعنى فيه: أن علة القتل، المحاربة لا الكفر؛ لأن
الكفر جناية في حق الله تعالى، فكان جزاؤه مؤخرا إلى دار الجزاء؛ لأن الدنيا ليست
بدار الجزاء وإنما هي دار الابتلاء، فلهذا قلنا: لا تقتل (2).
احتج الشافعي، في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من بدل دينه فاقتلوه" (3) والخبر عام: يثبت في حق الرجل والمرأة جميعا
(4).
[مسألة]: 241 - سهم ذوي القربى
سهم ذوي القربى، ساقط [عندنا] (5) , وعند الشافعي: ثابت (6).
__________
(1) الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم، وأبو داود، والنسائي والبيهقي من حديث
رياح بن الربيع بلفظه.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض
مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فنهى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن قتل النساء والصبيان".
البخاري، في الجهاد، باب قتل النساء والصبيان (3014، 3015)، 6/ 148؛ التلخيص
الحبير 4/ 102.
انظر: الأحاديث والآثار الصريحة في النهي عن قتل المرتدات: نصب الراية 3/ 456 -
458.
(2) راجع الأدلة بالتفصيل: البدائع 9/ 4308؛ الهداية وشروحها: فح القدير 6/ 72؛
البناية 5/ 856, 857.
(3) حديث قتل المرتد رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب
استتابة المرتدين، والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم
(6922)، 12/ 267.
(4) انظر الأدلة بالتفصيل: المهذب 2/ 223.
(5) انظر: القدوري، ص 115؛ تحفة الفقهاء 3/ 520؛ الهداية 5/ 503، مع فتح القدير.
(6) انظر: الأم 4/ 139؛ المهذب 2/ 247، 248؛ الوجيز 1/ 290؛ الروضة 6/ 355؛
المنهاج، ص 93.
(1/362)
يقسم خمس الغنية في زماننا على ثلاثة
أسهم عند أبي حنيفة: سهم للفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لليتامى، وأما سهم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، وسهم ذوي القربى فساقط. وعند الشافعي: يقسم خمس
الغنيمة على خمسة أسهم: سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف ذلك: إلى أولاد
علي رضي الله عنه، وسهم ذوي القربى يصرف: إلى الخلفاء (1)، وسهم لليتامى، وسهم
للفقراء، وسهم للمساكين.
دليل أبي حنيفة وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يستحق سهمه، بكونه
مؤديا للإمامة، ولدعوة الناس إلى الحق، وهذا المعنى قد فات بفواته، وسهم ذوي
القربى إنما يستحقون: بنصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء كانوا معه في
الحضر والسفر والنصرة، وقد فات بفواته، فوجب أن ينقطع هذا الحق (2).
احتج الشافعي، [في المسألة] وهو: أن هذا حق ثابت بالشرع (3)، فإذا مات وجب أن يورث
نصيبه، كما في سائر الحقوق.
__________
(1) ذكر النووي رحمه الله في الروضة: حكاية عن الوسيط وجها: بأن سهم ذوي القربى
يصرف إلى الخلفاء، ونقل قولا آخر بأن هذا السهم يرد على أهل السهمان، الذين ذكرهم
الله تعالى. ثم ردهما وقال: "هذان العقلان شاذان مردودان". ورجح صرفه
بعده - صلى الله عليه وسلم -، في مصالح المسلمين.
انظر: الروضة 6/ 355.
(2) واستدل الأحناف لمذهبهم: بإجماع الخلفاء الراشدين على تقسيم الخمس إلى ثلاثة
أسهم - بإسقاط سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوي القربى - "ثم
أنه لم ينكر عليهم ذلك أحد، مع علم جميع الصحابة بذلك وتوافرهم، فكان
إجماعا".
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 62 وما بعدها؛ الهداية، مع فتح القدير 5/ 503.
(3) وفي الأصل: (ثابته الشرع). يقصد به قول الله سبحانه وتعالى في قسم الغنائم:
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل} [الأنفال: 41].
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/ 158، 159.
(1/363)
مسألة: 242 - سهم الفارس إذا مات فرسه
الغازي إذا جاوز الدرب فارسا، ثم نفق فرسه، فإنه يستحق: سهم الفرسان (1) عندنا،
وعند الشافعي: يستحق سهم الرجالة (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن [لـ]ـلكفار جواسيس؛ لأن المسلمين لو دخلوا دار الحرب
يخبرون أنهم جاوزوا الدرب كذا فارسا، فيدخل في قلوبهم الرعب فيحصل القهر، فإذا حصل
القهر حصل المقصود؛ لأن النصرة قد تقع بالرعب، ليس الاعتبار بالمقاتلة فارسا، ألا
ترى أنه لو كان في مقصبة أو مشجرة، فنزل عن الدابة وقاتل راجلا، فإنه يستحق سهم
الفارس، عرفنا أن الاعتبار ليس بالمقاتلة فارسا، وإنما الاعتبار بالدخول إلى دار
الحرب، وهذا الرجل دخل دار الحرب فارسا، فوجب أن يستحق سهم الفارس (3).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الغنيمة لمن شهد الوقعة"، وهذا الرجل شهد الوقعة راجلا، فوجب أن يستحق
سهم الرجالة (4).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 285؛ القدوري، ص 115؛ تحفة الفقهاء 3/ 517؛ الهداية 5/
498، مع فتح القدير.
(2) انظر: المهذب 2/ 246؛ الروضة 6/ 378.
(3) انظر: تحفة الفقهاء 3/ 517؛ الهداية مع فتح القدير والعناية 5/ 499.
(4) الحديث: رواه الشافعي في المختصر، والبيهقي في السنن، وابن أبي شيبة في مصنفه
موقوفا على عمر رضي الله عنه. وقال البيهقي - بعد ذكر المناسبة وكتاب عمر -:
"هذا هو الصحيح من عمر رضي الله عنه".
انظر: مختصر المزني، ص 170؛ السنن الكبرى 9/ 50؛ نصب الراية 3/ 408.
(1/364)
مسألة: 243 - أمان العبد
[(1) أمان العبد المحجور، لا يصح عندنا (2)، وعند الشافعي: يصح (3).
دليلنا في المسألة: أن الأمان من القتال، والعبد المحجور عليه لا يملك القتال
فكذلك لا يملك الأمان (4).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روى أن غلاما رمى سهما إلى حصن فكتب فيه أمانهم،
فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه،
__________
(1) كتابة المسألة في الأصل غير مستقيمة، إذ أنها لا تتفق مع ما في مدونات
المذهبين، حيث نسب حكم الشافعي لأبي حنيفة رحمهما الله تعالى وبالعكس ومثل هذا في
الاستدلال، مما أوجب تدوين المسألة على وجهها الصحيح من مدونات المذهبين، بالصورة
والطريقة التي جرى عليها المؤلف في كافة المسائل.
والمسألة كما في الأصل: "أمان العبد المحجور عندنا يصح، وعند الشافعي لا يصح.
دليلنا في المسألة ما روي أن غلاما رمى سهما إلى حصن فكتب فيه أمانهم فرفع ذلك إلى
عمر رضي الله عنه فقال: "هذا أمان واحد من المسلمين فكيف أرده". فعمر
رضي الله عنه جوز أمان العبد، احتج الشافعي في المسألة فقال: "إن الأمان من
القتال، والعبد المحجور عليه لا يملك القتال، فكذلك لا يملك الأمان".
(2) لا يصح أمان العبد المحجور عن القتال عند أبي حنيفة، إلا أن يأذن له سيده، كما
قال القدوري: "ولا يجوز أمان العبد عند أبي حنيفة، إلا أن يأذن له في
القتال" وقال الموصلي: "ولا يصح أمان عبد محجور عن القتال".
انظر: القدوري، ص 114؛ الهداية 5/ 465، مع شرح فتح القدير؛ الاختيار 3/ 79؛ الدر
المختار 4/ 135، مع حاشية ابن عابدين؛ اللباب 4/ 126.
(3) يصح أمان العبد عند الشافعي على الإطلاق، من غير تقييد بقتال أو إذن، كما نص
عليه الشافعي في الأم، وقال النووي في الروضة: "يصح الأمان من كل مسلم مكلف
مختار، فيصح أمان العبد المسلم، وإن كان سيده كافرا".
انظر: الأم 4/ 226؛ المهذب 2/ 236؛ الوجيز 2/ 194؛ الروضة 10/ 279؛ المنهاج، ص
138.
(4) انظر: الهداية 5/ 466، مع شرح فتح القدير والعناية.
(1/365)
فقال: "هذا أمان واحد من المسلمين
فكيف أرده" (1)، فعمر رضي الله عنه، جوز أمان العبد].
مسألة: 244 - توريث نصيب الغانم قبل القسمة
أحد الغانمين إذا مات قبل القسمة، وقبل إحرازه بدار الإسلام، عندنا: نصيبه لا يورث
(2)، وعند الشافعي: يورث (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن الملك لم يثبت ولم يتقرر ما دام هم في دار الحرب؛ لأن
الدار دارهم، ربما يكرون ثانيا ويأخذون المال من أيديهم، فلم يتقرر الملك بعد،
وإنما يتقرر الملك في الغنيمة، إما: بإحرازه في دار الإسلام، أو بقهر جميع الكفرة،
ولم يوجد هذا المعنى، ولم يتقرر الملك، فوجب أن لا يورث (4)، كما لو مات حال قيام
الحرب.
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن هذا الملك إنما يثبت بالقهر، والقهر قد تم، فوجب
أن يثبت الملك، فإذا ثبت الملك وجب أن يورث نصيبه كما بعد القسمة (5).
__________
(1) الأثر أخرجه البيهقي في السنن عن فضيل الرقاشي عن عمر، وقال ابن حجر:
"بسند صحيح".
انظر: السنن الكبرى 9/ 94؛ التلخيص الحبير 4/ 121؛ المهذب 2/ 236.
(2) انظر: القدوري، ص 115؛ تحفة الفقهاء 3/ 511، 512؛ البدائع 9/ 4353.
(3) قال النووي في الروضة: "في وقت ملك الغانمين للغنيمة ثلاثة أوجه، أصحها:
لا يملكون إلا بالقسمة، لكن لهم أن يتملكوا بين الحيازة والقسمة".
انظر: المهذب 2/ 245؛ التنبيه، ص 145؛ الروضة 10/ 267؛ المنهاج، ص 138.
(4) انظر: البدائع 9/ 4353؛ الهداية مع شروحها: فتح القدير مع العناية 5/ 478،
479؛ البناية 5/ 696.
(5) انظر: المهذب 2/ 245؛ والمسألة الآتية (245) وأدلة الشافعية فيها.
منشأ الخلاف في هذه المسألة متفرع من أصل: "أن الملك للغانمين لا يثبت قبل
الإحراز بدار الإسلام" عند الأحناف، وعند الشافعي يثبت". الهداية 5/
478، مع فتح القدير.
(1/366)
مسألة: 245 - تقسيم الغنائم بدار الحرب
قسم الغنائم في دار الحرب، مكروه: عند أبي حنيفة (1)، وعند الشافعي: يجوز (2).
دليلنا في المسألة وهو: أنه لو قلنا بأنه يشتغل بالقسمة في دار الحرب، ربما يقع الدبرة
على المسلمين؛ لأن الدار دارهم، فربما يلحقهم المدد، فيستنقذون هذا المال من
أيديهم، فوجب أن يحمل إلى دار الإسلام، حتى يتم القهر والملك (3).
احتج الشافعي، في المسألة: "بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أنه
__________
(1) اختلفت أقوال أئمة الأحناف في هذه المسألة:
فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى عدم جواز القسمة بدار الحرب، حتى لا تثبت الأحكام
المترتبة على القسمة، وذهب عمد إلى القول بالكراهة، إذا لم يكن للمسلمين حاجة
إليها، ولم يكن باجتهاد عن الإمام، وإلا فلا خلاف، وما نسبه المؤلف إلى أبي حنيفة
رحمه الله غير صحيح، وإنما هو من قول محمد كما نص عليه المرغيناني في الهداية
وشراحها. وإن كان الراجح لدى الأحناف قول محمد، رحمهم الله تعالى.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 282؛ القدوري، ص 114؛ تحفة الفقهاء 3/ 512؛ البدائع 9/
4353؛ فتح القدير مع العناية 5/ 481.
(2) بل المستحب قسمتها في دار الحرب إذا لم يكن هناك عذر، كما ذكره الشيرازي.
انظر: مختصر المزني، ص 270؛ المهذب 2/ 245؛ الوجيز 1/ 291.
(3) واستدل الأحناف لمذهبهم من النقل بما روي: "أنه - صلى الله عليه وسلم -
نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب"، ووجه استدلالهم من الحديث: "لأن
البيع في معنى القسمة فكما لا يجوز البيع كذلك لا تجوز القسمة"، وقال الزيلعي
في الحديث: "غريب جدا".
انظر: البدائع 9/ 4354؛ الهداية 5/ 481، مع فتح القدير؛ نصب الراية 3/ 408.
(1/367)
قسم غنائم أوطاس بأوطاس، وقسم غنائم
بني المصطلق (1) في دارهم" فلو لم يكن جائزا لما فعله (2).
__________
(1) بنى المصطلق: "حي من خزاعة، كانوا ينزلون ناحية الفرع، - بضم الفاء - كان
سيدهم الحارث بن أبي ضرار".
انظر: الواقدي، كتاب المغازي 1/ 405؛ شيرة ابن كثير 3/ 270؛ أوطاس: وهو واد في
ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين.
انظر: المغازي 3/ 886؛ التلخيص الحبير 3/ 105.
(2) قسمة الغنائم في حنين ذكره الشافعي في مختصر المزني، وقال ابن حجر: "وأما
قسمة غنائم حنين، فغير معروف، والمعروف ما في صحيح البخاري وغيره من حديث أنس أنه
قسمها بالجعرانة.
وأما قسمة غنائم بني المصطلق، فذكره الشافعي أيضا في مختصر المزني، واستنبطه
البيهقي من حديث أبي سعيد: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة
بني المصطلق فسبينا كرائم العرب وطالت علينا الغربة، ورغبنا في الفداء ... "
وساق الحديث بطوله؛ ثم قال: "وفي هذا دلالة على أنه قسم بينهم غنائمهم قبل الرجوع
إلى المدينة، كما قال الأوزاعي والشافعي".
انظر: مختصر المزني، ص 270؛ السنن الكبرى 9/ 54، 56؛ التلخيص الحبير 3/ 105، 106.
(1/368)
كتاب النكاح (1)
[مسألة]: 246 - النكاح بغير ولي
النكاح بغير ولي جائز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز
__________
(1) النكاح لغة: الجمع والضم، ومنه تناكحت الأشجار: إذا تمايلت وانضم بعضها إلى
بعض، وهو من باب ضرب.
والعرب تستعمله بمعنى الوطء، والعقد جميعا؛ لأنه مأخوذ من غيره، ولأنهما لا يفهمان
إلا بقرينة، أو على الاشتراك فيهما. ولكنهم يفرقون بينهما بقولهم: "نكح فلان
فلانة أو بنت فلان" يريدون أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: "نكح
زوجته أو امرأته" لم يريدوا به إلا المجامعة. ومن ثم اختلف الفقهاء في موضوعه
الشرعي على ثلاثة أقوال:
فذهب أبو حنيفة: "أنه حقيقة في الوطء, مجاز في العقد". وهذا قول
اللغويين؛ لأنهم يقولون: "أصل النكاح في كلام العرب الوطء". وللشافعية
فيها ثلاثة أوجه، أصحها: "أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء"، وقالوا:
"وهو الذي جاء به القرآن العزيز والأحاديث".
والقول الثالث: "أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، كالعين"، "وحمل على
هذا، النهي في قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221]، عن
العقد وعن الوطء بملك اليمين معا". وفائدة الخلاف تظهر في قوله تعالى: {ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22] في حكم مزنية الأب على فروعه. فذهب
الأحناف إلى تحريمه بالنص، وذهب الشافعية إلى تجويز ذلك.
وشرعا: عرفه الأحناف بأنه: "عقد يرد على تمليك منفعة البضع قصدا"، وعرفه
الشافعية بأنه: "عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته".
انظر: معجم مقاييس اللغة، الصحاح، المصباح، مادة: (نكح)، تصحيح التنبيه، ص 102؛
المبسوط 4/ 192؛ البناية 4/ 3، وما بعدها، مغني المحتاج 3/ 123.
(2) يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بغير ولي عند أبي حنيفة مع توفر الشروط المذكورة في
صورة المسألة. انظر: مختصر الطحاوي، ص 171؛ القدوري، ص 69؛ المبسوط 5/ 10؛ تحفة
الفقهاء 2/ 224؛ فتح القدير 3/ 256.
(1/369)
إلا بولي (1). ذكر صورة المسألة: الحرة
العاقلة البالغة، إذا زوجت نفسها من كفو، ولم يقصر في مهر مثلها، فإنه يجوز عندنا،
وعند الشافعي: لا يجوز.
دليلنا في المسألة، وهو: أن الحرة البالغة العاقلة من أهل الولاية، ألا ترى أنها
تملك التصرف في مالها، فوجب أن تملك التصرف على نفسها؛ لأن نفسها إلى نفسها أقرب
من مالها، ثم لما تملك التصرف في مالها، فلأن تملك التصرف في نفسها أولى (2).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال:
"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (3) وهذا نص في هذا.
__________
(1) انظر: الأم 5/ 12، 13؛ المهذب 2/ 36؛ المنهاج، ص 96.
(2) واستدل الأحناف من النقل لمذهبهم بقول الله عز وجل: {فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن} [البقرة: 232] , وبقوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230] ,
وبقوله تعالى: {فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن} [البقرة: 240] , قال السرخسي
مبينا وجه الدلالة: "أضاف العقد إليهن في هذه الآيات، فدل أنها تملك
المباشرة، والمراد بالعضل: المنع حسا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج ...
" وأدلة أخرى.
انظر بالتفصيل: أحكام القرآن، للجصاص 1/ 399 وما بعدها؛ المبسوط 5/ 11، 12؛
الهداية وشروحها: فتح القدير مع العناية 3/ 257؛ البناية 4/ 112 وما بعدها.
(3) الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننهما من حديث عمران بن الحصين رضي الله
عنه وقال البيهقي: "في إسناده عبد الله بن محرر: متروك لا يحتج به".
وقال ابن حجر: "ورواه الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلا، وقال: هذا وإن كان
منقطعا، فإن أكثر أهل العلم يقولون به".
انظر: سنن الدارقطني 3/ 225؛ السنن الكبرى 7/ 125؛ نصب الراية 3/ 188؛ التلخيص
الحبير 3/ 156.
انظر الأدلة بالتفصيل: الأم 5/ 12، 13؛ المهذب 2/ 36.
(1/370)
مسألة: 247 - إجبار البكر البالغة
لا يجوز للأب والجد إجبار البكر البالغة على النكاح، بل يزوجها برضاها عندنا (1)،
وعند الشافعي: يجوز بغير رضاها (2).
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه إذا أراد أن
يزوج بناته، دنى إلى خدرها ويستأمرها) (3) فلو لم يكن الاستئمار شرطا لما فعل، ولو
استأمرها وسكتت كان سكوتها رضاها؛ لأنها تستحيي عن التكلم، و [إظهار] (4) الرغبة
في الرجال، فأقيم السكوت مقام الرضا (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الأب والجد كان لهما أن يزوجاها قبل البلوغ بغير
رضاها؛ لأن الولاية باقية، فوجب أن لا يشترط [رضاها] (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 172؛ القدوري، ص 69؛ المبسوط 5/ 2؛ تحفة الفقهاء 2/
224؛ الهداية 3/ 260، مع شرح فتح القدير.
(2) انظر: الأم 5/ 17؛ المهذب 2/ 38؛ الوجيز 2/ 5؛ المنهاج، ص 96.
(3) الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يزوج شيئا من بناته، جلس
إلى خدرها، فقال: إن فلانا يذكر فلانة، يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها فإن هي
سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر، فإن نقرته لم يزوجها"، مسند الإمام أحمد 6/
78.
(4) في أصل المخطوط: (المهار).
(5) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 5/ 2، 3؛ فتح القدير 3/ 261 وما بعدها.
(6) وفي الأصل: (زمانها).
واستدل الشافعي من النقل بأدلة كثيرة منها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها".
أخرجه الجماعة إلا البخاري: مسلم في النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق
والبكر بالسكوت (1421)، 2/ 37.
انظر الأدلة بالتفصيل: الأم 5/ 17، 18؛ المهذب 2/ 38.
(1/371)
مسألة: 248 - عقد النكاح بشهادة فاسقين
النكاح، عندنا ينعقد: بشهادة فاسقين (1)، وعند الشافعي: لا ينعقد (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الفاسق من أهل الشهادة؛ لأن الأهلية إنما تثبت:
بالعقل، والحرية، والبلوغ، وقد وجد هذا المعنى، فوجب أن ينعقد بشهادتهما (3).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (4) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شرط
العدالة في انعقاد النكاح.
مسألة: 249 - عقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين
النكاح ينعقد: بشهادة رجل وامرأتين عندنا (5)، وعند الشافعي: لا ينعقد (6).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 172؛ القدوري، ص 68؛ المبسوط 5/ 31؛ تحفة الفقهاء 2/
197؛ البدائع 3/ 1381.
(2) انظر: الأم 5/ 22؛ المهذب 2/ 41؛ الوجيز 2/ 4؛ المنهاج، ص 96.
(3) وذلك؛ لأن الفاسق باعتبار هذه الشروط المذكورة يكون أهلا لولاية النكاح بنفسه
عند الأحناف فكذلك يجوز أن يكون أهلا لتحمل الشهادة على غيره.
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 5/ 31، 32؛ البدائع 3/ 1381؛ البناية في شرح
الهداية 4/ 29.
(4) الحديث سبق تخريجه في المسألة: (246)، ص 370.
(5) انظر: مختصر الطحاوي، ص 169، 172؛ القدوري، ص 68؛ المبسوط 5/ 32؛ تحفة الفقهاء
2/ 197.
(6) انظر: الأم 5/ 22؛ المهذب 2/ 41؛ الوجيز 2/ 4؛ المنهاج، ص 96.
(1/372)
دليلنا: أنه ينعقد بشهادة: رجل
وامرأتين، كما في سائر العقود (1).
احتج الشافعي، في المسألة: أن عقد النكاح له زيادة [في] الشروط: من الولي والمهر،
فلا تشترط هذه في سائر العقود، لما فيه من الخطر؛ لأنه عقد يعقد للعمر، فوجب أن
تشترط فيه الذكورية (2)، كما في الحدود (3).
مسألة: 250 - الشهادة في زواج مسلم بذمية
المسلم إذا تزوج امرأة ذمية، فإن عندنا: يصح النكاح بشهادة ذميين (4)، وعند
الشافعي: لا يصح إلا بشهادة مسلمين (5).
دليلنا في المسألة؛ لأن الذمي من أهل الشهادة للذمي، وها هنا المرأة ذمية وهي المعقود
عليها، فوجب أن يصح بحضرة الذميين، كما قلنا: في شهادة المسلم (6).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الكافر ليس من أهل
__________
(1) واستدل الأحناف: بإجازة عمر - رضي الله عنه - شهادة رجل وامرأتين في النكاح
والفرقة.
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 5/ 33؛ البناية 4/ 25.
(2) واستدل الشافعية من النقل بحديث عمران بن الحصين، السابق تخريجه في المسألة:
(246)، ص 270، وأدلة أخرى نحوه.
راجع: الأم 5/ 22؛ المهذب 2/ 41.
(3) انظر: القدوري، ص 107؛ المنهاج، ص 153.
(4) مختصر الطحاوي، ص 172؛ القدوري، ص 68؛ المبسوط 5/ 33؛ البدائع 3/ 1378.
(5) انظر: الأم 5/ 22؛ المهذب 2/ 41؛ الوجيز 2/ 4؛ المنهاج، ص 96.
(6) والمعنى فيه كما ذكرته في شهادة الفاسق في المسألة (248)، ص 372، باعتبار
الولاية، حيث يجوز أن يكون الذمي وليا في هذا العقد، فجاز أن يكون شاهدا،
"لأن الشهادة من باب الولاية".
انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 5/ 33، 34؛ البدائع 3/ 1379.
(1/373)
الشهادة على المسلم، وهاهنا العاقد
مسلم، فلا يعقد النكاح بشهادتهما، كما لو تزوج بشهادة مجوسيين فإنه لا ينعقد (1).
مسألة: 251 - ولاية الفاسق في النكاح
الفاسق إذا زوج بنته من رجل، أو زوج أخته، يصح النكاح عندنا بولايته (2)، وعند
الشافعي: لا ينعقد (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الولاية بناؤها على الشفقة، والشفقة إنما تنشأ من
الطبيعة، وهذا المعنى لا يختلف كون الرجل فاسقا، وربما كان الفاسق أشفق على ولده
من غيره، فوجب أن يصح النكاح؛ لأنه من أهل الولاية، [و] لأن فسقه لا يسلب الولاية
ولا الأهلية، ألا ترى أنه لو تزوج جاز، فإذا زوج بنته، وجب أن يجوز (4).
احتج الشافعي: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا نكاح
إلا بولي وشاهدي عدل" (5) وهذا الولي فاسق، فلا يجوز أن يكون شاهدا، فلهذا لا
يجوز أن يكون وليا (6).
__________
(1) انظر: المصادر السابقة للشافعية.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 72؛ البدائع 3/ 1248.
(3) انظر: المهذب 2/ 37؛ الوجيز 2/ 6؛ المنهاج، ص 96.
(4) واستدلوا من النقل بعموم قوله عز وجل: {وانكحوا الأيامى منكم} (النور 32)
ونحوها مما جاءت به الأحاديث بالترغيب للأولياء في تزويج بناتهم، عاما من غير فصل،
مع إجماع الأمة على عدم النكير على أحد من الأولياء بالفسق.
انظر: البدائع 3/ 1349؛ البناية في شرح الهداية 4/ 29.
(5) الحديث سبق تخريجه في المسألة: (246)، ص 370.
(6) انظر: المهذب 2/ 37.
(1/374)
مسألة: 252 - تزويج البكر التي زالت
بكارتها بالفجور
البكر إذا زالت بكارتها بالفجور، تزوج كما تزوج الأبكار: عندنا (1)، وعند الشافعي:
تزوج كما تزوج الثيب (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن العلة في البكر في عدم الاستنطاق (3)، إنما هو الحياء.
الأصل في ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت حين قال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "البكر تستأذن في نفسها" قالت عائشة: البكر تستحيي يا رسول
الله، فقال: سكوتها رضاها (4)، فجعل السكوت رضاء لعلة الحياء. وهذا المعنى موجود
في هذه المسألة؛ لأنها تستحيي لإظهار فاحشتها فلهذا قلنا: لا تستنطق (5).
احتج الشافعي، في المسألة: بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"البكر تستأمر في نفسها والثيب تشاور" (6) وهذه ثيب، فوجب أن تشاور.
__________
(1) انظر: القدوري، ص 69؛ المبسوط 5/ 7؛ تحفة الفقهاء 2/ 227.
(2) انظر: الأم 5/ 18؛ المهذب 2/ 38؛ الوجيز 2/ 5؛ المنهاج، ص 96.
(3) مكررة في الأصل.
(4) حديث عائشة رضي الله عنها رواه الشيخان: قال ذكوان مولى عائشة: سمعت عائشة
تقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم
لا؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، تستأمر" فقالت
عائشة: فقلت له: فإنها تستحيي! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك
إذنها إذا هي سكتت". واللفظ لمسلم: البخاري، في الإكراه، باب لا يجوز المكروه
(6946)، 12/ 319؛ مسلم، في النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق؛ والبكر
بالسكوت (1420)، 2/ 1037.
(5) انظر: المبسوط 5/ 7.
(6) الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر
تستأمر، وإذنها سكوتها"؛ مسلم، النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق،
والبكر بالسكوت (1421)، 2/ 1037؛ البناية في شرح الهداية 4/ 126.
(1/375)
أما قولكم: أنها تستحيي، قلنا: هذا
الحياء، ليس بمعتبر؛ لأنها رغبت في الرجال على أحسن الوجوه (1).
مسألة: 253 - ولاية الأخ الشقيق مع الأخ لأب
الأخ من الأب والأم، والأخ من الأب إذا اجتمعا، فالولاية للأخ من الأب والأم
بتزويج أخته عندنا (2)، وعند الشافعي: هما على السواء (3).
دليلنا في المسألة: بما روى عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] أنه قال:
"الولاية [في النكاح] للعصبات" (4) والأخ من الأب والأم أقرب العصبة،
فوجب أن تكون الولاية له كما نقول: في الميراث (5).
__________
(1) هنا استعمل المؤلف أسلوب إلزام المخالف، على غير عادته في الاستدلال.
انظر بالتفصيل: المهذب 2/ 38؛ النكت، ورقة (200/ ب).
انظر: مختصر الطحاوي، ص 2/ 38؛ النكت، ورقة (200/ ب).
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 169؛ المبسوط 4/ 219.
(3) المؤلف هنا ذكر القول القديم للشافعي، والمذهب على القول الجديد هو: تقديم
الأخ الشقيق على الأخ لأب كالأحناف، كما نص عليه الشافعي في الأم؛ والشيرازي في
المهذب، وقال النووي في المنهاج: "وهو الأظهر".
انظر: الأم 5/ 13؛ المهذب 2/ 37؛ الوجيز 2/ 6؛ المنهاج، ص 96.
(4) وما بين القوسين زيدت بدلالة ما يذكر في المسألة (256)، ص 378.
ذكر هذا الحديث السرخسي في المبسوط: مرفوعا على علي رضي الله عنه، بلفظ:
"النكاح إلى العصبات"، وذكره المرغيناني في الهداية نحوه، وأورده
الزيلعي في نصب الراية وسكت عنه وكذلك ابن الهمام في فتح القدير، وقال: "ذكره
سبط ابن الجوزي، وقال ابن حجر في الدراية: "لم أجده". وقال العيني:
"ولم يخرجه أحد من الجماعة ولا يثبت، مع أن الأئمة الأربعة اتفقوا على العمل
به في حق البالغة".
انظر: المبسوط 4/ 219؛ الهداية مع فتح القدير 3/ 227؛ نصب الراية 3/ 195؛ الدراية
في تخريج أحاديث الهداية 2/ 62؛ البناية في شرح الهداية 4/ 134.
(5) المبسوط 4/ 219؛ البناية 4/ 135.
(1/376)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الأخ
من الأب في حق القرابة بمنزلة الأخ من الأب والأم، ألا ترى أنه عند عدمه يقوم
مقامه في استحقاق الميراث، فكذلك في الولاية؛ لأن الولاية إنما تثبت بالقرابة،
والقرابة ثابتة، فوجب أن يستويا فيها (1).
مسألة: 254 - تزويج الأب ابنته الصغيرة بأقل من مهر المثل
الأب إذا قبل لابنه الصغير النكاح، أو زوج بنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، فالعقد
صحيح عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يصح (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الأب كامل الولاية، وافر الشفقة، فلا يتهم في حق
الولد؛ لأنه لما زوجها بأقل من مهر مثلها لا يتهم في ذلك؛ لأنه ربما المصلحة في
إحرازها للزوج، فوجب أن يجوز (4)، كما لو زوجها بمهر المثل.
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأنه لما زوجها بأقل من مهر
__________
(1) بين الشيرازي وجهة كلا القولين: فوجه القول القديم - الذي ذكره المؤلف هنا -
بقوله: "لأن الولاية بقرابة الأب، وما في قرابة الأب سواء". ووجه القول
الجديد - الذي هو المذهب - بقوله: "لأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم من يدلي
بالأبوين على من يدلي بأحدهما، كالميراث".
انظر: الأم 5/ 13؛ المهذب 2/ 37.
(2) انظر: الطحاوي، ص 173؛ القدوري، ص 69؛ المبسوط 4/ 224.
(3) وما ذكره المؤلف عن الشافعي: بعدم صحة العقد، قول مرجوح لدى الشافعية والراجح:
أن المسمى يكون فاسدا، ويقع النكاح صحيحا، ولها على الزوج مهر مثلها، وهذا أظهر
قولي الشافعي، كما ذكره النووي في المنهاج.
انظر: الأم 5/ 70؛ المنهاج، ص 102؛ نهاية المحتاج 6/ 345.
(4) انظر: المبسوط 4/ 224، 225.
(1/377)
مثلها، فقد أضرها، فوجب أن يتهم، كما
قلنا: في الأخ إذا زوج أخته بدون مهر مثلها لا يجوز، كذلك ها هنا (1).
مسألة: 255 - إجبار السيد تزويج عبده
يجوز للسيد عندنا: أن يجبر عبده أو أمته على النكاح (2)، وعند الشافعي: لا يجبر
عبده، ولكن يجبر أمته على النكاح (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن المولى يملك أن [يحصن] (4) عبده، ألا ترى أنه يملك
الختان؛ لأن فيه تطهيرا، فكذلك في النكاح؛ لأن في النكاح تحصينا للعبد، فوجب أن
يملك ذلك، كما في الأمة (5).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن المولى إنما يملك تزويج أمته بالإجبار؛ لأن بضع
الأمة ملكه، وأما بضع الغلام ليس بمملوك لسيده، فلا يجوز التصرف فيه (6).
مسألة: 256 - ولاية الابن في تزويج الأم
الابن عندنا: يكون وليا في تزويج أمه (7)، وعند الشافعي: لا يكون (8).
__________
(1) وعلل الشافعي ذلك بقوله؛ لأن الأب لا يملك مهر ابنته لنفسه، وإنما يملكه لها،
كمالها. انظر: الأم 5/ 70.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 174؛ المبسوط 5/ 113.
(3) انظر: الأم 5/ 41؛ المهذب 2/ 41؛ الوجيز 2/ 10؛ المنهاج، ص 98.
(4) في الأصل: "يحضر".
(5) واستدل السرخسي بقوله عز وجل: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}
[النحل: 75]، ثم قال معقبا عليها: "فإنما عقد المولى على شيء لا يقدر العبد
عليه، ولأنه مملوكه على الإطلاق، فيملك نكاحه بغير رضاه، كالأمة ... "،
المبسوط 5/ 113.
(6) انظر: المهذب 2/ 41.
(7) انظر: مختصر الطحاوي، ص 169؛ القدوري، ص 70؛ المبسوط 4/ 219.
(8) انظر: الأم 5/ 13؛ المهذب 2/ 37؛ المنهاج، ص 96.
(1/378)
دليلنا في المسألة: ما روي [عن] علي
رضي الله عنه، أنه قال: "الولاية في النكاح للعصبات" (1) والابن عصبة
أمه، وهو أقرب العصبات إليها، فوجب أن يملك تزويجها، كما في حق الأب إذا زوج ابنته
(2).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الابن ليس بولي في حق الأم، ألا ترى أنه لا يلي
في مالها، فوجب أن لا يلي في نفسها، دليله: الأجنبي (3).
مسألة: 257 - فسخ النكاح للأولياء
أحد الأولياء إذا زوجها من غير [كفء] (4)، لا يثبت للباقين فسخ النكاح عندنا (5)
وعند الشافعي: يثبت (6).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الولاية إنما تثبت بسبب القرابة، والقرابة شيء لا
يتجزأ، كذلك الولاية أيضا التي تبتني على القرابة، وجب أن لا يتجزأ؛ لأن مالا
يتجزأ إنما يثبت كله أو لا يثبت بعضه دون البعض، ولا وجه أن يقال أنه لا يثبت؛
لأنه ثابت، ولا وجه أن يقال: يثبت بعضه دون البعض؛ لأنه لا يتجزأ، وما لا يتجزأ
إذا جزئ ينعدم، فلابد أن يثبت كله قياسا لكل
__________
(1) وقد سبق تخريج الحديث والكلام عنه في المسألة: (253)، ص 376.
(2) انظر: المبسوط 4/ 220.
(3) وعلل الشيرازي ذلك بقوله: "لأن الولاية تثبت للأولياء لدفع العار عن
النسب ولا نسب بين الابن والأم"؛ المهذب 2/ 37.
(4) زيدت لإكمال المعنى.
(5) انظر: البدائع 3/ 1517.
(6) قال النووي في المنهاج: إذا زوج أحد الأولياء من غير كفء برضاها دون رضا
الباقين لم يصح على الراجح، وعلى القول بالصحة، أي بالمرجوح من القولين يثبت لهم
الفسخ.
انظر: الأم 5/ 15؛ المهذب 2/ 39؛ المنهاج، ص 97.
(1/379)
واحد من الأولياء، فإذا زوج أحد
الأولياء برضاها بولاية تامة، وجب أن لا يبقى للباقين حق الفسخ (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الكفاءة إنما تثبت حقا للأولياء، كيلا يتعيروا
بذلك؛ لأن المرأة وضعت نفسها في غير كفء ثبت للأولياء حق الفسخ، فكذلك إذا زوج أحد
الأولياء برضاها من غير كفء، فقد ألحق العار والشنار في الأولياء فوجب أن يثبت
للباقين حق الفسخ، كما قلنا: في المرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء، بغير إذن
الأولياء، يثبت للباقين حتى الفسخ (2).
مسألة: 258 - عقد النكاح بلفظ الهبة
ينعقد النكاح: بلفظ الهبة، عندنا (3)، وعند الشافعي: لا ينعقد (4).
__________
(1) انظر بالتفصيل: البدائع 3/ 1518.
(2) واستدل الشافعية على عدم صحة تزويج أحد الأولياء من غير كفء إلا برضاها ورضى
سائر الأولياء بما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم"؛
أخرجه ابن ماجه عن طريف الحارث بن عمران المديني، وقال البوصيري في الزوائد:
"في إسناده: الحارث بن عمران المديني، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، والحديث
الذي رواه لا أصل له، يعني هذا الحديث، عن الثقات، وقال الدارقطني: متروك".
ورواه الحاكم في مستدركه بهذا السند، وتابعه بسند آخر، وقال: "حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه".
انظر: ابن ماجه، في النكاح، باب الأكفاء (1968)، 1/ 633؛ المستدرك، في النكاح 2/
163؛ المهذب 2/ 39.
(3) ينعقد النكاح عند الأحناف بكل لفظ موضوع للتمليك.
انظر: القدوري، ص 69؛ المبسوط 5/ 59؛ تحفة الفقهاء 2/ 176؛ الهداية 4/ 18، مع
البناية.
(4) وينعقد بلفظ الهبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة عند الشافعي.
انظر: مختصر المزني، ص 167؛ المهذب 2/ 42؛ المنهاج، ص 95، 96.
(1/380)
دليلنا في المسألة: قوله تعالى {وامرأة
مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} (1) فالله تعالى أخبر أن
المرأة إذا وهبت نفسها للنبي ينعقد النكاح، فكذلك في حق أمته (2).
احتج الشافعي، وقال: ليس لكم في الآية حجة؛ لأن الله تعالى قال: {خالصة لك من دون
المؤمنين} أخبر أن النكاح خالصة له، وما يثبت للنبي خاصا لا يثبت في حق أمته، كما
نقول في تسع نسوة، يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج ما أراد، ولا يجوز
لأمته إلا أربع نسوة (3).
والجواب: قوله: {خالصة لك} ليس المراد منه تخصيص النكاح بلفظ الهبة، ولكن قوله:
{خالصة لك}: يعني بدون المهر يجوز له، ولا يجوز لأمته (4).
مسألة: 259 - أثر الزنا في المصاهرة
الزنا يثبت حرمة المصاهرة، عندنا (5)، وعند الشافعي: لا يثبت (6).
وصورة المسألة: إذا زنا بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمت المزنية بها على أب
الزاني، وعلى ولده، عندنا، وعند الشافعي: لا يثبت.
__________
(1) سورة الأحزاب: آية 50.
(2) انظر بالتفصيل: المبسوط 5/ 60؛ البناية في شرح الهداية 4/ 21، 22.
(3) انظر: تفسير البيضاوي؛ والخازن؛ وابن عباس (5/ 218، 219)، في (كتاب مجموعة من
التفاسير)، مختصر المزني، ص 167.
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 633؛ تفسير النسفي (5/ 218)، مع كتاب مجموعة من
التفاسير؛ المبسوط 5/ 60.
(5) انظر: المبسوط 4/ 204؛ البدائع 3/ 1385.
(6) انظر: الأم 5/ 25؛ المهذب 2/ 44؛ الروضة 7/ 113؛ المنهاج، ص 98.
(1/381)
دليلنا في المسألة، وهو: أن حرمة
المصاهرة، إنما تثبت الحرمة بالجزئية والبعضية؛ لأن الاستمتاع لنفسه حرام، فكذلك
الاستمتاع بالجزئية حرام؛ لأن فيه استذلالا، وهذا المعنى في الزنا موجود؛ لأن وطء
الحرام لا يختلف من حيث الجزئية؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن يخلق البشر من ماء
الزاني، كما يخلقه من وطء الحلال، فإذا لم يختلف بالجزئية، وجب أن تثبت الحرمة،
كما في الوطء الحلال (1).
واحتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الله تعالى من علينا بحرمة المصاهرة، وهو قوله
تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} (2) من علينا بثبوت النسب
والصهرية ثم الزنا لا يثبت النسب، فوجب أن لا تثبت حرمة المصاهرة (3).
مسألة: 260 - الزواج بابنة الزنا للزاني
إذا زنا بامرأة فولدت بنتا، فإن هذه البنت تحرم على الزاني: عندنا (4)، وعند
الشافعي: لا تحرم (5).
دليلنا في المسألة: أن هذه البنت جزء من هذا الزاني وبعضه، فيكون حراما عليه (6)
كما نقول في بنت الرضاع (7).
__________
(1) واستدل الأحناف لمذهبهم بقوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء}
[النساء: 22] باعتبار أن النكاح للوطء حقيقة، "فتكون الآية نصا في تحريم
موطوءة الأب على الابن". وقد سبق تفصيل هذا المعنى في تعريف النكاح، في
المسألة: (246)، ص 369؛ المبسوط 5/ 205، 206.
(2) سورة الفرقان: آية 54.
(3) انظر بالتفصيل: الأم 5/ 26؛ المهذب 2/ 44.
(4) انظر: المبسوط 4/ 206؛ البدائع 3/ 1385.
(5) انظر: الأم 5/ 25؛ المهذب 2/ 44؛ المنهاج، ص 98.
(6) انظر: المبسوط 4/ 207؛ البدائع 3/ 1385.
(7) انظر: القدوري، ص 68؛ المنهاج، ص 98.
(1/382)
احتج الشافعي، في المسألة: بما روى عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الولد للفراش وللعاهر الجحر"
(1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الولد للفراش، وهذا ليس بولده شرعا، ألا
ترى أنه لا يثبت النسب، فصارت كالأجنبية؛ لأن كونها بنتا إنما عرفناه بالشرع،
وهاهنا الشرع ما جعلها بنتا، فكيف تثبت الحرمة (2).
مسألة: 261 - الجمع بين الحرة والأمة في النكاح
إذا جمع بين حرة وأمة، فنكاح الحرة صحيح عندنا، ونكاح الأمة باطل (3)، وعند
الشافعي: كلاهما باطل (4).
دليلنا في المسألة: أنه جمع ها هنا بين امرأتين: إحداهما محل للنكاح والأخرى غير
محل للنكاح من حيث الجمع، فوجب أن ينعقد النكاح في حق الحرة، كما قلنا: إذا
تزوجهما على التعاقب، يجوز نكاح الحرة، ويفسد نكاح الأمة (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أنه لما تزوجهما معا، فقد جمع ها هنا بين أن يجوز
النكاح في إحداهما دون الأخرى، فوجب
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما:
البخاري، في الحدود، باب للعاهر الحجر (6817، 6818)، 12/ 127؛ مسلم، في الرضاع،
باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457)، 2/ 1080.
(2) انظر: الأم 5/ 25؛ المهذب 2/ 44.
(3) انظر: القدوري، ص 71؛ المبسوط 5/ 173؛ البدائع 3/ 1409.
(4) ما حكاه الزمخشري عن الشافعي: ببطلان نكاح الحرة والأمة صحيح على قول مرجوح
لدى الشافعية والراجح عندهم: أن نكاح الحرة صحيح ونكاح الأمة باطل، قال النووي في
المنهاج والروضة: وهو الأظهر.
انظر: النكت، ورقة (207/ أ)؛ الروضة 7/ 133؛ المنهاج، ص 98؛ نهاية المحتاج 6/ 289.
(5) انظر: البدائع 3/ 1409.
(1/383)
أن لا ينعقد بهما جميعا، كما لو كان
عبدان: أحدهما حر، فإنه لا ينعقد البيع في العبد (1).
مسألة: 262 - ما يجب على الوالد باستيلاد جارية الابن
الأب إذا استولد جارية ابنه - ولا خلاف أنه يلزمه كمال قيمتها، وتصير الجارية أم
ولد له - فلا يلزمه المهر عندنا (2)، وعند الشافعي: يلزم (3).
دليلنا في المسألة، وهو: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"أنت ومالك لأبيك" (4) جعل مال الابن مضافا إلى الأب، فالأب ها هنا إذا
وطئ جارية الابن واستولدها، احتجنا إلى صيانة ماء الأب، ولا يمكن صيانة مائه إلا
بعد تقديم الملك، فقدمنا الملك على الوطء بالقيمة، فجعل كان الأب واطئ ملك نفسه،
فإذا جعلنا في الحكم أنه واطئ ملك نفسه، فلا يجب المهر (5).
احتج الشافعي بأن قال: إن الوطء صادف ملك غيره؛ لأن الأب لا حق له في وطء جارية
ابنه، فلو خلينا والقياس، لكنا نقول: يجب الحد على الأب، إلا أن الحد يسقط لمكان
الشبهة وهو: قوله - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك" فإذا أسقطنا
الحد للشبهة وجب
__________
(1) النكت، ورقة (207/ أ).
(2) انظر: المبسوط 5/ 122.
(3) وعند الشافعية يلزم الأب: "قيمتها مع مهر، لا قيمة ولد، في الأصح".
انظر: المهذب 2/ 46؛ النكت، ورقة (206/ أ)؛ المنهاج، ص 101؛ الروضة 7/ 208؛ نهاية
المحتاج 6/ 326، 327.
(4) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة
رضوان الله عليهم، وقد سبق تخريجه في المسألة (139)، ص 246.
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 5/ 123.
(1/384)
أن يثبت المهر؛ لأن الوطء في دار
الإسلام لا يخلو من أحد الوجهن: إما الحد، وإما المال، فإذا أسقط الحد وجب المال
(1).
المسألة: 263 - أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع نسوة أو أختان
إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع نسوة، أو تحته أختان، فإن عندنا: إن كان تزوجهن
بعقدة واحدة، بطل نكاح الكل، وإن تزوجهن على التعاقب اختار نكاح أربع منهن، ويبطل
نكاح الباقي (2)، وعند الشافعي: يختار أربعا منهن، وفي الأختين أيتهما شاء سواء
تزوجهن بعقدة واحدة أو بالاختلاف (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن حرمة الجمع ثابتة في حق المسلم ابتداء، فكذلك يحرم
تبقيته، كما في الزنا (4).
__________
(1) انظر: النكت، ورقة (206/ أ)، نهاية المحتاج 6/ 326، 327.
(2) ما ذكره المصنف عن الأحناف: "بأنه إذا تزوجهن على التعاقب اختار نكاح
أربع منهن" غير صحيح.
والصحيح عن الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه إذا تزوجهن على
التعاقب والترتيب في عقود متفرقة، صح نكاح الأربع، وبطل نكاح الخامسة وكذا في
الأختين يصح نكاح الأولى ويبطل نكاح الثانية. انظر: المبسوط 5/ 53؛ البدائع 3/
1508.
(3) انظر: الأم 5/ 49؛ المهذب 2/ 53؛ الوجيز 2/ 15؛ المنهاج، ص 99.
(4) استدل المؤلف للأحناف إجمالا، ولم يبين الفرق في المسألة بين ما إذا كان نكاح
الأختين أو نكاح ما زاد على أربع في عقدة واحدة، وما إذا كان النكاح في المسألتين
في عقود متفرقة، وهذه هي نقطة الخلاف بين المذهبين.
والفرق بين الحالتين: هو أنه إذا حصل نكاح الجميع في عقدة واحدة فقد حصل نكاح
الجمع المحرم بهن جميعا، وكذلك في الأختين، وليس إبطال نكاح إحداهن بأولى من
الأخرى، فيبطل نكاح الجميع. وأما إذا وقع النكاح على الترتيب والتعاقب في عقود
متفرقة، فنكاح الأربع الأولى منهن وقع صحيحا وكذلك الأخت الأولى، ولم يصح نكاح
الخامسة والأخت الثانية؛ لأن الجمع المحرم إنما حصل من الخامسة والأخت الثانية
فتعين الفساد في نكاح من حصل الجمع بنكاحها، وكان نكاحها فاسدا بحكم الإسلام ومن
لم يحصل بنكاحها الجمع وكان نكاحها صحيحا بحكم الإسلام، بقي نكاحهن على الأصل.
راجع: المصادر السابقة للأحناف.
(1/385)
احتج الشافعي: "بما روى أن غيلان
الثقفي أسلم وتحته خمس نسوة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن يختار
أربعا منهن" (1)، ولم يستفسر: أنه تزوجهن على التعاقب، أو على عقدة واحدة
(2).
مسألة: 264 - نكاح الأخت في عدة أختها من طلاق بائن
نكاح الأخت في عدة الأخت من طلاق بائن، لا يجوز عندنا (3)، وعند الشافعي يجوز (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن العدة من آثار النكاح، فوجب أن يعمل عمل النكاح في
الحرمة، كما في حال قيام نكاح اختها (5).
احتج الشافعي: بأن حرمة الجمع إنما تكون لمعنى وهو: قطيعة [القرابة] (6) وهذا
المعنى معدوم بعد الطلاق، ألا ترى أن
__________
(1) الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرما عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقد روى
هذا الحديث من عدة طرق مرفوعا وموقوفا، وقد ضعف الأئمة رواية الرفع، قال الأثرم عن
أحمد: "هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه"، وقال آخرون غير ذلك، وأما
رواية الوقف، فقال عنها ابن حجر: "والموقوف على ابن عمر هو الذي حكم البخاري
بصحته".
انظر: الترمذي، في النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة (1128)، 3/
435؛ ابن ماجه، نحوه (1953)، 1/ 628.
راجع أقوال المحدثين فيه، واختلاف طرقه: التلخيص الحبير 3/ 168، 169.
(2) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(3) لا يجوز عند الأحناف نكاح الأخت في عدة أختها مطلقا: سواء كانت مطلقة طلاقا
رجعيا أو بائنا، من نكاح فاسد أو جائز.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 176؛ القدوري، ص 68؛ المبسوط 5/ 202؛ تحفة الفقهاء 2/ 188.
(4) انظر: المهذب 2/ 44؛ الروضة 7/ 117.
(5) واستدل الأحناف أيضا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم: "على تحريم نكاح
الأخت في عدة الأخت".
انظر: المبسوط 4/ 202، 203.
(6) في الأصل" (قطيعة المغايرة).
(1/386)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا تزوج المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على
ابنة أختها، فإنكن إن فعلتن ذلك، فقد قطعتن أرحامكن" (1).
مسألة: 265 - نكاح الأمة
نكاح الأمة، عندنا يصح بشرط واحد: وهو أن لا يكون تحته حرة (2)، وعند الشافعي: لا
يصح، إلا أن يكون بثلاثة شرائط: إحداها: أن [لا] (3) يكون قادرا على مهر الحرة،
والثاني: أن يكون [خائفا] من العنت، والثالث: أن لا يكون تحته حرة (4).
دليلنا في المسألة؛ لأن القدرة على الشيء لا تكون كوجوده، ألا ترى أن المسافر إذا
كان عنده ثمن الماء ولا يباع بمثل الثمن، يباح له التيمم، فوجود القدرة على الثمن
لا يقوم مقام وجود الماء في
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ - بلفظ الخطاب للنساء في المواضع كلها - أخرجه ابن حبان من
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكره الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن
حبان، وابن حجر في التلخيص.
لكن الجزء الأول من الحديث: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"
فقد أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة. البخاري، في النكاح،
باب لا تنكح المرأة على عمتها (5108 - 5110)، 9/ 160؛ مسلم، في النكاح، باب تحريم
الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (1408)، 2/ 1028؛ موارد الظمآن إلى
زوائد ابن حبان، للهيثمي، ص 310؛ التلخيص الحبير 3/ 167، 168.
وانظر أدلة الشافعية بالتفصيل: النكت، ورقة (204/ ب).
(2) انظر: القدوري، ص 71؛ المبسوط 5/ 108؛ البدائع 3/ 1406.
(3) زيدت لتصحيح الحكم.
(4) وزاد النووي في الروضة شرطا رابعا وهو: "كون الأمة المنكوحة مسلمة".
انظر: الأم 5/ 9؛ المهذب 2/ 46؛ الروضة 7/ 132؛ المنهاج، ص 98.
(1/387)
حرمة التيمم (1)، فكذلك ها هنا دون
الحرة [لا تقوم] (2) مقام الحرة تحته (3).
احتج الشافعي، في المسألة: بقول الله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} (4) فالله تعالى علق
جواز نكاح الأمة بشرط عدم طول الحرة، وها هنا هذا الرجل قادر على [تزوج] (5) الحرة
إذا كان عنده المهر، فوجب أن لا يجوز نكاح الأمة، وكان المعنى فيه: لأن في نكاح
الأمة تعريض جزئه إلى الرق، فوجب أن لا يجوز إلا عند الضرورة (6).
مسألة: 266 - نكاح الأمة الكتابية
نكاح الأمة الكتابية، جائز عندنا (7)، وعند الشافعي: لا يجوز (8).
__________
(1) انظر: المبسوط 1/ 115.
(2) في الأصل: (لا يكون).
(3) واستدل الأحناف بظاهر قول الله عز وجل: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}
[النساء: 3] (النساء 3)،
وقال السرخسي مبينا وجه الدلالة: "فإذا استطاب نكاح الأمة جاز له ذلك بظاهر
الآية - ثم قال - والمعنى فيه: أن النكاح يختص بمحل الحل، والأمة من جملة المحلات
في حق الحر، كالحرة" وأدلة أخرى.
انظر: المبسوط 5/ 109، 110؛ البدائع 3/ 1406 وما بعدها.
(4) سورة النساء: آية 25.
(5) في الأصل: (تزويج).
(6) انظر بالتفصيل: الأم 5/ 9، 10؛ المهذب 2/ 46.
(7) انظر: القدوري، ص 71؛ البدائع 3/ 1414.
(8) انظر: الأم 5/ 157؛ المهذب 2/ 45، 46؛ المنهاج، ص 101.
(1/388)
دليلنا في المسألة، وهو: أنا أجمعنا
أنه لو تزوج امرأة كتابية حرة جاز، فكذلك إذا كانت أمة (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن نكاح الأمة إنما يجوز عند الضرورة، ولهذا قلنا:
لا يجوز، إلا عند الخوف من الزنا، وها هنا لا حاجة [في التزوج (2) بالأمة]
الكتابية؛ لأن الضرورة ترتفع بالأمة المسلمة، فوجب أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية
(3).
مسألة: 267 - نكاح المولود بين مجوسي وكتابي
[أحد (4) الأبوين إذا كان] ذميا، والآخر: مجوسيا، فإذا ولد منها ولد، عندنا يحل
نكاحه (5)، وعند الشافعي: لا يحل (6).
__________
(1) واحتج الأحناف من النقل بعمومات آيات النكاح: كقوله سبحانه وتعالى: {وأحل لكم
ما وراء ذلكم} (النساء 24)، وقوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن} (النساء 25)،
وغيرها من الآيات.
وقال الكاساني مبينا وجه الدلالة: "بأنها لم تفصل بين الأمة المؤمنة والأمة
الكافرة إلا ما خص بدليل".
انظر: البدائع 3/ 1415.
(2) في الأصل: (في تزويج الأمة).
(3) واستدل الشافعية بقول الله عز وجل: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25].
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 157، 158؛ المهذب 2/ 45، 46.
(4) في الأصل: (إحدى الأبوين إذا كان أحدهما ذميا).
(5) انظر: مختصر الطحاوي، ص 178؛ القدوري، ص 72؛ المبسوط 10/ 63؛ الهداية 4/ 314،
مع البناية.
(6) انظر: المهذب 2/ 45؛ المنهاج، ص 99.
(1/389)
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الولد يتبع خير الأبوين دينا" (1).
وها هنا خير الأبوين: إنما هو الذمي، وهذه ذمية تبعا لأحد أبويه، فيجوز نكاحها،
كما لو ولدت من الذميين (2).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أنه اجتمع ها هنا ما يحل وما لا يحل؛ لأن الحرام
والحلال إذا اجتمعا كانت الغلبة للحرمة، فوجب أن يحتاط فيه؛ لأن حرمة الفرج مما
يحتاط فيه (3).
مسألة: 268 - عدة المهاجرة باختلاف الدارين
اختلاف الدار، يوجب المفارقة، عندنا من غير انقضاء العدة (4)، وعند الشافعي: لا
يوجب (5).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات
فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن
حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن
__________
(1) قال المصنف عن هذا النص بأنه حديث، ولم أقف عليه في مدونات الحديث، والظاهر
أنه قاعدة فقهية، كما ذكره السرخسي وابن القيم: "الولد يتبع أمه في الحرية
والرق، ويتبع أباه في النسب والتسمية، ويتبع في الدين خير أبويه دينا".
انظر: المبسوط 10/ 63؛ ابن قيم الجوزية، تحفة المودود في أحكام المولود، ص 135.
(2) انظر: شرح فتح القدير مع العناية 3/ 418؛ البناية 4/ 315.
(3) انظر القاعدة الفقهية: (إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام) بالتفصيل:
السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعية، ص 105، 106.
(4) انظر: القدوري، ص 71؛ البدائع 3/ 1411؛ الهداية 4/ 325، مع البناية.
(5) انظر: المهذب 2/ 155؛ أحكام القرآن للكياالهراسي 3/ 410؛ تخريج الفروع على
الأصول، ص 278.
(1/390)
تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} (1)
فالله تعالى جوز نكاح المهاجرة، ولم يشترط فيه انقضاء العدة (2).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن هذه فرقة تقع بسبب تباين الدارين، فوجب أن لا
يجل تزويجها إلا بعد انقضاء العدة، كما في فرقة الطلاق (3).
مسألة: 269 - الفرقة بين الزوجين بالارتداد
إذا ارتد الزوجان، لا تقع الفرقة بينهما، ويبقيان على النكاح عندنا (4)، وعند
الشافعي: تقع الفرقة (5).
دليلنا في المسألة؛ لأن الفرقة إنما تقع بتباين الدارين، أو بتياين الدينين، ولم
يوجد ها هنا تباين الدينين فوجب أن لا تجب
__________
(1) سورة الممتحنة: آية 10.
(2) يجوز نكاحها إذا لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا فلا يجوز نكاحها حتى تضع حملها.
انظر: البدائع 3/ 1411، 1413؛ البناية 4/ 326.
انظر الأدلة بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 3/ 438 - 441.
(3) وذكر الكيا للهراسي، مستنبطا من الآية السابقة: "إنما جعل الفرقة
للإسلام" ولم يجعل بتباين الدارين.
راجع: المصادر السابقة للشافعية، تفسير القرطبي 18/ 64؛ أحكام القرآن 3/ 410.
(4) ويظهر ذلك بوضوح: فيما إذا ارتد الزوجان معا، وأسلما معا، فهما يبقيان على
نكاحهما السابق.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 181؛ القدوري، ص 71؛ الهداية 4/ 328، مع البناية.
(5) المسألة عند الشافعية فيها تفصيل بالنسبة لزمن الارتداد: فإن كانت ردتها قبل
الدخول، وقعت الفرقة بينهما، وإن كانت بعد الدخول، توقفت الفرقة على انقضاء العدة،
فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة، فهما على نكاحهما، وإلا فقد وقعت الفرقة
من الردة.
انظر: المهذب 2/ 55؛ المنهاج، ص 99.
(1/391)
الفرقة، كما لو دخل الزوجان دار
الإسلام، يبقيان على النكاح كذلك ها هنا (1).
احتج الشافعي وهو أن المعنى: أنه لو ارتد أحد الزوجين، وجبت الفرقة بسبب الردة
عقوبة عليه، وهذا المعنى موجود إذا ارتدا معا، فوجب أن تقع الفرقة (2).
مسألة: 270 - نكاح الشغار
نكاح الشغار (3)، جائز عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يجوز (5).
وصورته: أن يقول لأحد: زوجتك ابنتي، أو زوجتك أمتي، على أن تزوجني ابنتك أو أمتك
فإن عندنا: يجوز هذا العقد، [وعند الشافعي: لا يجوز].
__________
(1) واستدل الأحناف بالاستحسان "بما روي أن بني حنيفة ارتدوا ثم أسلموا ولم
يأمرهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بتجديد الأنكحة". الهداية 1/ 221.
(2) انظر: المهذب 2/ 55؛ النكت، (ورقة 208/ أ).
(3) الشغار من الشغور وهو الإخلاء والرفع، يقال: شغر البلد شغورا - من باب قعد -:
إذا خلا عن الناس، أو خلا عن حافظ يمنعه، وسمى النكاح بذلك لخلوه من المهر، ويقال
أيضا: شغر الكلب شغرا - من باب نفع -: إذا رفع إحدى رجليه ليبول، "وقيل سمي
به؛ لأنهما رفعا المهر من العقد".
انظر: المغرب، المصباح، مادة: (شغر).
وشرعا: ، هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه المتزوج بنته أو أخته ليكون أحد
العقدين عوضا عن الآخر". ونكاح الشغار من أنكحة الجاهلية.
انظر: الأم 5/ 76؛ المبسوط 5/ 105؛ الهداية 4/ 213، مع البناية؛ نهاية المحتاج 6/
215.
(4) يجوز العقدان عند الأحناف، وعلى كل واحد منهما مهر مثلهما.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 181؛ القدوري، ص 70؛ المبسوط 5/ 105؛ البدائع 3/ 1430،
1431.
(5) انظر: الأم 5/ 76، 77؛ المهذب 2/ 47؛ المنهاج، ص 96.
(1/392)
دليلنا في المسألة وهو: أن من شرط
الجواز [في] عقد النكاح: أن لا يكون خاليا عن العوض، وقد وجد هاهنا العوض؛ لأن بضع
كل واحد منهما عوض للآخر فوجب أن يجوز (1).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه نهى
عن نكاح الشغار" (2).
مسألة: 271 - النكاح بشرط
النكاح يصح بشرط ثلاثة أيام عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يصح (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن الشرع إنما جوز خيار الشرط لأجل
__________
(1) وحجة الأحناف في جواز ذلك: "أنه سمى بمقابلة بضع كل واحدة منهما ما لا
يصح أن يكون صداقا، كالخمر فيكون شرطا فاسدا، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة،
ومن ثم يجب عليه مهر المثل".
والدليل عليه ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "نهى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لواحد منهما مهر".
وقال الكاساني مبينا وجه الاستدلال: "وهو إشارة إلى أن النهي لمكان تسمية
المهر، لا لعين النكاح، فبقي النكاح صحيحا".
لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ، وإنما معناه معنى الشغار، وقد روي ذلك عن ابن عمر
في الصحيحين، كما يأتي تخريجه في دليل الشافعي.
انظر بالتفصيل: البناية في شرح الهداية 4/ 213 وما بعدها، مع مصادر الأحناف
السابقة.
(2) الحديث أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، في النكاح،
باب الشغار (5112)، 9/ 162؛ مسلم، في النكاح، باب تحريم الشغار وبطلانه (1415)، 2/
1034.
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 77، المهذب 2/ 47.
(3) يقع النكاح بشرط الخيار صحيحا، ويكون الشرط باطلا، عند الأحناف.
انظر: المبسوط 5/ 94.
(4) أي يقع النكاح باطلا.
انظر: الأم 5/ 81؛ المهذب 2/ 48؛ المنهاج، ص 96.
(1/393)
المغابنة، والمغابنة في باب النكاح
أكثر من باب البيع، فيجوز بشرط الخيار، فكذلك في النكاح (1).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأنا لو خلينا والقياس لكنا نقول: في باب البيع لا يجوز
بشرط الخيار، إلا أن الشرع جوز في باب البيع؛ لأنه يقع بغتة، والنكاح ليس في معنى
البيع، فوجب أن لا يجوز بشرط الخيار (2).
__________
(1) واستدل الأحناف على صحة النكاح بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث
جدهن جد وهزلهن جد: النكاح
والطلاق والعتاق". أخرجه الإمام مالك في الموطأ بهذا اللفظ موقوفا على ابن
المسيب، في النكاح، باب جامع النكاح (56)، 2/ 548، وأصل هذا حديث مرفوع عن أبي
هريرة رضي الله عنه أخرجه: أبو داود، في الطلاق، باب الطلاق على الهزل (2194)، 2/
259؛ الترمذي، في الطلاق، باب ما جاء في الحد والهزل في الطلاق (1184)، 3/ 490؛
ابن ماجه، في الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبا، (2039)، 1/ 657.
وبين السرخسي وجه الدلالة بقوله: "والهزل واشتراط الخيار سواء .. حيث لا يمنع
الهزل تمام النكاح، فاشتراط الخيار أولى .. والمعنى فيه: أنه عقد لا يحتمل الفسخ
بعد تمامه ولا يقبل خيار الشرط، فاشتراط فيه لا يمنع تمامه، كالطلاق والعتاق بمال
... ".
انظر: المبسوط 5/ 94، 95.
(2) واستدل الشافعي لبطلان النكاح بشرط الخيار: "بنهي النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن نكاح المتعة". الحديث أخرجه الشيخان من حديث علي بن أبي طالب رضي
الله عنه: البخاري، في المغازي، باب غزوة خيبر (4216)، فتح الباري 7/ 481؛ مسلم،
في النكاح، باب نكاح المتعة (1407)، 2/ 1027.
والمعنى فيه: بأن النكاح يقصد به إحلال المنكوحة مطلقا، والمتعة يقصد به إيقاع
النكاح مؤقتا، ونفس هذا المعنى موجود في النكاح بشرط الخيار، بل هو أقبح منه كما
قال الشافعي: "لأن النكاح بالخيار غير ثابت في حال، وثابت في أخرى" بعكس
نكاح المتعة، فإنه يقع على ثابت أولا إلى مدة وغير ثابت إذا انقطعت المدة".
انظر: الأم 5/ 81.
سبب الخلاف:
وسبب الخلاف بين الطرفين في هذه المسألة هو أن الشرط الفاسد إذا وقع مقارنا للعقد،
يقع العقد باطلا لدى الشافعية، لمقارنته الشرط الفاسد.
وأما الأحناف: فلا يؤثر عندهم مقارنة الشرط الفاسد للعقد، ما دام العقد قد وقع
مستوفيا لأركانه. وقد سبق تفصيل هذه المسألة في كتاب البيوع، في المسألة (164)، ص
276.
(1/394)
مسألة: 272 - رد المنكوحة بالعيوب
المنكوحة لا ترد بالعيب عندنا، وعند الشافعي: ترد بالعيوب الخمسة: بالجب والعنة،
والرتق والفتق، والجنون، والبرص، [و] عندنا: لا ترد بالبرص والجنون (1).
__________
(1) العيوب المثبتة للخيار ثلاثة أقسام:
الأول: العيوب المشتركة بين الرجال والنساء وهي:
1 - البرص: داء معروف، على هيئة بياض يصيب جلد الإنسان.
2 - الجذام: "علة صعبة يحمر منها العضو، ثم يسود ثم ينقطع ويتناثر".
3 - الجنون: استتار العقل، وهو معروف.
الثاني: العيوب المختصة بالرجال وهي:
1 - الجب بفتح الجيم وتشديد الباء: القطع ومنه "المجبوب الخصي الذي استوصل
ذكره وخصياه".
2 - العنة بضم العين وتشديد النون، من العنين، وهو من لا يقدر على إتيان النساء.
الثالث: العيوب المختصة بالنساء وهي:
1 - الرتق: بفتح الراء والتاء "انسداد محل الجماع باللحم".
2 - القرن: "عظم في الفرج يمنع الجماع" وقيل لحم ينبت فيه.
فجملة هذه العيوب سبعة، ويمكن في حق كل واحد من الزوجين خمسة.
انظر: المغرب، المصباح، المعجم الوسيط: (برص، جذم، جبب، عنن)، تصحيح التنبيه، ص
105.
واختلف الفقهاء في ثبوت خيار الفسح لأحد الزوجين بوجود عيب من هذه العيوب المذكورة
في أحدهما:
فذهب الأحناف إلى عدم ثبوت الخيار للزوج مطلقا، بوجود العيوب في المرأة، وكذلك
للمرأة، ما عدا عيب الجب والعنة والحق بهما: (التأخذ، والخصاء، والخنوثة)، فإنه
يجوز لها - بهذين العيبين المخلة بالوطء - الخيار: بين الفسخ والبقاء على النكاح،
"وذلك لدفع ضرر فوات حق المرأة المستحق بالعقد وهو: الوطء وهذا الحق لم يفت
بالعيوب الباقية، فلا يثبت لها الخيار. بخلاف ما إذا كانت هذه العيوب في جانب
المرأة: كالرتق والقرن، فإن الزوج وإن كان يتضرر بها لكن يمكنه دفع الضرر عن نفسه
بالطلاق، فإن الطلاق بيده، "والمرأة لا يمكنها ذلك؛ لأنها لا تملك الطلاق
فتعين الفسخ طريقا لدفع الضرر". =
(1/395)
دليلنا في المسألة وهو: أن الرد بالعيب
إنما يثبت في البيع؛ لأن البيع لازم، فلو لم يرد يبقى في يده.
وأما هاهنا الطلاق في يد الزوج إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها بالعيب، فلا حاجة بنا
إلى إثبات خيار الرد (1).
احتج الشافعي [في المسألة] وهو: أن النكاح عقد معاملة، فوجب أن يرد بالعيب، كما في
سائر المعاملات (2).
مسألة: 273 - خيار الأمة إذا اعتقت تحت حر
الأمة إذا أعتقت تحت عبد، لا خلاف أنه يثبت لها لخيار، وإذا كانت تحت حر يثبت لها
الخيار عندنا (3)، وعند الشافعي لا يثبت (4).
__________
= وذهب الشافعية: إلى إطلاق جواز الفسخ للزوجين بوجود عيب من هذه العيوب في الجانب
الآخر قل ذلك العيب أم كثر.
وهناك اختلاف وتفصيل: في كيفية ثبوت الفسخ وزمنه وآثاره المترتبة من فرقة ومهر،
ونحوها، وكذلك وجود العيوب فيهما معا. فمن شاء التوسع والاستزادة فعليه بمراجعة
المراجع الآتية للمذهبين. انظر: مختصر الطحاوي، ص 181؛ المبسوط 5/ 95؛ تحفة
الفقهاء 2/ 335؛ البدائع 3/ 1526 وما بعدها.
الأم 5/ 84؛ المهذب 2/ 49؛ التنبيه، ص 105؛ الوجيز 2/ 18؛ الروضة 7/ 176، 177؛
المنهاج، ص 100.
(1) راجع: المراجع السابقة للأحناف.
(2) واستدل الشيرازي للشافعية بحديث زيد بن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: تزوج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من بني غفار فرأى بكشحها وضحا من بياض
فقال: "ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك"، وألحق لها مهرها.
رواه البيهقي في سننه وقال: "هذا مختلف فيه على جميل بن زيد، وقال البخاري لم
يصح حديثه". السنن الكبرى 7/ 256، 257.
انظر ما رواه الشافعي من الآثار في الموضوع: الأم 5/ 84، 85؛ المهذب 2/ 49.
(3) انظر: القدوري، ص 71؛ المبسوط 5/ 99.
(4) انظر: الأم 5/ 122؛ المهذب 2/ 51؛ المنهاج، ص 100.
(1/396)
دليلنا في المسألة: "بما روى عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين أعتقت بريرة فقال لها: "ملكت بضعك
فاختاري". فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت لها الخيار، ولم يبين أن زوجها
حرا كان أو عبدا (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الشرع إنما أثبت لها الخيار إذا كان الزوج عبدا،
لعدم الكفاءة؛ لأن الحر [ة] لا تكون كفوا للعبد، فإذا كان زوجها حرا، فقد وجدت
الكفاءة، فلا يثبت لها الخيار (2).
مسألة: 274 - نكاح المحرم
نكاح المحرم، عندنا: جائز (3)، وعند الشافعي: باطل (4). دليلنا في المسألة وهو: أن
الشرع إنما حرم على المحرم الجماع، لقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج} (5)، والنكاح ليس بجماع، فوجب أن لا يكون منهيا عليه (6).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، ولفظ البخاري: "فخيرها من
زوجها"، ولفظ مسلم: "فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت
نفسها": البخاري، في الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد (5281، 5284)، 9/ 406
- 410؛ مسلم، في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504)، 2/ 1141.
(2) واستدل الشافعي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها السابق، مع إثبات أن زوج
بربرة:
مغيثا، كان عبدا، لما روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 122، 123؛ المهذب 2/ 51.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 81؛ القدوري، ص 68؛ المبسوط 4/ 191.
(4) انظر: الأم 5/ 78؛ المهذب 2/ 43؛ المنهاج، ص 96.
(5) سورة البقرة: آية 197.
(6) واستدلوا كذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - تزوج بميمونة وهو محرم".
أخرجه الستة، وزاد البخاري: "وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف": البخاري،
في النكاح، باب تزويج المحرم (5114)، 9/ 165؛ مسلم، في النكاح، باب تحريم نكاح
المحرم وكراهة خطبته (1410)، 2/ 1031.
(1/397)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الشرع
إنما حرم على المحرم الارتفاق نحو: لبس المخيط، والطيب، وما أشبه ذلك، والارتفاق
في النكاح أكثر، فوجب أن يحرم عليه، كما في الوطء؛ لأن النكاح سبب داع إلى الوطء،
والوطء حرام، كذلك سببه وجب أن يكون حراما (1).
__________
(1) واستدل الشافعي من النقل بما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ...
" الحديث. رواه الجماعة إلا البخاري.
مسلم، في النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته (1409)، 2/ 1030.
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 78، 89.
(1/398)
باب الصداق (1)
[مسألة]: 275 - أقل المهر
الصداق، عندنا: لا يجوز أن يكون أقل من عشرة دراهم (2)، وعند الشافعي: لا يكون
مقدرا، حتى لو تزوجها بقليل المهر, فإنه يجوز (3).
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
مهر أقل من عشرة" (4).
__________
(1) الصداق: بفتح الصاد وكسرها، وفيه لغات أخرى، يقال: أصدقت المرأة سميت لها
صداقا: أي مهرا، وسمي بذلك: لاشعاره بصدق رغبة باذلة في النكاح الذي هو الأصل في
إيجاب المهر" وجمعه على: صدق - بضمتين - وأصدقه، وصدقات. وله عدة أسماء،
جمعها بعضهم في بيت:
مهر صداق نحلة وفريضة ... طول حباء عقر أجر علائق
انظر: الصحاح، المغرب، المصباح المنير، مادة: (صدق)، مغني المحتاج 3/ 220.
وعرفه الشربيني شرعا: "ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرا كرضاع ورجوع
شهود". مغني المحتاج 3/ 220.
(2) تقدر أدنى المهر عند الأحناف "بعشرة دراهم فضة، أو دينار ذهب خالص".
انظر: المبسوط 5/ 80؛ تحفة الفقهاء 2/ 200؛ البدائع 3/ 1426.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 179؛ المهذب 2/ 56؛ المنهاج، ص 103.
(4) الحديث رواه الدارقطني والبيهقي عن مبشر بن عبيد .. عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا
يزوجهن إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم".
وقد تكلم المحدثون في هذا الحديث وضعفوه من جهة رواية: مبشر بن عبيد.
وقال الدارقطني: "هو متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها"، وقال
البيهقي: "ضعيف=
(1/399)
احتج [الشافعي] في المسألة وهو: أن
النكاح عقد معاوضة، فكان تقدير البدل مفوضا إلى المتعاقدين، ولا يكون مقدرا شرعا،
كما في البيع (1).
مسألة: 276 - الصداق بمنافع الحر
منافع الحر لا يجوز أن تكون صداقا عندنا (2)، وعند الشافعي: يجوز أن تكون صداقا
(3).
دليلنا في المسألة وهو: أن من شرط صحة النكاح، أن يكون المال موجودا لقوله تعالى:
{أن تبتغوا بأموالكم} (4) ومنافع الحر ليست بمال، فوجب أن لا ينعقد عليه النكاح،
كما لو تزوجها على خمر أو خنزير (5).
احتج الشافعي في المسألة [وهو]: قصة موسى مع شعيب صلوات الله عليهما؛ لأن الله
تعالى أخبر عنهما بقوله: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني
حجج فإن
__________
= بمرة"، ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه وصفه بالكذب والوضع، وقيل فيه غير
ذلك. وقال أبو عمرو بن عبد البر: "هذا حديث ضعيف لا أصل له ولا يحتج بمثله.
انظر: سنن الدارقطني 3/ 245؛ السنن الكبرى 7/ 133؛ نصب الراية 3/ 196؛ البناية 4/
151.
(1) واستدل الشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتما من
حديد". الحديث أخرجه الشيخان (بطوله) من حديث سهل بن سعد: البخاري، في النكاح،
باب تزويج المعسر (5071)، 9/ 116؛ مسلم، في النكاح، باب الصداق وجواز كونه قرانا
(1425)، 2/ 1040.
انظر الأدلة بالتفصيل: مختصر المزني، ص 178، 179؛ التلخيص الحبير 3/ 190 - 193.
(2) انظر: تحفة الفقهاء 2/ 202؛ البدائع 3/ 1431.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 179، المهذب 2/ 57؛ المنهاج، ص 103.
(4) سورة النساء: آية 24.
(5) انظر بالتفصيل: البدائع 3/ 1432.
(1/400)
فإن أتممت عشرا فمن عندك} (1) فهذا
نكاح على منافع الحر، فكان جائزا (2).
مسألة: 277 - أثر الخلوة في المهر
الخلوة الصحيحة، توجب كمال المهر، عندنا (3)، وعند الشافعي: لا توجب (4).
وصورة المسألة: الزوج إذا خلا بامرأته في بيت، وأغلق عليهما الباب، أو أرخي عليها
سترا، ولم يكن بينهما مانع طبعي ولا شرعي، و [لم يكن معهما] (5) ثالث، ولكنه لم
يدخل بها ثم طلقها، يلزم: كمال المهر والعدة عندنا، وعند الشافعي: يلزم نصف
الصداق.
دليلنا في المسألة: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حين سئل عن هذه المسألة فقال
ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم (6).
__________
(1) سورة القصص: آية 27.
(2) انظر: المهذب 2/ 57؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/ 335.
(3) انظر: المبسوط 5/ 148، 149؛ تحفة الفقهاء 2/ 207، 362.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 183؛ المهذب 2/ 58؛ الروضة 7/ 263.
(5) في الأصل: (ولا يكون معها).
(6) رواه الشافعي في مختصر المزني، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى. راجع الآثار
الواردة الصريحة في إيجاب الصداق بإغلاق الباب وإرخاء الستر، في مصنف ابن أبي شيبة.
انظر: مختصر المزني، ص 183؛ مصنف ابن أبي شيبة 4/ 234؛ السنن الكبرى 7/ 255، 256.
واستدل الأحناف أيضا بقول الله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}
(النساء 21)، وذكر السرخسي وجه الدلالة بقوله: "نهى عن استرداد شيء من الصداق
بعد الخلوة، فإن الإفضاء عبارة عن الخلوة ومنه قول القائل: أفضيت إليه بشغري أي
خلوت به، وذكرت له سري، وتبين بهذا أن المراد بما تلي المسيس أو ما يقوم مقامه وهي
الخلوة".
انظر بالتفصيل: المبسوط 5/ 149؛ راجع دليل الشافعية من المسألة (272)، ص 365.
(1/401)
احتج الشافعي [في المسألة] وهو: أنه
طلاق قبل الدخول، والطلاق قبل الدخول يوجب تنصيف الصداق، لقوله تعالى: {وإن
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} (1).
فالله تعالى أوجب: نصف المهر بالطلاق قبل الدخول (2).
مسألة: 278 - مهر المفوضة
المفوضة (3)، عندنا: تستحق المهر بنفس العقد (4)، وعند الشافعي: يجوز العقد دون
المهر (5).
دليلنا في المسألة وهو: أن النكاح ملك المرأة، فلا يخلو من عوض؛ لأن إيجاب المهر
حق للشرع، والمرأة لما فوضت نفسها ورضيت بدون المهر، وجب أن لا يعمل رضاها في
تسمية المهر، كما في العدة (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية 237.
(2) قال المزني رحمه الله: "وقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس [رضي الله عنهم]
معنى ما قال الشافعي، وهو ظاهر القرآن".
انظر: مختصر المزني، ص 184؛ المهذب 2/ 58؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 206.
(3) المفوضة: من التفويض: أي التسليم، ويعني بها هنا: المرأة التي تنكح بغير صداق،
ومنه يقال: ) فوضت المرأة نكاحها إلى الزوج حتى تزوجها من غير مهر".
"والمفوضة: اسم فاعل، وقال بعضهم اسم مفعول؛ لأن الشرع فوض أمر المهر إليها
في إثباته وإسقاطه".
انظر: المصباح المنبر، مادة: (فوض)، المهذب 2/ 61.
(4) انظر: المبسوط 5/ 62؛ تحفة الفقهاء 2/ 206.
(5) وعند الشافعية لا تستحق المفوضة شيئا بنفس العقد في أظهر قولي الشافعي.
انظر: الأم 5/ 68؛ المهذب 2/ 61؛ الوجيز 2/ 29؛ المنهاج، ص 102.
(6) واستدل الأحناف لمذهبهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه
قضى في بروع بنت واشق - ونكحت بغير مهر فمات زوجها - فقضي لها بمهر نسائها وقضى
لها بالميراث".
الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن مسعود ومعقل بن سنان الأشجعي، =
(1/402)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
المهر لو وجب إنما يجب حق المرأة لمقابلة البضع، والبضع مملوك لها، فإذا فوضت
نفسها بدون المهر، وجب أن يصح، ولا يثبت المهر، كما لو سمي المهر وقت العقد ثم
وهبت المرأة صداقها، فإنه يجوز ولا يثبت المهر، فكذلك ها هنا (1).
__________
= وكلهم في كتاب النكاح: أبو داود، باب فيمن تزوج ولم يسم لها صداقا حتى مات
(2114)، 2/ 237؛ الترمذي نحوه (1154)، وقال: "حديث حسن صحيح" 3/ 451؛
النسائي، باب إباحة التزويج بغير صداق 6/ 121؛ ابن ماجه (1891)، 1/ 609؛ وقال
الحاكم: "صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجه"؛ المستدرك 2/ 180.
انظر بالتفصيل: المبسوط 5/ 63.
(1) واستدل الشيرازي بقول الله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]، وبين وجه الاستدلال منها بقوله:
"فدل على أنه إذا لم يفرض لم يجب النصف". المهذب 2/ 61.
(1/403)
باب الخلع (1)
[مسألة]: 279 - حكم الخلع
الخلع، عندنا: طلاق بائن (2)، وعند الشافعي: هو فسخ وليس بطلاق، كيلا يحتاج فيه
إلى نية الطلاق (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الشرع جعل الخلع تطليقة بائنة؛ لأنه طلاق بعوض، فاشتراط
العوض فيه لا يخرجه من أن يكون طلاقا، كما لو صرح بالطلاق (4).
__________
(1) الخلع: بضم الخاء من الخلع بفتحها وهو: النزع، يقال: خلعت النعل وغيره. خلعا:
نزعته، وخالعت المرأة زوجها مخالعة: إذا افتدت منه فخلعها هو خلعا. والخلع:
استعارة من خلع اللباس؛ لأن كل واحد منهما لباس للآخر، فإذا فعلا ذلك، فكأن كل
واحد نزع لباسه عنه". انظر: معجم مقاييس اللغة، والمصباح، مادة: (خلع).
واختلف في تعريفه شرعا بحسب اختلافهم في ترتيب آثاره، كما يتضح ذلك من هذه
المسألة: فعرفه الأحناف بأنه: إزالة ملك النكاح التوقفة علي قبولها بلفظ الخلع وما
في معناه.
وعرفه الشافعية بأنه: "فرقة بين الزوجين بعوض مقصود بلفظ طلاق أو خلع".
انظر: الدر المختار 3/ 439؛ مع حاشية ابن عابدين؛ اللباب 3/ 64؛ مغني المحتاج 3/
262؛ نهاية المحتاج 6/ 393.
(2) انظر: القدوري، ص 77؛ المبسوط 6/ 171؛ تحفة الفقهاء 2/ 299؛ الهداية 4/ 658،
مع البناية.
(3) ما حكاه المؤلف عن الشافعي: بأن الخلع فسخ، هو القول المرجوح لدي الشافعية،
وقيل هو منسوب إلى القديم، وأما القول الراجح فهو: "إن الفرقة بلفظ الخلع
طلاق"، كما نص عليه النووي في المنهاج.
انظر: الأم 5/ 198؛ المهذب 2/ 76؛ النكت للشيرازي (مخطوط)، ورقة (214/ ب)، الوجيز
2/ 41؛ المنهاج، ص 105؛ مغني المحتاج 3/ 268.
(4) واستدل الأحناف من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلع تطليقة
بائنة". الحديث رواه الدارقطني والبيهقي =
(1/404)
احتج الشافعي في المسألة [وهو]: أن
الزوجين لما تراضيا بالخلع، فقد قصدا فسخ النكاح. ألا تري أنه لا يبقى للزوج علي
المرأة حق الرجعة، فصح ما قلنا (1).
مسألة: 280 - طلاق المختلعة في العدة
المختلعة يلحقها صريح الطلاق، مادامت في العدة عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يلحق
(3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الشرع جعل الثلاث تطليقات مملوكا للزوج، فإذا خلعها يقع
طلقة واحدة، والثنتين بقي مملوكا للزوج، فإذا تصرف فيه [تصرف] فيما هو مملوك له،
فوجب أن يصح، كما [لو] طلقها ابتداء (4).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أنه لما وقع الخلع بينهما، فقد
__________
= في سننهما من حديث عباد بن كثير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة".
قال البيهقي: "تفرد به عباد بن كثير البصري، وقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن
معين والبخاري"، وقال بأن مذهب ابن عباس وعكرمة بخلافه.
انظر: سنن الدارقطني 4/ 64؛ السنن الكبرى 7/ 316؛ نصب الراية 3/ 243.
وراجع الأدلة بالتفصيل: المبسوط 6/ 172؛ البناية 4/ 658.
(1) استدل الشافعي علي أن الخلع تطليقة، بقوله سبحانه وتعالى: {الطلاق مرتان}
(البقرة 229)، وقال: "فعقلنا عن الله تعالى أن ذلك إنما يقع بإيقاع الزوج،
وعلمنا أن الخلع لم يقع إلا بإيقاع الزوج"، ولأن الله تعالى ذكره بين طلاقين،
فدل على أنه ملحق بهما".
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 198؛ مغني المحتاج 3/ 268.
(2) قال السرخسي: "إذا طلق الرجل امرأته وهي في العدة بعد الخلع على جعل، وقع
الطلاق ولم يثبت الجعل". المبسوط 6/ 175.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 187؛ النكت، ورقة (215/ أ).
(4) انظر: المبسوط 6/ 83، 175.
(1/405)
انفسخ النكاح، فلم يبق طلاق مملوك
للزوج، فإذا تصرف فيه فقد تصرف فيما ليس بمملوك له، فوجب أن يلغو هذا التصرف (1).
__________
(1) قال المزني: "واحتج الشافعي من القرآن والإجماع بما يدل علي أن الطلاق لا
يلحقها، بما ذكر الله بين الزوجين من: اللعان والظهار والإيلاء والميراث، والعدة
بوفاة الزوج، فدلت خمس آيات من كتاب الله تعالى علي أنها ليست بزوجة". مختصر
المزني، ص 188.
انظر أيضا: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 317.
(1/406)
كتاب الطلاق (1)
[مسألة]: 281 - تعليق الطلاق
إضافة الطلاق إلى الملك أو العتاق، يصح: عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يصح (3)
وصورته: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق،
فحين يتزوجها يقع الطلاق عندنا، وعند الشافعي: لا يقع.
دليلنا في المسألة وهو: أن هذه يمين بالطلاق، وليست بطلاق في الحال (4)، وقوله: إن
تزوجت أو اشتريت: هذا شرط، وقوله:
__________
(1) الطلاق، لغة: عبارة عن حل القيد والإطلاق، ولكن جعل في المرأة طلاقا، وفي
غيرها: إطلاقا، يقال: طلق الرجل امرأته تطليقا فهو مطلق، ويقال: أطلقت الأسير، إذا
حللت أساره وخليت عنه، وهو من باب قتل، وفي لغة من باب قرب.
انظر: الغرب، المصباح، مادة: (طلق)، اللباب 3/ 37.
وشرعا: عرفه الحصكفي بأنه: "رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص).
الدر المختار 3/ 226؛ مع حاشية ابن عابدين؛ البناية 4/ 368؛ نهاية المحتاج 6/ 423.
(2) القدوري، ص 74؛ المبسوط 6/ 127؛ الهداية 4/ 534، مع البناية.
(3) يعد خطاب "الأجنبية بطلاق، وتعليقه بنكاح وغيره لغوا" عند الشافعية،
كما نص عليه النووي. انظر: المهذب 2/ 78؛ الوجيز 2/ 58؛ المنهاج، ص 107.
(4) لأن اليمين يقع علي قسمين: حقيقي ومجازي، فالحقيقي مايقع على الحلف بالله
سبحانه وتعالى. والمجازي: ما يقع علي التعليق، "واليمين في الطلاق عبارة: عن
تعلقه بأمر يدل على معنى الشرط، فهو في الحقيقة، شرط وجزاء سميا يمينا مجازا لما
فيه من معنى التشبيه .. ولما فيه من معنى المنع والحمل ... ". وسيأتي تفصيل
هذا الموضوع في تعريف الأيمان في المسألة (298)، ص 427. انظر: فتح القدير 4/ 114؛
البناية 4/ 534.
(1/407)
فهي طالق، هذا جزاء، واليمين لغير الله
تعالى ليست هي إلا شرط وجزاء، فإذا ثبت [الطلاق] (1)، يكون هذا تصرف في نفسه، فلا
يشترط إلى وجود الملك في الحال، كما في سائر الأيمان بالله تعالى.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا طلاق قبل النكاح" (2) وهذا طلاق قبل النكاح، فوجب أن لا يصح، كما لو
قال: إن تزوجتك ودخلت الدار فأنت طالق، فإنه لا يصح (3).
[مسألة]: 282 - الكقال ثلاثا بكلمة واحدة
التطليقات الثلاثة جملة في حالة واحدة بدعة، عندنا (4)، وعند الشافعي: مباح (5)؛
لأن أحسن الطلاق عندنا: أن يطلقها واحدة، ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، أو يفرق ثلاث
تطليقات في ثلاثة أطهار، وعند الشافعي: الكل مباح.
دليلنا في المسألة قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (6) أي:
__________
(1) في الأصل: (فإذا ثبت أن بالطلاق).
(2) الحديث: رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه
مرفوعا، ونقل محمد فؤاد عبد الباقي عن الزوائد بأن إسناده حسن.
وأخرج نحوه أصحاب السنن عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: "لا طلاق فيما لا يملك". وقال الترمذي: "حديث
حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب". وكلهم في كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل
النكاح: أبو داود (2190)، 2/ 258؛ الترمذي (1181)، 3/ 486؛ ابن ماجه (2047)، 1/
660.
(3) انظر: المصادر السابقة للشافعية.
(4) انظر: القدوري، ص 73؛ المبسوط 6/ 4؛ تحفة الفقهاء 2/ 252.
(5) انظر: الأم 5/ 180؛ المهذب 2/ 80؛ المنهاج، ص 109.
(6) سورة الطلاق: آية 1.
(1/408)
لقبل عدتهن أي: لأطهار عدتهن، أمر
بتفريق الطلاق علي أطهار العدة (1)، وهذا كله لمعني، وهو: أن الطلاق مبغض في
الشريعة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن أحب المباحات إلى الله
تعالى: النكاح، وإن أبغض المباحات إلى الله تعالى: الطلاق" (2). وقال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "إن الطلاق مما يهتز به العرش" (3) فعرفنا بهذا
أن الطلاق مبغض في الشريعة، إلا أنه شرع باعتبار الحاجة، ربما لا [توافقه] (4)
أخلاقها، فلم يحصل مقصود النكاح؛ لأن مقصود النكاح إنما هو: المودة والمحبة، فإذا
لم يتفق ها هنا لم يحصل هذا المقصود، فالشرع جعل الطلاق مشروعا باعتبار الحاجة،
والحاجة ترتفع بطلقة واحدة، فلا حاجة بنا إلى الثلاث (5).
احتج الشافعي [في المسألة] وهو: أن التطليقات ملك
__________
(1) أي ثلاثا في ثلاثة أطهار كما يتجلي هذا المعنى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
في إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالإرجاع لمخالفته الطلاق المشروع.
انظر بالتفصيل: تفسير الآية الكريمة في: أحكام القرآن للجصاص 3/ 452؛ البدائع 4/
1767؛ نصب الراية 3/ 220، 221.
(2) الحديث روي بلفظ: "ما أحل الله عز وجل حلالا أحب إليه من النكاح، ولا أحل
حلالا أكره إليه من الطلاق". أورده الهندي في كنزل العمال، وعزاه إلى مسند
الفردوسي للديلمي، رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما.
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (27879)، 9/ 663.
(3) الحديث بكامله: "تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش".
أخرجه ابن عدي في الكامل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال السخاوي:
"وسنده ضعيف"، قال ابن الجوزي: "بل هو موضوع".
انظر: كنز العمال (27874)، تنزيه الشريعة المرفوعة 2/ 202؛ فيض القدير 3/ 243.
(4) في الأصل: (لا يتفق).
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 5/ 6 وما بعدها.
(1/409)
للزوج، فهو بالخيار: إن شاء فرق، وإن
شاء [جمع] (1)، في حال التصرف فيما هو مملوك له، فوجب أن يصح (2).
مسألة: 283 - الكنايات في الطلاق
الكنايات (3) بوائن (4) عندنا (5)، وعند الشافعي: رواجع (6).
وصورته: إذا قال لامرأته: أنت خلية (7)، أو برية (8)،
__________
(1) في الأصل: (جامع).
(2) واستدل الشافعي على الإباحة لما روي أن عويمر العجلاني طلق امرأته بين يدي
النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأمره وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان
ثم قال موجها الحديث: "ولو كان ذلك شيئا محظورا عليه نهاه النبي - صلى الله
عليه وسلم - ليعلمه وجماعة من حضره ... " وذكروا أحاديث أخرى نحوه.
الحديث أخرجه الشيخان: البخاري، في الطلاق، باب اللعان، ومن طلق بعد اللعان
(5308)، 9/ 446؛ مسلم، في اللعان (1492)، 2/ 1129.
انظر: الأم 5/ 180؛ المهذب 2/ 80.
(3) والكنايات جمع، كناية: والكناية: ما هو مستتر المراد من قولهم: كنيت أو كنوت
الشيء: إذا سترته " ... " والكنايات: غير موضوعة للطلاق، بل تحتمله
وتحتمل غيره".
انظر: الهداية مع شرح البناية 4/ 470.
(4) بوائن، سمع بائن، من بان الشيء إذا انفصل فهو بائن، وأبنته بالألف فصلته،
وبانت المرأة بالطلاق فهي بائن بغير هاء، وتطليقة بائنة، والمعنى مبانة. المصباح،
مادة: (بين).
(5) الكنايات بوائن عند الأحناف، ما عدا ثلاثة ألفاظ وهي قوله: "اعتدي،
استبرئي رحمك وأنت واحدة" فإنه يقع بها الطلاق الرجعي، ولا يقع إلا واحدة،
"وبقية الكنايات إذا نوي بها الطلاق كانت واحدة بائنة، وإن نوي ثلاثا كانت
ثلاثا، وإن نوي اثنتين كانت واحدة بائنة".
انظر: القدوري، ص 74؛ المبسوط 6/ 73؛ تحفة الفقهاء 2/ 270؛ الهداية 4/ 470 - 480،
مع شرح البناية.
(6) الرواجع: سمع، رجعي. أي الرجعة بعد الطلاق، وهو عكس بائن. انظر: المصباح،
مادة: (رجع). انظر: الأم 5/ 259، 260؛ المهذب 2/ 82؛ المنهاج، ص 106.
(7) خلية: من الحلو، وأصلها من قولهم: "ناقة خلية" مطلقة من عقالها، فهي
ترعى حيث شاءت، ومنه قيل في كنايات الطلاق: هي خلية.
انظر: المصباح، مادة: (خلا)، البناية 4/ 474.
(8) برية: من البراءة، أي برئت، من الزوج، ويحتمل البراءة من حسن الثناء.
انظر: البناية 4/ 474.
(1/410)
أو بتة (1)، أو باينة، أو قال: اغربي
(2)، أو قال لها: اخرجي، أو قال لها: الحقي بأهلك، أو قال لها: استبريء (3) رحمك،
أو استتري (4)، أو قال لها: تقنعي، هذه كلها ألفاظ الكنايات، لا يقع بدون النية
بالإجماع (5). فإذا وقع يقع بوائن: عند أبي حنيفة، وأما صريح الطلاق: لا يقطع
الرجعة.
دليلنا في المسألة: بأن صريح الطلاق لا يقطع الرجعة؛ لأن اللفظ لا ينبيء عن
البينونة، وأما الكنايات إذا نوي يصير: بائنا، وهذا اللفظ ينبيء: عن الإبانة في
عرف لسان العرب (6).
__________
(1) بته: بتا، أي: قطعه قطعا، أي قطعت الوصلة بيننا، ومنه قيل: وبت الرجل طلاق
امرأته، فهي مبتوتة. انظر: الصباح، مادة: (بت).
(2) اغربي: وهو بالغين المعجمة والراء المهملة، والغربة: البعد، "أي: تباعدي
عني؛ لأني طلقتك". البناية 4/ 474.
(3) استبريء رحمك: اطلبي براءتها من الحبل، يقال: استبرأت: أي: طلبت براءتها من
الحبل. انظر: المصباح، مادة: (بري).
(4) استتري: هو أمر من السترة، وتقنعي: "أمر بأخذ القناع على وجهها؛ لأنك بنت
بالطلاق". البناية 4/ 474.
(5) نقل المؤلف الإجماع علي عدم وقوع الطلاق بدون نية، في الكنايات. لكن الإجماع
الذي حكاه المؤلف هنا غير مسلم له، حيث نجد الفقهاء رحمهم الله قد اختلفوا في وقوع
الطلاق بالكنايات الظاهرة: فذهب الأحناف إلى وقوع الطلاق بدون نية، بشرط دلالة
الحال: كمذاكرة الطلاق أو الغضب.
ومذهب مالك: في الكنايات الظاهرة، كحكم الصريح، إذ يقع الطلاق بمجرد اللفظ، وذهب
الشافعي، إلى أن الكنايات كلها تفتقر إلى النية مطلقا، وعن أحمد روايتان: رواية
كالشافعي، والثانية: كأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
انظر: القدوري، ص 74؛ لعدوي، حاشية العدوي 4/ 31، مع الخرشي علي مختصر سيدي خليل؛
المنهاج، ص 106؛ ابن قدامة؛ المغني مع الشرح الكبير 8/ 218، ابن النجار الفتوحي،
منتهي الإرادات 2/ 279.
(6) واحتج السرخسي لذلك بقوله: "إن إيقاع صفة البينونة تصرف من الزوج في
ملكه، فيكون صحيحا، كإيقاع أصل الطلاق".
انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 6/ 74، 75؛ البناية 4/ 480 وما بعدها.
(1/411)
احتج الشافعي [في المسألة] وهو: أن
صريح الطلاق لا يقطع الرجعة مع كونه صريحا، فالكناية التي هي دونه أولى أن لا تقطع
الرجعة (1).
مسألة: 284 - قول الرجل لامرأته: أنا منك طالق
إذا قال الرجل لامرأته: أنا منك طالق، فعندنا: لا يقع الطلاق (2)، وعند الشافعي:
إذا نوي به الطلاق: يقع الطلاق (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن الزوج ليس بمحل للطلاق، بل هو مالك للطلاق؛ لأنه هو
العاقد والمرأة المعقودة عليها، فإن محل أضافة الطلاق، إنما هي المرأة، فإذا قال:
أنا منك طالق، فقد أضاف الطلاق إلى غير محله، فوجب أن لا يقع، كما لو أضافه إلى
الحيوان أو إلى الجدار (4).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن عقد النكاح عقد مشترك بين الزوجين؛ لأن كل واحد
منهما محل له، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، فقد أضاف الحرمة إلى محل الحل، فوجب أن
يصح، كما لو قال لها: أنت مني طالق (5).
__________
(1) انظر: الأم 5/ 260، 261؛ المهذب 2/ 83.
انظر: سبب الخلاف بين المذهبين: المبسوط 6/ 73.
(2) انظر: المبسوط 6/ 78؛ الهداية 4/ 38، مع فتح القدير؛ الاختيار 2/ 189.
(3) انظر: المهذب 2/ 81؛ الوجيز 2/ 58؛ المنهاج، ص 107.
(4) انظر بالتفصيل: المبسوط 6/ 78، 79؛ الهداية مع شروحها: فتح القدير مع العناية
4/ 39؛ البناية 4/ 433.
(5) وبين الرملي العلة بقوله: "لأن عليه حجرا من جهتها إذ لا ينكح معها نحو
أختها ولا أربعا سواها، مع ما لها عليه من الحقوق والمؤن، فصح إضافة الطلاق إليه
على حل السبب المقتضى لهذا الحجر مع النية". نهاية المحتاج 6/ 449.
(1/412)
مسألة: 285 - قول الرجل: أنت طالق
ناويا به الثلاث
إذا قال لامرأته: أنت طالق، ونوي به: الثلاث، عندنا: لا يقع الثلاث (1)، وعند
الشافعي: يقع الثلاث (2).
دليلنا في المسألة؛ لأنه لما قال: أنت طالق ونوى به: الثلاث، فقد نوى ما لا يحتمله
لفظه؛ لأن قوله: أنت طالق، لا ينبيء عن الثلاث؛ لأن الطلاق عبارة: عن الإطلاق،
والإطلاق لا يحتمل الواحدة، والاثنتين، والثلاث (3).
احتج الشافعي [في المسألة] وقال: بأنه يقع طلاق الثلاث، لأن الكل مملوك له، فإذا
نوى الثلاث، وجب أن يصح، كما لو نوى: واحدة أو اثنتين (4).
مسألة: 286 - اعتاق الأمة بلفظ التطبيق
إذا قال لامرأته: أنت حرة، ونوي به الطلاق، يقع الطلاق، وإذا قال لأمته: أنت طالق،
ونوي به: العتاق، لا تعتق عندنا (5)، وعند الشافعي: تعتق (6).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 74؛ تحفة الفقهاء 2/ 258؛ الاختيار 2/ 186.
(2) انظر: مختصر المزني، ص 192؛ المهذب 2/ 85؛ المنهاج، ص 107.
(3) ولأنه نعت فرد ولا يحتمل العدد؛ لأنه ضده، والعدد الذي يقترن به، نعت لمصدر
محذوف، معناه: طلاقا ثلاثا"، "ومجرد النية من غير دال لا عبرة
بها"، كما قاله المرغيناني.
انظر: الهداية 4/ 401، مع شرح البناية.
(4) قال الشيرازي: "إنه لفظ لو قرن به ذكر الثلاث وقع، فإذا نوى به الثلاث
وقع كقوله: أنت بائن".
انظر: النكت، ورقة (218/ ب)، المهذب 2/ 85.
(5) انظر: القدوري، ص 84؛ المبسوط 6/ 75.
(6) انظر: مختصر المزني، ص 192؛ المهذب 2/ 3؛ الوجيز 2/ 54؛ المنهاج، ص 157.
(1/413)
دليلنا في المسألة وهو: أن ملك اليمين
أقوي من ملك النكاح، ثم اللفظ [الموضوع] (1) لإزالة ملك اليمين، لما استعمله في
إزالة ملك النكاح، وجب أن يصح؛ لأن من قدر علي إزالة أقوى الملكين، يقدر علي إزالة
أضعف الملكين (2).
احتج الشافعي وقال: أجمعنا علي أنه يجوز استعمال لفظ العتاق في باب الطلاق، فكذلك
يجوز استعمال لفظ الطلاق في باب العتاق؛ لأن كل واحد منهما ينبيء عن معنى واحد
وهو: الإطلاق ورفع القيد (3).
مسألة: 287 - قول الزوج لزوجته اختياري من الثلاث ما شئت
إذا قال الزوج لامرأته: اختاري من الثلاث ما شئت، فإذا اختارت المرأة الثلاث لا
يقع عندنا: إلا واحدة (4)، وعند
__________
(1) في الأصل: (الموضع).
(2) ذكر المؤلف دليل المسألة المتفق عليها بين الجانبين، وهي: وقوع التطليق بلفظ
العتاق، في حين أنه كان المفروض أن يأتي بأدلة المسألة المختلف فيها بين الطرفين،
إذ هي الأولى بالاستدلال، كما هي عادته في المسائل، وهي: إعتاق الأمة بلفظ
التطليق، وعلتهم كما ذكره المرغيناني: "أنه نوي ما لا يحتمله لفظه؛ لأن ملك
اليمين فوق ملك النكاح، فإن إسقاطه أقوى، واللفظ يصلح مجازا عما هو دون حقيقته، لا
عما هو فوقه، فلهذا امتنع في المتنازع فيه (أي المجاز في قوله: أنت طالق لأمته،
ونوى به العتاق) وأساغ في عكسه (أي جاز في قوله: أنت حرة لمنكوحته ونوي به
الطلاق).
انظر: الهداية وشروحها: فتح القدير 4/ 445؛ البناية 5/ 28.
(3) العتق يصح عند الشافعية باستعمال اللفظ الصريح للعتق أو بالكناية، ولفظ الطلاق
كناية عن العتق، فوجب أن يقع به العتق، "لأنها تحتمل العتق فوقع بها العتق مع
النية".
انظر: المهذب 2/ 3.
(4) انظر: فتح القدير 3/ 87.
(1/414)
الشافعي: يقع الثلاث (1).
دليلنا في المسألة: قوله: اختاري من الطلاق الثلاث ما شئت، فقد ملك من بعض الطلاق؛
لأن كلمة: (من) كلمة التبعيض والتجزئة، والزوج قد خيرها أن تأخذ من الثلاث ما
[شاءت] فإذا اختارت الثلاث، فقد اختارت الكل، والزوج قد ملكها البعض دون الكل (2).
احتج الشافعي في المسألة: قوله: اختاري من الطلاق الثلاث ما شئت، فقد علق الطلاق؛
بلفظة الجمع، فإذا شاءت الثلاث، وجب أن يقع، كما لو شاءت واحدة أو اثنتين (3).
مسألة: 288 - اختلاف الشهود في عدد الطلاق
إذا شهد شاهدان، أحدهما شهد: بأنه طلق امرأته واحدة، والآخر شهد: أنه طلق امرأته
ثلاثا، فإن عندنا: لا يقع به شيء (4)، وعند الشافعي: تقع تطليقة واحدة (5).
__________
(1) و (2) و (3) هذه المسألة لم أعثر عليها في كتب المذهب الشافعي، لكن يظهر أن
الخلاف مبني علي تفسير معنى حرف (من) والمعروف أن لها عدة معاني: كابتداء الغاية
والتبعيضية، والبيانية .. إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب اللغة والأصول، ومن ثم
قد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة، فمن اعتبر (من) هنا للتبعيض، ذهب إلى عدم
وقوع الثلاث؛ لأنه لم يملكها الثلاث كلها - كما هو واضح من دليل الأحناف - ومن جعل
(من) للبيان، ذهب إلى اعتبار صحة وقوع الثلاث أيضا إن شاءت، لشمولها للكل. كما هو
موضح في دليل الشافعية.
انظر بالتفصيل: حاشية العطار علي شرح سمع الجوامع 1/ 415، وغيرها من كتب الأصول،
في معنى (من).
(4) علي أساس أن هذه الشهادة غير مقبولة.
انظر: المبسوط 6/ 148.
(5) هذه هي المسألة الثانية التي لم أعثر عليها بعينها في كتب الشافعية الموجودة
بين يدي، وإنما حكمها مبني باعتبار: الأخذ بالأقل في اختلاف الشهود، كما يتضح بيان
ذلك في دليل الشافعية الآتي.
(1/415)
دليلنا في المسألة: أنه قد اختلف لفظ
الشهادة، فوجب أن لا يقبل؛ لأن من شرط قبول شهادة الرجلين: أن لا يختلفا، ويتفقا
علي لفظ واحد، فإذا اختلفا، وجب أن لا يقبل (1)، كما لو شهد أحدهما: أنه طلق
امرأته يوم النحر بالكوفة، وشهد أحدهما: أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة، فإنه لا
تقبل هذه الشهادة (2)، كذلك ها هنا.
احتج الشافعي في المسألة؛ لأن الشاهدين اتفقا علي وقوع الطلقة الواحدة؛ لأن الذي
شهد بالواحدة، فقد شهد، والذي شهد بالثلاث فقد شهد بالواحدة أيضا؛ لأن الواحدة في
لفظ الثلاث موجودة: فقد اتفقا علي وقوع الطلقة الواحدة، والخلاف في الاثنتين، فوجب
أن يقع ما اتفقا عليه، كما لو شهد أحدهما: "بألف، والآخر: بألف وخمسمائة،
فإنه يثبت الألف بلا خلاف، لهذا المعنى الذي ذكرناه (3).
مسألة: 289 - تطليق الزوج بعضا من زوجته
إذا قال لامرأته: شعرك طالق، أو يدك طالق، فإن عندنا: لا يقع الطلاق (4)، وعند
الشافعي: يقع الطلاق (5)، وأجمعوا علي أنه إذا قال لها: رأسك طالق، أو وجهك طالق،
أو بدنك طالق، أو روحك طالق، أو فرجك طالق، فإنه يقع الطلاق (6).
__________
(1) انظر: المبسوط 6/ 148.
(2) انظر: المرجع السابق 6/ 153.
(3) انظر بالتفصيل: المهذب 2/ 339؛ التنبيه، ص 163.
(4) انظر: القدوري، ص 74؛ المبسوط 6/ 89.
(5) انظر: الأم 5/ 186، 187؛ المهذب 2/ 81؛ الوجيز 2/ 57؛ المنهاج، ص 107.
(6) راجع المصادر السابقة للمذهبين.
(1/416)
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما قال
لها: شعرك طالق، أو يدك طالق، فقد أضاف إلى جزء معين، فوجب أن لا يصح، كما لو أضاف
النكاح إليه (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أنه لما أضاف الطلاق إلى اليد، فقد أضاف إلى جزء
مشيع به في عقد النكاح، فوجب أن يصح، كما لو أضاف إلى الرأس أو إلى الوجه أو إلى
الفرج (2).
والخلاف راجع: إلى معرفة اللغة: أن في عرف لسان العرب لو أضاف الطلاق إلى جزء يكون
ذلك الجزء، ويعبر به عن جميع البدن، يصح إضافة الطلاق إليه، فإذا أضاف إلى عضو،
فإن ذكر ذلك العضو لا يكون عبارة عن جميع النفس، فلا يقع (3).
مسألة: 290 - اعتبار الطلاق في حال اختلاف الزوجين بين الرق والحرية
الطلاق (4) معتبر بالنساء، عندنا (5)، وعند الشافعي: معتبر بالرجال (6).
__________
(1) انظر بالتفصيل: المبسوط 6/ 90.
(2) وذكر الشيرازي: أن اليد والشعر جزء لا يتبعض، فكان إضافته إلى الجزء كإضافته
إلى الجميع.
انظر: المهذب 2/ 81.
(3) وهذا من قبيل المجاز المرسل، الذي أطلق فيه البعض وأريد الكل.
انظر: القزويني، عمد بن عبد الرحمن الخطيب، شروح التلخيص 4/ 34، 35.
(4) الخلاف في اعتبار الطلاق بالنسبة، إذا كان الزوجان مختلفين في الحرية والرق
فهل الاعتبار يكون بالرجال أم بالنساء؟
وللمسألة صورتان: فذكر المؤلف سورة واحدة، والثانية: أن يكون الحر متزوجا أمة. ولا
خلاف في المسألة، إذا كان الزوجان متفقين في الحرية والرق: بأن الحر يملك ثلاث
تطليقات، والعبد يملك تطليقتين.
(5) انظر: البدائع 4/ 1785؛ الاختيار 2/ 184.
(6) انظر: المهذب 2/ 79، الوجيز 2/ 58؛ الروضة 8/ 71؛ المنهاج، ص 107.
(1/417)
بيانه: العبد إذا تزوج حرة، فإن عندنا:
يملك عليها ثلاث تطليقات، وعند الشافعي: يملك تطليقتين.
دليلنا في المسألة وهو: أن الطلاق محله المرأة، فوجب أن يعتبرها في النكاح (1).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" (2) وهذا نص.
مسألة: 291 - توريث المبتوتة
المبتوتة ترث عندنا (3)، وهي: امرأة الفار، وعند الشافعي: لا ترث (4).
__________
(1) واستدل الأحناف من النقل بإطلاق قول الله سبحانه وتعالى: {الطلاق مرتان ... }
الآية (البقرة 229)، وقال الكاساني مبينا وجه الدلالة: (والنص ورد في الحرة، أخبر
الله تعالى أن حل الحرة يزول بالثلاث من غير فصل بين ما إذا كانت تحت حر أو تحت
عبد فيجب العمل بإطلاقه". انظر أدلتهم بالتفصيل: البدائع 4/ 1785، 1786.
(2) الحديث أخرجه أصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها: أبو داود، في الطلاق، باب
سنة طلاق العبد (2189)، وقال: وهو حديث مجهول 2/ 258؛ الترمذي، في الطلاق، باب ما
جاء أن طلاق الأمة تطليقتان (1182)، وقال: "حديث عائشة حديث غريب، لا نعرفه
مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث،
والعمل علي هذا عند أهل العلم، 3/ 488؛ ابن ماجه، في الطلاق، باب في طلاق الأمة
وعدتها (2080)، 1/ 672.
الاستدلال للشافعي بحديث عائشة رضي الله عنها هنا في غير محله، إذ المسألة في طلاق
العبد الحرة، وإنما استدل الشافعي لهذه المسألة بفتوى عثمان وزيد رضي الله عنهما:
"أن نفيعا [عبد مكاتب] سأل عثمان وزيدا، فقال طلقت امرأة لي حرة تطليقتين،
فقالا: حرمت عليك حرمت عليك".
انظر بالتفصيل: السنن الكبرى 7/ 368، 369؛ مختصر المزني، ص 168؛ المهذب 2/ 79.
(3) انظر: القدوري، ص 76؛ المبسوط 6/ 154؛ الهداية 4/ 569، مع البناية.
(4) لا ترث في أظهر قولي الشافعي. انظر: الأم 5/ 254؛ النكت، ورقة (1/ 223)،
الوجيز 2/ 59؛ الروضة 8/ 72؛ المنهاج، ص 107.
(1/418)
بيانه: رجل طلق امرأته في مرض موته
ثلاثا، ثم مات الزوج قبل انقضاء عدة المرأة، فإن عندنا، ترث، [وعند الشافعي: لا
ترث].
دليلنا في المسألة: ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته في مرض
موته ثلاثا ثم مات، فورثها أصحاب (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل على
أن امرأة الفار ترث.
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن المرأة إنما ترث، إذا مات الزوج عند قيام النكاح،
فإذا طلقها ثلاثا صارت أجنبية، فوجب أن لا ترث (2)، كما بعد انقضاء العدة وموت
الزوج، فإنها [لا] (3) ترث بالإجماع (4).
__________
(1) وإنما ورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي الروايات خلاف في زمن توريثها،
منها ما صرحت فيها: (بعد انقضاء العدة)، ومنها: (وهي في عدتها)، ومنها: ما جردت عن
ذكرها. رواه الشافعي في الأم 5/ 254؛ عبد الرزاق في مصنفه 7/ 62، 63.
واستدل الأحناف أيضا بإجماع الصحابة عل توريثها في العدة.
انظر: المبسوط 6/ 155؛ فتح القدير 4/ 145، 146.
(2) انظر: الأم 5/ 254؛ الروضة 8/ 72.
(3) زيدت لتصحيح الحكم.
(4) نقل المؤلف هنا الإجماع علي عدم توريث المبتوتة بعد انقضاء عدتها وموت الزوج،
وهو غير مسلم له؛ لأن مذهب مالك: على توريث المبتوتة وإن تزوجت، وكلذلك مذهب أحمد:
على توريثها ما لم يتزوج. وإنما يصح نقله إذا حملناه عل مذهب أبي حنيفة، وعلي أظهر
قولي الشافعي رحمهم الله تعالى.
انظر: ابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي، قوانين الأحكام الشرعية، ص
253؛ الحطاب، أبو عبد الله عمد بن محمد الرعيني، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/
27 وما بعدها؛ البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 484؛
بالإضافة إلى مصادر المذهبين السابقة.
(1/419)
مسألة: 292 - ما يهدم الزوج من الطلاق
وما لا يهدم
إذا طلق امرأته طلاقا رجعيا، فتزوجت زوجا آخر، ثم عادت إلى الزوج الأول فإن عندنا:
تستأنف عليها ثلاث تطليقات (1)، وعند الشافعي: يملك عليها ما بقي من الطلاق (2).
دليلنا: أن المرأة لما تزوجت زوجا آخر، فقد انقطع ملك الزوج الأول بالكلية، فإذا
عادت إليه [بملك النكاح] (3)، فقد عادت بملك جديد، فوجب أن يملك عليها ثلاث
تطليقات، كما في الابتداء (4).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الزوج يملك على المرأة بملك النكاح ثلاث
تطليقات، فإذا طلقها واحدة، وتزوجت زوجا آخر: بقيت تلك التطليقتان ملكا للزوج؛
لأنها عادت بالملك القديم (5).
__________
(1) انظر: المبسوط 6/ 95.
(2) انظر: الأم 5/ 250؛ الوجيز 2/ 58؛ الروضة 8/ 71؛ المنهاج، ص 107.
(3) في الأصل: (يملك بالنكاح).
(4) انظر: المبسوط 6/ 95، 96.
(5) واستدل الشافعي بالتفريق بين المطلقة ثلاثا، ومن هي دون ذلك: حيث إن البائنة
بثلاث لا تحل للزوج الأول حتى تنكح زوجا آخر، وأما المطلقة بما دون الثلاث، فإنها
لا يتغير حكمها بالنسبة للزوج الأول سواء تزوجت زوجا آخر أم لم تتزوج؛ لأن الأول
كان له أن يتزوجها قبل أن يتزوجها الآخر. ونقل الرملي عن البلقيني الاستدلال بقوله
سبحانه وتعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا
جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]. ووجه الدلالة:
"لأنه لم يفرق بين أن تتزوج آخر ويدخل بها قبل الثالثة، وأن لا، فاقتضى ذلك
عدم الفرق".
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 250؛ نهاية المحتاج 6/ 454؛ وما ورد من الآثار في أدلة
الطرفين: السنن الكبرى 7/ 364، 365.
(1/420)
باب الرجعة (1)
[مسألة]: 293 - الوطء في الطلاق الرجعي
الطلاق الرجعي، عندنا: لا يحرم الوطء (2)، وعند الشافعي: يحرم (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الطلاق إذا كان رجعيا، لا يوجب زوال ملك النكاح،
بدليل: أنه يملك مراجعتها بغير رضاها. فثبت أن ملك النكاح قائم؛ لأن ملك النكاح
إنما يزول باستيفاء الثلاث وبانقضاء العدة، ولم يوجد هاهنا هذا المعنى، فوجب أن
يكون الملك باقيا؛ لأن الملك لما كان باقيا، فالحل الذي يبني على الحل وجب أن يكون
باقيا (4).
__________
(1) الرجعة: بفتح الراء أفصح من كسرها، قال ابن فارس: الرجعة: مراجعة الرجل أهله،
وقد تكسر"، وهي لغة: المرة من الرجوع.
انظر: معجم مقاييس اللغة؛ المصباح المنير، مادة: (رجع).
وشرعا: عرفها الأحناف: "بأنها عبارة عن استدامة الملك القائم في العدة، بنحو:
راجعتك وما يوجب حرمة المصاهرة".
وعرفها الشافعية بأنها: "رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة علي
وجه مخصوص".
انظر: البناية 4/ 591؛ اللباب 3/ 54؛ مغنى المحتاج 3/ 335.
(2) انظر: القدوري، ص 76؛ المبسوط 6/ 19؛ تحفة الفقهاء 2/ 261؛ الهداية 4/ 614 مع
شرح البناية.
(3) فإن وطئها الزوج "فلا يحد ولا يعزر إلا معتقد تحريمه، وعليه مهر مثل إن
لم يراجع وكذا إن راجع علي المذهب" ويلحقه الولد وعليها العدة.
انظر: الأم 5/ 244؛ المهذب 2/ 103؛ المنهاج، ص 111.
(4) انظر: المبسوط 6/ 20؛ البناية 4/ 614.
(1/421)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أنه لما
طلقها واحدة، فقد أزال ملكه، فوجب أن يحرم الوطء، كما في طلاق البائن، وكما في انقضاء
العدة؛ لأن الوطء مما يحتاط فيه (1).
مسألة: 294 - كيفية ثبوت الرجعة
الرجعة تثبت [بالقول والفعل] (2) عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تثبت إلا بالقول
(4).
بيان ذلك: إذا طلقها طلاقا رجعيا، [ثم] إذا قبلها أو وطئها، أو باشرها يصير مراجعا
لها عندنا، وعند الشافعي: لا يصير.
دليلنا في المسألة، وهو: أن الفعل أقوى من القول؛ لأن الظاهر في حال المسلم أنه لا
يطأ إلا امرأته، فحملنا إقدامه على الوطء دليلا علي المراجعة، كي لا يقع فعله في
الحرام (5).
احتج الشافعي، وقال: إن الرجعة أقيمت مقام النكاح، لما فيه من استباحة الوطء ثم أن
النكاح لا يثبت إلا بالقول، فكذلك الرجعة، وجب أن لا تثبت إلا بالقول (6).
__________
(1) انظر: المصادر السابقة للشافعية.
(2) زيدت ما بين القوسين ليستقيم معنى الجملة وفق المذهب الحنفي وفي الأصل: (يثبت
عندنا).
(3) انظر: القدوري، ص 76؛ المبسوط 6/ 19؛ الهداية 4/ 593؛ مع البناية.
(4) انظر: الأم 5/ 244؛ المهذب 2/ 104؛ الروضة 8/ 217.
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 6/ 20، 21؛ الهداية مع البناية 4/ 596، وراجع دليل
المسألة السابقة (293)، ص 457.
(6) انظر المصادر السابقة للشافعية.
وسبب الخلاف بين المذهبين في المسألتين يرجع إلى أن الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح،
عند الشافعية حتى يحرم وطؤها، وعند الأحناف هي استدامة النكاح، والفعل دلالة
عليها. انظر: البناية 4/ 593، 594.
(1/422)
باب الإيلاء (1)
[مسألة]: 295 - الفرقة في الإيلاء
إذا قال لامرأته: والله لا أقربك، أو لا أطؤك، يتربص أربعة أشهر، فإن وطئها في
أربعة أشهر، تلزمه كفارة اليمين، ويبقيان علي النكاح، فإذا لم يطأها تقع الفرقة
بينهما بانقضاء المدة، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، عندنا (2)، وعند الشافعي:
القاضي يطلقها، أو يحبسه حتى يطلقها (3).
والأصل في هذه المسألة قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن
فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن
__________
(1) الإيلاء: مصدر آلى يؤلى إيلاء: إذا حلف، فهو: مؤل، وتألى وائتلى كذلك؛ والجمع:
آلايا. ومنه قوله سبحانه وتعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم ... } (النور: 22).
"وكان طلاقا في الجاهية فغير الشرع حكمه وخصه بالحلف عل الامتناع من وطء
الزوجة مطلقا، او أكثر من أربعة أشهر".
انظر: الصحاح، والمصباح، مادة: (ألي)، مغنى المحتاج 3/ 343.
وشرعا عرفه الكمال ابن الهمام بأنه: "اليمين عل ترك قربان الزوجة أربعة أشهر
فصاعدا بالله تعالى أو بتعليق ما يستشقه على القربان". فتح القدير 4/ 189.
وفصله النووي في المنهاج بقوله: "هو حلف زوج يصح طلاقه: ليمتنعن من وطئها
مطلقا، أو فوق أربعة أشهر، وكذلك لو علق طلاقا، أو عتقا، أو قال إن وطئتك فلله علي
صلاة أو صوم، كان موليا". المنهاج، ص 111.
(2) انظر: القدوري، ص 77؛ المبسوط 7/ 20؛ الهداية 4/ 635 مع البناية.
(3) انظر: الأم 5/ 271؛ المهذب 2/ 112؛ الوجيز 2/ 76؛ المنهاج، ص 112؛ نهاية
المحتاج 7/ 80.
(1/423)
عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم
(227)} (1)، فالله تعالى جعل عزم الطلاق إلى الزوج، فلا يشترط فيه حكم القاضي (2).
احتج الشافعي [في المسألة]، وهو: أن الزوج لما قال: والله لا أقربك أربعة أشهر،
فقد قصد إلى الإضرار بها، والظلم لها، والقاضي نصب لإزالة [الضرر] (3) والظلم،
فوجب أن يشترط حكم القاضي (4)، كما في فرقة اللعان (5).
__________
(1) سورة البقرة: آية 226، 227.
(2) انظر الأدلة بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 1/ 355، وما بعدها، راجع المصادر
السابقة للأحناف.
(3) في الأصل: (الضرورة).
(4) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(5) تنظير المؤلف الإيلاء باللعان، في اشتراط قضاء القاضي للفرقة، لا يستقيم إلا
باعتبار أن اللعان لا يتم إلا عن طريق الحاكم، وكذلك الفرقة في الإيلاء.
وأما إذا أراد به أن الفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي، فلا يصح؛ لأن الفرقة عند
الشافعية تقع بمجرد لعان الزوج قولا واحدا، يقول النووي رحمه الله في الروضة:
"ولا يتوقف شيء منها [الأحكام]، على لعانها ولا قضاء القاضي". وإنما يصح
هذا، إذا حملناه علي قول الأحناف؛ لأن الفرقة باللعان لا تقع عندهم إلا بتفريق
الحاكم بينهما.
انظر: مختصر المزني، ص 211؛ الروضة 8/ 356؛ المنهاج، ص 114؛ المبسوط 7/ 43؛
الهداية 4/ 285 مع فتح القدير والعناية.
(1/424)
باب الظهار (1)
[مسألة]: 296 - ظهار الذمي
ظهار الذمي، عندنا: لا يجوز (2)، وعند الشافعي: يجوز (3).
وهو أن حكم الظهار إنما هو الكفارة لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون
خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} (4) فإذا كان حكمه:
حكم الكفارة، والكافر ليس من أهل الصوم؛ لأن الصوم عبادة، وهو ليس من أهل العبادة،
فوجب أن لا يصح ظهاره (5).
__________
(1) الظهار لغة: مأخوذ من الظهر، يقال: "ظاهر من امرأته ظهارا، وتظهر واظاهر،
بمعنى أن يقول لزوجته: "أنت علي كظهر أمي" وكان الظهار طلاقا في
الجاهلية، فغير الشرع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة، وهو حرام. انظر:
المغرب، المصباح، مادة: (ظهر)، نهاية المحتاج 7/ 81. وشرعا عرفه الأحناف بأنه:
"تشبيه المسلم زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزءا شائعا منها بمحرمة عليه
تأبيدا".
انظر: فتح القدير 4/ 245؛ الدر المختار 3/ 466 مع حاشية ابن عابدين؛ اللباب 3/ 67.
وعرفه الشربيني من الشافعية بأنه: "تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن
حلا".
انظر: الروضة 8/ 261؛ مغنى المحتاج 3/ 352.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 214؛ المبسوط 6/ 231.
(3) انظر: الأم 5/ 276؛ المهذب 2/ 119؛ الوجيز 2/ 78؛ المنهاج، ص 112.
(4) سورة المجادلة: آية 3، 4.
(5) واستنبط الجصاص من قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} اختصاص الظهار
بالمؤمنين دون أهل الذمة، وذلك؛ لأن الخطاب للمؤمنين خاصة.
انظر بالتفصيل: أحكام القرآن 3/ 417 وما بعدها؛ المبسوط 6/ 231.
(1/425)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
الظهار كان طلاقا في الجاهلية، إلا أن الشرع أنكر عن ذلك، حيث قال {منكرا من القول
زورا} (1) فإذا ثبت أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، والكافر من أهل الطلاق، فوجب
أن يكون من أهل الظهار (2).
مسألة: 297 - كفارة الظهار من نسوة بكلمة واحدة
إذا كانت أربع نسوة، وظاهرهن بكلمة واحدة، فقال لهن: أنتن علي كظهر أمي، تلزمه:
أربع كفارات عندنا (3)، وعند الشافعي: لا تلزمه إلا واحدة (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الظهار أيمان عندنا، فإذا جعلناه أيمانا لزمه الكفارات
في كل يمين؛ لأن اليمين أربع، فوجب أن تكون كفارته بمثل ذلك (5).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الزوج لما قال: أنتن علي كظهر أمي، بلفظة واحدة،
فإن هذا يمينا واحدا؛ لأن المحل وإن كان متعددا، لكن لفظه ليس بمتعدد، فوجب أن
يكفي فيه كفارة واحدة (6).
__________
(1) سورة المجادلة: آية 2.
(2) راجع: المراجع السابقة للشافعية.
سبب الخلاف بين المذهبين راجع إلى المسألة الأصولية: هل الكفار مخاطبون بفروع
الشرع أم لا؟ وقد سبق تفصيل هذه المسألة في المسألة (70)، ص 168.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 213؛ القدوري، ص 78؛ المبسوط 6/ 226.
(4) ما ذكره المؤلف عن الشافعي هو القول القديم عنه، وأما القول الجديد ففيه تلزمه
لكل واحدة كفارة، كالأحناف، كما نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم والنووي في
المنهاج.
انظر: الأم 5/ 278؛ المهذب 2/ 115؛ المنهاج، ص 113.
(5) انظر: المبسوط 6/ 226.
(6) واستدل الشافعي - للقول الجديد - قياسا على الطلاق، حيث يقول: "لأن
التظاهر تحريم لكل واحدة منهن، لا تحل له بعد حتى يكفر، كلا يطلقهن معا في كلمة
واحدة أو كلام متفرق، فتكون كل واحدة منهن طالقا" الأم 5/ 278.
(1/426)
كتاب الأيمان (1)
[مسألة]: 298 - عتق رقبة كافرة في كفارة الظهار
إذا كان أعتق رقبة كافرة يجزئ عن الظهار عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجزئ (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن المأخوذ عليه إنما هو عتق الرقبة،
__________
(1) الأيمان: بفتح الهمزة، جمع يمين، واليمين في اللغة: القوة، قال الله عز وجل:
{لأخذنا منه باليمين} (الحاقة 45)، أي: القوة والشدة، ويطلق علي اليد اليمين يمين،
لوفور قوته: قال الأنباري: "وسمي الحلف يمينا؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب
كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه، فسمى الحلف يمينا مجازا".
انظر: الصحاح، المصباح، مادة: (يمن).
واليمين في الشرع على قسمين:
يمين هي: قسم وهو اليمين بالله عز وجل.
ويمين هي: الشرط والجزاء مثل: تعليق الطلاق والعتاق ونحو ذلك بشرط، وهو يمين بعرف
أهل الشرع، وأسماء هذا المعنى التوكيدي، ستة: "قسم، ويمين، وحلف، وعهد،
وميثاق، وإيلاء".
ومن ثم عرفها الحصكفي بأنها: "عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل
والترك".
انظر: فتح القدير 5/ 59؛ الدر المختار 3/ 702 مع حاشية ابن عابدين.
ووضحها الشربيني من الشافعية بأنها: "تحقيق أمر غير ثابت ماضيا كان أو
مستقبلا نفيا أو إثباتا ممكنا كحلفه: ليدخلن الدار، أو ممتنعا كحلفه: ليقتلن
الميت، صادقة كانت أو كاذبة مع العلم بالحال أو الجهل به". مغني المحتاج 4/
320.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 213؛ القدوري، ص 78؛ المبسوط 7/ 2؛ تحفة الفقهاء 2/
508؛ البدائع 6/ 2903.
(3) انظر: الأم 5/ 280، 7/ 65؛ المهذب 2/ 116؛ الوجيز 2/ 81؛ المنهاج، ص 113.
(1/427)
وهذا قد أعتق رقبة؛ لأن رقبة الكافر
رقبة، فوجب أن يجزيه، كما لو أعتق عبدا مسلما.
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن هذا صرف الكفارة إلى الكافر، فوجب أن لا يجوز،
كما لو صرف الزكاة إلى الكافر، فإنه لا يجوز (1).
مسألة: 299 - إعتاق المكاتب عن كفارة اليمين
إذا أعتق المكاتب عن كفارة يمينه، يجوز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3).
دليلنا في المسألة، [وهو]: إن المكاتب عبد قبل أن يؤدي الكتابة، بدليل: ما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم"
(4) فسمي المكاتب عبدا ولو أعتق العبد، لأجزأه، فكذلك المكاتب.
__________
(1) واستدل الطرفان لإيجاب الكفارة بعتق الرقبة بآية كفارة الظهار، وهي قوله عز
وجل: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن
يتماسا} [المجادلة: 3].
وإنما نشأ الخلاف بين المذهبين، بقاعدة أصولية وهي: إذا اختلف السبب مع اتحاد
الحكم - كما في قوله تعالى في الظهار: {فتحرير رقبة} وفي كفارة القتل: {فتحرير
رقبة مؤمنة} (النساء 92) - فهل يبقى المطلق علي إطلاقه، أم يحمل المطلق على
المقيد؟ .
فالأحناف: "أجرو المطلق علي إطلاقه، والمقيد علي تقييده، لا طلاق اسم الرقبة
في النصوص".
وحمل الشافعي: المطلق علي المقيد جمعا بين الدليلين.
انظر: المبسوط 7/ 3؛ البدائع 6/ 2928؛ المهذب 2/ 116؛ شرح سمع الجوامع 2/ 50، 51
مع حاشية البناني؛ تيسير التحرير 8/ 331.
(2) يجوز إعتاق المكاتب عن الكفارة استحسانا إذا أعتقه قبل أن يؤدي شيئا من بدل
الكتابة.
انظر: المبسوط 7/ 5، 8/ 144؛ تحفة الفقهاء 2/ 510؛ البدائع 6/ 2922.
(3) انظر: الأم 5/ 281، 7/ 66؛ المهذب 2/ 117، 142؛ المنهاج، ص 113، 145.
(4) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده،
وقد سبق تخريجه في المسألة (136)، ص 241.
(1/428)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
المكاتب حر اليد، وإن كانت رقته مملوكة، ألا تري أنه لو حصل مال الكتابة خرج إلى
الحرية، شاء المولي أو أبي، فثبت أن المكاتب انعقد له سبب الحرية، فالمأخوذ عليه:
إعتاق رقبة، وهو مملوك رقبة ويد، فإذا أعتق المكاتب، وجب أن لا يجوز، كما لو أعتق
المدبر، فإنه لا يجزيه، كذلك ها هنا (1).
مسألة: 300 - شراء القريب بنية التكفير عن اليمين
الرجل إذا اشتري قريبه، ناويا: عن كفارة يمينه، يجوز عندنا (2)، وعند الشافعي: لا
يجوز (3).
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن
يجزئ ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" (4) فجعله معتقا
بالشراء، فإذا جعلناه معتقا، وجب أن يجزيه عن الكفارة؛ لأن المأخوذ عليه: إنما هو
الإعتاق، وقد أعتق (5).
احتج الشافعي في المسألة: بهذا الحديث قوله: "إلا أن يجده مملوكا فيشتريه
فيعتقه" أخبر أنه يحتاج إلى الإعتاق، وهاهنا
__________
(1) واستدل الشيرازي على عدم جواز عتق المكاتب مطلقا، بقوله: "لأنه يستحق
العتق بغير الكفارة بدليل أنه لا يجوز إبطاله بالبيع فلا يسقط بعتقه فرض الكفارة،
كما لو باع من فقير طعاما ثم دفعه إليه عن الكفارة".
انظر: الأم 5/ 281؛ المهذب 2/ 117.
(2) انظرة البدائع 5/ 2906؛ الهداية 4/ 263 مع فتح القدير.
(3) انظر: الأم 5/ 281، 7/ 66؛ المهذب 2/ 117؛ المنهاج، ص 113.
(4) الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم، في العتق, باب
فضل عتق الوالد (1510)، 2/ 1148.
(5) انظر: البدائع 6/ 2905.
(1/429)
لما اشتري قريبه، حين دخل في ملكه عتق
عليه بالشراء، فلا يجزئ عن الكفارة (1).
مسألة: 301 - إعتاق العبد مع الحاجة لخدمته
إذا وجب عليه إعتاق الرقبة وهو محتاج إليه لخدمته، فلا يجوز له العدول إلى الصوم
عندنا (2)، وعند الشافعي: يجوز (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن الشرع إنما جعل الصوم بدلا عن الإعتاق، وهذا الرجل قادر
على الإعتاق، فلا يجوز له العدول إلى الصوم، كما نقول في التراب مع الماء؛ لأن
الرجل إذا كان قادرا علي الماء، لا يجوز له العدول إلى التيمم؛ لأن التراب بدل عن
الماء (4).
احتج الشافعي في المسألة؛ لأن [الرجل] (5) إذا كان محتاجا إلى خدمته، صار هذا
بمنزلة ثياب البذلة والمهنة، ألا ترى أنه لا يجب فيه الزكاة، فإذا لم يجب فيه
الزكاة، صار هذا الرجل فقيرا، فيجوز له التكفير بالصوم، كما لو لم يكن عنده شيء (6).
__________
(1) رذكر الشيرازي علة عدم الإجزاء بقوله: "لأن عتقه مستحق بالقرابة، فلا
يجوز أن يصرفه إلى الكفارة، كما لو استحق عليه الطعام في النفقة في القرابة فدفعه
إليه عن الكفارة". المهذب 2/ 117.
(2) انظر: تحفة الفقهاء 2/ 513.
(3) انظر: المهذب 2/ 116.
(4) انظر: القدوري، ص 4.
(5) في الأصل: (الور).
(6) انظر: المهذب 2/ 116.
(1/430)
مسألة: 302 - اعتبار حال وجوب الكفارة
الاعتبار عن وجوب الكفارة حالة الأداء، عندنا (1)، وعند الشافعي: الاعتبار في حال
الوجوب (2): حتى أنه لو كان موسرا وقت الوجوب، معسرا وقت الأداء، لا يجزيه الصوم
عنده، وعندنا: يجزيه.
دليلنا في المسألة؛ لأن القدرة إنما تشترط وقت أداء العبادات، بدليل: أنه لو كان
الرجل قادرا على أداء الصلاة في أول الوقت، فإذا توضأ وأراد أن يصلي فعجز عن
القيام، يجزيه أداء الصلاة وهو قاعد، عرفنا بهذا أن الاعتبار بحال الأداء لا حال
الوجوب (3).
احتج الشافعي في المسألة؛ لأن كون الصوم مجزيا، إنما عرفناه بخطاب الشرع، والشرع
إنما خاطب الموسر بالعتق، وهذا الرجل وقت إيجاب الشرع وهو موسر، فوجب أن لا يجزيه
الصوم، كما لو كان موسرا وقت الأداء (4).
__________
(1) المبسوط 8/ 145؛ البدائع 6/ 2899.
(2) الأم 7/ 66؛ المهذب 2/ 116.
(3) راجع: المراجع السابقة للحنفية.
(4) راجع: المراجع السابقة للشافعية.
والظاهر أن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى المسألة الأصولية الخلافية، وهي:
(الواجب الموسع، ووقت وجوب الأداء فيه) وسبق أن تحدثت عن هذه المسألة الأصولية
بتفصيل، في مسألة (وقت وجوب الصلاة) (45)، ص 138.
وثمرة الخلاف واضحة مما ذكر المؤلف في أول المسألة.
(1/431)
باب اللعان (1)
[مسألة]: 303 - لعان الذمي
لعان الذمي، عندنا: لا يجوز (2)، وعند الشافعي: يجوز (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن اللعان أيمان، والكافر ليس هو من أهل اليمين، فوجب أن
لايصح لعانه. أو نقول: لأن اللعان
__________
(1) اللعان: مصدر لاعن، كقاتل، يقال: لاعنه ملاعنة ولعانا، أي طرده وأبعده، وهو من
باب نفع، وسميت الملاعنة بين الزوجين بذلك: لبعدهما من الرحمة، أو لبعد كل منهما
عن الآخر. انظر: الصحاح، المصباح, مادة: (لعن)، مغني المحتاج 3/ 367.
وشرعا: عرفة الأحناف بأنه: "شهادة مؤكدة بالأيمان, مقرونة باللعن والغضب وأنه
في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانبها قائم مقام حد الزنا". البدائع
5/ 2150؛ الدر المختار 3/ 482 مع حاشية ابن عابدين. وعرفه الشافعية بأنه:
"كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق به العار، أو إلى
نفي ولد". مغني المحتاج 3/ 367. والخلاف بين الجانبين: هل اللعان، شهادات، أم
أيمان؟
فذهب الأحناف إلى أن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان، ومن ثم قالوا: "إن كل من
كان من أهل الشهادة واليمين كان من أهل اللعان، ومن لا فلا".
وذهب الشافعية إلى القول، بأنه أيمان مؤكدات بالشهادات، ومن ثم قالوا: إن كل من
كان من أهل اليمين فهو من أهل اللعان، سواء كان من أهل الشهادة، أم لم يكن، ومن ثم
حدث الخلاف في المسائل الآتية.
(2) انظر: القدوري، ص 79؛ المبسوط 7/ 40؛ تحفة الفقهاء 2/ 328؛ البدائع 5/ 2151.
(3) انظر: الأم 5/ 124, 286؛ المهذب 2/ 125؛ الوجيز 2/ 88؛ المنهاج، ص 114.
(1/432)
شهادات مؤكدة بالإيمان، فكيف ما كان
الكافر ليس من أهلها (1).
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن اللعان حكمه: حكم الطلاق، والكافر من أهل الطلاق،
فوجب أن يكون من أهل اللعان (2).
مسألة: 304 - لعان الأخرس
لعان الأخرس، عندنا: لا يجوز (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
دليلنا في المسألة: أنه قد ذكرنا أن اللعان: شهادات مؤكدة بالأيمان، والأخرس ليس
من أهل الشهادة، فلا يصح لعانه (5).
__________
(1) وأصل الأحناف في هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعة لا
لعان بينهم وبين أزواجهم: اليهودية، والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر،
والحرة تحت المملوك". الحديث أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، وتكلم المحدثون في سنده، منهم: عثمان بن
عطاء، قال عنه الدارقطني: "ضعيف الحديث جدا"، وكذلك عثمان بن عبد الرحمن
الوقاصي، وقال الدارقطني عنه أيضا: "متروك الحديث"، وذكر نحوه البيهقي
في سننه. ولكن بعضهم ذهبوا إلى تقوية الرواة، وقبول أحاديثهم.
انظر بالتفصيل: ابن ماجه، في الطلاق، باب اللعان (2071)، 1/ 670؛ السنن الكبرى مع
الجوهر النقي علي البيهقي 7/ 397؛ نصب الراية 3/ 248.
(2) واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بإطلاق آية اللعان على جميع الأزواج، وهي قوله
تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} (النور 6)، ومن ثم
يصح "من كل زوج بالغ عاقل مختار مسلما كان أو كافرا حرا كان أو عبدا".
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 286؛ المهذب 2/ 125.
(3) انظر: القدوري، ص 80؛ المبسوط 7/ 42؛ البدائع 5/ 2152؛ الهداية 4/ 293، مع فتح
القدير.
(4) ويشترط لصحة لعان الأخرس أن تكون له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة.
انظر: الأم 5/ 286؛ المهذب 2/ 125؛ الوجيز 2/ 91.
(5) راجع المصادر السابقة للحنفية.
(1/433)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن
اللعان حكمه: حكم الطلاق بعد الفراغ، والأخرس من أهل الطلاق، فوجب أن يصح لعانه
(1).
مسألة: 305 - الملاعنة من الزوجة الذمية أو الأمة
إذا لاعن الزوج من امرأته الذمية، أومن امرأته الأمة، لا يصح، عندنا (2)، وعند
الشافعي: يصح (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن اللعان: شهادة، إذا فرغ الزوج من اليمين يجب اليمين علي
المرأة، ويمين كل واحد منهما شهادة في حق صاحبه، فلو قلنا: إنه يصح، يكون هذا قبول
شهادة الذمي علي المسلم، وهذا لا يجوز (4).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الزوج لما فرغ من اللعان، وجب علي المرأة
اليمين، وهذا اليمين إنما وجب عليها شرعا، والشرع إنما أوجب عليها اليمين، جعل
قولها معتبرا، فوجب أن يصح؛ لأنها تحتاج إلى دفع هذا الشين عن نفسها (5).
__________
(1) انظر: المهذب 2/ 125؛ وراجع سبب الخلاف في المسألة (303)، ص 432.
(2) انظر: القدوري، ص 80؛ المبسوط 7/ 40؛ تحفة الفقهاء 2/ 327؛ البدائع 5/ 2151.
(3) انظر: الأم 5/ 286؛ المهذب 2/ 120؛ الوجيز 2/ 88؛ المنهاج، ص 114.
(4) انظر: القدوري، ص 107.
(5) راجع المصادر السابقة للشافعية. سبب الخلاف راجع إلى ما ذكرته في تعريف
اللعان، راجع المسألة (303)، ص 432.
(1/434)
مسألة: 306 - اجتماع المتلاعنين
المتلاعنان يجتمعان: عندنا إذا أكذب نفسه (1)، وعند أبي يوسف والشافعي: لا يجتمعان
(2).
[(3) دليلنا في المسألة، وهو: أن الزوج لما أكذب نفسه، زال ذلك المعنى الذي ذكرنا:
وهو [تحريم] الشرع الجمع بينهما، فوجب (4) أن يجتمعا (5).
احتج الشافعي، في المسألة: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" (6) وهذا نص].
__________
(1) وإذا أكذب نفسه بعد الملاعنة يحد ويعد خاطبا من الخطاب، وهناك تفصيل في زمن
الإكذاب لترتب آثاره.
انظر: القدوري، ص 80؛ المبسوط 7/ 43، 44؛ الهداية 4/ 288، مع فتح القدير.
(2) انظر: الأم 290/ 5؛ المهذب 2/ 128؛ المنهاج، ص 114.
وراجع قول أبي يوسف رحمه الله في كتب الأحناف السابقة.
(3) هنا في عرض الأدلة وقع قلب في النسخة، بمعنى: ذكر دليل أبو حنيفة في موقع دليل
الشافعي والعكس، وهو سهو من الناسخ، ولذا استحسنت إعادة كل دليل إلى موضعه بعد
التأكد من كتب المذهبين، والأدلة كما ذكرها المؤلف بنصه: "دليلنا في المسألة
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المتلاعنان لا يجتمعان
أبدا"، وهذا نص.
احتج الشافعي في المسألة، وقال: وهو أن الزوج لما أكذب نفسه زال ذلك المعنى الذي
ذكرنا: حرم الشرع بينهما فوجب أن يجتمعا".
(4) قال المصنف: "فوجب أن يجتمعا" مع أنه لا يلزمه نكاحها وإنما له ذلك
عن طريق الجواز، انظر المصادر السابقة.
(5) وذلك باعتبار أن الإكذاب رجوع، والشهادة بعد الرجوع لا حكم لها.
انظر أدلتهم بالتفصيل: في المصادر السابقة للأحناف.
(6) أصل هذا الخبر كما رواه أبو داود في سننه عن سهل بن سعد، أنه بعد ما حضر مجلس
الملاعنة قال: "فطلقها ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، وكان ما صنع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، قال سهل: حضرت هذا عند رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا
يجتمعان". =
(1/435)
مسألة: 307 - حق حد القذف
حد القذف (1)، عندنا: من حقوق الله تعالى، كحد شرب الخمر والزنا، وعند الشافعي: من
حقوق الآدميين (2).
دليلنا في المسألة؛ لأن حد القذف إنما يجب بنسبته إلى الزنا،
__________
= ولكن أخرجه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا، وموقوفا أيضا علي علي
وابن مسعود رضي الله عنهما، وكذلك عبد الرزاق وابن أبي شيبة موقوفا علي عمر وعلي
وابن مسعود رضي الله عنهم ولم يروياه مرفوعا أصلا.
انظر: سنن أبي داود، في الطلاق، باب اللعان (2245، 2250)، 2/ 275؛ سنن الدارقطني
3/ 274 - 277؛ مصنف عبد الرزاق 2/ 117، 113؛ مصنف ابن أبي شيبة 4/ 351، 352؛ نصب
الراية 3/ 250، 151؛ التلخيص الحبير 3/ 227.
(1) القذف لغة: الرمي بالحجارة وغيرها، من باب ضرب.
انظر: المصباح، مادة: (قذف).
واصطلاحا: "نسبة من أحصن إلى الزنا، صريحا أو دلالة". البناية 5/ 479.
انظر: نهاية المحتاج 7/ 435.
(2) حد القذف: حد مشترك بين حق الله سبحانه وتعالى وحق العبد، أما كونه حق الله
تعالى: فمن حيث إن نفعه يقع عاما بإخلاء المجتمع عن الفساد، وأما كونه حق العبد،
فلأن فيه صيانة العرض ودفع العار عن المقذوف. وإلى هنا لا خلاف بين المذهبين.
وإنما وقع الخلاف في تغليب أحد الحقين علي الآخر، وتظهر نتيجة هذا الخلاف في ترتب
آثاره.
فذهب الأحناف إلى تغليب حق الشرع علي حق العبد، "لأن ما للعبد من الحق يتولاه
مولاه، فيصير حق العبد مرعيا"، وكذلك لتسمية القذف حدا كما في حد السرقة
والزنا، "وما يجب للعبد لا يسمى حدا، بل قصاصا وتعزيزا".
وذهب الشافعي إلى: تغليب حق العبد على الشرع، "تقديما لحق العبد، باعتبار
حاجته وغناء الشرع".
هذا هو الأصل المختلف الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها: الصلح، والعفو من
المقذوف، وتوريث دعوي القذف، فلا يصح شيء من هذه عند الأحناف، ويصح عند الشافعي.
للخلاف السابق ذكره.
انظر: تحفة الفقهاء 3/ 227؛ الاختيار 3/ 49، 50؛ الهداية 5/ 491، مع البناية؛
المهذب 2/ 273، 275؛ الروضة 8/ 325؛ مغني المحتاج 4/ 155؛ نهاية المحتاج 7/ 437.
(1/436)
وحرمة الزنا لله تعالى، فكذلك الحد
الذي وجب بنسبته، وحد الزنا لله تعالى.
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن حد القذف إنما وجب لإزالة الشين عن المقذوف وإزالة
الشين يكون حقا للعبد، لا يكون لله تعالى فيه شيء.
مسألة: 308 - حد القذف على الزوج
إذا شهد الزوج مع ثلاثة أنفس على امرأته بالزنا، فإن عندنا: لا يجب الحد علي الزوج
ولا علي الشهود (1)، وعند الشافعي: يلزم الحد علي الزوج والشهود (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الزوج من أهل الشهادة في الجملة، إلا أن ها هنا إنما
لا تقبل شهادته لتوهم عدم الحسبة، ولكن الزنا قد ثبت بشهادتهم بوجود العدد، إلا
أنه لا يقام عليها الحد؛ لأن أحد الشهود إنما هو الزوج، فإذا سقط الحد عنها، فوجب
أن يسقط عن الزوج أيضا (3).
احتج الشافعي، في المسألة وقال؛ لأن الزوج لما شهد مع ثلاثة، لم تقبل هذه الشهادة،
وإذا لم تقبل هذه الشهادة، صار
__________
(1) إذا شهد الزوج على زوجته بالزنا مع ثلاثة آخرين، "ولم يكن من الزوج قذف
قبل ذلك تقبل شهادتهم، ويقام عليها الحد".
انظر: المبسوط 7/ 54؛ البدائع 5/ 2147؛ الدر المختار، 4/ 7، مع حاشية ابن عابدين.
(2) انظر: المهذب 2/ 331، 334؛ نهاية المحتاج 7/ 437.
(3) الدليل الذي ذكره المصنف للأحناف لا يتفق مع حكمهم للمسألة كما ذكرته، واحتج
الكاساني لقبول شهادة الزوج على زوجته، بقوله: "إن شهادته بالقبول أولى من
شهادة الأجنبي؛ لأنها أبعد من التهمة، إذ العادة أن الرجل يستر علي امرأته ما
يلحقه به شين، فلم يكن متهما في شهادته، فتقبل كشهادة الوالد على ولده".
البدائع 5/ 2147.
انظر: المبسوط 7/ 54، 55.
(1/437)
الزوج والشهود قاذفا للمرأة، فوجب أن
يقام على الزوج الحد، كما نقول علي [الشهود الثلاثة] (1).
__________
(1) في الأصل: (على ثلاثة الشهود).
راجع المصادر السابقة للشافعية.
(1/438)
باب العدة (1)
[مسألة]: 309 - هل تحيض الحامل؟
الحامل لا تحيض، عندنا (2)، وعند الشافعي: تحيض (3).
فائدة المسألة: أن الحامل إذا رأت الدم، لا تدع الصلاة والصوم عندنا (2)، وعند
الشافعي: تدع (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن ورود الدم إنما يعرف: بالعرف والعادة، والعرف قد جري
فيما بين النسوان إذا حبلت لا تحيض؛ لأن فم الرحم ينسد بعد العلوق، فإذا رأت الدم
بعد ذلك، يكون من علة، لا من حيض (4).
__________
(1) العدة: جمعها عدد، وهي مأخوذة من العدد والحساب، "لاشتمالها على العدد من
الأقراء أو الأشهر غالبا". انظر: الصحاح، والمصباح، مادة: (عدد).
وشرعا: عرفها الكاساني من الأحناف، بأنها: "اسم لأجل ضرب لانقضاء ما بقي من
آثار النكاح". البدائع 4/ 1995.
وعرفها صاحب مغني المحتاج بأنها: "اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة
رحمها أو للتعبد، أو لتفجعها على زوجها" 3/ 284.
(2) ما تراه الحامل من الدم في أثناء الحمل يكون دم استحاضة عند الأحناف.
انظر: القدوري، ص 6؛ المبسوط 3/ 149؛ الهداية 1/ 691، مع البناية.
(3) قال النووي في المجموع: "اتفق الأصحاب علي أن الصحيح أن [دم الحامل] حيض.
انظر: المهذب 2/ 51؛ المنهاج، ص 8؛ المجموع 2/ 395.
(4) واستدل الأحناف من النقل بأحاديث كثيرة منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه مرفوعا قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تستبريء بحيضة".
أخرجه أبو داود، وقد سبق تخريجه في المسألة (37)، ص 130. =
(1/439)
احتج الشافعي، في المسألة: أن ترك
الصلاة والصوم متعلق بورود الدم في محل مخصوص، فإذا وجد الدم، وجب أن يثبت الحيض
(1).
مسألة: 310 - إلحاق المولود لستة أشهر بعد انقضاء العدة
المرأة إذا أقرت بانقضاء العدة، ثم أتت بولد بعد ستة أشهر، فإن عندنا: لا يلحق
بالزوج (2)، وعند الشافعي: يلحق (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن النسب إنما يلحق بالزوج بقيام الفراش، لقوله - صلى الله
عليه وسلم -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (4) وقيام الفراش بقيام
النكاح، أو بقيام العدة، وكلاهما قد انقطع ها هنا، فوجب أن لا يلحق بالزوج.
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن المرأة لما ولدت [لأكثر] (5) من ستة أشهر، تبين
أن الولد كان من الزوج؛ لأن الولد لا يجيء بأقل من ستة أشهر، فثبت بهذا أن الولد
للزوج (6).
__________
= ووجه الاستدلال: حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعل وجود الحيض
علما علي براءة الرحم من الحبل". انظر بالتفصيل: البناية في شرح الهداية 1/
692، 693.
(1) انظر: المجموع 2/ 396.
(2) انظر: القدوري، ص 81؛ المبسوط 6/ 50؛ البناية 4/ 819.
(3) يلحق الولد بالزوج عند الشافعية مطلقا: إذا ولدت لأربع سنين فأقل من وقت
الفراق.
انظر: الروضة 8/ 378؛ شرح المحلي على المنهاج 4/ 45، مع حاشيتي قليوبي وعميرة؛
نهاية المحتاج 7/ 138.
(4) الحديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما:
البخاري، في الحدود، باب للعاهر الحجر (6817، 6818)، 12/ 127؛ مسلم، في الرضاع،
باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457، 1458)، 2/ 1080.
(5) في الأصل: (الأقل)، والظاهر من السياق عدم صوابه.
(6) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(1/440)
مسألة: 311 -
العدتان (1)، تتداخلان, عندنا (2)، وعند الشافعي: لا تتداخلان (3).
دليلنا في المسألة وهو: أن العدة حق من حقوق الله تعالى، إذا اجتمعا تتداخلان (4)،
كما قلنا في الحدود (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن العدة إنما وجبت علي المرأة حقا للزوج قضاء لحق
النكاح، فكان حق العبد من هذا الوجه، وحقوق العباد ألا تتداخل، كما في سائر حقوق
العباد (6).
__________
(1) صورة المسألة: أن توطأ المرأة المعتدة بشبهة ولو من المطلق، وكذلك "لو
تزوجت المعتدة من الطلاق برجل ودخل بها، ففرق بينهما، فعليها عدة واحدة من الأول
والآخر: ثلاث حيض"، عند الأحناف، وعند الشافعي: عليها لكل منهما عدة. البدائع
4/ 1995.
(2) القدوري، ص 81؛ المبسوط 6/ 41؛ البدائع 4/ 1995؛ الهداية 4/ 788، مع البناية.
(3) ما ذكره المؤلف عن الشافعي: "بأن العدتين لا تتداخلان". هذا إذا
كانت العدتان من شخصين، وأما إذا كانت العدتان المتفقتان بالأقراء أو الأشهر من
شخص واحد فتتداخلان.
انظر: الأم 5/ 233؛ المهذب 2/ 151؛ المنهاج، ص 155.
(4) وذلك لأن العدة أجل، "والآجال تنقضي بمدة واحدة في حق الواحد والجماعة
كآجال الديون". والمقصود الأساسي مها هوة العلم بفراغ رحمها من مائة ويحصل
ذلك بثلاث حيض.
انظر بالتفصيل: المبسوط 6/ 42؛ البدائع 4/ 1995.
(5) قال السرخسي: "مبني، الحدود على التداخل". المبسوط 9/ 102.
(6) واحتج الشافعي من النقل بما روى سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه عزر
الزوجين المتزوجين في العدة، وقضى علي الزوجة بإكمال العدتين للزوج الأول والثاني،
وروي نحوه عن علي رضي الله عنه أيضا.
انظر بالتفصيل: الأم 5/ 233؛ المهذب 2/ 151، 152. وراجع سبب الخلاف في تعريف
العدة، في المسألة (309)، ص 439.
(1/441)
مسألة: 312 - عدة أم الولد
أم الولد إذا أعتقها سيدها، أو مات عنها سيدها، فإن عدتها عندنا: ثلاث حيض (1)،
وعند الشافعي: حيضة واحدة (2).
دليلنا في المسألة، وهو: إن عدة أم الولد تشبه عدة الحرائر من وجه، وعدة الإماء من
وجه، فقدرناها بثلاثة أشهر، لشبهها بالجانبين (3).
احتج الشافعي في المسألة، [وهو]: أن عدة أم الولد تشبه الاستبراء، فوجب أن تكون
مقدار الحيضة، كما في استبراء الجارية (4).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 81؛ المبسوط 6/ 54؛ البدائع 4/ 2001؛ الهداية 4/ 784 مع
البناية.
(2) انظر: الأم 5/ 218؛ المهذب 2/ 155؛ المنهاج، ص 117؛ نهاية المحتاج 7/ 167.
(3) واستدل الأحناف بما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر وعلي وعمرو بن العاص
رضي الله عنهم: "بأن عدة أم الولد ثلاث حيض".
مصنف محمد بن أبي شيبة 5/ 162، 163؛ البدائع 1/ 2004؛ فتح القدير 4/ 322.
(4) انظر: المهذب 2/ 155.
(1/442)
باب الرضاع (1)
[مسألة]: 313 - المحرم من الرضاع
الرضاع عندنا: يثبت بمرة واحدة (2)، وعند الشافعي: لا يثبت إلا بخمس رضعات (3).
دليلنا في المسألة، [وهو]: أن حرمة الرضاع إنما تثبت بالجزئية والبعضية؛ لأن اللبن
غذاء للصبي، فإذا وصل الغذاء إلى جوفه بمرة واحدة، تثبت الجزئية، فوجب أن تثبت
الحرمة (4).
__________
(1) الرضاع: مصدر رضع يرضع رضاعا ورضاعة - بفتح الراء وكسرها، لغتان وذكر فيه ثلاث
لغات: (سمع، وضرب، وفتح). وهو لغة: "اسم لمص الثدي".
انظر: الصحاح، المصباح، القاموس المحيط، مادة: (رضع).
وشرعا: عرفه صاحب الدر المختار بأنه: "مص لبن آدمية في وقت مخصوص" 3/
209.
وفصله الشربيني من الشافعية بقوله: "هو اسم لحصول لبن امرأة أو ما حصل منه في
معدة طفل أو دماغه). مغني الحتاج 3/ 414.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 220؛ القدوري، ص 72؛ المبسوط 5/ 134؛ الهداية 4/ 338
مع البناية.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 226؛ المهذب 2/ 157؛ الوجيز 2/ 105؛ المنهاج، ص 117.
(4) واستدل الأحناف من النقل بإطلاق قوله سبحانه وتعالى: {وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم} (النساء 23)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما
يحرم من النسب". من غير تفصيل. الحديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة وابن عباس
رضي الله عنهم، البخاري، في الشهادات، باب الشهادة علي الأنساب والرضاع المستفيض،
(2645)، 5/ 253، مسلم، في الرضاع، باب تحريم الرضاعة من، ماء الفحل (1445)، 2/
1069.
انظر: المبسوط 5/ 1134؛ الهداية مع البناية 4/ 341.
(1/443)
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أثبت الرضاع بخمس رضعات" (1).
مسألة: 314 - مدة الرضاع
مدة الرضاع عندنا: سنتان ونصف (2)، وعند الشافعي: سنتان (3).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (4) فالله تعالى أخبر
أن مدة الرضاع سنتان ونصف (5).
__________
(1) ويقصد به ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان فيما أنزل الله تعالى
في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن: بخمس معلومات فتوفي - صلى الله عليه
وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن". أخرجه مسلم، في الرضاع، باب التحريم بخمس
رضعات (1452)، 2/ 1075.
وما روي عنها أيضا: قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم
المصة والمصتان": أخرجه مسلم، في الرضاع، باب في المصة والمصتان (1450)، 2/
1074.
(2) هذا قول أبي حنيفة، وأما الصاحبان فذهبا إلى أن مدة الرضاع سنتان كقول
الشافعي، قال في تصحيح القدوري وغيره: وبقولهما الفتوي، وهو المختار لدي الطحاوي.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 220؛ القدوري، ص 72؛ المبسوط 5/ 135؛ الهداية مع فتح
القدير 3/ 441؛ اللباب 3/ 220.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 227؛ المهذب 2/ 156؛ المنهاج، ص 117.
(4) سورة الأحقاف: آية 15.
(5) ووجه الدلالة من الآية لأبي حنيفة رحمه الله تعالى "أنه سبحانه وتعالى
ذكر شيئين وضرب لهما مدة، فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين
على شخصين ... " شرح فتح القدير 3/ 442.
ووجه استدلال الصاحبين من الآية: أن أدني مدة الحمل ستة أشهر، فبقي للفصال حولان،
لأنه تعالى قال: {وفصاله في عامين} (لقمان 14)، وبما رواه الدارقطني عن ابن عباس
رضي الله عنهما موقوفا: "لا رضاع إلا في حولين". وأظهر الأدلة لهما قول
الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}، قال
ابن الهمام: "فجعل التمام بهما ولا مزيد علي التمام".
انظر: المبسوط 5/ 136؛ الهداية وشروحها: فتح القدير مع العناية 3/ 442؛ والبناية
4/ 344، 345.
(1/444)
احتج الشافعي في المسألة، وقال: بأنا
لو خلينا والقياس، لكنا نقول: إن لبن الآدمية حرام؛ لأنه جزء منه والآدمي محرم
جميع أجزائه، إلا أن الشرع أباحه للصبي للضرورة؛ لأن طبعه لا [يحتمل] الغذاء، فلو
غذيناه بلبن البهائم، ربما يتخلق بأخلاق البهائم، فالشرع أباحه لأجل الضرورة، فإذا
بلغ السنتين فقد زالت الضرورة؛ لأن طبعه يحتمل الغذاء، فقدرناه السنتين لهذا
المعنى (1).
مسألة: 315 - سقي الصبي
اللبن إذا شيب بالماء وسقي الصبي، عندنا: لا تثبت الحرمة إذا كانت الغلبة للماء
(2) , وعند الشافعي: تثبت الحرمة، سواء كان الماء غالبا أو مغلوبا (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن اللبن إنما يثبت الحرمة لحصول الغذاء؛ لأن الغذاء يثبت
الجزئية ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرضاع ما أنبت اللحم
وأنشز العظم" (4)، فإذا ثبت أن اللبن إنما يثبت
__________
(1) واحتج الشافعي من النقل بقول الله عز وجل: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم
الرضاعة} (البقرة 233)، وأدلة أخرى.
انظر: المصادر السابقة للشافعية، مع أدلة الصاحبين رحمهم الله تعالى.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 222؛ القدوري، ص 72؛ المبسوط 5/ 140.
(3) لكن يشترط عند الشافعية: "أن يكون اللبن قدرا يمكن أن يسقي منه خمس دفعات
لو انفرد عن الخليط علي أصح الوجهين عندهم".
انظر: مختصر المزني، ص 227؛ المهذب 2/ 158؛ المنهاج، ص 117؛ الروضة 9/ 514.
(4) الحديث أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال:
"لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم"، وفي رواية: "وأنشز
العظم". وفي السند: أبو موسى الهلالي وأبوه، قال أبو حاتم: مجهولان. ولكن
أخرجه البيهقي من وجه آخر من حديث أبي حصين عن أبي عطية قال: . جاء رجل إلى أبي
موسى فذكره بمعناه: أبو داود، في النكاح، باب في رضاعة الكبير (2059، 2060)، 2/
222؛ السنن الكبرى 7/ 460، 461؛ التلخيص الحبير 4/ 4.
(1/445)
الحرمة لمكان الغذاء، فإذا كان الماء
غالبا لا يحصل معنى الغذاء، فوجب أن لا تثبت الحرمة (1).
احتي الشافعي في المسألة؛ لأن الغذاء أمر باطن لا يمكن الوقوف عليه، [فا] الشرع
أقام السبب الظاهر: وهو اللبن مقام خفة الغذاء، كما قلنا: في السفر؛ لأن السفر قد
أبيح فيه الإفطار لأجل المشقة، والمشقة أمر باطن لا يمكن الوقوف عليه، فالشارع
أقام السبب الظاهر الدال علي المشقة مقام المشقة (2)، فكذلك هاهنا (3).
مسألة: 316 - الرضاع بلبن الميت
لبن الميت يثبث الحرمة عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يثبت (5).
دليلنا في المسألة، وهو: أن اللبن إنما يثبت الحرمة لما فيه من إثبات الجزئية
والبعضية، وهذا المعنى لا يختلف في لبن الميتة والحية؛ لأن (بضع الحرمة) (6) مما
يحتاط فيه، فوجبت فيه الحرمة، كما في لبن الحي (7).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن اللبن إذا انفصل من الميت لا يعطي له حكم لبن
الأحياء؛ لأن لبن الأحياء إنما يثبت
__________
(1) راجع المصادر السابقة للأحناف.
(2) انظر: العلة. من أركان القياس في كتب الأصول، الغزالي، شفاء الغليل، ص 457.
(3) واحتج الشافعية، بالقياس على وقوع النجاسة في الماء القليل.
انظر: مختصر المزني، ص 227؛ المهذب 2/ 158.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 222؛ القدوري، ص 73؛ المبسوط 5/ 139.
(5) انظر: مختصر المزني، ص 227؛ المهذب 2/ 158؛ الوجيز 2/ 105؛ المنهاج، ص 117.
(6) هكذا في الأصل.
(7) انظر: المبسوط 5/ 139.
(1/446)
الحرمة شرعا، والشرع إنما يثبت الحرمة
في لبن الحي، فلو قلنا: بأنه يثبت [في] لبن الميتة إنما يثبت استدلالا أو قياسا،
والقياس لا مدخل له في باب الحرمات (1).
__________
(1) قول المؤلف: (بان القياس لا مدخل له في باب الحرمات) سليم إن اقتصرناه علي
موطن النزاع؛ لأن المحرمات في النكاح: إما نسبا أو إرضاعا أو مصاهرة، وكلها ثابتة
بالنص.
راجع سبب الخلاف أبي المسألة: المبسوط 5/ 139.
(1/447)
باب النفقات (1)
[مسألة]: 317 - خيار فسخ النكاح بإعسار الزوج عن النفقة
إذا أعسر الرجل في نفقة المرأة، لا يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح عندنا (2)
وعند الشافعي: يثبت (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أنا أجمعنا: على أن إعسار الزوج عن المهر لا يثبت للمرأة
خيار الفسخ، فإعساره عن النفقة أولى أن لا يثبت للمرأة [خيار الفسخ؛ لأن] (4)
المهر أقوى من النفقة وجوبا، ثم أن العجز عن المهر لما لم يثبت الخيار، فالنفقة
أولي (5).
__________
(1) النفقات: جمع نفقة وهي مشتقة من النفوق، وهو الهلاك، يقال: نفقت الدابة نفوقا:
هلكت، أو من النفاق، وهو: الرواج، نفقت السلعة نفاقا: راجت.
انظر: المغرب، مختار الصحاح، المصباح، مادة: (نفق).
وشرعا هي: "الطعام والكسوة والسكني"، وتجب النفقة علي الغير بأسباب
ثلاثة: زوجية وقرابة وملك، وجمعها هنا، لاختلاف أنواعها.
انظر: الدر المختار 3/ 571، 572؛ مغني المحتاج 3/ 425.
(2) وعلى الزوجة أن تستدين بأمر القاضي، ويحال الغريم علي الزوج.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 223؛ القدوري، ص 82؛ المبسوط 5/ 190؛ الهداية 4/ 389، مع
شرح فتح القدير والعناية.
(3) انظر: الأم 5/ 91؛ المهذب 2/ 164؛ المنهاج، ص 120.
(4) في الأصل: فراغ فزيدت ليستقيم المعنى.
(5) واستدل الأحناف من النقل بقوله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}
(البقرة 280) ووجه الدلالة كما قال الكمال بن الهمام: "وغاية النفقة أن تكون
دينا في الذمة، وقد أعسر بها الزوج فكانت المرأة مأمورة بالإنظار بالنص".
انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 5/ 191؛ فتح القدير مع العناية 4/ 391، 392.
(1/448)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
المقصود من النكاح في حق المرأة: قضاء الشهوتين، ثم لوفاتها شهوة الفرج، بأن وجد
زوجها: عنينا أو مجبوبا يثبت لها خيار الفسخ، فإذا فاتها مقصود شهوة البطن: وهو
النفقه أولى أن يثبت لها خيار الفسخ؛ لأن المرأة ربما تصبر عن قضاء شهوة الفرج
شهرا أو دهرا، ولا تصبر عن شهوة البطن يوما، ثم فوات شهوة الفرج لما أثبت لها
الخيار، ففوات شهوة البطن أولى (1).
مذهبنا مذهب [سفيان الثوري] (2) رضي الله عنه سئل هذه المسألة؟ فأجاب بأن قال:
امرأة أبتليت، فلتصبر حتى يستبين موته أو طلاقه.
__________
(1) واستدل الشيرازي من النقل بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: في الرجل لا يجد ما ينفق علي امرأته: "يفرق بينهما".
أخرجه الدارقطني والبيهقي.
انظر: سنن الدارقطني 3/ 297، السنن الكبرى 7/ 470؛ نيل الأوطار 6/ 364.
وانظر أقوال المحدثين في الحديث: التلخيص الحبير 4/ 8؛ وما رواه الشافعي من
الآثار؛ الأم 5/ 91.
(2) في الأصل: (مذهبنا مذهب رضي الله عنه)، وإنما روي هذا الأثر عن سفيان الثوري
كما أثبته في المتن، كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن حزم في المحلي بلفظ: (هي
امرأة ابتليت فلتصبر).
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 96؛ المحلي 10/ 97.
انظر: المبسوط 5/ 189، 190؛ البناية 4/ 870.
(1/449)
كتاب الإكراه (1)
[مسألة]: 318 - القصاص في الإكراه
إذا أكره على قتل رجل بالسيف، فقتله المكره، فإن القصاص يجب: علي المكره عندنا
(2).
وعند الشافعي: يجب القصاص عليهما جميعا (3)، وعند أبي يوسف: لا يجب القصاص عليهما
جميعا (4). وعند مالك: يجب القصاص علي المكره ولا يجب على المكره (5).
__________
(1) الإكراه لغة: حمل الإنسان علي أمر يكرهه، يقال: "أكرهته على الأمر
إكراها: حملته عليه قهرا".
وشرعا: عرفه المرغيناني، "بأنه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينفي به رضاه أو
يفسد به اختياره مع بقاء أهليته" أو هو "حمل الغير على ما يكرهه
بالوعيد" وهو نوعان: ملجيء بأن يكون بتلف نفس أو عضو، وغير ملجيء: بأن يكون
بحبس أو قيد أو ضرب.
وترتب الأحكام في هذا الموضع إنما يكون بالنوع الأول وهو: الملجيء مع شروط أخرى.
انظر: مختار الصحاح؛ الصباح؛ التعريفات، مادة: (كره)، الهداية 8/ 172؛ مع البناية؛
الدر المختار 6/ 128 مع حاشية ابن عابدين؛ اللباب 4/ 107.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 409؛ القدوري، ص 113؛ المبسوط 24/ 72؛ تحفة الفقهاء 3/
462؛ اللباب 4/ 112.
(3) قال النووي في المنهاج: "ولو أكرهه علي قتل فعليه القصاص وكذا علي المكره
في الأظهر" من قولي الشافعي.
انظر: الأم 6/ 41؛ المهذب 2/ 178، 193؛ الوجيز 2/ 123؛ المنهاج، ص 122.
(4) انظر: المبسوط 24/ 72؛ تحفة الفقهاء 3/ 462.
(5) ما حكاه المؤلف عن مالك غير دقيق. والصحيح من مذهب مالك: أنه يقتل المكره
لتسببه، كما يقتل المكره لمباشرته، بشرط أن يكون المكره خائفا من قتل الأمر. =
(1/450)
دليلنا في المسألة، وهو: أن المكره لما
أكرهه على القتل، فقد ألجاه بذلك؛ لأن المكره ما فعل باختياره، إنما فعل خوفا من
السيف؛ لأن الإنسان مجبول بحب حياته، فكان فعله نافلا عن المكره، فصار المكره
كالآلة. كما لوألقى حية على إنسان فلسعته الحية، أو وضع نارا على صدر إنسان
وأحرقته النار ومات، فإن القصاص يجب على الملقي، وإن كان القتل بفعل النار أوبفعل
الحية، كذلك ها هنا (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن المكره مباشر للقتل والمكره مسبب للقتل، فكان كل
واحد منهما مشتركا في هذا الفعل، فصار كما لو اجتمعا وقتلاه، أحدهما: بسبب،
والآخر: بالمباشرة، فإنه يجب القصاص عليهما؛ لأن السبب إذا كان قويا، أقيم مقام
المباشرة (2)، كما: لو حفر بئرا على قارعة الطريق، فوقع فيه إنسان فمات، فإنه يجب
على الحافر الضمان، لهذا المعنى (3). وأما أبو يوسف فإنه قال: لا أوجب على المكره
القصاص؛ لأنه ما باشر بنفسه، ولا أجب القصاص على المكره؛ لأنه ما قتل باختياره،
فأورث الشبهة فيهما جميعا فيسقط القصاص مع الشبهة (4).
__________
= وإنما يصح قول المؤلف إذا حملناه على أن الإكراه غير ملجئ، مع أن الجميع اشترطوا
الإلجاء.
انظر: الشرح الصغير 5/ 73؛ قوانين الأحكام الشرعية، ص 374.
(1) واستدل السرخسي لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بقول الله عز وجل: {يذبح
أبناءهم ويستحي نساءهم} (القصص 4). ووجه الدلالة كما قال السرخسية "فقد نسب
الله الفعل إلى المعين وهو ما كان يباشر صورة، ولكنه كان مطاعا فأمر به وأمره
إكراه".
انظر بالتفصيل: المبسوط 73/ 24، 74، 75.
(2) انظر: المهذب 2/ 178.
(3) المصدر السابق 2/ 194.
(4) انظر بالتفصيل: المبسوط 24/ 75.
(1/451)
وقال مالك: القصاص يجب على المكره؛
لأنه مباشر للقتل باختياره (1)، فإيجاب القصاص عليه أولى (2).
مسألة: 319 - طلاق المكره وعتاقه
طلاق المكره واقع، وعتاقه صحيح، عندنا (3)، وعند الشافعية لا يصح، ولا يقع (4).
دليلنا في المسألة: "ما روي أن امرأة وجدت زوجها نائما، فأخذت سكينا، فجلست
على صدره، فقالت: تطلقني ثلاثا أو لأذبحنك، فناشدها بالله تعالى فأبت، فطلقها
ثلاثا، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ، فأجاز ذلك الطلاق (5).
__________
(1) وردت العبارة في الأصل بلفظ: (لأنه مباشرة للقتل باختياره، كان هذا مباشرا
للقتل باختياره).
(2) وهذا لا يصلح دليلا لمذهب مالك كما ذكرت؛ لأن مذهبه: القصاص على المكره
والمكره كالشافعية.
انظر تفصيل هذه الأقوال مع أدلتها فية المغني، لابن قدامة 8/ 266, 267.
(3) يقع ويصح طلاق وعتاق المكره عند الأحناف، ولكن للمكره أن "يرجع على الذي
أكرهه بقيمة العبد وبنصف مهر المرأة إن كان الطلاق قبل الدخول".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 407؛ القدوري، ص 113؛ المبسوط 24/ 62، 63؛ تحفة الفقهاء 3/
465.
(4) ما ذكره المؤلف هو ما كان الإكراه فيه بغير حق، وأما إن كان الإكراه بحق:
"كالمؤلى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق وقع طلاقه "، وكذلك "يتصور
الإكراه بحق في البيع بشرط العتق".
انظر: الهذب 3/ 2، 79؛ المنهاج، ص 107، 157؛ مغني الحتاج 4/ 492.
(5) الحديث أخرجه ابن حزم في المحلى، وأورده الزيلعي في نصب الراية نقلا من كتاب
الضعفاء للعقيلي، برواية صفوان بن غزوان الطائي، ذكر القصة ... وفيها، فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "لا قيلولة في الطلاق". وفي المسند: غازي بن
جبلة الجبلاني، قال ابن أبي حاتم والبخارية هو منكر الحديث في طلاق المكره، وقال
ابن حزم: "وهذا خبر في غاية السقوط ... ".
انظر: المحلى 10/ 203؛ نصب الراية 3/ 222.
(1/452)
احتج الشافعي في المسألة: "بما
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا طلاق في إغلاق" (1)
والمراد به: الإكراه (2)
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم في مستدركه، من حديث عائشة رضي الله
عنها: أبو داود، في الطلاق, باب في الطلاق على غلط (2193)، 2/ 258؛ ابن ماجة، في
الطلاق، طلاق المكره والناس (2046)، 1/ 659، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على
شرط مسلم ولم يخرجاه"؛ المستدرك 2/ 198.
(2) وتفسيره: بالإكراه، هو: قول أكثر علماء الغريب: كابن قتيبة، والخطابي، وابن
السيد وغيرهم، كما ذكر ابن حجر، وفسره أبو داود في سننه: بالغضب، وكذا أحمد، وقال
أبو عبيد: الإغلاق: التضييق، وقيل: بمعنى الجنون.
انظر: سنن أبي داود 2/ 258؛ التلخيص الحبير 3/ 210.
(1/453)
كتاب القصاص (1)
[مسألة]: 320 - قتل المسلم بالذمي
المسلم يقتل بالذمي عندنا (2)، وعند الشافعية لا يقتل (3).
دليلنا في المسألة: أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا نص علينا من غير نكير (4)، قال
الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (5). من غير تفصيل بين المسلم
والذمي، وصح بما روي
__________
(1) القصاص: بكسر القاف، قال الأزهرية القصاص المماثلة، وهو مأخوذ من القص وهو:
القطع، وقال الواحدي وغيره من المحققين: هو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه؛ لأن المقتص
يتبع جناية الجاني، فيأخذ مثلها، يقال: اقتص من غريمه، وأقص السلطان فلانا إقصاصا،
أية قتله قودا، وأقصه من فلان: جرحه مثل جرحه، واستقصيه: سأله أن يقصه.
انظر: الصحاح، المغرب، المصباح، مادة: (قص)، تصحيح التنبيه، ص 131.
والأصل أن القصاص حكم من ضمن أحكام الجنايات المترتبة عليها: القصاص أو الدية،
والكفارة، وحرمان الأرث.
وأصحاب كتب الفقه يعنونون هذا الكتاب: بالجنايات، وبوب في بعض كتب الشافعية: بكتاب
الجراح، وقال الشربيني: وكان التبويب بالجنايات أولى لشمولها: الجناية بالجرح
وغيره كالقتل بمثقل ومسموم وسحر". مغني المحتاج 4/ 2.
الجناية لغة: "ما يجتنيه من شر" وشرعا: "اسم لفعل محرم حل بمال أو
نفس". المغرب، مادة: (الجناية)، الدر المختار 6/ 527، مع حاشية ابن عابدين.
(2) انظر: القدوري، ص 89؛ المبسوط 26/ 131؛ تحفة الفقهاء 3/ 145.
(3) انظر: الأم 6/ 25؛ المهذب 2/ 174؛ الوجيز 2/ 125؛ المنهاج، ص 123.
(4) انظر: أصول الزدوي مع كشف الأسرار 3/ 212, 213.
(5) سورة المائدة: آية 45.
انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 440 وما بعدها
(1/454)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أنه أقاد مسلما بذمي" (1)، وهذا نص.
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن القصاص مبني على المساواة، ولا مساواة بين
الكافر والمسلم، لقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} (2)؛ لأن
المسلم عصم دمه بالإسلام، والذمي عصم دمه بعقد الذمة، فلم يستويا في العصمة، فوجب
أن لا يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، كما لوقتل مستأمنا، ولا خلاف أن المسلم
إذا قتل ذميا خطأ يلزمه الدية على قاتله، ولو قتل المسلم المرتد والحربي لا يلزمه
شيء (3).
مسألة: 321 - قتل الحر بالعبد
الحر يقتل بالعبد عندنا (4)، وعند الشافعية لا يقتل (5)، ولا خلاف أن الرجل يقتل
بالمرأة (6).
__________
(1) الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني مرفوعا
ومرسلا.
فأما المرفوع: فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قتل مسلما بمعاهد، وقال: "أنا أكرم من وفى بذمته".
واختلف المحدثون في رفعه وإرساله، كما اختلفوا في رواته، فقال الدارقطني والبيهقي:
"لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث". وقالا:
"والصواب: أنه مرسل من حديث ابن البيلماني" وقال الدارقطني: "وابن
البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله". انظر: سنن
الدارقطني 3/ 135؛ السنن الكبرى 8/ 30، 31. انظر بالتفصيل: ما أخذ على الحديث: نصب
الراية 4/ 335 , 336.
(2) سورة الحشر: آية 20.
(3) راجع: المصادر السابقة للمذهبين.
واستدلوا من النقل بما روي عن علي رضي الله عنه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "لا يقتل مسلم بكافر"، أخرجه البخاري، في الديات وغيره، باب لا
يقتل المسلم بالكافر (6915)، 12/ 260.
(4) انظر: القدوري، ص 89؛ المبسوط 26/ 129؛ تحفة الفقهاء 3/ 145؛ الهداية 10/ 21،
مع البناية.
(5) انظر: الأم 6/ 25؛ المهذب 2/ 174؛ الوجيز 2/ 125؛ المنهاج، ص 123.
(6) انظر: الأم 6/ 21؛ وراجع: مراجع المذهبين السابقة.
(1/455)
دليلنا في المسألة، وهو: أن القصاص
إنما يجب لتفويت الروح، والعبد والحر في ذلك لا يختلفان؛ لأن العبد والحر في حق
الحرمة - لكونه آدميا أو مخاطبا - واحد، فوجب أن يستويا في وجوب القصاص (1).
احتج الشافعي في المسألة: قد ذكرنا أن القصاص مبني على المساواة، ولا مساواة بين
الحر والعبد، فوجب أن لا يجب عليه القصاص، لهذا المعنى (2).
مسألة: 322 - القتل بمثقل
القتل بالمثقل، عندنا: لا يجب به القصاص (3)، وعند الشافعي: يجب به القصاص (4)،
ولا خلاف: أنه إذا قتله بالسوط الصغير، لا يجب القصاص، ولا خلاف: في العصا الكبير
إذا قتل به (5).
__________
(1) واستدل الأحناف لمذهبهم من النقل بعمومات آيات القصاص كقوله تعالى: {كتب عليكم
القصاص في القتلى} [البقرة: 178]، وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس} [المائدة: 45].
انظر بالتفصيل: المبسوط 6/ 130؛ البناية 10/ 21.
(2) واستدل الشافعية لمذهبهم بما روي عن علي وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من
الآثار أنه: "لا يقتل حر بعبد".
انظر بالتفصيل: ما أورده البيهقي من الآثار في باب، لا يقتل حر بعبد 8/ 34؛
التلخيص الحبير 4/ 16؛ مع المراجع السابقة للشافعية.
(3) الموجب للقصاص عند أبي حنيفة: ما تعمد القتل فيه بالسلاح، أو بما سواه مما
يجرح، فقتله به. انظر: مختصر الطحاوي، ص 232؛ القدوري، ص 88؛ تحفة الفقهاء 3/ 149؛
الاختيار 3/ 155 - 157؛ اللباب 3/ 142.
(4) انظر: الأم 6/ 5، 6؛ المهذب 2/ 177؛ الوجيز 2/ 121؛ المنهاج، ص 122.
(5) والصحيح أن في العصا الكبيرة خلاف: فعند أبي حنيفة تكون الجناية شبه عمد، ولا
يوجب القود، خلافا للصاحبين والشافعي.
راجع: المصادر السابقة للمذهبين، المغني، لابن قدامة 8/ 262.
(1/456)
دليلنا في المسألة، وهو: "ما روي
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه خطب في حجة الوداع فقال: "ألا إن قتيل
خطأ العمد قتيل السوط والعصا، والدية فيه مائة من الإبل" (1) فالنبي - صلى
الله عليه وسلم - أوجب في شبه العمد: الدية. ولم يوجب القصاص، ولو كان واجبا
لأمره.
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن القصاص إنما يجب بتفويت الروح، وقد حصل ها هنا،
تفويت الروح بفعل القصد، فيجب القصاص عليه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه" (2).
__________
(1) الحديث أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما: أبو داود، في الديات، باب في الخطأ شبه العمد (4547)، 4/ 185؛ النسائي، في
القسامة، باب كم دية شبه العمد 8/ 40؛ ابن ماجة، في الديات، باب دية شبه العمد
مغلظة (2627)، 2/ 877؛ وصححه ابن حبان، وقال ابن القطان: "هو صحيح ولا يضره
الاختلاف".
انظر: نصب الراية 4/ 331، 332؛ التلخيص الحبير 4/ 15.
(2) الحديث أخرجه البيهقي في السنن والمعرفة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
مرفوعا،
ونقل ابن حجر عن المعرفة قوله: "في الإسناد بعض من يجهل، وإنما قاله زياد في
خطبته". انظر: السنن الكبرى 8/ 43؛ التلخيص الحبير 4/ 19.
ومن أقوى أدلتهم ما رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه: "أن يهوديا رض
رأس جارية بين حجرين، فقتلها، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "برض رأسه
بين حجرين": البخاري، في الديات، باب من أقاد بحجر (6879) , 12/ 204؛ مسلم،
في القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره (1672)، 3/ 1299.
انظر: المهذب 2/ 177.
منشأ الخلاف بين المذهبين صادر من تعريف العمد: فالعمد عند أبي حنيفة كما عرفه
القدوري هو: "ما تعمد ضربه بسلاح أوما جرى مجرى السلاح في تفريق الأجزاء،
كالمحدد من الخشب والحجر والنار". والعمد عند الشافعية كما عرفه النووي،
بأنه: "قصد الفعل والشخص بما يقتل غالبا جارح أو مثقل".
انظر: القدوري، ص 88؛ المنهاج، ص 122.
(1/457)
مسألة: 323 - موجب العمد
موجب العمد عندنا: القصاص متعينا، ليس له العدول إلى المال إلا برضا [أولياء من
وقع] (1) عليه القتل (2).
وعند الشافعية موجب العمد شيئان: إما القصاص وإما الدية، فالولي بالخيار: إن شاء
مال إلى القصاص، وإن شاء مال إلى الدية، فأيهما مال إليه تعين عليه (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن ضمان المتلفات مقدر [با]، لمثل؛ لأن الله تعالى قال:
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (4)، وقوله: {وجزاء سيئة سيئة
مثلها} (5) فأوجب المماثلة: في إيجاب القصاص، لا في إيجاب المال؛ لأن بين المال
وبين الآدمي لا مماثلة بينهما، لا من حيث الصورة ولا من حيث المعنى، وبين القصاص
والقتل مماثلة في كل وجه؛ لأنه قتل بإزاء قتل، ونفس بإزاء نفس؛ لأن القتل الأول
لتشفي الغيظ ولدرك الثأر، والقتل الثاني بهذا المعنى، فكان بينهما مماثلة بهذا
الوجه، فجعلنا حقه من القصاص متعينا (6).
__________
(1) زيدت ما بين القوسين لاستقامة العبارة، وفي الأصل: "إلا برضا عليه
القتل".
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 232؛ القدوري، ص 88؛ المبسوط 26/ 59؛ الهداية 10/ 20،
مع البناية.
(3) انظر: الأم 6/ 10؛ المهذب 2/ 189؛ المنهاج، ص 125.
(4) سورة البقرة: آية 94.
(5) سورة الشورى: آية 40.
(6) واستدل الأحناف لذلك بقوله عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}
(المائدة 45)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمد قود"، الحديث
أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث عبد الله بن عباس رضي
الله عنهما بهذا اللفظ.
وأخرج عنه، أصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي، بلفظ: " ( ... من قتل عمدا فهو
قود، ... " الحديث: أبو داود، في الديات، باب من قتل في عمياء بين قوم (4539)
,=
(1/458)
احتج الشافعي في المسألة: "بما
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل له قتيل، فأهله بين
خيرتين، إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا مالوا إلى الدية" (1) فالنبي - صلى الله
عليه وسلم -: أثبت التخيير بين القصاص والدية، وهذا نص في هذه المسألة (2).
مسألة: 324 - قيمة دية العبد
قيمة العبد، عندنا لا يبلغ بالغة ما بلغ، ولايزاد على دية الحر، بل ينقص من دية
الحر عشرة (3)، وعند الشافعي: يبلغ (4).
بيان ذلك: إذا قتل العبد خطأ، وكانت قيمته عشرين ألفا، عند أبي حنيفة ديته لا تزاد
على عشرة آلاف، وعند الشافعي: تجب جميع قيمته وهو: عشرون ألفا.
دليلنا في المسألة، وهو: أن الدية إنما تجب بمقابلة الدم، والعبد والحر في حق الدم
لا يختلفان، وإنما يختلفان في المالية والرق، فلو قلنا: إنه يبلغ بالغة ما بلغ،
يكون في هذا إيجاب المال
__________
= 4/ 183؛ والنسائي في الديات، باب من قتل بحجر أو سوط 8/ 39؛ ابن ماجة، في
الديات، باب من حال بين ولي المقتول وبين القاتل (2635)، 2/ 880.
انظر بالتفصيل: المبسوط 26/ 60؛ نصب الراية 4/ 127 وما بعدها.
(1) الحديث أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ مسلم:
"من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدي وإما أن يقتل": البخاري،
في الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين (6880)، 12/ 205؛ مسلم، في الحج،
باب تحريم مكة وصيدها وشجرها ولقطتها (1355)، 2/ 988.
(2) انظر: المهذب 2/ 189.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 243؛ القدوري، ص 92؛ الهداية 10/ 294، مع البناية.
(4) انظر: الأم 6/ 25، 26؛ المهذب 2/ 211.
(1/459)
في مقابلة دم العبد زيادة على دم الحر،
فيؤدي إلى تفصيل العبد على الحر، وهذا لا يجوز (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن المال إنما يجب ها هنا حقا للمولى في مقابلة
تفويت مالية العبد؛ لأن حق المولي مالية العبد، والعبد يساوي ها هنا عشرين ألفا،
فلو نقصنا منه يكون هذا بخسا في حق المولي، فأوجبناه بالغة ما بلغ (2).
مسألة: 325 - اشتراك الأب مع أجنبي في قتل الابن
الأب والأجنبي إذا اشتركا في قتل الابن، أجمعوا (3): على أنه لا قصاص على الأب،
واختلفنا في الأجنبي، هل يجب القصاص عليه؛ عندنا: لا يجب (4)، وعند الشافعي: يجب
(5).
دليلنا في المسألة، وهو: أن هذا قتل حصل بفعلين: فعل أحدهما: موجب، والآخر: غير
موجب، فلا يجب القصاص، كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا في القتل، فإنه لا قصاص
عليهما، فكذلك ها هنا (6).
__________
(1) واستدل الأحناف لمذهبهم بقول الله عز وجل: {ودية مسلمة إلى أهله} (النساء 92).
ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجبها مطلقا من غير فصل بين الحر والعبد
"والدية اسم للواجب بمقابلة الآدمية؛ لأن فيه معنى الآدمية حتى يكون مكلفا،
وفيه معنى المالية، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع
بينهما". الهداية 10/ 296، مع البناية.
(2) وعلل الشيرازي ذلك نحوه: "لأنه مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه،
فضمنه بقيمته بالغة ما بلغت، كسائر الأموال".
انظر: المهذب 2/ 211.
(3) انظر ما نقله ابن قدامة من الإجماع، على أن لا قصاص على الأب، المغني 8/ 293،
294.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 231؛ المبسوط 26/ 94؛ تحفة الفقهاء 3/ 144.
(5) انظر: مختصر المزني، ص 237؛ المهذب 2/ 175؛ المنهاج، ص 123.
(6) انظر بالتفصيل: المبسوط 26/ 95.
(1/460)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: إن هذا
القتل قتل عمد محض، ينبغي أن يجب القصاص عليهما، إلا أنه سقط القصاص عن الأب شبهة
للأبوة، وأما الأجنبي فلا شبهة في حقه؛ لأن فعله عمد محض، فأوجبنا القصاص عليه
(1).
مسألة: 326 - اشتراك اثنين في قطع يد واحدة
اليدان لا تقطعان (2) باليد الواحدة [عندنا] (3)، وعند الشافعي: تقطع (4).
دليلنا في المسألة، وهو: إن القصاص في الأطراف مبني على المساواة بين اليدين وبين
اليد الواحدة؛ لأنه جزء معين، بخلاف القصاص [في النفس] (5)؛ لأنه تقتل العشرة
بالواحدة، وإنما كان كذلك؛ لأن القصاص إنما يجب لتفويت الروح، والروح ما لا يتجزأ،
فجعلنا كل واحد منهما قاتلا على الكمال، وأما ها هنا قطع اليدين متجزئ، فيمكننا أن
نجعل كل واحد منهما قاطعا بعضه، فأوجبنا فيه المساواة (6).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن المعنى في وجوب القصاص إنما هو الزجر، ألا ترى
أن القصاص في النفس، تقتل
__________
(1) انظر: المهذب 2/ 175؛ مغني المحتاج 4/ 20.
(2) صورة المسألة: إذا وضع أحد الجانبيين السكين من جانب، والآخر من جانب، وأمرا
حتى التقى السكينان، أو وضعوا سيفا على يده وتحاملا عليه دفعة واحدة فأباناها.
(3) ولا قصاص على القاطعين عند الأحناف، وعليهما نصف الدية.
انظر: مختصر الطحاوي؛ ص 231؛ القدوري، ص 90؛ المبسوط 26/ 137؛ تحفة الفقهاء 3/
145.
(4) انظر: المهذب 2/ 179؛ المنهاج، ص 123.
(5) زيدت لاستقامة العبارة.
(6) راجع: المبسوط 26/ 137.
(1/461)
العشرة بالواحد لاعتبار معنى الرجز، لا
يراعي فيه المماثلة؛ لأن حرمة النفس أقوى من حرمة الطرف، وفي النفس لا تعتبر
المساواة من العدد، والطرف أولى (1).
مسألة: 327 - استيفاء الكبير القصاص قبل بلوغ الصغير
إذا ثبت القصاص بين الصغير والكبير، عندنا: يجوز للكبير استيفاء القصاص قبل بلوغ
الصغير، وقبل إفاقة المجنون (2)، وعند الشافعي: لايجوز للكبير استيفاء القصاص حتى
يبلغ الصغير (3).
ولا خلاف أنه إذا ثبت القصاص للحاضر والغائب، لا يجوز للحاضر استيفاؤه حتى يقدم
الغائب (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن القصاص حق لا يتجزأ، وجب بسبب لا يتجزأ وما لا يتجزأ
إذا جزئ ينعدم، إما أن يثبت كله أو لا يثبت، أو يثبت بعضه، ولا يمكن أن لا يثبت؛
لأنه ثابت، ولا يمكن أن يثبت لكل واحد منهما؛ لأنه لا يتجزأ، فأثبتنا لكل واحد
منهما، ولأنه استيفاء القصاص على الكمال، كما قلنا: في ولاية النكاح (5).
__________
(1) انظر: المهذب 2/ 179؛ مغني المحتاج 4/ 26.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 239؛ المبسوط 26/ 174؛ تحفة الفقهاء 3/ 146؛ الهداية
10/ 40، مع البناية.
(3) انظر: الأم 6/ 13؛ المهذب 2/ 185؛ الوجيز 2/ 135؛ المنهاج، ص 125.
(4) راجع: المصادر السابقة للمذهبيين.
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 26/ 174، 175؛ الهداية 10/ 40، 41؛ الدر المختار 6/
539؛ مع حاشية ابن عابدين.
(1/462)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
القصاص حق مشترك بين الصغير والكبير، فلو قلنا: بأنه يثبت للكبير استيفاؤه، يكون
في هذا استيفاء القصاص مع توهم العفو والسقوط؛ لأن الصغير ربما يبلغ فيعفو عن هذا
القصاص، والعفو مندوب شرعا، لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (1) فلو قلنا:
بأنه يثبت للكبير يكون هذا استيفاء القصاص مع توهم العفو، فوجب أن ينتظر إلى بلوغ
الصغير، كما قلنا في الغائب والحاضر (2).
مسألة: 328 - قتل الواحد بالجماعة
الواحد إذا قتل جماعة، عندنا: هذا الواحد يقتل بالكل [و]، لا ينتقل الباقي إلى
الدية (3)، وعند الشافعي: يقتل بالأول، والباقون ينتقلون إلى الدية (4).
دليلنا في المسألة: أجمعنا: على أن العشرة تقتل بالواحد، وجب أن يقتل الواحد بالعشرة؛
لأن الشرع لما جعل العشرة مثلا للواحد، فمن ضرورته أن يكون هذا الواحد مثلا
للعشرة؛ لأن المماثلة لا تكون بأحد الطرفين، كالعدل؛ لأن أحد الجواليق لما كان
عدلا للآخر، لا بد أن يكون العدل للآخر مماثلا له (5).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن القصاص عبارة عن المساواة، ولا مساواة بين
الواحد والعشرة؛ لأنا لو خلينا والقياس، لكنا نقول: إن العشرة لا تقتل بالواحد،
إلا أنا تركنا القياس بحديث عمر رضي الله عنه:
__________
(1) سورة البقرة: آية 237.
(2) راجع المصادر السابقة للشافعية.
(3) انظر: القدوري، ص 90؛ المبسوط 26/ 127؛ تحفة الفقهاء 3/ 144.
(4) انظر: الأم 6/ 22؛ المهذب 2/ 184؛ الوجيز 2/ 127, 135؛ المنهاج، ص 123.
(5) انظر: المبسوط 26/ 128.
(1/463)
لما روي أن سبعة قتلوا واحدا بصنعاء،
فقتلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء
لقتلتهم" (1) وكان المعنى فيه: أن الجماعة قتلوا الواحد [فـ]ـجعلنا كل واحد
منهم قاتلا على الكمال باعتبار أن الروح لا يتجزأ، فلم تعتبر المساواة بهذا العذر،
وهذا المعنى في هذا الجانب معدوم (2).
مسألة: 329 - عمد الصبي في القتل
لا خلاف أنه لا قصاص على الصبي والمجنون، وأما الصبي إذا عمد إلى قتل البالغ،
فعندنا: عمده وخطأه سواء (3)، وعند الشافعي: عمده عمد (4).
وفائدته: أن الدية عندنا: تجب على عاقلته؛ لأنه بمنزلة قتل الخطأ، وعند الشافعي:
قتله عمد، تجب الدية في ماله، إلا أن القصاص يسقط لعذر الصبا.
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "رفع
القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى
يستيقظ" (5)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصبي
__________
(1) الأثر أخرجه الإمام مالك، عن سعيد بن المسيب في الموطأ: كتاب العقول، باب ما جاء
في الغيلة والسحر 2/ 871؛ والبخاري عن ابن عمر، في الديات باب إذا أصاب قوم من رجل
هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم، البخاري 12/ 226، مع فتح الباري.
(2) وذكر الشيرازي علة "تعين حق الباقين في الدية، [بقوله]؛ لأنه فاتهم القود
بغير رضاهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات القاتل". المهذب 2/ 184.
(3) انظر: القدوري، ص 91؛ المبسوط 26/ 86؛ الاختيار 3/ 163.
(4) عمد الصبي عمد على القول الأظهر، كما نص عليه النووي في المنهاج، ص 122.
(5) سبق تخريج هذا الحديث في المسألة (46)، ص 140.
(1/464)
مرفوع عنه القلم، فلو قلنا: بأن فعله
عمد، لأجرينا عليه القلم، وهذا لا يجوز.
احتج الشافعي، في هذه المسألة وهو: أن هذا ضمان إتلاف، والصبي والبالغ في ضمان
الإتلاف سواء، ألا ترى أنه لو أتلف مال إنسان، يجب الضمان في ماله (1) فكذلك ها
هنا.
مسألة: 330 - سراية القود
سراية القصاص، تكون مضمونة: عندنا (2)، وعند الشافعي: لا تكون مضمونة (3).
بيانه: إذا قطع رجل يد رجل ظلما، ثم أن المقطوع يده قطع يد القاطع قصاصا، فسرى إلى
نفسه ومات في ذلك، فإن عندنا: تجب عليه دية النفس، وعند الشافعي: لايجب عليه شيء،
ويكون هدرا.
دليلنا في المسألة، وهو: أن الشرع إنما أوجب القصاص، بشرط السلامة؛ لأن العفو
مندوب إليه، فلهذا لا يقطع في الحر الشديد، ولا في البرد الشديد، ولهذا أمر الشرع
لحسمه؛ لأن القطع الأول مقتصر، والقطع الثانية وجب أن يكون مقتصرا فإذا سرى إلى
النفس، فقد استوفى ما بين حق له وبين ما ليس بحق له؛ لأن حقه في الأطراف لا في
النفس، فإذا سرى إلى النفس وجب أن يضمن، كما لو قطع يد رجل ظلما، فمات من ذلك.
فإنه يكون مضمونا عليه، فكذلك ها هنا (4).
__________
(1) انظر: المهذب 1/ 194، 195؛ الروضة 10/ 202.
(2) مختصر الطحاوي، ص 240؛ المبسوط 26/ 147.
(3) انظر: المهذب 2/ 189؛ المنهاج، ص 126.
(4) انظر: المبسوط 26/ 148 وما بعدها.
(1/465)
احتج الشافعي، في المسألة وقال: إن
الشرع أطلق له الاستيفاء، والاستيفاء: تارة يكون مقتصرا، وتارة يكون ساريا؛ لأن
السراية والاقتصار ليس يكون في وسعه؛ لأنا لو قلنا: بأنه يقطعه قطعا مقتصدا، وليس
في وسعه ذلك، لامتنع من استيفاء حقه؛ لأنه لما قطع طرفه من الموضع الذي قطعه في
الأول، فقد استوفى ما هو حق له، فسراية المتولدة منه، وجب أن لا يكون مضمونا عليه،
كما نقول: في الإمام إذا قطع يد السارق، فسرى إلى النفس فمات، فإنه لا يجب الضمان
عليه، فكذلك ها هنا (1).
مسألة: 331 - سراية الجناية
رجل قطع يد رجل فمات، فإن عندنا: يقتل القاطع ولا تقطع يده (2)، وعند الشافعي:
تقطع يده، فإن مات، فلا يجوز قتله (3).
دليلنا في المسألة؛ لأنه لما قطع يده فسرى إلى النفس، كان هذا قتلا من الأصل؛ لأن
القتل ليس إلا جرح يعقبه خروج الروح، وقد وجد هذا المعنى هاهنا، فيكون قتلا،
فأوجبنا عليه القتل (4).
__________
(1) واستدل الشيرازي من النقل بما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا - في الذي
يموت من القصاص -: "لا دية له".
انظر: السنن الكبرى 8/ 68؛ المهذب 2/ 189.
(2) انظر: المبسوط 26/ 149؛ الاختيار 3/ 165.
(3) جملة موقف الشافعية من المسألة: أن لولي المجني عليه الخيار بين أحد أمرين:
إما القطع أولا ثم حز رقبته، أو الحز رأسا ومباشرة.
وما عرضه الزمخشري هنا يتناسب مع الخيار الأول، ذلك أنه نص على القطع، ثم حدث أن
مات الجاني بسراية القطع، وحينئذ فلا يكون محلا للحز، وعليه فلا يجوز قتل الجاني؛
لأنه قد استوفيت حياته قضاء، وإن لم يمت فيكون محلا للحز.
انظر: الأم 6/ 12؛ المهذب 2/ 189؛ المنهاج، ص 125؛ الروضة 9/ 161 وما بعدها.
(4) انظر: المبسوط 26/ 149، 150.
(1/466)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن
القصاص عبارة عن المساواة، وهو مأخوذ: من القص، فلو اعتبرنا المساواة لفعلنا به
كما فعل الأول؛ لأن الأول قطع وقتل، فأوجبنا عليه القطع، وهو الفعل الأول، حتى
يكون مراعاة للتسوية بينهما (1).
مسألة: 332 - اعتبار المائلة في القصاص
المماثلة في القصاص، غير معتبرة عندنا (2)، وعند الشافعي: معتبرة (3).
بيانه: أن من قتل إنسانا بالإحراق، أو بالإغراق، وبالسم، فإن عندنا: يقتل بالسيف،
وعند الشافعي: يفعل به كما فعل.
دليلنا في المسألة وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال:
"لا قود إلا بالسيف" (4) أي لا يستوفي القصاص إلا بالسيف.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال:
"من حرق حرقناه، ومن غرق أغرقناه" (5)، وهذا نص في هذا المعنى.
__________
(1) راجع المصادر السابقة للشافعية.
(2) انظر: القدوري، ص 89؛ المبسوط 26/ 122؛ الاختيار 3/ 160.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 241؛ المهذب 2/ 187؛ الوجيز 2/ 136؛ المنهاج، ص 125.
(4) الحديث أخرجه ابن ماجة عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، والدارقطني، والبيهقي
في سننهما، وغيرهم عن أبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف كما ذكره
المحدثون.
انظر: ابن ماجة، في الديات، باب لا قود إلا بالسيف (2267، 2268) 2/ 889؛ سنن
الدارقطني 3/ 87؛ السنن الكبرى 8/ 83؛ التلخيص الحبير 4/ 19.
(5) الحديث قد سبق تخريجه في المسألة (322)، ص 457.
(1/467)
مسألة: 333 - لجوء القاتل إلى الحرم
القاتل إذا التجأ إلى الحرم، أو قاطع الطريق إذا التجأ إلى الحرم، عندنا: لا
يستوفى القصاص في الحرم، ولكن يضيق عليه أمره، حتى لا يؤاكل ولا يشارب ولا يبايع،
حتى يخرج إلى الحل فيستوفى منه القصاص (1)، وعند الشافعي: يستوفى في الحرم (2).
دليلنا: قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} (3)، جعل الداخل آمنا؛ لأنه لما دخل في
الحرم ملتجئا معظما، وجب أن يكون آمنا عن القتل، عملا بهذه الآية.
احتج الشافعي، في المسألة وقال: قد أجمعنا على أنه لو قتل في الحرم، أو قطع الطريق
في الحرم، فإنه يقتل، فكذلك ها هنا إذا قتل خارج الحرم ثم دخل الحرم، فلوقلنا: إنه
ينتظر إلى حين خروجه، يفوت من له حق القصاص، ومن له القصاص حقه محترم مراعى،
ومراعاته: استيفاء القصاص في الموضع الذي قدر عليه (4).
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/ 21؛ الدر المختار 3/ 625، مع حاشية ابن عابدين.
(2) انظر: المهذب 2/ 189؛ الوجيز 2/ 136.
(3) سورة آل عمران: آية 97.
راجع بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 2/ 20 - 23.
(4) واستدل الشيرازي على قتل القاتل الملتجئ إلى الحرم، بقوله عز وجل: {واقتلوهم
حيث وجدتموهم} [النساء: 89]، وقال: "لأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه، فلم يمنع
منه، كقتل الحية والعقرب". المهذب 2/ 189.
(1/468)
مسألة: 334 - قطع ذكر الخصي
من قطع ذكر الخصي لا يضمن، ولكن تجب حكومة عدل (1)، عندنا (2)، وعند الشافعي: يضمن
(3).
دليلنا في المسألة وهو: أن آلة الخصي آلة ناقصة؛ لأنا لو أوجبنا عليه كمال الدية،
لا يكون في هذا اعتبار المماثلة، ألا ترى أنه لو قطع يد الأشل لا يضمن قيمته وإنما
تجب حكومة عدل عليه (4).
احتج الشافعي، في المسألة: أنه لما قطع ذكر الخصي، فقد فوت عليه آلة صالحة لذلك
العمل، فوجب عليه الضمان، كما لو قطع ذكر الفحل (5).
__________
(1) وتجب الحكومة في الجنايات التي لا تقدير فيها من الدية، ولم تعرف نسبتها من
مقدر. ويكون التقدير بعد برء كلم الجروح، وللفقهاء في كيفية التقدير طريقتان:
الأولى: حساب جزء نسبته إلى دية النفس، كما قال الطحاوية بأن يقوم مملوكا بدون هذا
الأثر، ويقوم وبه الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين فتكون ما يقابله من
الدية، بشرط أن لا تزيد على مقدار دية الطرف المجروح.
والثانية: نسبة قدر الشجة من الموضحة في الألم وبطء البرء وما أشبهه؛ لأن ما لا نص
فيه يرد إلى المنصوص عليه ولا يكون التقدير إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 238؛ الهداية 10/ 162، مع البناية؛ الأم 6/ 83/, 89؛ الوجيز
2/ 141؛ المنهاج، ص 127.
(2) انظر: المبسوط 26/ 80.
(3) والمقصود بالضمان هنا القود، كما نص عليه الشافعي والغزالي والنووية
"فيقطع فحل بخصي".
انظر: مختصر المزني، ص 243؛ المهذب 2/ 189؛ الوجيز 2/ 132؛ المنهاج، ص 124.
(4) انظر: المبسوط 26/ 80.
(5) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(1/469)
كتاب الدية (1)
[مسألة]: 335 - القتل في أشهر الحرم أو قتل ذي رحم
إذا قتل الرجل خطأ في أشهر الحرم، أو قتل ذا رحم محرم، فإن عندنا: تلزمه دية مخففة
(2)، وعند الشافعي: تلزمه دية مغلظة،
__________
(1) الدية: في اللغة، مصدر ودي القاتل المقتول، إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل
النفس، والتاء في آخرها عوض عن الواو في أولها.
والأصل: ودية مثل، وعدة، تقول: وديت القتيل أديه دية، أعطيت ديته، واتديت: أخذت
ديته.
انظر: مختار الصحاح، المصباح، مادة: (ودي) وشرعا عرفها العيني من الأحناف بأنها:
"اسم لضمان تجب بمقابلة الآدمي أو طرف منه " - البناية 10/ 122.
وعرفها الشربيني والرملي من الشافعية بأنها: "المال الواجب بالجناية على الحر
في نفس أو فيما دونها". مغني المحتاج 4/ 53؛ نهاية الحتاج 7/ 315.
(2) وتنقسم دية النفس إلى: مغلظة ومخففة، فإن كان القتل عمدا أو شبه عمد بالإضافة
إلى ما ذكر في المسألة بالنسبة للشافعية فالدية مغلظة، وإن كان القتل خطأ فالدية
مخففة.
الأصل في الدية الإبل، ومن ثم خص الأحناف التغليظ في الإبل فقط، واختلف فقهاء
المذهبين في تصنيف الإبل بحسب السن في المغلظة: فذهب الأحناف إلى التصنيف بالأرباع:
خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة،
وذهب الشافعية إلى أنها مثلثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة.
ولا خلاف، بأنها في المخففة مخمسة، ومن الورق عشرة آلاف درهم، لدى الأحناف، واثنا
عشر ألف درهم على القول القديم عند الشافعي. والجديد عنه: تجب قيمة الإبل بالغة ما
بلغت يوم وجوب التسليم.
(1/470)
وهية اثنا عشر ألف درهم (1).
دليلنا في المسألة؛ لأن قتل ذي رحم محرم، أو قتل أجنبي لا يختلف من حيث القتل،
وكذلك القتل في أشهر الحرم أو في غير أشهر الحرم لا يختلف من حيث القتل؛ لأنه
الحرام كله، فوجب أن لا يزايد على الدية بقتله، كما لو قتل في الحرم (2).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن موجب الجناية يتغلظ بتغليظ الجناية؛ لأن الجناية قد
تتغلظ من حيث الزمان والمكان، ألا ترى أن شرب الخمر حرام، فلو شرب في شهر رمضان،
كانت جنايته أعظم، وإثمه أكبر، وكذلك الزنا في المسجد يكون أعظم إثما من موضع آخر،
فدل على أن الجناية تتغلظ، فإذا تغلظت الجناية وجب أن يتغلظ موجبه؛ لأن قتل ذي رحم
محرم ليس كقتل الأجنبي؛ لأن في قتل الأجنبي تفويت الروح، وفي المحرم هذا المعنى
موجود وقطيعة الرحم، فتتغلظ الجناية من هذا الوجه (3).
مسألة: 336 - ما يلزم بحلق اللحية وغيرها
إذا حلق لحية إنسان، أو حلق شعره، ولم ينبت مكانه أخرى، أو حلق حاجبيه ولم ينبت،
لزمه: كمال الدية عندنا (4)، وعند الشافعي: تلزمه حكومة عدل (5).
__________
(1) وما ذكره المؤلف بأن المغلظة عند الشافعي بالورق: اثنا عشر ألف درهم غير
مستقيم وإنما يستقيم إذا حملناه على الدية المخففة على القول القديم كما ذكرته.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 234؛ القدوري، ص 90؛ الهداية 10/ 122، 124، مع البناية؛
الأم 6/ 113؛ المهذب 2/ 197؛ الوجيز 2/ 140؛ المنهاج، ص 126.
(2) انظر: البناية 10/ 125 وما بعدها.
(3) واستدل الشيرازي لتغليظ الدية: بقضاء عمر وعثمان وابن عباس رضبي الله عنهم
بالتغليظ في مثل هذه الواقعات. انظر بالتفصيل: المهذب 2/ 197.
(4) انظر: القدوري، ص 90؛ المبسوط 26/ 70، 71؛ الهداية 10/ 143، مع البناية.
(5) انظر: الأم 6/ 82؛ المهذب 2/ 209؛ نهاية المحتاج 7/ 344.
(1/471)
دليلنا في المسألة، وهو: أنه لما حلق
لحيته، فقد أزال الجمال على الكمال، فلزمه كمال الدية، كما لو أزال المنفعة على
الكمال: بقطع اليدين والرجلين؛ لأن في نفس الآدمي شيئين: المنفعة، والزينة،
واللحية: زينة الرجل، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى زين
الرجال باللحى والنساء بالذوائب" (1).
احتج الشافعي، في المسألة: بأن اللحية لو كان فيها جمال، كان أهل الجنة باللحى؛
لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أهل الجنة جرد مرد
مكحلون" (2) عرفنا بهذا أن اللحية ليست بالكمال، فأوجبنا فيه الحكومة (3).
مسألة: 337 - الوطء المؤدي إلى عد استمساك البول
إذا وطئ امرأة، فأفضاها حتى لا يستمسك البول، تلزمه الدية عندنا، ولا يلزمه المهر
(4)، وعند الشافعي: تلزمه الدية والمهر جميعا (5).
__________
(1) هذا النص لم أعثر عليه في كتب الأحاديث، وإنما ذكره السرخسي، وأسنده إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم -، وذكره العيني بلفظ: "وروي أن لله تعالى ملائكة
يسبحون سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالذوائب"، ولم يذكر شيئا عن هذه
الرواية.
انظر: المبسوط 26/ 72؛ البناية 10/ 143.
(2) الحديث أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال:
"يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين
سنة": الترمذي، في صفة الجنة، باب ما جاء في سن أهل الجنة (2545)، وقال:
"هذا حديث حسن غريب، ولعض أصحاب قتادة رووا هذا عن قتادة مرسلا ولم
يسندوه" 4/ 682.
(3) انظر بالتفصيل: المصادر السابقة للشافعية.
(4) انظر: المبسوط 9/ 75، 26/ 69.
(5) يستوي في دية الإفضاء، الزوج الواطئ بشبهة، "ويستقر المهر على الزوج
بالوطء المتضمن للإفضاء ويجب مهر المثل على الواطئ بشبهه، وكذا على الزاني أن كانت
مكرهة وعليه الحد". انظر: الأم 6/ 155؛ المهذب 2/ 209؛ الروضة 9/ 303.
(1/472)
دليلنا في المسألة: أنا أوجبنا الدية
بدلا عن جميع النفس، فلو أوجبنا عليه المهر، يكون في هذا اجتماع الضمانين في
مقابلة نفس واحدة، وهذا لا يجوز (1).
احتج الشافعي في المسألة: بأن وجوب الدية في مكان الجناية، وهو: الإفضاء، وإنما
المهر يجب: بالوطء، فوجوب الدية لا يسقط عن وجوب المهر (2)، كما نقول في الجلد مع
النفي (3).
مسألة: 338 - ما تحمل العاقلة من الدية
دية الخطأ عندنا، إذا كانت أقل من دية الموضحة (4)، لا تتحملها العاقلة (5) وعند
الشافعي: تجب على العاقلة، قليلة كانت أو كثيرة (6).
دليلنا في المسألة، وهو: أنا لو خلينا والقياس لكنا نقول: بأنه لا تجب الدية على
العاقلة؛ لأن وجوب الضمان على غير الجاني، ما هو إلا بخلاف القياس، إلا أنا
أوجبناها بالشرع؛ لأن الشرع أوجب الدية على العاقلة في النفس، وبقي ما دون النفس
__________
(1) راجع: المصدر السابق للأحناف.
(2) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(3) الأم 6/ 133؛ المهذب 2/ 268؛ المنهاج، ص 132.
انظر: المسألة بالتفصيل في المسألة (346)، ص 481.
(4) الموضحة: (هي [الشجة] التي توضح العظم أية تبينه". الهداية 10/ 155، مع
البناية.
(5) انظر: القدوري، ص 94؛ المبسوط 26/ 66، 84؛ الهداية 10/ 394، مع البناية.
(6) انظر: الأم 6/ 116؛ المهذب 2/ 212؛ الوجيز 2/ 155؛ المنهاج، ص 129.
(1/473)
على موافقة القياس (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن أرش الموضحة إنما يجب بدلا عن النفس، والشرع
أوجب بدلا عن نفس الفائت بالخطأ على العاقلة، ولم يفصل بين القليل والكثير، فهو
على العموم (2).
مسألة: 339 - تحمل الجاني من الدية
الجاني، عندنا: يتحمل من الدية (3)، وعند الشافعي: لا يتحمل (4)
دليلنا [في المسألة]، وهو: أن الدية إنما تجب بدلا، عن نفس الفائت بسبب الجناية،
والقاتل هو الجاني، والعاقلة ليست بجانية، ثم إن العاقلة لما تحملت هذه الدية مع
عدم الجناية، فالجاني أولى أن يتحمل (5).
__________
(1) و (2) الأصل في تحمل العاقلة الدية ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما بألفاظ مختلفة: "ضربت امرأة ضرة لها بعمود
فسطاط، فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بديتها على عصبة القاتلة":
مسلم، في القسامة .. والديات، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ ومشبه
العمد على عاقلة الجاني (1681 - 1682) , 3/ 1309 - 1311.
واستدل الأحناف لمذهبهم بنص حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا
اعترافا، ولا ما دون أرش الموضحة". الحديث غريب مرفوعا كما ذكره الزيلعى.
وأخرجه البيهقي في سننه عن الشعبي عن عمر، وقال: هذا منقطع والمحفوظ أنه من قول
الشعبي، ثم أخرجه عن الشعبي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يذكر اللفظ الأخير:
"ولا ما دون أرش الموضحة"، وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب
الحديث كما ذكره الزيلعي، ولكن أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن إبراهيم النخعي قوله:
"لا تعقل العاقلة ما دون الوضحة .. ".
انظر: مصنف عبد الرزاق 9/ 410؛ السنن الكبرى 8/ 104؛ نصب الراية 4/ 379.
(3) انظر: القدوري، ص 94؛ المبسوط 26/ 84؛ الهداية 10/ 392، مع البناية.
(4) انظر: الأم 6/ 112؛ المهذب 2/ 212؛ المنهاج، ص 129.
(5) راجع: المصادر السابقة للأحناف.
(1/474)
احتج الشافعي في المسألة، وقال: لو
خلينا والقياس لكنا نقول: بأن الدية لا تجب في الخطأ؛ لأن الخطأ موضوع في الشريعة،
إلا أن الشرع أوجب الدية في الخطأ بخلاف القياس، لحرمة الآدمي، كيلا يهدر دمه،
فالشرع أوجب ها هنا الدية على العاقلة، ولم يوجب على الجاني (1).
مسألة: 340 - دية أهل الكتاب
دية اليهودي والنصراني كدية المسلم عندنا (2)، وعند الشافعي: ديته كثلث دية المسلم
(3).
دليلنا في المسألة: بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "إنما
بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" (4)، وعلي رضي الله
عنه جعل دمهم كدم المسلم، ثم في دم المسلم يجب كمال الدية، فكذلك في دم الذمي.
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الضمان إنما يجب بالقتل لكونه معصوما، والكافر
ناقص في العصمة؛ لأنه عصم دمه بالجزية، والمسلم عصم دمه بالإسلام، فكان ناقصا من
هذا الوجه، فلو أوجبنا عليه كمال الدية يكون في هذا تسوية الكافر مع المسلم، وهذا
لا يجوز (5).
__________
(1) انظر: المهذب 2/ 212.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 240؛ القدوري، ص 90؛ المبسوط 26/ 84؛ تحفة الفقهاء 3/
155.
(3) انظر: الأم 6/ 105؛ المهذب 2/ 198؛ الوجيز 2/ 141؛ المنهاج، ص 126.
(4) انظر الأثر في نصب الراية 4/ 369؛ وراجع أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 26/ 85؛
البناية 10/ 135، 136.
(5) واستدل الشافعي بقضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما في دية اليهودي والنصراني
بثلث دية المسلم. انظر: الأم 6/ 105, 106؛ المهذب 2/ 198.
وراجع ما ورد من الأحاديث والآثار في دية الذمي: مصنف عبد الرزاق 10/ 92، 93؛ مصنف
ابن أبي شيبة 10/ 286؛ نصب الراية 4/ 368.
(1/475)
مسألة: 341 - دية الجنين بسبب ضرب بطن
الأم وموتها معا
إذا ضرب على بطن امرأة حرة، فألقت جنينا ميتا، يلزمه: الضمان (1) إذا كانت الأم
حية، فإن ماتت الأم معا تلزمه: دية الأم، ولا تلزم دية الجنين عندنا (2)، وعند
الشافعي: تلزمه (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الولد ما دام مجنيا في البطن فهو تبع للأم، فصار كجزء
من أجزائها، فإذا أوجبنا ضمان الأم دخل الولد تحته تبعا (4).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن ضمان الجناية إنما وجب في الجنين شرعا؛ لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوجب في الجنين غرة: عبدا أوأمة، قيمته:
خمسمائة" (5) وها هنا لما سقط الجنين ميتا، لا بد من إيجاب ضمان الجنين،
فكذلك ها هنا (6).
__________
(1) الضمان: غرة، وهية "في الذكر نصف عشر دية الرجل، وفي الأنثى عشر دية
المرأة، وكل منهما خمسمائة درهم". الهداية 10/ 190، مع البناية.
(2) وصورته: بأن ماتت الأم ثم ألقت الجنين ميتا.
انظر: القدوري، ص 92؛ المبسوط 26/ 89؛ الهداية 10/ 196، مع البناية.
(3) انظر: الأم 6/ 107؛ المهذب 2/ 198، 199؛ الوجيز 2/ 156؛ المنهاج، ص 129.
(4) راجع: المصادر السابقة للأحناف.
(5) قال الزيلعي عن هذا اللفظ: "غريب" وأورده الهيثمي في مجمعه بلفظ
"أو خمسمائة" وقال: "رواه الطبراني والبزار باختصار كثير، والمنهال
بن خليفة: وثقة أبو حاتم: وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات".
انظر: مجمع الزوائد 6/ 300؛ نصب الراية 4/ 381.
(6) راجع المصادر السابقة للشافعية.
(1/476)
كتاب الكفارات (1)
[مسألة]: 342 - كفارة قتل العمد
لا خلاف: أن قتل الخطأ توجب الكفارة، وإنما اختلفنا: في قتل العمد، هل تجب
الكفارة؟ عندنا: لا تجب (2)، وعند الشافعي: تجب (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "خمسة
لا كفارة فيهن: الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وقتل نفس بغير حق، واليمين
الفاجرة التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وعقوق الوالدين" (4) وهذا نص.
__________
(1) الكفارات، جمع كفارة، وهي مأخوذة من الستر، وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يستر
البذر بالتراب، وكفر الله عنه الذنب. محاه، ومنه الكفارة؛ لأنها تكفر الذنب، يقال:
كفر عن يمينه: إذا فعل الكفارة. انظر: مختار الصحاح؛ المصباح: مادة (كفر).
والمقصود بالكفارة في الشرع: أشياء مخصوصة، أوجبها الشارع عند ارتكاب مخالفات
معينة، والأشياء التي أوجب الله تعالى الإتيان بها هي: العتق والإطعام والكسوة
والصيام، وتختلف باختلاف الأسباب الموجبة لها.
انظر: محمد أنيس عبادة، المبادئ التشريعية، ص 74.
(2) انظر: القدوري، ص 88؛ المبسوط 26/ 67؛ البدائع 10/ 4657؛ الاختيار 3/ 157.
(3) انظر: المهذب 2/ 218؛ الوجيز 2/ 158؛ المنهاج، ص 129.
(4) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه، من جزء حديث:
" .. وخمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله عز وجل وقتل النفس بغير حق، أو نهب
مؤمن، أو الفرار من الزحف، أو يمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق". ورواه
أيضا أبو الشيخ في التوبيخ، والديلمي، كما ذكره السيوطي والمناوي.
انظر: مسند الإمام أحمد 2/ 362؛ فيض القدير 3/ 458.
(1/477)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أنا
أجمعنا: على أن الكفارة تجب في قتل الخطأ، وإنما لم يجب [القود] (1) لرفع الإثم،
فلو أوجبنا الكفارة في قتل الخطأ مع أن الذنب فيه يسير، فالذنب في العمد أكثر،
فإيجاب الكفارة فيه أولى (2).
مسألة: 343 - كفارة القتل من مال الصبي والمجنون
الصبي أو المجنون، إذا قتلا إنسانا، لا خلاف: أنه لا قصاص عليهما (3)، وهل تلزمهما
الكفارة في مالهما؟ عندنا: لا تلزمهما (4)، وعند الشافعي: تلزمهما (5).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الصبي والمجنون مرفوع القلم عنهما، فلو أوجبنا عليهما
الكفارة، يكون في ذلك إجراء القلم عليهما، وهذا لا يجوز (6).
احتج الشافعي [في المسألة]، هو: أن الكفارة إنما تؤدي بالمال، فوجب أن تلزمها
الصبي والمجنون كما قلنا: في العشر والخراج، وقيم المتلفات (7).
__________
(1) زيدت لاستقامة العبارة. انظر: المبسوط 26/ 67.
(2) انظر: المهذب 2/ 218.
وكفارة القتل ككفارة الظهار، لكن لا إطعام فيها، عند الأحناف، وكذلك عند الشافعية
على القول الأظهر، كما نص عليه النووي في المنهاج.
ودليل كفارة القتل قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ... فمن لم يجد
فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92)} (النساء 92)،
وراجع المصادر السابقة.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 229؛ القدوري، ص 91؛ الدر المختار 6/ 532، مع حاشية
ابن عابدين؛ الأم 6/ 5؛ المهذب 2/ 174؛ المنهاج، ص 123.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 253.
(5) انظر: الوجيز 2/ 158؛ المنهاج، ص 129؛ مغني المحتاج 4/ 107.
(6) ويقصد به حديث رفع القلم عن ثلاث، وقد سبق تخريجه، في المسألة (46)، ص 140.
(7) انظر: الروضة 10/ 202؛ المنهاج 4/ 205، مع مغني المحتاج.
(1/478)
كتاب قتال أهل البغي (1)
مسألة: 344 - إتلاف الباغي مال العادل أو قتله
الباغي إذا أتلف مال العادل، أو قتله، عندنا: لا يلزمه الضمان ولا القود (2) وعند
الشافعي: يلزمه الضمان والقود (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "كل دم
أو مال استحل بتأويل القرآن فهو موضوع" (4) وهذا نص.
احتج الشافعي في المسألة، وقال: مال العادل ونفسه معصوم محترم، فإذا فوته الباغي
يلزمه الضمان والقود؛ لأن التأويل تأويل فاسد، فلا يعتبر (5).
__________
(1) قد سبق تعريف البغي في كتاب الجنائز، مسألة: (97)، (الصلاة على الباغي)، ص
197.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 258؛ تحفة الفقهاء 3/ 537.
(3) ما حكاه المؤلف عن الشافعي، هو قول مرجوح - لدى الشافعية - من قولي الشافعي،
والراجح: عدم الضمان والقود، ما دام الإتلاف قد وقع في أثناء القتال، كما نص في
الأم.
انظر: الأم 4/ 218؛ المهذب 2/ 221؛ المنهاج، ص 131.
(4) ما ذكره المؤلف بأن هذا النص من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - غير صحيح،
والصحيح: أنه أثر من قول الزهري رحمه الله تعالى، كا رواه البيهقي في السنن:
" فإن الفتنة الأولى ثارت، وفي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد
بدرا، فرأوا أن يهدم أمر الفتنة: لا يقام فيها حد على أحد في فرج استحله بتأويل
القرآن، ولا قصاص في دم استحله بتأويل القرآن، ولا مال استحله بتأويل القرآن، إلا
أن يوجد شيء بعينه ... ".
انظر: السنن الكبرى 8/ 175.
(5) واستدل الشيرازي للقول الراجح بقول الزهري السابق ذكره، الذي هو دليل الأحناف.
انظر: المهذب 2/ 221؛ السنن الكبرى 8/ 175.
(1/479)
مسألة: 345 - قتل المرتدة
المرتدة لا تقتل عندنا (1)، وعند الشافعي: تقتل (2).
دليلنا في المسألة، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما دخل مكة
يوم الفتح، فرأى امرأة مقتولة فقال: هذه ما كانت تقاتل، فأدرك خالدا، فقل له:
"لا تقتلن ذرية ولا عسيفا" (3) والعسيف: [هو الأجير]. والذرية: هي:
الصبيان.
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من بدل دينه فاقتلوه" (4) فأوجب القتل بتبديل الدين، ولم يفصل بين
الرجل والمرأة.
__________
(1) سبق أن ذكر المؤلف هذه المسألة بعينها مع اختلاف في الألفاظ في كتاب السير
مسألة (240).
المرتدة لا تقتل عند الأحناف، ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام، وتضرب في كل ثلاثة
أيام إلى أن تسلم".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 259؛ القدوري، ص 117؛ تحفة الفقهاء 3/ 530؛ الهداية 5/
854، مع البناية.
(2) انظر: الأم 6/ 156، 159؛ المهذب 2/ 223؛ المنهاج، ص 132.
(3) و (4) الحديثان قد سبق تخريجهما في المسألة (240).
واستدل الشيرازي على قتل المرتدة بحديث صريح: ما رواه جابر رضي الله عنه أن امرأة
يقال لها أم رومان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت". أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسناد
ضعيف.
انظر: سنن الدارقطني 3/ 118؛ والسنن الكبرى 8/ 203؛ التلخيص الحبير 4/ 46.
(1/480)
كتاب الحدود (1)
[مسألة]: 346 - نفي البكر الزاني
ولا خلاف أن [البكر] (2) إذا زنا بامرأة يجلد مائة، ولا ينفي (3) عندنا (4) وعند
الشافعي: يجلد مائة، وينفى سنة (5).
دليلنا في المسألة: "ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نفى رجلا فارتد ذلك
الرجل، فقال: لا أنفى بعده أبدا" (6) وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال:
"كفى بالنفي فتنة" (7).
__________
(1) الحدود جمع حد، وهو في اللغة: المنع، ومنه قيل الحداد للبواب، لمنعه الناس من
الدخول، ومنه الحدود المقدرة في الشرع؛ لأنها تمنع من الإقدام، أو الفصل: ومنه قول
الشاعر: (وجاعل الشمس حدا لا خفاء به) أو التقدير "لأن الله تعالى قدره فلا
تجوز الزيادة عليه".
انظر: مختار الصحاح، المصباح، مادة: (حدد)، نهاية المحتاج 7/ 435.
والحد في الشرع: "عقوبة مقدرة وجبت حقا لله سبحانه وتعالى"، وحدود الشرع
موانع وزواجر عن ارتكاب أسبابها". انظر: الهداية 5/ 343، مع البناية؛
الاختيار 3/ 35.
(2) استبدلت ما بين القوسين لتصحيح الحكم كما هو معروف شرعا، وفي الأصل (الثيب).
(3) النفي لغة: الإبعاد، والمقصود هنا: هو إبعاد الحاكم الزاني البكر عن بلده
وطرده إلى بلد آخر، لمدة سنة واحدة. انظر: الغرب؛ معجم الوسيط، مادة: (نفى).
(4) انظر: القدوري، ص 95؛ المبسوط 9/ 44.
(5) انظر: الأم 6/ 133؛ المهذب 2/ 268؛ المنهاج، ص 132.
(6) الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن عمر: (أن أبا بكر بن أمية بن
خلف غرب في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل، قال: فتنصر. فقال عمر: لا أغرب مسلما بعده
أبدا). مصنف عبد الرزاق (13320)، 7/ 314.
(7) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، عن إبراهيم أن عليا قال: "حسبهما من الفتنة
أن ينفيا" (13226)، 7/ 315.
(1/481)
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام،
والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" (1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -
أوجب النفي.
مسألة: 347 - الإقرار الذي يقام به الحد
الزاني إذا أقر بين يدي القاضي، لا يقيم عليه الحد إلا أن يقر أربع مرات في مجالس
مختلفة عندنا (2)، وعند الشافعي: إذا أقر مرة واحدة، يقام عليه الحد (3).
دليلنا في المسألة: "ما روي أن ماعز بن مالك أقر بين يدي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - بالزنا، فقال: زنيت طهرني يا رسول الله، فأعرض النبي - صلى الله
عليه وسلم - بوجهه عنه: "أبك خبل؟ أبك جنون؟ " فقال: لا، ثم قال مرة:
زنيت فطهرني يا رسول الله، فأعرض بوجهه عنه، فأعاد الإقرار ثلاثا، فلما أقر أربعا،
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألآن أقررت أربعا، فبمن زنيت؟ "
فقال بفلانة، فأمر برجمه (4). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أمر بالرجم
بإقراره مرة واحدة، فدل على أن الإقرار أربع.
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ مسلم، في
الحدود، باب حد الزاني (1690)، 3/ 1316.
(2) ويحد المقر إذا كان عاقلا بالغا، ويدرأ عنه الحد بالرجوع عن إقراره.
انظر: القدوري، ص 94، المبسوط 9/ 91؛ تحفة الفقهاء 3/ 217.
(3) انظر: الأم 6/ 133، 134؛ المهذب 2/ 333؛ المنهاج، ص 132.
(4) حديث ماعز بن مالك رضي الله عنه أخرجه الشيخان عن عدد من الصحابة رضي الله
عنهم، إلا الشطر الأخير: "الآن أقررت أربعا ... "، فإني لم أعثر عليه
بلفظه إلا ما ذكر في رواية أبي داود: حتى قالها أربع مرار، قال - صلى الله عليه
وسلم -: "إنك قد قلتها أربع مرات، فبمن؟ " قال بفلانة، فأمر به أن يرجم.
انظر: البخاري، في الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة (6815)، فتح الباري 12/
120 مسلم، في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (1691)، 3/ 1318؛ أبي داود، في
الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4419)، 4/ 145.
(1/482)
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن سائر
الحقوق تثبت بالإقرار مرة واحدة، فلا يحتاج فيه إلى التكرار، كذلك حكم الزنا، وجب
أن يثبت بمرة واحدة (1).
مسألة: 348 - إذا رجع أحد الشهود الأربع في قضية الزنا
أربعة شهدوا على رجل بالزنا، ثم رجع واحد منهم، وجب الحد على الجميع عندنا (2)،
وعند الشافعي: يجب على الراجع (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن أحد الشهود إذا رجع لم يثبت الزنا، فبقيت هذه الشهادة
قذفا محصنا، فأوجبنا على الجميع الحد، لإزالة الشين عن المقذوف (4).
احتج الشافعي، في المسألة؛ لأن حد القذف إنما يجب على القاذف، والقاذف ها هنا إنما
هو الراجع، فأما الثلاثة فيحتمل أن تكون شهادتهم حسبة، فلم يظهر تعنتهم وقذفهم،
فلا يجب عليهم الحد (5).
_________
(1) واستدل الشافعي بحديث العسيف الذي أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة، وزيد بن
خالد رضي الله عنهما. وفيه: " ... واغد، يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت
فارجمها"، قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فرجمت" وقال: "وبهذا قلنا، وفيه الحجة في أن يرجم من اعترف مرة إذا
ثبت عليها" هكذا.
انظر الحديث بطوله: البخاري، في الحدود، باب الاعتراف بالزنا (6827، 6828) 12/
136؛ مسلم، في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (1697، 1698)، 3/ 1324؛ الأم
6/ 133.
(2) انظر: الهداية 5/ 450، مع البناية.
(3) انظر: مختصر المزني، ص 270؛ المهذب 2/ 334.
(4) راجع المصدر السابق للأحناف 5/ 451.
(5) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(1/483)
مسألة: 349 - شبهة العقد
إذا عقد العقد على ذوات المحارم مثل: الأخت، فإن عندنا: لا يلزمه الحد (1)، وعند
الشافعي: يلزمه الحد (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن العقد وإن كان لا ينعقد على المحرم، ولكن وجد صورة
العقد، فصار شبهة في سقوط الحد، والحد مما يدرأ بالشبهات (3).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن العقد إنما ينعقد على المحل، إذا كان المحل
قابلا للعقد، والمحرم في حقه ليس بمحل قابل للعقد، فكيف يصير هذا العقد شبهة (4).
__________
(1) تعرف هذه المسألة بشبهة العقد في كتب الأحناف، وصورتها: أن يتزوج الرجل امرأة
ممن لا يحل له نكاحها، ويدخل بها، فلا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله،
سواء كان عالما بالتحريم أو غير عالم، لثبوت الشبهة بالعقد عنده، إلا أنه يضرب
عقوبة إذا كان عالما بذلك.
انظر: القدوري، ص 95؛ المبسوط 9/ 85؛ الهداية 5/ 396، 405، مع البناية.
(2) انظر: المهذب 2/ 269؛ المنهاج، ص 132؛ مغني المحتاج 4/ 146.
(3) واستدل السرخسي لقول أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما
امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من
فرجها"، ثم قال مبينا وجه الدلالة: "فمع الحكم ببطلان النكاح أسقط الحد
به، فهو دليل على أن صورة العقد مسقطة للحد وإن كان باطلا شرعا" وأدلة أخرى.
الحديث أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها وكلهم في كتاب
النكاح: أبو داود، في باب في الولي (2083)، 2/ 229؛ الترمذي، في باب ما جاء لا
نكاح إلا بولي (1102)، وقال: "هذا حديث حسن"، 3/ 407، 408؛ ابن ماجة،
نحوه (1879)، 1/ 605.
انظر: المبسوط 9/ 86.
(4) راجع المراجع السابقة للشافعية.
(1/484)
مسألة: 350 - إقامة السيد الحد على
مملوكه
المولى هل يملك إقامة الحد على مملوكه؛ لا يملك: عندنا (1)، وعند الشافعي: يملك
إقامة الحد عليه (2).
دليلنا في المسألة وهو: أن الحد حق الله تعالى، فوجب أن لا يستوفيه إلا من هو نائب
عن الله تعالى، والسلطان هو النائب عن الله تعالى، فلا يملك المولى إقامته عليه،
كما قلنا: في حد الأحرار (3).
احتج الشافعي، في المسألة: بأن الحد إنما يقام طهرة، والمولى يملك تطهير ملكه (4)،
ألا ترى أنه يملك الختان، ويملك التعزير، فكذلك ها هنا (5).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 94؛ المبسوط 9/ 80؛ البدائع 9/ 4277.
(2) انظر: الأم 6/ 135؛ المهذب 2/ 271؛ المنهاج، ص 132.
(3) واستدل السرخسي رحمه الله تعالى للمنع، بقوله تعالى: {فعليهن نصف ما على
المحصنات من العذاب} (النساء 25)، ثم بين وجه الدلالة بقوله: "واستيفاء ما
على المحصنات للإمام خاصة، فكذلك ما على الإماء من نصف ما على المحصنات".
وأدلة أخرى. انظر بالتفصيل: المبسوط 9/ 81، 82.
(4) أي: مملوكة.
(5) استدل الشافعي رحمه الله تعالى على الجواز بما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد
رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سئل عن الأمة إذا زنت ولم
تحصن فقال: "إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم
بيعوها ولو بضفير".
أخرجه البخاري، في البيوع، باب بيع العبد الزاني (2153، 2154)، 4/ 369؛ مسلم، في
الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (1703)، 3/ 1329.
انظر: الأم 6/ 135، 136.
(1/485)
مسألة: 351 - عقوبة اللواط
اللواطة عندنا: لا توجب الحد (1)، وعند الشافعي: توجب حد الزنا: إن كان بكرا يجلد،
وإن كان ثيبا يرجم (2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الشرع أوجب الحد على الزاني، لقوله تعالى: {الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (3)، ولم يوجد، فلم يوجب الحد في
اللواطة، فلو أوجبنا عليه حد الزنا، لأوجبناه قياسا أو استدلالا، ولا يمكننا إيجاب
الحد قياسا؛ لأن المقادير لا تثبت قياسا، وإنما أوجبنا استدلالا، ومن شرط صحة الاستدلال:
المساواة في الحكم، ولا مساواة بين الزنا واللواطة؛ لأن في الزنا: الداعي وجد من
الجانبين: بالفاعل، والمفعول، فيكثر وجوده، والحد إنما شرع للزجر، وأما اللواطة
ليست في معنى الزنا؛ لأن الداعي وجد من الجانبين: الواحد، وهو: الفاعل، وأما
المفعول إنما يقع في هذا إما طعما أو زجرا؛ لأن طبع الفحل ينفر عن ذلك، فإيجاب
الحد بالموضع الذي كان الداعي من الجانبين لا يمكن إيجابه إذا كان الداعي من
الجانب الواحد (4).
__________
(1) عمل قوم لوط لا يوجب الحد عند أبي حنيفة، ولكن يعزر كما يأتي خلافا للصاحبين،
والمذهب على قول الإمام.
انظر: القدوري، ص 95؛ المبسوط 9/ 77؛ البدائع 9/ 4151؛ اللباب 3/ 192.
(2) هذا هو القول المشهور من قولي الشافعي.
انظر: المهذب 2/ 269؛ المنهاج، ص 132.
(3) سورة النور: آية 2.
(4) ووجه قول أبي حنيفة في عدم إقامة الحد "أنه ليس بزنا؛ لأن الصحابة رضي
الله عنهم اختلفوا في موجبه من الإحراق، وهدم الجدار، والتنكيس من مكان مرتفع
باتباع الأحجار وغير ذلك" ..
انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 9/ 78, 79؛ البدائع 9/ 4151 الهداية 5/ 263، مع فتح
القدير والعناية.
(1/486)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن الحد
إنما يجب في الزنا، كونه حراما، والحرمة في اللواطة أكثر، فإيجاب الحد في باب
الزنا دليل على إيجاب الحد في اللواطة (1)؛ لأن الخلاف وقع: في حد الزنا، هل يشرع
في اللواطة؛ أما أبوحنيفة فيوجب القتل إذا رأى الإمام المصلحة (2) فيه، وأما حد
الزنا لا يقام، لتعذر الاستدلال.
مسألة: 352 - استأجر امرأة فزنا
إذا استأجر امرأة ليزني بها، أو عقد عليها عقد إجارة، ليعمل عليها عملا، فزنا بها.
عندنا: لا يلزمه الحد (3)، وعند الشافعي: يلزمه الحد (4).
دليلنا في المسألة: "ما روي أن امرأة استسقت من الراعي لبنا، فأبى أن يسقيها
ما لم تمكن من نفسها، فمكنت من نفسها، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فقال: ذلك
مهرها" (5)،
__________
(1) واستدل الشيرازي من النقل بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ... "
أخرجه البيهقي في سننه، وفي المسند: محمد بن عبد الرحمن، "وهو متروك الحديث
وكان يكذب ويفتعل الحديث"، كما نقل ابن التركماني عن ابن أبي حاتم.
انظر: السنن الكبرى، مع الجوهر النقي 8/ 233.
(2) ونقل البابرتي عن الزيادات بأن "الرأي فيه إلى الإمام إن شاء قتله، وإن
اعتاد ذلك، وإن شاء ضربه وحبسه". العناية 5/ 263، مع فتح القدير.
(3) ذكر المؤلف هنا صورتين للمسألة، فالصورة الأولى صحيحة كا ذكرها عند أبي حنيفة
رحمه الله، وأما الصورة الثانية فلا تصح بل يقام عليه الحد، كما قال السرخسي
وغيره: "لو استأجر أمة لتخدمه أو استعارها، فزنى بها، فعليه الحد، في الوجهين
من جميعا، لانعدام شبهة الاشتباه، فإن ملك المنفعة لا يتعدى إلى ملك الحل
بحال".
انظر: المبسوط 9/ 58, 61؛ البدائع 9/ 4157؛ شرح فتح القدير 5/ 262.
(4) انظر: المهذب 2/ 269، ص 132.
(5) لم أجد في قول عمر رضي الله عنه الجزء الأخير: "فقال: ذلك مهرها"،
وهو الشاهد من الأثر كما أراده المؤلف، واستدل به أيضا السرخسي ولم يذكر اللفظ
الأخير، والذي رواه عبد الرزاق =
(1/487)
فأسقط الحد عنها، وهذا دليل في هذه
المسألة، فأبو حنيفة: أسقط الحد ها هنا، شبهة لعقد الإجارة (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الحد إنما شرع للزجر، فلو قلنا إنه لا يجب الحد
ها هنا، يؤدي إلى المحال؛ لأن عادة الزناة أن يعطوا شيئا، ثم يفعلون ذلك الفعل،
فلو قلنا: إنه لا يجب الحد، يؤدي إلى سد باب الحدود (2).
مسألة: 353 - الحد في تمكين العاقلة البالغة مجنونا
العاقلة البالغة إذا مكنت من المجنون، عندنا: لا حد عليها (3)، وعند الشافعي:
عليها الحد (4).
__________
= في مصنفه عن ابن المسيب: "أن عمر بن الخطاب أتى بامرأة لقيها راع بفلاة من
الأرض وهي عطشى، فاستسقته، فأبى أن يسقيها إلا أن تتركه فيقع بها، فناشدته بالله
فأبى، فلما بلغت جهدها أمكنته، فدرأ عنها عمر الحد بالضرورة"، وزاد البيهقي
في سننه: "فشاور [عمر] الناس في رجمها، فقال علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى
أن تخلي سبيلها ففعل".
انظر: مصنف عبد الرزاق 7/ 407؛ السنن الكبرى 8/ 236.
(1) وشبهه عقد الإجارة كما ذكرها ابن الهمام: "أن المستوفى بالزنا المنفعة،
وهي المعقود عليه في الإجارة، لكنه في حكم العين، فبالنظر إلى الحقيقة تكون محلا
لعقد الإجارة فأورث شبهة".
وقال عبد الحكيم الأفغانية "لأن نص: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن}
[النساء: 24] (النساء 24)، سمى المهر أجرة فأورث شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه
الحقيقة". وقال ابن الهمام بعد ما ذكر صور عقد الإجارة للزنا، ووجهة الشبهة
فيها: "والحق في هذا كله وجوب الحد، إذا المذكور معنى يعارضه كتاب الله
تعالى، قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2]، فالمعنى الذي يفيد
أن فعل الزنا مع قوله [أمهرتك كذا] لأزني بك، لا يجلد معه للفظة المهر، معارض
له". فتح القدير 5/ 262.
انظر: كشف الحقائق شرح كنز الدقائق 1/ 283.
(2) وإنما يجب الحد، لانتفاء الملك والعقد.
انظر: المهذب 2/ 269؛ مغني المحتاج 4/ 146.
(3) انظر: المبسوط 9/ 54؛ البدائع 9/ 4150؛ فتح القدير 5/ 248.
(4) انظر: المهذب 2/ 267، 269؛ المنهاج 4/ 147، مع مغني المحتاج.
(1/488)
دليلنا في المسألة، وهو: أن فعل الزنا
انما يكون من الرجال، والمرأة محل للفعل، فكان ينبغي أن لا يجب الحد عليها، إلا
أنا أوجبنا الحد بالتمكين من فعل، وهو: الزنا؛ لأنه ليس في وسعها إلا التمكين،
وهاهنا لم يوجد التمكين من فعل الزنا، وفعل المجنون لا يوصف بالزنا، فلهذا لا يجب
الحد عليها (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن خلاف الشرع أوجب الحد على الزاني بفعل الزنا،
وعلى المرأة بالتمكين من فعل وهو حرام، وقد وجدناها ها هنا تمكينا من فعل حرام،
فيكون زنا، فأوجبنا عليها الحد (2).
مسألة: 354 - شروط إقامة حد الرجم
الرجم إنما يقام على الزاني بعد وجود أربعة شرائط: العقل، والبلوغ والحرية،
والإصابة بنكاح صحيح، وأن تكون المرأة في مثل حال الرجل، والإسلام هل هو شرط من
شرائط الرجم أم لا؟ عندنا: هو شرط (3)، وعند الشافعي: ليس بشرط (4).
بيانه: أن اليهودي والنصراني، إذا زنا وهو ثيب، لا يقام الرجم عليه [عندنا، وعند
الشافعي: يقام] (5).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الرجم نهاية في العقوبات، والنهاية في العقوبات إنما
يقام على من كملت النعمة في حقه ولهذا شرطنا: العقل، والبلوغ والحرية، والإصابة
بنكاح صحيح
__________
(1) انظر بالتفصيل: المبسوط 9/ 55؛ البدائع 9/ 4151.
(2) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(3) انظر: القدوري، ص 94؛ المبسوط 9/ 39؛ البدائع 9/ 4159.
(4) انظر: الأم 6/ 139؛ المهذب 2/ 268؛ الوجيز 2/ 167؛ المنهاج، ص 132.
(5) نقص بالأصل وإنما زيدت لاستكمال العبارة، على حسب طريقة المؤلف في بيان
المسائل.
(1/489)
لإكمال النعمة، والإسلام رأس النعمة،
فإذا لم يوجد الإسلام لا تتم النعمة في حقه؛ لأن ازدياد النعمة لها تأثير في
ازدياد العقوبة، ونعمة الإسلام ها هنا لم توجد، فلا يقام عليه الحد (1).
احتج الشافعي، في المسألة بدليل: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه رجم يهوديا ويهودية زنيا" (2) وهذا نص في هذه المسألة.
__________
(1) واستدل الأحناف، من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أشرك بالله
فليس بمحصن"، أي: ليس بكامل الحال. الحديث أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن
ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه مرة ووقفه أخرى، ومن طريق إسحاق بن راهويه رواه
الدارقطني في سننه، وقال: "لم يرفعه غير إسحاق، والصواب أنه موقوف".
انظر: سنن الدارقطني 3/ 147؛ نصب الراية 4/ 327.
انظر: المبسوط 9/ 40؛ البدائع 9/ 4161.
(2) الحديث أخرجه الأئمة الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما مختصرا ومطولا ولفظ
مسلم: عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتى بيهودي ويهودية قد
زنيا، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حتى جاء يهود، فقال: "ما
تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا: نسود وجوههما ونحملهما، ونخالف بين
وجوههما، ويطاف بهما، قال: "فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاؤا بها
فقرأوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ
ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: مره فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: فرجما.
البخاري، في الحدود، باب إحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا (6841)، 12/ 166؛
مسلم، في الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنا (1699)، 3/ 1326.
(1/490)
كتاب السرقة (1)
[مسألة]: 355 - نصاب السرقة
نصاب السرقة مقدر بعشرة دراهم عندنا (2)، وعند الشافعي: إن كان قيمته ربع دينار،
يلزمه القطع (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا
مهر أقل من عشرة ولا قطع فيما دون العشر" (4) وهذا نص.
__________
(1) السرقة في اللغة، أخذ الشيء من الغير على سبيل الخفية والاستسرار، ومنه استراق
السمع: في قوله تعالى: {إلا من استرق السمع} [الحجر: 18]؛ وسمى المسروق سرقة،
تسمية بالمصدر. انظر: المغرب؛ مختار الصحاح؛ المصباح، مادة: (سرق).
وفي الشرع: كما عرفه الموصلي من الأحناف بأنها: "أخذ العاقل البالغ نصابا
محرزا، أو ما قميته نصابا، ملكا للغير لا شبهة له فيه، على وجه الخفية"، مع
اشتراط مراعاة المعنى اللغوي ابتداء. وانتهاء، وابتداء في بعض الصور.
انظر: تحفة الفقهاء 3/ 233، وما بعدها؛ الهداية 27/ 527، مع البناية؛ الاختيار 3/
85، 86.
وعرفها الشافعي: بأنها: "أخذ مال خفية ظلما من حرز مثله بشروط". مغني
المحتاج 4/ 158؛ نهاية المحتاج 7/ 439.
(2) انظر: القدوري، ص 96؛ المبسوط 9/ 136؛ الهداية 5/ 529، مع البناية.
(3) انظر: الأم 6/ 130؛ المهذب 2/ 278؛ المنهاج، ص 133؛ الروضة 10/ 110.
(4) لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ، إلا ما رواه البيهقي عن علي رضي الله عنه أنه
قال: "لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة
دراهم". وقال البيهقي في سنده: "هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء".
انظر: السنن الكبرى 8/ 261.
(1/491)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن شرط
وجوب القطع في السرقة: إنما يكون بهتك الحرز، وإخراج المال، وقد وجد ها هنا؛ لأن
الشيء إذا كان يساوي ربع دينار، يسمى ذلك: مالا عند الناس، فيجب القطع، كما لو سرق
شيئا يساوي عشرة (1).
مسألة: 356 - القطع بسرقة الفواكه والأطعمة
إذا سرق شيئا من الفواكه والطعام من الحرز، لا يقطع عندنا (2)، وعند الشافعي: يجب
القطع (3).
دليلنا: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا قطع في ثمر
ولا كثر" (4) (5) وهذا نص.
__________
(1) وسبب الخلاف بين المذهبين في مقدار النصاب الذي يقام به حد السرقة: الاختلاف
بين الصحابة في تقدير قيمة المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: يد
سارق.
فذهب الأحناف إلى الروايات التي ذهبت بأن قيمته عشرة دراهم، وبنوا مذهبهم على ذلك
احتياطا. منها ما أخرجه أبوداود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
"قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يد رجل في مجن قيمته: دينار أو عشرة
دراهم": أبو داود، في الحدود، باب ما يقطع فيه السارق (4387)، 4/ 136؛
النسائي، في قطع يد السارق، باب القدر الذي إذا سرق قطعت يده 8/ 83.
وذهب الشافعية إلى الروايات التي جاءت بأن قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم. منها
ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم"، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"ما طال علي وما نسيت: القطع في ربع دينار فصاعدا": البخاري في الحدود،
باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وفي كم يقطع (6789،
6797)، فتح الباري 12/ 96, 97؛ مسلم، في الحدود، باب حد السرقة ونصابها (1684،
1686)، 3/ 1312.
انظر: الأحاديث بالتفصيل: شرح معاني الآثار 3/ 162 - 167؛ السنن الكبرى 8/ 254 -
256.
(2) انظر: القدوري، ص 96؛ المبسوط 9/ 139، 153؛ الهداية 5/ 544، مع البناية.
(3) انظر: الأم 6/ 133؛ المهذب 2/ 278؛ المنهاج، ص 133.
(4) الكثر، بفتحتين: جمار النخل، ويقال: الطلع، وسكون الثاء لغة. المصباح، مادة:
(كثر).
(5) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، أبو
داود، في الحدود، باب ما لا قطع فيه (4388)، 4/ 136؛ الترمذي في الحدود، باب ما
جاء لا قطع =
(1/492)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
الطعام والفواكه مال عند الناس، ويباع بالدراهم والدنانير، والقطع يجب بسرقة المال
إذا كان نصابا، وقد وجد هاهنا (1).
مسألة: 357 - قطع النباش
النباش (2) لا يقطع عندنا (3)، وهو: سارق الكفن، وعند الشافعي: يقطع (4).
دليلنا في المسألة: لا خلاف: أن القطع يسقط بالشبهة، وقد تمكنت ها هنا الشبهة في
المال، وفي الحرز، وفي الملك، والمالك، فلا يجب القطع، كما لو سرق من المفازة،
وإنما قلنا: بتمكن الشبهة
_________
= في ثمر ولا كثر (1449)، 3/ 52؛ النسائي في السارق، باب ما لا قطع فيه 8/ 87؛ ابن
ماجة، في الحدود، باب لا تقطع في ثمر ولا كثر (2593)، 2/ 865.
وقال السرخسي في وجه الاستدلال بالحديث: "المراد بالثمار: الرطبة؛ لأنه
يتسارع إليها الفساد، ولأن في مالية هذه الأشياء نقصانا؛ لأن المالية بالتمول،
وذلك بالصيانة والادخار لوقت الحاجة، ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد،
فيتمكن النقصان في ماليتها، وفي النقصان شبهة العدم ... " المبسوط 9/ 153.
(1) واستدل الشافعية على القطع بسرقة الطعام الرطب بما روية أن سارقا سرق في زمان
عثمان رضي الله عنه أترجه، فقومت بثلاثة دراهم، فقطع عثمان رضي الله عنه يده.
انظر: مختصر المزني، ص 1263؛ السنن الكبرى، باب القطع في الطعام الرطب 8/ 262؛
المراجع السابق للشافعية.
(2) النباش، مأخوذ من نبش الأرض: استخرج الشيء المدفون، ومنه: نبش الرجل القبر،
لأخذ ما على الميت من أكفان.
انظر: المغرب، مختار الصحاح، المصباح، مادة: (نبش).
(3) انظر: القدوري، ص 97؛ المبسوط 9/ 159؛ الهداية 5/ 557، مع البناية.
(4) وللشافعية تفصيل بالنسبة لموقع القبر، فإن كان في برية فلا قطع؛ لأنه ليس بحرز
للكفن، وإن كان في مقبرة تلي العمران قطع.
انظر: مختصر المزني، ص 264؛ المهذب 2/ 279؛ الوجيز 2/ 174؛ المنهاج، ص 133؛ الروضة
10/ 129 - 133.
(1/493)
بالمال؛ لأن المال مما يدخر، والكفن
إنما وضع للبلي والتلف، ولتمكن الشبهة في الحرز أيضا؛ لأن القبر ليس بحرز للكفن،
ألا ترى أنه لا يكون حرزا لغير الكفن [إذ] لو كان حرزا للكفن كان حرزا لغيره.
وإنما قلنا: الشبهة تمكنت في الملك؛ لأن الكفن مصروف لحاجة الميت، والميت أيضا لا
يصلح أن يكون حافظا، لأن القطع إنما يجب إذا سرق شيئا من حافظ، والميت ليس بحافظ،
وإذا وجد أحد هذه الشبهات، يسقط القطع، فكيف عند الاجتماع (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أنه لما سرق مالا متقوما من حرز مثله، فيجب القطع،
كما لو سرق الحيوان من الاصطبل، وهذا لأن حرز كل شيء على حسب مايليق بحاله، وما
يليق بحال الكفن، إنما هو القبر، فيجب القطع (2).
مسألة: 358 - اجتماع القطع والضمان
القطع والضمان، لا يجتمعان عندنا (3)، وعند الشافعي: يجتمعان (4).
__________
(1) واستدل الأحناف من النقل: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع على
المختفى"، قال الفيومي: "اختفيت الشيء: استخرجته، ومنه قيل لنباش القبور،
المختفى؛ لأنه يستخرج الأكفان" المصباح، مادة: (خفي).
قال العينية "هذا حديث غريب لا أصل له"، وروي عن ابن عباس نحوه في عدم
القطع.
انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 9/ 159، 160؛ البناية 5/ 558.
(2) واستدل الشيرازي على قطع يد النباش من النقل بحديث البراء بن عازب رضي الله
عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: "من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه،
ومن نبش قطعناه".
سبق تخريجه في المسألة (332)، ص 467.
انظر: ما أورد البيهقي من الأحاديث والآثار في باب النباش يقطع إذا أخرج الكفن من
جميع القبر، السنن الكبرى 8/ 269، 270.
(3) انظر: القدوري، ص 97؛ المبسوط 9/ 156؛ الهداية 5/ 611, مع البناية.
(4) انظر: الأم 6/ 151؛ المهذب 2/ 285؛ الروضة 10/ 149؛ المنهاج، ص 134.
(1/494)
بيانه: إذا هلك المسروق في يد السارق،
فإنه تقطع يمينه، ولا يجب فيه المال عندنا، وعند الشافعي: تقطع ويغرم قيمة المال.
دليلنا في المسألة، وهو: أن السارق لما قطعت يمينه إنما [قطعت] في مقابلة سرقة هذا
المال، فصارت اليد مستوفاة في مقابلة هذا المال، فلو قلنا: بأنه يجب الضمان، يؤدي
إلى اجتماع الضمانين بسبب عين واحدة، وهذا لا يجوز (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن القطع إنما يجب جزاء على فعل السرقة حقا لله
تعالى، ألا ترى أنه إذا أسقط رب المال هذا القطع لم يسقط، عرفنا أنه حق الله تعالى
على طريق الجزاء لفعل السرقة، والضمان إنما يجب بمقابلة المال، حتى يكون مراعاة
للجانبين جميعا (2).
__________
(1) واستدل الأحناف لعدم الجمع بقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
جزاء بما كسبا نكالا من الله} [المائدة: 38]. ووجه الاستدلال من الآية كما قال
السرخسي: فقد نص على أن القطع جميع موجب فعله؛ لأن في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال
... وبما روى عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال:
"لا غرم على السارق". الحديث رواه بلفظه الدارقطني، وروى نحوه النسائي
والبيهقي. وقد تكلم المحدثون في إسناده، قال النسائي: "هذا مرسل، وليس
بثابت"، وقال الدارقطني: "والمسور بن إبراهيم لم يدرك عبد الرحمن بن عوف،
فإن صح إسناده فهو مرسل"، وقيل فيه غير ذلك.
انظر: سنن الدارقطني مع التعليق المغني 3/ 182، 183؛ النسائي في آخر السرقة 8/ 93؛
السنن الكبرى 8/ 277.
(2) واستدل البيهقي لتغريم السارق، بما أخرجه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
انظر: السنن الكبرى، باب غرم السارق 8/ 276.
(1/495)
مسألة: 359 - قطع الأطراف الأربع بتكرر
السرقة
السارق لا يؤتى على أطرافه الأربع عندنا (1)، وعند الشافعي: يؤتى (2).
بيان ذلك: إذا سرق مالا تقطع يمينه، ولو عاد مرة أخرى تقطع رجله اليسرى، ولو عاد مرة
أخرى لا تقطع يده اليسرى، عندنا، وعند الشافعي: تقطع اليسرى في الثالث، وفي الرابع
تقطع رجله اليمنى.
دليلنا في المسألة، وهو: "ما روي أن هذه المسألة وقعت في زمان على بن أبي
طالب رضي الله عنه: أخذ سارق مقطوع اليد والرجل، فرفع ذلك إلى على رضي الله عنه،
فما أمر بقطعه، وقال: "أنا أستحي من الله عز وجل أن لا أدع له يدا يبطش بها،
ولا رجلا يمشي عليها في حاجته" (3). فكان المعنى فيه، وهو: إن القطع إنما شرع
للزجر مع الإبقاء، فلو قلنا: إنها تقطع [في] المرة الرابعة. فإنه يؤدي إلى الهلاك،
وهذا غير مشروع (4).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي أن سارقا سرق حلي أسماء بنت أبي بكر (5) رضي
الله عنه، وهو مقطوع اليد والرجل،
__________
(1) في المرة الثالثة لا تقطع عند الأحناف، ولكن يخلد في السجن حتى يتوب.
انظر: القدوري، ص 97؛ المبسوط 9/ 140، 166؛ الهداية 5/ 586، مع البناية.
(2) انظر: الأم 6/ 132؛ المهذب 2/ 284؛ المنهاج، ص 134.
(3) الأثر أخرجه الدارقطني في سننه على وجه الأخبار، وأخرجه البيهقي في سننه على
هذا الوجه، وزاد في آخره: "ثم ضربه وخلده السجن".
انظر: سنن الدارقطني 3/ 103، 180؛ السنن الكبرى 8/ 275.
(4) راجع المصادر السابقة للأحناف.
(5) الصحيح أن الحلي كانت لأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر، وليست لأسماء بنت الصديق
رضي الله عنهم، كما ذكره المؤلف.
(1/496)
فأمر أبو بكر رضي الله عنه، بقطع يده
اليسرى، وهذا نص في هذه المسألة (1).
مسألة: 360 - القطع بسرقة أحد الزوجين من الآخر
إذا سرق [الرجل] من مال زوجته، والمرأة [إذا] سرقت من مال زوجها، لا قطع عليهما
عندنا (2)، وعند الشافعي: يجب القطع (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن [للـ]ـزوج حقا من مال المرأة، وله بسوطة في مالها؛
لأنه ينتفع بها، فصار كما لو سرق من ذي رحم محرم، ولو سرق من مال محارمه لايجب
عليه القطع (4)، فكذلك ها هنا.
احتج الشافعي في المسألة، وقال: بأن ملك الزوجين مفارق عن صاحبه: لا حق للزوج في
مال المرأة، ولا المرأة في مال الزوج، ولهذا نقول: بأنه تقبل شهادة كل واحد منهما
على صاحبه
__________
(1) والقصة بنصها كما رواها الإمام مالك: "أن رجلا من أهل اليمن، أقطع اليد
والرجل، قدم فنزل على أبي بكر الصديق، فشكا إليه: أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان
يصلي من الليل، فيقول أبو بكر: وأبيك ماليلك بليل سارق، ثم أنهم فقدوا عقدا لأسماء
بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق، فجعل الرجل يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بيت
أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلى عند صائغ، زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف به
الأقطع، أو شهد عليه به، فأمر به أبو بكر الصديق، فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر:
والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته".
انظر الموطأ، في الحدود، باب جامع القطع 2/ 835؛ السنن الكبرى 8/ 273.
(2) انظر: القدوري، ص 97؛ المبسوط 9/ 190؛ الهداية 5/ 568، مع البناية.
(3) ما ذكره المؤلف هو القول الأظهر عند الشافعية من ثلاثة أقوال، كما نص عليه
النووي في المنهاج.
انظر: الأم 6/ 161؛ المهذب 2/ 282؛ المنهاج، ص 133.
(4) انظر: المبسوط 9/ 151؛ تحفة الفقهاء 3/ 243؛ الهداية 5/ 567، مع البناية.
(1/497)
عندي (1)؛ لأن ملكها مميز، فيجب القطع
بسرقته، كما لو سرق من الأجانب (2).
مسألة: 361 - القطع بسرقة المصحف
إذا سرق المصحف، لا يجب عليه القطع عندنا (3)، وعند الشافعي: يقطع إذا بلغ نصابا
(4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن القطع إنما يجب بسرقة المال، والمكتوب في المصحف كلام
الله تعالى لا يوصف بمال، فأورث الشبهة فيه، والقطع لا يستوفي مع الشبهة (5).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أنه سرق مالا متقوما، فوجب عليه القطع؛ لأن المال:
ما يتموله الناس، وهذا المصحف مما يتموله الناس، فيجب القطع بسرقته، كما لو سرق
كتب العلم والأدب (6).
__________
(1) انظر المسألة بالتفصيل في (مسألة شهادة أحد الزوجين للآخر) (390)، ص 530.
(2) انظر: المهذب 2/ 282.
(3) انظر: القدوري، ص 96؛ المبسوط 9/ 152؛ تحفة الفقهاء 3/ 244؛ الهداية 5/ 547،
مع البناية.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 264؛ الروضة 10/ 121.
(5) راجع: المصادر السابقة للأحناف.
(6) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(1/498)
كتاب قطاع الطريق (1)
[مسألة]: 362 - قطع الطريق بداخل البلدة
إذا قطع الطريق في البلدة، فإن عندنا: لا يجب عليه أحكام قطاع الطريق (2)، وعند
الشافعي: يلزمه ما يلزمهم في السفر (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الحد في قطاع الطريق إنما يجب لقطع الطريق؛ لأن السارق
إذا قطع الطريق يسد ذلك الطريق، حتى لا يمر التجار، فلهذا يسمى: قاطع الطريق، وهذا
المعنى: إذا
__________
(1) قطاع الطريق: جمع قاطع، وهو مأخوذ من قطع، يقال: قطعته عن حقه: منعته عن حقه.
انظر: المصباح، مادة: (قطع).
واصطلاحا عرفهم الكاساني بقوله: "هم الخارجون على المارة، لأخذ المال عل سبيل
المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع الطريق".
وعرفهم الشافعي بقوله: "هم الذين يعترضون بالسلاح القوم، حتى يغصبوهم المال
في الصحاري مجاهرة" وكذلك في المصر. ويسمى أيضا بالسرقة الكبرى؛ لأن ضرر قطع
الطريق على أصحاب الأموال [ضرر]، عل عامة المسلمين بانقطاع الطريق" وعقوبتهم
تختلف بحسب اختلاف جرائمهم.
انظر: مختصر المزني، ص 265؛ البدائع 9/ 4283؛ مجمع الأنهر 1/ 629.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 276؛ المبسوط 9/ 201؛ الهداية 5/ 640؛ الاختيار 3/ 72.
(3) قاطع الطريق بداخل البلدة يعد كقاطع الطريق في الصحاري على القول الأصح عند
الشافعية.
انظر: مختصر المزني، ص 265؛ المهذب 2/ 285؛ الوجيز 179/ 2؛ الروضة 10/ 155؛
المنهاج، ص 134.
(1/499)
كان في البلدة لا يحصل، فلا يشرع في
حقه تغليظ العقوبة، كما لو سرق من البيت (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن تغليظ العقوبة إنما يجب بسبب أخذ المال، وقتل
النفس، وها هنا لما أخذ المال وقتل، فقد تم قطع الطريق، فوجب أن يشرع في حقه تغليظ
العقوبة، ليحصل معنى الزجر (2).
مسألة: 363 - عقوبة المرأة إذا قطعت الطريق
المرأة إذا قطعت الطريق، فإن عندنا: لا يلزمها ما يلزم الرجل (3)، وعند الشافعي:
يلزمها (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن بنية المرأة غير صالحة للقتال، ألا ترى أنها لا تقتل
في الكفر (5)، لعدم صلاحيتها للمقاتلة؛ لأن جبلة المرأة ضعيفة، فلا يشرع في حقها
ما يشرع في حق الرجل؛ لأن
__________
(1) وذلك للحوقهم الغوث والنجدة بخلاف ما إذا وقع في خارج البلدة.
انظر بالتفصيل: المصادر السابقة للأحناف.
(2) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(3) يروى - في عقوبة المرأة إذا قطعت الطريق - عن أبي حنيفة روايتان: الرواية
المشهورة: أنها لا تعامل معاملة الرجال، وهذا هو الأصح لدى فقهاء الأحناف. وظاهر
الرواية: أنها تعامل معاملة الرجال، واختاره الطحاوي، حيث يقول: "والنساء
والعبيد في قطع الطريق كالرجال وكالأحرار" وقواها الكمال بن الهمام.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 277؛ المبسوط 9/ 197؛ تحفة الفقهاء 3/ 249؛ البدائع 9/
4284؛ فتح القدير 5/ 433.
(4) انظر: مختصر المزني، ص 265؛ المهذب 2/ 285؛ الوجيز 2/ 179؛ الروضة 10/ 155.
(5) راجع مسألة قتل المرتدة (240)، ص 361.
(1/500)
قطع الطريق إنما يحصل من الرجال غالبا،
ولو وجد من المرأة يكون ذلك نادرا، والنادر لا حكم له (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن القطع والقتل متعلق بالسرقة، فإذا وجدت من
المرأة كما وجدت من الرجال، وجب أن يشرع القطع في حقها، كما لو سرق من البيت (2).
مسألة: 364 - عقوبة الردء لقطاع الطريق
الردء (3)، يجب عليهم ما يجب على قطاع الطريق عندنا (4)، وعند الشافعي: لا يجب
(5).
دليلنا في المسألة، وهو: إن قاطع الطريق إنما يقطع بقوة الردء، فصاروا كلهم
مشتركين؛ لأن عادة السراق هذا: أن يكون بعضهم مشتغلين بالقتال، وبعضهم بالقتل،
وبعضهم بأخذ المال والحملة، فأوجبنا الحد على الكل تغليظا عليهم، ليحصل معنى الزجر
(6).
__________
(1) وقد ضعف الكمال بن الهمام أدلة الأحناف التي تذهب إلى التفرقة بين الرجل
والمرأة في حكم قطع الطريق وقال ما معناه: أن الأوجه المذكورة في التفرقة بينهما
مع ضعفها، تصادم إطلاق الكتاب في المحاربين.
انظر بالتفصيل: المبسوط 9/ 198؛ فتح القدير 5/ 433.
(2) ودليل الشافعية: عموم أدلة حد قطع الطريق بدون تفريق بين المرأة والرجل. راجع
المصادر السابقة للشافعية.
(3) الردء: بالهمزة: المعين، يقال: ردأه: أعانه، وأردأته: أعنته.
انظر: المغرب، المصباح، مادة: (ردوء).
(4) انظر: المبسوط 9/ 198؛ البدائع 9/ 4283
(5) انظر: المهذب 2/ 286؛ الوجيز 2/ 179؛ المنهاج، ص 134.
(6) راجع: المصادر السابقة للأحناف.
(1/501)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
القطع والقتل إنما يجب جزاء على فعل السرقة أو القتل، ولم يوجد هذا المعنى في حق
الردء، فلا معنى لإيجاب القطع والقتل في حقهم (1).
__________
(1) واستدل الشيرازي لدرء الحد عنهم: بما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي
الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم
يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب
الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة". واللفظ للبخاري.
البخاري، في الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس} (الآية) (6878)، 12/
201؛ مسلم، في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (1676)، 2/ 1303.
انظر: المهذب 2/ 286.
(1/502)
كتاب الأشربة (1)
[مسألة]: 365 - حكم الأنبذة
ما يعصر من العنب والتمر، فحرام قليله وكثيره، وإذا كان غير العنب والتمر، مثل
الشعير والحنطة والأرز [فحلال وإن لم يطبخ] (2)، وإذا كان من العنب طبخ، فإن
عندنا: عينه غير محرم، وإذا أسكر فحرام (3). وعند الشافعي: حكم الأنبذة والمطبوخ
من العنب، فالكل واحد في التحريم (4).
دليلنا في المسألة، وهو: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"حرمت الخمر لعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" (5) وهذا نص.
__________
(1) سبق ذكر تعريف الأشربة، في المسألة (195)، ص 308، وسبق أن ذكر المؤلف كتاب
الأشربة بعد كتاب الرهن، بمسألة (تخليل الخمر) وليس ثمة مناسبة لذكرها في ذلك
الموضع، وموضعها السليم ضمن كتاب الطهارة، ثم ثنى بذكره هنا مرة أخرى، وأق بهذه
المسألة، مع مسألة الختان، وهنا موقعه الطبيعي حيث جاء بعد الحدود.
(2) في الأصل نقص وزيدت لاستقامة العبارة.
انظر: القدوري، ص 98؛ تحفة الفقهاء 3/ 562.
(3) ويحل عصير العنب المطبوخ بشرط أن يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث ويغلى بعد ذلك.
انظر: مختصر الطحاوي، ص 281؛ القدوري، ص 98؛ تحفة الفقهاء 3/ 559؛ الاختيار 3/ 56؛
تكملة فتح القدير 10/ 100، 101.
(4) انظر: الأم 6/ 144؛ المهذب 2/ 287؛ التنبيه، ص 151؛ الوجيز 2/ 181؛ المنهاج، ص
135.
(5) الحديث أخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما بطرق وألفاظ مختلفة، وفي
السند: عبد الله بن شداد، وقد تكلم المحدثون فيه.=
(1/503)
احتج الشافعي، في المسألة: ما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أسكر كثيره فالقليل منه
حرام" (1)، وفي رواية أخرى: "فالجرعة منه حرام"، وفي رواية أخرى:
"ما أسكر كثيره فالبزقة منه حرام" (2)، وهذا نص.
مسألة: 366 - حكم الختان
الختان (3) سنة في الرجال دون النساء، [عندنا] (4)، وعند الشافعي: فرض في الرجال
والنساء (5).
دليلنا في المسألة وهو: أن الختان إنما شرع في الرجال؛ لأنا
__________
= قال ابن الأثير: وهو حديث حسن، وقال ابن حزم في المحلى، إنه صحيح.
انظر: النسائي، في الأشربة، باب الأخبار التي اعتل بها من أيام شرب المسكر 8/ 320،
321؛ السنن الكبرى، مع الجوهر النقي 8/ 297؛ جامع الأصول 5/ 104؛ المحلي 7/ 481.
(1) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله، والنسائي من حديث عمرو
بن شعيب: وكلهم في كتاب الأشربة:
أبو داود، باب النهي عن المسكر (3681)، 3/ 327؛ الترمذي باب ما جاء ما أسكر كثيره
فقليله حرام (1865)، وقال: "هذا حديث حسن غريب" 4/ 292؛ النسائي، باب
تحريم كل شراب أسكر كثيره 8/ 305؛ وقال ابن الأثير: إسناده حسن، جامع الأصول 4/
90.
(2) وفي رواية لأبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "كل مسكر
حرام، ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام"، وفي رواية للترمذي:
"الحسوة منه حرام"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، والفرق:
بفتحتين مكيال.
أبو داود (3687)، 3/ 329؛ الترمذي (1866)، 4/ 293؛ السنن الكبرى 8/ 296؛ المصباح،
مادة: (فرق).
(3) الختان: بالكسر: موضع القطع من الفرج من الذكر والأنثى. والختان سنة مؤكدة
للرجال، ومكرمة للنساء عند الأحناف، كما في كتب الفتاوي. انظر: المصباح، مادة:
(ختن).
(4) انظر: الفتاوي الهندية 5/ 356، 357؛ الفتاوي السراجية، ص 289، 290.
(5) انظر. المهذب 1/ 21؛ الروضة 10/ 180؛ المنهاج، ص 136.
(1/504)
إنما عرفناه لعرف الناس وعادتهم،
والعرف جرى في الختان في الرجال دون النساء (1).
احتج الشافعي، في المسألة وهو: أن الختان إنما شرع للتطهير ولما فيه من المنفعة
التي أباحها الشرع، وهذا المعنى الرجل والمرأة يستويان فيه، كما في سائر الفرائض
والسنن (2).
__________
(1) واستدل القائلون بالسنية في الرجال دون النساء، بما أخرجه أحمد من حديث أسامة
الهذلي رضي الله عنه، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الختان سنة للرجال مكرمة
للنساء". مسند الإمام أحمد 5/ 75. انظر: تحفة المودود، ص 168.
(2) استدل الشافعية على الوجوب بقوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النحل
123)، "وروي أن إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم" (آلة النجار).
انظر أدلة الوجوب بالتفصيل: المهذب 1/ 211؛ مغني المحتاج 4/ 203.
انظر مسألة الاختتان وأقوال العلماء فيها مع أدلتهم بالتفصيل: كتاب تحفة المودود
في أحكام المولود، ص 162، وما بعدها. القاموس المحيط، المصباح، مادة: (قدم).
(1/505)
كتاب صئول (1) الفحل
[مسألة]: 367 - ضمان قتل الصئول
الجمل إذا صال على إنسان، فقتله المصئول عليه دفعا عن نفسه، يلزمه الضمان، عندنا
(2)، وعند الشافعي: لا يلزمه (3).
دليلنا في المسألة: أنه أتلف مال غيره بغير إذن مالكه، فيكون مضمونا عليه، كما لو
أتلفه قبل الصئول؛ لأنا لو قلنا: بأنه لا يضمن، إنما لا يضمن لأجل صياله، وصياله
وفعله غير معتبر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "العجماء جبار" (4)
أي هدر.
احتج الشافعي، في المسألة: أنه قتله دافعا شر القتل عن نفسه، فوجب أن لا يكون
مضمونا عليه، كما لو قتل عبد إنسان إذا أشهر سيفه، فقتله دافعا عن نفسه لا يكون
مضمونا عليه، كذلك ها هنا (5).
__________
(1) صئول: من صال الفحل يصول صولا وصالا، "إذا وثب البعير على الإبل
يقاتلها" ومن العرب من يقول: صئول، بالهمزة. المصباح، مادة: (صول).
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 258.
(3) انظر: الأم 6/ 177؛ المهذب 2/ 226؛ المنهاج، ص 135.
(4) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق تخريجه في المسألة
(235)، ص 351.
(5) راجع أدلتهم بالتفصيل: الأم 6/ 177، وقد أطال الشافعي رحمه الله وأفاض في
الاستدلال والمناقشة.
(1/506)
كتاب الجزية (1)
[مسألة]: 368 - سقوط الجزية
الجزية عندنا: تسقط بالموت والإسلام (2)، وعند الشافعي: لا تسقط (3)، وكذلك الذمي
إذا أسلم في آخر الحول سقطت عنه الجزية [عندنا]، وعند الشافعي: لا تسقط.
دليلنا في المسألة وهو: أن الجزية إنما وجبت من طريق العقوبة بدلا عن القتل،
الدليل عليه: قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (4) دل على أنها
إنما تجب من طريق [الذلة] (5) والعقوبة، والعقوبات لا تستوفى بعد الموت وكذلك
عقوبة الكفر لا تستوفى بعد الموت (6).
__________
(1) الجزية: مأخوذة من المجازاة، وقيل: من الجزاء، بمعنى القضاء، وجمعها: جزئ جزي
وجزاء.
انظر: الصحاح، المصباح، القاموس، مادة: (جزى).
واصطلاحا: "هي اسم لما يؤخذ من أهل الذمة؛ لأنها تعصمهم من القتل"، كما
ذكره الميداني. وقال الشربيني إنها "ليست مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير
عليه، بل هي نوع إذلال لهم، ومعونة لنا، وربما يحملهم ذلك على الإسلام مع مخالطة
المسلمين الداعية إلى معرفة محاسن الإسلام". مغني المحتاج 4/ 242؛ اللباب 4/
143.
(2) انظر: القدوري، ص 117؛ تحفة الفقهاء 3/ 530؛ الهداية 5/ 828، مع البناية.
(3) انظر: الأم 4/ 183؛ المهذب 2/ 252؛ المنهاج، ص 138.
(4) سورة التوبة: آية 29.
(5) في الأصل: (الملة).
(6) استدل الأحناف بما أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المسلم جزية": أبو
داود، في الخراج والإمارة والفيء، باب في =
(1/507)
احتج الشافعي في المسألة وهو: أن
الجزية هي حق مال ثبت في رقبته، فإذا لم يؤده ومضى عليه سنة، صار دينا عليه،
والديون تستوفى بعد الموت من تركته، كما في سائر الديون (1).
مسألة: 369 - أقل للجزية
أقل الجزية ربع دينار [عندنا] ويختلف بين الغني والفقير (2)، وعند الشافعي: أقلها
دينار (3).
دليلنا [في المسألة] وهو: أن الجزية حق أوجبه الشرع باعتبار طاقة المؤدى، فوجب أن
تختلف بين الغني والفقير (4)، كما في الزكاة.
__________
= الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ (3053)، 3/ 171؛ الترمذي، في الزكاة، باب
ما جاء ليس على المسلمين جزية (633)، 3/ 27.
انظر: البناية 5/ 828.
(1) وعلل الشيرازي لعدم السقوط بقوله: "لأنه عوض عن الحقن والمساكنة، وقد
استوفى ذلك، فاستقر عليه العوض، كالأجرة بعد استيفاء المنفعة". المهذب 2/
252.
منشأ الخلاف بين الطرفين: تحديد سبب دفع الجزبة: هل الجزية عقوبة على الكفر وبدل
عن النصرة، أم هي عوض عن الحقن والسكنى؟ .
فذهب الأحناف إلى الرأي الأول وقالوا: "وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام
بعد الموت"، وكذلك النصرة بعد الإسلام.
وذهب الشافعية إلى الرأي الثاني، وقالوا: "وقد استوفى ذلك فاستقر عليه
العوض".
انظر: الهداية 5/ 828 - 830، مع البناية؛ المهذب 2/ 252.
(2) وتفصيله: "يكون على الغني الظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعون درهما
وعلى المتوسط الحال أربعة وعشرون درهما، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر
درهما".
انظر: القدوري، ص 116، 117؛ تحفة الفقهاء 3/ 527؛ الهداية 6/ 815، مع البناية.
(3) ويستحب عند الشافعية أيضا أن يجعل أهل الجزية على ثلاث طبقات كترتيب الأحناف
كما ذكره الشيرازي.
انظر: الأم 4/ 179؛ المهذب 2/ 252؛ المنهاج، ص 138.
(4) واستدل الأحناف لمذهبهم بأقوال الصحابة، حيث نقل ذلك عن عمر وعثمان وعلي رضي
الله عنهم، وقالوا: "ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار".
انظر: السنن الكبرى 9/ 196؛ البناية 5/ 819.
(1/508)
احتج الشافعي، في المسألة: "بما
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر معاذا بأن يأخذ من كل حالم
دينارا" (1)، ولم يفصل بين الغني والفقير (2).
__________
(1) الحديث في أصل المخطوط: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمره بأن
يأخذ كل واحد دينارا"، وإنما عدل بحسب ما ورد في رواية معاذ رضي الله عنه
الآتية: "عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجهه إلى اليمن، أمره
أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المعافري: ثياب تكون باليمن":
رواه أبو داود، في الخراج والإمارة، باب في أخذ الجزية (3038)، 3/ 167؛ الترمذي،
في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر (623)، وقال: "حديث حسن" 3/ 20؛
النسائي، في الزكاة باب زكاة البقر 5/ 25، 26.
(2) راجع: المراجع السابقة للشافعية.
(1/509)
كتاب الصيد والذبائح (1)
[مسألة]: 370 - ترك التسمية عمدا
إذا ذبح الشاة وترك التسمية عامدا، يحرم أكله، ويصير كالميتة عندنا (2)، وعند
الشافعي: يحل أكله (3). ولا خلاف: أنه لو ذبح الشاة وترك التسمية ناسيا، حل أكله
(4).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم
__________
(1) الصيد: مصدر: صاد يصيد صيدا، ثم أطلق الصيد على المصيد، إما أنه فعل بمعنى
مفعول، وإما تسمية بالمصدر، والجمع: صيود.
وهو: "كل ممتنع متوحش طبعا لا يمكن أخذه إلا بحيلة"، "وزيد عليه
أحكام شرعا".
انظر: المغرب، المصباح، مادة: (صيد)، اللباب 3/ 217.
وعرفه الغزالي بأنه: "إماتة الصيد بآلة: وهو كل جرح مقصود حصل به
الموت". الوجيز 2/ 207.
والذبائح: جمع ذبيحة: وهي اسم ما يذبح من النعم، كالذبح بالكسر.
انظر: المصباح: مادة (ذبح) والذبح في الشرع: "قطع الأوداج" بمعنى:
"حرم حيوان من شأنه الذبح إذا لم يذبح".
انظر: الدر المختار 6/ 293، مع حاشية ابن عابدين؛ مجمع الأنهر 2/ 507؛ مغني
المحتاج 4/ 265.
(2) انظر: القدوري، ص 99؛ المبسوط 11/ 236؛ تحفة الفقهاء 3/ 92؛ الهداية 9/ 16، مع
البناية.
(3) انظر: الأم 2/ 227، 234؛ المهذب 1/ 259؛ نهاية المحتاج 8/ 119.
(4) راجع: المصادر السابقة للمذهبين.
(1/510)
الله عليه وإنه لفسق} (1) فالله تعالى
فهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأخبر أنه فسق، وهذا نص في هذا الباب (2).
احتج الشافعي، في المسألة، بأن قال: إنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيا حل
أكله، فكذلك إذا تركها عامدا؛ لأن ذكر الله تعالى في قلب كل امرئ مسلم (3)، فوجب
أن يقام الذكر بالقلب مقام الذكر باللسان (4).
مسألة: 371 - ذكاة الجنين ذكاة أمه
إذا ذبح شاة، وخرج من بطنها جنين ميت، عندنا: لا يحل أكله (4)، وعند الشافعي: يحل
أكله (5)، هذا إذا أشعر الولد ودخل فيه الحياة، وأما إذا كان قطعة لحم فلا يؤكل
بلا خلاف.
دليلنا في المسألة، وهو: أن هذا حيوان على حدة، فوجب أن يشرع له ذكاة على حدة، كما
لو وقع شاتان في بئر، فطعن العليا،
__________
(1) سورة الأنعام: آية 121.
(2) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص 3/ 5 وما بعدها؛ تفسير النسفي 2/ 31؛
المبسوط 11/ 237، وما بعدها؛ البناية 9/ 21 وما بعدها.
(3) ويقصد به ما روي عن البراء بن عازب: "أن اسم الله على قلب كل مؤمن سمي أو
لم يسم". تفسير القرطبي 7/ 76.
واستدل الرملي على حلية المذبوح مع ترك التسمية عمدا، بإباحة ذبائح أهل الكتاب،
بقوله سبحانه وتعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (المائدة 5)، "وهم
لا يذكرونها [التسمية] ". نهاية المحتاج 8/ 119.
انظر المسألة مع أدلتها بالتفصيل في: تفسير قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر
اسم الله عليه وإنه لفسق} (الأنعام 121)، تفسير القرطبي 7/ 75، 76، 77؛ تفسير
البيضاوي 1/ 329.
(4) انظر: القدوري، ص 99؛ المبسوط 12/ 6؛ تحفة الفقهاء 3/ 92؛ الهداية 9/ 56، مع
البناية.
(5) انظر: الأم 2/ 233؛ المهذب 1/ 262؛ المنهاج، ص 143.
(1/511)
وماتت السفلى باضطراب العليا، فإنه لا
يحل أكله لهذا المعنى؛ لأنه لما ذبح الأم يقطع نفسها، فمات الجنين في بطنها خنقا،
والمنخنقة حرام في كتاب الله عز وجل (1).
احتج الشافعي: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ذكاة
الجنين ذكاة أمه" (2) جعل الجنين مذكاة بذكاة أمه، فكان المعنى فيه: أن
الجنين ما دام مجتنا في البطن، فحكمه كحكم الأجزاء والأطراف من الأم، وجب أن لا
يشرع في حقه الذكاء؛ لأنه متعذر، فوجب أن يقام ذكاة الأم ذكاة له.
مسألة: 372 - أكل السمك الطافي
السمك الطافي، لا يحل أكله عندنا (3)، وعند الشافعي: يحل أكله (4).
والخلاف إنما وقع: إذا طفا ولم يعرف موته بسبب، وأما إذا عرف موته بسبب: بأن ألقاه
البحر على الشط، أو عقره سمك آخر، فحل أكله بلا خلاف.
__________
(1) ويقصد به قول الله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل
لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة} (المائدة 3).
راجع الأدلة بالتفصيل: المبسوط 12/ 6، 7؛ البناية 9/ 59 وما بعدها.
(2) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر وأبي سعيد الخدري، رضي
الله عنهم:
أبو داود، في الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين (2828)، 3/ 103؛ الترمذي، في
الأطعمة؛ باب ما جاء في ذكاة الجنين (1476)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"
4/ 72؛ ابن ماجه، في الذبائح، باب ذكاة الجنين ذكاة أمه (3199)، 2/ 1067.
(3) انظر: القدوري، ص 99؛ المبسوط 11/ 247.
(4) انظر: الأم 2/ 233؛ المهذب 1/ 357؛ المنهاج، ص 143.
(1/512)
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - "أنه نهى عن أكل السمك الطافي" (1) وهذا نص.
احتج الشافعي، في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن
البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (2) وهذا نص.
مسألة: 373 - الذبح بالسن والظفر
إذا ذبح الحيوان بالسن أو بالظفر إذا كان منزوعا يحل أكله عندنا: وإذا كان متصلا
فذبحه، فإنه لا يحل (3)، وعند الشافعي: لا يحل أكله منفصلا كان أو متصلا (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن من شرط استباحة الحيوان كونه مذبوحا، لإراقة الدم
المسفوح، وهذا المعنى: قد وجد ها هنا،
__________
(1) الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: قال أبو
داود: "روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير، أوقفوه على
جابر، وقد أسند أيضا من وجه ضعيف ... ".
ونقل فؤاد عبد الباقي في تعليقه على ابن ماجه عن الدميري قوله: "هو حديث ضعيف
باتفاق الحفاظ، لا يجوز الاحتجاج به، فإنه من رواية يحيى بن سليم الطائفي".
انظر: سنن أبي داود، في الأطعمة، باب لا أكل الطافي من السمك (3815)، 3/ 358؛ ابن
ماجه، في الصيد، باب الطافي من صيد البحر (3247)، 2/ 1082. وراجع المبسوط 11/ 247،
248.
(2) الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
وكلهم في الطهارة، في باب الوضوء بماء البحر: أبو داود (83)، 1/ 21؛ الترمذي (69)
وقال: "حديث حسن صحيح" 1/ 100؛ النسائي، في المياه (1/ 176؛ ابن ماجه
(386) 1/ 136.
(3) انظر: القدوري، ص 99؛ المبسوط 2/ 12؛ الهداية 9/ 41، مع البناية.
(4) انظر: الأم 2/ 236؛ المهذب 1/ 259؛ التنبيه، ص 59؛ المنهاج، ص 41.
(1/513)
فوجب أن يحل، كما لو ذبحه بليطة القصب
(1)، أو بحربة [حادة] (2) فإنه يحل أكله، كذلك ها هنا (3).
احتج الشافعي، في المسألة: "بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل
عن هذا؟ فنهى عنه، وقال: "إنه مدي (4)، الحبشة" (5) وهذا نص.
__________
(1) الليطة: قشرة القصبة، والقوس والقناة وكل شيء له متانة.
انظر: مختار الصحاح، معجم الوسيط، مادة: (ليط).
(2) في الأصل: (حدة).
(3) انظر أدلتهم بالتفصيل: المبسوط 2/ 12؛ البناية 9/ 43.
(4) المدى، ومفرده: المدية - بضم الميم - الشفرة، انظر: المصباح، مادة: (مدى).
(5) الحديث أخرجه الشيخان: عن رافع بن خديج، قلت: يا رسول الله: إنا لاقوا العدو
غدا، وليست معنا مدي، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اعجل أو أرني ما أنهر
الدم وذكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك أما السن: فعظم، وأما الظفر:
فمدي الحبشة ... ". البخاري، في الذبائح والصيد، باب لا يذكي بالسن والعظم
والظفر (5506)، 9/ 633؛ مسلم، في الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، إلا
السن والظفر وسائر العظام (1968)، 3/ 1558.
(1/514)
كتاب الأضحية (1)
[مسألة]: 374 - حكم الأضحية
الأضحية واجبة عندنا (2)، وعند الشافعي: سنة (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على كل
أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة" (4). والعتيرة قد
__________
(1) الأضحية: مشتقة من الضحوة، وسمي ذبح الأضحية بذلك؛ لأنها: تفعل في الضحى، من
تسمية الشيء باسم وقته، وهذا أصله، ثم كثر استعمالها في هذا المعنى حتى قيل ضحى:
في أي وقت كان في أيام الأضحى. وفيها لغات: بضم الهمزة في الأكثر، وكسرها اتباعا
لكسر الحاء، وجمعها: أضاحي، وضحية، وجمعها: ضحايا، وأضحاة بفتح الهمزة، وجمعها:
أضحى. وشرعا عرفها الأحناف بأنها: "ذبح حيوان مخصص بنية القربة في وقت
مخصوص".
انظر: الدر المختار 6/ 311، 312، مع حاشية ابن عابدين.
وعرفها الشافعية بأنها: "ما يذبح من النعم تقربا إلى الله تعالى من يوم العيد
إلى آخر أيام التشريق". مغني المحتاج 4/ 282.
(2) تجب الأضحية عند الأحناف بشرط أن يكون المضحي: حرا، مسلما، مقيما موسرا، في
يوم الأضحى.
انظر: القدوري، ص 100؛ المبسوط 8/ 12؛ تحفة الفقهاء 3/ 113.
(3) انظر: الأم 2/ 221؛ المهذب 1/ 244؛ المنهاج، ص 142.
(4) الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه: من حديث محنف بن سليم قال: كنا وقوفا عند
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال: "يا أيها الناس: إن على كل أهل بيت
في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هي التي يسميها الناس الرجبية".
النسائي، في الفرع والعتيرة 7/ 167؛ ابن ماجه، في الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي
أم لا؟ (3125) 2/ 1045.
(1/515)
نسخت (1)، فبقيت الأضحية واجبة.
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم" (2) صلوات الله [تعالى عليه].
[مسألة]: 375 - كيفية ذكاة الحيوان
الذكاة في الحلق (3) بين اللبة (4) والودجين (5) عندنا (6)، وعند الشافعي: هو قطع
الحلق واللبة (7).
__________
(1) والدليل على نسخ العتيرة ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا فرع ولا عتيرة".
البخاري، في العقيقة، باب العتيرة (5474)، فح الباري 9/ 596؛ مسلم في الأضاحي باب
الفرع والعتيرة (1976)، 3/ 1564.
(2) لم يرد الحديث بهذا اللفظ، ولفظه: كما رواه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم رضي
الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ما هذه
الأضاحي؟ قال: "سنة أبيكم إبراهيم ... " الحديث. ونقل عن الزوائد:
"في إسناده أبو داود، واسمه نفيع بن الحارث، وهو متروك، واتهم بوضع
الحديث". ابن ماجه، في الأضاحي، باب ثواب الأضحية (3127)، 2/ 1045.
(3) الحلق: وهو في الأصل الحلقوم كما في الصحاح، مادة: (حلق).
(4) اللبة: بالفتح والتشديد؛ المنحر: من العقدة إلى مبدأ المصدر.
انظر: المغرب، المصباح مادة: (لبب).
(5) الودجان: "عرقان غليظان يكتنفان ثغرة المنحر، يمينا ويسارا"،
المغرب، المصباح، مادة: (ودج).
(6) اختلفت روايات كتب الأحناف في: بيان محل الذبح، قال القدوري: "والذبح بين
الحلق واللبة، والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمرئ والودجان، وإن
قطعها حل الأكل، وإن قطع أكرها [ثلاثة منها] فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى"؛ القدوري، ص 99. انظر بالتفصيل: المبسوط 2/ 12، 3؛ البناية في شرح
الهداية 9/ 32 وما بعدها؛ اللباب 3/ 225، 226.
(7) انظر الأم 2/ 236، 237؛ المهذب 1/ 259؛ المنهاج، ص 140؛ نهاية المحتاج 8/ 111.
والخلاف بين الطرفين ينحصر في الودجين؛ لأن المجزئ في الذكاة عند أبي حنيفة: قطع
الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وعند الشافعي: قطع الحلقوم والمريء فقط، ولا يجب
قطع الودجين بل يستحب، كما سبق بيانه.
(1/516)
دليلنا في المسألة، وهو: أن المقصود من
الذكاة: إنما هو إراقة دم، وهذا المعنى، لا يحصل إلا بقطع الودجين (1).
احتج الشافعي في المسألة: بدليل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الذكاة فيما بين اللبة واللحيين" (2).
[مسألة]: 376 - أكل لحم الخيل
لحم الخيل يكره أكله عندنا (3)، وعند الشافعي: يحل أكله (4).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} (5) ذكر
الخيل مع البغال والحمير، وبين منفعتها للركوب والزينة، فلو كان مأكولا لبين منفعة
الأكل، وقرنها مع البغل والحمار في الذكر، ثم إن البغل والحمار لا يؤكل، فكذلك
الخيل (6).
__________
(1) واستدل الأحناف من النقل، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفر الأوداج
بما شئت"، قال الزيلعي والعيني: "رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في
المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". انظر: نصب الراية 4/ 187؛
البناية 9/ 35، 36.
بالإضافة إلى دليل الشافعي رحمه الله تعالى الآتي.
(2) الحديث أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، بديل بن ورقاء الخزاعي، على جمل أورق يصبح في فجاج منى:
"ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ... ". وإسناده ضعيف كما قال البيهقي:
"وقد روي هذا من وجه ضعيف مرفوعا وليس بشيء". وأخرجه البيهقي موقوفا على
عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
انظر: سنن الدارقطني 4/ 283؛ السنن الكبرى 9/ 278.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 299؛ القدوري، ص 99؛ المبسوط 11/ 233؛ الهداية 9/ 81،
مع البناية.
(4) انظر: الأم 2/ 251؛ المهذب 1/ 253؛ التنبيه، ص 60؛ الوجيز 2/ 215؛ المنهاج، ص
143.
(5) سورة النحل: الآية 8.
(6) انظر الأدلة بالتفصيل: المبسوط 11/ 334؛ البناية 9/ 82 وما بعدها.
(1/517)
احتج الشافعي في المسألة؛ لأن الخيل قد
أكل في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) وفي زمان أصحابه، حتى أن عمر
رضي الله عنه مر على قرية فرأى أنهم يأكلون المهر، فسأل عن ذلك فقالوا: إنا نأكل
الفلوة (2)؛ لأن الساعة قريب، قال عمر رضي الله عنه: لا تفعلوا فإن في الأمر
تراخيا، فهذا دليل على أنه حلال (3).
مسألة: 377 - ما يحل للمضطر أن يأكل من الميتة
المضطر يحل له أن يأكل من الميتة، قدر سد الرمق، وقدر الشبع لا يحل عندنا (4)،
وعند الشافعي: يحل (5).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (6) أراد به أن يأكل
عند الضرورة من غير شبع (7).
__________
(1) ذلك بما أخرجه الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول - صلى الله
عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل"، ولفظ
البخاري: "ورخص في لحوم الخيل". وكذلك ما روي في الصحيح عن أسماء بنت
أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: "نحرنا على عهد رسول الله فرسا
فأكلناه".
البخاري، في الذبائح، باب لحوم الخيل (5519، 5520)، 9/ 648؛ مسلم، في الصيد
والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل (1941، 1942)، 3/ 1541؛ السنن الكبرى 9/ 326.
(2) الفلو: المهر يفصل عن أمه، والجمع: أفلاء، والفلوة: الأنثى.
انظر: المصباح، مادة: (فلو).
(3) لم أعثر على هذا الأثر ويغني ما ثبت في الصحيحين عن جواز أكل لحم الخيل عن
هذا.
(4) انظر: مختصر الطحاوي، ص 280؛ أحكام القرآن للجصاص 1/ 130.
(5) ما ذكره المؤلف عن الشافعي هو قول مرجوح لدى الشافعية، والراجح: أنه لا يجوز
له إلا قدر سد الرمق، إلا أن يخاف تلفا إن اقتصر عليه، قال النووي في المنهاج:
"وهو القول الأظهر". انظر: مختصر المزني، ص 286؛ المهذب 1/ 257؛
والتنبيه، ص 61؛ المنهاج، ص 143.
(6) سورة البقرة: آية 173.
(7) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/ 130.
(1/518)
احتج الشافعي في المسألة بقوله تعالى:
{فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} (1) فالله تعالى قد أباح أكله عند المخمصة
والمجاعة، ولم يبين الشبع وكيره (2).
__________
(1) سورة المائدة: آية 3.
(2) انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 41.
(1/519)
كتاب الأيمان (1)
[مسألة]: 378 - الكفارة في يمين الغموس
يمين الغموس، لا كفارة فيه [عندنا] (2) وعند الشافعي: يجب فيه الكفارة (3). وصورة
يمين الغموس: إذا حلف على شيء أنه فعل وهو يعلم أنه [لم] (4) يفعل، هذه صورة يمين
الغموس، وأما اليمين في المستقبل (5) فلا خلاف: أن فيه كفارة، وصورته: إذا قال:
والله لا أفعل كذا، فإن فعل يحنث وتلزمه الكفارة.
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خمس لا
كفارة فيهن: فذكر من جملتها يمين الغموس" (6).
__________
(1) سبق تعريف الأيمان في المسألة (298)، ص 427، كرر المؤلف هذا الكتاب مرتين،
وسبب ذلك: حيث وضع الكتاب الأول بعد الطلاق والظهار فتحدث فيه عما يتعلق بالعتق في
كفارة الظهار، وما يصلح للكفارة وما لا يصلح لها، وتحدث هنا عن اليمين: الذي هو القسم
وأنواعه، وكذلك النذر، فناسب وضعه هنا حيث ذكر بعد الأضحية والذبائح.
(2) وإنما فيه التوبة والاستغفار عند الأحناف.
انظر: القدوري، ص 100؛ المبسوط 8/ 127؛ تحفة الفقهاء 2/ 436؛ الهداية 5/ 158، مع
البناية.
(3) نطر: الأم 7/ 61؛ المهذب 2/ 129؛ الوجيز 3/ 223؛ الروضة 11/ 3؛ المنهاج، ص
144.
(4) وفي الأصل: (لا).
(5) أي: اليمين المنعقدة.
(6) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: "ويمين صابرة يقتطع بها مالا
بغير حق"، وقد سبق تخريجه في المسألة (342)، ص 477.
(1/520)
احتج الشافعي في المسألة، وقال: إن
الكفارة إنما شر [عت] لرفع الإثم ولمحو الذنب، لم أنا أجمعنا على أن الكفارة تجب
في المستقبل، [وهذا] دليل على إيجاب الكفارة في يمين الماضي (1).
مسألة: 379 - انعقاد يمين الإكراه
يمين الإكراه عندنا: ينعقد (2)، وعند الشافعي: لا ينعقد (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن هذا حر مخاطب، عقد يمينه بلسانه، فوجب أن تجب الكفارة،
كيمين الطائع (4).
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (5) فقد أخبر أن حكم
الإكراه مرفوع.
مسألة: 380 - انعقاد يمين الكافر
يمين الكافر، عندنا: لا ينعد [و] لا تلزمه الكفارة (6)، وعند الشافعي: ينعقد
وتلزمه الكفارة (7).
دليلنا في المسألة، وهو: أن حكم الكفارة تارة يكون بالمال، وتارة يكون بالصوم،
والصوم عبادة، والكافر ليس من أهل
__________
(1) واستدل الشافعي لمذهبه من النقل بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى في كفارة
الظهار: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} (المجادلة 2)، ثم جعل فيه الكفارة.
انظر بالتفصيل: الأم 7/ 61.
(2) انظر: القدوري، ص 100؛ المبسوط 24/ 105؛ الهداية 8/ 204، مع البناية.
(3) انظر: المهذب 2/ 129.
(4) راجع المبسوط 24/ 106.
(5) الحديث قد سبق تخريجه في المسألة (64)، ص 160.
(6) انظر: القدوري، ص 101؛ المبسوط 8/ 146.
(7) انظر: المهذب 2/ 129؛ التنبيه، ص 122.
(1/521)
العبادة، فلهذا قلنا: بأنه لا ينعقد
يمينه؛ لأنه ليس من أهل حكمه (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن اليمين تصرف في نفسه، فكان حكمه إيجاب الكفارة،
والكافر من أهله، كما قلنا: في سائر الأيمان (2).
مسألة: 381 - نذر صوم أيام النحر والتشريق
إذا نذر أن يصوم أيام النحر، وأيام التشريق، عندنا: ينعقد نذره (3)، وعند الشافعي:
لا ينعقد نذره (4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن هذا الرجل نذر أن يصوم في يوم، وذلك اليوم صالح للصوم
في الجملة، من حيث إن بياض النهار من أن يكون محلا صالحا للصوم، والنذر تصرف في
نفسه، فوجب أن يصح، ويصوم في يوم آخر، ويخرج عن عهدة النذر (5).
احتج الشافعي في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"ألا لا تصوموا في هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال" (6)
__________
(1) راجع: المبسوط 8/ 146.
(2) أساس الخلاف في المسألة هي القاعدة الأصولية: (خطاب الكفار بفروع الشرع)، وقد
سبق الكلام عنها بالتفصيل في المسألة (70)، ص 167، 168.
(3) وعلى الناذر "أن يفطر ما أوجب على نفسه من ذلك، ويقضي مثله من الأيام
التي يحل صومها، وعليه في قول أبي حنيفة كفارة يمين إن كان أراد يمينا".
انظر: مختصر الطحاوي، ص 324، 325؛ البدائع 6/ 2865.
(4) انظر: الأم 2/ 255؛ المهذب 1/ 249؛ المنهاج؛ ص 147؛ مغني المحتاج 4/ 356.
(5) انظر الأدلة بالتفصيل: البدائع 6/ 2865.
(6) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث نبيشة، وقد سبق تخريجه في المسألة (148)،
ص 258.
(1/522)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
الصوم في هذه الأيام، ولو صام يكون: معصية، والنذر بالمعاصي لا يجوز (1).
مسألة: 382 - النذر بذبح الولد
إذا نذر أن يذبح ولده، عندنا: ينعقد نذره، ويلزمه ذبح شاة (2)، وعند الشافعي: لا
يصح نذره ولا يلزمه شيء (3).
دليلنا في المسألة؛ لأن الناذر يخرج عن نذره حسب ما خرج المأمور عن أمره، .
والدليل عليه: قصة إبراهيم [عليه السلام] أمر بذبح الولد، فخرج منه بالفداء (4)،
فكذلك الناذر، وجب أن يخرج عن نذره بذبح الشاة، استدلالا بقصة إبراهيم عليه السلام
(5).
احتج الشافعي في المسألة: أنه نذر في معصية؛ لأن ذبح الولد معصية، والنذر بالمعاصي
لا ينعقد، كما لو نذر قتل ولده، فإنه لا يصح نذره، كذلك ها هنا (6).
__________
(1) استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وفاء لنذر في معصية الله،
ولا فيما لا يملك ابن آدم" وقد سبق تخريجه في المسألة (239)، ص 361.
(2) انظر: المبسوط 8/ 139؛ الاختيار 3/ 35.
(3) انظر: الأم 7/ 68؛ مغني المحتاج 4/ 371.
(4) وقصة إبراهيم كما ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {فبشرناه بغلام حليم
(101) فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك} إلى قوله:
{وفديناه بذبح عظيم}.
انظر: القصة سورة في سورة الصافات: آية 101 - 104.
(5) راجع: المبسوط 8/ 140، 141؛ الاختيار 3/ 35.
(6) واحتج الشافعي على عدم انعقاد نذر المعصية بإبطال الله تعالى النذر في البحيرة
والسائبة؛ لأنها معصية، وقال: "وكان فيه دلالة على أن من نذر معصية لله عز
وجل أن لا يفي، ولا كفارة عليه وبذلك جاءت السنة".
انظر بالتفصيل: الأم 7/ 68.
(1/523)
كتاب أدب القاضي (1)
[مسألة]: 383 - القضاء على الغائب
القضاء على الغائب لا يجوز عندنا (2)، وقال الشافعي: يجوز (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن القاضي إنما يقضي على الخصم، إما بالإقرار أو بالنكول
والغائب لا يدري إقراره ولا إنكاره ولا نكوله، فوجب أن لا يجوز القضاء عليه (4).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الحجة إذا ثبتت عند
__________
(1) أدب القاضي: وترجم له في أكثر الكتب بكتاب القضاء، والأدب: الخصال الحميدة.
والقضاء في اللغة: إحكام الشيء وإمضاؤه.
انظر: المصباح، مادة: (قضى). وقال ابن قتيبة: القضاء يجئ لمعان مختلفة، كلها تعود
إلى واحد، أصله: الحتم والفراغ عن الأمر، وبه يجري ألفاظ القرآن.
وفي الشرع عرفه الأحناف بأنه: فصل الخصومات، وقطع المنازعات على وجه خاص.
انظر: البناية 7/ 3؛ الدر المختار 5/ 352، مع حاشية ابن عابدين.
وعرفه الشافعية بأنه الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية، والحكم المترتب عليها،
أو إلزام من له، بحكم الشرع. "وسمي القضاء حكما، لما فيه من الحكمة التي توجب
الشيء في محله، لكونه يكف الظالم عن ظلمه".
انظر: مغني المحتاج 4/ 372؛ نهاية المحتاج 8/ 235.
(2) ولا يجوز القضاء على الغائب عند الأحناف "إلا أن يحضر من يقوم
مقامه".
انظر: القدوري، ص 110؛ المبسوط 17/ 39؛ الهداية 7/ 60، مع البناية.
(3) انظر: المهذب 2/ 304؛ المنهاج، ص 150؛ مغني المحتاج 4/ 406؛ نهاية المحتاج 8/
268.
(4) راجع: المراجع السابقة للأحناف.
(1/524)
القاضي، وجب على القاضي إحياء ذلك
الحق، والخصم إذا كان غائبا، يقدر القاضي إحياء ذلك الحق بالإلزام، فلا بد أن يكون
كتابا حكميا، وينقل حكمه إلى القاضي الذي كان الخصم عنده، بإيصال هذا المستحق إلى
حقه (1).
مسألة: 384 - القضاء في المساجد
يجوز القضاء والحكومة في المساجد عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يجوز (3).
دليلنا في المسألة: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمع
الخصومة، وهو في المسجد الحرام، وكذلك الصحابة بعده (4).
احتج الشافعي: بقول الله تعالى: {وأن المساجد لله
__________
(1) واستدل الشافعية لذلك: بعموم الأدلة، وبقضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما على
الغائب مع عدم وجود مخالف لهما من الصحابة رضوان الله عليهم.
انظر بالتفصيل: المهذب 2/ 304؛ مغني المحتاج 4/ 406.
(2) يجوز القضاء في المساجد عند الأحناف، مع عدم إقامة حد أو تعزير فيهما.
انظر: القدوري، ص 110؛ المبسوط 16/ 80، 107؛ الهداية 7/ 22، مع البناية.
(3) المقصود بعدم الجواز: الكراهة على القول الأصح.
انظر: الأم 6/ 198؛ المهذب 2/ 294؛ الوجيز 2/ 240؛ الروضة 11/ 138؛ المنهاج، ص
149.
(4) وثبت في فصل الخصومة في المسجد أحاديث، منها: ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد
في قصة اللعان: "أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ..
إلى أن قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد". وكذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه
أنه لاعن في المسجد عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه البخاري.
انظر: البخاري، في الطلاق، باب التلاعن في المسجد (5309)، 9/ 524؛ وفي كتاب
الأحكام، باب من قضى ولاعن في المسجد 13/ 154؛ مسلم، في اللعان (1492)، 2/ 1130؛
وراجع الأدلة بالتفصيل: البناية 7/ 23.
(1/525)
فلا تدعوا مع الله أحدا} (1) نهى أن
يدعى في المسجد لغير الله تعالى (2).
مسألة: 385 - قضاء المرأة
المرأة يجوز أن تكون قاضية، فيما تقبل شهادتها عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يجوز
(4).
دليلنا في المسألة، وهو: أن المرأة صلحت أن تكون شاهدة، فصلحت أن تكون قاضية؛ لأن
الشهادة تنفيذ القول على الغير، فكذلك القضاء تنفيذ القول على الغير، ثم رأينا أن
تنفيذ القول على الغير لجهة الشهادة يجوز، فكذلك الحكم (5).
احتج الشافعي [في المسألة]، وهو: أن المرأة ناقصة الحال، فلا تصلح أن تكون قاضية؛
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكن ناقصات العقل والدين" (6).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بين نقصان حالهن، ألا ترى أن في
__________
(1) سورة الجن: آية 18.
(2) وعلل الشربيني لعدم جواز القضاء في المساجد بقوله: "لأن مجلس القاضي لا
يخلو عن اللغط، وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار والحيض
والكفار والدواب، والمسجد يصان عن ذلك".
حيث روى مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - حين سمع من ينشد ضالته في المسجد: قال:
"لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له": مسلم، في المساجد ومواضع
الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد (569)، 1/ 397.
انظر بالتفصيل: المهذب 2/ 294؛ مغني المحتاج 4/ 390، 391.
(3) يجوز قضاؤها في كل شيء إلا الحدود والقصاص، باعتبار شهادتها.
انظر: القدوري، ص 110؛ الهداية 7/ 52، مع البناية.
(4) انظر: المهذب 2/ 291؛ الوجيز 2/ 237؛ الروضة 11/ 95؛ المنهاج، ص 148.
(5) المرأة أهل للشهادة في غير الحدود والقصاص، فصلحت أن تكون أهلا للقضاء في
غيرهما.
انظر بالتفصيل: الهداية 7/ 4 - 6، 52، 53، مع البناية.
(6) سبق تخريجه والكلام فيه في المسألة (36)، ص 130.
(1/526)
الشهادة أقيمت امرأتان مقام رجل واحد،
فما كان كذلك [إلا] (1) لنقصان حالها (2).
مسألة: 386 - التفحص في عدالة الشهود
التفحص في الشهادة، والبحث عن حقيقة العدالة، شرط في الحدود (3) دون الأموال عندنا
(4)، وعند الشافعي: في الحدود والأموال جميعا (5).
دليلنا في المسألة؛ لأنا لو شرطنا العدالة في جميع الخصومات، لتعذر على القاضي
القضاء، خصوصا في زماننا، فاكتفينا بظاهر العدالة في الأموال؛ لأن الأموال تثبت
بالشبهة، وشرطنا العدالة في الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهة، فشرطنا العدالة
احتياطا (6).
احتج الشافعي في المسألة: بقول الله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (7) أمر
بالشهادة بشرط العدالة، ولم يفصل بين الحدود والأموال، وهذا نص (8).
__________
(1) في الأصل: (أن).
(2) واستدل الشيرازي لعدم جواز تولية النساء القضاء بما أخرجه البخاري في صحيحه عن
أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لا بلغ النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة":
البخاري، في الفتن (7099)، 13/ 53؛ المهذب 2/ 291.
(3) كذلك في القصاص.
(4) وإنما يسأل عن حال الشهود فيما عدا الحدود والقصاص إذا طعن الخصم في عدالتهم.
انظر: القدوري، ص 107؛ المبسوط 16/ 88؛ الهداية 7/ 136، مع البناية.
(5) انظر: الأم 6/ 204، 205؛ المهذب 2/ 296.
(6) انظر الأدلة بالتفصيل: البناية مع الهداية 7/ 137، 138.
(7) سورة الطلاق: آية 2.
(8) انظر: أحكام القرآن للشافعي 2/ 143، 144؛ المهذب 2/ 296.
(1/527)
مسألة: 387 - نفوذ قضاء القاضي ظاهرا
أو باطنا
قضاء القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا عندنا (1)، وعند الشافعي: ينفذ ظاهرا لا باطنا (2).
بيان ذلك: أن المرأة إذا دعت الطلاق بين يدي القاضي، فجاءت بشاهدي زور، ففرق
القاضي بشهادتهما، ثم تزوجها رجل آخر، يكون حلالا له عندنا: ظاهرا وباطنا، وعند
الشافعي: يحل له ظاهرا، ويحل للأول باطنا.
دليلنا في المسألة: [ما] روي أن رجلا ادعى نكاح امرأة على عهد علي رضي الله عنه،
وأقام شاهدين فقضى بالمرأة له، فقالت المرأة: يا أمير المؤمنين: إن كان لا بد
فزوجني منه، ليس بيني وبينه نكاح، فقال علي رضي الله عنه: "شاهداك
زوجاك" (3). فجعل حكمه بعد إقامة الشهادة بالنكاح ظاهرا، وهذا في المذهب.
احتج الشافعي في المسألة، وقال: بأن قضاء القاضي مبني على الشهادة، فشهادة
[الشهود] (4) ها هنا قامت في الظاهر، [فوجب] (4) أن ينفذ حكمه في الظاهر على وفق
الشهادة، حتى يكون حكم القاضي موافقا للحجة (5).
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 350؛ المبسوط 16/ 180.
(2) انظر: مختصر المزني، ص 303؛ المنهاج، ص 149؛ الروضة 11/ 152، 153.
(3) ذكر الرخسي الأثر في المبسوط ولكني لم أعز عليه في كتب الأحاديث والآثار؛
المبسوط 16/ 180.
(4) زيدت لاستقامة العبارة.
(5) واستدل الشافعي من النقل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قضيت له من
حق أخيه بشيء، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". الحديث أخرجه
الشيخان من حديث أم سلمة رضي الله عنهما، وقد سبق تخريجه في المسألة (211)، ص 331.
(1/528)
مسألة: 388 - شهادة القابلة وحدها
شهادة القابلة، تقبل عندنا وحدها، ولا يشترط العدد (1)، وعند الشافعي: لا تقبل
(2).
دليلنا في المسألة، وهو: أن الولادة أمر لا يطلع عليها الرجال، فلا بد أن تقبل
شهادة المرأة؛ وهي: القابلة وحدها؛ لأنا لو قلنا: إنه لا تقبل شهادتها، تتعذر على
الناس إثبات الولادة إذا وقعت الخصومة (3).
احتج الشافعي في المسألة: بقول الله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}
(4) فجعل شهادة رجل بامرأتين في جميع الحكومات، ولم يفصل بين الأموال وغيرها (5).
مسألة: 389 - شهادة أهل الذمة فيما بينهم
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، تقبل عندنا (6)، وعند الشافعي: لا تقبل (7).
__________
(1) انظر: القدوري، ص 107، المبسوط 16/ 142؛ الهداية 7/ 130، مع البناية.
(2) الأمور التي لا يطلع عليها الرجال، لا تقبل فيها إلا شهادة رجل وامرأتين، أو
أربع نساء عدول، لدى الشافعية.
انظر: مختصر المزني، ص 304؛ المهذب 2/ 235؛ الوجيز 2/ 252؛ المنهاج، ص 153.
(3) استدل الأحناف لقبول شهادة القابلة وحدها بحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "أجاز شهادة القابلة". أخرجه الدارقطني في سننه
وقال: محمد بن عبد الملك لم يسمعه من الأعمش بينهما رجل مجهول، قال في التنقيح:
"هو حديث باطل ولا أصل له".
انظر: ما قيل في الحديث: سنن الدارقطني مع التعليق المغني 4/ 232، 233؛ السنن
الكبرى 10/ 151؛ نصب الراية 4/ 80. انظر: المبسوط 16/ 143.
(4) سورة البقرة: آية 282.
(5) انظر الدليل بالتفصيل: مختصر المزني، ص 304؛ المهذب 2/ 335.
(6) انظر: القدوري، ص 107؛ المبسوط 16/ 140؛ الهداية 7/ 182، مع البناية.
(7) انظر: الأم 6/ 233؛ المهذب 2/ 325؛ الوجيز 2/ 349؛ المنهاج، ص 153.
(1/529)
دليلنا في المسألة، وهو: أن الكافر من
أهل الولاية، فوجب أن يكون من أهل الشهادة، كالمسلم (1).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن الكافر فاسق، والفاسق ليس من أهل الشهادة، ألا
ترى أن الفاسق المسلم لا تقبل شهادته، فالكفر رأس الفسق، أولى أن لا تقبل شهادته
(2).
مسألة: 390 - شهادة أحد الزوجين على الآخر
شهادة أحد الزوجين، لا تقبل عندنا لصاحبه (3)، وعند الشافعي: تقبل (4).
دليلنا في المسألة: أنا أجمعنا أن شهادة الوالد لولده، أو الولد لوالده لا تقبل
(5)، وإنما لا تقبل؛ لأن شهادته لولده،
__________
(1) واستدل الأحناف لمذهبهم بما أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم
على بعض"، وفي الزوائد: "في إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف".
ابن ماجه، في الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض (2374)، 2/ 794. انظر
بالتفصيل: البناية 7/ 182، 183.
(2) واستدل الشافعية على عدم جواز شهادة أهل الذمة، بما روي عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقبل شهادة أهل دين على أهل
دين، إلا المسلمون، فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم". رواه البيهقي، بلفظ
آخر، وضعفه؛ لأنه عن عمر بن راشد، وهو ضعيف، "وقد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن
معين وغيرهما من أئمة أهل النقل".
انظر: السنن الكبرى (باب من رد شهادة أهل الذمة) 10/ 162، 163؛ تلخيص الحبير 4/
198.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 335؛ القدوري، ص 107؛ المبسوط 16/ 122؛ تحفة الفقهاء
3/ 625؛ الهداية 7/ 168، مع البناية.
(4) تقبل شهادة أحد الزوجين على الآخر في أظهر قولي الشافعي.
انظر: مختصر المزني، ص 310؛ المهذب 2/ 331؛ الوجيز 2/ 250؛ الروضة 11/ 237؛
المنهاج، ص 152.
(5) راجع: المصادر السابقة للمذهبين.
(1/530)
كشهادته لنفسه؛ لأن مال كل واحد منهما
مضاف إلى صاحبه، فصار متهما في الشهادة، وهذا المعنى موجود في الزوجين؛ لأن مال كل
واحد منهما مضاف إلى صاحبه، ألا ترى أن الزوج يسمى غنيا بمال المرأة، لقوله تعالى:
{ووجدك عائلا فأغنى} (1)، أي: أغناك بمال خديجة [رضي الله عنها] (2) فإذا ثبت هذا،
فنقول: بأن شهادته لصاحبه، كشهادته لنفسه، لما فيه من حد المنفعة، فأشبه الوالد،
والولد، والشريكين (3).
احتج الشافعي في المسألة، وقال: إن مال كل واحد من الزوجين مميز، فوجب أن تقبل
الشهادة، كشهادة الأخ للأخ (4).
مسألة: 391 - شهادة لاعب النرد والشطرنج
لا خلاف (5) بين العلماء: أن اللعب بالنرد (6)، يوجب رد
__________
(1) سورة الضحى: آية 8.
(2) انظر: كتاب مجموعة التفاسير: تفسير النسفي، الخازن، تنوير المقباس 6/ 529.
(3) استدل الأحناف من النقل بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا شهادة الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها،
ولا الزوج لامرأته ... ".
قال الزيلعي: "غريب لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ورواه
الخصاف في أدب القاضي، بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكره
الزيلعي، وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفهما من قول شريح.
انظر: مصنف عبد الرزاق 8/ 344؛ مصنف ابن أبي شيبة 7/ 204؛ نصب الراية 4/ 82؛
البناية 7/ 166، 167.
(4) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(5) نقل العيني الإجماع على تحريم النرد.
انظر: البناية 7/ 178، وكتب المذهبين الآتية.
(6) النرد: بفتح النون وسكون الراء - لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين، وتعرف عند
العامة: بالطاولة، وهو معرب من الفارسية.
انظر: المصباح، معجم الوسيط، مادة: (نرد).
(1/531)
الشهادة، ويأثم به. وأما اللعب
بالشطرنج (1) فيوجب رد الشهادة عندنا (2)، وعند الشافعي: لا ترد ولكن يأثم به إذا
كان فيه ثلاثة شرائط: أحدها: أن [لا] يجاوز الصلاة عن وقتها، والثاني: أن [لا]
يجري بينهما فحش، والثالث: [أن لا يكون] على مراهنة (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن علي رضي الله عنه، أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج،
فأعلى بالدرة، وقال: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} (4) وهذا نص.
__________
(1) الشطرنج - بالفتح، وقيل بالكسر، وهو المختار - وهو معرب من الهندية: لعبة تلعب
على رقعة ذات أربعة وستين مربعا، وثمل دولتين متحاربتين.
انظر: المصباح، معجم الوسيط، مادة: (الشطرنج).
(2) انظر: القدوري، ص 107؛ الهداية 7/ 177، مع البناية.
(3) لا يصح ما حكاه المؤلف عن الشافعية، إن تركت العبارة كما هي: بدون إضافة لا،
في الشروط الثلاثة، وكذلك لا يطابق المدلول مع الدليل الذي ذكره المؤلف للشافعية؛
لأنه إن اقترنت هذه الشروط في لاعب الشطرنج، فلا تقبل شهادته ويفسق، بلا خلاف بين
الشافعية، خلافا لما ذكره المؤلف.
قال الشيرازي في المهذب: "ويكره اللعب بالشطرنج". ثم ذكر بعض من كان
يلعب بالشطرنج وقال: "ومن لعب به من غير عوض، ولم يترك فرضا، ولا مروءة لم
ترد شهادته".
وأوضح منه ما ذكره النووي في الروضة: "اللعب بالشطرنج مكروه ... فإن اقترن به
قمار، أو فحش، أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا ردت شهادته بذلك المقارن".
وإنما تصح عبارة المؤلف، مع ما ذكرت، ومع دليله، بإضافة [لا] في الشروط الثلاثة،
كما أثبت ذلك، ولعله سقط سهوا من الناسخ، والله أعلم.
انظر بالتفصيل: الأم 6/ 208؛ المهذب 2/ 326؛ الروضة 11/ 225، 226.
ونص المخطوط: (وعند الشافعي: لا ترد، ولكن يأثم به، إذا كان فيه ثلاثة شرائط:
أحدهما: أن يجاوز الصلاة عن وقتها. والثاني: أن يجري بينهما فحش، والثالث: على
مراهنة).
(4) سورة الأنبياء: آية 52.
روى البيهقي هذا الأثر بألفاظ مختلفة، ولم يورد فيه: (فأعلى بالدرة) وإنما ذكر من
قول علي رضي الله عنه: "لأن يمس جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها".
انظر: السنن الكبرى 10/ 212؛ تفسير ابن كثير 5/ 342.
(1/532)
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن
النرد إنما صار حراما، لما فيه من القمار، كما جرت العادة، وأما الشطرنج إذا لم
يكن فيه قمار، ويكون مع ثلاثة شرائط التي ذكرنا، فوجب أن لا ترد شهادته، ولا يفسق
(1).
وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يلعب بالشطرنج، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي
الله عنهم (2).
__________
(1) ودليله هذا يطابق مع المدلول، إذا أثبتنا النفي في جميع الشروط.
(2) ذكر الشيرازي في المهذب: سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، من ضمن الذين روى
اللعب عنهم بالشطرنج، بيد أن البيهقي روى عن صالح بن أبي يزيد، قال: سألت ابن
المسيب عن الشطرنج، فقال: "هي باطل ولا يحب الله الباطل" وروى المزني عن
الشافعي: "بأن سعيد بن جبير كان يلعب بالشطرنج استدبارا".
انظر: مختصر المزني، ص 311؛ المهذب 2/ 326؛ السنن الكبرى 10/ 212.
انظر أحكام اللعب بالنرد والشطرنج بالتفصيل: في كتاب تحريم النرد والشطرنج
والملاهي، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: محمد سعيد عمر إدريس، الطبعة
الأولى 1402، الرياض: إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(1/533)
كتاب الدعوى (1)
[مسألة]: 392 - المقدم من بينة ذي اليد والخارج
الخارج وذو اليد إذا أقاما البينة في دعوى دار، فإن البينة بينة الخارج عندنا (2)،
وعند الشافعي: بينة ذي اليد أولى (3).
دليلنا في المسألة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (4)، فالنبي - صلى الله عليه
وسلم - جعل البينة: بينة المدعي، والخارج هو المدعي، وأما ذو اليد فلا يحتاج إلى
__________
(1) كان الأولى أن يعنون: بكتاب الدعوى والبينات، لاشتماله على بعض قضايا الشهود،
كما يأتي،
الدعوى لغة: الطلب والتمني، ومنه قوله تعالى: {ولهم ما يدعون} (يس 57)، وألفها
للتأنيث، وتجمع على دعاوي، بفتح الواو وكسرها.
انظر: المغرب، المصباح، مادة: (دعا).
وشرعا عرفها الأحناف والشافعية، بأنها: "أخبار بحق له على غيره عند
حاكم".
(2) انظر: مغني المحتاج 4/ 461؛ نهاية المحتاج 8/ 333؛ مجمع الأنهر 2/ 249.
(3) انظر: المبسوط 17/ 32؛ الهداية 7/ 403، مع البناية.
(4) انظر: الأم 6/ 235؛ التنبيه، ص 158؛ المنهاج، ص 156؛ نهاية المحتاج 8/ 362.
الحديث أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظه، وهو في الصحيحين
عنه بلفظ: "لكن اليمين على المدعى عليه".
انظر: البخاري، في تفسير سورة آل عمران، باب قوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد
الله وأيمانهم ثمنا قليلا} (4552)، 8/ 213؛ مسلم، في الأقضية، باب اليمين على
المدعى عليه (1711)، 3/ 1336؛ السنن الكبرى 10/ 252.
(1/534)
الحجة؛ لأن الظاهر يشهد له، وهوكون
الدار في يده؛ لأن اليد دليل الملك في الظاهر (1).
احتج الشافعي، في المسألة: أنهما لما أقاما البينة فقد استويا في الحجة، فاحتجنا
إلى الترجيح، والترجيح في جانب ذي اليد؛ لأنه ترجح حجته، بكون الدار في يده، فقبول
بينة ذي اليد أولى من بينة الخارج (2).
مسألة: 393 - القضاء بشاهد ويمين
لا يجوز القضاء بشاهد ويمين عندنا (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
دليلنا في المسألة: "ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمدعي:
"ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه" (5) جعل اليمين للمدعي على المدعى
عليه، وهذا نص في المذهب.
احتج الشافعي في المسألة: "بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] قضى
بشاهد ويمين" (6).
__________
(1) انظر: المبسوط 17/ 34؛ الهداية 7/ 404، مع البناية.
(2) راجع: الأم 6/ 235؛ نهاية المحتاج 8/ 362.
(3) انظر: مختصر الطحاوي، ص 333.
(4) انظر: الأم 6/ 256، 7/ 86؛ المهذب 2/ 335؛ المنهاج، ص 154.
(5) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
انظر الحديث بطوله: مسلم، في الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره
بالنار (139)، 1/ 123.
(6) حديث القضاء باليمين مع الشاهد، أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
مسلم، في الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد (1712)، 3/ 1337.
(1/535)
مسألة: 394 - شهادة المحدود في القذف
المحدود في القذف إذا تاب، لا تقبل شهادته عندنا (1)، وعند الشافعي: تقبل (2).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} (3) فالله
تعالى رد شهادته بلفظ التأبيد (4).
احتج الشافعي، في المسألة: بقوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا}
(5) فاستثنى التوبة، وهذا أدليل، على أنه [إن] (6) تاب تقبل.
__________
(1) انظر: مختصر الطحاوي، ص 332، القدوري، ص 107؛ المبسوط 16/ 125؛ الهداية 7/
164، مع البناية.
(2) انظر: الأم 7/ 89؛ المهذب 2/ 331؛ المنهاج، ص 153.
(3) سورة النور: آية 4.
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 273.
(5) سورة النور: آية 4، 5.
(6) زيدت في الموضعين لاستقامة سياق العبارة، في الأصل: "وهذا على أنه تاب
تقبل".
منشأ الخلاف بين المذهبين، مسألة أصولية، وهي: أن الاستثناء إذا تعاقب جملا
معطوفة، فهل يعود إلى جميعها، أم إلى الأخيرة فقط؟
فذهب الأحناف إلى أن الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور وهو: (الفسق) في الآية، ولهذا
لا تقبل شهادته، وقال المرغيناني: "إنه استثناء منقطع بمعنى لكن" وذهب
الشافعية: بأنه يعود إلى جميعها.
انظر بالتفصيل: تفسير القرطبي 12/ 180، 181؛ تفسير الكشاف 3/ 62؛ غرائب القرآن 18/
61؛ الهداية 7/ 165، مع البناية.
(1/536)
مسألة: 395 - القضاء بالنكول
القضاء بالنكول، لا يجوز في الدماء والحدود بلا خلاف (1)، وأما في غير الحدود
[يقضى] (2) بالنكول، عندنا (3)، وعند الشافعي: لا يقضى (4).
دليلنا في المسألة وهو: أنه لما نكل عن اليمين ثلاث مرات، فقد ظهر تعنته؛ لأن
اليمين حق المدعى، والنكول منع حقه، فيصير ظلما، فوجب على القاضي إزالة الظلم (5)،
ولا يمكن إلا أن يقضى عليه بالمال عند النكول (6).
احتج الشافعي؛ في المسألة، وقال: بأن النكول أمر متردد؛ لأنه يحتمل إنما نكل عن
اليمين تورعا، أو للتأني، فصار النكول حجة محتملة، فلا يجوز القضاء به، كما لو سكت
عند الدعوى ولم يجب، فإنه لا يقضي عليه بالسكوت، كذلك ها هنا (7).
مسألة: 396 - الحكم بالقافة
الحكم بالقافة، [بالشبه] (8) عندنا: باطل (9)، وعند الشافعي: جائز (10).
__________
(1) انظر: المراجع الآتية للمذهبين.
(2) زيدت ما بين القوسين، لاستقامة سياق العبارة، مع ما بعدها.
(3) انظر: القدوري، ص 111؛ المبسوط 17/ 34؛ الهداية 7/ 405، مع البناية.
(4) وعند الشافعية: لا يقضي بالنكول لمجرده، بل اليمين ترد على المدعي، فإذا خلف
قضي به.
انظر: الأم 7/ 38، 39؛ المهذب 2/ 319؛ المنهاج 8/ 347، مع نهاية المحتاج.
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 17/ 34؛ الهداية مع البناية 7/ 405 وما بعدها.
(6) وذلك لأن المال مبذول، ولا يجري البذل في الحدود والدماء.
(7) انظر بالتفصيل: الأم 7/ 38، 39.
(8) في الأصل: (بالشبهة).
(9) انظر: مختصر الطحاوي، ص 358.
(10) انظر: الأم 6/ 247.
(1/537)
دليلنا في المسألة، وهو: ما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "البينة على المدعي واليمين على من
أنكر" (1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحجة شيئين: البينة، واليمين،
فمن جعل الشبه حجة، فقد جعل بينهما ثالثا، وهذا لا يجوز.
احتج الشافعي في المسألة: "بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حكم
بقول القافة" (2).
__________
(1) الحديث: قد سبق تخريجه في مسألة (392)، ص 535.
(2) حديث القافة، أخرجه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تري أن
مجزرا المدلجي نظر إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد قد غطيا رؤوسهما بقطيفة وبدت
أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، وهذا تقرير منه - صلى الله
عليه وسلم - يفيد حكما شرعيا. وهو ما استدل له الشافعي.
البخاري، في الفرائض، باب القائف (6770، 6771)، 12/ 56؛ مسلم، في الرضاع، باب
العمل بإلحاق القائف الولد (1459)، 2/ 1082.
(1/538)
كتاب العتق (1)
[مسألة]: 397 - عتق الأخ إذا ملكه أخاه
الأخ إذا ملك أخاه، يعتق عليه عندنا (2)، وعند الشافعي: لا يعتق (3).
دليلنا في المسألة: "بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من ملك ذا رحم منه فهو حر" (4) وهذا نص.
__________
(1) العتق بمعنى الإعتاق، وهو لغة: مأخوذ من قولهم: عتق الفرس: إذا سبق وعتق الفرخ
إذا طار واستقل.
انظر: الصحاح، مادة: (عتق).
وشرعا هو: "إثبات الفعل المفضي إلى حصول العتق" وفصله الميداني بقوله:
"هو عبارة عن إسقاط المولى حقه عن مملوكه بوجه يصير المملوك به من
الأحرار". مجمع الأنهر 1/ 506؛ اللباب 3/ 111.
وعرفه الشربيني من الشافعية نحوه وهو: "إزالة الرق عن الآدمي". مغني
المحتاج 4/ 491.
(2) انظر: القدوري، ص 84؛ الهداية 5/ 31، مع البناية.
(3) انظر: الأم 8/ 14؛ المهذب 2/ 5؛ الوجيز 2/ 275 - 276؛ المنهاج 8/ 388، مع
نهاية المحتاج.
(4) الحديث أخرجه أصحاب السنن من حديث سمرة رضي الله عنه:
أبو داود، في العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم (3949)، وقال أبو داود: "ولم
يحدث ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شك فيه 11، 4/ 26؛ الترمذي، في الأحكام،
باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (1365)، وقال: "هذا حديث لا نعرفه مسندا إلا
من حديث حماد بن سلمة 31/ 646؛ ابن ماجه، في العتق، باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر
(2524)، 2/ 843. وللحديث طرق أخرى متكلم فيها.
انظر: نصب الراية 3/ 278، 280؛ التلخيص الحبير 4/ 212.
(1/539)
احتج الشافعي، في المسألة، وهو: أن
قرابة الأخوة تشبه القرابة البعيدة؛ لأن القرابة القريبة، كالوالدين إذا ملكهما
يعتق عليه، والقرابة البعيدة إذا ملكها لا تعتق، فبينا أن ننظر أن الأخ هل يشبه
القرابة القريبة أو البعيدة، لا شك أنه يشبه القرابة البعيدة، بدليل أنه تقبل
شهادة كل واحد منهما لصاحبه، كالأجنبي فإذا ملك صاحبه، وجب أن لا يعتق عليه،
كالقرابة البعيدة (1).
مسألة: 398 - عتق العبد المشترك
إذا كان عبد بين شريكين، فأعتق أحدهما نصيبه، عندنا: لا يسري إلى نصيب صاحبه في
الحال، ولكن يستسعى العبد، فيؤدي قيمته لصاحبه (2)، وقال الشافعي: ينفذ عتقه في
نصيبه ونصيب صاحبه في الرق (3).
دليلنا في المسألة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من
أعتق شقصا له من عبد، ضمن نصيب شريكه إن كان موسرا، ويستسعيه إن كان معسرا (4).
__________
(1) راجع: المصادر السابقة للشافعية.
(2) ذكر المؤلف المسألة بإجمال، وفيها تفصيل عند كلا المذهبين عل حسب عسر ويسر
الشريك المعتق، فعند الأحناف إن كان المعتق موسرا، شريكه بالخيار بين ثلاثة أشياء
وهي: إن شاء أعتق، وإن شاء ضمن شريكه قيمة نصيبه، وإن شاء استسعى العبد، وإن كان
المعتق معسرا فالشريك بالخيار بين شيئين: إن شاء أعتق، وإن شاء استسعى العبد.
انظر: القدوري، ص 84، 85؛ الهداية 5/ 49 - 51، مع البناية.
(3) وكذلك التفصيل عند الشافعية: فإن كان الشريك المعتق معسرا بقي الباقي لشريكه،
وإن كان موسرا سرى إليه، وقوم عليه نصيب شريكه وعتق.
انظر: الأم 7/ 197؛ المهذب 2/ 4؛ المنهاج، ص 158.
(4) الحديث: أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: "من أعتق شقصا له في عبد، فخلاصه في ماله إن كان له
مال، فإن لم يكن له مال، استسعى العبد غير مشقوق عليه".
البخاري، في العتق، باب من أعتق نصيبا من عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق
عليه (2527)، 5/ 156؛ مسلم، في العتق، باب ذكر سعاية البد (1503)، 2/ 1140.
(1/540)
احتج الشافعي في المسألة: بما روي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعتق شقصا من عبد بينه وبين
شريكه، عتق ما عتق ورق ما رق" (1) وهذا نص.
مسألة: 399 - إعتاق عبيد من لا مال له سواهم في مرض موته
رجل له ستة أعبد، ولا مال له غيره، وأعتق الكل في مرض موته، عندنا: يعتق من كل عبد
ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته (2)، وعند الشافعي: يقرع بينهم، فمن خرجت قرعته فهو حر
(3).
دليلنا في المسألة، وهو: أن تصرف المريض إنما يصح في ثلث المال، فلما أعتق الكل
فقد صح عتقه في ثلث كل واحد منهم؛ لأنه أثبت الحر [ية] لكل واحد منهم، فلابد أن
العتق إذا ثبت في البعض، فإنه لا يتجزأ، فوجب أن يخرج الكل إلى الحرية بالسعاية،
حتى لا يبطل حق الورثة في ثلثي العبد (4).
احتج الشافعي في المسألة: بأن قال: إن القرعة مستعملة، بدليل ما روي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يقرع بين نسائه إذا
__________
(1) الحديث كما رواه الشافعي في الأم، والبخاري ومسلم في صحيحهما، من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركا له
في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم،
وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وزاد الدارقطني: "ورق ما
بقي".
انظر: البخاري، في الشركة، باب الشركة في الرقيق (2503)، 5/ 137؛ مسلم، في العتق
(1501)، 2/ 1139؛ الدارقطني 4/ 1124؛ الأم 7/ 197.
(2) انظر: المبسوط 29/ 71؛ الهداية 10/ 487، مع البناية.
(3) انظر: الأم 8/ 5، 6؛ المهذب 2/ 7؛ الوجيز 2/ 273؛ المنهاج، ص 158؛ الروضة 12/
140 وما بعدها.
(4) راجع: المراجع السابقة للأحناف.
(1/541)
سافر" (1)، وهكذا العرف والعادة
قد جرت بأن يستعملوا القرعة في قسمة الأموال، فكذلك في العتق، وجب أن يستعمل (2).
مسألة: 400 - علق العتق بالولادة فأتت بولد ميت
إذا قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فأتت بولد ميت، ثم أتت بولد حي، عندنا:
يعتق هذا الثاني (3)، وعند الشافعي: لا يعتق، وينحل اليمين بالولد الأول وهو الولد
الميت (4).
دليلنا في المسألة وهو: أن هذا الرجل لما قال أول ولد تلدينه فهو حر، أثبت الحرية
في الولد، والميت لا يصح لإثبات الحرية فيه، فأثبتنا الحرية في الحي، بل في
التقدير، كأنه قال: أول ولد تلدينه حيا فهو حر (5).
احتج الشافعي [في المسألة]: بأن هذا الرجل علق إثبات الحرية بشرط أن يكون أولا،
وقد ولدت أولا وإن كان ميتا يسمى ولدا، فينحل اليمين بالولد الميت (6).
__________
(1) الحديث أخرجه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها:
انظر: البخاري، في النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرا (5211)، 9/ 310؛
مسلم، في فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله عنها (2445)، 4/ 1894.
(2) انظر بالتفصيل: الأم 8/ 6 وما بعدها.
(3) انظر: المبسوط 7/ 134.
(4) النكت (مخطوط)، ورقة (191/ أ).
(5) انظر بالتفصيل: المبسوط 7/ 135.
(6) راجع: المرجع السابق للشافعية.
(1/542)
كتاب المدبر (1)
[مسألة]: 401 - بيع المدبر المطلق
لا خلاف أن بيع المدبر المقيد يجوز (2)، واختلفنا في المدبر المطلق، هل يجوز بيعه؟
عندنا: لا يجوز (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
وصورة المدبر المطلق: إذا قال لعبده: إن مت فأنت حر، أو أنت حر بعد موتي، ثم احتاج
إلى بيعه وهو حي، لا يجوز عندنا (3)، وعند الشافعي: يجوز (4).
دليلنا في المسألة، [وهو]: إن قول المولى لعبده: أنت حر بعد
__________
(1) المدبر: اسم مفعول، من دبر تدبيرا، والدبر بضمتين: خلاف القبل في كل شيء ويقال
لآخر الأمر: دبر، ومنه دبر الرجل عبده تدبيرا، إذا أعتقه بعد موته؛ لأن الموت دبر
الحياة، وكذلك التدبير في الأمر: النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته.
انظر: مختار الصحاح، المصباح، مادة: (دبر).
وشرعا عرفه الفقهاء بأنه: "تعليق العتق بمطلق الموت".
انظر: مجمع الأنهر 1/ 531؛ مغني المحتاج 4/ 509.
(2) صورة المدبر المقيد: كان يقول المولى لعبده: "إن قتلت أو مت من مرضي هذا،
أو في سفري هذا، فأنت حر". الروضة 12/ 872؛ البناية 5/ 124.
(3) انظر: القدوري، ص 85؛ المبسوط 7/ 179؛ الهداية 5/ 124 مع البناية.
(4) انظر: المهذب 2/ 9؛ الروضة 12/ 194.
(1/543)
موتي، فقد انعقد سبب الحرية، فلا يجوز
بيعه كما قلنا: في أم الولد (1).
احتج الشافعي في المسألة: بأن قال: المعلق بالشرط قبل وجود الشرط بمنزلة العدم،
ألا ترى أنه لو قال لعبده: إن دخلت دارا فلان فأنت حر، فقبل أن يدخل الدار باعه،
فإنه يجوز، ولا يقال إنه انعقد له سبب الحرية؛ لأنه معلق بالشرط فجعلناه كالعدم
(2).
__________
(1) واستدل الأحناف لمذهبهم من النقل بما أخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عمر رضي
الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المدبر لا يباع ولا يوهب
وهو حر من الثلث". قال الدارقطني: "لم يسنده غير عبيدة بن حسان، وهو
ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر موقوف من قوله". سنن الدارقطني 4/ 138.
انظر بالتفصيل: المبسوط 7/ 179؛ البناية 5/ 124 وما بعدها.
(2) واحتج الشافعي على جواز بيع المدبر المطلق، بما أخرجه الشيخان: عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما: (أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا له، ولم يكن له مال غيره
فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد
الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه):
البخاري، في كفارات الأيمان، باب عتق المدبر .. (6716)، 11/ 600؛ مسلم، في
الأيمان، باب جواز بيع المدبر (997)، 3/ 1289.
(1/544)
كتاب المكاتب (1)
[مسألة]: 402 - كتابة العبد في الحال
كتابة الحال، عندنا: جائزة (2)، وعند الشافعي: بالمؤجل (3).
دليلنا في المسألة: قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} (4) فالله تعالى
جوز الكتابة ولم يفصل، بين الحال والمؤجل، فهو على العموم (5).
احتج الشافعي في المسألة: بقول الله تعالى: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} (6) أي:
لا يملك شيئا؛ لأن العبد لا يملك وإن
__________
(1) المكاتب: اسم مفعول، من كاتب مكاتبة، والكتابة: بكسر الكاف على الأشهر وقيل:
بفتحها، وهي لغة: الضم والجمع؛ لأن فيها ضم نجم إلى نجم، والكاتب: "هو العبد
يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق".
انظر: المغرب، مختار الصحاح، الصباح، مادة: (كتب).
وشرعا: عرفه الأحناف بأنه: "تحرير المملوك يدا حالا، ورقبة مآلا".
وعرفه الشافعية بأنه: "عقد عتق بلفظها بعوض منجم بنجمتين فأكثر".
الدر المختار 6/ 98؛ مغني المحتاج 4/ 516.
(2) انظر: القدوري، ص 86؛ المبسوط 8/ 3؛ تحفة الفقهاء 2/ 416؛ الهداية 5/ 108، مع
البناية.
(3) انظر: الأم 8/ 43، 47؛ المهذب 2/ 11؛ الوجيز 2/ 284؛ الروضة 12/ 211؛ المنهاج،
ص 160.
(4) سورة النور: آية 33.
(5) انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 324؛ تفسير الكشاف 3/ 75؛ المبسوط 8/ 3.
(6) سورة النحل: آية 75.
(1/545)
ملك؛ لأن العبد ما في يده لمولاه، فلو
قلنا: إنه تجوز كتابة الحال، يكون العبد مشتريا نفسه بمال السيد، وهذا لا يجوز
(1).
وصورة المكاتب: أن يقول لعبده: كاتبتك على أن تؤدي إلي عشرة دنانير، أو قال: إذا
أديت إلي ألفا فأنت حر.
مسألة: 403 - إذا مات المكاتب وترك مالا يوفى به بدل الكتابة
إذا مات المكاتب وعنده مال وفاء لبدل الكتابة، فإنه يحكم بحريته في آخر جزء من
أجزاء حياته، ويؤدي بدل الكتابة من تركته، ويحكم بحريته وحرية أولاده، [عندنا]
(2)، وعند الشافعي: لا يحكم بحريته، ويموت رقيقا، والمال للسيد (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أنه إذا كان عنده وفاء، يؤدي هذا المال ويحكم بحريته
ليحصل مقصوده بالكتابة؛ لأن فائدة عقد الكتابة بعد أداء البدل حريته وحرية أولاده،
فحكمنا: بأنه حر في آخر جزء من أجزاء حياته، ليعتق أولاده، فيحصل المقصود للمولى
ببدل الكتابة، حتى يكون مراعى من الجانبين (4).
__________
(1) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/ 244؛ تفسير القرطبي 10/ 147؛
تفسير البيضاوي 1/ 564.
(2) انظر: القدوري، ص 87؛ المبسوط 7/ 216؛ تحفة الفقهاء 2/ 419.
(3) انظر: الأم 8/ 84؛ المهذب 2/ 16؛ المنهاج 8/ 420، مع نهاية المحتاج.
(4) راجع: المصادر السابقة للأحناف.
لم يذكر المؤلف دليل الشافعي كعادته، ودليله من أقوال الصحابة، كما ذكره في الأم:
"بأن المكاتب إذا مات موسرا فماله لسيده"، وقال: هذا قول: زيد بن ثابت
رضى الله عنه وعمرو بن دينار رحمه الله تعالى، وبه نأخذ.
انظر بالتفصيل: الأم 8/ 84.
(1/546)
مسألة: 404 - الإيتاء من مال الكتابة
الإيتاء (1)، من مال الكتابة، عندنا: غير واجب (2)، وعند الشافعي: واجب (3).
دليلنا في المسألة، أن نقول: إن الكتابة عقد معاوضة، وجب أن لا يجب الإيتاء،
دليله: البيع، أو نقول: إنا إذا أوجبنا الإيتاء في مال الكتابة يؤدي إلى التناقض؛
لأن السيد يكون مطالبا من وجه ومطالبا من وجه: مطالبا في حق العبد لأجل الإيتاء،
ومطالبا في حق نفسه من العبد (4).
احتج الشافعي في المسألة، وهو: أن المولى لما قال له: لو أديت إلى ألف فأنت حر،
علق عتقه بالأداء، والأداء هو الإيتاء، وجب أن يكون الإيتاء شرطا، كما لو علق عتقه
بفعل آخر: نحو الدخول وغيره، فإنه لا يتعلق ما لم يوجد ذلك الشرط، كذلك ها هنا
(5).
تمت رءوس المسائل بحمد الله، وحسن توفيقه.
__________
(1) الإيتاء: "وهو أن يضع [المكاتب] جزءا من المال أو يدفع إليه جزءا من
المال لقوله عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (النور 33).
المهذب 2/ 15.
(2) انظر: مختصر الطحاوي، ص 384؛ المبسوط 7/ 206.
(3) انظر: الأم 8/ 33؛ المهذب 2/ 15؛ الروضة 12/ 248.
(4) واستدل الأحناف لعدم وجوب الإيتاء بقولهم: بأن المراد من الأمر في الآية:
{وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} للندب.
انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 322؛ المبسوط 7/ 206، 207.
(5) واحتج الشافعية على الوجوب: بأن الأمر في الآية، للوجوب، وأيدوا ذلك بتفسير
بعض الصحابة.
انظر بالتفصيل: الأم 8/ 33، 34؛ المهذب 2/ 5.
(1/547)
وقع الفراغ في شهر الله الأصم رجب في
آخر الظهر، في سنة ست وسبعين وخمسمائة من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
صاحبه شبلي بن عبد الرحمن بن جندر بن أيوب غفر الله لهم أجمعين.
وصلى الله على محمد وآله
(1/548)
(1) [مسألة ملحقة في آخر النسخة] (1): 405
- اختلاف الزوجين في متاع البيت
إذا اختلف الزوجان في متاع البيت، يقضى بالصلاح: إن كان من آلة الرجال فيقضى له،
وإن كان من آلة النساء فيقضى لها بغير بينة، [عندنا] (2)، وقال الشافعي: لا يقضى
إلا بشهادة عدل (3).
دليلنا في المسألة، وهو: أنا لو شرطنا الشهادة لتعذر على الناس؛ لأن كل إنسان إذا
اشترى شيئا من متاع البيت لا يقدر أن يشهد على ذلك شاهدين، وكذلك المرأة، فجعلنا
الصلاحية تحكم بينهما بالعرف (4).
احتج الشافعي في المسألة بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (5) فجعل الحجة شيئين:
__________
(1) هاتان المسألتان ذكرتا بعد إشعار الناسخ بانتهائه من نسخ الكتاب، ثم أن
المسألة الثانية منهما تختلف وأسلوب المؤلف، وكذلك لم يعنون لهما ب (مسألة) كما
جرت عادته في الكتاب، مما يشعر على أن المسألتين مقحمتان في الكتاب، والله أعلم.
فلذا استحسنت إبقاءهما في المكان الذي وضعهما لناسخ.
(2) "وما يصلح لهما، كالآنية فهو للرجل؛ لأن المرأة وما في يدها من يد
الزوج". مختصر الطحاوي، ص 228؛ الهداية 7/ 463، 464، مع البناية.
(3) فإن لم يكن لهما بينة حلفا وجعل الجميع بينها نصفين، كما ذكره الشيرازي في
المهذب.
انظر: الأم 7/ 15؛ المهذب 2/ 318.
(4) جعل الحكم بالصلاحية، "لأن الظاهر شاهد له، وفي الدعاوي القول: قول من
يشهد له الظاهر.
انظر: الهداية 7/ 464، مع البناية.
(5) قد سبق تخريجه في المسألة (392)، ص 535.
(1/549)
البينة واليمين، فمن جعل الصلاحية حجة،
فقد جعل بينهما ثالثا، وهذا لا يجوز (1).
[مسألة ملحقة] (2): 406 - الرجوع في الهبة
قال أبو حنيفة إذا وهب الرجل لأجنبي هبة، فإنه يثبت له حق الرجوع (2)، وقال
الشافعي: لا يثبت له حق الرجوع (3).
وعلى عكسه: إذا وهب الوالد لولده هبة، فإنه لا يثبت له حق الرجوع عندنا (4)، وعند
الشافعي: يثبت له حق الرجوع (5).
إن الموهوب له إذا عوضه، فإنه لا يثبت له حق الرجوع، وكذلك إذا وهب لذي رحم محرم،
فإنه لا يثبت له حق الرجوع؛ وكذلك إذا وهب أحد الزوجين لصاحبه، فإنه لايثبت له حق
الرجوع (6).
[تمت]
__________
(1) وعلل الشيرازي التقسيم بينهما نصفين، لكونه "في يدهما فجعل بينهما، كما
لو تداعيا الدار التي يسكنان فيها". المهذب 2/ 318.
(2) انظر: القدوري، ص 65؛ المبسوط 12/ 53؛ الهداية 7/ 827، مع البناية.
(3) الأم 4/ 61؛ مختصر المزني، ص 134؛ المهذب 1/ 454؛ المنهاج، ص 82.
(4) المبسوط 12/ 54، 55.
(5) ونقل ابن قدامة "الاتفاق على أن ما وهبه الإنسان لذوي رحمه المحرم غير
ولد ولا رجوع فيه وكذلك ما وهب الزوج لامرأته".
انظر: المغني 6/ 297 وما بعدها، مع الشرح الكبير، الحرشي على مختصر سيدي خليل 7/
114 وما بعدها. مع كتب المذهبين السابقة.
(6) والمسألة مجردة عن الأدلة، واستدل الأحناف لجواز الرجوع في هبة الأجنبي بما
رواه ابن ماجه، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها".
وقال صاحب الزوائد: "في إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف".
ابن ماجه، =
(1/550)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
__________
= في الهبات، باب من وهب هبة رجاء ثوابها (2387)، 2/ 798.
انظر بالتفصيل: نصب الراية 4/ 125؛ البناية 7/ 829.
واستدل الشافعية لعدم جواز الرجوع في الهبة إلا الوالد لولده، بقوله - صلى الله
عليه وسلم - "لا يحل لرجل أن يعطى عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد
فيما يعطي ولده ... ". أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر وابن عباس رضي
الله عنهم.
أبو داود، في البيوع، باب الرجوع في الهبة (3539)، 1/ 293؛ الترمذي في البيوع، باب
ما جاء في الرجوع في الهبة (1298)، 3/ 592؛ النسائي، في الهبة، باب رجوع الوالد
فيما يعطي ولده 4/ 266؛ ابن ماجة، في الهبات، باب من أعطي ولده ثم رجع فيه (2377)،
2/ 795.
(1/551)
فهرس مصادر التحقيق
- إبراهيم مصطفى، وآخرون:
معجم الوسيط، 2 ج، مصر: مطبعة مصر، 1380 هـ.
- ابن أبي شيبة، عبد الله بن عمد بن إبراهيم الكوفي العبسي (م 253 هـ):
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، 15 ج، تحقيق: عامر العمري الأعظمي، بومباي:
الدار السلفية.
- ابن الأثير، أبو الحسن على بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني الجزري (م 635
هـ):
(أ) الكامل في التاريخ، 9 ج، الطبعة الثانية، 1387 هـ، تصوير بيروت: دار الكتاب
العربي.
(ب) اللباب في تهذيب الأنساب، 3 ج، بيروت: دار صادر، 1400 هـ.
- ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (م 606 هـ):
جامع الأصول في أحاديث الرسول، 11 ج، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، بيروت: دار
البيان، 1389 هـ.
- ابن الأنباري، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد (م 577 هـ):
نزهة الألباء في طبقات الأدباء، الطبعة الثانية، تحقيق: د. إبراهيم السامرائي،
بغداد: مكتبة الأندلس، 1970 م.
- ابن بدران، عبد القادر بن أحمد بن مصطفى الحنبلي الدمشقي (م 1346 هـ):
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مصر: إدارة الطباعة المنيرية.
- ابن جزي، محمد بن أحمد الغرناطي (م 741 هـ):
(أ) كتاب التسهيل لعلوم التنزيل، 4 ج، تحقيق: محمد عبد المنعم، إبراهيم عطوة،
القاهرة: دار الكتب الحديثة.
(ب) القوانين الفقهية، طبعة جديدة، بيروت: دار العلم للملايين، 1974 م.
- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (م 597 هـ):
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 10 ج، الطبعة الأولى. حيدر آباد دكن: دائرة
المعارف العثمانية، 1359 هـ.
(1/582)
- ابن حزم، أبو محمد على بن أحمد بن
سعيد الأندلسي الظاهري (456 هـ):
(أ) الفصل في الملل والأهواء والنحل، (وبهامشه، كتاب الملل للشهرستاني) 5 ج،
مصورة. بغداد: مكتبة المثنى.
(ب) المحلى، 11 ج، طبعة مصححة ومقابلة، بيروت: المكتب التجاري.
- ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق السلمي النيسابوري (م 311 هـ):
صحيح ابن خزيمة، 4 ج، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي.
- ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (م 681 هـ):
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، 8 ج، تحقيق: د. إحسان عباس، بيروت: دار صادر،
1398 هـ.
- ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد القرطبي (م 595 هـ):
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، 2 ج، مصر: مصطفى الحلبي، 1379 هـ.
- ابن الرفعة، أبو العباس نجم الدين الأنصاري (م 710 هـ):
الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، تحقيق: د. محمد أحمد إسماعيل
الخاروف، دمشق: دار الفكر، 1400 هـ.
- ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (م 642 هـ):
مقدمة ابن الصلاح، في علوم الحديث، دمشق: دار الحكمة، 1392 هـ.
- ابن عابدين، محمد أمين، (م 1258 هـ):
حاشية رد المحتار على الدر المختار، شرح تنوير الأبصار، 6 ج، الطبعة الثانية، مصر:
شركة مصطفى الحلبي، 1386 هـ.
- ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، (م 463 هـ):
جامع بيان العلم وفضله، الطبعة الثانية، المدينة المنورة: مكتبة السلفية، 1388 هـ.
- ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي، (م 542 هـ):
أحكام القرآن، 4 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: على محمد البجاوي، الطبعة الأولى، مصر:
شركة عيسى الحلبي، 1376 هـ.
- ابن فارس، أبو الحسين أحمد، (م 395 هـ):
معجم مقاييس اللغة، 6 ج، الطبعة الثانية، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مصر:
مصطفى الحلبي، 1389 هـ.
- ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد، (م 620 هـ):
الغني على مختصر الخرقي، 10 ج، تحقيق: محمود عبد الوهاب فايد وغيره، القاهرة:
مكتبة القاهرة.
(1/583)
- ابن قطلوبغا، أبو العدل زين الدين
قاسم، (م 879 هـ):
تاج الراجم في طبقات الحنفية، بغداد: مكتبة المثنى، 1962 م.
- ابن القنفذ، أحمد، (م 809 هـ):
شرف الطالب في أسنى المطالب، مع مجموعة (ألف سنة من الوفيات)، تحقيق: محمد حجي، الرباط:
دار المغرب، 1396 هـ.
- ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، (م 751 هـ):
(أ) زاد المعاد في هدي خير العباد، 4 ج، مصر: شركة مصطفى الحلبي، 1390 هـ.
(ب) أعلام الموقعين عن رب العالمين، 4 ج، طبعة جديدة، القاهرة: مكتبة الكليات
الأزهرية، 1388 هـ.
- ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر (م 774 هـ):
(أ) تفسير القرآن العظيم، 8 ج، تحقيق: عبد العزيز غنيم وآخرون، مصر: دار الشعب،
1397 هـ.
(ب) السيرة النبوية، 4 ج، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، مصر: عيسى الحلبي، 1384 هـ.
- ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، (م 275 هـ):
سنن ابن ماجة، 2 ج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مصر: عيسى الحلبي، 1372 هـ.
- ابن المنذر، أبو بكر بن عمد بن إبراهيم النيسابوري، (م 318 هـ):
الإجماع، الطبعة الأولى، تحقيق: أبو حماد صغير أحمد، الرياض: دار طيبة، 1402 هـ.
- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم (م 711 هـ):
لسان العرب، 15 ج، تصوير بيروت: دار صادر، دار بيروت، 1388 هـ.
- ابن النجار، محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي (م 972 هـ):
شرح الكوكب المنير، 4 ج، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مكة المكرمة: مركز
البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، دمشق: دار الفكر، 1400 هـ.
- ابن نجيم، زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد، (م 1252 هـ):
(أ) الأشباه والنظائر، مصر: مطبعة وادي النيل، 1298 هـ.
(ب) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، 10 ج، الطبعة الثانية، تصوير بيروت: دار
المعرفة.
- ابن هبيرة، عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد، (م 560 هـ):
الإفصاح عن معاني الصحاح، 2 ج، الرياض: المؤسسة السعودية.
(1/584)
- ابن هشام، أبو محمد عبد الملك، (م
218 هـ):
السيرة النبوية، 4 ج، الطبعة الثانية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرون، مصر: مصطفى
الحلبي، 1375 هـ.
- ابن هشام الأنصاري، أبو محمد عبد جمال الدين (م 761 هـ):
قطر الندى وبل الصدى، الطبعة الحادية عشرة، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد،
مصر: السعادة، 1383 هـ.
- ابن الهمام، كمال الدين محمد بن عبد السيواسي السكندري، (م 861 هـ):
(أ) التحرير في أصول الفقه الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية. (مع شرح تيسير
التحرير، لأمير بادشاه) مصر: مصطفى الحلبي، 1350 هـ.
(ب) شرح فتح القدير، (مع شرح العناية، للبابرتي)، 10 ج، الطبعة الأولى، مصر: مصطفى
الحلبي، 1389 هـ.
- أبو داود الطيالسي، سليمان بن داود، (204 هـ):
مسند الطيالسي، (منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود)، الطبعة الأولى،
تعليق أحمد عبد الرحمن البنا، القاهرة: المطبعة المنيرية، 1372 هـ.
- أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث الأزدي (275):
سنن أبي داود، 4 ج، تعليق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة: دار إحياء السنة
النبوية.
- أبو زهرة، محمد:
محاضرات في تاريخ المذاهب الفقهية، جمعية الدراسات الإسلامية، 1961 م.
- أبو سليمان، د. عبد الوهاب إبراهيم:
كتابة البحث العلمي، الطبعة الأولى، جدة: دار الشروق، 1400 هـ.
- أبو غدة، عبد الفتاح:
العلماء العزاب، الطبعة الثانية، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، 1403 هـ.
- أبو الفداء، الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل، (م 732 هـ):
تاريخ أبي الفداء (المختصر في أخبار البشر)، مصورة بيروت: دار المعرفة.
- أبو الوفاء، محيي الدين أبو محمد عبد القادر القرشي، (م 775 هـ):
الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية، الطبعة الأولى، حيدر آباد دكن: دائرة المعارف
العثمانية، 1332 هـ.
(1/585)
- أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم
الأنصاري، (م 182 هـ):
(أ) اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، الطبعة الأولى، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني،
مصر: مطبعة الوفاء، 357 اهـ.
(ب) كتاب الآثار، تعليق: أبي الوفاء الأفغاني، بيروت: دار الكتب العلمية.
(ج) كتاب الخراج، الطبعة الرابعة، القاهرة: المطبعة السلفية، 1392 هـ. أحمد أمين:
ظهر الإسلام، 3 ج، الطبعة الثانية، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة، 1365 هـ. أحمد
بن حنبل:
مسند الإمام أحمد بن حنبل، 6 ج، تصوير بيروت: المكتب الإسلامي، دار صادر.
- أحمد على، محمد إبراهيم:
(أ) المذهب عند الشافعية، مجلة جامعة الملك عبد العزيز، العدد الثاني، عام 1398
هـ.
(ب) المذهب عند الحنفية: مكة المكرمة، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي،
جامعة أم القرى.
- الأسنوي، جمال الدين عبد الرحمن، (م 772 هـ):
نهاية السول (مع شرح البدخشي)، 3 ج، مصر: محمد على صبح.
- الأصفهاني، عماد الدين محمد بن محمد بن حامد، (م 597 هـ):
كتاب تاريخ دولة آل سلجوق. (اختصار البنداري الأصفهاني)، مصر: مطبعة الموسوعات،
1318 هـ.
- الأفغاني، عبد الحكيم:
كشف الحقائق شرح كنز الدقائق، (بهامشه شرح متن الوقاية)، 2 ج، الطبعة الأولى، مصر:
المطبعة الأدبية، 1318 هـ ـ.
- الآمدي، سيف الدين أبو الحسن على بن أبي على، (م 631 هـ):
الأحكام في أصول الأحكام، 3 ج، الفبعة الأولى، بيروت: دار الفكر، 1401 هـ.
- أمير بادشاه، محمد أمين بن محمود البخاري (حوالي م 987 هـ):
تيسير التحرير على كتاب التحرير، 4 ج، مصر: مصطفى الحلبي، 1350 هـ.
- الأنصاري، عبد العلي محمد نظام الدين:
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، (مع المستصفى للغزالي)، الطبعة الأولى، مصر:
الأميرية بولاق، 1322 هـ.
(1/586)
- البابرتي، أكمل الدين محمد بن محمود؛
(م 786 هـ):
شرح العناية على الهداية، (مع شرح فح القدير)، الطبعة الأولى، مصر: مصطفى الحلبي،
1389 هـ.
- البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجحفي، (م 256 هـ):
الجامع الصحيح البخاري، (مع شرح فتح الباري)، القاهرة: المكتبة السلفية.
- البخاري، علاء الدين عبد العزيز أحمد، (م 730 هـ):
كشف الأسرار عن أصول البزدوي، تصوير، بيروت: دار الكتاب العربي، 1394 هـ.
- بروكلمان، كارل:
تاريخ الأدب العربي، 5 ج، تقريب: د. رمضان عبد التواب، وآخر، مصر: دار المعارف،
- البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء، (م 516 هـ):
شرح السنة، 16 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، محمد زهير الشاويش،
بيروت: الكتب الإسلامي، 1390 هـ.
- البناني، عبد الرحمن بن جاد الله المالكي، (م 1198 هـ):
حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، 2 ج، الطبعة الثانية، مصر:
مصطفى الحلبي، 1356 هـ.
- البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، (م 1046 هـ):
كشاف القناع عن متن الإقناع، 6 ج، الرياض: مكتبة النصر الحديثة.
- البيانوني، محمد أبو الفتح:
دراسات في الاختلافات الفقهية، الطبعة الأولى، حلب: مكتبة الهدى، 1395 هـ.
- اليضاوي، أبو سعيد عبد الله بن عمر الشافعي، (م 685 هـ):
(أ) أنوار التنزيل - وأسرار التأويل، (مع مجموعة التفاسير)، 6 ج، الطبعة الأولى،
مصر: دار الطباعة العامرة، 1319 هـ.
(ب) منهاج الوصول في علم الأصول، (مع شرح الأسنوي والبدخشي)، 3 ج.
- البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، (م 458 هـ):
(أ) السنن الكبرى، 10 ج، الطبعة الأولى، حيدر آباد دكن: دائرة المعارف النظامية،
1344 هـ.
(ب) معرفة السنن والآثار، 1 ج، تحقيق: السيد أحمد صقر، مصر: المجلس الأعلى للشؤون
الإسلامية.
(1/587)
(ج) مختصر الخلافيات (ميكروفلم)، مركز البحث
العلمي، بكلية الشريعة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، (فقه مقارن - 321)، مصورة من
مكتبة شستربتي (3189).
- التركي، د. عبد الله عبد المحسن:
أسباب اختلاف الفقهاء، الطبعة الثانية، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، 1397 هـ.
- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، (م 279 هـ):
الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، 5 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وآخرون،
مصر: مصطفى الحلبي، 1356 هـ.
- الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، (م 429 هـ):
يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، 4 ج، تحقيق: عمد محيي الدين عبد الحميد، مصر:
مطبعة السعادة، 1377 هـ.
- الجرجاني، الشريف على بن محمد بن علي، (م 816 هـ):
التعريفات، مصر: مصطفى الحلبي، 1357 هـ.
- الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي الرازي، (م 370 هـ):
أحكام القرآن، 3 ج، مصورة بيروت: دار الكتاب العربي.
- الجوهري، إسماعيل بن حماد الفارابي، (م 393 هـ):
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 6 ج، الطبعة الثانية، تحقيق: أحمد عبد الغفور
عطار، بيروت، 1402 هـ.
- الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، (م 478 هـ):
البرهان في أصول الفقه، 2 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، قطر:
مطابع الدوحة الحديثة، 1399 هـ.
- حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله القسطنطيني، (م 1067 هـ):
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، 2 ج، استانبول: المطبعة البهية، 1360 هـ.
- الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، (م 405 هـ):
المستدرك على الصحيحين في الحديث، 4 ج، الرياض: مكتبة النصر الحديثة.
- الحجوي، محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي، (م 1376 هـ):
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2 ج، الطبعة الأولى، تعليق: عبد العزيز
القاري، المدينة المنورة: المكتبة العلمية، 1396 هـ.
- حسن، حسن إبراهيم:
تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، 4 ج، الطبعة الأولى، مصر:
النهضة المصرية، 1967 م.
(1/588)
- الحسيني، أبو بكر بن هداية الله، (م
1014 هـ):
طبقات الشافعية، الطبعة الأولى، بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1971 م.
- الحصكفي، محمد علاء الدين بن علي، (م 1088 هـ):
(أ) الدر المختار شرح تنوير الأبصار، 2 ج، مصر: دار الطباعة العامرة، 1277 هـ.
(ب) الدر المنتقى في شرح الملتقى (مع مجمع الأنهر في شرح الملتقى)، 2 ج، تركيا:
معارف نظارات جليلة، 1319 هـ.
- الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد الرعيني، (م 954 هـ):
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، ليبيا: طرابلس، مكتبة النجاح.
- الحوفي، د. أحمد محمد:
الزمخشري، الطبعة الأولى، مصر: دار الفكر العربي، 1966 م.
- الخازن، علاء الدين على بن محمد بن إبراهيم البغدادي، (م 725 هـ):
لباب التأويل في معاني التنزيل، (مع مجموعة التفاسير)، 6 ج، الطبعة الأولى، مصر:
دار الطباعة العامرة، 1319 هـ.
- الخرشي، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي، (م 1101 هـ):
حاشية الخرشي على مختصر خليل (مع حاشية العدوي)، 8 ج، تصوير بيروت: دار صادر.
- الخزرجي، صفي الدين أحمد بن عبد الله الأنصاري، (م 923 هـ):
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، حلب: مكتبة المطبوعات الإسلامية.
- الخضري، محمد الخضري بك:
(أ) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية)، الطبعة الرابعة، القاهرة:
مكتبة التجارية الكبرى، 1353 هـ.
(ب) تاريخ التشريع الإسلامي، الطبعة التاسعة، مصر، المكتبة التجارية الكبرى، 1390
هـ.
- الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم، (م 388 هـ):
معالم السنن، (مع مختصر سنن أبي داود)، 8 ج، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة:
مكتبة أنصار السنة المحمدية.
- الدارقطني، على بن عمر، (م 385 هـ):
سنن الدارقطني (مع التعليق المغني على الدارقطني) 4 ج، تصحيح وترقيم: السيد عبد
الله هاشم اليماني، القاهرة: دار المحاسن للطباعة.
(1/589)
- داماد أفندي، عبد الرحمن بن محمد بن
سليمان:
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، 2 ج، تركيا: معارف نظارات جليلة، 1318 هـ.
- الدبوسي، عبيد الله بن عمر الحنفي، (م 430 هـ):
تأسيس النظر، مصر: زكريا على يوسف.
- الدردير، أحمد بن محمد بن أحمد، (م 1201 هـ):
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، 5 ج، مصر: المعاهد الأزهرية،
1386 هـ.
- الدهلوي، شاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي، (م 1176 هـ):
الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الأحكام الفقهية، الطبعة الثانية، القاهرة:
المطبعة السلفية، 1398 هـ.
- الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر، (م 660 هـ):
مختار الصحاح، القاهرة: الأميرية بولاق، 1357 هـ.
- الرملي، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة (م 1004 هـ):
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 8 ج، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي، 1386 هـ.
- الزركلي، خير الدين، (م 1396 هـ):
الأعلام، (قاموس تراجم)، 8 ج، الطبعة الخامسة، بيروت: دار العلم للملايين، 1980 م.
- الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، (م 538 هـ):
(أ) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، 4 ج، الطبعة
الأولى، مصر: مكتبة التجارية الكبرى، 1354 هـ.
(ب) شرح مقامات الزمخشري.
(ج) أساس البلاغة، مصر: دار الكتب، 1972 م.
- الزنجاني، أبو المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد، (م 656 هـ):
تخريج الفروع على الأصول، تحقيق: د. محمد أديب الصالح، دمشق: جامعة دمشق، 1382 هـ.
- الزيلعي: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي، (م 762 هـ):
نصب الراية لأحاديث الهداية، 4 ج، الطبعة الأولى، مصر: دار المأمون، 1357 هـ.
- الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي الحنفي، (م 743 هـ):
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، 6 ج، تصوير الطبعة الأولى، بيروت: دار المعرفة،
1313 هـ.
(1/590)
- السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن
علي، (م 771 هـ):
(أ) طبقات الشافعية الكبرى، 10 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: محمود الطناحي، عبد
الفتاح محمد الحلو، مصر: عيسى الحلبي، 1383 هـ.
(ب) متن جمع الجوامع (مع حاشية البناني على شرح المحلي)، 2 ج، الطبعة الثانية،
مصر: مصطفى الحلبي، 1356 هـ.
- السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن:
المقاصد الحسنة، مصر، بغداد: الخانجي، المثنى، 1375 هـ.
- السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، (م 490 هـ)، وقيل غير ذلك:
(أ) أصول السرخسي، 3 ج، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، مصر: دار الكتاب العربي، 1372
هـ.
(ب) شرح كتاب السير الكبير (للشيباني)، 5 ج، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد.
(ج) المبسوط، 30 ج، تصوير الطبعة الثانية، بيروت: دار المعرفة.
- السمرقندي، أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، (م 373 هـ):
خزانة الفقه وعيون المسائل، 2 ج، تحقيق: د. صلاح الدين الناهي، بغداد: شركة الطبع،
1385 هـ.
- السمرقندي، علاء الدين، (م 552 هـ):
تحفة الفقهاء، 3 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد زكي عبد البر، دمشق: جامعة دمشق،
1377 هـ.
- السمعاني، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي، (م 562 هـ):
الأنساب، الطبعة الأولى، حيد أباد دكن: دائرة المعارف العثمانية، 1386 هـ.
- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، (م 911 هـ):
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى
الحلبي، 1378 هـ.
(أ) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 2 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد أبو
الفضل، مصر: عيسى الحلبي، 1384 هـ.
(ب) تدريب الراوي في شرح تقريب النووي، 2 ج، الطبعة الثانية؛ تحقيق: عبد الوهاب
عبد اللطيف، مصر: دار الكتب الحديثة، 1385 هـ.
(ج) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، الطبعة الرابعة، مصر: مصطفى الحلبي.
(د) طبقات المفسرين، طهران: 1960 م.
(1/591)
- الشاشي، سيف الدين أبو بكر محمد بن
أحمد القفال، (م 507 هـ):
حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، الطبعة الأولى، تحقيق: د. ياسين أحمد
إبراهيم دراكة، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1400 هـ.
- الشافعي، الإمام محمد بن إدريس، (م 204 هـ):
(أ) أحكام القرآن، 2 ج، (جمع الإمام البيهقي)، تقديم الكوثري، تحقيق: عبد الغني
عبد الخالق، تصوير بيروت: دار الكتب العلمية، 1395 هـ.
(ب) الأم، 8 ج، تصوير بيروت: دار المعرفة.
- الشربيني، محمد بن أحمد الخطيب، (م 977 هـ):
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 4 ج، مصر: مصطفى الحلبي، 1377 هـ.
- الشرنبلالي، حسن بن عمار على، (م 1069 هـ):
مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي، 1366 هـ.
- الشرواني، عبد الحميد:
حاشية على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، (لابن حجر الهيثمي)، 10 ج، تصوير بيروت: دار
صادر.
- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، (م 1250 هـ):
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، 8 ج، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي.
- الشيباني، أبو عبد الله محمد بن الحسن (م 189 هـ):
(أ) كتاب الأصل، 4 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر أباد دكن:
دائرة المعارف العثمانية، 1386 هـ.
(ب) الجامع الكبير، الطبعة الأولى، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، مصر: مطبعة
الاستقامة، 1356 هـ.
(ج) كتاب الحجة عل أهل المدينة، 4 ج، تحقيق: السيد مهدي حسن الكيلاني، تصوير
بيروت: عالم الكتب.
- الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي، (م 476 هـ):
(أ) التبصرة في أصول الفقه، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دمشق: دار الفكر، 1400 هـ.
(ب) التنبيه: الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي، 1370 هـ.
(ج) اللمع، مصر: مصطفى الحلبي.
(د) المهذب في فقه الإمام الشافعي، 2 ج، الطبعة الثانية، مصر: مصطفى الحلبي، 1379
هـ.
(هـ) كتاب النكت (ميكروفلم)، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم
القرى، (فقه عام 143)، مصورة عن مكتبة أحمد الثالث، بتركيا، 1154.
(1/592)
- الشيرازي، مرتضى آية الله زادة:
الزمخثشي لغويا ومفسرا، القاهرة: دار الثقافة، 1977 م.
- الصاوي، مصطفى الجويني:
منهج الزمخشري في تفسير القرآن، مصر.
- الصنعاني، محمد بن إسماعيل الكحلاني، (م 1182 هـ):
سبل السلام شرح بلوغ المرام، 4 ج، الطبعة الرابعة، مصر: مصطفى الحلبي، 1379 هـ.
- طاش كبري زادة، أحمد بن مصطفى، (م 968 هـ):
مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، 3 ج، تحقيق: كامل بكري، عبد
الوهاب أبو النور، مصر: دار الكتب الحديثة.
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، (م 310 هـ):
(أ) كتاب اختلاف الفقهاء، الطبعة الثانية، تصحيح: د. دريدريك، تصوير بيروت: دار
الكتب العلمية.
(ب) تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري)، 10 ج، الطبعة الثانية، تحقيق: محمد أبو
الفضل إبراهيم، مصر: دار المعارف.
(ج) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، 3 ج، الطبعة الثالثة، مصر:
مصطفى الحلبي، 1388 هـ.
- الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الحنفي، (م 321 هـ):
(أ) اختلاف الفقهاء، تحقيق: د. محمد صغير المعصومي، إسلام أباد: معهد البحوث
الإسلامية، 1391 هـ.
(ب) شرح معاني الآثار، 4 ج، تحقيق: محمد زهري النجار، تصوير بيروت: دار الكتب
العلمية.
(ج) مختصر الطحاوي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة: دار الكتاب العربي، 1370
هـ.
- الطحطاوي، السيد أحمد، (م 31 هـ):
حاشية الطحطاوي على الدر المختار، 4 ج، تصوير بيروت: دار المعرفة، 1395 هـ.
- الطرابلسي، علاء الدين أبو الحسن على بن خليل الحنفي، (م 844 هـ):
معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، الطبعة الثانية، مصر: مصطفى
الحلبي، 1393 هـ.
- عبد الباقي، محمد فؤاد:
مفتاح كنوز السنة، لاهور: سهيل أكيديمي، 1391 هـ.
(1/593)
- عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن
همام الصنعاني، (م 211 هـ):
المصنف، 11 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: دار القلم، 1392
هـ.
- العثماني، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي:
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي، 1386 هـ.
- العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي، (م 852 هـ):
(أ) بلوغ المرام، لاهور: سهيل أكيديمي.
(ب) الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2 ج، المدينة المنورة، السيد عبد الله هاشم
اليماني.
(ج) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 14 ج، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، مصر:
المكتبة السلفية.
(د) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، 4 ج، المدينة المنورة: السيد
عبد الله هاشم اليماني، 1384 هـ.
- العطار، حسن بن محمد بن محمود، (م 1250 هـ):
حاشية العطار على شرح الجلال الحلي على جمع الجوامع، 2 ج، الطبعة الأولى، مصر:
المطبعة العلمية، 1316 هـ.
- العيني، بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد (م 855 هـ):
(أ) البناية في شرح الهداية، 10 ج، الطبعة الأولى، بيروت: دار الفكر، 1400 هـ.
(ب) كشف القناع المزني عن مبهمات الأسامي والكنى، (ميكروفلم)، بمركز البحث العلمي،
جامعة أم القرى، بمكة المكرمة (965).
- الغزالي، محمد بن محمد، (م 505 هـ):
(أ) شفاء الغليل، تحقيق: د. حمد الكبيسي، بغداد: مطبعة الإرشاد، 1390 هـ.
(ب) المستصفى من علم الأصول، (مع فواتح الرحموت)، 2 ج، الطبعة الأولى، مصر:
الأميرية بولاق، 1322 هـ.
(ج) الوجيز في فقه المذهب الإمام الشافعي، 2 ج، مصر: مطبعة الآداب، 1317 هـ.
- الفاسي، تقي الدين محمد بن أحمد الحسني المكي، (م 832 هـ):
العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تحقيق: فؤاد سيد، القاهرة، 1387 هـ.
- الفيروز آبادي، أبو طاهر محمد بن يعقوب، (م 817 هـ):
(أ) تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (بهامش مجموعة من التفاسير)، الطبعة الأولى،
مصر: دار الطباعة العامرة، 1319 هـ.
(ب) القاموس المحيط، 4 ج، الطبعة الثانية، مصر: المكتبة الحسينية، 1344 هـ.
(1/594)
- الفيومي، أحمد بن محمد بن علي
المقري، (م 770 هـ):
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، مصر: مصطفى الحلبي.
- القاري، نور الدين على بن محمد بن سلطان، الشهور (بالملا) (م 1014 هـ):
(أ) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، المعروف (بالموضوعات الكبرى)، تحقيق:
محمد الصباغ: بيروت: مؤسسة الرسالة، 1391 هـ.
(ب) فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، حلب: مكتب
المطبوعات الإسلامية.
(ج) المسلك المتقسط في المنسك المتوسط على كتاب المناسك، (مع حاشية إرشاد الساري،
لحسين بن محمد سعيد المكي الحنفي)، تصوير بيروت: دار الفكر.
- القاضي، عبد الجبار بن أحمد، (م 415 هـ):
شرح الأصول الخمسة، تعليق: أحمد بن الحسين بن أبي هاشم؛ الطبعة الأولى، تحقيق: د.
عبد الكريم عثمان، مصر: مكتبة وهبة، 1384 هـ.
- القدوري، أبو الحسين أحمد بن محمد البغدادي، (م 428 هـ):
متن القدوري، في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، الطبعة الثانية، مصر: مصطفى
الحلبي، 1377 هـ.
- القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس:
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، الطبعة الأولى. تحقيق: طه عبد
الرؤوف، مصر: مكتبة الكليات الأزهرية، 1393 هـ.
- القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، (م 671 هـ):
الجامع لأحكام القرآن، 20 ج، الطبعة الثالثة، القاهرة: دار القلم، 1386 هـ.
- القفطي، جمال الدين أبو الحسن على بن يوسف، (م 646 هـ):
إنباه الرواة على أنباء النحاة، المطبعة الأولى، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم،
القاهرة: دار الكتب المصرية، 1374 هـ.
- قليوبي، شهاب الدين:
حاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج، 2 ج، مصر: عيسى الحلبي.
- القيرواني، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، (386 هـ):
رسالة ابن أبي زيد القبراوني، (مع الثمر الداني في تقريب المعاني)، مصر: عيسى
الحلبي.
- الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، (م 587 هـ):
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 10 ج، مصر: زكريا على يوسف.
(1/595)
- كحالة، عمر رضا:
معجم المؤلفين، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- الكناني، أبو الحسن على بن محمد (م 963 هـ):
تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، 2 ج، تحقيق: عبد الله بن
الصديق الغماري، بيروت: دار الكتب العلمية.
- الكيا الهراسي، عماد الدين محمد الطبراني، (م 504 هـ):
أحكام القرآن، 4 ج، بيروت: دار الكتب العلمية.
- اللكنوي، أبو الحسنات محمد عبد الحي الهندي، (م 1304 هـ):
الفوائد البهية في تراجم الحنفية، بيروت: دار المعرفة.
- لويس، الأب لويس معلوف اليسوعي:
المنجد، الطبعة التاسعة، بيروت: مطبعة الكاثوليكية، 1937 م.
- مالك بن أنس، (179 هـ):
(أ) المدونة الكبرى، 6 ج، بيروت: دار صادر.
(ب) الموطأ، 2 ج، تخريج وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، مصر: عيسى الحلبي.
- المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد، (م 864 هـ):
(أ) شرح المحلي على متن جمع الجوامع (مع حاشية العطار)، الطبعة الثانية، مصر:
مصطفى الحلبي، 1356 هـ.
(ب) شرح المحلي على منهاج الطالبين، (مع حاشيتي قليوبي وعميرة)، 4 ج، مصر: عيسى
الحلبي.
- المرتضى، أحمد بن يحيى بن المرتضى:
كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، حيدر آباد دكن: دائرة المعارف
النظامية، 1316 هـ.
- المرغيناني: أبو الحسن على بن أبي بكر بن عبد الجليل الراشداني، (م 593 هـ):
الهداية شرح بداية المبتدي، 4 ج، الطبعة الأخيرة، مصر: مصطفى الحلبي.
- المزني، أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى، (64 هـ):
مختصر المزني، (ملحق بالأم)، تصوير: بيروت، دار المعرفة.
- مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (م 261 هـ):
صحيح مسلم، 5 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مصر: عيسى الحلبي،
1374 هـ.
- المطرزي، أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي، (م 610 هـ):
المغرب في ترتيب المعرب، بيروت: دار الكتاب العربي.
(1/596)
- المقدسي، أبو عبد الله محمد بن أحمد
البشاري، (م 375 هـ):
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ليدن: مطبعة بريل، 1906 م.
- المناوي، محمد عبد الرؤوف بن تاج الدين، (م 1031 هـ):
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، 6 ج، الطبعة الأولى، مصر: المكتبة التجارية
الكبرى، 1356 هـ.
- المنذري، عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، (م 656 هـ):
مختصر سنن أبي داود، (مع معالم السنن). تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة: مكتبة
السنة الحمدية.
- الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود الحنفي، (م 683 هـ):
الاختيار شرح المختار، الطبعة الأولى، مصر: مصطفى الحلبي، 1355 هـ.
- الميداني، عبد الغني الغنيمي الدمشقي، (م 1298 هـ):
اللباب في شرح الكتاب، 4 ج، تحقيق: محمود أمين النواوي، بيروت: دار الحديث.
- النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي، (م 303 هـ).
سنن النسائي، (مع شرح السيوطي، وحاشية السندي)، 8 ج، تصوير بيروت: دار الكتاب
العربي.
- النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود، (م 701 هـ):
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 4 ج، مصر: عيسى الحلبي.
- النسفي، نجم الدين بن حفص، (م 537 هـ):
طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية، تصوير، بغداد: مكتبة المثنى.
- نظام، الشيخ نظام، وجماعة من علماء الهند:
الفتاوي الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، 6 ج، صورة الطبعة
الثالثة، تركيا: المكتبة الإسلامية، 1393 هـ.
- النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف الشافعي، (م 676 هـ):
(أ) تهذيب الأسماء واللغات، 4 ج، تصوير بيروت: دار الكتب العلمية.
(ب) روضة الطالبين، 12 ج، بيروت: المكتب الإسلامي.
(ج) الجموع شرح المهذب، 9 ج، مصر: زكريا على يوسف.
(د) منهاج الطالبين وعمدة المفتين، (بهامشه) منهج الطلاب للأنصاري، مصر: مصطفى
الحلبي، 1388 هـ.
(1/597)
- النيسابوري، نظام الدين الحسن بن
محمد بن الحسين القمي، (م 727 هـ):
غرائب القرآن ورغائب الفرقان، 3 ج، الطبعة الأولى، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، مصر:
مصطفى الحلبي، 1381 هـ.
- الهندي، علاء الدين على بن المتقي بن حسام الدين البرهان فوري، (م 975 هـ):
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، 16 ج، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399 هـ.
- الهيثمي، نور الدين على بن أبي بكر، (م 807 هـ):
(أ) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 10 ج، الطبعة الثانية، بيروت: دار الكتاب، 1967
م.
(ب) موارد الظمآن إلى زوائد - ابن حبان، تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة، بيروت: دار
الكتب العلمية.
- الواقدي، محمد بن عمر، (م 207 هـ):
كتاب المغازي، 3 ج، تحقيق: د. مارسدن جونس، بيروت: عالم الكتب.
- ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي، (م
626 هـ):
(أ) معجم البلدان، بيروت: دار الكتاب العربي.
(ب) معجم الأدباء، 20 ج، مصر: مطبعة دار المأمون.
سيرة
الزمخشري ونبذة عن كتابه رؤوس المسائل نقلاً عن مقدمة التحقيق
المصدر: كتاب: رؤوس المسائل «المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية»
المؤلف: جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467 هـ - 538 هـ)
دراسة وتحقيق: عبد الله نذير أحمد
رؤوس المسائل
«المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية»
تأليف
العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
(467 هـ - 538 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله نذير أحمد
(1/)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/2)
رؤوس المسائل
(1/3)
حقوق
الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1407 هـ - 1987 م
دار البشائر الإسلامية
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14
(1/4)
الإهداء
أهدي رسالتي هذه إلى من أرضعاني بحب الشرع
وغرسا في محبة العلم والمعرفة:
* والدي العزيز، تغمده الله برحمته، وأنزل عليه
سحائب الرضوان، وأسكنه في فسيح جناته.
* والوالدة الحنونة، التي ما فتئت تدعو لي بالتوفيق
والسداد، أمدها الله بالعمر المديد.
ابنكم عبد الله
(1/5)
بسم
الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام
على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فلما كان علم الفقه من أجل العلوم حث الله عز وجل عليه في قوله: {فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون} (1)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: "من يرد الله به خيرا يفقهه
في الدين" (2). وكان من عظيم امتنان الله سبحانه وتعالى علي أن وفقني لمواصلة
دراستي الشرعية عامة والفقهية بخاصة.
ولما عزمت العمل في هذا الفن بدأت البحث عن كتاب في الفقه بعامة، وفي علم الخلاف
بخاصة، جدير بأن يجد طريقه إلى أيدي الدارسين وينفض عنه غبار السنين، فساقتني
عناية المولى عز وجل إلى العثور على كتب عديدة في تراثنا الفقهي، كلها جديرة بأن
تكون موضع اهتمام الباحثين.
ووقع اختياري من بينها على كتاب "رءوس المسائل" للإمام جار الله محمود
بن عمر الزمخشري (467 - 538 هـ).
__________
(1) سورة التوبة: آية 122.
(2) أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: البخاري، في فرض
الخمس، باب قوله تعالى: {فأن لله خمسه}، (3116)، 6/ 217؛ مسلم، في الإمارة، باب
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "،
(1037)، 3/ 1524.
(1/7)
وكان
مما زاد تعلقي بهذا الكتاب: اهتمام الدارسين والباحثين في الوقت الحاضر بفقه
الخلاف، حيث الاتجاه العام إلى التجديد الفقهي، والخروج بآراء تتناسب والعصر
الحديث.
ومن ثم وجدت في هذا الكتاب ضالتي التي أنشدها، فهو يشتمل على أهم مسائل الخلاف بين
المذهبين: الحنفي والشافعي، ويعرض المسائل الفقهية عرضا واضحا مبسطا، وفي أسلوب
علمي مستقيم، يميزه عن كثير من الكتب في هذا المجال العلمي، كما لا يفوته في منهج
العرض إيراد الأدلة بإيجاز لكلا المذهبين، في أمانة وإنصاف.
وضاعف من هذه الرغبة لدي المكانة العلمية التي يحتلها مؤلفه في تراثنا اللغوي، حيث
شهرته وتميزه، غير أنه لم يعرف عنه في الأوساط العلمية الآن شيئا عن نفقهه أو
إفراده لهذا العلم بمصنفات.
بدأت العمل وسرت في طريق لم تخل من العقبات والصعوبات، كان من أهمها: عدم عثوري
على نسخة أخرى للكتاب، في فهارس المكتبات العالمية، العربية منها والأجنبية،
الموجودة في المكتبة المركزية بجامعة أم القرى وغيرها.
والمشتغلون بالتحقيق يدركون مدى صعوبة العمل على نسخة واحدة، وبخاصة إذا لم تخل في
بعض الأحيان من السقطات في الجمل، بالإضافة إلى الأخطاء الإملائية والنحوية
الكثيرة، التي كثيرا ما تخل بالمعنى. كما أن المؤلف لم ينوه بذكر مصادر كتابه
كلية، ولم يذكر أيضا أسماء رواة الحديث، مما جعلني أعاني مشقة عظيمة في الوقوف على
مصادره، وأخيرا تغلبت على هذه العقبة باعتماد الكتب الفقهية المعتمدة المؤلفة قبل
عصر الزمخشري، وكتب المعاصرين له، التي كانت متداولة بين أيدي الدارسين للفقه
الحنفي والشافعي حينذاك، وجعلها مصادر لكتابه؛ لأن غالب الظن أن المؤلف استمد مادة
كتابه من هذه المصادر.
ورغم كل ما لاقيته من صعوبات، وطنت العزم على المضي في العمل مستعينا بالله عز
وجل، ثم مسترشدا بآراء وتوجيهات أستاذي الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو
سليمان، التي كان لها الأثر الكبير في إنجاز هذا العمل على هذه الصورة.
(1/8)
وقد
قسمت العمل في هذه الرسالة إلى قسمين رئيسيين:
قسم الدراسة، وقسم التحقيق.
أما قسم الدراسة فقد جعلته على ثلاثة فصول:
* الفصل الأول: تحدثت فيه عن عصر المؤلف فتضمن العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية بعامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* الفصل الثاني: تحدثت فيه عن حياة المؤلف، فتضمن العناصر التالية:
- نسبه ومولده.
- عقيدته.
- أسرته.
- مذهبه الفقهي.
- نشأته ومراحل حياته.
- الزمخشري فقيها.
- شيوخه.
- أخلاقه.
- تلامذته.
- وفاته.
- مؤلفاته.
- ثناء العلماء عليه.
* الفصل الثالث: تحدثت فيه عن كتاب "رءوس المسائل" موضوع الرسالة، وقد
تضمن العناصر التالية:
- عنوان الكتاب.
- منهج المؤلف في الكتاب.
- نسبة الكتاب لمؤلفه.
- مصادر الكتاب.
- أهمية الكتاب.
- نقد الكتاب.
- موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها.
- الكتب المؤلفة في علم الخلاف.
وأما قسم التحقيق فقد جعلت له مقدمة، تحدثت فيها عن النسخة المخطوطة الوحيدة،
شارحا منهجي في تحقيق الكتاب.
يتلخص هذا المنهج في النقاط التالية:
- كتابة النص حسب قواعد الإملاء المتعارف عليها في الوقت الحاضر.
- تخريج الآيات القرآنية، بتعيين السورة التي ذكرت فيها، ورقمها بين آياتها.
(1/9)
-
تخريج الأحاديث النبوية الشريفة، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين رضوان الله
عليهم.
- عزو آراء المذاهب إلى أصحابها، وتوثيقها من مصادر المذهب المعتمدة.
- بيان معاني الألفاظ الغريبة، والمصطلحات الفقهية والأصولية.
- وضع عناوين جانبية لكل مسألة من مسائل الكتاب، وترقيمها، وتسجيل أرقام أوراق
النسخة المخطوطة على الهامش، لسهولة العودة إلى الأصل.
- وضع فهارس فنية مفصلة للمسائل الفقهية، والآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة.
ولما كانت نصوص الكتاب خالية من أسماء الأعلام في أكثر الأحيان، لم أجد موجبا لوضع
فهرسة خاصة بها.
وبعد، فهذا واحد من كتب التراث الفقهي المغمورة، يجد طريقه إلى النور، وقد بذلت
غاية الجهد في إخراجه بصورة علمية تتناسب ومكانته. فإن أصبت فمن الله عز وجل
وتوفيقه، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم، وأبرأ إلى الله تعالى
من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته، ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، وبصرني
بأخطائي، وأسال الله سبحانه وتعالى أن يتقبله مني، ويجعله خالصا لوجهه الكريم،
وينفعني به في الدارين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
أجمعين.
* * *
(1/10)
قسم
الدراسة
ويشتمل على:
• الفصل الأول: عصر الزمخشري.
• الفصل الثاني: حياة المؤلف.
• الفصل الثالث: كتاب رءوس المسائل.
(1/11)
الفصل
الأول:
عصر الزمخشري
ويشتمل على العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية العامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* * *
الحالة السياسية في عصر الزمخشري
(467 - 538 هـ)
عاش الزمخشري في فترة أفول شمس الخلافة العباسية وضعفها، حتى إنه لم يبق من
الخلافة إلا اسمها.
عاصر الزمخشري من الخلفاء العباسيين:
1 - عبد الله المقتدي بالله بن محمد بن القائم (467 - 487 هـ).
2 - أحمد المستظهر بالله بن المقتدي (487 - 512 هـ).
3 - الفضل المسترشد بالله بن المستظهر (512 - 529 هـ).
4 - المنصور الراشد بالله بن المسترشد (529 - 529 هـ).
5 - محمد المقتفي بالله بن المستظهر (529 - 555 هـ) (1).
__________
(1) انظر بالتفصيل: خلفاء الدولة العباسية، من السابع والعشرين إلى الحادي
والثلاثين. خضري بك، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، الدولة العباسية، ص 427 -
450؛ حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، 4/ 35.
(1/13)
وكانت
نتيجة هذا الضعف والتفكك ظهور دويلات إسلامية متعددة، ففي بغداد عاصمة الخلافة
العباسية، تعاقب في الاستيلاء على النفوذ والسلطات في الخلافة بعد آل بويه:
الأتراك السلاجقة، وكانوا يلقبون: بالسلاجقة العظماء.
وقد أسس دولتهم ركن الدين أبو طالب طغرل (429 - 522 هـ) (1)، وعاصر الزمخشري من
سلاطين هذه الدولة:
1 - جلال الدين أبو الفتح ملكشاه (465 - 485 هـ).
فقد ولد الزمخشري في عصره، ويعد عصره من أزهى عصور الدولة السلجوقية (2).
2 - ناصر الدين محمود (485 - 470 هـ).
3 - ركن الدولة أبو المظفر بركيا رق (478 - 498 هـ).
4 - ركن الدين ملكشاه الثاني (498 - 498 هـ).
5 - غياث الدين أبو شجاع محمد بن أبي الفتح ملكشاه (498 - 511 هـ).
وقد اتصل به الزمخشري، ومدحه منوها بأفعاله وسجاياه التي خدم بها الإسلام (3).
6 - معز الدين أبو الحارث سنجر (511 - 552 هـ) (4).
وفي إطار التفكك والضعف للخلافة العباسية ظهرت دولة عرفت: (بالخوارزمية)، حيث مسقط
رأس الزمخشري، ومكان إقامته. وامتد حكمها من خراسان إلى ما وراء النهر وتنسب هذه
الدولة إلى مدينة خوارزم، وتطلق على منطقة شاسعة تقع في الجنوب من نهر جيحون
وشمالي شرق خراسان، وهي منطقة معروفة
__________
(1) انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 5/ 171؛ الدولة العباسية، ص 412؛ تاريخ
الإسلام، 4/ 34.
(2) انظر: الأصفهاني، تاريخ دولة آل سلجوق، ص 52 وما بعدها.
(3) الزمخشري، ديوان الأدب، مخطوط؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 64.
(4) انظر: تاريخ دولة آل سلجوق، ص 64 وما بعدها.
(1/14)
بخصوبة
أراضيها، وقامت بدور كبير في تطور الحضارة في أواسط آسيا منذ أقدم العصور (1).
ودخلها الإسلام في عام (93 هـ)، بعد أن فتحها القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي
(م 96 هـ) (2).
عمرت هذه الدولة في هذه المنطقة من سنة (470 هـ) حتى سنة (628 هـ) (3).
ومن الأسر التي حكمت خوارزم، وعاصرها الزمخشري، أسرة: أنوشتكين، وقد عاصر من
ملوكها وأمراءها:
1 - أنوشتكين (470 - 490 هـ).
2 - قطب الدين محمد بن أنوشتكين (490 - 521 هـ).
3 - أتسز بن محمد (521 - 551 هـ) (4).
وكان للزمخشري صلة وثيقة بالأمير الخورازمشاة: محمد بن أنوشتكين، حيث مدحه بقصيدة
مطلعها:
أي الملوك تلاقت في مجالسه ... غرائب العلم والأداب والحكم (5)
وكانت له مكانة مرموقة عند هذا الأمير، وكذلك مع ابنه أتسز الذي حرر له الزمخشري
كتابه "مقدمة الأدب" وأثنى عليه في مقدمته (6).
__________
(1) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة (خوارزم)، جاء في الموسوعة: خوارزم:
امبراطورية في العصور الوسطى بوسط آسيا، عاصمتها: أورجنش ... غزاها جنكيز خان
(1218 م). انظر: الموسوعة العربية الميسرة، معهد الدراسات العربية، مادة:
(خوارزم)، تاريخ الإسلام، 4/ 95.
(2) انظر: الكامل في التاريخ، 4/ 125، 138؛ الزركلي، الأعلام، 5/ 189.
(3) انظر: تاريخ الإسلام، 4/ 94.
(4) انظر الدولة العباسية، ص 399 - 410.
(5) نقله الشيرازي في كتاب "الزمخشري لغويا ومفسرا"، ص 24، 25، عن ديوان
الزمخشري.
(6) المصدر نفسه عن "مقدمة الأدب".
(1/15)
ومن
أشهر الدول التي حكمت البلدان الإسلامية في تلك الحقبة من الزمن:
1 - الدولة الفاطمية في مصر والشام (297 - 567 هـ) (1).
2 - دولة المرابطين في المغرب والأندلس (448 - 541 هـ) (2).
وفي هذه الظروف القاسية من الضعف والانقسام التي كان يعاني منها العالم الإسلامي،
وجدت أوروبا الصليبية الفرصة مواتية لغزو الشرق الإسلامي، وإقامة كيان صليبي فيه،
وقد رصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشام عام (491 هـ). وسقطت مدينة القدس عام
(492 هـ) (3) في أيديهم.
الحالة الاجتماعية في عصر الزمخشري
كان المجتمع الإسلامي في عصر الزمخشري مكونا من أجناس مختلفة أهمها: الجنس العربي
والفارسي والتركي، وأجناس أخرى، ممن يسكنون المدن والقرى والخيام، من مختلف
القوميات والشعوب.
وكان المجتمع على فئات متفاوتة، باعدت بينها موازين الحياة (4)، يسودها الدين الإسلامي،
ولم يخل من أقليات من اليهود والنصارى، الذين كانت لهم الحرية والأمن والأمان ولهم
كافة الصلاحيات في ممارسة شعائرهم، وتقلد مناصب كبيرة في الدولة، وعمل التجارة
وغيرها. وكانت اللغة العربية، هي اللغة السائدة، غير أنه تسبب اندماج هذه الأمم
المتفرقة ذات النوازع المختلفة في مجتمع واحد، إلى ظهور عادات وأخلاق غير إسلامية،
مثل أعياد جاهلية: كالنيروز والمهرجان، وظهور نحل ومذاهب هدامة مختلفة. ومن ثم كثر
الخلاف بين أصحاب النحل والأهواء، حول الأديان، وحول الاعتزال والمسائل الكلامية،
مما أدى إلى فتن ومحن، من أهمها ما حدث من
__________
(1) تاريخ الإسلام السياسي، 4/ 178.
(2) المصدر نفسه، 4/ 116.
(3) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 155، 156.
(4) انظر: أحمد أمين، ظهر الإسلام، 1/ 3 وما بعدها.
(1/16)
الفتن
الطائفية بين الشيعة والسنة سنة (482 هـ)، مما أدى إلى إزهاق الكثير من الأرواح.
وتتكرر أمثال هذه الحوادث بعد كل فترة دون انقطاع (1).
ومن أغرب تلك الفتن ما كان يستعر بين أهل السنة أنفسهم، وبالأخص بين الحنابلة
والأشاعرة كما حدث سنة (447 هـ) حيث "وقعت بينهما فتنة عظيمة، حتى تأخر
الأشاعرة عن الجمعات خوفا من الحنابلة" (2). كما ظهرت جماعة الباطنية، وهي
جماعة إرهابية واسعة النشاط، فأخافوا البلاد والعباد، وقتلوا ونهبوا وعاثوا في
الأرض فسادا (3).
وبلغ بهم التمرد إلى قتل الخلفاء والوزراء، إلى أن كفى الله تعالى الناس شرهم على
يد السلطان محمد بن ملكشاه (م 511 هـ) فقضى عليهم (4).
وكذلك سرى الفساد في النظام المالي والقضائي، وانقسم ولاء الجيش لجهات متعددة،
وفسدت أخلاق سكان المدن، خاصة مع ظهور كثرة العبيد والجواري.
وأمام هذه الحياة المضطربة لم يقف المصلحون مكتوفي الأيدي، بل بذلوا جهودهم في
سبيل دعوة الناس، وإرشادهم ونصحهم إلى التمسك بدينهم، ومكافحة الشكوك التي يثيرها
أصحاب الملل والنحل، ونظرة عابرة إلى كتب التراجم، والحالة العلمية، لهذا العصر
تبين عظم جهودهم.
وأما التجارة فكانت لها أطوار مختلفة، حسب الوضع الاجتماعي، وحسب الأمن
والاستقرار، واختلف نشاطها وركودها من جهة إلى أخرى. ولكنها كانت متدهورة بصورة
عامة في منطقة العراق وما حولها، بسبب الفتن الداخلية، وظهور قطاع الطرق.
__________
(1) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 9/ 47، 49، 10/ 198، 285.
(2) المصدر نفسه، 8/ 163، 10/ 286.
(3) المصدر نفسه، 9/ 150، 10/ 95.
(4) المنتظم، 9/ 150، 10/ 95.
(1/17)
كل
هذه الأمور مجتمعة أدت إلى انتشار الفوضى والاضطراب الاجتماعي (1).
هذا ولا تختلف الحالة الاجتماعية في خوارزم عن جاراتها، من المناطق الإسلامية، بيد
أن أهلها كانوا شديدي التمسك بأمور الدين.
وينوه ياقوت بهذا قائلا: "وما أظن كان في الدنيا لمدينة خوارزم نظير في ...
ملازمة أسباب الشرائع والدين" (2).
وكانوا أهل جهاد دائم، وعلى ثغر من ثغور الإسلام، "وقد اكتنفها أهل الشرك،
وأطافت بها قبائل الترك، فغزو أهلها معهم دائم، والقتال فيما بينهم قائم، وقد
أخلصوا في ذلك نياتهم، وأمحصوا عن طوياتهم، وقد تكفل الله بنصرهم في عامة الأوقات،
ومنحهم الغلبة في كافة الوقعات ... " (3).
وقد كان لهذه البيئة الدينية أثر عظيم في الحماس الديني الذي نشأ عليه أبناؤها.
كان أهل خوارزم يمتازون باهتمامهم باللغة العربية والعلوم الإسلامية، فتخرج فيها
جماعة من الأدباء والشعراء والعلماء (4). وتحدث الرحالون عن مظاهر ازدهارها
بعمائرها الكثيرة، وشوارعها الفسيحة، وأسواقها المليحة، وسكانها الكثيرين ووفرة
أسباب المعيشة والترف فيها (5).
ومع هذه الوفرة المعيشية، فإن عامة الشعب لا يختلف وضعهم المعيشي في الفقر والبؤس
عن بقية الأقطار الإسلامية.
__________
(1) انظر: المنتظم، 9/ 193، 10/ 14، 176، 189، 212. وانظر: الحياة الاجتماعية
بالتفصيل: ظهر الإسلام، 1/ 3 - 130؛ التاريخ الإسلامي، 4/ 625 - 632.
(2) معجم البلدان، 2/ 486.
(3) ما نقله الصاوي عن ربيع الأبرار، ص 18.
(4) كما يأتي تفصيل ذلك في الحياة العلمية.
(5) رحلة ابن بطوطة، ص 359.
(1/18)
يصور
لنا الزمخشري هذه الحالة في كثير من قصائده التي يشكو فيها الزمان (1) ومنها:
ومما شجاني أن غر مناقبي ... يغنى بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدي ... وسارت مسير النيران رسائلي
وكم من آمال لي وكم من مصنف ... أصاب بها ذهني محز المفاصل
غني من الآداب لكنني إذا ... نظرت فما في الكف غير الأنامل
فيا ليتني أصبحت مستغنيا ولم ... أكن في خوارزم رئيس الأفاضل
ويا ليتني مرض صديقي ومسخط ... عدوي وأني في فهاهة باقل
وما حق مثلي أن يكون مضيقا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلي (2)
الحالة العلمية في عصر الزمخشري
رغم ما كان في هذا العصر من حروب وأحداث داخلية وخارجية، وجدت هناك حركات علمية
ونهضات أدبية، ازدهرت فيها الحضارة والعلوم والآداب، خلد التاريخ مآثرها ومفاخرها.
أهمها: بناء المدارس في أنحاء أقطار العالم الإسلامي وحظيت هذه الصروح العلمية
باهتمام الملوك والأمراء والوزراء وتنافسهم في تشييدها، وإحضار أفاضل العلماء لها،
وتشجيع الطلاب على التحصيل فيها. فمن ذلك ما أسسه الوزير السلجوقي: نظام الملك
الحسن بن عاب بن إسحاق الطوسي (م 485 هـ) من مدارس نظامية في المدن الإسلامية
الكبرى (3).
ولم يقتصر هذا الاهتمام على الأمراء والوزراء فقط، بل كان العلماء وعامة الناس
يسهمون في هذا العمل الجليل (4).
__________
(1) يأتي تفصيل ذلك في مراحل حياته.
(2) نقله صاحب كتاب: "الزمخشري لغويا ومفسرا"، ص 37، ص ديوان الزمخشري
(مخطوط).
(3) انظر: الكامل لابن الأثير، 8/ 162، 163؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 32، 54،
الأعلام، 2/ 202.
(4) انظر: السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، 4/ 256، 292.
(1/19)
وكان
إلى جانب هذه المدارس حلقات التدريس في المساجد، ومجالس الجدل والمناظرات في
النوادي ويؤمها عدد كبير من طلاب العلم وعشاق المعرفة، حتى رجالات الدولة.
كما كان لهم الاهتمام الكبير، بالكتب والمكتبات التي تضم شتى العلوم والفنون (1).
وكان للخوارزميين الحظ الأوفر في هذا النشاط العلمي الجليل، إذ كانت البيئة
الخوارزمية تتسم بنشاط كبير في مختلف ميادين العلم والمعرفة.
يصور هذا المقدسي (م 597 هـ) في وصف أهل خوارزم حيث يقول: "أهل فهم وفقه
وقرائح وأدب، وقل إمام في الفقه والأدب والقرآن لقيته إلا وله تلميذ خوارزمي"
(2).
وهكذا كانت جميع المدن الإسلامية حافلة بمدارس ومكتبات علمية عظيمة (3). ومن ثم
كان عصر الزمخشري عصرا ذهبيا في النتاج الفكري، وعصر خير وبركة في العطاء العلمي.
أنجب هذا العمى علماء وأدباء أفذاذا، كانوا أئمة في العلوم النقلية والعقلية،
وظهرت فيه المعاجم التاريخية والموسوعات الأدبية، ونمت فيه الحركة العقلية، يظهر
هذا جليا بنظرة عابرة إلى بعض أعلام هذا العصر وأثرهم الفكري.
فمن الأعلام النابغين في العلوم الدينية:
في القراءات:
- أحمد بن محمد (ابن العريف) (م 536 هـ).
- عبد الله بن أحمد (الخشاب) (م 567 هـ).
- القاسم بن فيرا (الشاطبي) (م 590 هـ).
__________
(1) انظر: التاريخ الإسلامي، 4/ 430 - 433.
(2) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 284، 285.
(3) انظر: التاريخ الإسلامي؛ 4/ 430 وما بعدها.
(1/20)
وفي
التفسير:
- عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن (ابن عطية الأندلسي) (م 542 هـ).
وفي الحديث:
- يحيى بن عبد الوهاب (ابن منده) (م 511 هـ).
- الحسين بن مسعود الفراء (البغوي) (م 510 هـ)، وقيل (م 516 هـ).
- أبو الطاهر أحمد بن محمد (السلفي) (م 576 هـ).
وفي الأديان:
- محمد بن عبد الكريم (الشهرستاني) (م 548 هـ).
وفي علوم التاريخ:
- عبد الكريم بن محمد (السمعاني) (م 562 هـ).
- علي بن الحسن (ابن عساكر) (م 571 هـ).
بعض أعلام اللغة:
- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد (الجرجاني) (م 471 هـ).
- يحيى بن علي (أبو زكريا التبريزي) (م 502 هـ).
- حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني) (م 502 هـ).
- أحمد بن محمد (الميداني النيسابوري) (م 518 هـ).
- عبد الله بن محمد (ابن السيد البطليوسي) (م 521 هـ).
- موهوب بن أحمد (الجواليقي) (م 540 هـ).
- هبة الله بن علي (ابن الشجري) (م 542 هـ).
- عبد الرحمن بن محمد (كمال الدين الأنباري) (م 577 هـ).
بعض أعلام الجغرافيا والرحلات:
- أبو بكر الزهري الغرناطي (م 532 هـ).
- الشريف الإدريسي (م 548 هـ).
ومن مؤلفي الموسوعات العامة:
- عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (م 597 هـ).
(1/21)
ومن
الفلاسفة المشهورين في هذا العصر:
- محمد بن محمد (الغزالي) (م 505 هـ).
- محمد بن يحيى (ابن ماجه) (م 533 هـ).
- محمد بن عبد الملك (ابن الطفيل) (م 581 هـ).
- محمد بن أحمد (بن رشد الحفيد) (م 595 هـ).
بعض الشعراء والأدباء والكتاب:
- الحسين بن علي (الطغرائي) (م 513 هـ).
- القاسم بن علي (الحريري) (م 516 هـ).
- أحمد بن محمد (ابن الخياط الدمشقي) (م 517 هـ).
- إبراهيم بن أبي الفتح (ابن خفاجة) (م 533 هـ).
- محمد بن محمد بن عبد الجليل (رشيد الدين الوطواط) (م 573 هـ) (1).
وأما بالنسبة لمنطقة خوارزم، فإنها كانت زاخرة بالعلماء والأدباء والمحدثين
واللغويين، ذكر الثعالبي بعضهم في اليتيمة ونبذا من أدبهم وشعرهم، وهم كثيرون
ومشهورون (2).
ومن ثم فإن المحيط العلمي الذي عاشه الزمخشري كان أكبر حافز له ليبتوأ الدرجات العالية
في العلوم العربية والدينية.
الحركة الفقهية في عصر الزمخشري
يمثل العصر الذي عاشه الزمخشري مرحلة انتهاء التجديد الفقهي، حيث استقرت المدارس
الفقهية المختلفة، فالقرن الرابع الهجري يحدد بداية دور التقليد
__________
(1) انظر الحركة العلمية في القرن السادس الهجري، بالتفصيل: تاريخ الإسلام، 4/ 439
- 559؛ وراجع تراجمهم في الأعلام.
(2) الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، 4/ 194 - 254.
(1/22)
والتزام
مذاهب المتقدمين (1)، فقد بدأ طور جديد في الفقه الإسلامي ذلك هو طور التهذيب
والتنقيح، وتحرير أقوال علماء المذاهب وتوجيهها، والاستدلال لها والتفريع والتخريج
عليها.
وجد في هذا العصر أعلام من الفقهاء الذين كان لهم دور كبير في تفصيل المذاهب
وتطويرها وتهذيبها، وكان لهم أثر كبير في الأجيال من بعدهم: بأخذ أقوالهم
وترجيحاتهم في المذهب. فعلى سبيل المثال في مذهب الحنفية عاصر الزمخشري فقهاء من
الطبقة الثالثة: "طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب
المذهب، كالسرخسي (م 483 هـ) "، وبعض فقهاء الطبقة الخامسة: "طبقة أصحاب
الترجيح من المقلدين، كالقدوري (م 428 هـ) " (2).
وكان وما زال التعويل والاعتماد على أقوالهم في المذهب، ويعد عصرهم المرحلة
الثانية التي هي دور التوسع والنمو والانتشار في تطور المذهب الحنفي (3).
وهكذا في المذهب الشافعي، عاصر بعضا من الفقهاء الذين كان التعويل على كتبهم، وجرى
الاعتماد عليها في تحرير الذهب، كالشيرازي (م 476 هـ) في كتابه " المهذب
"، والغزالي (م 505 هـ) في كتابه "الوسيط" (4).
وكان الفقه الشافعي في هذا العصر يعيش حركة نشطة للجمع بين طريقة العراقيين
والخراسانيين، والتي تلاها تحرير المذهب على يد الإمامين الجليلين: الرافعي (م 623
هـ)، والنووي (م 676 هـ) (5).
__________
(1) انظر: الدهلوي، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الأحكام الفقهية، ص 40؛
الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 163؛ تاريخ المذاهب الفقهية، ص
7؛ خلاف، خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، ص 5، 8.
(2) ابن عابدين، محمد أمين، حاشية ابن عابدين، 1/ 77.
(3) انظر: الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، "المذهب عند الحنفية" دراسات
في الفقه الإسلامي، 1403 هـ.
(4) النووي، المجموع شرح المهذب، 1/ 9.
(5) انظر: مقالة الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي، "المذهب عند الشافعية"،
ص 33 - 35.
(1/23)
وإليك
أشهر فقهاء المذاهب، الذين عاصرهم الزمخشري، وامتازوا بالتأليف مذاهب أئمتهم
وقيامهم بنشره:
أشهر فقهاء الحنفية:
1 - شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، المتوفى سنة (483 هـ)، وقيل (500 هـ) وقيل
غير ذلك.
2 - أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني، المتوفى سنة (478 هـ).
3 - علي بن محمد البزدوي، المتوفى سنة (483 هـ).
4 - شمس الأئمة بكر بن محمد الزرنجري، المتوفى سنة (512 هـ).
5 - طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري، المتوفى سنة (542 هـ).
6 - أبو بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، المتوفى سنة (552 هـ).
7 - أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفار، المتوفى سنة (574 هـ).
8 - أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، المتوفى سنة (587 هـ).
9 - فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني، المعروف بقاضيخان، المتوفى سنة
(592 هـ).
10 - علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، المتوفى سنة (593 هـ).
أشهر فقهاء المالكية:
1 - أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفى سنة (494 هـ).
2 - أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الصقلي، المتوفى سنة (526
هـ).
3 - أبو بكر محمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي، المتوفى سنة (534 هـ).
4 - القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي، المتوفى سنة (541 هـ).
5 - إسماعيل بن مكي العوفي، المتوفى سنة (581 هـ).
6 - محمد بن أحمد بن رشد الحفيد، المتوفى سنة (595 هـ).
(1/24)
أشهر
فقهاء الشافعية:
1 - أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز آبادي، المتوفى سنة (476 هـ).
2 - أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ، المتوفى سنة (477 هـ).
3 - أبو سعيد عبد الرحمن بن مأمون المتولي، المتوفى سنة (488 هـ).
4 - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (إمام الحرمين)، المتوفى سنة (487
هـ).
5 - أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، المتوفى سنة (502 هـ).
6 - حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي، المتوفى سنة (505 هـ).
7 - أبو إسحاق إبراهيم بن منصور العراقي، المتوفى سنة (596 هـ).
8 - أبو سعد عبد الله بن محمد هبة الله (ابن أبي عصرون التميمي الموصلي).
ولحق بهم الإمامان الجليلان:
- أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي، المتوفى سنة (623 هـ).
- محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، المتوفى سنة (676 هـ) (1).
أشهر فقهاء الحنابلة:
1 - الشريف، أبو جعفر الهاشمي، المتوفى سنة (470 هـ) (2).
2 - ابن البناء، الحسن بن أحمد بن عبد البغدادي، المتوفى سنة (471 هـ) (3)
3 - الحلواني، محمد بن علي بن محمد بن عثمان، المتوفى سنة (505 هـ) (4).
4 - أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن، المتوفى سنة (510 هـ) (5).
5 - ابن عقيل، علي بن محمد بن عقيل البغدادي، المتوفى سنة (513 هـ).
__________
(1) انظر: الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي، ص 253 - 264.
(2) ابن بدران، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص 208.
(3) المصدر نفسه، ص 206.
(4) المصدر نفسه، ص 210.
(5) المصدر نفسه، ص 211.
(1/25)
6
- ابن الزاغواني، علي بن عبد الله بن نصر، المتوفى سنة (527 هـ).
7 - عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي، المتوفى سنة (536 هـ).
8 - ابن عبدوس، علي بن عمر بن أحمد، المتوفى سنة (559 هـ) (1).
9 - ابن هبيرة، يحيى بن أبي منصور الوزير، المتوفى سنة (565 هـ) (2).
وبوجود هذا النشاط العلمي في تحرير المذاهب الفقهية مع التقاء فقهاء مختلف المذاهب
الفقهية في قطر من الأقطار الإسلامية، تمخضت هذه الحالة عن اتصالات علمية واسعة
بين علماء المذاهب، يقول أبو زهرة: "والاتصال بين المذاهب المتضاربة في بعض
نواحيها (كالعراق وما جاورها) وإن أوجد تناحرا في بعض المسائل، يمكن أصحاب كل مذهب
من أن يفهموا بعض ما عند مخالفيهم، مما يحسن أخذه، إذ الالتقاء الفكري والمادي
يجعل الأفكار تتبادل بينهم، أرادوا أم لم يريدوا، وأن المذهب الشافعي قد صاقب في
بعض البلاد النائية عن البلاد العربية (كخراسان ونيسابور ونحوهما) المذهب الحنفي،
وكانت المعركة شديدة بين المذهبين (خاصة مع تساهل الناس في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد
وغيرهم) وبلغت أقصى حدتها، فكانت المناظرات تقام في المساجد وفي المجتمعات، وكل
يتقرب إلى الله تعالى بالدفاع عن مذهبه، والاحتجاج له بالأدلة التي يراها مقوية
له، ويضعف المذهب الآخر بكل ما يراه مضعفا له، حتى أن المآتم كانت تحيا
بالمناظرات" (3).
وشاعت مجالس المناظرات والجدل شيوعا كثيرا حتى لا تكاد مدينة كبيرة تخلو من عقد
تلك المجالس، ووجد لها روادها وجمهورها، حتى الخلفاء والوزراء كانوا يشجعونها
بحضورها، وألفت كتب في قواعد النظر، وأطلق عليها علم: أدب البحث، وأصبحت المناظرات
فنا من الفنون، ولقد ترتب على ذلك: التعصب المذهبي الشديد، وأفرط فيه بعض الكاتبين
في تفضيل مذهب على آخر، حتى أن
__________
(1) المصدر نفسه، ص 209.
(2) المصدر نفسه، ص 211.
(3) تاريخ المذاهب الفقهية، ص 278؛ انظر: وتاريخ التشريع الإسلامي، ص 252، وما
بعدها.
(1/26)
بعض
أنصاف العلماء كانوا يطعنون في المذاهب بتصيد قول ضعيف للمذهب المخالف له.
ويقدم لنا الزمخشري صورة حية عما كان يجري من منابزة بين المذاهب في القصيدة
التالية:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به ... وأكتمه كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت، قالوا بأنني ... أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن ماليكا قلت، قالوا بأنني ... أبيح لهم أكل الكلاب وهم وهم
وإن شافعيا قلت، قالوا بأنني ... أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت، قالوا بأنني ... ثقيل حلولي بغيض مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه ... يقولون تيس ليس يدري ويفهم
تعجبت من هذا الزمان وأهله ... فما أحد من ألسن الناس يسلم
وأخرني دهري وقدم معشرا ... على أنهم لا يعلمون وأعلم (1)
* * *
__________
(1) انظر: مقدمة الفائق في غريب الحديث للمحققين: علي محمد البجاوي، عمد أبو
الفضل، 1/ 9.
(1/27)
الفصل
الثاني:
حياة المؤلف
ويشتمل على العناصر التالية:
- نسبه ومولده.
- شيوخه.
- عقيدته.
- أخلاقه.
- أسرته.
- تلامذته.
- مذهبه الفقهي.
- وفاته.
- نشأته ومراحل حياته.
- مؤلفاته.
- الزمخشري فقيها.
- ثناء العلماء عليه.
* * *
نسبه ومولده
نسبه: هو الإمام أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (1) الخوارزمي. يلقب: بفخر
خوارزم، وجار الله، لمجاورته بمكة المكرمة زمانا، وغلب عليه هذا اللقب فصار معروفا
به.
__________
(1) الإمام الزمخشري: علم فذ مرموق ومعروف في الأوساط العلمية بعامة، والأوساط
اللغوية بخاصة، ومن ثم تندر كتب التراجم والقواميس التي لم تترجم له إجمالا أو
تفصيلا. كذلك اهتم الباحثون في العصر الحديث بهذا الإمام الجليل، فخصوه بدراسات
وافية لجوانب شخصيته، وإبراز خصائصه وإبداعه وتفوقه، وآثاره في العلوم العربية
بخاصة، والعلوم الدينية بعامة، ظهر من هذا النوع من الدراسات: كتاب
"الزمخشري" للدكتور محمد أحمد الحوفي؛ و "منهج الزمخشري في تفسير
القرآن" للدكتور مصطفى الصاوي الجويني؛ وكذلك "الزمخشري لغويا
ومفسرا" رسالة جامعية مقدمة لجامعة الأزهر، من الدكتور مرتضى آية الله زاده
الشيرازي.
(1/29)
ولد
بإحدى قرى خوارزم: (زمخشر) (1)، يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب، سنة سبع
وستين وأربعمائة (2)، في عهد السلطان جلال الدين والدنيا أبي الفتح ملكشاه (465 -
485 هـ)، ووزيره نظام الملك (م 485 هـ).
أسرته
ولد الزمخشري بين أبوين تدثرا بدثار الصلاح والتقى - وإن عز التعريف بهما في كتب
التاريخ - وهذا ما يمكن استخلاصه من الأحداث التالية:
منها ما ذكره الزمخشري أن مؤيد الملك (م 494 هـ) سجن والده الشيخ عمر بن محمد بن
أحمد الزمخشري (م 488 هـ) تقريبا، فيستعطفه الزمخشري ويتوسل إليه أن يطلقه مستشفعا
بفضله وتقواه، حيث يقول:
أكفى الكفاة مؤيد الملك الذي ... خضع الزمان لعزه وجلاله
ارحم أبي لشبابه ولفضله ... وارحمه للضعفاء من أطفاله
__________
(1) زمخشر: بفتح الزاي والميم وسكون الخاء وفح الشين المعجمة وبعدها راء، وهي قرية
كبيرة من قرى خوارزم. وفيات الأعيان، 5/ 173.
(2) انظر ترجمته: السمعاني، الأنساب 6/ 297، 298؛ ابن الأنباري، نزهة الألباء في
طبقات الأدباء، ص 290 - 292؛ ياقوت الحموي، معجم الأدباء 20/ 126 - 134؛ ابن
الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب 2/ 74؛ القفطي، إنباه الرواة على أنباء النحاة 3/
265 - 272؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 5/ 168 - 174؛ القرشي،
الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 2/ 161، 162؛ الفاسي، العقد الثمين في تاريخ
البلد الأمين 7/ 137 - 150؛ العيني، كشاف القناع المرنى عن مهمات الأسامي والكنى
(مخطوط)، ص 93؛ ابن قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية، ص 71؛ السيوطي، بغية
الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 279، 280؛ طبقات المفسرين، ص 41؛ طاش كبري
زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم 2/ 97 - 100؛ حاجي خليفة 2/
1475 وما بعدها؛ اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209؛ بروكلمان،
تاريخ الأدب العربي 5/ 215 - 238؛ الزركلي، الأعلام 7/ 178؛ كحالة، معجم المؤلفين
12/ 186.
(1/30)
ارحم
أسيرا لو رآه من العدى ... أقساهم قلبا لرق لحاله
ما أطول الليل الذي يفنيه في ... سهر وأطول منه ليل عياله
يشكو قيودا قصرت من خطوه ... وسلاسلا حكمت بضيق مجاله
ما ضر مثلك لو عفا عنه فمن ... دأب الكرام العفو عن أمثاله
هب أنه ممن أساء فما له ... غلب الرزانة منك سوء فعاله (1)
وعندما رزئ بفقد وألده رثاه بالقصيدة التالية، منوها عن صلاحه واستقامته بقوله:
فقدته فاضلا فاضت مآثره ... العلم والأدب المأثور والورع
أخا طباع مصفاة مناسبة ... ماء السحابة ما في بعضها طبع
وذا حقائق لا في لحظه طلب ... لغير رشد ولا في لفظه قذع
لم يأل ما عاش جدا في تقاه يرى ... إن الحريص على دنياه منخدع
صام النهار وقام الليل وهو شج ... من خشية الله كابي اللون ممتقع (2)
وأما والدته فقد كانت شديدة العطف رقيقة القلب، وكان مجابة الدعوة وهذا ما يلتمس
في القصة التي حكاها الزمخشري بقوله: "كنت في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط
في رجله، فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط،
فتألمت والدتي، وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت رجله" (3). وقطعت رجله عندما
سقط عن دابته.
والأسرة بصفة عامة كانت أسرة متدينة، ملتزمة بآداب الشرع وتعاليمه، وهو ما أشاد به
الزمخشري في الأبيات التالية:
هات التي شبهت ظلما بشمس ضحى ... لو عارضتها لغطتها بإشراق
__________
(1) انظر: الصاوي، منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 25.
(2) منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 26.
(3) وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/31)
استغفر
الله أني قد نسبت بها ... ولم أكن لحمياها بذواق
ولم يذقها أبي قبلا ولا أحدا ... من أسرتي واتفاق الناس مصداقي (1)
نشأته ومراحل حياته
إذا أمعنا النظر في حياة الإمام الزمخشري، نجد أن حياته لم تسر على نمط ونسق واحد،
بل طرأت عليها تطورات وتغيرات، وسجل الزمخشري بنفسه كثيرا من سيرته ومراحل حياته،
في قصائد شعرية ومقطوعات نثرية، يستخلص منها الدارس وقائع مجريات حياته على مدى
السبعين سنة التي عاشها.
المرحلة الأولى: مرحلة الصبا:
نشأ في قريته (زمخشر) وتعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم،
ولعله كان على يد والده الذي سبق الحديث عن علمه وفضله، "قيل كان أبوه إماما
بقرية زمخشر" (2)، ولا نعرف كثيرا عن مشايخه، في هذه المرحلة من عمره، حيث لم
يهتم المؤرخون بتدوينها. حينما جاوز سن الطفولة وأصبح غلاما يافعا، أدى ضيق ذات
اليد بوالده إلى أن يسلم ابنه محمود إلى خياط وقال: "أعلمه الخياطة؛ لأنه صار
زمنا مبتلى" (2)، إلا أن رغبته الشديدة في تعلم العلم جعلته يستعطف أباه
ويقول له: "احملني إلى البلد واتركني بها".
وأمام هذه الرغبة الملحة اقتنع والده "فحمله إلى البلد، ورزقه الله حظا حسنا،
فكفاه الله رزقه" (3).
يقول الزمخشري عن نفسه، كما يروي ابن خلكان: "إنه لما بلغ سن الطلب رحل إلى
بخارى لطلب العلم" (4). وكانت بخارى في ذلك الحين إحدى مراكز العلوم
__________
(1) انظر: منهج الزمخشري، ص 24.
(2) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(3) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) وفيات الأعيان 5/ 170.
(1/32)
والآداب
كما يصفها الثعالبي: "كانت بخارى في الدولة السامانية بمثابة المجد، وكعبة
الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر" (1).
وكانت هذه المرحلة من حياة الزمخشري مرحلة حرجة، يكتنفها الفقر والآلام، ومن
الأمور البارزة في هذه المرحلة التي ضاعفت آلامه: أن رجله قطعت وهو في سن الصبا،
ورويت لذلك أسباب مختلفة: قيل بسبب البرد، وقيل بسبب جرح أصابه، ويقال: أنه سقط عن
دابته بسبب دعاء والدته عليه، كما يرويه الفقيه الدامغاني (م 540 هـ) أنه سأل
الزمخشري عن ذلك؛ فأجابه: بأنه سقط من الدابة فقطعت رجله بسبب دعاء والدته عليه
(2).
المرحلة الثانية: طلبه العلم:
تمثل هذه المرحلة من حياته الفترة العلمية الأولى التي عاشها الزمخشري بكل مواهبه
وقواه وآماله. وتبدأ بخروجه من قريته زمخشر إلى خوارزم، وقيل إلى بخارى، طالبا
للعلم وطمعا في الاستزادة، من شتى العلوم الإسلامية، وفروع المعرفة.
أقبل الزمخشري على حلقات العلم، ومجالسة الشيوخ والأخذ عنهم مجدا في التحصيل مكبا
على الحفظ والقراءة، مقبلا على دراسة علوم عصره، التي أخذ منها بنصيب وافر.
فكان من تلك العلوم: أصول الفقه، والحديث، والتفسير، والتوحيد، والمنطق، والفلسفة،
والعلوم العربية. وقد قيض الله سبحانه وتعالى له علماء أفذاذا، عرفوا بثقافاتهم
الواسعة في العلوم، فأخذ العلوم من منابعها الوافرة الصافية.
لم يصف له الحال في هذه الفترة أيضا، فقد بلغه نعي والده في سجن المؤيد فكان له
التأثير الكبير على نفسيته لبعده عنه، وكذلك لفقره وانقطاع المعونة عنه، كما يصور
ذلك في قصائده التي نظمها:
__________
(1) انظر: الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر 4/ 101.
(2) وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/33)
وإن
مما قراني حسرة وأسى ... وضاقني الكرب من جراه والوجع
أن عاقني شحط دار عن تفقده ... حتى مضى وهو من ذكراي ملتذع
يا حسرتا أنني لم أرو غلته ... وغلتي بزمان فيه نجتمع
قد كنت أشكو فراقا قبل منقطعا ... وكيف لي بعده بالعيش منتفع (1)
ويصف فقره ورقة حاله في موضع آخر:
أشكو الزمان ولا أرى لي مشكيا ... ممن يرى شعثي ورقة حالي
يا حسرتا من لي بصفقة رابح ... في متجر والفضل رأس المال (2)
وقد أدى به ضيق ذات اليد إلى مدح عدد من الملوك والوزراء من خلال قصائده مع
الإشادة بمكانته العلمية، طمعا في منصب يناله، أو حظوة يجدها عند الأمراء ومن ذلك
يقول:
وما حق مثلي أن يكون مضيعا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلي
وأعظمها أني نسيب نصابه ... إذا عرضت أنساب هذي القبائل
فكل امرئ آماله عدد الحصا ... وهات نظيري في جميع المحافل
لئن كان أمري في خوارزم ما أرى ... فإن رحالي في ظهور الرواحل (2)
وسجلت هذه المرحلة نشاطه ورحلاته الأولى في طلب العلم فزار (مرو) ولقي فيها الإمام
السمعاني (م 562 هـ)، وطاف بكثير من مدن خوارزم وخراسان محصلا للعلم، مجالسا
للعلماء، مناظر لأقرانه.
هذه المرحلة كانت من أهم مراحل حياته العلمية الحافلة، إذ نضج فيها عقله، وقويت
ملكاته، ووضحت شخصيته، وحصل الكثير من العلوم الإسلامية، ونبغ في الأدب. نثره
وشعره، وطارت فيها شهرته (3).
__________
(1) انظر: ديوان الزمخشري (منهج الزمخشري)، ص 26.
(2) انظر ذلك بالتفصيل فيما نقله الصاوي في مقدمته، منهج التفسير، ص 31، 33 وما
بعدها.
(3) انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 97، 98.
(1/34)
المرحلة
الثالثة: تكامل شخصيته العلمية:
ما لبث أن تكاملت شخصية الزمخشري العلمية، حتى طور صلاته الاجتماعية: بالملوك
والوزراء ورجالات الدولة، وكذلك أكثر من الرحلات والاتصال بأهل العلم والفضل،
والاستفادة منهم وإفادتهم: حيث رحل إلى مكة المكرمة حوالي عام (502 هـ) (1) وكانت
هذه أولى رحلاته إلى الديار الحجازية، فأقام فيها مجاورا لبيت الله الحرام، ولقب
نفسه بجار الله، واتصل في مكة المكرمة بالشريف علي بن حمزة بن وهاس (526 هـ) الذي
كان معدودا في صفوف الأدباء (2) فلقى منه كل عناية وعطف، وأهدى له كثيرا من
مؤلفاته. وفي أثناء إقامته بالحجاز زار اليمن ومدنها، وأكثر أنحاء جزيرة العرب،
كما جاء في أساس البلاغة: "وطئت كل تربة في أرض العرب" (3). ولكنه بعد
مضي فترة اشتاق إلى وطنه الأول، وعاوده الحنين إليه، ثم لام نفسه على عودته، كما
يصور ذلك في قصائده التي حفل بها ديوانه، منها:
بكاء على أيام مكة إن بي ... إليها حنين النيب فاقدة البكر
تذكرت أيامي بها فكأنني ... قد اختلفت زرق الأسنة في صدري (4)
وما لبث أن عاد إلى مكة المكرمة مرة أخرى نحو عام (518 هـ) (5)، وفي أثناء عودته
مر بالشام ومدح تاج الملك، صاحب دمشق (م 526 هـ) (6).
قضى الزمخشري هذه الفترة من حياته في استقرار ورخاء نسبي، كما نستخلص هذا من شعره،
ويظهر من شعره أيضا أنه تزوج غير أنه لم يوفق في زواجه، ولم يقدر له
__________
(1) الززمخشري لغويا مفسرا، ص 105.
(2) معجم الأدباء 14/ 86.
(3) أساس البلاغة، مادة (ترب).
(4) انظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن، ص 37.
(5) طبقات المفسرين للسيوطي، ص 41.
(6) الكامل في التاريخ 9/ 337.
(1/35)
الخلف
منه (1). ويصور ذلك بقوله:
تزوجت لم أعلم وأخطأت لم أصب ... فيا ليتني قد مت قبل التزوج
فوالله ما أبكي على ساكني الثرى ... ولكنني أبكي على المتزوج (2)
وكان لهذا ردة فعل سيئة على نفسية الزمخشري، سجلها في قصائده الكثيرة التي تطفح
ألما وكراهية للحياة الزوجية، ومنها:
تصفحت أولاد الرجال فلم أكد ... أصادف من لا يفضح الأم والأبا
رأيت أبا يشقى لتربية ابنه ... ويسعى لكي يدعى مكبا ومنجبا
أراد به النشء الأغر فما درى ... أيوليه حجرا أم يعليه منكبا
أخو شقوة ما زال مركب طفله ... فأصبح ذاك الطفل للناس مركبا
لذاك تركت النسل واخترت سيرة ... مسيحية أحسن بذلك مذهبا (3)
وقد استبدل كتبه وتلاميذه بالحياة الزوجية، حيث يقول:
وحسبي تصانيفي وحسبي رواتها ... بنين بهم سيقت إلى مطالبي (4)
ومهما اعتذر لموقفه هذا من الحياة الزوجية، فهي أعذار مردودة وأوهام خاطئة، قال
الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر
وذكر الله كثيرا} (3).
المرحلة الأخيرة: إنتاجه العلمي:
أدركت الزمخشري سن الخامسة والأربعين وهو بمكة، وأصابه مرض تسبب في انقطاعه عن
المجتمع الذي كان يعيشه، وآثر العزلة، حيث يقول متحدثا عن نفسه:
__________
(1) وقد عده بعض الباحثين من ضمن العلماء الذين لم يتزوجوا، وآثروا العلم على
الزواج، ولعله أراد كونه عازبا: أنه آثر حياة العزوبة، بعد تجربة زواجه غير الناجح
فعاش متبتلا عازبا.
انظر: أبو غدة، عبد الفتاح، العلماء العزاب، ص 70 وما بعدها.
(2) الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 108.
(3) مقدمة منهج التفسير عند الزمخشري، ص 43.
(4) سورة الأحزاب: آية 21.
(1/36)
"فلما
أصيب من سنة ثنتي عشرة بعد الخمسمائة بالمرضة الناهكة التي سماها المنذرة وكانت
سبب إنابته وفيئته وتغير حاله وهيئته ... " (1). فندم على ما بدر منه من
مطامع للوصول إلى المناصب، وما صدر منه من مدائح للملوك والسلاطين في سبيل ذلك.
وعاهد الله إن من عليه ألا يطأ بأخمصه عتبة سلطان، ولا يتصل بخدمتهم ويربأ بنفسه
عن مديحهم، وأن يعكف على العلم تعليما وتعلما وتأليفا (2).
وفي الحقيقة تعد هذه المرحلة من حياته مرحلة عطاء وإنتاج وتمخض لما كابده في سنوات
التحصيل والطلب، حيث ألف أشهر مؤلفاته وأنفعها في هذه الفترة وكانت أغلب تصانيفه
بين زمزم والمقام، كتفسيره العظيم الكشاف، وأطواق الذهب، وأساس البلاغة، ونوابغ
الكلم، والمستقصى في أمثال العرب، وربيع الأبرار (3). وقد وجد من رعاية ومحبة
الشريف ابن وهاس، له الدافع الكبير لهذا العطاء الزاخر، وقد نوه الزمخشري بهذا
العطف والعناية التي لقيها من ابن وهاس في مقدمة تفسيره الكشاف والذي من أجله صنفه
(4)، وبإشارته جمع الزمخشري منظوماته في (ديوان الأدب) يقول في مقدمته، منوها
بفضله:
ومما أجل الصنع فيه إناختي ... بمكة مرضيا مرادا وموردا
ولولا ابن وهاس وسابغ فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصردا (5)
وبعد أن طالت إقامته بمكة المكرمة، من رحلته الثانية (6) عاوده الحنين إلى وطنه
مرة أخرى. وفي أثناء عودته عرج على بغداد، وزاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن
الشجري (م 542 هـ) مهنئا بقدومه، ومدحه وأثنى عليه وعرف له فضله ومكانته العلمية
(7).
__________
(1) الزمخشري، مقدمة شرح مقامات الزمخشري.
(2) المصدر نفسه.
(3) مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) انظر: مقدمة الكشاف 1/ 3.
(5) منهج الزمخشري، ص 37.
(6) نزهة الألباء، ص 391.
(7) نزهة الألباء، ص 292؛ بغية الوعاة 2/ 280.
(1/37)
عاد
الزمخشري إلى وطنه شيخا كهلا، وقد أصبح بعد رجوعه فخر خوارزم، ومرجع العلماء في كل
عويصة، وأصبحت له شهرة علمية في أنحاء العالم الإسلامي.
شيوخه
لقد توافر للزمخشري أعلام في الفكر الإسلامي، تتلمذ عليهم وتخرج لهم، واستقى من
منابعهم، ولم يقتصر على التلقي على شيوخ بلدة معينة، بل كان يجوب البلاد ويستفيد
من علمائها، بأدب وتواضع، فلم ير غضاضة في أن يتتلمذ وهو في شيخوخته وأستاذيته،
على من يراه أهلا ومحلا للعلم والفضل، ومن أبرز شيوخه:
- محمود بن جرير الضبي الأصفهاني (أبو مضر) (م 507 هـ) الذي كان يلقب بفريد العصر،
ووحيد الدهر في علم اللغة والنحو، ويضرب به المثل في أنواع الفضائل، وهو الذي أدخل
على خوارزم مذهب الاعتزال.
وقد درس عليه: النحو والأدب، واستفاد منه كثيرا (1) ورثاه الزمخشري بقوله:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني (2)
كما أخذ الأدب عن الشيخ أبي الحسن علي بن المظفر النيسابوري الضرير، كما ذكره
ياقوت، والسيوطي (3).
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(2) معجم الأدباء 19/ 124؛ الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 96.
(3) يرى الدكتور الحوفي بأن الصواب هنا هو: (أبو علي الحسن بن المظفر النيسابوري)
اعتمادا على ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء في ترجمته: "وأنه شيخ أبي القاسم
الزمخشري"، إلا أننا نجد أن وفاته كانت سنة (442 هـ)، ومن ثم لا يصح أن يكون
(أبو علي الحسن) شيخا للزمخشري، لأن الزمخشري ولد بعد وفاته بخمس وعشرين سنة.
انظر: معجم الأدباء 9/ 119، 120، 19/ 127؛ بغية الوعاة 2/ 279؛ مفتاح السعادة 2/
100؛ الزمخشري، ص 50.
(1/38)
-
الشيخ السديد الخياطي، وقد أخذ عنه الفقه (1).
- ركن الدين محمد الأصولي، وقد أخذ عنه الأصول (2).
وأخذ الحديث عن شيخ الإسلام أبي منصور نصر الحارث، وأبي سعد الشقاني النيسابوري،
والمحدث أبي الخطاب نصر بن أحمد بن عبد الله البطر (م 494 هـ) (3).
- أبو السعد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، (م 494 هـ) (4).
وممن استفاد منهم: الإمام الفقيه أبو الحسين أحمد بن علي الدامغاني (م 540 هـ)
(5).
ومما يدل على حرصه واهتمامه بالعلم ما حكاه القفطي عن الإمام أبي اليمن زيد بن
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 100.
(2) الفوائد البهية، ص 232.
(3) انظر: معجم الأدباء 19/ 127؛ بغية الوعاة 2/ 279؛ طبقات المفسرين، ص 41.
(4) وذكر الشيرازي في "كتابه الزمخشري لغويا ومفسرا" أنه توفي سنة (464
هـ) وهذا سهو واضح، والصحيح ما ذكره الزركلي في الأعلام كما أثبته.
انظر: الزمخشري لغويا مفسرا، ص 97؛ الأعلام 5/ 289.
(5) ذهب الدكتور الحوفي في كتابه "الزمخشري" إلى أن المراد من الدامغاني
هو: قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني الذي توفي سنة (498 هـ)، ونسب
ذلك إلى السمعاني في الأنساب، وبالرجوع إليه نجده يقول: "وكانت ولادته
بالدامغان سنة أربعمائة، ووفاته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد"، ومن ثم
يستبعد أن يكون المراد بالدامغاني هو: قاضي القضاة أبو عبد الله، الذي ذكره
الدكتور الحوفي؛ لأننا نجد بالمقارنة، أن الزمخشري لم يبلغ عند وفاته سوى أحد عشر
عاما، وفي هذا السن لم يرحل من بلده لطلب العلم.
ويؤيد هذا ما ذكره العماد الأصبهاني في تاريخ دولة آل سلجوق عن حوادث سنة (458 هـ)
ما نصه: "وعزل الوزير فخر الدولة بن جهير، ليلة المهرجان في ذي القعدة
بالتوقغ الإمامي بمحضر من قاضي القضاة) بي عبد الله الدامغاني".
ويتضح من هذا بأن الدامغاني الذي استفاد منه الزمخشري كما ذكره المترجمون له هو:
(أبو الحسين أحمد بن علي الدامغاني).
انظر: الأنساب 5/ 290؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص 33؛ الجواهر المضيئة 1/ 83؛
الزمخشري للحوفي، ص 50.
(1/39)
الحسن
الكندي قال: "قدم علينا [الزمخشري] بغداد سنة (533 هـ)، ورأيته عند شيخنا أبي
المنصور الجواليقي (1) (446 - 539 هـ) مرتين، قارئا عليه بعض كتب اللغة من
فواتحها، ومستجيزا لها" (2).
ويظهر من هذه الرواية مدى حب الزمخشري للعلم، وتحصيله والاستزادة منه، حيث لم يأنف
أن يجلس جلسة الطالب المستزيد مع ما وصل إليه من مكانة علمية عظيمة.
ونجد كذلك في تاريخ حياته الحافلة أنه قرأ في مكة من رحلته الثانية كتاب سيبويه
على: عبد الله بن طلحة اليابري الأندلسي (م 518 هـ) (3).
واستفاد كذلك من الشريف أبي الحسن علي بن موسى بن حمزة بن وهاس العلوي (م 526 هـ)،
كما استفاد هو الآخر من الزمخشري (4).
تلامذته
تتلمذ على الإمام الزمخشري كثيرون من طلاب العلم، وأصبحوا بعد ذلك أئمة في اللغة
والأدب وعلوم الدين.
يذكر السمعاني بأنه روى عن الزمخشري طائفة كبيرة من العلماء من أقطار البلاد،
منهم: أبو المحاسن إسماعيل بن عبد الله الطويلي بطبرستان، وعبد الرحيم
__________
(1) الجواليقي: هو موهوب بن أبي طاهر أحمد الجواليقي، كان إماما في فنون الأدب،
وهو من مفاخر بغداد، درس الأدب في المدرسة النظامية بعد الخطيب التبريزي. وكان ثقة
دينا متواضعا، وكان من أهل السنة، وله عدد من المصنفات.
انظر: معجم الأدباء 19/ 207؛ بغية الوعاة 2/ 308.
(2) انظر: إنباه الرواة 3/ 270؛ وفيات الأعيان 2/ 340.
(3) انظر: بغية الوعاة 2/ 264؛ طبقات المفسرين، ص 41.
(4) انظر: معجم الأدباء 14/ 86.
انظر بالتفصيل: معجم الأدباء 19/ 128؛ مفتاح السعادة 2/ 100؛ الزمخشري للحوفي، ص
48 - 51؛ الزمخشري للشيرازي، ص 96 - 102.
(1/40)
البزار
بابيورد، وأبو عمر عامر بن الحسن السمار بزمخشر، وأبو سعد أحمد بن محمود الشاشي
بسمرقند، وأبو طاهر سامان بن عبد الملك الفقيه بخوارزم، وجماعة سواهم (1).
ومن تلاميذه: علي بن محمد العمراني، الخوارزمي، أبو الحسن الأديب، الملقب بحجة
الأفاضل وفخر المشائخ (م 560 هـ) (2).
ومنهم أيضا: محمد بن أبي القاسم بايجوك، أبو الفضل البقالي الخوارزمي الآدمي،
المقلب بزين المشائخ، وجلس مكانه بعده (3).
ومنهم أيضا: أبو يوسف يعقوب بن علي بن محمد بن جعفر البلخي، أحد الأئمة في النحو
والأدب (4).
ومنهم أيضا: علي بن عيسى بن حمزة بن وهاس العلوي (5) وقد مدح أستاذه بأبيات من
الشعر منها:
وكم للإمام الفرد عندي من يد ... وناهيك مما قد أطاب وأكثرا
وممن استجازه، أو أجازهم:
ومما يدل على علو مكانته في الأوساط العلمية، استجازة أكابر علماء ذلك العصر
لرواية كتبه. منهم:
الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي (م 576 هـ). الذي قال عنه ابن خلكان:
"كان أحد الحفاظ المكثرين، قصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه
وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله" (6).
__________
(1) الأنساب 6/ 298.
(2) معجم الأدباء 15/ 61.
(3) المصدر نفسه 19/ 5.
(4) المصدر نفسه 20/ 55.
(5) انظر: معجم الأدباء 14/ 86.
(6) انظر: العقد الثمين 7/ 141؛ وفيات الأعيان 1/ 105، 106، 4/ 256، 5/ 170.
(1/41)
ومحمد
بن عبد الملك البلخي، المعروف بالأديب رشيد الوطواط (م 578 هـ)، وكان من أبرع
معاصريه في النظم والنثر (1). وأجاز لأبي طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي، وكذلك
السيدة أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن الشعري (2).
مؤلفاته
قدم الزمخشري للمكتبة الإسلامية مؤلفات قيمة في فنون شتى: في العلوم الشرعية،
واللغة، والنحو، والأدب، والعروض. تبلغ تأليفه خمسين مؤلفا كما ذكرها المترجمون
له، وفيما يأتي عرضها على حسب الحروف:
- أساس البلاغة (وهو معجم يهتم بالاستعارة والمجاز) (3).
- أطواق الذهب (أو النصائح الصغار) (مائة مقالة في الوعظ والنصائح والحكم) (4).
- أعجب العجائب في شرح لامية العرب (5).
- الأمالي في كل فن (6).
- الأمكنة والجبال والمياه والبقاع المشهورة في أشعار العرب (7).
- الأنموذج (كتاب صغير في النحو مختصر من المفصل) (8).
__________
(1) انظر: معجم الأدباء 1/ 103، 19/ 29.
(2) العقد الثمين 7/ 149؛ وفيات الأعيان 5/ 171.
(3) طبع مرارا في حيدر آباد دكن والقاهرة.
انظر: بروكلمان، تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(4) طبع في بيروت (1293 هـ)، وبعدها مرارا، تاريخ الأدب العربي 5/ 235.
(5) طبع الطبعة الأولى بالقسطنطينية، وبالقاهرة سنة (324 أهـ).
انظر: تاريخ الأدب العربي 1/ 107، 5/ 238.
(6) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(7) طبع في بغداد (سنة 1918 هـ)، تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(8) طبع حديثا في بيروت، مع كتاب، نزهة الطرف في علم الصرف " "
للميداني، دار الآفاق الجديدة، 1401 هـ.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 227.
(1/42)
-
تسلية الضرير (1).
- تعليم المبتدئ وإرشاد المهتدى (جمل مفردة عربية وترجمتها بالفارسية للناشئين)
(2).
- جواهر اللغة (3).
- خصائص العشرة الكرام البررة (4).
- ديوان التمثيل (5).
- ديوان الرسائل (6).
- ديوان الزمخشري (7).
- ديوان الشعر (8).
- رءوس المسائل (في الفقه الخلافي بين المذهبين الحنفي والشافعي) هذا هو الكتاب
الذي بين أيدينا، وسيأتي الكلام عنه مفصلا (9).
- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (مختارات شتى من الأدب والتاريخ والعلوم) (10).
- الرسالة الناصحة (11).
- سوائر الأمثال (12).
__________
(1) انظر: مفتاح السعادة 2/ 99.
(2) مخطوط بدار الكتب المصرية (برقم س - 4254).
انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 123.
(3) انظر: كشف القناع المزني عن مهمات الأسامي والكنى (للعيني) مخطوط، ص 93.
(4) مخطوط في برلين. انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(5) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(6) المصدر نفسه.
(7) مخطوط بدار الكتب المصرية، تاريخ الأدب العربي 5/ 237.
(8) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(9) انظر: ص 64 - 76 من الرسالة.
(10) طبع محققا في العراق، تحقيق الدكتور سليم النعيمي، بغداد: ديوان الأوقاف 1976
م.
(11) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(12) المصدر نفسه 5/ 169.
(1/43)
-
شافي العي (من كلام الشافعي رحمه الله تعالى) (1).
- شرح أبيات كتاب سيبويه (2).
- شرح بعض مشكلات المفصل (3).
- شرح مقامات الزمخشري (وهو كتاب النصائح الكبار) (4).
- شقائق النعمان في حقائق النعمان (مناقب أبي حنيفة رحمه الله) (5).
- صميم العربية (6).
- ضالة الناشد في علم الفرائض (7).
- الفائق (في غريب الحديث) (8).
- القسطاس (9).
- القصيدة البعوضية، (وأخرى في مسائل الغزالي) (10).
__________
(1) المصدر نفسه 5/ 169.
(2) وفيات الأعيان 5/ 169.
(3) انظر: مفتاح السعادة 2/ 98.
(4) طبع بالقاهرة سنة (1312 هـ).
انظر تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(5) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(6) انظر: مفتاح السعادة 2/ 98.
(7) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(8) طبع في حيدر آباد الدكن، والقاهرة محققا سنة (1364 هـ).
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(9) مخطوط في ليدن وبرلين وغيرهما.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 229.
(10) مخطوط في برلين. انظر: المصدر نفسه 5/ 237.
(1/44)
-
(الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) (في التفسير) بلغ
هذا التفسير في نفوس العلماء مبلغا عظيما، حتى وصلت شروحه وتعليقاته ومختصراته،
والردود عليه بما يربو على ستة وثلاثين مصنفا (1).
كما استفاد منه كثير من العلماء في تفاسيرهم، كأبي السعود (م 982 هـ)، في تفسيره
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ومحمود الألوسي (م 1270 هـ) في
تفسيره روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، وغيرهما كثير:
- الكشف في القراءات (2).
- متشابه أسامي الرواة (3).
- المحاجاة في الأحاجي والأغلوطات (4).
- مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة (5).
- مسألة في حكمة الشهادة (6).
- المستقصى (في أمثال العرب) (7).
- معجم الحدود (في الفقه) (8).
- المفرد والمركب أو والمؤلف (9).
__________
(1) طبع هذا التفسير مرارا، مع تعليقات: علي بن محمد الجرجاني، والانتصار لابن
المنير الاسكندري، وحاشية المرزوقي، والكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف لابن
حجر.
انظر بالتفصيل: تاريخ الأدب العربي، 5/ 216 - 224.
(2) مخطوط بالمدينة المنورة، رباط سيدنا عثمان رضي الله عنه، تاريخ الأدب العربي
5/ 238.
(3) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(4) طبع في بغداد، بعنوان "المحاجاة بالمسائل النحوية"، بتحقيق الدكتورة
بهيجة باقر الحسيني، مطبعة أسعد، 1973 م.
(5) انظر: المصدر نفسه 5/ 238.
(6) انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 231.
(7) طبع في حيدر أباد الدكن، سنة (1381 هـ).
انظر: هامش تاريخ الأدب العربي 5/ 232.
(8) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(9) مخطوط بكوبريلي، تاريخ الأدب العربي 5/ 238.
(1/45)
-
المفصل في تعليم النحو (1).
- مقامات الزمخشري (2).
- مقدمة الأدب (معجم عربي فارسي) (3).
- المنهاج (في أصول الفقه) (4).
- نزهة المستأنس (5).
- النصائح الصغار والبوالغ الكبار (6).
- نكت الأعراب في غريب الإعراب (في غريب إعراب القرآن) (7).
- نوابع الكلم (مجموعة حكم وأقوال) (8).
عقيدته
كان الزمخشري معتزلي (9) العقيدة، مجاهرا بذلك، مفتخرا بها، منافحا ومدافعا عنها
بكل قواه، وكان إذا قصد صاحبا له، واستأذن عليه في الدخول، يقول له: "أبو
القاسم المعتزلي بالباب" (9).
ويقول أيضا: "أنا الشيخ المعتزلي من بيرزلي من بيرزلي".
__________
(1) طبع مرارا. المصدر نفسه 5/ 224.
(2) طبع بالقاهرة مع شرح المؤلف (سنة 1312 هـ)، المصدر نفسه 5/ 231.
(3) طبع في ليبسك سنة (1843 م)، المصدر نفسه 5/ 229.
(4) انظر: وفيات الأعيان 5/ 168.
(5) مخطوط في آيا صوفيا.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 237.
(6) مخطوط بدار الكتب المصرية بالقاهرة، برقم (13478 ز)، الزمخشري للحوفي، ص 63.
(7) مخطوط، بالقاهرة.
انظر: تاريخ الأدب العربي 5/ 238.
(8) طبع في القاهرة، المصدر نفسه 5/ 232.
(9) المعتزلة: من أهم الفرق الدينية الإسلامية، وتنسب نشأتها على قول أكثر العلماء
إلى واصل بن عطاء (م 131 هـ)، قام الاعتزال بادئ ذي بدء، دفاعا عن الدين، وحماية
للعمدة الإسلامية،
(1/46)
مذهبه
الفقهي
كان الزمخشري حنفي المذهب كأهل بلاده خوارزم ويشيد الزمخشري عن مذهبه الحنفي
مفتخرا به، حيث يقول:
وأسند ديني واعتقادي ومذهبي ... إلى حنفاء اختارهم حنائفا
حنيفية أديانهم حنفية ... مذاهبهم لا يبتغون الزعانفا (1)
__________
=وكانت لمشاهيرهم مواقف في دحض أباطيل الديانات والمذاهب البائدة وأصبحت لها بعد
ذلك فلسفة وتفكير خاص، مخالفين في بعضها، عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن ثم كانوا
مثار فتنة وتشكيك لعقائد المسلمين، وذاق المسلمون من فتنتهم الكثير من المحن،
ومعروف ما وقع للمسلمين وبخاصة أئمتهم، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، في
عهد الخليفة العباسي المأمون (198 - 218 هـ) من فتنة خلق القرآن الكريم.
أصول المعتزلة:
1 - التوحيد: وفسروه تفسيرا خاصا، من حيث الحسفات الثبوتية، والسلبية في ذاته وأن
صفاته عين ذاته، وأنه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة.
2 - العدل: بمعنى أن الله تعالى عدل حكيم، لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، ولا
يخلق أفعال العباد.
3 - الوعد والوعيد: ويقصدون به أن وعد الله ووعيده، نازلان واقعان لا محالة، وأن
الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده ولا وعيده: "لا عفو لمرتكب كبيرة كما لا
حرمان لفاعل خير".
4 - المنزلة بين المنزلتين: إن الفاسق لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، بل هو في منزلة
بين الكفر والإيمان.
5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب: بمعنى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف
والنهي عن النكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك.
انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص 149، 299، 609، 695؛ المرتضى، كتاب
المنية والأمل في كتاب الملل والنحل، ص 3، 6؛ ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء
والنحل 4/ 171؛ تاريخ الطبري 8/ 631 - 646؛ تاريخ أبي الفداء 2/ 30؛ تاريخ المذاهب
الإسلامية، ص 149.
انظر افتخاره بعقيدته: وفيات الأعيان 5/ 170؛ طبقات المفسرين للسيوطي، ص 41،
وغيرهما من كتب التراجم.
(1) انظر: الزمخشري للحوفي، ص 91.
(1/47)
ترجم
له علماء الحنفية في مدونات طبقاتهم، منهم: القرشي، في الجواهر المضيئة (1)، وابن
قطلوبغا في التاج وقال: "عده في الحنفية الشيخ مجد الدين" (2)، واللكنوي
في الفوائد، وقال: إنه من أكابر الحنفية (3).
ويختلف الزمخشري الحنفي عن الزمخشري المعتزلي، فهو متسامح مع مخالفيه في مسائل
الفقه، ولم يمنعه كونه حنيفا أن يتقبل مذاهب الآخرين، وربما أدى به الأمر إلى
ترجيح آراء مخالفيه (4)، على العكس مع مخالفيه في العقيدة، حيث سلك معهم أسلوب
التقريع والتسفيه والتجريح (5).
الزمخشري فقيها
عرف الزمخشري مفسرا، كما عرف لغويا، وأديبا، وشاعرا، أما الزمخشري الفقيه فهو
الجانب المغمور من صفاته، والذي لم يشتهر به بين الباحثين.
ويهمنا هنا بالأصالة التعرف على هذا الجانب من جوانبه العلمية، إذ المقاييس
المسلمة في مثل هذه الأمور هي:
أولا: إنتاجه العلمي في هذا المجال.
ثانيا: كيفية تناوله ومنهجه للموضوعات الفقهية إذا عرضت مناسبة لذلك.
ثالثا: تسليم العلماء المتخصصين له والثناء عليه في ذلك المجال.
وعلى ضوء هذه المقاييس سيكون الحديث عن الزمخشري الفقيه. أما إنتاجه فكتاب رءوس
المسائل، ليس كتاب فقه فحسب، بل هو أدق من ذلك، وهو: الخلاف بين مذهبه المذهب
الحنفي، والمذهب الشافعي؛ ولا يتناول هذا الموضوع
__________
(1) انظر: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية (493)، 2/ 160، 161.
(2) ابن قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية (217)، ص 71، 72.
(3) اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209، 210.
(4) انظر: تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض} في الكشاف 1/ 134.
(5) انظر: تفسير قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} في الكشاف 1/ 179.
(1/48)
بالتأليف
إلا عالم ذو باع طويلة، واقتدار علمي كبير في الفقه، إذ أنه لا يتحدث عن مذهبه
فحسب وإنما عن مذهبه ومذهب مخالفه مع ذكر أدلة كلا الطرفين، وسيتضح لنا جانب
الإبداع في كتابه هذا في قسم الدراسة الخاص به (1).
أولا: لم يكن إنتاجه الفقهي قاصرا على هذا الكتاب، بل إن له تأليف أخرى في فنون
الفقه وهي: (معجم الحدود) في الفقه، و (المنهاج) في أصول الفقه (2).
ثانيا: وأما كيفية عرضه وتناوله للموضوعات الفقهية، إذا عرضت مناسبة لذلك، ففي
كتابه الكشاف في التفسير نجده يفسر آيات الأحكام ويتحدث عن المسائل الفقهية،
ويعالجها بمهارة تدل على اطلاع واسع وإلمام كبير بآراء الفقهاء، مع مناقشة
لآرائهم، وإن كان ولاؤه غالبا لمذهبه الحنفي.
أمثلة ذلك من تفسير الكشاف:
قال الله سبحانه وتعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام} (3).
"الهدي هو هدي المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة، ويأكل منه، وعند الشافعي يجري
مجرى الجنايات، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عندنا، وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم
بحجته، {فمن لم يجد} الهدي فعليه {فصيام ثلاثة أيام في الحج} أي في وقته، وهو
أشهره، ما بين الإحرامين: إحرام العمرة وإحرام الحج وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله،
والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم،
وعند الشافعي: لا تصام إلا بعد الإحرام بالحج تمسكا بظاهر قوله: {في الحج وسبعة
إذا رجعتم} بمعنى: إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج، عند أبي حنيفة، وعند الشافعي
هو الرجوع إلى أهاليهم ... ، {ذلك} إشارة إلى
__________
(1) كما سيأتي في ص 67، 74.
(2) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(3) سورة البقرة: آية 196.
(1/49)
التمتع
عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع
منهم أو قرن، كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه، وأما القارن والمتمتع من أهل
الآفاق، فدمهما دم نسك، يأكلان منه. وعند الشافعي إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب
الهدي أو الصيام، ولم يوجب عليهم شيئا.
وحاضروا المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبي حنيفة، وعند
الشافعي أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة" (1).
ونموذج آخر يبين ملكته الفقهية الراسخة في تناوله آيات الأحكام:
قول الله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض
ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (2).
قال الزمخشري: "وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال: فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان
اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج، وروى محمد
حديث عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمر سألها هل يباشر الرجل امرأته وهي
حائض؟ فقالت: تشد إزارها على سفلتها ثم لتباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم، أن
رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لتشد
عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها (3)، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، وقد جاء ما هو
أرخص من هذا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
وقرئ يطهرن بالتشديد، أي يتطهرن، بدليل قوله: {فإذا تطهرن} وقرأ عبد الله: {حتى
يتطهرن، ويطهرن} هو بالتخفيف، والتطهر: الاغتسال، والطهر: انقطاع دم الحيض، وكلتا
القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن
__________
(1) انظر: الزمخشري، الكشاف 1/ 121.
(2) سورة البقرة: آية 222.
(3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وأبو داود نحوه من حديث حرام بن حكيم عن عمه:
أبو داود، في الطهارة، باب في المذي (212)، 1/ 55؛ الموطأ (93)، 1/ 57.
(1/50)
يقربها
في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم، وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل،
أو يمضي عليها وقت صلاة، وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر، فتجمع
بين الأمرين، وهو قول واضح ويعضده قوله: {فإذا تطهرن} " (1).
ففي النموذجين السابقين نجد الزمخشري المفسر هنا فقيها، له شخصية علمية واضحة، لم
يكتف بعرض الآراء، بل يناقش الأدلة، وأوجه الاستدلال، ويؤدي به الأمر أحيانا إلى
اختيار غير مذهبه الحنفي إذا رأى قوة أدلة المذهب المخالف، كما فعل هذا في الآية
الثانية.
ثالثا: لم يكن الزمخشري غفلا في هذا المجال العلمي بل شهد له بذلك وأثنوا عليه،
فالمترجمون له يصفونه: "بأنه كان فقيها مناظرا" (2)، كما يوصف:
"بالفقيه الحجة" (3).
وكل هذه الدلائل مجموعة تثبت أن الزمخشري كان فقيها مبرزا، كما كان لغويا، ومفسرا،
وأديبا، وشاعرا، إلا أنه اشتهر في الأوساط العلمية، وبخاصة في العصر الحديث،
باللغة والأدب، لبروزه وكثرة اشتغاله بهما أولا، ولتركيز الباحثين على هذا الجانب
في معارفه ثانيا، وأصبح الجانب الفقهي لديهم نسيا منسيا.
والزمخشري كغيره من علمائنا يجيدون فنونا متعددة، وعلوما شتى، ولكنهم يبرزون في فن
واحد أكثر من غيره، فيعرفون به، ويعدون حجة فيه.
أخلاقه
كان الزمخشري أبى النفس، معتزا بها، يأنف الضيم، ومن ثم كان شديد الاعتداد برأيه،
والثقة بنفسه والصلابة فيما يذهب إليه من آراء والتمسك بما يعتقد أنه
__________
(1) انظر: الكشاف 1/ 134 آية (203)، 1/ 125، 126، آية (233)، 1/ 141، وبالتفصيل:
تفسير سورة الحج والطلاق.
(2) الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209.
(3) انظر: الزمخشري لغويا ومفسرا، ص 141.
(1/51)
الحق،
ولكن هذا لم يمنعه من قبول الحق والرجوع إليه إذا تبين له واقتنع بأن الصواب مع
غيره، يقول تلميذه رشيد الدين الوطواط عنه: "وقد جرى بيني وبينه، في حياته
وأوقات راحته مما يتعلق بفنون الآداب وأقسام علوم العرب، مسائل أكثر من أن يحصى
عددها، أو يستقصى آمدها، رجع فيها إلى كلامي، ونزل على قضيتي وأحكامي، فالسعيد من
إذا سمع الحق، سكتت شقاشق لجاجه، وسكنت صواعق حجاجه، ... ثم يقول: وإنما ذكرت هذا
القدر اليسير ليعلم فتيان هذه الخطة، أن هذا الإمام كان صبورا على مرارة الحق،
وحرارة الصدق، مع أنه رب هذه البضائع، وصاحب هذه الوقائع، فهو مع الحق ولو على
نفسه" (1).
وكان متواضعا شديد التواضع جم الأدب، يقول في جوابه للحافظ السلفي حينما استجازه:
"ولا يغرنكم قول فلان في ... ، فإن ذلك اغترار منهم بالظاهر المموه، وجهل
بالباطن المشوه، ولعل الذين غرهم مني ما رأوا من حسن النصح للمسلمين، وتبليغ
الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإفادة المبار والصنائع عليهم، وعزة
النفس والربء بها عن السفاسف الدنيات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما يعنيني،
فجللت في عيونهم، وغلطوا في، ونسبوا إلي ما لست منه في قبيل ولا دبير، وما أنا
فيما أقول بها ضيم لنفسي ... " (2).
ويقول في مقاماته: "نعم يا أبا القاسم إن سمعتهم يقولون: ما أكثر فضلك! فقل:
إن فضولي أكثر، وما أغزر أدبك! فقل: إن قلة أدبي أغزر" (3).
وكان على حظ كبير من التدين والزهد والبعد عن الشبهات والعزوف عن الدنيا. حتى أن
بعض مؤرخيه لم يجدوا فيه مطعنا إلا الاعتزال، يقول ابن حجر: "إنه صالح لكنه
داعية إلى الاعتزال" (4).
__________
(1) نقله الشيرازي في كتابه الزمخشري، ص 147، من: رسائل البلغاء، كرد علي، ص 278،
380.
(2) انظر: معجم الأدباء 19/ 132؛ وفيات الأعيان 5/ 171.
(3) انظر: مقامات الزمخشري، ص 101 (مع الشرح).
(4) لسان الميزان 6/ 4.
(1/52)
وقد
اضطرته الحاجة وضيق ذات اليد إلى الاتصال بالملوك والأمراء يستمنحهم ويمدحهم
بشعره، فترة من حياته الأولى، مع أن مدائحه لم تخل من الدعاء لهم بالتوفيق، لإزالة
الظلم والجور، ونشر العدل على أيديهم (1).
ولكنه حينما أدرك - في مرحلته الأخيرة من حياته - مغبة صنعه آثر العزلة على الحياة
العامة، وأخذ على نفسه الميثاق: "بأن لا يطأ بأخمصه عتبة السلطان، ولا واصل
بخدمة السلطان أذياله، وأن يربأ بنفسه ولسانه عن قرض الشعر فيهم ... " (2).
وكان حربا على الجهلة من أدعياء التصوف كلما سنحت مناسبة لذلك، يقول في تفسير قوله
تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (3): "إذا رأيت من يذكر
محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب، وينعر ويصعق، فلا تشك في أنه لا يعرف ما
الله، ولا يدري ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصور في
نفسه الخبيثة، صورة مستملحة معشقة، فسماها الله بجهله ودعارته، ثم صفق وطرب ونعر
وصعق على تصورها ... " (4).
وفاته
أقام الزمخشري بخوارزم بعد رجوعه من مكة المكرمة، إلى أن توفاه الله تعالى، ليلة
عرفة سنة 538 هـ (1143 م) بجرجانيه (5).
__________
(1) انظر: ديوان الأدب، ورقة (16).
(2) انظر: خطبة مقامات الزمخشري.
(3) سورة آل عمران، آية 31.
(4) الكشاف 1/ 184.
(5) جرجانية: بضم الجيم الأولى وفتح الثانية، وسكون الراء بينهما وبعد الألف نون
مكسورة، وبعدها ياء مثناة من تحتها مفتوحة مشددة ثم هاء ساكنة، "وهو اسم لقصة
إقليم خوارزم، مدينة عظيمة على شاطئ نهر جيحون وأهل خوارزم يسمونها بلسانهم
كركانج".
انظر: وفيات الأعيان 5/ 173؛ مفتاح السعادة 2/ 100؛ مراصد الاطلاع على أسماء
الأمكنة والبقاع 1/ 323.
(1/53)
وأوصى
بأن تكتب على قبره هذه الأبيات:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول (1)
"ويروى أنه تاب في آخر عمره ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المرجو عن
مثل هذا الإمام، والعلم عند الملك العلام" (2).
ثناء العلماء عليه
لقد استوجبت الخصائص الخلقية والعلمية التي اتصف بها العلامة الزمخشري، ثناء
العلماء والأدباء عليه قديما وحديثا، خلده له التاريخ عبر القرون لما كان له من
مكانة مرموقة في الأوساط العلمية. ويعد الزمخشري إمام عصره في اللغة بلا مدافع كما
وصفه الباحثون، ومن ذلك ما ينقله القفطي عن الإمام أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي،
قوله: "كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وأكثرهم اكتسابا
واطلاعا على كتبها، وبه ختم فضلاؤهم" (3).
وقال القفطي في ترجمة الزمخشري: "وكان ممن يضرب به المثل في علم الأدب والنحو
واللغة، وصنف التصانيف: في التفسير وغريب الحديث، والنحو وغير ذلك، ودخل خراسان،
وورد العراق، وما دخل بلدا إلا اجتمعوا عليه: وتلمذوا له واستفادوا منه، وكان
علامة الأدب، ونسابة العرب، أقام بخوارزم، تضرب إليه أكباد الإبل، وتحط بفنائه
رحال الرجال، وتحدى باسمه مطايا الآمال" (4).
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان 5/ 173.
(2) ذكره (البرتوس ميورسينخ) محقق كتاب طبقات المفسرين للسيوطي في ترجمة الزمخشري
(طبعة طهران، 1960 م)، ص 41.
(3) انظر: إنباه الرواة 3/ 270؛ مفتاح السعادة 2/ 100.
(4) إنباه الرواة 3/ 265، 266، ما بعدها بالتفصيل.
(1/54)
ونقل
ابن الأنباري في ترجمة الزمخشري تكريم ابن الشجري له: "قدم بغداد للحج فجاءه
شيخنا الشريف بن الشجري مهنئا له بقدومه، فلما جالسه أنشده الشريف:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن داود أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري (1)
ومدحه الشريف بن وهاس:
جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوءها دارا فداء زمخشرا
وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ ... إذا عد في أسد الشرى زمخ شرا (2)
وقال السيوطي عنه: "كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة
القريحة، متفننا في كل علم ... " (3).
* * *
__________
(1) نزهة الألباء، ص 291.
(2) إنباه الرواة 3/ 268، وما بعدها بالتفصيل.
(3) بغية الوعاة 2/ 279.
انظر بالتفصيل: معجم الأدباء 19/ 128 وما بعدها.
(1/55)
الفصل
الثالث:
كتاب رؤوس المسائل، موضوع الرسالة
ويشتمل على العناصر التالية:
- عنوان الكتاب.
- منهج المؤلف في الكتاب.
- نسبة الكتاب لمؤلفه.
- مصادر الكتاب.
- أهمية الكتاب.
- نقد الكتاب.
- موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها.
- الكتب المؤلفة في علم الخلاف.
* * *
عنوان الكتاب
عنوان الكتاب: (رءوس المسائل)، وهو بهذه الصياغة، يوحي لأول وهلة، بمضمونه
ومدلوله، فموضوعه: المسائل الفقهية المهمة، مسبوكة في إيجاز، معروضة عرضا مذهبيا
محدودا، أو متجاوزا إلى المذاهب الأخرى، حسب قدرة المؤلف، ورسوخه العلمي فيما
يتعرض له من مباحث ومسائل.
هذا النوع من التأليف الفقهي، مخصوص بين الفقهاء: بالكتب الفقهية المختصرة التي
يؤثر مؤلفوها فيها الإيجاز لقصد تعليمي، ذلك هو تسهيل حفظها على الطلاب، لم يكن
الزمخشري مؤلف هذا الكتاب بدعا في هذه التسمية، بل سبقه بها عدد من المؤلفين في
مختلف المذاهب.
من هذه المؤلفات التي حفظ لنا التاريخ عناوينها، ما جاء ذكرها في كشف
(1/57)
الظنون
(1) تحت عنوان رءوس المسائل: لأبي الفتح سليم بن أيوب الرازي (م 447 هـ) في
الفروع، ولأبي الحسن المحاملي (م 415 هـ) "يذكر فيها أصول المسائل ويستدل
عليها" (2)، كما يوجد كتاب بهذا العنوان، للإمام النووي (م 676) (3).
ورءوس المسائل من تأليف الشريف عبد الخالق بن عيسى الهاشمي الحنبلي (م 470 هـ)،
ويتحدث ابن بدران عن منهج هذا المؤلف في هذا الكتاب: "أنه يذكر المسائل التي
خالف فيها الإمام أحمد، واحدا من الأئمة أو أكثر ثم يذكر الأدلة منتصرا للإمام،
ويذكر الموافق له في تلك المسألة، بحيث إن من تأمل كتابه، وجده مصححا للمذاهب،
وذاهبا من أقوالها المذهب المختار" (4).
وألف أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني (م 695 هـ): الخلاف الكبير،
وهو: الانتصار، والخلاف الصغير، وسماه: رءوس المسائل (5).
ومن هذا العرض المجمل يتضح، أن هذه الكتب بهذا العنوان، أصبحت علما على الكتب
المختصرة في فقه الخلاف غالبا.
فكان رءوس المسائل للإمام الزمخشري واحدا من هذه الكتب في هذا الفن.
نسبة الكتاب لمؤلفه
تتحقق نسبة أي كتاب إلى مؤلفه بأمور منها:
أولا: غلاف الكتاب، وما دون عليه من عنوان ونسبة، وتعليقات للعلماء.
ثانيا: كتب التراجم، حيث يتعرضون غالبا للإنتاج العلمي، لمن يترجمون له.
__________
(1) حاجي خليفة، كشف الظنون 1/ 915.
(2) الحسيني، طبقات الشافعية، ص 132.
(3) طاش كبري زاده، مفتاح السعادة 2/ 564.
(4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص 208، 219.
(5) المدخل، ص 211.
(1/58)
ثالثا:
كتب المصادر (البيبلوجرافية) وما تحدث فيها أصحابها عن هذا الكتاب.
أما بالنسبة لهذا الكتاب، فإنه كتب على صفحة الغلاف بالنص:
"رءوس المسائل، للعلامة الزمخشري، صاحب الكشاف"
وعليها بعض التملكات (1) والمطالعات لبعض العلماء الذين تملكوه، أو استفادوا من
مطالعته، هذه الكتابات تعد من الاثباتات القوية الدالة على صحة نسبة الكتاب
لمؤلفه، إذ لو كان ثمة أدني شك في هذه النسبة، لبينوها وذكروها في تعليقاتهم، كما
هي عادتهم.
ثانيا: ذكر الكتاب، ونسبته لمؤلفه في كتب التراجم:
- ذكره ابن خلكان (م 681 هـ) في وفيات الأعيان، من ضمن مؤلفات الزمخشري وقال:
"وصنف التصانيف البديعة، منها: الكشاف، في تفسير القرآن العزيز، لم يصنف قبله
مثله ... ورءوس المسائل في الفقه" (2).
__________
(1) كتب على صفحة الغلاف القديمة ما يأتي: رءوس المسائل للزمخشري؛
- ملكه الشيخ البقاعي، سنة (930 هـ).
- من كتب الادخال، سنة (992 هـ)، للقاضي الشرعي الفقيه: حافظ إسماعيل بن محمد
الإمام بجامع فوجه.
- الحمد لله طالع فيه مستفيدا، الفقير علاء الدين الطرابلسي الحنفي، إمام الجامع
الأموي، عفى عنه، في سنة (1027 هـ).
- الحمد لله رب العالمين، نظر وطالع في هذا الكتاب، الفقير إلى الله إبراهيم بن
حسين الطباخ الرومي، ثم الدمشقي الحنفي، عفى عنه ربه الخفي.
- دخل في ملك الفقير: عبد الباقي بن موسى، القاضي بمدينة غلطة، عفى عنه.
- وذكر عليه أيضا بعض الفوائد العلمية، مما يتعذر قراءتها، بسبب آثار البلل.
- وعلى صفحة الغلاف الحديثة نسبيا: (رءوس المسائل، للعلامة الزمخشري، صاحب
الكشاف)، وعليها أيضا بعض التملكات: من كتب العبد الفقير السيد عبد الله القاضي
بسلانيك، رتبة أدرنة ساها عفى عنه.
- ثم انتقل إلى سلك الفقير إلى الله تعالى السيد عبد الله بن محمد الأدريه دي عفى
عنهما الباري.
(2) انظر: وفيات الأعيان 5/ 169.
(1/59)
-
وذكره البدر العيني (م 855 هـ) في كشف القناع المرني عن مهمات الأسامي والكنى (1).
وذكره ابن قطلوبغا (م 879 هـ) في تاج التراجم في طبقات الحنفية في ترجمته للزمخشري
(2).
ئالثا: أما كتب المصادر، فقد أورده حاجي خليفة (كاتب جلبي) (م 1067) (3) في كشف
الظنون تحت عنوان (رءوس المسائل) (3).
- وذكره إسماعيل البغدادي (م 1339 هـ)، في هداية العارفين (4).
كما أنه لم يثر أي جدل أو شبهة حول نسبته له، بحيث يعد هذا إجماعا علميا على صحة
نسبة هذا الكتاب، للعلامة الزمخشري قطعا، وبدون أدني ريب أو شك.
أهمية الكتاب ومكانته بين كتب الفن
اشتهر عصر الزمخشري بالموسوعات المدونة في الفنون بعامة، وعلم الخلاف بخاصة، وأراد
الزمخشري أن يكون كتابه هذا بمثابة المتن بالنسبة للمطولات في علم الخلاف حيث إن
المتون لا تتعرض لكل المسائل الفقهية بل أهمها، ليستفيد منه المبتدئ والمنتهى:
"إذا قرأه المبتدئ وتصوره تنبه به على أكثر المسائل، وإذا نظر فيه المنتهى
تذكر به جميع الحوادث".
كما أنه يضيف إضافة جديدة إلى مجموعة مدونات علم الخلاف بعرض أقوال مذهبين من
مذاهب أهل السنة، حيث يمثل كل منهما اتجاها مغايرا، إذ ينتمي مذهب الأحناف إلى
مدرسة الرأي، ومذهب الشافعية إلى مدرسة الحديث.
فمن ثم تكون للكتاب أهميته العلمية بين مجموعة المؤلفات في هذا المجال الفقهي.
__________
(1) انظر: كشف القناع المرني عن مهمات الأسامي والكنى (ورقة 93).
(2) انظر: تاج التراجم في طبقات الحنفية (217)، ص 71.
(3) انظر: كشف الظنون 1/ 915.
(4) انظر: هدية العارفين 2/ 403.
(1/60)
موضوعات
الكتاب ونظام ترتيبها
احتوى الكتاب على معظم موضوعات الفقه الأساسية: العبادات، المعاملات، المناكحات،
الجنايات، الحدود، الجهاد، على أنه لم يستوف في العرض، لكافة أبواب المسائل المتصلة
بهذه الموضوعات، بل تخير بعضا من مسائلها، فكان يكتفي في بعض الأبواب، بالمسألة
والمسألتين والثلاث، من ذلك:
كتاب الحوالة والضمان: ذكر فيه مسألة واحدة (1).
وكتاب الكفالة: ذكر فيه مسألتين (2).
وكتاب العارية: ذكر فيه ثلاث مسائل (3).
فمجموع المسائل التي ذكرها تحت الأبواب المختلفة، لا تمثل كل الموضوعات الخلافية،
بين الحنفية والشافعية، بل تمثل بعضا منها وهو ما يمكن أن يعد من أهمها (4).
سار المؤلف رحمه الله في ترتيب كتابه على نمط مستقل في الموضوعات الفرعية، وإن
شابه ترتيب الأحناف من حيث الأساس؛ لأنهم يبدأون بالعبادات فالمعاملات، فالمناكحات
ثم يذكرون في آخرها كتاب العتق وما يلحقه من مسائل، فالجنايات والحدود، فيذكرون
بعدها كتاب الصيد والذبائح والأضحية" وبعده: الدعوى والبينات، ثم يذكرون
القضاء والإكراه، فالجهاد والمواريث. هذه طريقة الأحناف كما في ترتيب القدوري
وغيره.
- وأما ترتيب كتب الشافعية في عهد الزمخشري، فكان على النمط التالي:
أولا: العبادات ويلحق بها كتاب الصيد والذبائح والأطعمة.
ثانيا: المعاملات وفي آخرها كتاب العتق وما يتعلق به، وبعده المواريث.
__________
(1) انظر: مسألة (203، 204).
(2) انظر: مسألة (205، 206).
(3) انظر: مسألة (223، 224، 225).
(4) ويمكن إدراك ذلك بالرجوع إلى كتاب "النكت" للشيرازي (مخطوط -
ميكروفلم) بمركز البحث العلمي، كلية الشريعة، جامعة أم القرى تحت رقم (143) فقه
عام، مصورة عن مكتبة أحمد الثالث بتركيا، رقم (1154).
(1/61)
ثالثا:
المناكحات.
رابعا: الجنايات ومن ضمنها الجهاد ومتعلقاته، والأقضية، والشهادات والإقرار، وهذه
طريقة الشيرازي في المهذب والتنبيه.
- أما ترتيب الغزالي من الشافعية في الوجيز:
العبادات، فالمعاملات، (وذكر فيها الإقرار) وبعده المواريث، فالمناكحات،
فالجنايات، وبعدها الجهاد، وفيه الجزية، والصيد، والذبائح والأطعمة والأيمان
والنذور، وبعدها القضاء، والشهادات والدعاوى والعتق وما يتعلق به.
- وهذا هو ترتيب النووي في المنهاج.
وبالمقارنة بين ترتيب المؤلف في كتاب رءوس المسائل وترتيب غيره، نجد تشابها كبيرا
بين ترتيب المؤلف وترتيب فقه الأحناف، من حيث الموضوعات الأساسية وإن كان يخالفهم
في بعض التبويبات الفرعية: ذكر المؤلف الإكراه بعد الطلاق، وعادة الأحناف ذكره في
كتاب القضاء، وأخر كتاب العتق إلى آخر الكتاب. مع أن الأحناف يذكرونه في آخر
المناكحات، وكذلك قدم وأخر في بعض الأبواب في المعاملات، ما عدا المحذوفة منها،
كما خالفهم في وضع كتاب السير، حيث ذكره بعد المعاملات وقبل المناكحات، وفصل عن
السير كتاب الجزية، حيث ذكره في آخر الجنايات.
وأما الاختلاف بين ترتيبه وترتيب الشيرازي فواضح جلي، حيث إن الشيرازي ذكر كتاب
الصيد والذبائح ضمن العبادات، في حين أن الزمخشري ذكر هذه الأبواب ضمن الجنايات،
كذلك ذكر الشيرازي كتاب العتق ومتعلقاته تحت العاملات وصاحب رءوس المسائل ذكره بعد
الجنايات في آخر الكتاب، وهكذا في مواضع أخرى.
والكتاب الذي يكاد يطابق ترتيبه ترتيب المؤلف هو: "كتاب الوجيز"، للإمام
الغزالي، مع اختلاف الزمخشري عنه في ترتيب كتاب السير.
(1/62)
منهج
المؤلف في الكتاب
من المألوف بين المؤلفين، أن يقدم المؤلف بين يدي الكتاب مقدمة (خطبة) يبين فيها
الغرض من تأليف الكتاب، ومنهجه فيه، وتقسيمه لموضوعاته وخطته التي اعتمدها في
تصديه لمباحث الكتاب، ومصادره التي اعتمدها، إلى غير ذلك مما يتعلق بالكتاب.
عرى هذا الكتاب عن هذه المقدمة، بل بدأه الإمام الزمخشري مباشرة بالموضوع الأول من
الكتاب: كتاب الطهارة.
ليس هذا هو الكتاب الوحيد بين كتب الإمام الزمخشري الذي سار فيه بهذه الطريقة، بل
أن له كتابا آخر سلك فيه السلك نفسه ذلك هو كتاب الأنموذج في النحو (1)، حيث بدأه
مباشرة بموضوعات الكتاب، في حين أن خطته العامة في بقية كتبه التقديم بين يدي
الكتاب مقدمة، يفصل فيها السبب الداعي لتأليف الكتاب، وما سيتطرق إليه من موضوعات،
إلى غير ذلك.
كما نجد هذا جليا: في تفسيره الجليل "الكشاف"، و"أساس البلاغة"،
و "الفائق في غريب الحديث"، و "مقامات الزمخشري"، وغيرها من
الكتب.
ولما كان البحث يستوجب التعرف على منهجه في هذا الكتاب، من خلال عرضه، لموضوعات
الكتاب، ومسائله، وأسلوب بيانه.
فوضحت هذا المنهج في الخطوات التالية:
أولا: يفتتح المؤلف: المسألة مع ذكر حكمها لكلا المذهبين بأسلوب خبري، مبتدئا بقول
أبي حنيفة، ومثنيا بالشافعي رحمهما الله تعالى، وهو في ذلك لا يتعرض إلا لقول أبي
حنيفة - وإن كان المذهب خلافه.
ثانيا: يعقب المسألة لذكر دليلها لكلا الطرفين: مبتدأ بدليل قول أبي حنيفة ومثنيا
بدليل قول الشافعي.
__________
(1) انظر: أول كتاب الأنموذج، الزمخشري، (مع نزهة الطرف في علم الصرف، للميداني)،
الطبعة الأولى، 1401 هـ، بيروت، دار الآفاق الجديدة.
(1/63)
-
يعرض الأدلة لكل مذهب كما يقررها كل فريق، خالية من الجدل والمناقشة، مخالفا لما
جرت عليه عادة كتب الخلاف عامة: حيث يناقشون الأدلة، للانتصار لقول المذهب الذي
ولاء المؤلف له.
هذا هو المنهج العام لعرض مسائل الكتاب في جميع الأبواب التي تعرض لها، وقد يخرج
عن هذا النهج في بعض الأحيان: فيعرض المسألة بطريقة الاستفهام ويعقبها بالإجابة
كما في مسألة: (65، 68، 75).
- أو يذكر أقوال غير الإمامين - أبي حنيفة والشافعي - كمالك وأبي يوسف ومحمد رحمهم
الله، كما في مسألة (8، 148، 318).
- أو يقدم دليل قول الشافعي على دليل قول أبي حنيفة كما في مسألة (39، 42).
- أو يعقب المسألة ببيان صورة توضيحية، إن كانت ثمة حاجة للتوضيح، كما في مسألة
(100، 212، 231، 236، 289).
- أو يذكر بعد الأدلة سبب الاختلاف بين الطرفين كما في المسألة (70، 72، 84، 87،
113).
- أو يذكر فائدة الخلاف في المسألة كما في (309، 329).
وقد يتعرض في بعض الأحيان لمناقشة دليل المخالف بطريقة ضمنية كما في مسألة (50،
55، 63، 77، 252، 258).
مصادر الكتاب
اعتاد الفقهاء المتقدمون، إرجاع نسبة القول لقائله في كتبهم، وحذا حذوهم المتأخرون
منهم، فيعقبون المسألة بالنص على مصدرها الذي تم النقل عنه، توثيقا للقارئ،
واعترافا بفضل السابق.
خالف الزمخشري هذا المبدأ في هذا الكتاب، حيث لم يذكر مصدرا من المصادر
(1/64)
التي
اعتمدها في تأليفه، سواء المذهب الحنفي أو الشافعي، كما أنه لم يخرج الأحاديث ولم
يسندها إلى رواتها، إلا ما ندر رغم إتقانه له.
وبعد التتبع الشديد للمصادر التي اقتبس مادته الفقهية منها، محاولا التعرف عليها
من خلال تشابه الجمل والعبارات والاستدلال للمسائل، فوجدت أن المؤلف استقى بعض
الأحكام وأدلتها للمذهبين من بعض كتب المذهب الحنفي، كالمبسوط حيث التشابه الكبير
بين ما يعرضه الزمخشري من استدلالات وأدلة المبسوط في بعض المسائل، وإن لم ينقلها
نصا، بل تصرف فيها بالاختصار، أو النقل بالمعنى، وهذا احتمال قوي، كما تكون من
الأدلة المشهورة لدى الفقهاء فتوافق النقل، وقد يكون نقله من كتب لا نعرفها، ولم
تصل إلينا، والله أعلم.
ولعلنا نجد للمؤلف مسوغا، لكل ما تقدم، في واحد من الأمور التالية:
(أ) قصد الاختصار، كما هو ظاهر من عنوان الكتاب، ومنهجه فيه.
(ب) شهرة المسائل التي عرض لها بين الفقهاء.
(ج) كتابته لها من محفوظاته من غير اعتماد على كتاب معين.
ومن ثم يبدو الأمر شاقا وعسيرا، إذ لا بد من تحقيق نصوصه، والتأكد من صحة نقله،
ونسبة القول إلى مصادره.
لم أجد أمام هذا الواقع، لإكمال هذه الثغرة العلمية المهمة إلا الرجوع إلى الكتب
المعتمدة: المطولة والمتوسطة والمختصرة، المدعمة بالأدلة، والمجردة عنها، مما ألف
قبل عصره، أو في عصره، حيث إنها مظنة رجوعه إليها واقتباسه منها، تيقنا بأنها
الكتب الشائعة، المتداولة بين فقهاء عصره.
ويضطرني البحث أحيانا الرجوع إلى الكتب المؤلفة بعد عصره، إما لزيادة شرط، أو
لتوضيح مسألة، أو لذكر القول المعتمد في المذهب، ووثقت كل هذه المعلومات بالهامش
مراعيا الترتيب على حسب وفاة مؤلفيها.
(1/65)
نقد
الكتاب
اشتمل الكتاب على خصائص علمية ومنهجية، كما لم يخل من ثغرات ومآخذ، نعرض هنا
لأهمها:
تميز الكتاب بالخصائص التالية:
- اقتصاره على أهم المسائل الخلافية.
- جمع المسائل المتشابهة في الأحكام بباب واحد من الأبواب المتفرقة، كما في كتاب
البيوع، وفي هذا عون كبير للدارس على ربط الأحكام ببعضها، وأحرى به على تذكرها.
- عرضه السهل المبسط، بطريقة مقتضبة موجزة، وهو بهذا يحقق الهدف التعليمي من تأليف
الكتاب، لييسر حفظه على الدارسين.
- ذكره صورة الخلاف وتوضيحها، إن كان ثمة غموض في المسألة، كما هو في مسألة (100،
212، 231، 289). وهذا هو شأن الكتب التعليمية، حيث الابتعاد عن الغموض وتوضح
المعلومات ما أمكن.
- أمانته العلمية: صحة نسبته الآراء التي حكاها عن أصحابها وما شذ عن هذه الحقيقة
إلا مسألتي (209، 245) عند الأحناف فقط.
- وكذلك أن معظم المسائل التي حكاها عن الشافعي كانت على الأقوال الراجحة في
المذهب، إلا ما جاء في بعض المسائل التي حكي فيها الأقوال المرجوحة أو القديم من
قول الشافعي وذلك مثل ما يلي:
- أورد خمس مسائل على الأقوال المرجوحة لدى الشافعية: (163، 190، 261، 344، 377).
- وكذلك أورد ثلاث مسائل على القول القديم للشافعي: (253، 297، 335).
وهناك مسألتان أورد في أثناء الاستدلال والتمثيل لها أقيسة مخالفة لحكم المذهب:
(68، 83).
(1/66)
وأورد
مسألة واحدة فقط مخالفا لقول الشافعي: (11).
ولنا أن نتلمس عذرا للمؤلف، عن ذكره الأقوال القديمة والمرجوحة: حيث لم تظهر
الأقوال الراجحة تماما في المذهب الشافعي في ذلك الحين، كما بينت ذلك بشيء من
التفصيل أثناء الحديث عن منهج التحقيق (1).
- وكذلك نقل عن الإمام مالك مسألتين مخالفا لمذهبه: (8، 318).
- تنظيره بمسألة متفقة بين الطرفين، بعد استدلاله بالدليل الأساسي لقول المذهب -
تقوية الجانب المستدل.
أما المآخذ على الكتاب فقد سبق ذكر جملة منها وتلك هي:
- خلو الكتاب من المقدمة التي يتعرف القارئ من خلالها على منهج المؤلف، ومحتويات
كتابه.
- إغفاله التام للمصادر التي اعتمدها في التأليف.
- ترتيبه لأبواب الكتاب لم يكن منتظما ولا متناسقا.
- تكراره لبعض الأبواب، ووضعه لها في غير موضعها، كما في كتاب الأشربة، والأيمان،
وكذلك تكراره لبعض المسائل، كما كرر مسألة (عقوبة المرتدة): مرة في كتاب السير
(240) ومرة في قتال أهل البغي (45).
- ومسألة (دم الحامل) كررها مرة في الطهارة (37) ومرة في العدة (309).
- إغفاله لذكر قول أحد المذهبين كما في مسألة (95، 96).
- إغفاله للمسألة الخلافية بين الطرفين، بعد ذكر المتفق بينهما كما في مسألة
(101).
- ذكره المسألة مطلقة، بدون ذكر قيد أو شرط كما في مسألة (135).
__________
(1) كما يأتي ص 90، 91.
(1/67)
-
عدم اعتنائه بالاصطلاحات الفقهية الدقيقة، حيث يقول لا يجوز: ويقصد به: الكراهة،
وكراهة تحريم، والحرام، (14) وحيث يستعمل الشرط، ويقصد به الفرض، وغير الشرط،
ويقصد به السنة، كما في مسألة (7، 9) وغيرها من المسائل.
- ذكره للأحاديث بالمعنى كقوله (للمغرب وقتان) في مسألة (40) وكذلك في معظم
الأحاديث.
- دمجه لعدة أحاديث في حديث واحد كما في مسألة (42).
- عدم ذكر راوي الحديث وتخريجه، مع أن للزمخشري باعا طويلة في الحديث.
- نسبة بعض آثار الصحابة والتابعين، حتى بعض القواعد الفقهية أنها من كلام النبوة
الشريفة (85، 267، 344).
- استدلاله بالقياس مع وجود دليل نقلي كما في مسألة (16، 44، 54، 60، 104) وأمثلة
ذلك كثيرة.
- اكتفاؤه بدليل أحد الطرفين مع محاولة إلزام الطرف الثاني الحجة، برد ضمني، كما
في مسألة (47، 51، 76، 77).
- إغفاله لدليل أحد المذهبين كثيرا، أو دليل المذهبين معا كما في مسألة (101، 114،
150).
الكتب المصنفة في علم الخلاف
اهتم العلماء منذ القرن الأول بعلم الخلاف، حتى اشترطوا على المفتي أن يكون عالما بأقوال
العلماء المختلفة ومذاهبهم، كما نقل ابن القيم عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
تعالى: "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتى"
(1).
__________
(1) ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 54.
(1/68)
ومن
ثم زخرت بها المصنفات العلمية الكبرى: ككتب التفاسير بعامة، وكتب تفسير آيات
الأحكام بخاصة، كالجصاص، وابن العربي والقرطبي، والكيا الهراسي.
ومن المصنفات الحديثية التي اهتمت بهذه الناحية: مصنف عبد الرزاق، مصنف ابن أبي
شيبة، وموطأ الإمام مالك، وشرح معاني الآثار، وكذلك معظم كتب شروح الحديث.
كما اهتم به بعض كتب الفقه المذهبي: كالمبسوط والبدائع، والمجموع، والمغني، ومن
شدة اعتناء العلماء بهذا الفن، أفردوا له مؤلفات خاصة، وقسموا التأليف فيه إلى
قسمين:
قسم يتعرض لجميع الأقوال المتعددة في المسألة مع ذكر أدلتها، وبعضهم مع تجريدها عن
الأدلة.
وقسم يتعرض لأصول مسائل الخلاف، وسر منشأه، ومعرفة مآخذ أدلة الأئمة لاستنباط
الأحكام.
أهم الكتب المصنفة من القسم الأول: الذي يتعرض لذكر الأقوال المتعددة في المسألة
الواحدة قبل عصر الزمخشري:
- اختلاف الصحابة، للإمام أبي حنيفة النعمان (م 150 هـ) (1).
- اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (م 182
هـ) (2).
- والرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف (3).
- الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني (م 189 هـ) (4).
__________
(1) ذكره السيد أبو الوفاء الأفغاني في مقدمة كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن
أبي ليلى".
(2) طبع بتحقيق السيد أبي الوفاء الأفغاني، الطبعة الأولى، 1357 هـ، مصر، مطبعة
الوفاء.
(3) طبع بتحقيق السيد أبي الوفاء، الطبعة الأولى، بعناية لجنة إحياء المعارف
العثمانية.
(4) طبع بتحقيق السيد مهدي حسن الكيلاني، حيدر آباد الدكن، مطبعة المعارف الشرقية،
1385 هـ، وصور في بيروت، عالم الكتب.
(1/69)
ويشتمل
"الأم" للإمام الشافعي (م 204 هـ) أبوابا متعددة، من اختلاف الفقهاء مع
الشافعي، رحمهم الله تعالى (1).
الإجماع والاختلاف، لأبي عبد الرحمن الشافعي (2).
كتاب الاختلاف، لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (م 209 هـ) (3).
كتاب اختلاف الفقهاء، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (م 310 هـ) (4).
الأوسط في السنن والإجماع.
كتاب الاختلاف.
- الإشراف على مذاهب أهل العلم، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر الشافعي (م
318 هـ) (5).
- كتاب اختلاف الفقهاء، لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (م 321 هـ) (6).
- مختلف الرواية بين أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد
السمرقندي (م 373 هـ) (7).
- التجريد لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري الحنفي (م 428 هـ) (8).
__________
(1) انظر: الشافعي، الأم، الطبعة الثانية، 1393 هـ، تصوير بيروت، دار المعرفة 7/
95 وما بعدها.
(2) انظر: ابن النديم، كتاب الفهرست، ص 267.
(3) انظر: كتاب الفهرست، ص 111.
(4) طبع الجزء الموجود من الكتاب (في بعض أبواب المعاملات)، بتحقيق الدكتور فريدرك
كون الألماني، بيروت، دار الكتب العلمية.
(5) انظر: المصدر السابق، وفيه ذكر أماكن وجود مخطوطاتها، ص 5.
(6) طبع جزء من الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد صغير حسن المعصومي، إسلام آباد، مطبعة
البحوث الإسلامية، 1391 هـ.
(7) الأعلام 8/ 27.
(8) انظر: مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري للدكتور فريدريك.
(1/70)
-
اختلاف الفقهاء الكبير، واختلاف الفقهاء الصغير، لأحمد بن نصر المروزي.
- كتاب الاختلاف في الفقه، لأبي يحيى زكريا بن يحيى بن محمد الساجي (1).
- كتاب الاختلاف، لأبي إسحاق بن إبراهيم بن جابر (2).
الكتب المؤلفة في علم الخلاف في عصر الزمخشري:
- النكت، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ) (3).
- الخلافيات، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458 هـ) (4).
- الكفاية في مسائل الخلاف، لعلي بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري (م 493) (5).
- حلية العلماء في اختلاف الفقهاء، لأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي القفال (م 507
هـ) (6).
- منظومة النسفي، لنجم الدين عمر بن محمد النسفي (537 هـ) (7).
- الطريقة الرضوية، لرضي الدين محمد بن محمد السرخسي الحنفي (571 هـ) (8).
__________
(1) ذكرهما ابن النديم، في الفهرست، ص 666.
(2) قال ابن النديم عنه: "ولم يعمل أكبر منه"، الفهرست، ص 272.
(3) حققه الأستاذ زكريا المصري بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(4) للكتاب مختصر، لأحمد بن فرج اللخمي الأشبيلي (م 699)، ومصورة على ميكروفلم تحت
رقم (299 - الفقه العام) مصورة من مكتبة شستربتي برقم (1618) وهذا المختصر حقق
جزءا منه بكلية الشريعة بجامعة أم القرى.
(5) انظر: معجم المؤلفين 7/ 100.
(6) طبع منه قسم العبادات في ثلاثة أجزاء صغيرة، بتحقي الدكتور أحمد إبراهيم
دراوكة، الطبعة الأولى 1400، عمان، دار الأرقم.
(7) انظر: الأعلام 5/ 60.
(8) مخطوط، انظر: الأعلام 7/ 24؛ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري، ص 6.
(1/71)
-
الإشراف على مذاهب الأشراف (1)، والإفصاح عن معاني الصحاح (2) للوزير عون الدين
يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي (م 560 هـ).
- تقويم النظر في مسائل الخلاف، لمحمد بن علي بن شعيب، المعروف بابن الدهان (م 590
هـ) (3).
ومن تأليفات المتأخرين في هذا الفن:
- كتاب الميزان، لعبد الرحمن الشعراني (973 هـ) (4).
- كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (5)، لمحمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني
الشافعي (5).
والقسم الذي يتعرض لأصول مسائل الخلاف، وسر منشأ الخلاف ومعرفة مآخذ أدلة الأئمة
لاستنباط الأحكام:
- تأسيس النظر، للإمام عبيد الله بن عمر الدبوسي الحنفي (م 430 هـ) (6).
- الإنصاف في التنبيه على أسباب الخلاف، لأبي محمد عبد الله البطليوسى (م 521 هـ)
(7).
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (م 595
هـ) (8).
__________
(1) مخطوط ومصورة على ميكروفلم بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، تحت رقم (304
- الفقه العام)، مصورة من مكتبة شستربتي، (3266).
(2) طبع مرارا، الطبعة الثانية، 1366 هـ، حلب، الطبعة الحلبية.
(3) انظر: معجم المؤلفين 11/ 15.
(4) و (5) مطبوع وبهامشه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، مصر، مطبعة العثمانية، 1311
هـ، وطبع رحمة الأمة مستقلا مرارا.
انظر بالتفصيل: مقدمة كتاب اختلاف الفقهاء للطبري، ص 5، 6.
(6) مطبوع مع رسالة أبي الحسن الكرخي في الأصول، القاهرة، زكريا علي يوسف.
(7) طبع الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، الطبعة الأولى، 1394 هـ، دمشق،
دار الفكر.
(8) طبع مرارا، ومتوفر في المكتبات.
(1/72)
-
تخريج الفروع على الأصول، لأبي المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (م 656
هـ) (1).
- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية (م 728
هـ) (2).
ومن الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة في هذا الفن:
- الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الاختلاف في الأحكام الفقهية،
لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي (م 1176 هـ) (3).
- أسباب اختلاف الفقهاء، للشيخ علي الخفيف (معاصر).
- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، للدكتور مصطفى سعيد الخن
(معاصر) (4).
- أسباب اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الله عبد المحسن التركي (معاصر) (5).
... وإلى غير ذلك من كتب حديثه في أصول الفقه وتاريخه.
* * *
__________
(1) طبع الكتاب، بتحقيق الدكتور محمد أديب صالح، دمشق، جامعة دمشق 1382 هـ.
(2) طبع مرارا، بتحقيق محمد حامد الفقي.
(3) طبع مرارا بالمطبعة السلفية بالقاهرة، 1398 هـ.
(4) الطبعة الثالثة، 1402 هـ، بيروت، مؤسسة الرسالة.
(5) الطبعة الثانية، 1397 هـ، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة.
(1/73)
قسم
التحقيق
ويشتمل على:
- وصف نسخة الكتاب.
- منهج التحقيق.
- النص المحقق.
(1/75)
(1/76)
(1/77)
(1/78)
نسخة
الكتاب
من الأهمية بمكان لتحقيق المخطوط، البحث عن نسخ متعددة له، حتى يتمكن الباحث
بمقابلة بعضها مع البعض الآخر، من إخراج نسخة مصححة، كما لو كانت النسخة الأصلية
التي دونها المؤلف بيده.
ولقد رجعت إلى فهارس مكتبات العالم (1) المتوافرة منها في المكتبة المركز بجامعة
أم القرى بمكة المكرمة، وفهارس مكتبة البحث العلمي بكلية الشريعة بالجامعة؛ للعثور
على نسخ متعددة لكتاب رءوس المسائل، فما وجدت منه إلا نسخة واحدة فقط، مصورة على
(ميكروفلم) بمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، بكلية الشريعة، بجامعة أم
القرى، تحت رقم (308 فقه عام)، مصورة من مكتبة شستربتي (بدبلن - ايرلندا) تحت رقم
(3600).
- وهي نسخة بخط عادي، وبأوراقها آثار رطوبة بلل، عدد أوراقها ست ومائة ورقة،
وسطورها: ثلاثة عشر سطرا، في كل سطر: ثلاث عشرة كلمة تقريبا،
__________
(1) وهي فهارس مكتبة الحرم المكي، ومكتبة المدينة المنورة المركزية، وجامعات
المملكة؛ وفهارس مكتبات: تركيا، ودمشق، وحلب، وبغداد، والموصل؛ وفهارس مكتبات مصر:
الأزهرية، دار الكتب، التميورية؛ ومكتبة دار الكتب الوطنية، والأحمدية بتونس؛
والخزانة الملكية بالمغرب؛ والعربية بالجامع الكبير بصنعاء؛ وآصفية بحيدرآباد
بالهند؛ والمخطوطات العربية بباريس ومكتبة برلين؛ وغيرها من فهارس المكتبات
الموجودة في المكتبة المركزية بجامعة أم القرى.
(1/79)
ومقاس
الصفحة 17 × 13.1 سم. وهذه المعلومات مطابقة لما هو مدون عليها باللغة الانجليزية
كما هو مدون في فهرسة مكتبة شستربتي برقم (3600) (1).
- تاريخ نسخها: يعود إلى سنة (576 هـ)، كما ورد ذلك في آخرها، حيث قال ناسخها:
"وقع الفراغ في شهر الله الأصم رجب، في آخر الظهر، في سنة ست وسبعين وخمسمائة
من هجرة النبي صلى الله عليه (وسلم) صاحبه شبلي بن عبد الرحمن بن جندر بن أيوب غفر
الله لهم أجمعين، وصلى الله على محمد وآله".
فهي ليست بعيدة العهد عن عصر المؤلف، إذا علمنا أن وفاته كانت عام (538 هـ). وقرب
نسخها من حياة المؤلف يعطيها أهمية خاصة، كما هو معروف في مجال تحقيق المخطوطات.
- خط النسخة واضح، وإن لم يسر الناسخ على نسق واحد في النسخ، فأحيانا يكتب بعض
الحروف منقوطة، وأحيانا غير منقوطة.
- وكذلك في رسم بعض الحروف من الناحية الإملائية.
- يبدو أن الناسخ كان وراقا محترفا، لم يتوفر له نصيب كبير من العلم، وكان ذا
معرفة ضعيفة بالنحو والإملاء، حيث لا تخلو صفحة واحدة من عدة أخطاء نحوية
وإملائية.
ومما يؤكد بأن الناسخ كان وراقا نسبة بعض الأقوال والأدلة لغير أصحابها، كما في
مسألة (243، 306).
ولم أشر إلى شيء من ذلك في الهامش، بل اكتفيت بتعديلها، وتركت ما وجدت له وجها
صحيحا منها.
- توجد على ورقة الغلاف بعض التملكات والمطالعات التي تدل على تداول
__________
(1) انظر: فهرسة مكتبة شستربتي بدبلن، إيرلندا، 3/ 41 (بالانجليزية).
(1/80)
هذه
النسخة بين يدي كثير من العلماء، كما بينت هذه التملكات في أثناء حديثي عن توثيق
الكتاب (1).
- بعد تدوين الناسخ تاريخ انتهاء نسخ الكتاب، الذي يعتبر نهاية النهاية فيه، دون
مسألتين (405، 406)، في صفحة أخرى غير مستكملتي الحكم والدليل، مما يشير إلى أنهما
أضيفتا إليه مؤخرا، وليستا من صلب الكتاب.
- خصصت الصفحة الأخيرة من الكتاب لفهرسة الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر: ص 59.
(1/81)
منهج
التحقيق
لما كانت النسخة كثيرة الأخطاء في النحو والإملاء وكثيرة السقطات، لزم إعادة
نسخها، لتقويم نصوصها، وإصلاح عباراتها، وإكمال الساقط منها، وتهذيب مسائلها،
لتصبح أقرب ما تكون من نسخة المؤلف بقدر الإمكان، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف قمت
بالخطوات التالية:
- نسخ الكتاب من الميكروفلم، مع مراعاة كتابة الكلمات حسب القواعد الإملائية
المعروفة في عصرنا.
- فقد جرت عادة الناسخ على إسقاط الألف في مثل الكلمات (الشفعى، تعلى، ثلثا،
السلم) التي أصبحت كتابتها بإثبات ألف المد فيها: (الشافعي، تعالى، ثلاثا،
السلام).
- وكذلك باستبدال الألف واوا كرسم المصحف، مثل: (الحيوة، والصلوة) مما أصبح رسمه
بالألف (الحياة، الصلاة).
- كما جرت عادته على حذف الهمزة في الممدودة، مثل: (الصحرا، ما، الأعضا، الأشيا،
الإنا) في حين أن الرسم الإملائي لها في الوقت الحاضر هو إثباتها رسما.
- وكذلك مده للمقصور منها، مثل: (المعنا، روا، يعطا).
- وإبداله الهمزة ياء مثل: (البير، المايعات، نسايه، البهايم) ونحوها كثير لم أشر
لكل هذه الأمور بالهامش، اكتفاء بذكرها هنا.
(1/82)
-
ضبط المفردات اللغوية، بالرجوع إلى المعاجم اللغوية وقواميسها.
- إتمام النقص والسقطات، بما يتفق مع العبارات المتقطعة الموجودة مستعينا بمدونات
الفقه في المذهبين لإكمال السقطات، واضعا ذلك داخل قوسين مربعين []، ومبينا سبب
الزيادة، وأترك الإشارة إلى الزيادة كثيرا، لدلالة الأقواس عليها.
وإن استبدلت شيئا من النص، فإني أبين ما في الأصل بالهامش وأضع البدل الذي رأيته
مناسبا في النص بين مربعين.
- جرت عادة المؤلف باستعمال صيغ ناقصة في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله
عليه وسلم -، مما ذكرها العلماء، فجاءت منه على النحو التالي:
فغالبا ما يقول: (النبي صلى الله عليه)، جريا على عادة المعتزلة التي ينبذها أهل
السنة، وأحيانا: (النبي صلى الله عليه السلام)، و (النبي عليه السلام)، واستبدلت
كل هذه الصيغ، بالصيغة الكاملة، المندوب إليها والتي حث على التزامها علماء (1)
السنة، وإن كان في ذلك تغيير لنسخة الكتاب، إيثارا للمنهج القويم: منهج أهل السنة
والجماعة.
__________
(1) وقد ذكر ابن الصلاح في مقدمته، في (كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده)
ما نصه: "التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره فإن ذلك من أكبر الفوائد
التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظا عظيما، وقد رأينا لأهل
ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته، لا كلام يرويه، فلذلك لا
يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على
الله سبحانه وتعالى عند ذكر اسمه، نحو: عز وجل، وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك ...
إلى أن قال: ... ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:
أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين، أو نحو ذلك.
والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى، بألا يكتب (وسلم) وروى عن حمزة الكناني رحمه الله
تعالى، أنه كان يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي: صلى الله عليه،
ولا أكتب (وسلم)، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النام، فقال لي: ما لك لا تتم
الصلاة علي؟ فقال. فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت (وسلم) ... ، ثم قال
ابن الصلاح: ويكره=
(1/83)
-
وتكميلا لأعمال التحقيق وإخراج الكتاب إخراجا علميا مناسبا قمت بوضع عناوين جانبية
للمسائل الفقهية، وترقيمها.
- وتسجيل أرقام أوراق النسخة المخطوطة على الجانب الأيسر لتسهيل العودة إلى الأصل
المخطوط.
تحقيق المسائل الفقهية ومصادرها:
ولما كان كتاب "رءوس المسائل" كتابا فقهيا خلافيا استدلاليا، فقد تأكد
وجوب توثيق النصوص الفقهية بالرجوع إلى مصادرها الأصلية، خاصة أن المؤلف لم يذكر
مرجعا من مراجعه.
أما الناحية الاستدلالية، فقد اشتملت على الاستدلالات: من الكتاب والسنة والعقل،
فاستوجب هذا توثيق تلك النصوص. وقد سرت في توثيق هذه العناصر: المسائل الفقهية،
والاستدلالات: الآيات والأحاديث كما يلي:
- المسائل الفقهية: يتعرض المؤلف للمقارنة والموازنة لبيان أقوال المذهبين في كل
مسألة، دون ذكر المصادر كلية، فتطلب تحقيق هذه المسائل الرجوع إلى المصادر الفقهية
المعتمدة في كل مذهب، بما يتفق ونقل المصنف، وتبيين المصادر والمراجع التي يمكن
الاطلاع عليها للتوسع في هذه المسائل.
ومن ثم رجعت إلى الكتب المعتمدة في كل مذهب حكى أقواله، متوخيا فيها الجانب الزمني
للمصادر: الكتب المؤلفة قبل عصره، أو في عصره، التي هي مظنة استفادته منها ورجوعه
إليها.
كما اقتضى البحث أحيانا الرجوع إلى المصادر الفقهية المؤلفة بعد عصر المؤلف وذلك،
إما لزيادة قيد أو شرط، أو لتوضيح وبيان مسألة، أو لبيان القول المعتمد في
__________
= أيضا الاقتصار على قوله (عليه السلام). وذكر النووي نحوه في التقريب: " ...
ولا يتقيد بما في الأصل إن كان ناقصا".
انظر: مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 91، 92؛ السيوطي، تدريب الراوي في شرح
تقريب النواوي، ص 74 وما بعدها.
(1/84)
المذهب،
أذكر كل هذه المراجع مرتبة على حسب وفاة مؤلفيها، والاعتماد غالبا في المذهب
الحنفي، على المؤلفات السابقة للزمخشري والمعاصرة له وهي:
أولا: مختصر الطحاوي، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (م 321 هـ).
ثانيا: متن القدوري، لأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري (م 428 هـ).
ثالثا: المبسوط، لمحمد بن أحمد السرخسي (م 483 هـ)، وقيل غير ذلك.
رابعا: تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي (م 552 هـ).
خامسا: بدائع الصنائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (م 587 هـ).
سادسا: الهداية، لأبي الحسين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغيناني (م
593 هـ).
كما رجعت إلى بعض الكتب الفقهية المعتمدة التي ألفت بعد عصره مثل:
أولا: الاختيار شرح المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي (م 683 هـ).
ثانيا: شروح الهداية: العناية، لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي (م 786 هـ).
ثالثا: شرح البناية، لأبي محمد محمود بن أحمد العيني (م 855 هـ).
رابعا: شرح فتح القدير، للكمال ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد السيواسي (م 861
هـ).
خامسا: الدر المختار، لمحمد علاء الدين الحصكفي (م 1088 هـ)، مع حاشية (الرد
المحتار) المعروف بحاشية ابن عابدين، لمحمد أمين ابن عابدين (م 1258 هـ).
سادسا: اللباب في شرح الكتاب، لعبد الغني الغنيمي الميداني (م 1298 هـ).
وغيرها من الكتب الفقهية مما هو موضح في مكانه.
(1/85)
هذا
ولم يختلف الأمر بالنسبة للمذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فكان الاعتماد في تخريج
مسائله على أمهات كتب المذهب المعتمدة، المؤلفة قبل عصره:
- الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (م 204 هـ).
- مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني (م 264 هـ).
- المهذب والتنبيه والنكت، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي (م
476 هـ).
ومن مؤلفات معاصريه: الوجيز، لمحمد بن محمد الغزالي (م 505 هـ).
كما رجعت إلى الكتب المتأخرة عن عصر الزمخشري فى كل مسألة من مسائل المذهب
الشافعي، زيادة في التأكد وتوخي الدقة لبيان القول الراجح لديهم، بحسب اصطلاحاتهم
الفقهية، ذلك لأن معظم المسائل المنقولة عن الشافعي، روى عنه فيها قولان أو أكثر،
ولم تظهر الأقوال الراجحة في المذهب تماما، إلا بعد جهود الشيخين الجليلين: أبي
القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي (م 623 هـ)، ومحيي الدين أبي زكريا
يحيى بن شرف بن مري النووي (م 676 هـ) حيث إن الفضل في تحرير المذهب الشافعي
وتنقيحه يرجع إليهما، ومن ثم أصبحا عمدة من جاء بعدهم من فقهاء الشافعية، وإليهما
ينتهي الاجتهاد؛ وعلى رأيهما يكون في الفتوى الاعتماد (1).
لذلك: ألزمت نفسي في كل مسألة الاعتماد على كتب الإمام النووي رحمه الله: منهاج
الطالبين وعمدة المفتيين، أو المجموع شرح المذهب، أو روضة الطالبين، لذكر القول
المعتمد في المذهب؛ لأن على قوله التعويل لدى الشافعية.
وأرجع أحيانا إلى شروح المنهاج للنووي أيضا (2).
__________
(1) انظر: د. محمد إبراهيم أحمد علي، المذهب الشافعي، مجلة جامعة الملك عبد
العزيز، العدد الثاني، (1398 هـ).
(2) مثل: شرح المحلي على منهاج الطالبين (مع حاشيتي قليوبي وعميرة) لجلال الدين
المحلي، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لحمد بن أحمد الخطيب
الشربيني، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد الرملي.
(1/86)
-
تعريف الاصطلاحات الفقهية بالرجوع إلى كتب المذهبين، وكذلك مقارنة المقاييس
والموازين: (المثقال، والدرهم، والقلة ونحوها)، بالمصطلحات الحديثة المتعارفة لدى
الناس في هذا العصر.
- تتبع المؤلف فيما حكاه من أقوال على خلاف ما عليه القول المعتمد في المذهب، كما
في مسائل الحجر وغيرها عند الأحناف، وكذلك في بعض أقوال الشافعية حيث ذكر القول
القديم أو المرجوح.
- الاستدلال بأدلة أخرى أقوى من التي قدمها المؤلف، كالاستدلال بالنقل، حينما
يكتفي المؤلف بالاستدلال بالعقل فقط، مع توافر الأدلة النقلية.
- دراسة بعض المسائل الأصولية واللغوية، زيادة في توضيحها.
- بيان صور بعض المسائل وتوضيحها التي يكتنفها بعض الغموض.
- ذكر أسباب الخلاف لبعض المسائل التي لم تتضح أسباب الخلاف فيها بالاعتماد على
كتب الأصول والفروع كما في (138، 145، 146).
- بيان ثمرة الخلاف وفائدته إذا لم تتضح ذلك من المسألة كما في (130، 136).
وكما تقدم فإن المؤلف يستدل بالكتاب والسنة والعقل، أما بالنسبة للآيات القرآنية،
فإنني أعين السورة التي ذكرت فيها، ورقمها بين آياتها، والتعليق عليها، أو الإشارة
إلى مصدر التعليق من كتب آيات الأحكام، ككتاب أحكام القرآن للشافعي، وأحكام القرآن
للجصاص، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للكيا الهراسي، والجامع لأحكام
القرآن للقرطبي، وغيرها من كتب التفسير.
- وأما بالنسبة للأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرها المؤلف، أو أشار إليها أو
ضمنها كلامه - والتي تبلغ (215) حديثا - ونحوها مما أضفته أثناء التحقيق، فإني
خرجت جميع هذه الأحاديث على النحو التالي:
(1/87)
-
إذا ثبت الحديث في الصحيحين - البخاري ومسلم - (1) أو في أحدهما، فإنني لا أتتبعه
في كتب السنة الأخرى.
كذلك إذا ثبت في السنن الأربعة (2) اكتفيت بتخريجه منها. وجاء تخريجي لهذه
الأحاديث من الكتب الستة، بذكر: كتب وأبواب الأحاديث المتضمنة تحتها، ثم أعقبت هذا
بذكر أرقام الأحاديث، وأجزاء وصفحات الكتاب.
فإذا لم أعثر على الحديث في الكتب الستة، فإني أبحث عنه في بقية كتب السنن،
والمعاجم، والمصنفات الحديثية، واكتفيت فيها بذكر أرقام أجزاء وصفحات الكتاب فقط.
- ثم تعقيبها بذكر أقوال علماء الحديث في الحديث سندا ومتنا إن وجد.
لم أكتف في تخريج الأحاديث بالاعتماد على كتب تخريج الأحاديث: كنصب الراية، وتلخيص
الحبير، والجامع الصغير، وإرواء الغليل، ونحوها، بل رجعت إلى أصولها إلا في حالة
افتقاد للكتب الأساسية فقد كانت هي المرجع في النهاية.
- آثرت عدم التعرض لتراجم الأعلام الواردة في نص الكتاب، حيث إن كافتهم من أعلام
الصحابة المشهورين، قصدا في عدم إثقال الكتاب بالهوامش التي يمكن أن يغني عنها
غيرها من الكتب المتوافرة في هذا المجال.
__________
(1) اعتمدت في ترقيم الأحاديث وذكر أجزاء وصفحات (صحيح البخاري) على شرحه فتح
الباري، الذي رقمه وهذبه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، مصر - المكتبة السلفية؛
وكذلك على صحيح مسلم الذي رقمه وحققه الأستاذ محمد فؤاد، بيروت - دار إحياء التراث
العربي.
(2) سنن أبي داود، مراجعة وضبط وترقيم محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت - دار
إحياء السنة النبوية؛ سنن الترمذي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر وزملائه، بيروت -
دار إحياء التراث العربي؛ سنن النسائي، مع شرح الجلال السيوطي، وحاشية السندي،
بيروت - دار الكتاب العربي، سنن ابن ماجه، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي،
بيروت - دار إحياء التراث العربي، 1395 هـ.
(1/88)
وأخيرا
يستكمل التحقيق جوانبه الفنية بعمل فهارس مفصلة للمسائل الفقهية، والآيات القرآنية
الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، على قائلها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(1/89)
رؤوس
المسائل
«المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية»
تأليف
العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
(467 هـ - 538 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله نذير أحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق