مجلد 4. : نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
= قلت: وبهذا التقرير يعلم أنَّ قول
الحلبي: ويحتمل وجهاً آخر وهو أنَّ ولي بزنة فعيل، وفعيل قد نص أهل اللسان أنه يقع
للواحد والاثنين والجمع تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد كصديق، غيرُ واقع موقعه، لأن
الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ.
قوله: (صفة للذين آمنوا).
لم يذكره الزمخشري بل اقتصر على البدل.
وقال أبو حيان: لا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هى المتبادر إلى الذهن، ولأنَّ
المبدل منه في نية الطرح ولا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه الوصف الذي يترتب عليه
صحة ما بعده من الأوصاف. اهـ
وقال الحلبي: لا نسلم أن المتبادر إلى الذهن الوصف، بل البدل هو المتبادر أيضاً
فإن الوصف بالموصول على خلاف الأصل، لأنه مؤول بالمشتق وليس بمشتق، ولا نسلم أن
المبدل منه على نية الطرح وهو المنقول عن سيبويه. اهـ
وقال الطَّيبي: إنما عدل عن الوصف لأنَّ الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل،
والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ولذلك قال القاضي: (الذِينَ يُقِيمُونَ) صفة للذين
آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لم يجعله وصفاً لاشتراك الموصلين في كونهما وصفين، والوصف
لا يوصف إلا إذا أجري مجرى الاسم كالمؤمن مثلاً. اهـ
قوله: (نزلت فى عليٍّ حين سأله سائل ... ) الحديث.
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وعمار بن ياسر، وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل،
والثعلبي عن أبي ذر، والحاكم في علوم الحديث عن علي.
قوله: (نزلت فى رفاعة ... ) إلى آخره.
(3/281)
أخرجه بن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن ابن عباس.
قوله: (أي اتخذوا الصلاة أو المناداة).
قال الحلبي: في الوجه الثاني بُعد إذ لا حاجة تدعو إليه مع التصريح بما يصلح أن
يعود الضمير عليه بخلاف قوله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى). اهـ
قوله: (وفيه دليل على أنَّ الأذان مشروع للصلاة).
قال الشيخ سعد الدين: من جهة أنه لما دل على اتخاذ المناداة هزوًا من منكرات الشرع
دل على أن المناداة المذكورة من معروفاته. اهـ
وعبارة الكشاف: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب؛ لا بالمنام وحده. اهـ
قال الطَّيبي: وذلك أنه تعالى أخبر أن نداء الصلاة سبب لاتخاذهم إياها هزواً،
وعلله بجهلهم، فدلت الآية على سبيل الإدماج وإشارة النص على ثبوته.
قال: ولقائل أن يقول إن قوله تعالى (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) إخبار بحصول الاستهزاء عند النداء والظاهر أن يكون الأذان
قبل نزول الآية، والواقع كذلك لأنَّ الأذان شرع عند مقدم النبي - صلى الله عليه
وسلم - المدينة. اهـ
وكذا قال أبو حيان: لا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ) ولم يقل ونادوا على سبيل الأمر وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق
المشروعية لا على إنشائها بالشرط. اهـ
وقال الشيخ ولي الدين العراقي: ولا شك أن فيه دليلاً على مشروعيته وإن لم يكن
بصيغة الأمر، ولا يلزم من كونه دليلاً على المشروعية أن لا يفعل إلا بعد نزول
الآية فنزول الآية على وفق ما فعل دليل على مشروعيته.
قال: وهذا استنباط حسن لا ينبغي إنكاره.
(3/282)
قلت: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب
الزهري قال: قد ذكر الله الأذان في كتابه فقال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).
قوله: (روي أنَّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا
الله أشهد أن محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن السدي.
قوله: (وأن أكثركم فاسقون) عطف على (أن آمنا)).
قال أبو حيان: ذكروا في موضع (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) سبعة وجوه، ويظهر وجه ثامن
ولعله يكون الأرجح وذلك أن (نقم) أصلها أن تتعدى بـ (على)، تقول: نقمت على الرجل
أنقم ثم تبنى منها أفتعل فتعدى إذ ذاك بـ (من) وتضمن معنى الإصابة بالمكروه، قال
تعالى (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنهُ)، ومناسبة التضمين فيها أنَّ من عاب
على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه إن قدر فجاءت هنا فعل
بمعنى افتعل كقولهم: قدر واقتدر؛ ولذلك عدت بـ (من) دون (على (فصار المعنى: وما
تنالون منا أو ما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي لأن آمنا فيكون (أَنْ آمَنَّا)
مفعولاً لأجله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) عطف عليه. اهـ
تنبيه: الوجه السابع فات المصنف وهو أن تكون الواو بمعنى مع، و (أن) بصلتها في
موضع نصب على المفعول معه.
قوله: (أو رفع على الابتداء والخبر محذوف، أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم).
قال الشيخ سعد الدين: في جواز حذف الخبر إن كان المبتدأ (أنَّ) المفتوحة مع اسمها
وخبرها بحث لأنَّ علة امتناع وقوعها في أول الكلام وهو الالتباس بـ (أنَّ) التي
بمعنى (لعل) قائمة هنا.
قال: ثم ما قدر من الخبر متأخراً عن المبتدأ إنما هو لبيان المعنى وعلى تقدير
التعبير عن المبتدأ بلفظ المصدر، وإلا فلابد أن يقدر الخبر مقدماً أي: ثابت معلوم
أنكم فاسقون. اهـ
(3/283)
وكذا قال أبو حيان: لا ينبغى أن يقدر
الخبر إلا مقدماً أي: ومعلوم فسق أكثركم لأنَّ الأصح أن (أن) لا يبتدأ بها متقدمة
إلا بعد أما فقط. اهـ
وقال الطَّيبي: يمكن أن يقال يفتقر في الأمور التقديرية ما لا يفتقر في اللفظية لا
سيما وهذا جار مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر كيف ينطق به. اهـ
قوله: (والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به ...
) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع)
قال الشيخ سعد الدين: أي في التهكم وإن كان ما في الآية استعارة لطي ذكر المشبه
وما في البيت تشبيهاً انتزع وجهه من التضاد على طريق التهكم لذكر الطرفين بطريق
حمل أحدهما على الآخر لكن على عكس قولك زيد أسد إذ التحية مشبه به والضرب مشبه.
اهـ
قوله: (بدل من (شر) على حذف مضاف).
قال الطَّيبي: أي قيل ذلك، أو قيل (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) لأن الإيمان المشار إليه
غير مطابق لقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) في معنى يشترك فيه لفظ (شر) فيقدر (أهل)
عند (ذَلِك)، أو (دين) عند (مَن) ليطابقه. اهـ
قوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ... ) إلى آخره.
ذكر فيه ثمان قراءات، ومجموع ما نقل فيه إحدى وعشرون قراءة ذكرتها موجهة في أسرار
التنزيل ونظمتها في أبيات وهي هذه:
عَبَد الطاغوتَ فيما نقلوا ... فوق عشرين قراءات تعد
فثلاث بعدها نصب وجر ... عَبُدَ الطاغوت مع عَبْدٍ عَبَد
عَبَدُوا أعبدُ عُبَّاد عِبَادَ ... وعُبيداً عُبُداً ثم عبِد
عُبَدَ الطاغوت يتلو عُبدَت ... عُبدَ الطاغوت والرفع ورد
عابدوا الطاغوت يتلو عابدي ... عَابُدُ مع عبدة فأحفظ بجد
(3/284)
قوله: (جعل مكانهم شرًّا ليكون أبلغ).
قال الطَّيبي: لأنه إذا نظر إلى أن التمييز فاعل في الأصل، أي: شر مكانهم كان
إسناداً مجازياً، وإذا نظر إلى المعنى في إثبات الشر للمكان والمراد أهله كان من
الكناية لأنَّ المكان من حيث هو لا يوصف بالشر بل بسبب من حلَّ فيه، فإذا وصف به
يلزم إثباته للحال فيه بالطريق البرهاني. اهـ
قوله: (والجملتان حالان من فاعل (قالوا)، و (به) و (بالكفر) حالان من فاعلي
(دخلوا) و (خرجوا)).
قال الطَّيبي: فعلى هذا في الكلام حالان مترادفان وكل واحدة منهما مشتملة على حال
فتكونان متداخلتين. اهـ
قوله: (دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً).
قال الشيخ سعد الدين: لتكسر سَوْرَة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا
فـ (قد) إنما تقرب إلى حال التكلم.
قال: والظاهر أنَّ هذا في (وَقَد دَّخَلُوا) وأما (وَهُم قَد خَرَجوا) أعني الجملة
الاسمية التي خبرها ماض فلم يقولوا فيها بلزوم (قد) إذا وقعت حالاً، وإنما لم يحتج
إلى الواو لكونها معطوفة على الحال ولكون الرابط في صدر الجملة. اهـ
وما أشار إليه الشيخ سعد الدين من الفرق بين الحالتين أوضحه السيد في حاشية
المتوسط فقال: قيل إنَّ الماضي إنما يدل على الانقضاء قبل زمان التكلم والحال الذي
بين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإنَّ كان العامل ماضياً كان الحال أيضاً
ماضياً بحسب المعنى، وإن كان حالاً (كان حالاً)، وإن كان مستقبلاً (كان مستقبلاً)
فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر
(3/285)
وهو الذي يقابل الماضي وبين ما (يبين
الهيئة) المذكورة.
قال: ويمكن أن يقال إنَّ الفعل إذا وقع قيداً لشيء يعتبر كونه ماضياً أو حالاً أو
مستقبلاً بالنظر إلى ذلك القيد، فإذا قيل: جاءني زيد راكب، يفهم منه أنَّ الركوب
كان متقدماً على المجيء فلا بد من قد حتى تقربه إلى زمان المجيء فتقارنه فتأمل.
وقال شيخنا العلامة محي الدين الكافيجي في شرح القواعد عند قوله والخامس تقريب
الماضي من الحال: ولهذا تلزم (قد) مع الفعل الماضي الواقع حالاً، والسبب الداعي
إلى هذا دفع التدافع بين الماضي والحال بقدر الإمكان، فاعترض على هذا بأن لفظة
الحال مشتركة بين معان، فيقال على قيد العامل سواء كان ماضياً أو مضارعاً أو
غيرهما، ويقال على زمن التكلم بمعنى الآن، والمقصود هاهنا الأول لا الثاني، و (قد)
إنما هي للتقريب من الحال بمعنى الآن.
قال: وأجيب عن هذا الاعتراض بأنَّ المضي والحال والاستقبال أمور إضافية، فطوفان
نوح عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلينا ماض وبالنسبة إليه حال، ونزول عيسى عليه
الصلاة والسلام مستقبل بالنسبة إلينا حال بالنسبة إلى قوم ذلك الزمان، فإذا تمهد
هذا فالمضي والحال المستعملان هنا منسوبان إلى زمان وقوع الفعل لا إلى زمان
تكلمنا، فإذا قلت: جاء زيد يركب، كان معناه أن الركوب يقارن المجيء، وإذا قلت: جاء
زيد وقد ركب، كان معناه أنَّ الركوب قد مضى في وقت المجيء ولذلك اشترط فيه (قد)
ليقرب الركوب إلى ذلك الوقت.
قال: وحاصل الجواب أنَّ الحال قيد العامل، وأن زمان وقوع ذلك القيد وجب أن يكون
مقترناً بزمان وقوع مضمون العامل تحقيقاً أو تقديراً سواء كان مقترناً بزمان التكلم
أو لا.
قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قد لمجرد استحسان لفظي فإنما هو
تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
قوله: (وقيل الكذب لقوله (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ)).
قال ابن المنير: هذا الاستدلال لا يصح لأنَّ الإثم مقولٌ يحتمل كونه كذباً وشركاً.
اهـ
(3/286)
وقال الطَّيبي: قولهم (آمنا) قرينة على
أن المراد الكذب فخُصَّ به. اهـ
قوله: (وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود).
قال الشيخ سعد الدين: يعني في من لا تصلح له الحقيقة أصلا كما في هذا المقام،
بخلاف قولك: يد فلان مغلولة أو مبسوطة فإنه كناية عن ذلك. اهـ
وكذا قاله الطيبي جامعاً بين ما هنا وما في سورة طه.
وقال ابن المنير: حكمة هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالباً،
والصور الحسية أثبت في الذهن من المعاني، والجود والبخل معنيان فمُثِّلا للحس. اهـ
قوله: (ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابلٍ ... شكرت نداه تلاعه ووهاده)
بسط اليدين: هو السحاب، والتلاع: جمع تلعة وهي ما ارتفع من الأرض، والوهاد: جمع
وهدة وهي ما اطمأن منها.
قوله: (كقوله: سبنى سبَّ اللهُ دابره).
أي: فإنَّ المطابقة فيه من حيث اللفظ فإن المراد من سبِّ اللهِ: قَطعُ الدابرِ.
قال الطَّيبي: وهذا نوع من المشاكلة لطيف المسلك بخلافه في قول الشاعر:
قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً.
فإنه وضع (اطبخوا) موضع (خيطوا) لمجرد مراعاة اللفظ دون المعنى. اهـ
قوله: ((ينفق كيف يشاء) تأكيد لذلك، أي: هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى
... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هذا تقييد للمطلق وهو ينفق كيف يشاء يعني من مقتضى الحكمة أن لا
يؤدي بسط اليدين في العطاء إلى التبذير والإسراف والاصطناع إلى غير الأهل وهو شرط
السخاء في الشاهد، وهذا تكميل لا تأكيد كقوله:
(3/287)
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع
الحلم في عين العدو مهيب
والتأكيد أن يقال: ينفق كيف يشاء لا يمنعه مانع ولا يكفه من الإنفاق نقص ولا
إعدام. اهـ
قوله: (ومقتضى حكمته).
قال الشيخ سعد الدين: وجه الدلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة التعليق
بمشيئة الحكيم الذي لا يشاء إلا ما هو حكمة ومصلحة. اهـ
قوله: (ولا يجوز جعله حالاً ... ) إلى آخره.
ذكرِ الحوفي أنه يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (مَبسُوطَتَان) وأن يكون خبراً
بعد خبر.
قال أبو حيان: ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على ذي الحال
أو المبتدأ محذوفاً، والتقدير: ينفق بهما.
قال: والأولى أن يكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. اهـ
قوله: (والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال: ذلك).
أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه ابن جرير عن عكرمة.
قوله: (فطرس الرومي)
بالفاء والراء، قاله الطَّيبي.
قوله: (أي يبين ما تعملونه، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسوأ عملهم).
قال الشيخ سعد الدين: هو مستفاد من المقام. اهـ
قوله: (فما أديت شيئاً منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان
(3/288)
الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو
فكأنك ما بلغت شيئاً منها ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: حاصل الجواب الأول أن ترك تبليغ أدنى شيء يستوجب عذاب كتمان
الكل من جهة أن كتمان البعض يضيع ما أدى منها لعدم حصول غرض الدعوة، بمنزلة من ترك
بعض أركان الصلاة، وحاصل الثاني أن ترك تبليغ أدنى شيء كترك التبليغ بالكلية وهو
في غاية الشناعة، وهذا ما قاله ابن الحاجب إذا اتحد الشرط والجزاء كان المراد
بالجزاء المبالغة، كأنه قيل: وإن لم تبلغ فقد ارتكبت أمراً عظيماً.
قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب هو الوجه، والأول قد يناقش فيه. اهـ
وقال الإمام: الآية على حد قوله: وشعري شعري، أي: شعري الذي يبلغ مبلغاً بحيث أنه
لا يوصف بأعظم من أن يقال فيه إنه شعري، وكذلك لا وعيد على ترك التبليغ أعظم من أن
يقال أنه لم يبلغ. اهـ
قوله: (وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعاً
... ) الحديث.
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيان في
تفسيره من مرسل الحسن.
قوله: (وعن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه
من قبة من أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس).
أخرجه الترمذي والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة من حديث عائشة،
وأخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وعصمة بن مالك الحطمي، وأخرجه أبو نعيم
في الدلائل من حديث أبي ذر، وله طرق أخرى، ولم يرد من حديث أنس وقد نبه عليه
الطَّيبي والشيخ سعد الدين.
(3/289)
قوله: (فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم
إفشاؤه).
هذا منزع صوفي، قال أرباب المعرفة: قال تعالى (بلغ ما أنزل إليك) ولم يقل ما
تعرفنا به إليك.
قوله: (والصابئون رفع بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير).
قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قد يستبعد هذا التخريج لأنَّ فيه
تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجمل المعطوف عليها وإنما يتقدم المعطوف على
المعطوف عليه في الشعر فكذلك ينبغى أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه.
قال: ويجاب بأنَّ الواو للاستئناف كسائر الواوات المقترنة بالجملة المعترضة كقوله
تعالى (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ).
قوله: (فإني وقيار بها لغريب).
هو لضابئ -بالضاد المعجمة والباء الموحدة بعدها همزة- ابن الحارث البرجمي بالجيم.
كان عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه حبس ضابياً هذا حين تعدى عليه فقال:
من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وما عاجلات الطير يدنين بالفتى ... رشاداً ولا عن ريثهن يخيب
ورُبَّ أمور لا تضيرك ضيرة ... والقلب من مخشاتهن وجيب
ولاخير في من لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
ولست بمستبق صديقاً ولا أخاً ... إذا لم يعد الشيء وهو يريب
قال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرح الشواهد: قوله (من يك) روي بالفاء وبإسقاطها
على الجزم، وقوله (أمسى بالمدينة رحله): كناية عن السكنى بالمدينة واستيطانها،
وقيار: اسم فرسه، عن الخليل، وقال أبو زيد: اسم جمله.
قال: والحذف في هذا البيت من الثاني، لأنَّ (غريب) خبر لأن لا للمبتدأ لاقترانها
باللام، والتقدير: فإني بها لغريب وقيار كذلك، وقيل هو خبر عن الاسمين جميعا لأنَّ
فعيلا يعبر به عن الواحد فما فوقه نحو (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
(3/290)
قال: ورده الخلخالي بأنه لا يكون
للاثنين وإن جاز كونه للجمع، وكذلك قال في فعول: لا يقال رجلان صبور، وإن صح في
الجمع.
قال الشيخ حمال الدين ابن هشام: وقد قيل في قوله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ) إن المراد قعيدان، قال: ثم كلامه يوهم أن ذلك يقال بالقياس،
وليس كذلك وإنما المانع في البيت من أن يكون (غريب) خبراً عن الاسمين لزوم توارد
عاملين على الخبر، وإنما يصح هذا على رأي الكوفيين لقولهم إنَّ الخبر على ما كان
عليه. اهـ
قوله: (وقوله: وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينا فِي
شِقَاق).
قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هو لبشر بن أبي خازم -بالخاء والزاي المعجمتين-
الأسدي، وقبله:
إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق
وسبب قوله ذلك أن قوماً من آل بدر جاوروا الفزاريين من بني لأم من طي فجزوا
نواصيهم وقالوا مننا عليكم ولم نقتلكم، فغضب بنو فزارة لذلك، فقال بشرٌ ذلك،
ومعناه: إذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا، واحملوا الأسرى معهم، وإلا فإنا
متعادون أبدا، و (ما) في البيت مصدرية ظرفية. اهـ
قوله: (وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان
كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإِيمان والعمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك).
قال الطَّيبي: إنما كان جارياً مجرى الاعتراض لا إياه لأن الاعتراض هو ما يتخلل في
أثناء الكلام لتأكيد مضمون المعترض فيه، وهذا تأكيد لما يلزم من إيراد الكلام لا
من مضمونه فجرى مجراه لكونه جملة في أثناء الكلام لقصد التأكيد وهو استطراد. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون (والنصارى) معطوفاً عليه و (مَنْ آمَنَ) خبرهما، وخبر (إنَّ)
مقدر دل عليه ما بعده).
(3/291)
(إنَّ) مقدر دل عليه ما بعده).
قال الشيخ جمال الدين ابن هشام: قد يستبعد هذا لأنَّ فيه حذفاً من الأول لدلالة
الثاني.
قال: ويجاب بأنه واقع وإن كان عكسه أكثر. اهـ
قوله: (كقوله: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ
وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ).
هذا لرجل من الأنصار، وقيل لقيس بن الخطم -بالخاء المعجمة- بن عدي الظفري شاعر
جاهلى، وقيل لعمرو بن امرئ القيس الأنصاري من أبيات أولها:
أبلغ بني جحجبى وقومهم ... خطمة أنا وراءهم أُنُف
وإنا دون ما يسومهم ... الأعداء من ضيم خطة نكف
الحافظو عورة العشرة لا ... يأتيهم من ورائنا وكف
يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه الشرف
نحن بما عندنا ...
جحجبى: بفتح الجيمين بينهما حاء مهملة ساكنة آخره موحدة مقصور بطن من الأنصار،
وخطمة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء بطن من الأنصار أيضاً، وأُنُف: بضم الهمزة
والنون: محامون واحدهم آنف كضارب وهو مأخوذ من الأنفة وهي الحمية، ويسومهم: أي
يكلفهم، وضيم: ظلم، وخطة: أي أمر وشأن، ونكف: بضم النون والكاف جمع ناكف من نكف
بمعنى إستنكف وأنف، والعورة: ما لم تُحمَ، وقال الثعلبي: كل مخوف عورة، ومن
وارئنا: أي عيبنا والوكف العيب، وقيل: الإثم، وقيل: الخوف، وقيل: المكروه، وقيل:
النقص، ومال: ترخيم مالك، والسيد المعمم: ذكر العمامة لأنَّها من مناقب العرب، وقد
وصف أبو الأسود الدؤلي العمامة فقال: جنة في الحرب ومكنة في الحر ومدفأة من
القر ووقار في الندى ووقاية من الأحداث وزيادة في القامة وعادة من عادات العرب.
ذكره الجاحظ في البيان.
قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (إنَّ) واسمها -إلى قوله- فيجتمع عليه عاملان).
قال الطَّيبي: معناه أنه لو رفع (وَالصَّابِئُونَ) بالابتداء بأن يكون عطفاً على
محل (إنَّ) واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد وفي الخبر (إنَّ) فيلزم أن يكون
العامل في
(3/292)
واسمها لكان العامل في المبتدأ التجريد
وفي الخبر (إنّ) فيلزم أن يكون العامل في المبتدأ غير العامل في الخبر والواجب أن
يكون الخبر مرفوعاً بما ارتفع به المبتدأ ولا يمكن تقدير عاملين فيه بأن يقال إنه
مرفوع بـ (إنَّ) والابتداء معاً للقطع بأنَّ اسما واحداً لا يكون فيه رفعان. اهـ
وقال صاحب الفرائد وتبعه الشيخ سعد الدين: في هذا نظر، لأنه إنما يلزم ذلك لو لم
ينو التأخير وكان المذكور خبراً عنهما، وأما على نية التأخير واعتبار معنى الخبر
تقديراً فيكون المذكور معمول (إنَّ) فقط وخبر المعطوف محذوف.
قال: ولو تم ما ذكر لجرى في جميع صور معنى الخبر تقديراً. اهـ
قوله: (وقيل: (إنَّ) بمعنى نعم).
قال أبو حيان: هذا ضعيف، لأنَّ ثبوت (إنَّ) بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين، وعلى
تقدر ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها فيكون تصديقاً له ولا تجيء أول الكلام. اهـ
قوله: (على البدل من اسم (إنَّ) وما عطف عليه).
زاد في الكشاف: أو من المعطوف عليه. اهـ
قال الطَّيبي: قالوا أراد أنَّ (مَنْ آمَنَ) إما بدل من المجموع في المعطوف عليه
والمعطوف أو بدل من اسم (إنَّ) فحسب.
قال: فإذا كان بدلاً من المجموع فالمعنى على ما سبق: إنَّ الصابئين أشَد غياً،
وأما إذا كان بدلاً من اسم (إنَّ) وحده لزم أنَّ يكون حكم (وَالذِين هَادُوا) و
(النَّصَارَى) حكم (وَالصَّابِئُونَ) في الرفع وتقدير الخبر على ما سبق في
(وَالصَّابِئُونَ) وحده، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا من آمن منهم فلا خوف عليهم
والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك، فحينئذ يخرج الكلام عن المقصود. اهـ
قوله: (جواب الشرط).
قال أبو حيان: سمى (كلما) شرط، وليس بشرط بل (كل) نصب على الظرف
(3/293)
قال السفاقسي: سماها ظرفاً من حيث
المعنى لاقتضائها جواباً كالشرط. اهـ
قوله: (وقيل: الجواب محذوف).
قال ابن المنير: يدل عليه مجيئه ظاهراً في الآية التي هي توأمة هذه الآية
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ
فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ ... ) إلى آخره.
قال: الأولى أن يقدر المحذوف: استكبروا، لظهوره في هذه الآية. اهـ
قوله: (على أن الله عماهم).
قال الشيخ سعد الدين: يعني على تقدير فعل متعد بكون (عموا) بالضم مبيناً للمفعول
منه. اهـ
قوله: (كما يمنع المحرم ... ).
قال الطَّيبي: أي (حَرَّمَ) هاهنا استعارة تبعية من المنع. اهـ
قوله: (و (من) مزيدة للاستغراق).
قال صاحب الإقليد: إفادة (من) الاستغراقية للاستغراق لأنَّها تدخل لابتداء الجنس
إلى انتهائه، فقولك: هل من رجل؟ تقديره: هل من واحد هذا الجنس إلى أقصاه، إلا أنه
اكتفى بذكر (من) عن ذكر (إلى) لدلالة إحدى الغايتين على الأخرى، وإنما قيل: إن مثل
لا رجل متضمن لمعنى (من) الاستغراقية لأنَّ لا رجل في الدار أبلغ في النفي من (لا
رجل في الدار) بالرفع، ومن (ليس رجل في الدار) ولا يمكن تقدير ما يكون به كذلك إلا
صرف مؤكد مثبت للاستغراق فوجب تقدير (من)، ولو كانت (لا) مفيدة للاستغراق لذاتها
لما جاز قولهم لا رجل في الدار بل رجلان. اهـ
قال الإمام: قدر النحويون لا إله في الوجود وذلك غير مطابق للتوحيد الحق لأن هذا
نفي لوجود الإله الثاني ولو لم يضمر هذا الإضمار لكان لا إله نفى لماهية الإله
الثاني ومعلوم أن نفي الماهية أقوى بالتوحيد الصرف من نفي الوجود.
(3/294)
وقال غيره: لو ترك التقدير ليبقى
مطلقاً فيتناول الوجود والإمكان وما يجري مجراها لكان أولى.
قوله: (كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدقن الأنبياء).
قال الحلبي والسفاقسي: القياس يقتضي أنه من صَدَق الثلاثي المجرد لأن أمثلة
المبالغة تطرد منه دون المزيد.
قوله: (أي لا ينهى بعضهم بعضاً).
قال الطَّيبي: فوضع يتفاعلون موضع يفعلون للمبالغة.
قال: وإنما احتيج إلى هذه التأويلات لأنَّ التناهي من منكر قد سبق ومضى محال. اهـ
قوله: (هو المخصوص بالذم).
قال أبو حيان: لا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفراء والفارسي من أن (ما)
موصولة، أو على مذهب من جعل في (بئس) ضميرًا، أو جعل (ما) تمييزاً بمعنى شيئاً
وقدمت صفة للتمييز، وأما على مذهب سيبويه فلا يتأتى ذلك لأنَّ (ما) عنده اسم تام
معرفة بمعنى الشيء والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء شيء
قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا (أَنْ سَخِطَ) في موضع رفع على البدل من المخصوص
المحذوف، وعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن سخط. اهـ
قوله: (والمعنى: موجب سخط الله).
قال الحلبي: في تقدير هذا المضاف من المحاسن ما لا يخفى على متأمله، فإن نفس السخط
المضاف إلى الباري تعالى لا يقال هو المخصوص بالذم إنما المخصوص بالذم أسبابه،
وذهب إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء. اهـ
قوله: (والفيض (1) انصباب ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: هنا عبارات أولها: فاض دمع عينه وهو الأصل، والثانية: المحولة
فاضت عينه دمعا حول الفاعل تمييز مبالغة، والثالثة: فاضت عينه من الدمع
__________
(1) في الأصل (الغيض) والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)
(3/295)
فلم يحول عن الأصل كما في الثانية بل
أبرز تعليلاً وهذا أبلغ لأنَّ التمييز قد اطرد وضعه في هذا الباب موضع الفاعل
والتعليل لم يعهد فيه ذلك. اهـ
قوله: ((ونطمع) عطف على (نؤمن)).
هو أصوب من قول الزمخشري: عطف على (لا نُؤمِنُ) لفساد المعنى إذ يصير التقدير
إنكار عدم الإيمان وإنكار الطمع وليس كذلك، وإنما المراد إنكار عدم الطمع أيضاً
وذلك بالعطف على (نُؤمِن) المنفي فيكون النفي متعيناً على المعطوف عليه.
قوله: (أو خبر محذوف والواو للحال، أي: ونحن نطمع والعامل فيهما عامل الأول).
قال أبو حيان: هذا ليس بجيد لأنَّ الأصح أنه لا يعمل عامل واحد في حالين بلا عطف
إلا أفعل التفضيل.
قال: والأحسن والأسهل أن يكون استئنافاً. اهـ
وقال السفاقسى: أما تعدد الحال واتحاد صاحبها فالحق جوازه. اهـ
قوله: (مقيداً بها).
قال الطَّيبي: فيعود المعنى: أي شىء حصل لنا غير مؤمنين طامعين (أي لو لم نكن
مؤمنين طامعين). اهـ
قوله: (أو نؤمن).
قال الطَّيبي: فالحالان على هذا متداخلان، وعلى الأول مترادفان، والمعنى: أي شيء
حصل لنا غير مؤمنين في حال الطمع، وتحريره: ما لنا لا نوحد الله ونطمع من ذلك في
مصاحبة الصالحين. اهـ
قوله: (روي أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، بعث إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم
بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين،
فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن).
قال الشيخ ولي الدين: لم أقف عليه.
قلت: قد أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والواحدي من طريق ابن شهاب عن
(3/296)
سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن
بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير مرسلاً.
قوله: (وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة مريم فبكوا وآمنوا.).
أخرجه بن جرير عن سعيد بن جبير.
قوله: (روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف القيامة ... ) الحديث.
ذكره الواحدي في أسباب النزول بلفظ المصنف عن المفسرين، وروى ابن جرير معناه
بزيادة ونقص عن مجاهد وعكرمة والسدي، وللقصة شاهد في الصحيحين من حديث عائشة.
وعثمان بن مظعون يكنى أبا السائب قرشي جمحي أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر
الهجرتين وشهد بدراً وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة على رأس ثلاثين شهراً
من الهجرة وقيل بعد اثنين وعشرين شهراً ودفن بالبقيع، ومظعون: بالظاء المعجمة وعين
مهملة، والمسوح: جمع مِسْح وهو البلاس.
قوله: (أو صفة لمصدر محذوف).
قال الطَّيبي: هذا أولى أي: أكلاً حلالاً ليكون توسعة في الكل ودفعاً للتضييق سيما
إذا اعتبر معنى (طَيِّبًا) معه وذلك أن ورود هذا الأمر عقب النهي عن التحريم
للطيبات والتشديد فيه بقوله تعالى (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ
لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يقتضى ما يقابله
من التوسعة، وسياق النظم ما أشار إليه
(3/297)
الراغب قال: لما ذكر حال الذين قالوا
إنا نصارى وأن منهم قسيسين ورهباناً ومدحهم بذلك، وكانت الرهبان قد حرموا على
أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم ورأى الله قوماً تشوفوا إلى حالهم وهمّوا أن يقتدوا
بهم نهاهم عن ذلك. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: من حلف على يمين ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
قوله: (من أقصده).
في الأساس: من المجاز قصد في معيشته واقتصد وقصد في الأمر: إذا لم يجاوز فيه الحد
ورضي بالتوسط. اهـ
قوله: (أو من أوسط إن كان بدلاً).
قال الطَّيبي: نقل في الحواشي عن صاحب الكشاف: ووجهه أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ)
بدلاً من (إِطْعَامُ) والبدل هو المقصود، ولذلك كان البدل منه في حكم المنحى،
فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون.
وقال صاحب التقريب: قول صاحب الكشاف إنما يصح إذا كان محله مرفوعاً إما بدلاً من
(إِطْعَامُ) على حذف موصوف، أي: إطعام من أوسط، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد
خبر، والأظهر أنَّ (كِسْوَتُهُمْ) عطف على (إِطْعَامُ) لأن المشهور التخيير بين
الخصال الثلاث وعدوا الكسوة منها، و (مِنْ أَوْسَطِ) إما منصوب على صفة المصدر
المقدر أي إطعاماً من أوسط، أو على المفعول بإضمار أعني، أو على المفعول الثاني لـ
(إِطْعَامُ) أي أن نطعمهم من الأوسط، أو مرفوع كما سبق، ولعله إنما عدل عن الأظهر
لأنَّ الكسوة اسم ظاهر لا مصدر.
قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس، فلا يليق عطفه على المصدر أو لأدى به إلى ترك
ذكر كيفية الكسوة وهي كونها أوسط، ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر قال
الزجاج في تفسيره: والكسوة أن يكسوهم نحو إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس
الكسوة، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما
(3/298)
الكسوة إما مصدر قال الزجاج في تفسيره:
والكسوة أن يكسوهم نحو إزار. أو يضمر مصدراً نحو واللباس الكسوة، وعن الثاني بأن
يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون فحذف لقرينة ذكرها في المعطوف عليه، أو بأن تترك
على إطلاقها، أو بإحالة بيانها إلى غيره (أي غير ما ذكر)، وأيضاً العطف على محل
(مِنْ أَوْسَطِ) لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك
ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد. انتهى كلام صاحب التقريب.
قال الطَّيبي: ويمكن أن يقال إنما يصار إلى البدل إذا اعتبر معنى المبدل نحو: زيد
رأيت غلامه رجلاً صالحاً، لا أن ينحى معناه كما في الحواشي، ولأنَّ أهل المعاني
يعتبرون معنى المبدل وجوباً والنحوي يقول إن البدل ليس في حكم المنحى من جميع
الوجوه ولذا يوجبون ضمير المبدل في بدل البعض والاشتمال، والتقدير: فكفرته إطعامٌ
من أوسط ما تطعمون أهليكم لعشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين من أوسط ما تكسون
أهليكم، هذا وإن المصير إلى البدل يورث الكلام إبهاماً وتبييناً وتوكيداً وتقريراً
بخلافه إذا أخلى عنه. اهـ
وقال العلم العراقي: قول الكشاف (أو كسوتهم): عطف على محل (مِن أوسَطِ)؛ غلط لم
يتنبه له ابن المنير، وصوابه أنه عطف على قوله (إِطعَام). اهـ
وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون (مِنْ أَوْسَطِ)
خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله، تقديره: طعامهم من أوسط، فالكلام تام على
هذا عند قوله (عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكون من
أوسط كذا، وأما إذا قلنا إن (مِنْ أَوْسَطِ) هو المفعول الثاني فيستحيل عطف
(كِسْوَتُهُمْ) عليه لتخالفهما إعراباً. اهـ
قوله: (والكاف فى محل الرفع).
قال أبو حيان: هذا إن قدر (مِنْ أَوْسَطِ) في محل رفع وإلا فهي في محل نصب مثله.
اهـ
قوله: (وتقديره: أو إطعامهم كأسوتهم).
قال الشيخ سعد الدين: ولا خفاء في زيادة الكاف وفي أنَّ التخيير على هذا بين
(3/299)
الإطعام والتحرير. اهـ
وقال أبو حيان: هذه القراءة تنفي الكسوة. اهـ
وقال السفاقسى: قدر أبو البقاء أي: مثل أسوة أهليكم في الكسوة، وعلى هذا لا تكون
الآية عارية منها. اهـ
قلت: في هذا التقدير نظر لأنه لم يتقدم ما يدل عليه.
قوله: (فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه).
قال الطَّيبي: قيل الضمير المجرور عائد إلى الحنث. اهـ
وأقول: الظاهر عوده إلى الحلف أو إلى الشكر في قوله: ونعمه الواجب شكرها.
قوله: ((رجس) قذر تعاف منه العقول).
قال الراغب: الرجس والنجس متقاربان، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس
أكثر ما يقال فيما يستقذر بالعقل. اهـ
قوله: (وإفراده لأنه خبر للخمر، وخبر المعطوفات محذوف).
قال الحلبي: ويجوز على هذا عكسه وهو أن يكون خبراً عن الآخر وحذف خبر ما قبله لدلالة
خبر ما بعده عليه لأن لنا في نحو قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) هذين التقديرين. اهـ
قوله: (أو المضاف محذوف، كأنه قال: إنما تعاطي الخمر والميسر).
قال أبو حيان: لا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها
أنَّها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ). اهـ
(3/300)
قال الحلبي: وهو كلام حسن. اهـ
قوله: (شرٌّ بحْت).
بفتح الموحدة وبسكون الحاء المهملة ومثناة فوقية، أي: خالص.
قوله: (شارب الخمر كعابد الوثن).
أخرجه البزار من حديث عبد الله بن عمرو، وهو عند ابن ماجه وابن حبان بلفظ: مدمن
الخمر، قال ابن حبان: يشبه أن يكون فيمن استحلها.
قوله: (وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم).
قال الطَّيبي: هذا من باب قوله تعالى (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ) من حيث الاختصاص بالذكر، ومن حيث التكرير،
لأنَّ تكرير (عن) في قوله تعالى (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) كتكرير
(رَأَيْتُهُمْ). اهـ
قوله: (روي أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة فكيف بإخواننا ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس بلفظه، وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة بمعناه،
وأصله في الصحيحين من حديث أنس.
قوله: (نزلت عام الحديبية ... ) إلى آخره.
(3/301)
أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.
قوله: (والتقليل والتحقير في (بشيء) للتنبيه على أنه ليس من العظائم ... ) إلى
آخره.
قال ابن المنير: ورد مثل هذه الصيغة في الفتن العظيمة في قوله تعالى (بِشَيْءٍ
مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) بل هو إشارة إلى أنما يقع به الابتلاء من هذه الأمور
فهو بعض من كل بالإضافة إلى مقدور الله تعالى فإنه قادر على أن يبتليكم بأعظم
وأهول منه ليبعثهم بذلك على الصبر، ويدل على ذلك أنه سبق الوعد به قبل حلوله ليوطن
النفس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم، فإذا فكر العاقل وجد ما صرف عنه من
البلاء أكثر مما وقع به بأضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده. اهـ
قوله: (كرداح ... ).
في الصحاح: الرداح: المرأة الثقيلة الأوراك، والجفنة العظيمة، وكتيبة رداح: ثقيلة
السير لكثرتها. اهـ
قوله: (ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم ... ) الحديث.
أخرجه الشيخان من حديث عائشة.
قوله: (وفي رواية: الحية، بدل العقرب).
أخرجها مسلم.
قوله: (واختلف في هذا النهي هل يلغى حكم الذبح فليلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح
الوثنى أو لا؟).
الأصح من المذهب الأول.
قوله: (روي: أنه عنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله
فنزلت).
إنما هو أبو قتادة والحديث مخرج في الصحيحين من روايته وأنه هو الذي فعل.
__________
(1) في الأصل (التعليل) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).
(3/302)
قال الطَّيبي: وما وجدت حديث أبو اليسر
في الأصول. اهـ
قوله: (واللفظ للأول أوفق).
قال الطَّيبي: لأنَّ قوله (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) حقيقة
فيه، وفي جعله القيمة ارتكاب المجاز، ويؤيده قراءة ابن مسعود (فجزاءه مثل ما قتل
من النعم). اهـ
قوله: (أو من (جزاء)).
قال الطَّيبي: إنما يستقيم على مذهب الأخفش وهو أن يكون التقدير: فعليه جزاء مثل
ما قتل هدياً، فهو حال من فاعل الجار والمجرور من غير اعتماد. اهـ
قوله: (وإن نون لتخصيصه بالصفة).
قال الحلبي: وكذا خصصه الشيخ أبو حيان، وهذا غير واضح، بل الحالية جائزة مطلقاً
سواء قرئ مرفوعاً أو منصوباً منوناً أم مضافاً. اهـ
قوله: (وقرأ نافع واين عامر (كَفَّارَةُ طَعَامُ) بالإضافة للتبيين).
قال الإمام: إنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والطعام والصيام حسنت
الإضافة فكأنه قيل: كفارةُ طعامٍ لا كفارةُ صيامٍ. اهـ
وإليه الإشارة بقول الكشاف: وهذه الإضافة مبينة.
قوله: (كقولك: خاتمُ فضةٍ).
قال أبو حيان: ليست هذه الإضافة من هذا الباب، لأنَّ خاتم فضة من باب إضافة الشيء
إلى جنسه، والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيدٍ جداً.
قال: وإنما هي إضافة الملابسة لأنَّ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة
صيام. اهـ
قوله: (وقرئ بكسر العين ... ) إلى آخره.
قال الراغب: العَدْل والعِدْل متقاربان، لكن العَدل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة
(3/303)
كالأحكام، وعلى ذلك قوله (أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَامًا)، والعدل والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات
والمكيلات، فالعدل: هو التقسيط على سواءٍ وعلى هذا روي: بالعَدل قامت السماوات،
تنبيهاً على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً
عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً. اهـ
قوله: ((لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) متعلق بمحذوف، أي: عليه الجزاء).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف (فَجَزَاءٌ) أو نون ونصب، وأما
على قراءة من نون ورفع (مِثْلُ) فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأنَّ (مِثْلُ) صفة
لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضربُ
زيدٍ الشديدَ عمروا لم يجز، فإنْ تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن
يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف، التقدير: جوزي بذلك ليذوق وبال أمره، ووقع لبعض
المعربين أنَّها تتعلق بـ (عَدْلُ ذَلِكَ) وهو غلط. اهـ
قال الحلبي: وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً لما تقدم من أنه يلزم أن يُتبعَ
الموصول أو يُخبرَ عنه قبل تمام صلته وهو ممنوع.
قال الحلبي: وقد أفهم كلامُ الشيخ أبي حيان بصريحه أنه على قراءة إضافة الجزاءِ إلى
(مِثْلُ) يجوز ما قاله صاحب الكشاف، وأنا أقول: لا يجوز ذلك أيضاً، لأنَّ
(لِيَذُوقَ) من تمام صلة المصدر وقد عطف عليه قوله (أَوْ كَفَّارَةٌ) (أَوْ
عَدْلُ) فيلزم أن يعطف على الموصول قبل تمام صلته وذلك لا يجوز، لو قلت: جاء الذي
ضرب وعمروٌ زيداً لم يجز للفصل بين الصلة -أو أبعاضها- والموصول بأجنبي فتأمل فإنه
موضع حسن. اهـ
وقال السفاقسي: تنظير أبي حيان بقوله أعجبني ضرب زيد الشديد عمروا ليس بسديد؛
لأنَّ عمروا مفعول به وليس هو كالمجرور. اهـ
قوله: (فهو ينتقم الله منه).
(3/304)
قال الطَّيبي: يعني (ينتقم) خبر مبتدأ محذوف
(فهو جملة اسمية تحتاج إلى الفاء ولو لم تكن خبر مبتدأ محذوف لم يحتج إلى الفاء،
لأنَّ الشرط إذا كان ماضياً والجزاء مضارعاً جاز الرفع وترك الفاء. اهـ
قوله: (وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكى عن ابن عباس ... ).
قال الإمام: دليل ابن عباس من أنه أعظم من أن يُكفَّر بالتصدق بل الله ينتقم منه
لأن قوله تعالى (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) جزاء والجزاء كاف وكونه كافياً يمنع
من وجوب شيء آخر. اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام فى البحر: هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته).
أخرجه مالك والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان
والحاكم والدارقطني وصححوه من حديث أبي هريرة.
قوله: (نصب على الغرض).
أي المفعول له كما عبر به في الكشاف.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد
لكم).
أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث جابر.
قوله: ((جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ): صيرها).
أقول: فسر (جَعَل) بمعنى صير، وقال بعد ذلك: إن نصب (قِيَامًا) على المصدر
(3/305)
أو الحال، والذي ذكره أبو البقاء أنه
إن كان (جَعَل) بمعنى صير فـ (قِيَامًا) مفعول ثان، أو بمعنى خلق فهو حال.
قوله: (وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه).
(روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد قال: إنما سميت الكعبة لتربيعها)، (ورويا
أيضاً عن عكرمة قال: إنما سميت الكعبة لتربعها).
قوله: (البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح).
قال أبو حيان: ليس كما ذكر، لأنهم شرطوا في عطف البيان الجمود، والجامد ليس فيه
إشعار بمدح إنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال إنه لما وصف عطف البيان بقوله
(الحرام) اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. اهـ
قوله: (انتعاشاً لهم).
في الصحاح: نعشه الله: رفعه، وانتعش العاثر: نهض من عثرته.
قوله: (وأشياء اسم جمع كطرفاء ... ) إلى آخره.
قال ابن الشجري في أماليه: ذهب الأخفش والفراء إلى أن أصل أشياء أَشْيِئاء بوزن
أَفْعلاء فحذفت الهمزة التي هي لام فوزنها الآن أفعاء، فعورضا بأنَّ الواحد مثاله
(فَعْل) وليس قياس (فَعْل) أن يجمع على (أفعلاء)، فاحتجا بقولهم في جمع سمح سمحاء.
وروي عن الفراء أنه قال: أصل شيء شيِّءٌ، كهين، وخفف كما خفف هين إلا أن
(3/306)
شيئاً لزم التخفيف، ولما كان أصله
(فيعل) جمعوه على (أفعلاء) كهين وأهوناء.
وقوله في شيء أنَّ أصله التثقيل دعوى لا دليل عليها.
وذكر أبو على في التكملة مذهب الخليل وسيبويه في أشياء ثم قال: فيه قول آخر وهو أن
يكون أفعلاء ونظيره سمح وسمحاء وحذفت الهمزة التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية
حيث قالوا سوااية، ولزم حذفها في (أفعلاء) لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين، وإذا
كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، والآخر: أنَّ الكلمة
جمع وقد يستثقل في المجموع ما لا يستثقل في الآحاد بدلالة إلزامهم (خطايا) القلبَ،
وإبدالهم من الأولى في ذوائب الواو.
قال: وهذا قول أبي الحسن، فقيل له: كيف تحقرها؟ قال: أقول في تحقيرها أُشَيّاء،
فقيل له: هلا رددت إلى الواحد فقلت شييئات، لأن (أفعلاء) لا يصغر؟ فلم يأت بمقنع.
قال ابن الشجري: الذي ناظره في ذلك أبو عثمان المازني فأراد أن (أفعلاء) من أمثلة
الكثرة، وجموع الكثرة لا تحقر على ألفاظها ولكن تحقر بآحادها ثم يجمع الواحد
بالألف والتاء كقولك في تحقير دراهم دريهمات، ثم قال أبو علي بعد ذلك فلم يأت
بمقنع.
والجواب عن ذلك أن (أفعلاء) في هذا الموضع جاز تصغيرها وإن لم يجز التصغير فيها في
غير هذا الموضع لأنها قد صارت بدلاً من أفعال (بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها
كما ضيف إلى أفعال ويدل على كونها بدلاً من أفعال) تذكيرهم العدد المضاف إليها في
قولهم ثلاثة أشياء، فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة التي ذكرت كذلك
يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع
تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو
أنها صارت بمنزلة أفعال، وإذا كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة
التقليل والتكثير في شىء واحد. انتهى كلامه.
(3/307)
قال ابن الشجري: وأقول في تفسير قوله
(أن أفعلاء في هذا الوضع صارت بدلاً من أفعال): يعني أنه كان القياس في جمع شيء
أشياء مصروف كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد،
ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشَياء التي وزنها أفعال، واستدلاله
في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة أنَّهم أضافوا
العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا: ثلاثة أشَياء مما لا تقوم به دلالة، لأنَّ
أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنَّهم يضيفون العدد إلى أبنية
الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في
قولنا ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثاً لأنَّ الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول:
ثلاثة أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء، فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثاً،
وذلك لأنَّ الواحد نبي وصديق وشَاعر كما أنَّ واحد أشياء شَيء، فأي دلالة في قوله:
(ويدل على كونها بدلاً من أفعال تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم ثلاثة
أشياء)؟.
قال ابن الشجري: وأقول إنَّ الذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز
تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأنَّ وزنه نقص بحذف لامه فصار
أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وقول أبي علي في أشياء إن أصلها أفعلاء وحذفت الهمزة
التي هي لام كما حذفت من قولهم سواية ولزم حذفها من أفعلاء لأمرين أحدهما: تقارب الهمزتين،
وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة مفردة فجدير إذا تكررت أن يلزم الحذف، يعني إن
الهمزتين في أشياء تقاربتا حتى لم يكن بينهما فاصل إلا الألف مع خفائها فهي كلام
فاصل، وإذا كانوا قد حذفوا الهمزة المفردة في سواية فحذف الهمزة التي وليتها همزة
أولى، فأما مذهب الخليل وسيبويه في أشياء فإنَّها اسم يراد به الجمع، وكان القياس
فيه شيئاء ليكون فعلاء كطرقاء وحلفاء فاستثقلوا تقارب الهمزتين فأخروا الأولى التي
هي اللام إلى أول الحرف فصار أشياء وزنه لفعاء.
قال أبو علي: والدلالة على أنَّها اسم مفرد ما روي من تكسيرها على أشاوي؛ كسروها
كما كسروا صحراء على صحاري حيث كانت مثلها في الإفراد.
قال ابن الشجري: وأقول إن أشياء يتجاذبها أمران: الإفراد والجمع، فالإفراد في
(3/308)
اللفظ، والجمع في المعنى كطرفاء وحلفاء
وقصباء هن في اللفظ كصحراء وفي المعنى جمع طرفة وقصبة وحلفة بكسر لامها وفتحه على
الخلاف، وكذلك أشياء لفظها لفظ الاسم المفرد من نحو صحراء وهو في المعنى جمع شيء،
ودليل ذلك ما ذكره أبو علي من قولهم في جمعها أشاوي كصحاري، وأصله أشاياء فأبدلوا
الياء واواً على غير قياس كإبدالها واواً في قولهم: جبيت الخراج جباوة، ودليل آخر
وهو قولهم في تحقيرها (أُشيَّاء كصحراء، ولو كانت جمعاً لفظاً ومعنى وجب أن يقال
في تحقيرها) شييئات، ويدل على أنَّها في المعنى جمعٌ إضافةُ العدد إليها في قولهم
ثلاثة أشياء، ولو كانت اسما مفرداً لفظاً ومعنى لم يجز إضافة العدد إليها ألا ترى
أنه لا يجوز ثلاثة صحراء. اهـ
وقد لخص ابن يعيش هذا الكلام وزاده تحقيقاً فقال في كتابه شرح التعريف الملوكي:
وأما أشياء فظاهر اللفظ يقضي بكونها جمع شيء لأنَّ فعلاء إذا كان معتل العين يجمع
فيه القلة على أفعال، نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ، إلا أنهم رأوها غير مصروفة في
حال التنكير نحو قوله تعالى (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ)
فحينئذ تشعبت أرآء الجماعة فيها، فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث،
وأنَّ الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو العضاء والحلفاء والطرفاء في أنها اسم
للجمع ليس بتكسير، ومثله حامل وباقر، فأشياء في الأصل شيئاء وزنه فعلاء مقلوبه إلى
لفعاء كأنهم فعلوا ذلك استثقالاً لتقارب الهمزتين، وإذا كانوا قد قبلوا نحو قسي مع
عدم الثقل فمع الثقل أولى، فإذن الهمزة الأولى في أشياء لام والثانية زائدة
للتأنيث ولذلك لا ينصرف، وذهب أبو الحسن إلى أن أصلها أشياء على زنة أفعلاء فحذفت
الهمزة الأولى تخفيفاً على حد حذفها من سؤية سواية ثم فتحت الياء المجاورة للألف
وشذ عنه جمع فعل على أفعلاء كما قالوا شاعر وشعراء وسمح وسمحاء، جمعوا فاعلاً
وفعلا على فعلاء كأنه استبعد القلب فلم يحملها عليه ورآها غير مصروفة فلم يحملها
على أفعال، وذهب الفراء إلى مثل مذهبه في أنها أفعلاء إلا أنه استبعد جمع فعل على
أفعلاء، فادعى أنَّ شيًْء مخفف من شيِّء كهيْن وهيِّن فكما جمعوا هيناً على أفعلاء
فقالوا أهوناء كذلك جمعوا شيئا على أفعلاء لأنَّ أصله شيِّء عنده، وذهب الكسائي
إلى أنَّ أشياء أفعال بمنزلة أبيات وأشياخ إلا
(3/309)
أنهم لما جمعوها على أشياوات أشبهت ما
واحده فعلاء فلم ينصرف لأنَّها جرت مجرى صحراء وصحراوات كأنه تبع اللفظ وحمله على
حي وأحياء، واحتال لمنع الصرف.
والأظهر مذهب سيبويه والخليل لقولهم في جمعه أشاوي، فجمعوا جمع الأشياء على حد
صحراء وصحارى، وكان القياس أشياياء بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوا واواً
شاذاً كما قالوا: جبيت الخراج جباوة، وقالوا: رجاء بن حيوة وحيوان وأصلهما حية
وحيياء فأشياء عند سيبويه لفعاء، وهي عند أبي الحسن أفاعل، كأنه لما جمع أفعلاء
حذف الألف والهمزة التي بعدها للتأنيث للتكسير كما حذفهما من القاصعاء قالوا قواصع
فصار أشياواء ثم قلب كما قلب مدارى، ومما يؤيد كونه مفرداً أنَّهم قد قالوا في
التصغير أُشيَّاء فحقروه على لفظه، كما قالوا في قضباء قضيباء، وفي طرفاء طريفاء،
ولو كان أفعلاء كما ظن أبو الحسن والفراء لرد في التحقير إلى واحده فقيل شييئات
لأنَّ أفعلاء من أبنية الكثرة فيرد إلى واحده في التحقير كما ترد أنصباء في
التحقير إلى نصييبات، وشعراء إلى شويعرون.
قال المازني: سألت أبا الحسن عن تصغير أشياء فقال: العرب تقول أُشيَّاء فاعلم
فيدعونها على لفظها.
فقلت: لم لا ردت إلى واحدها كما ردوا شعراء إلى واحده؟ فلم يأت بمقنع.
وأما ما ذهب إليه الفراء من أن أصل شيء شيِّء بالتشَديد فهو جيد لو أنَّ عليه
دليلاً، وأما اعتلال الكسائي في منع الصرف من أنه عنده أفعال ففيه تعسف فلا يصار
إليه ما وجد عنه مندوحة، وإذا جاز أن يكون فعلاء كقضباء وطرفاء فلا يحمل على ما
ذكره وليس فيه تكلف سوى القلب، وهو كثير في الكلام فأعرفه. انتهى.
قوله: (على أن أصله شيئ كهين، أو شيء كصديق).
قال أبو حيان: فعلى الأول اجتمع همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة
التي هي اللام لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً.
قال: وزنها إلى أفلا، وعلى الثاني: حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما
بعدها ألفاً.
(3/310)
قال: وزنها إلى أفياء. اهـ
قوله: (رُوي أنه لما نزل (ولله على الناس حج البيت) قال سراقة ابن مالك ... )
الحديث.
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة، لكن فيه أن القائل عكاشة بن محصن.
قوله: (وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات
يوم ... ) الحديث.
أخرجه البخاري نحوه، وهو بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة أخرجه الفريابي في تفسيره.
قوله: (الضمير للمسألة).
أي راجع إلى المصدر لا إلى المفعول ليحتاج إلى تعديته بـ (عن).
قال أبو حيان: ولا يتجه ذلك إلا على حذف مضاف، وقد صرح به بعض المفسرين، أي: قد
سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات. اهـ
قال الراغب: (قَدْ سَأَلَهَا) يحتمل وجهين أحدهما: أنه استخبار إشارة إلى نحو قول
أصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله تعالى (قَدْ
سَأَلَهَا) وبين قوله قد سأل عنها، والثاني: أنه استعطاء إشارة إلى نحو المستنزلين
للمائدة من عيسى، والسائلين من صالح الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها.
اهـ
قال الطَّيبي: اعلم أنَّ الطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام ألفاظ
متقاربة ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك
وفيما تطلبه من نفسك، والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك، فكل سؤال طلب وليس
كل طلب سؤالاً، والسؤال يقال في الاستعطاء فيقال: سألته كذا، ويقال في الاستخبار
فيقال: سألته عن كذا، وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر وذلك أخص من السؤال، فكل
استخبار سؤال وليس كل سؤال استخباراً، والاستفهام طلب الإفهام
(3/311)
وهو أخص من الاستخبار فإن قوله تعالى
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار وليس استفهام، فكل استفهام استخبار وليس كل
استخبار استفهاماً، والاستعلام طلب العلم فهو أخص من الاستفهام، وليس كل ما يفهم
يعلم بل قد يظن ويخمن، وكل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما. اهـ
قوله: (وليس صفة لـ (قوم) فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة).
قال أبو حيان: هذا إنما هو في ظرف الزمان المجرد من الوصف، أما إذا وصف فإنه يكون
خبراً وقبل وبعد وصفان في الأصل، فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو، فالمعنى: جاء في
زمان قبل زمان مجيئه، أي متقدم عليه، ولذا صح وقوعه صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه
الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة، قال تعالى (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) ولا يجوز: والذين اليوم. اهـ
قوله: (نتجت ... ).
بالبناء للمفعول.
قوله: (ومعنى ما جعل: ما شرع ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: ولم يذكر النحويون في معاني جعل: شرع، فالأولى جعلها بمعنى صيَّر
والمفعول الثاني محذوف أي: ما صير الله بحيرة مشروعة بل هي من شرع غير الله تعالى.
اهـ
قوله: (الواو للحال).
قال الشيخ سعد الدين: الزمخشري يجعل الواو في مثل هذا الموضع للحال، مع أنَّ ما
دخلته الواو ليس حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو، أي: ولو كان الحال أنَّ
آباءهم لا يعلمون، وبعضهم على أنَّها للعطف على مقدر. اهـ
قوله: (من رأى منكم منكرًا ... ) الحديث.
أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد.
(3/312)
قوله: ( ... على ليقم).
قال أبو حيان: هذا مخالف لقول النحاة: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا إن أشعر
بالفعل ما قبله كقوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ ... ) الآية، أو أجيب به نفي أو
استفهام، وليست الآية واحداً من الثلاثة، فالذي عندي تخريجها على وجهين: أحدهما:
أن تكون (شَهَادَةَ) منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و (اثْنَانِ) مرتفع
به، والتقدير: ليشهد بينكم اثنان، فيكون من باب ضربا زيداً، إلا أن الفاعل في ضربا
مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه: اضرب، وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه: ليشَهد،
الثاني: أن يكون مصدراً لا بمعنى الأمر بل خبراً ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان
ذلك قليلاً كقوله: وقوفاً بها صحبي علي مطيهم، فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله
وقوفاً فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير: وقف صحبي على مطيهم،
والتقدير في الآية: يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان. اهـ
قوله: (من الذين جُنى عليهم).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن استحقاق الإثم عليهم كناية عن هذا المعنى، وذلك
لأنَّ معنى استحق الشيء: لاقَ به أن ينسب إليه، والجاني للإثم (المرتكب له يليق أن
ينسب إليه الاثم)، ثم استحق الإثم في معنى ارتكبه وجناه، فالذي استحق عليهم الإثم
أي: جُني عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة. اهـ
قوله: (ومعنى الآيتين: أنّ المحتضر ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: هذا تلخيص المعنى وهو في غاية من الجودة.
قال: واعلم أنَّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب. قاله الزجاج.
وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من
الأحكام.
وقال الإمام: اتفق المفسرون على أنَّ هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً
(3/313)
وحكماً. اهـ
قوله: (روي أنّ تميماً الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام ... ) الحديث.
أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس.
قوله: ((يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف له).
قال الحلبي: فيه نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا.
قال: وفي تقدير الزمخشري: لا يهديهم طريق الجنة نُحوٌ إلى مذهبه من أنَّ نفي
الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خصص المهدي إليه ولم يذكر غيره،
والذي سهل ذلك عنده أيضاً كونه في يومٍ لا تكليف فيه، وأما في دار التكليف فلا
يجيز المعتزلي أن ينسب إلى الله تعالى نفي الهداية مطلقاً. اهـ
قوله: (وقيل: بدل من مفعول (واتقوا)).
قال أبو حيان: فيه بعد لطول الفصل بالجملتين. اهـ
وقال الحلبي: لا بعد فإنَّ هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى. اهـ
قوله: (بدل الاشتمال).
زاد في الكشاف: كأنه قيل: واتقوا الله يوم جمعه. اهـ
قال العلم العراقي في الإنصاف: بدل الاشتمال هنا ممتنع، لأنه لا بد فيه من اشتمال
البدل على المبدل منه (أو اشتمال المبدل منه) على البدل، وهنا يستحيل ذلك، وإنما
يتم ذلك ببيان الإضمار، فإن تقديرها: واتقوا عذاب الله يوم. .، فيكون حينئذ بدلاً
لاشتمال اليوم على العذاب. اهـ
وكذا قال الحلبي: لابد من حذف مضاف على هذا الوجه حتى تصح له هذه العبارة
(3/314)
التي ظاهرها ليس بجيد، لأنَّ الاشتمال
لا يوصف به الباري تعالى على أي مذهب فسرناه من مذاهب النحويين في الاشتمال،
والتقدير: واتقوا عقاب الله يوم يجمع رسله، فإنَّ العقاب مشتمل على زمانه، أو
زمانه مشتمل عليه، أو عاملها مشتمل عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدل
الاشتمالي. اهـ
وقال ابن المنير: إذا أعرب بدلاً يكون منصوباً مفعولاً به لا ظرفاً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية
والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف، بل
بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي، مثلاً إذا قيل: اتقوا
الله، يتبادر الذهن إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم (من أيام) أفعاله يجب
الاتقاء يوم جمعه للرسل وللأمم أم غير ذلك. اهـ
قوله: (أو منصوب بإضمار اذكر).
قال ابن المنير: وعلى هذا يكون مفعولاً به. اهـ
تنبيه:
قال أبو حيان: ذكروا في نصب (يَومَ) سبعة أوجه، بإضمار اذكر، أو احذر، أو بـ
اتقوا، أو بـ اسمعوا، أو بـ لا يهدي، أو على البدل، أو على الظرف والعامل فيه مؤخر
تقديره: يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت.
قال: والذي نختاره غير ما ذكر، وهو أن يكون معمولاً لقوله (قَالُوا لا عِلْمَ
لَنَا)، أي: قال الرسل وقت جمعهم. اهـ
قوله: (أو بأي شيء أجبتم، فحذف الجار).
قال الطَّيبي: لم يلتفت صاحب الكشاف إلى هذا القول. اهـ
قوله: (أي: إنك الموصوف بصفاتك المعروفة).
زاد الكشاف: ومن العلم وغيره. اهـ
(3/315)
قال الطَّيبي: والتركيب حيننئذ من باب:
أنا أبو النجم وشعري شعري. اهـ
قوله: (و (عَلاّم) منصوب على الاختصاص).
قال الحلبي: يعني بالاختصاص النصب على المدح، لا الاختصاص الذي هو شبيه بالنداء
فإن شرطه أن يكون حشوا. اهـ
قوله: (أو النداء).
زاد في الكشاف: أو هو صفة لاسم إنَّ. اهـ
قال الطَّيبي: قيل: وفيه نظر لأنَّ اسم إنَّ ضمير، والضمير لا يوصف.
قال: وأجيب بأنَّ النظر مدفوع لأنه يذكر الأقوال المذكورة وبعضهم جوز وصف الضمير،
وهذا بناءً على ذلك المذهب. اهـ
وقال أبو حيان: أجمعوا على أنَّ ضمير المتكلم والمخاطب لا يجوز أن يوصف، وإنما جرى
الخلاف في ضمير الغائب. اهـ
وقال الحلبي: يمكن أن يقال: أراد بالصفة البدل، وهي عبارة سيبويه، يطلق الصفة
ويريد البدل، فله أسوة بإمامه، ولكن يبقى فيه البدل بالمشتق وهو أسهل من الأول.
قال: ولم أرهم خرجوه على لغة من ينصب الجزأين بـ (إن) ولو قيل به لكان جواباً. اهـ
قال الطَّيبي: لا ارتياب أنَّ الكلام إذا انقطع عند قوله (أَنْتَ) كما صرح به لم
يكن لقوله تعالى (عَلاّمُ الْغُيُوبِ) تعلق إعراب به، فلا وجه لجعله صفة نحوية،
فيكون التقدير: يا علام الغيوب، على النداء، أو اذكر علام الغيوب على المدح، أو
أعني علام الغيوب على الوصف والتفسير، فإن الجملة الثانية بيان للجملة الأولى من
حيث الصفة التي يستند عليها المقام على طريقة: أنا أبو النجم، وأنت تعلم أنَّ نحو
هذا التركيب لا يفيد معنى بنفسه ما لم يستند إلى ما ينبيء عن وصف خاص، وههنا لما
قيل: إنك أنت الموصوف بأوصافك لم يعلم أنَّ الصفة التي يقتضيها المقام ما هي فقيل:
(3/316)
علام الغيوب، للكشف والبيان للاحتياج
إلى تعيين ما يقتضيه المقام، وقوله: (شعري شعري على الوصف الذي يستدعيه أنا، أي:
أنا ذلك المشهور بالبلاغة والفصاحة) وشعري هو البالغ في الكمال. اهـ
قوله: (بدل من (يوم يجمع))
قال الطَّيبي: لما كان البدل كالتفسير للمبدل وكان قوله (مَاذَا أُجِبْتُمْ)
مبهماً أجاب بقوله (إِذ قَالَ ... ) إلى آخر السورة بياناً وتفصيلاً لذلك المجمل،
وأوضح أنَّ الجواب كان جواب رد لا قبول، ولهذا قال: والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة
يومئذ، وختم الآية بقوله (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاّ
سِحْرٌ مُبِينٌ). اهـ
قوله: (وقرئ: آيَّدْتُكَ).
زاد في الكشاف: على أفعلتك. اهـ
وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك. اهـ
وقال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب، فإن كان يؤايد فهو فاعل، وإن
كان يؤيد فهو أفعل. اهـ
قوله: (ويؤيده قوله (تُكَلِّمُ النَّاسَ ... )) إلى آخره.
قال الطَّيبي: أي الدليلُ على أنَّ المراد بروح القدس الكلام إيقاعُ قوله
(تُكَلِّمُ النَّاسَ ... ) إلى آخره إما بياناً للجملة الأولى أو استئنافاً. اهـ
قوله: (والمعنى: تكلمهم ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: يعني فائدة انضمام (كَهْلاً) مع (الْمَهْدِ) هذا، فعلى هذا يكون
الثاني تابعاً للأول.
قال: والأحسن ما في كلام الإمام أنَّ الثاني أيضاً معجزة مستقلة، لأنَّ المراد
يكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين ينزل من السماء في آخر الزمان، لأنه حين
رفع
(3/317)
لم يكن كهلاً. اهـ
قوله: (فيكون تنبيهاً على أن ادعاءهم الإِخلاص مع قولهم. (هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) لم يكن بعد عن تحقيق
واستحكام معرفة).
قال الحلبي: هذا القول خارق للإجماع، وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه أنهم كانوا
مؤمنين، وأجيب عن الآية بأجوبة منها: أنَّ معناها هل يفعل ربك، وهل يقع منه إجابة
لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تحب ذلك؟. اهـ
وقال ابن المنير: هو من التعبير عن المسبب بالسبب لأنَّ الاستطاعة من أسباب
الإيجاد أي: هل يفعل، تقول للقادر هل تستطيع كذا مبالغة في التقاضي فيكون إيمانهم
سالماً. اهـ
قال الواحدي: لا يدل قولهم على الشك كما تقول لصاحبك هل تستطيع أن تقوم. اهـ
قال الزجاج: يحتمل أنَّهم أرادوا أن يزدادوا تبياناً وتثبيتاً كقول إبراهيم صلى
الله عليه وسلم (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
وقال البغوي: لم يقولوا شاكين في قدرة الله تعالى ولكن معناه: هل يُنزل أم لا؟.
اهـ
قال الطَّيبي: ويقوي ذلك قولهم (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) وقوله تعالى (فَمَنْ
يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، ولأنَّ وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل،
فإن الله سبحانه أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله تعالى
(كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ ... ) الآية، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح
الزبير بقوله: إنَّ لكل نبيٍّ حواريًّا وإن حواري الزبير. اهـ
(3/318)
قوله: (أو من ماده إذا أعطاه).
قال الطَّيبي: روى الزجاج عن أبي عبيدة أنَّها مفعولة ولفظها فاعلة، نحو (عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ). اهـ
وقال الزجاج: إنَّها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. اهـ
قوله: (وقيل: العيد السرور).
قال الطيبي: فعلى هذا الضمير يعود إلى المائدة، ولا يحتاج إلى تقدير المضاف. اهـ
قوله: (وقيل: يأكل منها أولنا وآخرنا).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ التكرار في (أولنا) لرفع التفاوت بين قوم وقوم، يعني: لا
تفاوت بين من يأكل أولاً وبين من يأكل آخراً لإنزال الله سبحانه البركة فيها،
ومثله في التكرير المعنوي قوله تعالى (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين. اهـ
قوله: (عَذَابًا) (أي: تعذيباً).
قال أبو البقاء: (عَذَابًا) اسم المصدر الذي هو التعذيب كالسلامة بمعنى التسليم،
فيقع موقعه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة).
قال الحلبي: إطلاق العذاب على ما يعذب به كثير، لكن ليس لقائل أن يقول: كان الأصل:
بعذاب، ثم حذف الحرف فانتصب المجرور به لأن ذلك لا يطرد إلا مع إنَّ وأنَّ بشرط
أمن اللبس. اهـ
قوله: (الضمير للمصدر).
قال الكواشي: المعنى لا أعذب مثل تعذيب الكافر بالله تعالى وبعيسى عليه الصلاة
والسلام بعد نزول المائدة أحداً من العالمين. اهـ
(3/319)
قوله: (أو للعذاب إن أريد به ما يعذب على
حذف حرف الجر).
قال أبو البقاء: يجوز أن يكون الهاء للعذاب، وفيه وجهان: أنَّ يكون على حذف حرف
الجر، أي: أعذب به أحداً، وأن يكون مفعولاً به على السعة، ويجوز أن يكون ضمير
المصدر المؤكد نحو: ظننته زيداً منطلقاً، ولا تعود الهاء على العذاب الأول.
فإن قلت: (لا أُعَذِّبُهُ) صفة لـ (عذاب) وحينئذٍ لا راجع من الصفة إلى الموصوف؟
قلت: لما وقع الضمير موقع المصدر والصدر جنس عام و (عَذَابًا) نكرة كان الأول
داخلاً في الثاني، نحو: زيد نعم الرجل. اهـ
قوله: (ولا تجعلها مثلة).
قال الطَّيبي: أراد بالمثلة العقوبة القريبة مثل المسخ. اهـ
قوله: ((قَالَ سُبْحَانَكَ) أي: أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك).
قال الطَّيبي: فإن قلت قوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)
لا يقتضي الشركة بل يقتضي اتخاذهما إلهين من دونه على أنه يوهم إنكار الإفراد
ولأنهم لو اتخذوهما إلهين معه كان جائزاً لأنك إذا قلت: اتخذت فلاناً من دوني
حبيباً، جاز إنكار إفراده بالاتخاذ؟ وأجاب الراغب بأن قوله (مِن دُونِ اللهِ)
يحتمل وجهين: أحدهما: إنكار اتخاذهما معبودين، وعدم اتخاذه معبوداً، وذلك أنَّهم
لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد بها لأن الله تعالى لا يرضى أن يُعبد معه
غيرُه، والثاني: أنَّ (دُون) هاهنا للقاصر عن الشيء، وهم عبدوا المسيح وأمه كيما
يوصلا إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا (مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) فكأنه قيل: أأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال: سبحانك، منزهاً عن ذلك. اهـ
قوله: (وقوله (فى نفسك) للمشاكلة).
قال الطَّيبي: يعني لو لم يقل ما في نفسي لم يجز أن يقال (وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ)، لأنه لا يجوز أن يطلق على الله تعالى ابتداءً اسم النفس.
قال الراغب: ويجوز أيضاً أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه بها فكأنه قال تعالى
(3/320)
(ما في نفسي) ولا نفس لك فأعلم ما
فيها، كقول الشاعر:
ولا يرى الضب بها ينجحر
أي لا ضب ولا جحر بها فيكون من الضب الانجحار. اهـ
قوله: (تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه).
أي لأفادته الحصر.
قوله: ((أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) عطف بيان للضمير في (به)).
قال أبو حيان: هذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام. اهـ
وقال السفاقسي: هو وإن كان في الأعلام أكثر لكن لا يمنع وقوعه في غيرها، وقد أجازه
أبو علي في غيرها من القرآن، وهو قوله تعالى (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ)
قال إنه عطف بيان، على أنَّ ما ذكره المصنف من حيث المعنى حسن جداً. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: لا يجوز أن يكون عطف بيان على الهاء في (به) لأن عطف
البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أنَّ الضمير لا ينعت كذلك لا
يعطف عليه عطف بيان، ووهم الزمخشري حيث أجاز ذلك ذهولاً عن هذه النكتة، ممن نص
عليها من المتأخرين أبو محمد بن السيد وابن مالك والقياس معهما في ذلك. اهـ
وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ في حاشيته على المغني وتبعه البدر ابن
(3/321)
الدماميني: ليست هذه النكتة من القوة
بحيث يُوهَّم الزمخشري بالذهول عنها، ولعله لم يذهل وإنما رآها غير معتبرة بناءً
على أنَّ ما يتنزل منزلة الشيء لا يلزم أن تثبت جميع أحكامه له، ألا ترى أنَّ
المنادى المفرد المعين منزل منزلة الضمير ولذلك بُني، والضمير لا ينعت ومع ذلك لا
يمتنع نعت المنادى. اهـ
قوله: (أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء
الموصول بلا راجع).
تصريح بمخالفة الزمخشري حيث منع من كونه بدلاً، وعلله بأنك لو أقمت (أَنِ
اعْبُدُوا اللهَ) مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصول
راجع إليه من صلته، وقد أطبق الناس على الرد على الزمخشري في ذلك.
قال ابن المنير: هذا لا يمنع البدل فقد قال في مفصله: وقولهم إن البدل في حكم
تنحية الأول يؤذن باستقلاله ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه
لا أن يعنوا إهدار الأول واطراحه، تقول: زيداً رأيت غلامه رجلاً صالحاً، ولو أهدرت
الأول لم يسند كلامك، ثم إنه لم يفرق في المفصل بين عطف البيان والبدل إلا في مثل
قوله: أنا ابن التارك البكري بشر، وأنَّ المعتمد في عطف البيان الأول والثاني
موضح، وفي البدل المعتمد الثاني والأول توطئة وبساط له. اهـ
وقال أبو حيان: لا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز
النحويين: زيد مررت به أبي عبد الله، ولو قال زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز إلا
على رأي الأخفش. اهـ
وقال ابن هشام: وهم الزمخشري فمنع أن يكون بدلاً من الهاء ظناً منه أن المبدل منه
في قوة الساقط فتبقى الصلة بلا عائد، والعائد موجود حساً فلا مانع. اهـ
وكذا قال صاحب الفرائد وصاحب التقريب.
(3/322)
لكن وافق الحلبي الزمخشري فقال رداً
على أبي حيان: قوله إنَّ حلول البدل محل المبدل منه غير لازم، واستشهاده بما ذكر
غير مسلم، لأن هذا معارض بنصهم على أنه لا يجوز: جاء الذي مررت به أبي عبد الله،
بحرِّ عبد الله بدلاً من الهاء، وعللوه بأنه يلزم بقاء الموصول بلا عائد، ويكفيه
كثرةُ قولهم في مسائل: لا يجوز هذا لأنَّ البدل يحل محل المبدل منه، فيجعلون ذلك
علة مانعة يعرف ذلك من عانى كلامهم. اهـ
قوله: (ولا يجوز إبداله بـ (ما أمرتني به) فإن المصدر لا يكون مفعول القول).
عبارة الكشاف: لأن العبادة لا تقال. اهـ
وتعقبوه أيضاً، فقال ابن المنير: إن لم تقل العبادة فيقال الأمر بها، فإذا جعلت
موصولة مع فعل الأمر فمجازه: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة على طريقة (ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهو متعلق القول لا نفسه وكذلك
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ). اهـ
وقال أبو حيان: قوله لأن العبادة لا تقال صحيح لكن يصح ذلك على حذف مضاف أي: ما
دلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله أي القول المتضمن عبادة الله.
اهـ
وقال الحلبي: وفيه بعض جودة. اهـ
وقال السفاقسي: فيه تعسف. اهـ
وقال ابن هشام: إنْ أُوِّل القول بالأمر كما فعل الزمخشري في وجه التفسير به جاز
كونه بدلاً من (ما)، وقد فاته هذا الوجه هنا فأطلق المنع، فإن قيل: لعل امتناعه من
إجازته، لأن (أمر) لا يتعدى بنفسه إلى الشيء المأمور به إلا قليلاً، فكذا ما أول
به؟ قلنا: هذا لازم له على توجيه التفسير به. اهـ
وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: معناه: ما قلت لهم إلا عبادته، بالنصب،
(3/323)
أي: الزموا عبادته فيكون هو المراد بـ
(مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، ويصح كون الجملة وهي الزموا عبادته بدلاً من (مَا
أَمَرْتَنِي) من حيث إنَّها في حكم المفرد لأنَّها مقولة و (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)
مفرد لفظاً وجملة ومعنى. اهـ
قوله: (ولا أن تكون (أن) مفسرة، لأنَّ الأمر مستند إلى الله تعالى وهو لا يقول:
اعبدوا الله ربى وربكم).
قال الطَّيبي: فيه نظر، لم لا يجوز أنه نقل معنى كلام الله تعالى بهذه العبارة،
كأنه قيل: ما قلت لهم شيئاً سوى قولك لي قل لهم أن اعبدوا الله، كما سبق في قوله
تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) على قراءة التحتية.
اهـ
وقال ابن المنير: يجوز على حكاية معنى قول الله تعالى بعبارة أخرى، كأنه قال: مرهم
بعبادتي، وقال على لسان عيسى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فحكاه
عيسى عليه الصلاة والصلام فكنى عن اسمه كما قال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا) وكذلك آية الزخرف (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى قوله (فَأَنْشَرنا). اهـ
وقال أبو حيان: يستقيم ذلك على جعل (اعْبُدُوا اللهَ) فقط هو المفسر ويكون (رَبِّي
وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام على إضمار أعني لا على الصفة لله.
اهـ
وردَّ الحلبي على أبي حيان: بأن ذلك في غاية البعد عن الأفهام، والمتبادر إلى
الذهن أن (رَبِّي) تابع للجلالة. اهـ
وكذا قال السفاقسي: فيه خروج عن الظاهر باقتطاع (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من جملة
(اعْبُدُوا) وجعله على إضمار فعل، والزمخشري إنما ألزم المحذور على ظاهر اللفظ.
اهـ
(3/324)
وقد اعتمد ابن الصائغ كلام أبي حيان
فقال في حاشية المغني: يمكن أن يقال المحكى ًإنما هو (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) وقوله
(رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه الصلاة والسلام أردف به الكلام المحكي
تعظيماً لله تعالى، كما قال الزمخشري في قوله تعالى حكاية عن اليهود (إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ): ويجوز أن يضع الله
تعالى الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة
والسلام كما يذكرونه وتعظيماً لما أرادوا بمثله.
وقال ابن الحاجب في أماليه: فإن أحكى: حاك كلاماً، فله أن يصف المخبر عنه بما ليس
في كلام الشخص المحكي عنه.
ثم قال ابن الصائغ: ويمكن أن يصرف التفسير إلى المعنى بأن يكون عيسى عليه الصلاة
والسلام قد حكى قول الله تعالى بعبارة أخرى، وكأنه تعالى قال له مرهم بأن يعبدوني،
ومرهم بأن يعبدوا الله ربك وربهم، فعبر عيسى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق
التكلم وعنهم بطريق الخطاب، ونظيره في الحكاية بالمعنى قوله تعالى (فَحَقَّ
عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ) والأصل: إنكم لذائقون. اهـ
وحكى هذين الوجهين البدر الدماميني ثم قال: ولا يمتنع أيضاً أن يكون الله تعالى
قال لعيسى عليه الصلاة والسلام: قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم، فحكاه كما أمر به
ولا إشكال. اهـ
قوله: (والقول لا يفسر).
قال ابن المنير: أجاز بعضهم وقوع (أن) المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما
في معناه فيقع حينئذ مفسراً له، اهـ
قوله: (ألا أن يؤول القول بالأمر ... ) إلى آخره.
فيه أمور: الأول: قال صاحب الفرائد: تأويل القول لا يصح إذا كان في التقسيم قسم
يصح، لأن التأويل عند الضرورة. اهـ
الثاني: قال ابن المنير: هذا التأويل تكلف ولا طائل تحته. اهـ
(3/325)
الثالث: قال أبو حيان: تجويز كون (أن)
هنا مفسرة لا يصح، لأنَّها جاءت بعد (إِلاّ)، وكل ما كان بعد (إِلاّ) المستثنى بها
فلا بد أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. اهـ
وقال السفاقسي: الذي بعد (إِلاّ) هو و (مَا) موضعها نصب بـ (قُلْتُ)، و (أن)
التفسيرية للجملة المتقدمة على (إِلاّ) وهي (مَا قُلْتُ لَهُمْ) المتضمن معنى ما
ًأمرتهم. اهـ
واستحسن ابن هشام في المغني جواب الزمخشري الرابع.
قال الشيخ سعد الدين: في جعل (أن) المفسرة لفعل الأمر المذكور صلته -مثل: أمرته
بهذا أن قم- نظر، أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغنٍ عن الآخر، وأما في
الاستعمال فلأنه لا يوجد. اهـ
قوله: (على أنه ظرف لـ (قال)).
قال أبو البقاء ثم الطَّيبي: أي قال الله هذا القول في يوم ينفع، والقول هو (يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وجاء على لفظ
الماضي نحو (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وليس ما بعد (قَال) على الحكاية في
هذا الوجه كما في الوجه الآخر. اهـ
قوله: (وليس بصحيح لأنّ المضاف إليه معرب).
هذا على مذهب البصريين ومذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره جواز بناء المضاف
إلى معرب.
قوله: (من قرأ سورة المائدة).
الحديث رواه ابن مردويه والثعلبي والواحدي وابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي،
وهو موضوع كما بيناه في آخر سورة آل عمران.
* * *
(3/326)
سورة الأنعام
قوله: (والجعل فيه معنى التضمين).
قال الشيخ سعد الدين: أي جعل شيء في ضمن شيء بأن يحصل منه، أو يصير إياه، أو ينقل
منه أو إليه، وبالجملة فيه اعتبار شيئين وارتباط بينهما. اهـ
قوله: (وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها).
أي بخلاف النور فإنه جنس واحد وهو النار.
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل الأجرام النيرة كثيرة كالكواكب، وقد ذكر في سورة
البقرة أنَّ النور ضوء النار وضوء كل نير، ولو سلم فأفراد النور كثيرة قطعاً،
فاتحاد جنس منشأ النور لا يقتضي إفراد اللفظ؟ قلنا: مرجع كل نير إلى النار كما
قال: إن الكواكب أجرام نورانية نارية، وإن الشهب منفصلة من نار الكواكب، فيصح أن
النور من جنس النار فقط، وأنه ضوء النار وضوء الكواكب وغيره، وإفراد اللفظ للقصد
إلى هذا المعنى، وهو غير القصد إلى الجنس. اهـ
قوله: (عطف على قوله تعالى الحمد لله ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن الكفر يصح أن يحمل على معنى الشرك تارة وعلى كفران النعمة
أخرى، وبحسب هذين المعنيين يدور معنى (يَعْدِلُونَ) وتعلق الباء، فإذا جعل بمعنى
الكفران يجب أن يعطف على (الْحَمْدُ للهِ) لأن الحمد بإزاء النعمة ولا نعمة أعظم
من إخراج الممكنات إلى الوجود، فـ (يَعْدِلُونَ) على هذا من العدول، والباء صلة
(كَفَرُوا) على حذف المضاف، أي: كفروا بنعمة ر بهم، وإذا جعل بمعنى الشرك يجب أن
يعطف على (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) لأنَّ كفرهم بتسويتهم الأصنام بخالق السماوات
والأرض كما قالوا (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فـ (يَعْدِلُونَ)
على هذا بمعنى يسوون ليستقيم معنى الشرك، والباء متعلقة به، وعلى الوجهين قوله
تعالى (بِرَبِّهِمْ) مظهر أقيم مقام المضمر للعلية، وعلى الأول معناه
(3/327)
التربية، وعلى الثاني المالكية والقهر،
والحمد على الأول محمول على الشكر اللساني، وعلى الثاني النداء على الجميل. اهـ
ًقال صاحب الانتصاف: في العطف على قوله (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) نظر،
لأنَّ العطف على الصلة يوجب الدخول في حكمها، ولو قلت: الحمد لله الذي الذين كفروا
بربهم يعدلون لم يستقم، ويحتمل أن يقال: وضع الظاهر موضع المضمر تفخيماً، ومجازه:
الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا بربهم يعدلون به، فساغ وقوعها صلة
لهذا، ونظيره (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) فيمن جعلها موصولة لا
شرطية، لأنَّ الظاهر وضع فيه موضع المضمر، تقديره: ثم جاءكم رسول مصدق له، لكن في
آية الأنعام نظر إذ يصير تقديرها: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، ووقوعه
بعد الحمد غير مناسب، فالوجه هو الأول. اهـ
ولذا قال أبو حيان: هذا الوجه الثاني لا يجوز، ووجهه بمثل ما ذكره صاحب الانتصاف
ثم قال: إلاّ أن يخرج على قولهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، فكأنه قيل: ثم
الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل عليه كتاب الله
تعالى. اهـ
وكذا قال ابن هشام إنه ضعيف.
وقال الحلبي بعد حكايته كلام أبي حيان: الزمخشري إنما يريد العطف بـ (ثم) لتراخي
ما بين الرتبتين، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرح به هو فكيف يلزمه ما ذكر
من الخلو عن الرابط، وكيف يتخيل كونها للمهملة في الزمان؟. اهـ
وقال الطَّيبي بعد حكايته كلام الانتصاف: وليس بذاك لأنه من باب عطف حصول مضمون
الجملتين لقوله إنه خلق كذا ثم هم يعدلون به، يعني: حصل من الله تعالى
(3/328)
خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات
والنور للمكلفين ليعرفوه ويوحدوه ويعبدوه فحصل منهم عكس ذلك حيث سووا معه غيره،
نحو قوله تعالى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، فموقعه الفاء
في الظاهر فجيء بـ (ثم) للاستبعاد، ولأنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر لأنه
ابتداء كلام الكفار، على أنه لو قيل: ثم الكافرون والمشركون كان ظاهراً أيضاً، فإن
قلت: الحمد هو النداء على الجميل من نعمة أو غيرها فما معنى هذا الترتيب؟ قلت:
معناه بيان فضله وكمال حكمته ورحمته، كأنه قيل: ما أحلمه وما أرحمه لما يصدر منه
تلك الفضائل والأنعام ويقابل بذلك الكفر والكفران ولا يصب عليهم العذاب صباً، كما
في قوله تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). اهـ
قوله: (ومعنى (ثم) استبعاد عدولهم).
قال الشيخ سعد الدين: إنما لم يحمل (ثم) على التراخى مع استقامته لكون الاستبعاد
أوفق بالمقام. اهـ
قال الطَّيبي: ذيل كل من الآيتين بكلمة الاستبعاد بحسب ما يقتضيه من المعنى، أما
هذه الآية فلما تضمنت دلائل الآفاق من الأجرام والأعراض ذكر منها أعظمها جِرْماً
في النظر وأشملها متناولاً للأعراض ليدخل في الأول سائر الأجسام من الكبير
والصغير، وفي الثاني جميع الأعراض الظاهرة والخفية، ولهذا فسره الزجاج: بالليل
والنهار، والقاضي: بالضلال والهداية، والدليل على الاستيعاب والجمع في أحد
المكررين والإفراد في الآخر لأن في ذكر الأرض والنور مفردين واقترانهما بالجمعين
إشعاراً بإرادة الجنسية في الإفراد والاستغراق في الجمع، وفي ذكر الخلق والجعل
إشارة إلى استيعاب الإنشائين، ثم إنَّ الله تعالى بعد هذا الكلام الجامع والبيان
الكامل نعى على الكفار بقوله عز وجل (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ) يعني: انظروا إلى هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الأدلة كيف يتركون عبادة
خالق الأرض
(3/329)
والسماوات ويشتغلون بعبادة الحجارة
والموات، وأما الآية الثانية فلمّا اشتملت على دلائل الأنفس ذكر فيها المبدأ
والمنتهى تصريحاً، ولوح إلى ما يتوسطها تلويحاً ذكر خلقهم من طين، ونص على الأجلين
وعبر بـ (ثم) دلالة على أطوار ما في البين من النطفة والعلقة والمضغة المخلقة وغير
المخلقة والنشوء حياً ثم الطفولة والشباب والشيخوخة إلى الموت، ونبه بذكر الامتراء
والعدل من الغيبة في قوله (بِرَبِّهِمْ) إلى الخطاب في قوله عز وجل (أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ) على التنبيه من رقدة الغفلة والجهالة، وأن دلائل الأنفس أقرب الدلائل
وأدق، وهي التي يضطر معها الناظر إلى المعرفة التامة.
وتلخيص المعنى: أنَّ دلائل الآفاق موجبة لإزالة الشرك وإثبات التوحيد فناسب أن
يستبعد منهم الشرك مع وجودها، وأن دليل الأنفس مقتض لحصول اليقين فناسب أن يستبعد
منهم الامتراء، واعلم أنَّ قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع ودلائل
التوحيد وما يتصل بها، انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه ومآله إلى قوله
(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله
وسلامه عليه بقوله (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد
ولجة بحر التوحيد، ثم تفكر في قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان
من له تحت كل سورة من كتابه الكريم بل كل آية وكلمة أسرار تنفد دون نفاد بيانها
الأبحر. اهـ
قوله: (والباء على الأول متعلقة بـ (كفروا) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: هذا تخصيص من غير مخصص لتأتي التقديرين على كل من الوجهين.
اهـ
قوله: (و (أجل) نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغنى عن تقديم الخبر).
قال أبو حيان: لا يتعين هنا أن يكون المسوغ الوصف، لأنه يجوز أن يكون المسوغ
التفصيل فإنه من مسوغات الابتداء بالنكرة. اهـ
(3/330)
قال الحلبي: لم يقل المصنف إنه تعين
ذلك حتى يلزمه به، وإنما ذكر الوصف لأنه أشهر منه في المسوغات. اهـ
قوله: (والاستئناف لتعظيمه).
قال ابن المنير: هذا لا يوجب التقديم وقد ورد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)
والمراد تعظيمها. اهـ
وقال الطَّيبي: ما يكون معظماً مفخماً فلا بد أن يكون مهتماً بشأنه، والاهتمام
موجب للتقديم. اهـ
زاد الشيخ سعد الدين: وأما تقديم الظرف في (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلإفادة
الاختصاص. اهـ
قوله: (متعلق باسم الله نعالى).
عبارة الكشاف: بمعنى اسم الله تعالى. اهـ
وهي أحسن.
قال الطَّيبي: قال الزجاج: لو قلت: هو زيد في المدينة؛ لم يجز إلا أن يكون في الكلام
دليل على أنَّ زيداً يدبر أمر المدينة.
ونقل أبو البقاء عن أبي علي أنه قال: لا يجوز أن يتعلق باسم الله تعالى، لأنه صار
بدخول الألف واللام والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِيًّا).
قال الطَّيبي: والزمخشري اختار مذهب الزجاج، وزاد عليه في الاعتبار، فأوَّل
التركيب على وجوه: أحدها: جعل اسم الله تعالى مشتقاً من أَلِهَ يأله إذا عبد،
فالإله
(3/331)
: فعال في معنى المفعول، أي المألوه
المعبود ثم تصرف فيه فصار (الله)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو المعبود فيهما،
وثانيها: جعل معنى شهرته في الإلهية عاملاً في الظرف، كما تقول: هو حاتم في طيء،
على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به كأنك قلت: هو جواد في طىء، ومنه قوله: أنا أبو
النجم وشعري شعري، أي: أنا ذلك المشهور في الفصاحة وشعري هو المعروف بالبلاغة، وهو
الذي عناه صاحب الكشاف بقوله: وهو المعروف بالإلهية.
قال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال (فِي السَّمَاوَاتِ) حال مؤكدة، أي: (وَهوَ اللهُ)
معروف في السماوات والأرض، كقولك: هو زيد معروفاً في العالم.
وقال المالكي: لا يكون الحال المؤكد بها خبر جملة جزأها معرفتان جامدتان إلا بلفظ
دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم في تقديم العلم به والعامل فيها أحقه أو
أعرفه.
وثالتها: أن يكون رداً على المشركين في إثبات إله غيره.
قال الزجاج: هو المنفرد بالتدبير في السماوات والأرض، خلافاً للقائل المخذول إن
المدبر فيهما غيره.
وإليه الإشارة بقول الكشاف: المتوحد بالإلهية فيهما.
قال ابن الحاجب: وفائدة قولك: أنا زيد، وهو زيد الإخبار عما كان يجوز أنه متعدد
بأنه واحد في الوجود وهذا إنما يكون إذا كان المخاطب قد عرف مسميين في ذهنه أو
أحدهما فيذهنه والآخر في الوجود، فيجوز أن يكونا متعددين، فإذا أخبر المخبر
بأحدهما عن الآخر كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة.
(3/332)
ورابعها: أن يكون مأخوذاً من قوله
تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، وهو المراد من قول الكشاف: وهو الذي يقال له
الله فيها لا يشرك به في هذا الاسم، وهو اختيار أبي علي. وخامسها: أن لا يكون (فِي
السَّمَاوَاتِ) متعلقاً بالاسم، وذلك بأن يكون خبراً بعد خبر، ومعناه: أنه عالم
بما فيهما، كقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي: بالعلم والقدرة. اهـ
ولخصه الشيخ سعد الدين فقال: لا خفاء ولا خلاف في أنه لا يجوز تعلقه بلفظ الله
تعالى لكونه اسماً لا صفة وكذا في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) لأن (إِلَه) اسم وإن كان بمعنى المعبود كالكتاب
بمعنى المكتوب بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي تضمن اسم الله كما في قولك: هو
حاتم في طيء حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد، والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن
يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم -أعني المعبودية- وأما ما اشتهر به الاسم من
الألوهية وصفات الكمال ودلت عليه (وَهُوَ اللهُ) مثل: أنا أبو النجم وشعري شعري،
أي: هو المعروف بذلك في السماوات وفي الأرض، أو ما يدل عليه التركيب الحصري من
التوحد والتفرد بالألوهية، أو ما تقرر عند الكل من مقولية هذا الاسم عليه خاصة،
فهذه أربعة أوجه وأما الخامس فهو أن يكون (فِي السَّمَاوَاتِ) خبراً آخر للمبتدأ،
ومعنى كونه فيهما: أنه عالم بما فيها على التشبيه والتمثيل شبهت حالة علمه بها
بحالة كونها فيها، لأن العالم إذا كان في مكان كان عالماً به وبما فيه بحيث لا
يخفى عليه شيء، ويجوز أن يَكون كناية فيمن لم يشترط جواز المعنى الأصلي، ولا
يستقيم الكلام بدون هذا المجاز أو الكناية وكذا قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ). اهـ
قلت: والمصنف اقتصر من الأوجه المذكورة على الأول والخامس وترك الثلاثة لأنها
قريبة المعنى من الأول، وقال في قوله تعالى (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ):
إنه بيان وتقرير لجملة (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)، أي:
إيضاح لمعنى العلم المراد منهما على الوجه الأخير وهو الوجه الخامس، لأنه على الأول
استئناف كما في الكشاف.
قال الطَّيبي: إنه لما قيل هو المعبود فيها اتجه لسائل أن يسأل: فما شأنه مع
عابديه
(3/333)
حينئذ؟ فأجيب: يعلم سرهم وجهرهم ويعلم
ما يكسبون فيجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وكذا على الوجه الثاني والرابع، ويقدر السؤال: بماذا عرف فيهما؟ وما وصفه فيهما؟
فقيل: وصفه فيهما بالعلم الشامل الكلي والجزئي، وأما على الثالث فهو بيان وتقرير
كالخامس. اهـ
قوله: (وليس متعلقاً بالمصدر لأن صلته لا تتقدم).
يريد بالمصدر السر والجهر، أي ليس قوله (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)
متعلقاً بهما على معنى أنه يعلم السر والجهر الكائنين في السماوات والأرض لهذا
المانع النحوي.
وقد وهى ابن هشام في المغني هذا الكلام فقال: وقد أجيز في قوله تعالى (وَهُوَ
اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تعلقه
بـ (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، ورد بأن فيه تقديم وتأخير معمول المصدر، وتنازع
عاملين في متقدم، وليس بشيء لأن المصدر هنا ليس مقدراً بحرف مصدري وصلته، ولأنه قد
جاء نحو (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) والظرف متعلق بأحد الوصفين قطعاً،
فكذا هنا. اهـ
وقال الشيخ بدر الدين ابن الدماميني متعقباً على ابن هشام: ولا نسلم ذلك، ولم لا
يجوز أن يكون مقدراً بما يسرون وما يجهرون. اهـ
وقال شيخنا الإمام تقي الدين الشمني: ليس السر بمصدر، ففي الصحاح: السر الذي يكتم،
وإذا لم يكن مصدراً لا يقدر بحرف مصدري وصلته، وأما الجهر فهو مصدر إلا أنه أريد
به هنا ما يقابل السر، وهو الذي لا يكتم لا معناه المصدري، فلا يكون هنا مقدراً
بحرف مصدري وصلته، ولا يخفى أنَّ المراد هنا بصلة الحرف المصدري فعل ذلك المصدر
المقدر، وحينئذ فقول الدماميني: إنه يقدر بما يسرون
(3/334)
ليس بظاهر لأنه يسر فعل الأسرار لا
السر.
قوله: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ): (مِنْ) الأولى مزيدة
للاستغراق، والثانية للتبعيض).
قال ابن الحاجب: .......................
(وقال الشيخ سعد الدين في توجيه التبعيض): لأنَّ الآية الواحدة وإن استغرقت في حكم
النفي فهي بعض من جميع الآيات، وحملها على التبيين كما زعم ابن الحاجب إنما يستقيم
لو كانت النكرة في النفى بمعنى جميع الأفراد، وما قال إنَّها لو كانت تبعيضية لما
كانت الأولى استغراقية ممنوع لصحة قولنا ما يأتيهم بعض من الآيات أيُّ بعض كان.
اهـ
قوله: (أي: ما يظهر لهم دليل قط ... ).
قال أبو حيان: فيه استعمال قط مع المضارع وليس بجيد لأنها ظرف مختص بالماضي. اهـ
قوله: (أو عند ظهور الإسلام).
قال الطَّيبي: فإن قلت: اتصال قوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ) بما قبله على أنَّ المراد بالإنباء ظاهر، لمناسبة الاعتبار بترول
العذاب على الأمم السالفة بالتهديد والوعيد، فما وجه اتصاله به إذا أريد به ما
قال: عند ظهور الإسلام؟ قلت: معناه: فسوف يأتيهم أنباء القرآن ومن نزل عليه عند
ظهور تباشير الظفر ونصر الله الإسلام وقهر أعداء الدين وغلبة أوليائه، أَوَلم يروا
كم أهلكنا من قبلهم من المكذبين ونصرنا الأنبياء، وضعفة المؤمنين على من هم أشد من
هؤلاء. اهـ
قوله: (كما مثل جبريل فى صورة دحية).
أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه
(3/335)
وسلم في صورة دحية الكلبي.
وأخرج الطبراني عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان جبريل يأتيني على
صورة دحية الكلبي، وكان دحية رجلاً جميلاً.
قوله: (حيث أهلكوا لأجله).
قال الطَّيبي: يعني أن قوله (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) من إطلاق السبب
على المسبب، لأنَّ المحيط بهم هو العذاب لا المستهزأ به، ولما كان سبباً له وضع
موضعه للمبالغة. اهـ
قوله: (والفرق بينه وبين قوله (قل سيروا) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يريد الأمر على الأول واحد مقيد، وعلى الثاني شيئان، والأول مباح،
والثاني واجب لدلالة (ثم).
قال صاحب التقريب: إنما لم يحمل على التراخي وعدل إلى المجاز إذ واجب النظر في
آثار الهالكين حقه أن لا يتراخى عن السير.
قال الطَّيبي: ويمكن أن يأمرهم بالسير أولاً وبالنظر ثانياً على الوجوب، ويكون
الثاني أعلى مرتبة لأن الكلام مع المنكرين، كما تقول: توضأ ثم صل، والآية مع الفاء
متضمنة للتنبيه على الغفلة والتوبيخ على التغافل، ومع (ثم) للتعبير على التواني
والتقاعد. اهـ
قوله: (سؤال تبكيت).
في الأساس: ومن المجاز: بكته بالحجة أي: غلبه، وبكته: ألزمه ما عيّ بالجواب عنه.
اهـ
قال الطَّيبي: يعني إذا سئلوا عن قوله تعالى (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ)؟
(3/336)
لا محيد لهم إلا أن يقولوا الله (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). اهـ
قوله: (تقرير لهم).
قال الشيخ سعد الدين: أي إلجاء إلى الإقرار بأن الكل لله، لأنَّ هذا من الظهور
بحيث لا يقدر أحد أن ينكره. اهـ
وحكاه الطَّيبي بـ (قيل) ثم قال: والأولى أنَّ يكون من تقرير الشيء إذا جعل في
مكانه.
قال الجوهري: قررت عنده الخبر حتى استقر.
أي قرر الجواب لأجلهم، فكأنَّ قولُه قولهَم لأنه لا خلاف بينه وبينهم، وهذا هو
المراد من (قوله: لا خلاف بيني وبينكم). اهـ
قوله: (أنه المتعين للجواب بالاتفاق).
قال الإمام: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال أولاً والجواب
ثانياً، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ من الظهور إلى حيث
لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه مدافع. اهـ
قوله: (أو رفع على الخبر، أي: وأنتم الذين).
قال الحلبي: إنما قدر المبتدأ (أنتم) ليرتبط مع قوله تعالى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ)
وقوله تعالى (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من مراعاة الموصول. اهـ
قوله: ((وله) عطف على (للهِ)).
قال الشيخ سعد الدين: يجوز أنه يريد من عطف المفرد على المفرد، أعني الخبر على
الخبر والمبتدأ على المبتدأ، كما تقول في له الملك وله الحمد: إنَّ (له) عطف على
(له) و (الحمد) على (الملك)، وأنه يريد أن (وَلَهُ مَا سَكَنَ) عطف على لله
(3/337)
ما في السماوات والأرض بعد حذف المبتدأ
والخبر بقرينة السؤال، والأول أظهر، والمقصود أن يدخل هذا أيضاً تحت (قُل) ليكون
احتجاجاً ثانياً على المشركين، أي: لله ما استقر في الأمكنة وله ما استقر فى
الأزمنة، ولذا جعل (سَكَنَ) من السكنى دون السكون إذ لا وجه للسكون على التحريك في
مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. اهـ
وقال صاحب التقريب: إنما أدرجه تحت (قل) ولم يجعله مستأنفاً كما هو السابق إلى الفهم
ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين، وإيذاناً بأنَّ له ما استقر في الأمكنة وما
استقر في الأزمنة. اهـ
قوله: (من السكنى).
قال الطَّيبي: مقصوده من جعله من السكنى دون السكون التعميم والشمول، إذ لو جعل من
السكون الذي يقابل الحركة لفات الشمول. اهـ
قوله: (وتعديته بـ (في) كما في قوله تعالى: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ)).
قال الطَّيبي: يعني سكن من السكنى جاء متعدياً بنفسه وبـ (في).
قال في الأساس: سكنوا الدار وسكنوا فيها، وأسكنتهم الدار وأسكنتهم فيها. اهـ
قوله: (وهو (السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم).
قال الطَّيبي: المناسب أن يكون مردوداً إلى المعطوف والمعطوف عليه، أي: يعلم كل
معلوم من الأجناس المختلفة في السماوات والأرض، ويسمع هواجس كل ما يسكن في الليل
والنهار من الحيوان وغيره. اهـ
قوله: (فلذلك قدم وأولى الهمزة).
قال الشيخ سعد الدين: يعني قدم المفعول للاختصاص، وأولى حرف الاستفهام ليدل على
أنَّ الإنكار راجع إلى نفس المفعول لا إلى الفعل. اهـ
قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى (فاطر) حتى أتاني
أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها).
(3/338)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن
جرير في تفسيره.
قوله: (وجره على الصفة لله).
خرجه أبو البقاء على البدل.
قال أبو حيان: وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين
المنعوت والنعت لأنه على تكرار العامل. اهـ
قوله: (يَرزقُ ولا يُرزقُ).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس المعنى على خصوص المطعم بل مطلق النفع تعبيراً عن
كل الشىء بمعظمه. اهـ
قوله: (على أنَّ الضمير لغير الله)
أي في قوله (وهو يُطعم) على البناء للمفعول.
قال الطَّيبي: وفيه إشكال، لأنَّ الكلام مع عبدة الأصنام والأصنام لا توصف بأنها
تطعم، وليس الكلام مع اليهود والنصارى ليقال المسيح وعزير يَطعم ولا يُطعم.
قال: والجواب أنَّ المقصود من قوله تعالى (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) إذا أخذ
بمريديه أنه يُربَّى ولا يُربِّى كقوله تعالى (لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ
يُخْلَقُونَ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: صح ذلك بالنظر إلى إطلاق غير الله تعالى فإن منه من يُطعَم
كالمسيح من معبودات الكفرة فغلب أو ورد على طريقتهم في إطعام الأصنام. اهـ
قوله: (وقيل لي لا تكونن).
قال الشيخ سعد الدين: عطفاً على (أُمِرْتُ) لظهور أنه لا يصح عطف (وَلا
تَكُونَنَّ) على (أَنْ أَكُونَ) إذ لا وجه للالتفات، ولا معنى لقولك: أمرت أن لا
تكونن. اهـ
(3/339)
قوله: ((فقد رحمه) نجاه وأنعم عليه).
قال الشيخ سعد الدين: لما اتحد ظاهر الشرط والجزاء احتيج إلى التأويل ليفيد. اهـ
وقال صاحب الانتصاف: لو بقيت الرحمة على لفظها لما زاد الجزاء على الشرط، لأن صرف
العذاب رحمة فاحتيج إلى التأويل. اهـ
قوله: (فكان قادرًا على حفظه وإدامته).
قال الشيخ سعد الدين: بيان لوجه ارتباط الجزاء بالشرط. اهـ
وقال الطَّيبي: يريد أن قوله (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جواب للشرط
مقابل لقوله تعالى (فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ) وكان الظاهر أَن يقال (فَلا
رَادَّ لِفَضْلِهِ) كما في آية يونس، لكن جيء به هنا عاماً ليشتمل على ذلك وغيره
وليتصل به قوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). اهـ
قوله: (تصوير لغيره).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تخييلية فلا تلزم الجهة. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون (الله شهيد) هو الجواب).
قال الطَّيبي: أي المجموع، فعلى هذا هو من باب الأسلوب الحكيم، يعني: شهادته
معلومة لا كلام فيها وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم مبيِّن لدعواي بإنزال هذا
الكتاب الكريم، وإذا ثبت أن الله تعالى شاهد لي يلزم، فأكبر شيء شهادةً شهيد له.
اهـ
(3/340)
وعبارة الشيخ سعد الدين: كأنه قيل:
معلوم أن الله تعالى هو الأكبر شهادة، ولكن الكلام الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن
الله تعالى شهيد لي لينتج مع قولنا الله أكبر شهادة (أنَّ الأكبر شهادة) شهيد لي.
اهـ
وقال أبو حيان: هذا الوجه أرجح من الأول، لأنه لا إضمار فيه مع صحة معناه، وفي
الأول إضمار أولاً وآخراً. اهـ
قوله: (الذين خسروا أنفسهم من أهل الكتاب والمشركين).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ليس إشارة إلى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)
خاصة، ولذا كان مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، لا نصباً على الذم أو رفعاً
كما في ما تقدم. اهـ
قوله: (وإنما ذكر (أو) وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أنّ كلاً منهما وحده
بالغ غاية الإفراط فى الظلم على النفس).
قال الطَّيبي: يعني في مجيء (أو) وأنهم قد جمعوا بين الكذب والتكذيب إشارة إلى
أنَّ كل واحد منهما بلغ في الفظاعة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فإنَّ الثابت أحد
الأمرين، وهم في الجمع بينهما كمن جمع بين أمرين متناقضين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: معنى جمعهم بين الأمرين أنَّهم ذهبوا إليهما جميعاً، لكن
ورد في النظم كلمة (أو) لأنَّ المعنى أنه لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف من
جمع بينهما. اهـ
قوله: ((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) منصوب بمضمر).
زاد في الكشاف: متأخر تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام
الذي هو داخل في التخويف. هـ
والذي ذكره ابن عطية وأبو البقاء أنه بإضمار (اذكر).
(3/341)
قوله: (وإنما سماه فتنة لأنه كذب).
قال الطيبي: يعني إنما سمي الجواب فتنة لأنَّ قولهم (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كان
كذباً، والكذب سبب لإيقاع الإنسان في الفتنة وورطة الهلاك، فعلى هذا قولهم
(وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) مجرىً على ظاهره، و (ثُمَّ) للتراخي في
الرتبة، يعني أن جوابهم هذا أعظم في تشويرهم من توبيخنا إياهم بقولنا (أَيْنَ
شُرَكَاؤُكُمُ)، وهذا الداعي إلى وضع الفتنة موضع الجواب، وعلى الأول -وهو تفسير
الفتنة بالكفر- قولهم (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كناية عن التبري
عنهم، وانتفاء التدين به، و (ثُمَّ) مجرىً على ظاهره، كقوله: ثم لم تكن عاقبة
كفرهم. اهـ
قوله: (والتأنيث للخبر كقولهم: من كانت أمك).
قال صاحب التقريب: في الاستشهاد به نظر، لأنَّ (من) تذكر أو تؤنث. اهـ قال
الطَّيبي: وأجيب أنَّ (من) إنما يذكر ويؤنث باعتبار مدلوله وإيهامه وشيوعه
كالمشترك، وأما لفظه فليس إلا مذكر. اهـ
قوله: (وقيل معناه: وما كنا مشركين عند أنفسنا).
قال الجبائي: فيه مستند إلى أنَّ أهل المحشر لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم
يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيلجؤن إلى ترك القبيح.
والجمهور على خلافه وإن الكذب عليهم في الآخرة جائز بل واقع واستدلوا بآيات كثيرة،
وحمل هذه الآية على أنَّ المراد: ما كنا مشركين في ظنوننا واعتقادنا مخالفةٌ
للظاهر.
قوله: (وحمله على كذبهم فى الدنيا تعسف).
قال الشيخ سعد الدين: أي أخذٌ على غير الطريق، لأن الآية لا تدل على هذا المعنى
بوجه ولا تنطبق عليه لأنَّها في شأن حشرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا، بل تنبو
(3/342)
عنه أشد نبو لأنَّ أول الكلام (ويومَ
نَحْشُرُهمْ) وآخره (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وذلك في أمر
القيامة لا غير. اهـ
قوله: (يخل بالنظم).
قال الطَّيبي: لما فيه من صرف أول الآية إلى أحوال القيامة وآخرها إلى أحوال
الدنيا. اهـ
قوله: (خرافات).
قال الشيخ سعد الدين: قيل أصل الخرافة: ما اخترف من الفواكه من الشجر، ثم جعل
اسماً لما يتلهى به من الأحاديث.
وفي المستقصى: أنه رجل من خزاعة استهوته الجن فرجع إلى قومه وكان يحدثهم
بالأباطيل، فكانت العرب إذا سمعت ما لا أصل له قالت: حديث خرافة، ثم كثر حتى قيل
للأباطيل: خرافات. اهـ
قلت: روى البزار عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث ذات ليلة نساءه حديثاً،
فقالت امرأة منهن: هذا حديث خرافة.
قال: أتدرون ما خرافة؟ كان رجلاً من عذرة أسرته الجن فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى
الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.
وفي الصحاح: الخرافات بتخفيف الراء الأباطيل والأكاذيب جمع خرافة، اسم رجل من عذره
استهوته الجن وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا حديث خرافة، ويروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: وخرافة حق.
والراء فيه خفيفة، ولا تدخل الألف واللام لأنه معرفة علم إلا أن يراد به الخرافات
الموضوعة في حديث الليل.
(3/343)
قوله: (ويجوز أن تكون الجارة (وإذا
جاءوك) في موضع الجر).
قال الشيخ سعد الدين: هذا مبني على أنَّ (إذا) عنده ليس بلازم بالظرفية بل يجري
عليه إعراب الأسماء. اهـ
وقال أبو حيان: ما جوزه في (إذا) بعد (حتى) من كونها مجرورة تبعه عليه ابن مالك في
التسهيل، وهو خطأ كما بينّاه في شرحه. اهـ
قوله: (استئنافُ كلام منهم على وجه الإثبات).
قال الشيخ سعد الدين: أي دون التمني يريد أنه ليس عطفاً على (نُرَدُّ) ليدخل تحت التمني
ويكون المعنى: ليتنا لا نكذب، بل هو عطف على التمني عطف أخبار على إنشاء وهو جائز
باقتضاء المقام. اهـ
وقال الطَّيبي: قال صاحب المرشد: التقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ونحن من
المؤمنين رددنا أو لم نُرد، فلا يدخلان في جملة التمني، ويرتفعان على أنه استئناف
خبر. اهـ
قوله: (كقولهم: دعنى ولا أعود).
قال الطَّيبي: قال صاحب الإقليد: وهو كالشرح لكلام ابن الحاجب، وإنما ذكر هذا
الرفع لتعذر النصب والجزم على العطف، أما النصب فيفسد المعنى، إذ المعنى على هذا:
يجتمع تركك لي وتركي لما تنهاني عنه، وقد علم أن طلب هذا المتأدب لترك المؤدب إياه
إنما هو في الحال بقرينة ما عداه من ألمه بتأديب مؤدبه، وغرض المؤدب الترك لما نهى
عنه في المستقبل، ولا يحصل هذا الغرض بترك المتأدب المنهي عنه في الحال، وإنما
يحصل بالترك للعود في المستقبل، ولا يستقيم الجزم لأنه إذا جزم عطفاً أدى إلى عطف المعرب
على المبني وهو ممتنع إذ العطف لاشتراك الشيئين في الإعراب ولا موضع للأول حتى
يحمل عليه، وأما امتناع الجزم في (ولا أعود)
(3/344)
فلما فيه من عطف الجملة المنهية على
الأمرية، فكأنه قال: دعني، ثم شرع في الجملة الأخرى ناهياً لنفسه عن العود، لأنه
لا يلزم من النهي تحقق الامتناع والمقصود نفي وقوع العود في المستقبل ولا يحصل هذا
إلا بالخبر. اهـ
قوله: (أو عطف على (نرد)).
قال الشيخ سعد الدين: والمعنى على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب. اهـ
قوله: (على الجواب بإضمار (أن) بعد الواو).
(قال أبو حيان: ليس كذلك فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب لأن الواو لا
تقع جواب الشرط، فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب، وإنما هي واو مع
يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها، وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد
محاملها الثلاثة: وهي المعية ويميزها (من الفاء) تقدير موضعها كما أن فاء الجواب
إذا كان بعدها فعل منصوب ميزها تقدير شرطٍ قبلها أو حالٍ مكانها، وشبهة من قال
إنَّها جوابٌ أنَّها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنَّها جواب.
قال: ويوضح لك أنَّها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل
بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط. اهـ
وقال الحلبي: سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج فقال: نصب على الجواب
بالواو في التمني. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: أما قراءة النصب فعلى تقدير: ليت لنا ردٌ أو عدم تكذيب
(3/345)
، فإن إضمار (أن) بعد الواو كإضمارها
بعد الفاء، وما ذكر من معنى الجزائية والسببية أي: إن رددنا لم نكذب، ففيه نظر.
اهـ
قوله: (أو على (إنهم لكاذبون)).
قال الطَّيبي: هو من عطف الخاص على العام. اهـ
قوله: ((وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للسؤال).
قال الشيخ سعد الدين: لاستحالة حقيقتة. اهـ
وقال الطَّيبي: لا يجوز أن يقال وقفوا على الله حقيقة ولا كناية، لأنَّ الكناية لا
تنافي إرادة الحقيقة، فوجب الحمل على المجاز، أي الاستعارة التمثيلية. اهـ
قوله: (غاية لـ (كذبوا) لا لـ (لخسر)، لأن خسرانهم لا غاية له).
قال الطَّيبي: ويمكن أن يحمل على قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ)، أي: إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين ثم إذا جاء ذلك
اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه، أي: خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع من المحن
والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون في ما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران
المبين.
قال: وهذا أقرب مما قاله المصنف، لأن قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَى ظُهُورِهِمْ) مقارن بالتحسر المذكور في الآية وهو غير مناسب إلا بالحشر. اهـ
قوله: (أضمرت وإن لم يجر لها ذكر).
قال الشيخ سعد الدين: يعني في هذا المقال وبالنسبة إلى هؤلاء القائلين، وأما قوله
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فمقالٌ آخر وقوم آخرون. اهـ
وقال الطَّيبي: فإن قلت: أما سبق قُبيل هذا (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا)
(3/346)
وضع الظاهر موضع المضمر؟ قلت: لا
ارتياب أن القائلين لقوله (إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) هم الناهون عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، وإن قوله (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) إلى قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كالاعتراض والتوكيد لما
يتضمن معنى الكلام السابق واللاحق من التهديد والوعيد لاشتماله على جميع من أنكر
الحشر وسوء مغبتهم وإظهار حسرتهم وندامتهم ووخامة أمر حياة الدنيا، وليس المقام من
مجاز وضع المظهر موضع المضمر لأن الاعتراض مستقل بنفسه ولا تعلق له بالسابق إلا من
حيثُ المعنى. اهـ
قوله: ((وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لاستحقاق آصار
الآثام).
قلت: بل هو على حقيقته كما وردت به الآثار.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَى ظُهُورِهِمْ) قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه
أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسه حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما
أقبح وجهك؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً.
قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتناً.
قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنساً.
قال: من أنت؟ قال: أنا عملك.
قال فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا
باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني، فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك
قوله عز وجل (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس الملائي: أن المؤمن إذا خرج من قبره
استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحاً، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أنَّ
الله قد طيب ريحك وحسن صورتك.
فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت
اليوم، وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا).
(3/347)
وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة
وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك.
فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الذي طالما ركبتني في الدنيا، وأنا اليوم
اركبك، وتلا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ).
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن قيس عن أبي مرزوق مثله.
قوله: (وقوله (للذين يتقون) تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو).
قال الطَّيبي: وذلك أن الظاهر أن يقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وما الدار
الآخرة إلا جد وحق لا باطل زائل، فوضع موضعه (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) إطلاقاً لاسم
المسبب على السبب. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لأنه لما خص خيرية أعمال الآخرة بالمتقين -وهي في مقابلة
أعمال الدنيا- أي لعب ولهو، فما ليس من أعمال المتقين ليس من أعمال الآخرة وما ليس
من أعمال الآخرة فهو من أعمال الدنيا، وأعمال الدنيا لعب ولهو، فما ليس من أعمال
المتقين لعب ولهو. اهـ
قوله: (معنى (قد) زيادة الفعل وكثرته).
قال أبو حيان: هذا قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وما استشهدوا به عليه
فالتكثر فيه لم يفهم من (قد)، وإنما فهم من سياق الكلام، لأن الفخر والمدح إنما
يحصلان بكثرة وقوع المفتخر به والممدوح به، وعلى تقدير أن تكون (قد) للتكثير في
الفعل وزيادته لا يتصور ذلك في قوله (قَدْ نَعْلَمُ) لأنَّ علمه تعالى لا يمكن فيه
الزيادة والتكثير. اهـ
(3/348)
وقال الحلبي: قد يجاب عن هذا بأن
التكثير في متعلقات العلم لا في العلم. اهـ
ولذا قال السفاقسي: قد تصبح الكثرة باعتبار المعلومات. اهـ
وقال الطَّيبي: يعني أن لفظة (قد) للتقليل ثم يراد به في بعض المواضع ضده وهو
الكثرة كقوله تعالى (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ)، والنكتة ههنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه
وتكذييهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا
يعلم الله من إظهارك الشكوى إلا قليلاً، أو يكون تهكماً بالمكذبين وتوبيخاً لهم
لقوله تعالى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ
اللهِ يَجْحَدُونَ). اهـ
قوله: (كما في قوله: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ)
هو لزهير ابن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري وأولها:
صحى القلب عن سلمى واقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله
قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: مما يستجاد له قوله:
وذي نعمة تممتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله
دفعت بمعروف من القول صائب ... إذا ما أضل القائلين تفاضله
وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يُلْمِمْ به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب نوافله
غدوة عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدِّينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله
فأعرضن منه عن كريم مرزإٍ ... جموع على الأمر الذي هو فاعله
أخي ثقة لا تهلك الخمر رأسه ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(3/349)
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد
بها فليتق الله سائله
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: يريد جوده ذاتي ليس مما يحدث بالسكر.
قوله: (ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها).
قال الشيخ سعد الدين: لما كان ظاهر الكلام كالمتناقض بناءً على أنَّ الجحود
بالآيات المنزلة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب له فيما يدعيه من النبوة
والشرائع أجيب بأنَّ المراد ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما
يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي. اهـ
قوله: (روي أنَّ أبا جهل كان يقول: ما نكذبك ... ).
الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديث علي.
قوله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وفيه دليل على أن قوله عز وجل (لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس بنفى تكذيبه
مطلقاً).
قال ابن المنير: لا يدل لأنه لا يصح أيضاً مع نفي التكذيب، أي: هؤلاء لم يكذبوك
فحقك أن تصبر لأن من قبلك كذبوا وصبروا فأنت أجدر ولكنه أقرب من وجه آخر إذ قد ورد
مثل هذه التسلية صريحاً في قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ). اهـ
قوله: ((وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي: من قصصهم).
قال أبو حيان: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنَّ (من) لا تكون فاعلة، والذي
يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة، أي:
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب
أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نُصروا. اهـ
(3/350)
وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر
جلاء أو بيان. اهـ
وقال الرماني: تقديره ولقد جاءك نبأ.
قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ).
قال الشيخ سعد الدين: وإنما أتى فيه بلفظ كان ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب
مستقبلاً، لأن كان لقوة دلالته على المعنى لا تقلبه كلمة (إن) إلى الاستقبال بخلاف
سائر الأفعال. اهـ
قوله: (وصفه به قطعاً لمجاز السرعة)
قال الشيخ سعد الدين: للقوم كلام في أنَّ هذا من قبيل الصفة أو التأكيد أو عطف
البيان، والأول هو الوجه، وكذا في قوله سبحانه وتعالى (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ
اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
قوله: (روي أنه يأخذ للجماء من القرناء).
أخرجه البخاري ومسلم.
قولة: (وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشرها موتها).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
قوله: (بل الفعل معلق أو المفعول محذوف).
اختار أبو حيان أنَّ المسألة من باب التنازع، وأنَّ (أَرَأَيْتَكُمْ) والشرط
تنازعا في عذاب الله تعالى فأعمل الثاني وهو (أَتَاكُمْ) فارتفع (عَذَابُ اللهِ)
به فاعلاً، ولو أعمل الأول لنصب مفعولاً أول، وأما المفعول الثاني لـ
(أَرَأَيْتَكُمْ) فهو الجملة الاستفهامية (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرابط لها
بالمفعول الأول محذوف تقديره: أغير الله تدعون لكشفه، والمعنى: قل أرأيتكم عذاب
الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله سبحانه تدعونه لكشفه أو كشف نوازلها.
(3/351)
تنبيه: لم يتعرض المصنف لبيان جواب
الشرط وهو (إِنْ أَتَاكُمْ)، وقد جعله الحوفي (أَرَأَيْتَكُمْ)، قُدم لدخول الهمزة
عليه، ورُدَّ بأن تقديم جواب الشرط عليه ممنوع عند البصريين، وجعله الزمخشري
محذوفاً تقديره: فمن تدعون، وقدره غيره: دعوتم الله، ودل عليه (أَغَيْرَ اللهِ
تَدْعُونَ)، و جوز الزمخشري كونه جملة (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ)، ورده أبو حيان
بأن جملة الاستفهام المصدرة بالهمزة لا يجوز أن تقع جواباً للشرط، قال: والذي عندي
أنه محذوف تقديره: فأخبروني عنه، دل عليه (أَرَأَيْتَكُمْ) لأنه بمعناه.
قوله: (وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف
الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (وَتَنسَوْن) مجاز عن الترك، أو هو حقيقة. اهـ
ونقل الإمام أنَّ بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق فقال له جعفر: هل ركبت
البحر؟ قال: نعم.
قال: هل رأيت أهواله؟ قال: نعم، هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن، وغرق
الملاحون، فتعلقت ببعض ألواحها ثم ذهب عني اللوح فدفعت إلى تلاطم الأمواج حتى وصلت
الساحل.
قال جعفر: قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح وعلى اللوح فلما ذهبت هل
سلمت نفسك إلى الهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد؟ قال: بل رجوت السلامة.
قال: ممن؟ فسكت، فقال جعفر: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه ذلك الوقت، وهو الذي
أنجاك، فأسلم الرجل.
قوله: (مراوحة)
بالراء والحاء المهملة: وهو العمل بأحد العملين بمرة وبالآخر أخرى، من راوح بين
الرِّجْلين: قام على إحداهما مرة وعلى الأخرى أخرى.
(3/352)
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام
قال: مكر بالقوم ورب الكعبة).
لم أقف عليه مرفوعاً إنما هو من قول الحسن أخرجه ابن أبي حاتم عنه بزيادة: أعطوا
حاجتهم ثم أخذوا، لكن روى أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن
عامر مرفوعاً: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو
استدراج ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما نسوا ما ذكروا به) الآية والتي
بعدها.
قوله: (نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها).
قال الطَّيبي: هذا يؤذن أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) كما قال
الكواشى إخبار بمعنى الأمر، أي: احمدوا الله، وكذا كل ما ورد في القرآن من هذا.
اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لأن مثل هذا تعليم للعباد ومقول على ألسنتهم. اهـ
(قوله: (يأتيكم به) أي: بذلك).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن ضمير (به) عائد إلى السمع والإبصار والقلوب بتأويل
اسم الإشارة، وإفراد اسم الإشارة بتأويل المذكور. اهـ
قوله: ((بَغْتَةً) من غير مقدمة ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: (جَهْرَةً) لا تقابل (بَغتة) من حيث اللفظ، لأنَّ مقابل الجهرة
الخفية، لكن معنى (بَغتَة): وقوع الأمر من غير شعور، فكأنها في معنى خفية، فحسن
لذلك أن يقال (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً). اهـ
قوله: (أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب).
قال الشيخ سعد الدين: قيد بذلك ليستقيم الحصر، إذ غير الظالمين أيضاً يهلكون لكن لا
تعذيباً وسخطاً بل إثابة ورفع درجة. اهـ
(3/353)
قوله: (ولم نرسلهم (1) ليقترح عليهم
ويتلهى بهم).
قال الطَّيبي: يعني: يلعب بهم ويسخر.
قال: وهو إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). اهـ
قوله: (جعل العذاب ماساً لهم، كأنه الطالب للوصول إليهم).
قال الطَّيبي: يجوز أن يريد أن الاستعارة واقعة في المس فتكون تبعية، أو في العذاب
فتكون مكنية، والظاهر الثاني. اهـ
وبذلك جزم الشيخ سعد الدين فقال: جعل العذاب من قبيل الأحياء استعارة بالكناية.
اهـ
قوله: (وهو من جملة المفعول).
قال أبو حيان: الظاهر أنه معطوف على (لا أَقُولُ) لا معمول له، فهو أُمر أن يخبر
عن نفسه بهذه الجمل الثلاث، فهذه معمولة للأمر الذي هو (قُل). اهـ
وقال الحلبي: في الإعراب الأول نظر من حيث أنه يؤدي إلى أن يصير التقدير: ولا أقول
لكم لا أعلم الغيب، وليس بصحيح. اهـ
قلت: كلا بل التقدير: ولا أقول لكم أعلم الغيب، فالقول صحيح مضمر بين (لا) و
(أَعْلَمُ)، لا بين الواو و (لا).
قال الشيخ سعد الدين: لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب، وإنما الفائدة في
الإخبار بأني لا أقول ذلك، ليكون نفياً لادعاء الأمرين اللذين هما خواص الإلهية،
ليكون المعنى: إني لا أدعى الإلهية ولا الملكية، ويكون تكرير (إِنِّي مَلَكٌ) دون
(لا أَعْلَمُ) إشارة إلى هذا المعنى، و (لا) في (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) مزيدة
مذكرة للنفي، وفي (لا أَقُولُ) يحتمل المذكرة والنافية. اهـ
قوله: (تبرأ عن دعوى الإلهية والملكية).
_________
(1) في الأصل (ولم يرسلهم) والتصويب من تفسير البيضاوي. (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/354)
قال الطَّيبي: جعل مجموع قوله (عِنْدِي
خَزَائِنُ اللهِ) و (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عبارة عن معنى الإلهية، لأن قسمة
الأرزاق بين العباد ومعرفة علم الغيب مخصوصتان به، ولهذا كرر في الملكية لفظ (لا
أَقُولُ).
قال: وهذا يهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على
تفضيل الملك على البشر، لأنَّ الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى يعني من
الإلهية إلى الملكية. اهـ
قوله: (مثل للضال والمهتدي).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ هذه الخاتمة كالتذييل الذي يقع في آخر الكلام على سبيل
التمثيل، وقوله (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) كالتتميم للتذييل والتنبيه على مكان
التذييل، ثم المذيَّل إما ما سبق من أول هذه السورة وجميع ما جرى له مع القوم من
الدعوة إلى الحق وإبائهم إلا الباطل وإما ما سبق من قوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ
مَا يُوحَى إِلَيَّ) فالبصير من يتبع ما يوحى إليه، والأعمى من لا يرفع به رأساً،
أو من قوله (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) فالأعمى من يدعي هذا والبصير من يتبع الوحي
ويدعي النبوة. اهـ
قوله: (أو مدعى المستحيل كالألوهية والملكية).
قال ابن المنير: دعوى الملكية من الممكنات، لجواز أن يجعل الله تعالى البشر ملكاً
والملك بشراً ويدل عليه قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ
رَجُلاً)، ولأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها. اهـ
قال العلم العراقي: ومن البين في ذلك قوله تعالى (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أطمع آدم في أن يصير مَلَكاً
والنبي لا يطمع في مستحيل. اهـ
وحكى ذلك الطَّيبي وأقره.
(3/355)
وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل دعوى
الملكية من الممكنات، أي من دعوى الأمور الممكنة، لأنَّ الجواهر متماثلة يجوز أن
يقوم بكلها ما يقوم ببعضها، ولهذا لما قيل لآدم (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أقدم على الأكل طمعاً في
الملكية مع أن النبي لا يطمع في المحال فالجواب: أنَّ المقدمات على تقدير تمامها
إنما تفيد إمكان أن يصير البشر ملكاً، وأما أن يكون ملكاً فلا، لتمايزهما بالعوارض
المتنافية بلا خلاف، وهذا كما أنَّ كلاً من العناصر يجوز أن يصير الآخر لا أن
يكون، وعلى هذا ينبغي أن يحمل طمع آدم لو سلم نبوته، وكونه نبياً عند الأكل. اهـ
قوله: (هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر ... ).
قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الإنذار بالقرآن والوحي لقصد ترتب التقوى عليه
إنما ينجع ويؤثر في من يكون له تقصير ويتوقع فيه اعتقاد أن يحشر من غير ولي ولا
شفيع، فلذا فسر (الَّذِينَ يَخَافُونَ) المفرطين في العمل، أو بالكفرة الخائفين من
الحشر، وجعل قوله (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) حالاً من
الحشر، إذ لا يتصور حصول الاتقاء للمؤمنين المتقين، ولا يؤثر الإنذار في الكفرة
المتمردين، ولا في الذين يعتقدون مجرد الحشر من غير اعتقاد أن لا ولي سوى الله
تعالى ولا شفيع. اهـ
قوله: (ينجع).
أي: يؤثر.
قوله: (روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد).
الحديث أخرجه هكذا وفيه قول عمر ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة مرسلاً، وأخرجه
بنحوه ابن أبي شيبة وأبو يعلى والبيهقي في الذيل من حديث خباب وليس فيه ذكر قول
عمر.
(3/356)
قوله: (والمراد بذكر الغداة والعشي
الدوام).
قال الطَّيبي: يقولون أنا عند فلان صباحاً ومساء، ويريدون الدوام. اهـ
قوله: (وإن كان لهم باطن غير مرضي).
قال أبو حيان: فكيف يفرض هذا وقد أخبر الله تعالى بإخلاصهم في قوله تعالى (يريدون
وجهه) وإخباره هو الصدق الذي لا شك فيه. اهـ
قوله: (ويجوز عطفه على (فتطردهم) على وجه التسبب).
قال الشيخ سعد الدين: دفع لما يتوهم من أنه لو جعل عطفاً على جواب النفي لصح أن
يقع جواباً للنفي، وليس كذلك إذ لا معنى لقولك: ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم
فتكون من الظالمين. اهـ
قوله: (وفيه نظر).
قال الطَّيبي: وجه النظر هو أن قوله تعالى (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ
مِنَ الظَّالِمِينَ) حينئذ مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض أمر الحساب إليه، فيفهم
منه أن لو كان حسابهم عليه وطردهم كان ظالماً وليس كذلك، لأن الظلم وضع الشيء في
غير موضعه.
قال: والجواب أنه أراد بذلك المبالغة في معنى الطرد، يعني لو قدر تفويض الحساب
إليك مثلاً ليصح منك طردهم لم يصح أيضاً، فكيف والحساب ليس إليك، نظيره في إرادة
المبالغة قول عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. اهـ
قوله: (وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا
ذنوباً عظاماً؟ فلم يرد عليهم شيئاً، فنزلت).
أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ماهان مرسلاً.
قوله: (أي من عمل ذنباً جاهلاً ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فالجهالة على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز. اهـ
قوله: (ومثل ذلك التفصيل الواضح).
(3/357)
قال الطَّيبي: إشارة إلى ما سبق من
أحوال الطوائف الثلاث من لدن قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)
لأنَّ هذه الطائفة هم المطبوع على قلوبهم، والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم هي
الطائفة التي يرى فيها أمارة القبول لأنَّها هي المنذرة التي يرجى إسلامها لقوله
(يَخَافُونَ) وقوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، والتي في قوله (وَإِذَا
جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هي الطائفة
التي دخلت في الإسلام إلا أنها لا تحفظ حدوده، ومن ثم خوطبوا بقوله (أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) فعلى هذا قوله (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ) إذا قدر المعلل فصلنا ذلك التفصيل بدلالة السابق عطف جملة على
جملة. اهـ
قوله: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فى شيء من الهدى).
قال الطَّيبي: قالوا في تفسير هذا بهذا نظر لأن هذا الأسلوب في الإثبات يوجب أن
يكون المدخول ليس من له حظ قليل في ذلك الوصف بل له حظوظ وافرة إلا أنه غير محظوظ
منه، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول ممن له حظ ما فيه.
قال صاحب الكشاف في قوله تعالى (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ): قولك:
فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم
ومعرفه مساهمة لهم في العلم.
وأجيب: بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدى ليست من هذا القبيل بل من قبيل كون
قوله (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) جوابًاً وجزاءً لما
دل عليه قوله تعالى (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) على سبيل التعريض، كأنه
قيل: إن اتبعتُ أهواءكم قد ضللتُ إذن وكنتُ مثلكم متوغلاً في الضلال منغمساً فيه
ولا أكون من الهدى في شيء كما أنتم عليه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون صفة لـ (بينة)).
قال الشيخ سعد الدين: على معنى كائنة من ربي صادرة عنه. اهـ
قوله: (أو للبينة باعتبار المعنى).
(3/358)
قال الزجاج: لأن البينة والبيان في
معنى واحد. اهـ
قوله: (مستعار من المفاتح).
قال الطَّيبي: يمكن أن تكون الاستعارة مصرحة تحقيقية، استعير العلم للمفاتح لعلم
الله لأن المفاتح هي التي يتوصل بها من علم بها وبكيفية فتح المخازن المستوثق منها
بالأغلاق وإلى ما في المخازن من المتاع، فعلم منه أنه تعالى أراد بهذه العبارة أنه
هو من المتوصل إلى المغيبات وحده، وأن يكون استعارة تمثيلية بأن يجعل الوجه
منتزعاً من أمور متوهمة وهوماً يتوهم من تمكن تحصيل شيء مستوثق منه يختص حصوله بمن
عنده ما يتوصل به، وأنه مركب من أمور متعددة، وإن شئت جعلت الاستعارة في الغيب على
سبيل المكنية والقرينة إضافة المفتاح إليه على التخييلية. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هي استعارة بالكناية تشبيهاً للغيب بالأشياء المستوثق منها
بالأقفال، وإثبات المفاتح تخييلية كأظفار المنية، وكذا على جعلها جمع مَفتح -بفتح
الميم- بمعنى المخزن هي مكنية أيضاً، جعل للغيب مخازن أودعها هو وهي عنده فلا يطلع
على الغيب غيره، فهو أيضاً عبارة عن علمه بالمغيبات كما دل عليه قوله تعالى (لا
يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ) لا عن قدرته على جميع الممكنات كما قال الإمام الرازي.
اهـ
قوله: (والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات).
قال ابن المنير: لا يجوز إطلاق المتوصل على الله تعالى لما يوهم من تجدد الوصول.
اهـ
وقال الطَّيبي: لا بأس إن أريد الاستمرار الدائم. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وما قيل من أنَّ إطلاق التواصل على الله تعالى ولو بطريق
(3/359)
التجوز بعيدٌ لما ينبئ من تجدد الوصول
ليس ببعيد. اهـ
قلت: هذه العبارة تعطي مساعدة ابن المنير، ولا شك في منع ذلك لعدم الورود،
والألفاظ المطلقة عليه سبحانه توقيفية.
قوله: ((إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأول).
قال أبو البقاء: (إِلاّ فِي كِتَابٍ) إلا هو في كتاب، ولا يجوز أن يكون استثناء
يعمل فيه (يَعلَمُهَا) لأنَّ المعنى يصير: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في
كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات أي: لا يعلمها إلا في كتاب، وإذا لم يكن إلا في
كتاب وجب أن يعلمها في كتاب، فإذاً يكون الاستثناء بدلاً من الأول، أي: وما تسقط
من ورقة (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) إلا في كتاب وما يعلمها (إلا هو). اهـ
قال الشيخ سعد الدين: هو صفة للمذكورات، كما أن (إِلاّ يَعْلَمُهَا) صفة لـ
(وَرَقَة)، وأما ما يقال إنه تأكيد للاستثناء الأول أو بدل منه وأنه ليس استثناء
من (إِلاّ يَعْلَمُهَا) للزوم كونه نفياً في الإثبات لكون (إِلاّ يَعْلَمُهَا)
إثباتاً من النفي فمما لا ينبغي أن يصغي إليه المحصل. اهـ
قوله: (وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ
لَهَا يَدَي).
قال الطَّيبي: ألحق الهاء بالكتيبة لأنه جعله اسماً للجيش، وهو من تكتبت الخيل إذا
تجمعت، يقول: رب جيش خلطتها بجيش فلما اختلطت نفضت يدي وتركتهم وشأنهم، وفي البيت
كنايات: إحداها: أنه مهياج للحروب، وثانيتها: قوله: نفضت لها يدي، فإنه يدل على
أنه خلاهم والفتنة، وثالثتها: أنه فتان جبان. اهـ
قوله: (ولا يجوز عطفه على محل (من شىء) لأن (من حسابهم) يأباه).
(3/360)
قال أبو البقاء: (من) في (من شيءٍ)
زائدة، و (مِن حِسَابِهم) حال تقديره: شيء من حسابهم. اهـ
يعني: شيء كائن من حسابهم، فإذ عطف (ذِكرَى) على محل (من شيءٍ) لرجع المعنى إلى ما
يلزم المتقين الذكرى الذي من حسابهم لأن (من شيءٍ) مقيد بقيد (مِن حِسَابِهم) فإذا
عطف عليه لا بد من تقييده به.
قال الطَّيبي: واعترض صاحب التقريب وقال: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف
المعطوف به، وأجيب: أن ذلك في عطف الجملة على الجملة، وأما في عطف مفردات الجمل
فملتزم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في توجيه قوله (يأباه): لأنه حال (من شيءٍ) قدم عليه فصار
قيداً للعامل، فإذا عطف (ذكرَى) على (شيءٍ) عطف المفرد على المفرد كان جهة القيد
معتبرة فيه، ويؤول المعنى إلى أنَّ عَليك من حسابهم ذكرى وذكرى ليس من حسابهم، فإن
قيل: لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف به، قلنا: نحن لا ندعي ذلك، بل
إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف
عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف ألبتَّة بحكم الاستعمال، تقول: ما
جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكباً أو من هذا القوم رجل ولكن امرأة يلزم أن
يكون مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون هي من ذلك القوم
ألبتَّة، لا يجوز الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف مثل: ما جاءني
رجل من العرب ولكن امرأة، فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب. اهـ
قال أبو حيان: كأنه تخيل أنه يلزم في العطف القيد الذي في المعطوف عليه وهو
(3/361)
(مِن حِسَابِهم) لأنه قيد في (شيءٍ)
فيصير التقدير: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى عليه، وهذا الذي تخيله ليس بشيء،
لأنه لا يلزم في العطف بـ (لكن) ما ذكر، تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق، وما
عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام رجل عالم ولكن رجل جاهل، فعلى هذا
الذي قررناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات،
والعطف إنما هو الواو، ودخلت (لكن) للاستدراك. اهـ
وقال الحلبي: هذه الأمثلة التي ذكرها لا ترد على الزمخشري، لأن أهل اللسان
والأصوليين يقولون إن العطف ظاهر في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر
تقييد المعطوف عليه بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا
قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمرواً فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً
بيوم الجمعة، فإن قلت: وعمرواً يوم السبت، لم يشاركه في قيده، والآية الكريمة من
قبيل النوع الأول، أي لم يؤت مع العطف بقرينة تخرجه فالظاهر مشاركته للأول في قيده
وحينئذ يلزم ما ذكره الزمخشري، وأما الأمثلة التي أوردها أبو حيان فالمعطوف مقيد
بغير القيد الذي قُيد به الأول.
قال: وقوله على محل (من شيءٍ) ولم يقل على لفظه لفائدة حسنة تعسر معرفتها وهي أن
(لكن) حرف إيجاب فلو عَطف ما بعدها على المجرور لفظاً لزم زيادة (من) في الواجب
والأكثر يمنعونه، ويدل على اعتبار الإيجاب في (لكن) أنَّهم إذا عطفوا بعد خبر (ما)
الحجازية أبطلوا النصب لأنَّها لا تعمل في المنتقض النفي، و (بل) كـ (لكن) في ذلك.
اهـ
وقال السفاقسي: المنع صحيح، وهو أنه لا يلزم في المعطوف من التقييد ما في المعطوف
عليه، وتقييده بـ (لكن) فيه نظر بل ولا في غيرها، والمثال أيضاً فيه نظر فتدبره.
اهـ
قوله: (وهذا بسل عليك، أي: حرام).
قال الراغب: البسل: ضم الشيء، ومنعه، ولتضمنه معنى الضم استعير لتقطيب
(3/362)
الوجه فقيل: هو باسل ومبتسل الوجه،
ولتضمنه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن: بسل، والفرق بين الحرام والبسل أنَّ
الحرام عام للممنوع منه حكماً وقهراً، والبسل هو الممنوع منه قهراً. اهـ
قوله: (و (كل) نصب على المصدر).
قال ابن المنير: لتعدي الفعل إليه بغير واسطة ولو كان مفعولاً به لقيل: بكل عدل.
اهـ
قوله: ((لا يؤخذ منها) الفعل مسند إلى (منها) لا إلى ضميره).
زاد في الكشاف: لأنه مصدرٌ، وهو ليس بمأخوذ.
قال الشيخ سعد الدين: نعم يمكن أن يراد بضميره الفدية على ما هو طريق الاستخدام
فيصح الإسناد إليه، كما في قوله تعالى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) لكنه تكلف
لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور كما في قولك: سيرٌ من البلد وأخذٌ
من المال. اهـ
وقال أبو حيان: هو مسند إلى ضمير المعدول به المفهوم من السياق. اهـ
قوله: (بخلاف قوله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) فإنه المفدى به).
قال الطَّيبي: فإن قيل: كيف صح إسناده في هذه الآية على تأويل المفدى به ولم يصحِ
في (كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا)؟ أجيب: بأنه فيها لم يقع مفعولاً مطلقاً
ابتداءً بخلافه في الأخرى. اهـ
قوله: (ومحل الكاف النصب على الحال ... ) إلى آخره.
قال صاحب الفرائد: حاصل هذا الكلام: نُرَدُّ في حال أشباهنا، كقولك: جاء زيد
راكباً، أي في حال ركوبه، والرد ليس في حال الأشباه كما أنَّ المجيء في حال
الركوب.
(3/363)
قال الطَّيبي: الحال مؤكدة كقوله تعالى
(ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) فلا يلزم ذلك.
قال: والتشبيه على أن يكون حالاً من التمثيلي، شبه حال من خلص من الشرك ثم نكص على
عقبيه بحال من ذهب به الغيلان في المهمه بعدما كان على الجادة المستقيمة، وعلى أن
يكون مصدراً يكون من المركب العقلي. اهـ
قوله: (واللام لتعليل الأمر).
تابع في ذلك صاحب الكشاف.
وقال ابن المنير: هذا منه بناءً على أن الأمر تلزمه الإرادة، وأما أهل السنة فيرون
في هذه اللام وفي قوله (إِلاّ لِيَعبُدُوَا) إن كان تعليلاً أنَّهم بإزاحة العلل
عوملوا معاملة من أريد منهم ذلك وإن لم تكن الطاعة مرادة. اهـ
قوله: (أي أمرنا بذلك لنسلم، وقيل هي بمعنى الباء، وقيل زائدة).
قال الزجاج: العرب تقول أمرتك أن تفعل وأمرتك بأن تفعل وأمرتك لتفعل، فعلى الأول
الباء محذوفة وهى للإلصاق، أي: وقع الأمر بهذا الفعل، وعلى الثالث اللام للتعليل
فقد أخبر بالعلة التي بها وقع هذا الأمر. اهـ
قوله: (أو على موقعه، كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا).
هذا بناء على أن الكلام في (لِنُسْلِمَ) زائدة.
وقال الطيبي: قوله على موقع (لِنُسْلِمَ) أي لو وقع موقعه (أن نسلم) بحذف الجار
(3/364)
لصح العطف، فعطف عليه بذلك الاعتبار
كما في (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قيل: المراد أنه كثيراً ما يقع في هذا الموقع (أن نسلم)،
فعطف عليه (وَأَنْ أَقِيمُوا) بهذا الاعتبار على طريقة (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)،
وبهذا يشعر قوله: كأنه قيل أمرنا أن نسلم وأن أقيموا، لكن لا يخفى أنَّ (أن) في
(أن نسلم) مصدرية ناصبة للمضارع وفي (وَأَنْ أَقِيمُوا) مفسرة، وقيل لا حاجة إلى
هذا الاعتبار بل المراد أنه عطف على مجموع اللام وما بعدها. اهـ
قال الإمام: كان من الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم، وإنما عدل إلى قوله
(وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) (وَأَنْ أَقِيمُوا) ليؤذن بأن الكافر ما دام كافراً كان
كالغائب الأجنبي فخوطب بما يخاطب به الغُيَّب، وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين
صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون.
قوله: (أي: قَوْلُهُ الْحَقُّ يوم يقول).
قال الشيخ سعد الدين: على أنَّ المراد به المعنى المصدري، يعني قضاؤه الحكمة
والصواب ليصح الإخبار عنه بظرف الزمان أعني (وَيوْمَ يَقُولُ)، وتقدم الخبر يكون
لكونه الشائع في الاستعمال مثل (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، وإن كان الحصر غير
مناسب هنا. اهـ
قوله: (أو بمحذوف دل عليه (بالحق)).
زاد في الكشاف: كأنه قيل وحين يكون ويقدر ويقوم بالحق. اهـ
قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف. اهـ
قوله: (أو فاعل يكون).
قال أبو البقاء: المعنى: فيوجد قوله الحق، فعلى هذا (قَوْلُهُ) بمعنى مقوله، أي:
(3/365)
فيوجد ما قال له كن، فخرج. اهـ
قوله: (تارح).
قال ابن الأثير: هو بالتاء المثناة من فوق وفتح الراء وبالحاء المهملة. اهـ
قوله: (ومثل هذا التبصير نبصره).
قال أبو حيان: مقتضاه أنه من رأى بمعنى عرف، ويحتاج كون رأى بمعنى عرف يتعدى
بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل عن العرب، والذي نقل النحويون أنَّ رأى بمعنى عرف
يتعدي لمفعول، وبمعنى علم إلى مفعولين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قد تقرر أنَّ اسم الإشارة (في مثل هذا المقام) إشارة إلى
هذه الإرادة لا لشيء آخر يشبه هذه، وأورد بدل الإرادة التعريف والتبصير تصحيحاً
لتذكير اسم الإشارة، وتنبيهاً على أنه من رؤية البصر، لكن استعيرت للمعرفة ونظر
البصيرة لأنَّ الملكوت بمعنى الربوبية والإلهية ليس مما يبصر حساً. اهـ
قوله: (فأراد أن ينبههم على ضلالهم ... ) إلى آخره.
هذا القول أظهر لأنَّ قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يدل على أنه كان
عارفاً بأن له ربًّا يستحق العبادة ومنه الهداية وأن قومه على الضلال، ويشعر بأن
محاجته كانت مع منكِرٍ مبالغ في الإنكار حيث احتيج إلى القسم فإن اللام في
(لَئِنْ) موطئة وفي (لَأَكُونَنَّ) جواب قسم، وقوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ) صريح في أنَّ الكلام مع القوم، وحمله على حصول اليقين من
الدليل خلاف الظاهر. قاله الشيخ سعد الدين.
وقال الطَّيبي: أما حسن التأليف فإن قوله لأبيه وإنكاره عليه بقوله (أَتَتَّخِذُ
أَصْنَامًا
(3/366)
آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) إنما ينتظم انتظاماً مع قوله (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ) إذا كان الاستدلال لأجل القوم، لأن صرف الخطاب منه إلى القوم يستدعي
أن لا يكون قد أشرك بالله تعالى طرفة عين. اهـ
وقال الشيخ تقى الدين السبكى: تكلم الناس في تفسير هذه الآية كثيراً، وفهمت منها
أن ذلك تعليم من الله تعالى لإبراهيم الحجة على قومه، فأراه ملكوت السماوات
والأرض، وعلمه كيف يحاج قومه ويقول لهم إذا حاجهم في مقام بعد مقام على سبيل
التنزل إلى أن يقطعهم بالحجة، ولا يحتاج مع هذا إلى أن نقول ألف الاستفهام محذوفة،
ويؤخذ منه أنَّ القول على سبيل التنزل ليس اعترافاً وتسليماً مطلقاً.
قال: وهذا الذي فهمته أرجو أنه أقرب من كل ما قيل فيها. اهـ
قوله: (ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر).
قال أبو حيان: يمكن أن يقال إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في
الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء
عندهم، فأشار في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم
صلى الله عليه وسلم، وحين أخبر الله تعالى عنها بقوله (بَازِغَة) و (أَفَلَت) أنث
على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. اهـ
قوله: (روي أنَّ الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة ... ).
الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود.
قوله: (ولبس الإيمان به ... ) إلى آخره.
قوله جواب عن قول الكشاف: أبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس.
قوله: (وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين).
(3/367)
قال الشيخ سعد الدين: فـ (مَنْ
نَشَاءُ) مفعول (نَرْفَعُ) و (دَرَجَاتٍ) نصب على المصدر أو الظرف أو التمييز إن
جوزنا تقديمه. اهـ
قوله: (الضمير لإبراهيم إذ الكلام فيه).
قال الشيخ سعد الدين: هو المقصود بالذكر دلالة على أنه لما قرر حجة التوحيد وذب عنها
أكرمه الله تعالى في الدارين برفع الدرجات وجعل مشاهير الأنبياء من ذريته كرامة
باقية إلى يوم القيامة مع كون بعض آبائه أنبياء كنوح وإدريس وشيث. اهـ
قوله: (وقيل لنوح لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم).
قال الطَّيبي: يجاب بأن صاحب جامع الأصول ذكر أنَّ يونس من ذرية إبراهيم، وأنه كان
من الأسباط في زمن شعياء، ولما كان لوط ابن أخيه وآمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل
من الذرية على سبيل التغليب. اهـ
قوله: (رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكاً ... شَدِيداً بِأَعْبَاءِ
الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ).
هو لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد من قصيدة يمدح بها الوليد بن يزيد بن عبد
الملك بن مروان، وقبل هذا البيت:
هممت بقول صادق أن أقوله ... وإني على رغم العداة لقائله
أضاء سراج الملك فوق جبينه ... غداة تناجي بالنحاة قوابله
وأول القصيدة:
ألا تسأل الربع الذي ليس ناطقاً ... وإني على أن لا يبين لسائله
كم العام منه أو متى عهد أهله ... وهل يرجعن لهو الشباب وعاطله
الأعباء: جمع عبىء بكسر المهملة وسكون الموحدة ثم همزة النقل، والكاهل: ما بين
الكتفين، وهو مرفوع بـ (شديد)، وفي البيت شواهد: أحدها: زيادة الألف واللام في
العَلَم وهو اليزيد، وقال ابن جرير: نكتة إدخالها في اليزيد الإتباع للوليد،
الثاني: دخول (أل) للمح الصفة في العلم المنقول من الوصف وهو الوليد، الثالث: صرف
ما لا ينصرف إذا دخلته (أل)، ولو كانت زائدة كما في اليزيد، الرابع: نصب (رأيت)
بمعنى (علمت) مفعولين، وثانيهما مباركاً، فإن كانت بصرية فهو
(3/368)
حال، الخامس: تعدد الخبر لأن جزئ باب
علم أصلهما المبتدأ والخبر وهو هنا في شديد، السادس: إعمال فعيل لاعتماده على ذي
خبر، السابع: الفصل بين فعيل ومعموله بالجار والمجرور، الثامن: الاستعارة بتنزيل
المعقول منزلة المحسوس، ويصح أن يكون استعارة بالكناية، شبه أمور الخلافة الشاقة
بالجسم الذي يثقل حمله، وإضافتها إلى الخلافة ترشيح، وذكر الكاهل تخييل.
قوله: (فاختص طريقهم بالاقتداء).
قال الشيخ سعد الدين: أي: اجعله منفرداً بذلك بمعنى: اجعل الاقتداء مقصوراً عليه،
فإن قيل: الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع، فلا
يجوز - سيما للنبي صلى الله عليه وسلم - أن يقلد غيره، فما معنى أمره بالاقتداء
بهداهم؟ قلنا: معناه الأخذ به لكن لا من حيث أنه طريقهم بل من حيث إنه طريق العقل
والشرع، ففيه تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقتهم هي الحق الموافق لدليل العقل
والسمع. اهـ
قوله: (على أنها كناية عن المصدر).
قال الفارسي: أي: اقتد اقتداء.
قوله: (وما عرفوه حق معرفته ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن قوله تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يحتمل أن
يكون صفة لطف وصفة قهر. اهـ
قوله: (وإنما قرأ بالياء ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: فيكون على هذه القراءة التفاتاً حيث جعلوا غيباً لارتكابهم
شناعة ذلك الفعل. اهـ
قوله: (روي أن مالك بن الصيف ... ).
الحديث أخرجه ابن جرير عن سعيد ابن جبير.
قوله: ((ولتنذر أم القرى) عطف على ما دل عليه (مبارك)، أي: للبركات ولتنذر).
قال الشيخ سعد الدين: لا أرى حاجة إلى هذا التكلف لجواز أن يكون عطفاً على
(3/369)
صريح الوصف، أي: كتاب مبارك وكائن
للإنذار، ومثل هذا أعني عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير. اهـ
قوله: (كعبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب ... ).
الحديث أخرجه ابن جرير عن السدي بدون قصة (فَتَبَارَكَ اللهُ ... ) الآية.
قال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في سيرته: تشفع ابن أبي سرح بعثمان فقبله عليه
الصلاة والسلام بعد تلوم، وحسن بعد ذلك إسلامه حتى لم ينقم عليه في شيء، ومات
ساجداً. اهـ
قوله: (كالمتقاضي الملظ)
أي: الملازم لغريمه لا يفارقه.
قال ابن المنير: جعله من مجاز التشبيه، والأولى حمله على الحقيقة. اهـ
قلت: وبها ورد الأثر.
قوله: (والمعنى: وقع التقطع بينكم).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الفعل المبني للفاعل اللازم أسند إلى ضمير مصدره،
بمعنى: وقع التقطع، كما أن المبني للمفعول يسند إليه مثل: جمع بينكم، أي: جمع
الجمع؛ بمعنى: أوقع الجمع، واعترض بأنه واقع في الكلام مثل (وَحِيل بَينهم) بخلاف
هذا، فالأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس، أي: تقطع الأمر بينكم،
كما تحمل عليه قراءة من قرأ (تقطع ما بينكم) على أن (ما) موصولة أو موصوفة، وأما
على قراءة رفع (بينُكم) فإن جعل بمعنى الوصل
(3/370)
ولا يكون من الظروف فظاهر، وكذا إن جعل
ظرفاً غير لازم الظرفية. اهـ
وقال أبو حيان: ما ذكر الزمخشري من أنه أسند إلى ضمير المصدر ليس بجيد، لأن شرط
الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز: قام ولا جلس،
وأنتَ تريد قام هو أي القيام. اهـ
وقال السفاقسي: هذا لا يرد، لأن الزمخشري تجوز بـ (تَقَطَّعَ) وجعله عبارة عن وقع،
والتغاير حاصل بهذا الاعتبار، لأن وقع أعم من التقطع، ولو سلم فالتقطع معرف بلام
الجنس و (تَقَطَّعَ) منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه ثَمَّ؟. اهـ
قال أبو حيان: وقيل يقدر ضمير الاتصال الدال عليه قوله (شُرَكَاءُ)، أي: لقد تقطع
الاتصال بينكم.
قال: والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
(تَقَطَّعَ) و (وَضَلَّ) فأعمل الثاني وهو (وَضَلَّ)، وأضمر في (تَقَطَّعَ) ضمير
(ما) فالمعنى: لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضل عنكم.
قال: وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد. اهـ
قوله: (ذكره بلفظ الاسم حملاً على (فالق الحب) فإن قوله (يخرج الحي) واقع موقع
البيان له).
قال ابن المنير: تكرر في القرآن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) فيبعد قطعها عن نظائرها، والوجه أنََّ قياس الآية أن
تَكون الصفات باسم الفاعل كقوله (فَالِقُ الْحَبِّ) (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ)
(وَجَاعِلُ اللَّيْلِ) (1) وإنما عدل إلى صيغة المضارع في (مُخْرِجُ) للدلالة على
تصوير ذلك وتمثيله واستحضاره، وإخراج الحيِ من الميت أولى في الوجود وأعظم في
القدرة فإن العناية به أتم، ولذلك جاء مقدماً في مواضعه، وحسن عطف الاسم على
المضارع لأنه في معناه. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: لم يجعله معطوفاً على (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ) لأن
__________
(1) قرأ الكوفيون (وجَعَلَ الليلَ) وقرأ الباقون (جَاعلُ الليلِ). (النشر. 2/
196).
(3/371)
عطف الاسم على الاسم أولى، ولكن مجيء
قوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ) بالفعل فيهما يدل على خلاف ذلك. اهـ
وقالَ الطَّيبي: فإن قلت لم لم يعطف على الفعل كما ذهب إليه الإمام ويكون الغرض
إرادة الاستمرار فى الأزمنة المختلفة كما سبق في قوله تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) ليكون إخراج الحي من الميت أولى في القصد من عكسه، ولأن المناسبة في
الصنعة البديعية تقتضي هذا لأنه من باب العكس والتبديل كقوله (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ولورود سائر ما يشبه الآية
على المنوال؟ قلت: يمنعه ورود الجملة الثانية مفصولة عن الأولى على سبيل البيان،
ولو عطف الثالثة على الثانية كانت بيانية مثلها، لكنها غير صالحة له لأن (فَالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوَى) ليس متضمناً لإخراج الميت من الحي، فإن قلت: فقدر مبيناً
مناسباً لها على تقدير (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)؟ قلت: يفوت إذن غرض التعميم
الذي تعطيه الآية من إرادة تخرج الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى،
فإن هذا المعنى إنما يحصل إذا قدر (وَمخرِج) معطوفاً على (فَالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوَى) ثم يسري معنى العموم إلى قرينتها: فيصح أن يقال مخرج الحي من الميت
أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من
الحيوان والنامي، ولو قدر معطوفاً على (تُخرِج) اختص بالحب والنوى. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الكلام (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، وحسن التقابل كما في (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وجاز عطف اسم الفاعل على
الفعل المضارع لأنه في معناه، إذ سوق الآية على كون الصفات بلفظ اسم الفاعل وإنما
عدل في إخراج الحي من
(3/372)
الميت إلى المضارع استحضاراً له لكونه
أدل في الوجود وأعظم في القدرة، ولكن لا يخفى أن قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ) في موقع البيان لـ (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ولذا ترك العطف وَ
(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) لا يصلح بياناً فلا يحسن عطفه عليه فلذا
جعله عطفاً على (فَالِقُ الْحَبِّ). اهـ
قوله: (أو به على أنَّ المراد منه جعل مستمر فى الأزمنة المختلفة ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان هذا ليس بصحيح لأنَّ اسم الفاعل إِذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما
هو للاستمرار فلا يجوز إعماله ولا لمجروره محل، وقد نصوا على ذلك. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: قد نص -يعني الزمخشري- في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على
أنه إذا حمل على الزمن المستمر كان بمنزلته إذا حمل على الماضي وكانت إضافته محضة.
اهـ
وكذا قال الحلبي.
وقال صاحب التقريب: ما قاله هنا بخلاف ما ذكره في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
وقال الشيخ سعد الدين: بين كلاميه تدافع.
قال: وذكر في وجه التوفيق أنَّ الاستمرار لمّا تناول الماضي والحال والاستقبال،
فبالنظر إلى حال الماضي تجعل الإضافة حقيقية كما في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)،
وإلى الآخَرَين غير حقيقية كما في (وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا) لئلا يلزم مخالفة
الظاهر بقطع (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على الوصفية إلى البدلية، ويجعل (سَكنًا)
منصوباً بفعل محذوف فليتأمل فإن هذا هو المشار إليه. اهـ
وكذا قال الطَّيبي: إذا كان بمعنى الاستمرار يكون معناه موجوداً في جميع الأزمنة
من الماضي والمستقبل والحال كالعالم والقادر فيكون في إضافته اعتباران: أحدهما:
أنها محضة باعتبار معنى المضي فيه، وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة، والآخر: غير
محضة باعتبار معنى الاستقبال، وبهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، ونحوه قوله
تعالى (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فإن (أَيًّا) من جهة
كونها متضمنة لمعنى
(3/373)
الشرط عامل في (تَدْعُوا)، ومن جهة
كونها اسماً متعلق بـ (تَدْعُوا) معمول له. اهـ
ثم قال الشيخ سعد الدين: وما يقال إنه لما بعد بمعنى المضي عن شبه الفعل فبمعنى
الاستمرار بَعُدَ ليس بشيء، لأنَّ شبهه الخاص إنما هو بالمضارع وباعتباره يعمل،
ولهذا يشترط معنى الحال أو الاستقبال الذي هو حقيقة المضارع عند الجمهور، والمضارع
قد يجيء بمعنى الاستمرار كثيراً، فاسم الفاعل بالاستمرار لا يبعد عن شبه الفعل
بخلاف معنى المضي، وأما أنَّ اللام الموصولة تدخل على الذي بمعنى المضى دون الذي
بمعنى الاستمرار فلأن المعتبر في الكون صلة هو محض الحدوث الذي هو أصل الفعل حتى
يقولون إنه فعل في صورة الاسم، كما أنَّ اللام اسم في صورة الحرف محافظةً على كون
ما دخلته اللام التي في صورة حرف التعريف اسماً صورةً، والاستمرار يبعد عن معنى
الحدوث للفعل فيكون محض مفرد فلا يقع صلة، بخلاف المضي. اهـ
قوله: (ذكر مع ذكر النجوم (يعلمون) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الفقه هو الفهم والحذاقة وتدقيق النظر فكان أليق
بالاستدلال بالأنفس لما فيه من الدقة والخفاء، بخلاف الاستدلال بالآفاق ففيه
الظهور والجلاء. اهـ
وقال ابن المنيرِ: لا يتحقق الفرق، وإنما أريد أن يكون لكل آية فاصلة مستقلة
بالمقصود بعداً عن التكرار وتفنناً بالبلاغة. اهـ
قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ) عطف على (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)).
قال الطَّيبي: الأظهر أن يكون عطفاً على (حَبًّا) لأن قوله (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)
مفصل يشتمل على كل صنف من أصناف النامي، والنامي: الحب والنوَى وشبههما. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الأقرب لفظاً ومعنى أن يجعل عطفاً على (خَضِرًا)، و
(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) على (حَبًّا). اهـ
(3/374)
قوله: (ولا يجوز عطفه على (قِنْوَانٌ)
إذ العنب لا يخرج من النخل).
قال الشيخ سعد الدين: يجاب بأنها لما كانت معروشة تحت أشجار النخل جاز وصفها
بكونها مخرجة من النخيل مجازاً لكونها مدركة من خلالها كما يدرك القنوان. اهـ
وذكر الطيبي نحوه.
قوله: (حال من الرمان أو من الجميع).
وقال أبو حيان: لا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن أجازه بعضهم، لأنه لو كان حالاً
منهما لكان التركيب: مشتبهين وغير متشابهين. اهـ
قوله: (كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن التقييد بقوله (قِنْوَانٌ) للإشعار بأنه حينئذ
ضعيف غير منتفع به، فيقابل حال الينع، ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. اهـ
قوله: (أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي
الثنوية).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: أليس هذا قول المعتزلة بعينه؟ قلنا: لا فإن المراد
بكل ضار ما يعم الأعيان الضارة كالحيات والأفاعي، والمعتزلة لا يقولون بذلك. اهـ
قوله: (والجن بدل من شركاء).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز، لأنه لو أحل محله وقيل: وجعلوا لله الجن لم ينتظم. اهـ
وتعقبه الحلبي والسفاقسي بأن ذلك لا يلزم في كل بدل، كما رد به على الزمخشري في
قوله تعالى (مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ).
ثم قال أبو حيان: وأحسن إعراب فيه ما قاله أستاذنا أبو جعفر بن الزبير أنه نصب
بإضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا (لله شركاء)؟ فقيل:
(3/375)
الجن، أي: جعلوا الجن، ويؤيده قراءة
(الجنُّ) بالرفع على تقدير: هم الجن، جواباً لمن قال: من الذي جعلوه. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قيل: الأولى أن ينتصب بمحذوف جواباً عن سؤال، وذلك لأنه لو
كان بدلاً لكان التقدير: وجعلوا لله الجن، وليس له كبير معنى، اللهم إلا أن يقال:
إن المبدل ليس في حكم التنحية بالكلية. اهـ
قوله: (وبالجر على الإضافة للتبيين).
قال أبو حيان: لا يتضح معنى هذه القراءة إذ التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله. اهـ
وقال الحلبي: معناها واضح بما فسره الزمخشري في قوله: والمعنى أشركوهم في عبادتهم
لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله، ولذلك سماها إضافة تبيين أي: بين الشركاء، كأنه قيل
الشركاء المطيعين للجن. اهـ
قوله: (أو إلى الظرف كقولهم: ثبت الغدر بمعنى عدم النظير فيهما).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الإضافة حقيقية بمعنى (في) على ما يراه البعض في ثبت
الغدر، ثم بين وجه الظرفية على وجه لا يخل بالتنزه عن المكان والجهة وحاصله توفية
معنى البداعة والتنزه وانتفاء المثل والنظير وهو لا يوجب كونه نفسه في السماوات.
اهـ
قوله: (وفى الآية استدلال على نفي الولد من وجوه ... )
ذكرها ثلاثة.
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أنَّ العلم بكل شيء وجه مستقل، فتكون الوجوه
(3/376)
أربعة، إلا أنه أدرجه وجعله مع
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وجهاً واحداً لأن المعنى إنما يتحقق بالإيجاد الاختياري
وذلك بالعلم، ولأنه ربما يناقش في لزوم كون الولد كالوالد في العلم بكل شيء. اهـ
وقال الإمام بعد ما طول في تقرير الوجوه: ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن
يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه أو يدانيه في القوة والكمال لعجزوا عنه. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة).
لم يجز ذلك في الكل لأنَّ الله عَلَمٌ لا يجوز أن يقع صفةً لاسم الإشارة.
نبه عليه الشيخ سعد الدين.
قوله: (وهي للنفس كالبصر للبدن).
قال الطَّيبي: فيه بيان لربط هذه الآية بما قبلها، كما نفى إدراك البصر عن
المكلفين أثبت لهم البصيرة ومنَّ عليهم بها. اهـ
قوله: (فلنفسه أبصر).
قال أبو حيان: الأولى تقدير المصدر أي: فالإبصار لنفسه والعمى عليها وذلك لوجهين:
أحدهما: أنَّ المحذوف يكون مفرداً لا جملة، ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة،
وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمجرور فضلة، والثاني: وهو أقوى أنه لو كان
المقدر فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت (من) شرطاً أم موصولة لامتناعها في الماضي.
اهـ
وقال الحلبي: الذي قدره المصنف سبقه إليه الكلبي، وقوله إن الفاء لا تدخل فيما ذكر
قد ينازع فيه. اهـ
وقال السفاقسي: أما الترجيحان الأولان فمعارضان بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل
ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وبأن تقديره فيه تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص،
وأما الثالث فلا يلزم لأنه لم يقدر الفعل موالياً لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل
الماضي مقدماً ولا بد فيه من الفاء، لو قلت: من أكرم زيداً فلنفسه أكرمه، لم يكن
بد من
(3/377)
الفاء. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: قدر الفعل متأخراً لكون المعنى على الاختصاص، واللفظ على
الفاء، تقول: من جاء فللإكرام جاء، ولا تقول: فجاء للإكرام إلا بتأويل. اهـ
قوله: ((فعليها) وباله).
قلت: كذا قدره المصنف هنا خلاف ما قدره الزمخشري حيث قال: فعلى نفسه عمى، ولا أدري
أغاير بين الموضعين فلا هو قدر الفعل فيهما كالزمخشري ولا المبتدأ فيهما كأبي
حيان، وكأنه أشار إلى جواز الأمرين.
قوله: (والله هو الحفيظ).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنَّ تقديم الضمير وإيلاءه حرف النفي للحصر وإن كان
الخبر صفة لا فعلاً، أي: الحفيظ غيري وهو الله لا أنا. اهـ
قوله: (وهو كلام ورد على لسان الرسول).
قال الشيخ سعد الدين: كأنه قيل: قل ذلك. اهـ
قوله: ((ودُرِست) على البناء للمفعول بمعنى: قرئت، أو عُفِيَتْ).
قال أبو حيان: أما قُرِّئت فظاهر، لأن دَرَّس بمعنى: كرر القراءة متعدٍ، وأما
بمعنى بلي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وجدناه فيمن وقفنا على شعره من العرب إلا
لازماً. اهـ
وقال السفاقسي: بل حفظ أيضاً متعدياً، قال الزبيدي: درس الشيء يدرس درساً: عفا،
ودرسته الريح. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: جاء درس لازماً ومتعدياً بالمعنيين. اهـ
قوله: ((لا إله إلا هو) اعتراض أكد به إيجاب الاتباع).
قال الطَّيبي: لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والتبري
والإعراض عما سواه، ولأنَّ الموحى ليس إلا التوحيد قال تعالى (إِنَّمَا يُوحَى
إِلَيَّ
(3/378)
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
اهـ
قوله: (أو حال مؤكدة).
قال صاحب التقريب: فيه نظر، إذ شرط المؤكدة تقدم جملة اسمية. اهـ
وقال الطَّيبي: هذا لحذف العامل كما تقدم لي مراراً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: على تجويزها بعد الجملة الفعلية كما سبق في (قَائِمًا
بِالْقِسْطِ). اهـ
قوله: (وما يدريكم ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: إذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنني
إذا أكرمته يكافئني، فإن قيل: لا تكرم زيداً فإنه لا يكافئك، قلت في إنكاره: وما
يدريك أنه لا يكافئني، تريد وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى حسن ظن المؤمنين
بهؤلاء المعاندين أن يقال لهم: وما يدريكم أنَّها إذا جاءت يؤمنون، وإثبات (لا)
يعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفى، فلهذا حملها بعض
العلماء على زيادة (لا)، وبعضهم على معنى (لعل)، والزمخشري أبقاها على وجهها بطريق
موضحة بمثالنا المذكور، فإذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك فلك فيه حالتان: حالة تنكر
عليه ادعاءه العلم لما تعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بأنه لا يكافئ،
وإنكار الأول بحذف (لا)، وإنكار الثاني يجوز معه ثبوت (لا) بمعنى: ومن أين تعلم
أنت ما علمته أنا من أنه لا يكافئ، فالآية أقيم فيها عذر المؤمنين في عدم علمهم بالغيب
الذي علمه الله، وهو عدم إيمان هؤلاء، واستقام دخول (لا). اهـ
قوله: (أنكر السبب مبالغة في نفى المسبب).
(3/379)
قال الطَّيبي: يعني أنكر الدراية بهذا
العلم وأريد إنكار إظهار الحرص على إيمانهم، أي: أنتم لا تدرون هذه المسألة فلذلك
تطمعون في إيمانهم. اهـ
قوله: ((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) عطف على (لا يؤمنون)).
قال أبو حيان: الظاهر أنَّها استئناف أخبار. اهـ
وقال الحلبي: الظاهر ما قاله المصنف، ويساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس
ومجاهد وابن أبي زيد. اهـ
قوله: (أو لام الأمر، وضعفه أظهر).
حيث لم يحذف آخر الفعل المعتل.
قوله: (أو خطاب الرسول كخطاب الأمة).
قال الطَّيبي: يريدون أن قوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من باب تلوين
الخطاب، فيجوز أن يراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة مزيداً للثبات على
اليقين والتجنب عن الامتراء تهييجاً وإلهاباً، ولأمته عامة بالطريق الأولى وأن
يراد به جميع الناس ابتداء، وأنَّ يراد جميع الناس لكن على سبيل التبعية تعظيماً
للمخاطب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئيس أمته وعليه تدور رحى الأمة كقوله
تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
اهـ
قوله: (ونصبهما يحتمل التمييز والحال).
قال الطَّيبي: إما من (رَبك) أو من الكلمة على الإسناد المجازي. اهـ
قوله: (لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق).
أي أخباراً.
(أو أعدل)
أي: أمراً ونهياً ووعداً ووعيداً.
قال الشيخ سعد الدين: قال: والباء في قوله (بما) ليست في موقعها، لأن معنى
(3/380)
بدَّله بخوفه أمناً: أزال خوفه إلى
الأمن. اهـ
قوله: ((إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: ظاهر تقديره أنَّ (ما) موصولة فلا يستقيم سوى أن يجعل
الاستثناء منقطعاً، ولك أن تجعله استثناء من ضمير (حَرَّمَ)، و (ما) مصدرية في
معنى المدة، أي: الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها. اهـ
قوله: (وقيل: الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخذان).
قال الطيبي: فعلى هذا قوله (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) معطوف على
قوله (فَكُلُوا) وداخل في حكم التسبب على إنكار اتباع المضلين في تحليل ما حرمه
الله وتحريم ما أحله من أكل الميتة ومن الزنا، لكن الذي يقتضيه النظم أن تكون
معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهو قوله (وَلا تَأْكُلُوا) (فَكلُوا) ومعناه ما
قال أولاً ما نعلن وما نسر، أو بالجوارح وما بالقلب توكيداً للإنكار في قوله
(وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). اهـ
قوله: (وقال مالك والشافعى بخلافه)
قال الشيخ سعد الدين: ذكر صاحب الانتصاف -وهو مالكي- أنَّ مالكاً يوافق أبا حنيفة.
اهـ
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه).
أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلاً.
قوله: (وأوَّله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه).
قال الشيخ سعد الدين: التأويل بذلك إنما يتم على مذهب الشافعي حيث لم يفرق بين
العمد والنسيان، وأما على مذهب أبي حنيفة فالناسي ليس بتارك، لأن تسمية الله تعالى
في قلب كل مؤمن على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن متروك التسمية ناسياً
فقال: كلوه فإن تسمية الله في قلب كل مؤمن.
ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة،
(3/381)
وإما لأنه لما ترك التسمية عمداً فكأنه
نفى ما في قلبه، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص
العلة وفاقاً، وبأننا لا نسلم أن التارك عمداً بمنزلة الناسي لما في قلبه، بل ربما
يكون ذلك لوثوقه بذلك وعدم افتقاره إلى الذكر، فذهبوا إلى أنَّ الناسي خارج بقوله
(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إذ الضمير عائد إلى عدم ذكر التسمية لكونه أقرب المذكورات،
ومعلوم أن الترك نسياناً ليس بفسق لعدم التكليف والمؤاخذة، فتعين العمد، وقد عرفت
ما فيه، وللشافعية وجوه: الأول: أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمناً
فلا يتحقق منه عدم الذكر، فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أُهلَّ به لغير الله، الثاني:
أن قوله تعالى (لَفِسْقٌ) على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر
اسم الله عليه عمداً كان أو سهواً
إذ لا فسق بفعل ما هو في محل الاجتهاد، الثالث: أن قوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) في موقع
الحال إذ لا يحسن عطف الأخبار على الإنشاء وقد بين الفسق بقوله (أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللهِ بِهِ) فيكون النهي عن الأكل مقيداً بكون ما لم يذكر اسم الله عليه وقد أهل
به لغير الله، فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل وإما
بالعمومات الواردة في حل الأطعمة، واعترض بأن التأكيد بـ (إن) واللام ينفي كون
الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتَّة والرد على المنكر
تحقيقاً أو تقديراً على ما بين في علم المعاني، والحال الواقع في الأمر والنهي
مبناه على التقدير، كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقاً، فلا يحسن وإنه لفسق بل
وهو فسق، والجواب: أنه لما كان المراد بالفسق ههنا الإهلال به لغير الله كان
التأكيد مناسباً، كأنه قيل: لا يأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم
به متحقق والمشركون ينكرون. اهـ
قوله: (والضمير لـ (ما)).
قال الشيخ سعد الدين: أي إلى ما لم يذكر إما بحذف المضاف، أي: إن أكله، وإما بجعل
ما لم يذكر نفس الفسق على طريقة: رجل عدل، ولم يجعل الضمير
للمصدر المأخوذ من مضمون (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي: إنَّ تَرْك اسم
الله عليه فسق، لأن كون ذلك فسقاً سيما على وجه التحقيق والتأكيد مما لم يذهب إليه
أحد، ولا يلائم قوله تعالى (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) مع أن
القرآن يفسر بعضه بعضاً سيما في حكم واحد، ولأنَّ ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول
الميتة مع القطع بأن
(3/382)
ترك التسمية عليها ليس بفسق. اهـ
قوله: (فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك).
قال الشيخ سعد الدين: أي صار مشركاً بالله تعالى جاعلاً له شريكاً في استحقاق
الطاعة وشرعية الدين والملة ونحو ذلك مما هو من خواص الإلهية للاتفاق على أنه لا
حاكم في أمر الدين سواه. اهـ
قوله: (مثل به من هداه (الله سبحانه وتعالى) وأنقذه من الضلال ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: في الآية استعارتان تمثيليتان، وتشبيه تمثيلي، أما الاستعارة الأولى
فشأنها ما قال: مثل به من هداه ... إلى آخره، والثانية: مثل من بقي على الضلالة
بالخابط في الظلمات لا ينفك منها، والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه
به. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا) و (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُمَاتِ) من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحاً، ولا دلالة
بحيث ينافي الاستعارة وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية: أن يكون الأسد
كالثعلب أي الشجاع كالمحتال. اهـ
قوله: (أي كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها ... ).
قال الطَّيبي: مشعر بأن قوله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ... ) الآية متصلة بقوله
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، لأن الضمير المرفوع للمسلمين
والمنصوب للمشركين وهم الذين قيل فيهم (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
يُضِلُّوكَ). اهـ
قوله: (ومفعولاه (أكابر مجرميها) على تقديم المفعول الثاني، أو فى كل قرية أكابر،
ومجرميها بدل).
قال أبو حيان: هذان التخريجان خطأ وذهول عن قاعدة نحوية، وهو أن أفعل التفضيل يلزم
إفراده إذ كان بـ (من) ظاهرة أو مقدرة أو مضافاً إلى نكرة،
(3/383)
و (أَكَابِرَ) هنا جمع وهو غير مضاف
على هذين التخريجين.
قال: وقد نبه لذلك الكرماني فقال: أضاف أَكَابِرَ إلى مجرميها لأنَّ أفعل لا يجمع
إلا مع (أل) والإضافة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الذي يقتضيه النظر الصائب والتأمل الصادق في عبارة المصنف
أن (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) لغو، و (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) مفعول أول، و
(لِيَمْكُرُوا) هو الثاني. اهـ
قوله: (كفرسي رهان).
أي سابقين إلى غاية.
قوله: (استئناف للرد عليهم).
قال الطيبي: أي جواب عن سؤال مورده قوله (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يعني لما قالوا ذلك سئل: فما كان جواب الباري سبحانه لهم؟
قيل: أجيبوا بأن النبوة فضل من الله يختص بها من يشاء. اهـ
قوله: (وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه).
قال الشيخ سعد الدين: يشعر بأن تعلق (حَيث) بـ (أعلم) تعلق المفعول به، وفيه إعمال
أفعل التفضيل في المفعول به، وإخراج (حيث) عن الظرفية. اهـ
قوله: (وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حين سئل عنه فقل: نور يقذفه الله).
الحديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير من حديث أبي جعفر مرسلاً، وأخرجه
الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان موصولاً من حديث ابن
(3/384)
مسعود نحوه.
قوله: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ... ) إلى آخره.
قال الطيبي: يريد أنَّ الولي إذا كان بمعنى المحب والناصر فالوجه أن تكون للباء
سببية أي يحبهم وينصرهم بسبب أعمالهم، وإذا كان بمعنى متولي الأمور فالباء
للملابسة، والمعنى: يتولاهم ملتبساً بجزائهم، أي: يُعد لهم الثواب. اهـ
قوله: (ولكل من المكلفين).
قال الطَّيبي: أي المطيعين والعاصين اهـ.
قوله: (درجات: مراتب).
قال الشيخ سعد الدين: على ما يعم الدرجات والدركات تغليباً أو نظراً إلى أصل
الوضع. اهـ
قوله: ((وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) ... ) إلى آخره).
قال الإمام: اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي وذكر
أنَّ لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة تبين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين
بالعقاب ليس أنه يحتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص لمعصية المذنبين فإنه تعالى غني
لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة شاملة، ولا سبيل إلى تربية
المكلفين وإيصالهم إلى درجات الأبرار المقربين إلا بعد الترغيب في الطاعات
والترهيب عن المحظورات. اهـ
قال الطَّيبي: وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: يترحم عليهم بالتكليف ... إلى
آخره. اهـ
قوله: (وفيه تنبيه على أن ما سبق ... إلى آخره).
(3/385)
قال الطَّيبي: يعني أنه تعالى إنما ذكر
الرحمة وقرن به الغنى لأمرين: أحدهما: ليشير إلى أنَّ ذلك الإرسال المذكور لم يكن
إلا لمحض رحمة العباد لأنه غني مطلقاً، وثانيهما: أن يكون تخلصاً إلى خطاب العصاة
من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأجل ذلك
الاقتران، يعني أنه تعالى مع كونه ذا الرحمة بإرسال المرسل كذلك غني عن العالمين
وعنكم خاصة أيها العصاة أن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، ولذلك عقبه بقوله (إِنَّ مَا
تُوعَدُونَ لَآتٍ). اهـ
قوله: (على غاية تمكنكم).
قال الشيخ سعد الدين: بأن يكون المكانة على حقيقة معناها المصدري، أو على ناحيتكم
وجهتكم بأن يكون مجازاً عن التي بمعنى المكان. اهـ
قوله: (كالمأمور به).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن الأمر للتهديد من قبيل الاستعارة تشبيهاً لذلك
المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لابد أن يكون. اهـ
قوله: (العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى لها هذه الدار)
هذه عبارة الكشاف.
قال الطيبي: وتفسيره ما ذكره في القصص أنَّ الله عز وجل وضع الدنيا مجازاً إلى
الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليتلقوا خاتمة الخير، ومن عمل
خلاف ما وضعه الله فقد حرف، فإذاً عاقبتها الأصلية هي الخير، وأما عاقبة الشر فلا
اعتداد بها لأنَّها من نتائج تحريف الفجار.
قال الطَّيبي: وهذا بناءً على مذهبه، والحق أن عبارة الدار كناية عن خاتمة الخير
فكأنه قيل: من تكون له عاقبة الخير سواءً كان الظفر في الدنيا أو الجنة في العقبى.
اهـ
قوله: (وفيه مع الإنذار إنصاف فى المقال).
قال الشيخ سعد الدين: حيث ذكر العملين بطريق واحد حيث قال (اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) أي: على مكانتي، وحسن الأدب حيث لم يخاشن في
(3/386)
الكلام ولم يصرح العذاب، ومع هذا
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيد شديد، ويدل على أن المنذر واثق بأن العاقبة الحسنة له
لا لهم، يعني: إني عالم بذلك اليوم وأنتم غداً ستعلمونه. اهـ
قوله: (ومثل ذلك التزيين).
قال الطَّيبي: يعني المشار إليه بقوله: ذلك ما يعلم من قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ ... ) الآية. اهـ
قوله: (وقرأ ابن عامر (زُيِّنَ) على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد،
وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله، وهو ضعيف في العربية معدود
من ضرورات الشعر).
تبع في ذلك الزمخشري، وقد أطبق الناس على الإنكار عليه في ذلك.
قال ابن المنير: نبرأ إلى الله تعالى ونبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه عما رماهم به،
فقد ركب عمياء، وتخيل القراءة اجتهاداً أو اختياراً لا نقلاً وإسناداً، وزعم أن
مستنده ما وجده مكتوباً في بعض المصاحف شركائهم بالياء وجعل قراءته سمجة، ونحن
نعلم أنَّ هذه القراءة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل كما أنزلها عليه،
وبلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة عن أفصح من نطق بالضاد جملةً
وتفصيلاً، ولا مبالاة بقول الزمخشري وأمثاله، ولولا عذر أنَّ المُنكِر ليس من أهل
علمي القراءة والأصول لخيف عليه الخروج من ربقة الإسلام بذلك، ثم مع ذلك هو في
عهدة خطرة وزلة منكرة، والذي ظن أنَّ تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواتراً
غالط، ولكنه أقل غلطاً من هذا، فإن هذا جعلها موكلة إلى الآراء، ولم يقل بذلك أحد
من المسلمين، ظناً منه اطراد الأقيسة النحوية الذي يحرم برد من خالفها، ثم يبحث
معه فإنَّ إضافة المصدر إلى معموله مقدر بالفعل وهذا عمل، وهو وإن كانت إضافته
محضة مشبهة بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة: هي غير محضة، والحاصل أنَّ
اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وجاء الفصل في غيره بالظرف فتميز المصدر على
غيره بجوازه في غير الظرف، ويؤيده
(3/387)
أيضاً أنَّ المصدر يضاف تارة إلى
الفاعل وتارة إلى المفعول، وقد التزم بعضهم اختصاص جواز الفصل بالمفعول بينه وبين
الفاعل لوقوعه في غير مرتبته، كما جاز تقديم المضمر على الظاهر في غير رتبته،
وأنشد أبو عبيد:
وحلق الماذي والقوانس ... فداسهم دوس الحصاد الدائس
وأنشد:
يفركن حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
ففصل بين الفاعل والمفعول، ويقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه
نصباً وجراً، فهذه شواهد من العربية يجمع شملها هذه القراءة، وليس القصد تصحيح
القراءة بالعربية بل تصحيح العربية بالقراءة. اهـ
قال الكواشي: كلام الزمخشري يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد
بلغت من الرداءة مبلغاً لم ييلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة
لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ ومع ذلك أسندها إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وهو جاهل بالعربية، وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه وإنما هو طعن في
علماء الأمصار حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء حيث لم ينكروا
عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرءونها في محاريبهم، والله أكرم من أن يجمعهم
على الخطأ. اهـ
وقال أبو حيان: أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة
موجود نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء
الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون
على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا عذر أشَد من الجرم حيث طعن في إسناد القراء السبعة
(3/388)
وروايتهم وزعم أنَّهم إنما يقرءون من
عند أنفسهم، وهذه عادته يطعن في تواتر القراءات السبع وينسب الخطأ تارة إليهم كما
في هذا الموضع، وتارة إلى الرواة عنهم، وكلاهما خطأ لأن القراءات متواترة، وكذا
الروايات عنهم وهى ما يستشهد بها لها، وقد وقع الفصل فيها بغير الظرف ينبغي أن
يحكم بالجواز كما قالوا في قوله:
تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها
فعبد القيس فاعل شفت وقع فصلاً بين المضاف وهو غلائل والمضاف إليه وهو صدورها.
وقوله:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهم تنقاد الصياريف
فالدراهم بالنصب فصل بين نفي وتنقاد، أو يحمل على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار
المضاف من الثاني على ما ذهب إليه صاحب المفتاح، لأن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد
من ذلك، أو يعتذر لمثله بما ذكر صاحب الانتصاف من أن إضافة المصدر إلى معموله وإن
كانت محضة لكنها تشبه غير المحضة، واتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره وقد جاز
في الغير الفصل بالظرف فيتميز هو عن الغير بجواز الفصل بغير الظرف. اهـ
قال الطَّيبي: ذهب هنا إلى أن مثل هذا التركيب ممتنع، وخطأ إمام أئمة المسلمين،
وضعفه في قوله (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)، فبين كلاميه
تخالف.
وقال مكى: لم أر أحداً تحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به
لا له.
وقال الإمام: وكثيراً أرى النحوين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن
فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا
جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن
به دليلاً على صحته كان أولى.
(3/389)
وقال السكاكي: لا يجوز الفصل بين
المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسدِ محمول على حذف
المضاف إليه من الأول، ونحو قراءة من قرأ (قتلَ أولادَهم شركائِهم) و (مخلفَ وعدَه
رسله) لإسنادها إلى الثقات، وكثير نظائرها من الأشعار -ومن أرادها فعليه بخصائص
ابن جني- محمولةٌ عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني على
قراءة من قرأ (والله يريد الآخرةِ) بالجر أي عرض الآخرة، وما ذكرت وإن كان فيه نوع
بُعد فتخطئة الثقات والفصحاء أبعد. اهـ
وقال ابن مالك في كافيته:
وظرف أو شبيهه قد يَفْصِلُ ... جزأيْ إضافةٍ وقد يُستعمَل
فصلانِ في اضطرار بعض الشعرا ... وفي اختيار قد أضافوا المصدرا
لفاعلٍ من بعد مفعول حجز ... كقول بعضِ القائلين للرجز
يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
وعمدتي قراءة ابن عامر ... وكم لها من عاضد وناصر
وقال في الشرح: إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولاً بينهما بمفعول المصدر جائزة في
الاختيار إذ لا محذور فيها مع أن الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله لأن رتبته
منبهة عليه، والمفعول بخلاف ذلك، فعلم بهذا أن قراءة ابن عامر غير منافية لقياس
العربية، على أنَّها لو كانت منافية له لوجب قبولها لصحة نقلها، كما قبلت أشياء
تنافي القياس بالنقل، وإن لم تساو صحتها صحة القراءة المذكورة ولا قاربتها،
كقولهم: استحوذ، وقياسه استحاذ، وكقولهم: بنات ألببه، وقياسه ألبه، وكقولهم: هذا
جحرُ ضبٍّ خربٍ، وقياسه خربٌ، وكقولهم: لدن غدوةً، بالنصب، وقياسه الجر، وأمثال
ذلك كثير. اهـ
قوله: (فَزَجَجْتُهَا متمكناً ... زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه).
قال الطَّيبي: أورده في المفصل بلفظ فزججتها بمزجة، الزج: الطعن، والمزجة: بكسر
الميم الرمح القصير كالمزراق، والقلوص: الشابة من النوق، وأبو مزادة: كنية رجل.
ونقل صاحب الإقليد عن الزمخشري أن وجهه أن يجر القلوص على الإضافة، ويقدر
(3/390)
مضاف إلى أبي مزادة محذوفاً بدل عن
القلوص، تقديره: زج القلوص قلوص أبي مزادة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ضمير زججتها للكتيبة. اهـ
وقال ابن يعيش في شرح المفصل: هذا البيت أنشده الأخفش ولا يثبته أهل الرواية. اهـ
قال الثمانيني: أنشده الكوفيون ولا يعرفه البصريون.
قوله: ((افْتِرَاءً عَلَيْهِ) نصب على المصدر ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: الحال أولى الوجوه لملائمته قوله (بِزَعمِهم) لأنه حال من فاعل
(قالوا)، أي: قالوا زاعمين مفتريين. اهـ
قوله: (لخفة عقلهم).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (سَفَهاً) مفعول له لكن عطف وجهلهم عليه إنما هو
لبيان المعنى، وإلاّ فقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال. اهـ
وقال الطَّيبي: وقوله لخفة عقلهم: تفسير لقوله (سَفَهاً) وهو مفعول له، وقوله
(وجهلهم) عطف على خفة وتفسير لقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ). اهـ
قوله: (ويجوز نصبه على الحال أو المصدر).
زاد أبو البقاء: لفعل محذوف. اهـ
قوله: (أو للنخل، والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفاً عليه).
قال الطَّيبي: لأنَّ الأصل أن يطلق الأُكل على الثمرة والجنات بالحقيقة فغلّب فيه الزرع.
اهـ
وقال أبو حيان: ليس هذا بجيد، لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضميره.
(3/391)
قال: فالظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو
الزرع، ويكون قد حذفت حال النخل
لدلالة هذه الحال عليها، التقدير: والنخل مختلفاً أكله (والزرع مختلفاً أكله). اهـ
قوله: (ولا تسرفوا في التصدق).
قال الشيخ سعد الدين: بقرينة القرب، ولو علقه بالأكل والصدقة بقرينة الإطلاق لكان
أقرب، وأما إذا أريد بالحق الزكاة المفروضة فهي مقدرة لا تحتمل الإسراف. اهـ
وقال الطَّيبي: علق (وَلا تُسْرِفُوا) بالقريب وهو (وَآتُوا حَقَّهُ) على طريقة
التنازع، فيقدر مثله لقوله (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ). اهـ
قوله: ((وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) عطف على (جنات)).
قال الطَّيبي: والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بالنوعين في عرف الشرع، وذلك أنه
تعالى لما حكى عن المشركين تحريم أجنة البحائر والسوائب وسجل عليهم بالخسران بسبب
تحريمهم ما رزقهم الله تعالى افتراء على الله نص على ما خلق للمكلفين وأباح لهم
أكله وحمل الأثقال عليه، وقدم أولاً ذكر الجنات المختلفة والزروع المتفاوتة وأمرهم
بالأكل منها وأداء حقوق الله منها ثم ثنى بذكر الأنعام المختلفة ثم عم الخطاب في
إباحة أكل سائر ما رزقهم الله تعالى ونهى عن اتباع خطوات الشيطان من تحريم ما أحله
الله تعالى. اهـ
قوله: (وهو بدل من (ثمانية)).
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من (الأنعام)، و (اثْنَيْنِ)
من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) أو من (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) إن جوزنا للبدل بدلاً.
اهـ
قوله: (والمعنى إنكار أن الله تعالى حرم الأجناس الأربعة ... ) إلى آخره.
(3/392)
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن المقصود
إنكار فعل التحريم لكنه أورد في صورة إنكار المفعول ليطابق ما كانوا يدعونه من
التفصيل في المفعول وللترديد فيه، فيكون الإنكار بطريق برهاني من جهة أنه لا بد
للفعل من متعلق فإذا نفى جميع متعلقاته على التفصيل لزم نفيه. اهـ
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: قل في إنكار نفس الضرب: أزيداً ضربت أم
عمرواً، فإنك إذا أنكرت من تردد الضرب بينهما تولد منه إنكار الضرب على وجه
برهاني، ومنه قوله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ).
وقوله (على وجه برهاني) يعني: أن الضرب يستلزم محلا، فإذا نفيت المحل نفي اللازم،
وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. اهـ
قوله: (ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من (أهل)، وهو عطف على (يكون) والمستكن فيه
راجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يكون)).
قال أبو حيان: هذا إعراب متكلف جداً، وتركيبٌ على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة
وغير جائز على قراءة من قرأ (إلا أن تكون ميتةٌ) بالرفع فيبقى الضمير في (به) ليس
له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير: أو
شيء أُهلَّ لغير الله به، لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. اهـ
قال الحلبي: يعني بذلك أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام
(من) التبعيضية، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، فإن
لم يكن فيه (من) كان ضرورة كقوله:
ترمي بكفي كان مِنْ أرمى البشر
أي بكفي رجل، وهذا رأي بعضهم، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف
مطلقاً، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي. اهـ
(3/393)
وقال السفاقسي: منعه من حيث رفعُ
الميتة فيه نظر، لأنه يعود على ما يعود عليه ضمير (كان) بتقدير النصب، ورفعها لا
يمنع من ذلك. اهـ
وقال الطَّيبي: الإعراب الأول أولى ليحصل في الكلام الترقي، وليؤذن بأن ما أهل
لغير الله به أقذر وأخبث من لحم الخنزير. اهـ
قوله: (الثروب).
قال الجوهري: الثروب شحم قد يغشى الكرش والأمعاء رقيق. اهـ
قوله: (والإضافة لزيادة الربط).
قال الطَّيبي: المراد إضافة الشحوم إلى الضمير، لأن الظاهر أن يقال: ومن البقر
والغنم حرمنا عليهم الشحوم، فأضيف لزيادة الربط. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن إضافة شحوم إلى ضمير البقر والغنم لزيادة الربط
ًوإلا فأصل الربط حاصل بدونها، مثل: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لأن (من)
متعلق بهذا الفعل، وأما فيمن يجعل (وَمِنَ الْبَقَرِ) عطفاً على (كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ) و (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) تبييناً للمحرم منهما فالإضافة
للربط المحتاج إليه. اهـ
قوله: (وقيل: هو عطف على (شحومهما)، و (أو) بمعنى الواو).
قال الشيخ سعد الدين: على الأول كان عطفاً على المستثنى، يعني: حرمنا جميع شحومهما
إلا هذه الثلاثة، فكان المناسب هو الواو دون (أو) لأن المخرج من حكم التحريم
ثلاثتها لا أحدها فقط، وأجيب بأن الاستثناء من الإثبات نفي، و (أو) في النفي تفيد
العموم لكونه بمنزلة النكرة في سياق النفي، فيصير المعنى: لم يحرم واحداً من
الثلاثة لا على التعيين وذلك ينفي المجموع ضرورة وهو معنى إباحة الكل، وفيه نظر
لأنَّ الاستثناء إنما يفيد نفي الحكم من المستثنى بمنزلة قولك: انتفى التحريم
(3/394)
عن هذا وذاك والعموم إنما يوجبه نفي
الحكم عن هذا وذاك بمنزلة قولك انتفى تحريم هذا وذاك، والحاصل أن النكرة إذا تعلقت
بالمنفى عمت ضرورة أنَّ نفى إيجاب المبهم لا يتحقق إلا بنفى الكل، وأما إذا تعلقت
بالنفى كقولنا: الأمي من لا يحسن من الفاتحة حرفاً، فلا يفيد سوى تعلق النفي بفرد
مبهم، وهذا ما يقال إن (أو) في النفي قد تكون لنفي أحد الأمرين فتعم، وقد تكون
لأحد النفيين فلا تعم، فالوجه أن يقال: كلمة (أو) في العطف على المستثنى أيضاً من
قبيل: جالس الحسن وابن سيرين كما ذكره في العطف على المستثنى منه يعني أنَّها
لإفادة التساوي في الحكم فيحرم الكل، وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل:
لا تأكل أحد الثلاثة، وهو معنى العموم، وهذا ما نقل عن صاحب الكشاف أنَّ الجملة
لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنَّها بليغة في هذا المعنى لأنك
إذا قلت: لا تطع زيداً وعمرواً كان له أن يطيع زيداً على حده، وأما إذا قلت: لا
تطع زيداً أو عمرواً أو خالداً فالمعنى أن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع
واحداً منهم ولا الجماعة، وبهذا يتبين فساد ما يتوهم من أنه يريد أن على تقدير
العطف على المستثنى منه يكون المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا
أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أكل أيها كان وأكل الآخرين، والظاهر
أنَّ مثل هذا وإن كان جائزاً فليس من الشرع أن يحرم واحد مبهم من أمور معينة،
وإنما ذلك في الواجب فقط. اهـ
وقال الزجاج: يجوز أن تكون (الْحَوَايَآ) نسقاً على (شُحومَهُمَا) لا على المستثنى،
المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه
غير محرم، ودخلت (أو) على طريق الإباحة كما قال عز وجل (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي: هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا،
(3/395)
و (أو) بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا
قلت: لا تطع زيداً وعمرواً، فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معاً، فإن أطيع زيد على
حدته لم يكن معصية، فإذا قلت: لا تطع زيداً أو عمرواً أو خالداً، أي: هؤلاء كلهم
أهل أن لا يطاع فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة، ومثله: جالس الحسن أو ابن سيرين
أو الشعبي، فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن
جالست واحداً منهم فأنت مصيب. اهـ
وقال ابن الحاجب: (أو) في قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)
بمعناها وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن
المعنى قبل وجود النهي فيهما يطيع آثماً أو كفوراً، أي واحداً منهما، فإذا جاء
النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تطع واحداً منهما،
فيجيء العموم فيهما من جهة النهى الداخل، بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون
الآخر، وهو معنى دقيق. اهـ
قال الطيبي: وحاصل ذلك أنك إذا عطفت (أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ) على (شُحُومَهُمَا) دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما
استثنى منه، وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم، و (أَو) على الأول
للإباحة، وعلى الثاني للتنويع.
وقال أبو البقاء: (أَو) هنا لتفصيل مذاهبهم لاختلاف أماكنها كقوله تعالى
(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فلما
لم يفصل في قوله (وَقَالُوا) جاء بـ (أَو) للتفصيل إذ كانت موصوفة لأصل الشيئين.
اهـ
وقال أبو حيان: الأحسن في هذه الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على (شُحُومَهُمَا) أن
تكون (أَو) فيه للتفصيل، فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. اهـ
وقال ابن عطية متعقباً القول بأنه عطف على (شُحُومَهُمَا): وعلى هذا تدخل الحوايا
في التحريم، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ولم يبين وجه
(3/396)
ذلك. اهـ
قوله: (ذلك التحريم أو الجزاء).
قال أبو حيان: ظاهر هذا أن ذلك منتصب انتصاب المصدر، وقد ذكر ابن مالك أن اسم
الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا وأتبع بالمصدر نحو: قمت هذا القيام
وقعدت ذلك القعود، ولا يجوز: قمت هذا ولا قعدت ذاك، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك
على أنه إشارة إلى المصدر. اهـ
وقال الحلبي: ما قاله ابن مالك غير صحيح لورود اسم الإشارة مشاراً به إلى المصدر
غير متبوع به، قال الشاعر:
ياعمرو إنك قد مللت صحابتي ... وصحابتيك إخال ذاك قليل
قال النحويون: (ذاك) إشارة إلى مصدر (خال) المؤكدة له وقد أنشده هو على ذلك. اهـ
قوله: (أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: الكفرة يحتجون بذلك على حقيقة الإشراك وتحريم الحلال وسائر
ما يرتكبونه من القبائح وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى
الأمر على ما هو مذهب القدرية من عدم التفرقة بين المأمور والمراد وإن كل ما هو
مراد الله تعالى فهو ليس بمعصية نهى عنها، وأهل السنة وإن اعتقدوا أنَّ كل الكل
بمشيئة الله لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقهما
العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن البعض بحكم الوعد، فهم في ذلك يصدقون الله تعالى
فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما
يشاء، والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على بعض ما هو بمشيئة الله تعالى، ويزعمون
أن الكفر والمعاصي إذا كانت بإرادة الله تعالى لم يكن عليها عذاب ألبتة ولم يكن
مخالفة للأمر، بل ربما كانت مرضية عنده.
قال: وحاصل الكلام في هذا المقام ما قال الامام وهو أنَّ في كلام المشركين مقدمتين
إحداهما: أنَّ الكفر بمشيئة الله تعالى، والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم، وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية إذ الله تعالى
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان
(3/397)
ويعذبه على الكفر، ويبعث الأنبياء دعاة
إلى دار السلام وإن كان لا يهدي إلا من يشاء. اهـ
وقال إمام الحرمين في الإرشاد: أنَّهم إنما استوجبوا التوبيخ لأنهم كانوا يهزؤن
بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان قد قرع مسامعهم من
شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى فلما طولبوا بالإسلام والتزام الأحكام
تعللوا بما احتجوا به على النبيين وقالوا (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا
آبَاؤُنَا) ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه (قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ) فكيف لا يكون الأمر كذلك والإيمان بصفات الله
تعالى فرع الإيمان بالله والمقرعون بالآية كفرة. اهـ
قوله: (وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم).
قال الشيخ سعد الدين: سكت عن التثنية مع أنَّهم يقولون: هلمّا لأنه أراد بالجمع ما
يعم المثنى. اهـ
قوله: (فإن تسليمه موافقة لهم في الشهادة).
قال الطيبي: تلخيصه أن قوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أبلغ في النهي من قوله: فلا
تصدقهم، فهو من باب الكناية، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (فَلا تَشْهَدْ) مسمتعار بمعنى: لا تسلم،
استعارة تبعية، وقيل: مجاز من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم، لأن الشهادة من
لوازم التسليم، وقيل: كناية، وقيل: مشاكلة. اهـ
قوله: (والجملة).
قال الشيخ سعد الدين: أي (حَرَّمَ) مع مفعوله المقدم. اهـ
قوله: (مفعول (أَتْلُ)).
زاد غيره: على وجه التعليق، ورده أبو حيان بأن (أَتْلُ) ليس من أفعال القلوب
(3/398)
فلا تعلق.
وقال الشيخ سعد الدين: من حيث تضمنه معنى القول كأنه قيل: اتل أي شىء حرم. اهـ
قوله: (أي لا تشركوا ... ) إلى آخره.
يعني أنَّ (أن) مفسرة لا مصدرية فلذا عبر بـ (أي).
قال الشيخ سعد الدين: نظم الكلام لا يخلو عن إشكال لأن (أن) إما أن تجعل مصدرية أو
مفسرة، فإن جعلت مصدرية كانت في موقع البيان للمحرم بدلاً من (ما) أو من العائد
المحذوف، وظاهر أنَّ المحرم هو الإشراك لا نفيه، وأن الأوامر الواردة بعد ذلك
معطوفة على (تشرِكُوا) وفيه ارتكاب عطف الطلبي على الخبري وجعل المعاني الواجبة
المأمور بها محرمة فاحتيج إلى تكلفات متل جعل (لا) مزيدة وعطف الأوامر على
المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل (لا) ناهية
واقعة موقع الصلة لـ (أن) المصدرية فلا سبيل إليه هنا لأن زيادة (لا) الناهية مما
لم يقل به أحد ولم يرد في كلام، وإن جعلت (أن) مفسرة على أن (لا) ناهية والنواهى
بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان: أحدهما: عطف (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا) على (أَلاّ تُشْرِكُوا) مع أنه لا معنى لعطفه على (أن) المفسرة مع
الفعل، ثانيهما: عطف الأوامر المذكورة على النواهي فإنَّها لا تصلح بياناً لتلاوة
المحرمات بل الواجبات، والمصنف اختار كون (أن) مفسرة لأن انعطاف الأوامر على
المذكورات قرينة ظاهرة على أنَّها نواه ولا سبيل حينئذ إلى جعل (أن) مصدرية موصولة
بالنهي لما عرفت فأجاب عن الإشكال بأن قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)
ليس عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) بل هو تعليل للاِّتباع متعلق بـ (اتبعوه) على
حذف اللام وجاز عود ضمير (اتبعوه) إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.
فإن قيل: فعلى هذا يكون (اتبعوه) عطفاً على (أَلاّ تُشْرِكُوا) ويصير التقدير:
فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع يبن حرفي عطف أعني الواو والفاء و ليس
بمستقيم، وإن جعلنا الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم
المعمول فصلاً بينهما شائع في الكلام مثل (وَرَبَّكَ فَكبِّر) (وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ
(3/399)
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ
أَحَدًا) فإن أبيت الجميع ألبتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقاً بمحذوف
والمذكور بالفاء عطفاً عليه مثل عطف (فَكبِّر) (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا)
وآثروه فاتبعوه، وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد (أن)
المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأنَّ المأمور به لا يكون محرماً دل على أن
التحريم راجع إلى أضدادها، بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي
النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل: أتلو ما حرم أن لا تسيؤا إلى الوالدين ولا تبخسوا
الكيل والميزان ولا تتركوا العدل وتنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل
لكن ربما يجوز بطريق العطف، وأما انتصاب (أَلاّ تُشْرِكُوا) بـ (عَلَيْكُمْ) يعني:
الزموا ترك الشرك، فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل (لا) ناهية
و (أن) المصدرية موصولة بالنواهي والأوامر. اهـ
وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه (لا)
لأنا بينا جواز عطف (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) على (تعالوا)، وما بعده معطوف
عليه، ولا يكون قوله (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) معطوفاً على (أَلاّ
تُشْرِكُوا).
قال: وقوله إنَّ التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بعيد جداً، وإلغاز في المعاني ولا
ضرورة تدعوا إلى ذلك.
قال: وأما ما عطف عليه هذه الأوامر فتحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها معطوفة لا على
المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيثُ كانت في حيز (أن) التفسيرية بل هي
معطوفة على قوله تعالى (أَتْلُ مَا حَرَّمَ)، أمرهم أولاً بأمر ترتب عليه ذكر
مناه، ثم أمرهم ثانياً بأوامر، وهذا معنى واضح، والثاني: أن يكون الأوامر معطوفة
على النواهي، وداخلة تحت (أن) التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون (أن)
مفسرة له وللمعطوف قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وما أمركم به، فحذف وما أمركم
به لدلالة (مَا حَرَّمَ) عليه، لأن معنى (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ): ما
نهاكم ربكم عنه، فالمعنى: قل تعالوا أتل ما نهاكم
(3/400)
ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان
التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر
المحذوف، ألا ترى أنه يجوز أن يقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً، إذ
يجوز عطف الأمر على النهي والنهى على الأمر كقول امرئ القيس:
يقولون لا تهلك أسىً وتجمل
وهذا لا نعلم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن
في جواز العطف فيها خلافاً. اهـ
قوله: (من أجل فقر ومن خشيته).
قال الشيخ سعد الدين: هذا يخالف ما اشتهر من أن هذا الخطاب للفقراء من الذين لهم
إملاق بالفعل ولذا قدم رزقهم فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، والخطاب في
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) للأغنياء ولذا قدم رزق أولادهم
فقيل (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). اهـ
قوله: ((إلا وسعها): أي ما يسعها).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن الواسع فعل بمعنى فاعل، أي: أمر يسع النفس ولا تعجز
النفس عنه. اهـ
قوله: (عطف على (وصاكم)).
قال الشيخ سعد الدين: يعني جملة (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) لظهور أنه ليس عطفاً
على الفعلية الواقعة خبر (ذَلِكُمْ). اهـ
قوله: (و (ثم) للتراخى فى الأخبار، أو للتفاوت فى الرتبة).
قال الطَّيبي: يمكن الجمع بينهما إذ لا منافاة بين الاعتبارين، وذلك أن قوله
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) من جملة ما
وصاه الله تعالى قديماً وحديثاً ويكون قوله (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ) مشاراً به إلى
جميع ما ذكر من أول هذه السورة لا سيما هذه المنهيات المختتمة بقوله (وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)
(3/401)
فالعطف على طريقة (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) لشرفهما على سائر ما وصاه الله تعالى وأنزل
فيه كتاباً فحصل التراخي بحسب الزمان وبحسب المرتبة أيضاً. اهـ
قوله: ((تماماً) للكرامة).
قال الشيخ سعد الدين: يشير إلى أن (تَمَامًا) في موقع المفعول له وجاز حذف اللام
لكونه في معنى إتماماً فيكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل وللكرامة في موقع المفعول
به لـ (تَمَامًا). اهـ
قوله: (على من أحسن القيام به ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو للعهد، والمعهود
إما (مُوسَى) ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير يعود إلى (الَّذِي) ومفعوله محذوف، وإما العلم
والشرائع التي أحسنها موسى وأجاد معرفتها ففاعل (أَحْسَنَ) ضمير (مُوسى) ومفعوله
محذوف هو العائد إلى الموصول، و (تَمَامًا) على هذا حال من (الكتاب)، وأما على
قراءة (أحسنُ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف فـ (الَّذِي) وصف لـ (الَّذِي)، أو للوجه
الذي يكون عليه الكتاب، و (تَمَامًا) على الوجهين حال من (الكِتاب)، و (عَلَى
الَّذِي) في الوجه الأول متعلق به وهو على معناه المصدري، وفي الثاني: مستقر حال
بعد حال و (تَمَامًا) بمعنى تاماً، أي: حال كون الكتاب تاماً كاملاً كائناً على
أحسن ما يكون، والأحسنية يجب أن تعتبر بالنسبة إلى غير دين الإسلام وإلى غير ما
عليه القرآن. اهـ
وقال الطَّيبي: قوله أو (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) أي: تاماً كاملاً
على أحسن ما تكون عليه الكتب عطف على قوله (تَمَامًا) للكرامة، فعلى الوجه الأول
(تَمَامًا) مفعول له، قال الزجاج: وكذلك (وَتَفصِيلا)، أي: آتيناه الكتاب للتمام
وللتفصيل.
وعلى الثاني حال من (الْكِتَابَ) ثم التعريف في (الَّذِي أَحْسَنَ) إما للجنس أو
للعهد، فعلى الجنس يوافق معناه قوله تعالى (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ
فِيهِ
(3/402)
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) وإليه الإشارة
بقوله: على من أحسن القيام به يريد جنس المحسنين، وعلى العهد (أَحْسَنَ) إما بمعنى
الإحسان في الطاعة والامتثال لجميع ما أمر به كقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، أو بمعنى الجودة في العمل والإتقان فيه، وفي هذا
الوجه من المبالغة ما ليس في الأول لأنَّ الإحسان على الأول نفس الطاعة، وفي هذا
زيادة عليها. اهـ
قوله: (كراهة أن يقولوا).
قال الشيخ سعد الدين: لا خفاء أن نفس هذا القول لا يصلح مفعولاً له لـ (أنزلنا) بل
عدمه، فحمله الكوفيون على حذف (لا) أي: لئلا يقولوا، والبصريون على حذف المضاف،
أي: كراهة أن يقولوا. اهـ
قوله: (أي: وإنه كنا).
قال أبو حيان: ما ذهب إليه من أن أصله وإنه كنا يلزم منه أن (أن) المخففة من
الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف، والذي نص عليه الناس أنها مهملة لا
تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف. اهـ
وقال السفاقسي: لم يصرح المصنف بأنها عاملة حال التخفيف بل قدرها بالثقيلة، أتى
بالضمير معها لأجل أن المثقلة لا تكون إلا عاملة فتوهم منه أنه ذهب إلى إعمال
الخفيفة وليس كذلك. اهـ
قوله: (وثقابة أفهامنا)
بمثلثة ثم قاف ثم باء موحدة، والمثقب بكسر الميم: العالم الفطن.
قال الطَّيبي: ويروى بالفاء بدل الموحدة يقال: غلام ثقف لقف أي: ذو فطنة
(3/403)
وذكاء. اهـ
قوله: (أو كل آياته).
قال الشيخ سعد الدين: فسر إتيان الرب سبحانه ليقابل إتيان بعض الآيات، ولو حمل على
حقيقته لابتني الكلام على إعتقاد الكفرة. اهـ
قوله: (وعن حذيفة والبراء بن عازب: كنا نتذكر الساعة ... ) الحديث.
قال الشيخ ولي الدين: إنما هو معروف من حديث حذيفة بن أسيد رواه مسلم في صحيحه.
وجزيرة العرب: قال أبو عبيد: اسم صقع من الأرض وهو ما بين حَفَر أبي موسى الأشعري
إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض.
قال الأزهري: سميت جزيرة لأنَّ بحر فارس وبحر السودان أحاط بجانبيها وأحاط بالجانب
الشمالي دجلة والفرات. اهـ
قوله: (وقرئ (تنفع) بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث).
(3/404)
زاد في الكشاف: الذي هو بعضه، كقولك:
ذهبت بعض أصابعه. اهـ
قال أبو حيان: هذا غلط لأنَّ الإيمان ليس بعضاً للنفس، ويحتمل أن يكون أنث على
معنى الإيمان وهو المعرفة والعقيدة فيكون مثل: جاءته كتابي فاحتقرها على معنى
الصحيفة. اهـ
وقال الحلبي: يشهد لما قاله المصنف قول النحاس: في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه وذلك
أنَّ الإيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها،
فالمراد البعضية المجازية. اهـ
قوله: (وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد).
قال الشيخ سعد الدين: أجيب عن التمسك بالآية بأنها من باب اللف التقديري، أي: لا
ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه خيراً،
فيوافق الآيات والأحاديث الشاهدة بأن مجرد الإيمان ينفع. اهـ
وقريب منه ما قاله ابن الحاجب أنَّ المعنى: لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها وهو
العمل الصالح لم تكن آمنت من قبل ولم تعمل العمل الصالح قبل فاختصر للعلم به.
وقال صاحب الانتصاف: هذا الفن من الكلام في البلاغة يلقب باللف، وأصله: يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد، ولا نفساً لم تكسب
في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلها كلاماً واحداً
إيجازاً وبلاغة.
قال: فظهر بذلك أنَّها لا تخالف مذهب الحق ولا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير
وإن نفع الإيمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهى بالرد على مذهب الاعتزال أولى
من أن تدل له. اهـ
وقال ابن هشام: بهذا التقدير تندفع هذه الشبهة، وقد ذكر هذا التأويل ابن عطية وابن
الحاجب.
(3/405)
قال الطَّيبي: وعند هذا البيان أمر
الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم أولاً بأن يقول انتظروا ذلك الموعود إنا
منتظرون إقناطاً له عن إيمانهم، ثم ثنى بما ينبئ عن الإعراض عنهم بقوله (إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، وثلث
بالإقبال على من ينجع فيه الإنذار والوعظ بقوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وربع بما يسليه عن خاصة نفسه صلى الله عليه وسلم بقوله
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وخمس بخامسة شريفة
مطابقة لما بدئت به السورة من المقاصد وهى قوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). فإن فاتحة السورة ابتدئت
بذكر بدء النشأة الأولى لبيان إثبات التوحيد ونفي الشرك، والخاتمة بذكر النشأة
الأخرى والأمر بالاخلاص ونفي الشرك، فسبحانه ما أعظم شأنه وما أعجب بيانه وأعز
سلطانه. اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: افترقت اليهود ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة.
قوله: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) عطف بيان).
قال الشيخ سعد الدين: لما في الإضافة من زيادة التوضيح. اهـ
وقال الطيبي: يريد أن الدين القيم هو ملة إبراهيم بعينه.
قال الراغب: الملة كالدين وهو اسم لما شرع الله تعالى على لسان الأنبياء صلوات
الله وسلامه عليهم يتوصلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينهما أنَّ الملة لا
تضاف إلا إلى النبي الذي تسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى
آحاد أمة النبي، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع، وأصلها من أمللت الكتاب. اهـ
قوله: (وما أنا عليه في حياتي ... ) إلى آخره.
(3/406)
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن المحيا
والممات مجازان عما يقارنهما ويكون معهما من الإيمان والعمل الصالح لأنه مناسب
للحكم لكونه خالصاً لوجه الله تعالى كالصلاة وسائر العبادات. اهـ
قوله: (وهو جواب عن دعائهم).
قال الطَّيبي: لأنَّ كل تقديم إما للاهتمام أو جواب إنكار، وكذا ما فيه أداة
الحصر، ولهذا قال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْهَا) جواب عن قولهم
(اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ). اهـ
قوله: (لأنَّ ما هو آتٍ قريب).
قال الطَّيبي: أي الموعود سريع الوصول فإن سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعد.
اهـ
قوله: (أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل
بالتسبيح والتحميد)
أخرج هذا القدر الطبراني في المعجم الصغير، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه في
تفسيره من حديث ابن عمر.
قوله: (فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من
سورة الأنعام يوماً وليلة).
هذا أورده الثعلبي عن أبي كعب وهو موضوع كما تقدم، والله أعلم.
تمت سورة الأنعام يتلوها سورة الأعراف.
* * *
(3/407)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
سورة الأعراف
قوله: (فإن الشك حَرج الصدر).
قال الطَّيبي: أي أطلق الحرج وأريد الذي هو لازمه الشك فيكون كناية. اهـ
قوله: (وتوجيه النهي إليه للمبالغة).
قال العلم العراقي: لأنَّ الحرج منهي والمراد المنهى عنه. اهـ
قوله: (كقولهم: لا أريتك هاهنا).
قال الطَّيبي: أي هو من الكناية، ظاهره يقتضي أنَّ المتكلم ينهى نفسه عن أن يرى
المخاطب هناك، والمراد نهي المخاطب، أي: لا تكن هاهنا حتى لا أراك فيه فإنَّ
كينونتك هاهنا مستلزم لرؤيتي إياك، المعنى: أنَّ الحرج لو كان مما ينهى لنهيناك
عنه (فانته عنه) بترك التعرض له. اهـ
قوله: (والفاء تحتمل العطف والجواب).
قال الطَّيبي: وأقول إن الفاء أذنت بترتب النهي على كون الكتاب منزلاً، وتقريره
على الشك أن يقال: إذا تيقنت أن الكتاب منزل من عند الله تعالى فلا ينبغي أن تشك
فيه لأن اليقين والشك لا يجتمعان، فالنهي من باب التهييج والإلهاب ليداوم على
اليقين ويزيد فيه كقوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ) وقوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وعلى نفي الضيق
والحرج أن يقال: إن (المص) إما وارد على قرع العصا لمن تحدى بالقرآن وبغرابة نظمه
أو هو تقدمة لدلائل الإعجاز، والمعنى: (المص) هو كتاب منزل من عند الله بالغ حد
الإعجاز فكن منشرح الصدر فسيح البال قوي الجأش ولا تبال بهم وأنذرهم به فإن الغلبة
لك عليهم
(3/408)
والسلطان وهم مقهرون، فالنهى من باب
التشجيع هذا هو الوجه معنى ونظماً. اهـ
قوله: (متعلق بـ (أُنْزِلَ) أو بـ (لا يَكُنْ)).
قال أبو حيان: في تعليق المجرور والظرف مكان الناقصة خلاف، مبناه على أنَّها هل
تدل على حدث أم لا؟ فمن قال: نعم، جوزه، ومن قال: لا، منعه. اهـ
وقال الحلبي: الصحيح دلالتها على الحدث.
قال: ثم إنه ليس في عبارة الزمخشري ما يدل على أنه متعلق بـ (فَلا يَكُنْ) فإنه قال
بالنهي فقد يريد بما تضمنه من المعنى. اهـ
قوله: (يحتمل النصب بإضمار فعلها).
قال الطَّيبي: روي عن صاحب الكشاف أنه قال: لم أزعمه معطوفاً على محل (لِتُنذِرَ)
لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً حتى يجوز حذف اللام
منه. اهـ
قوله: (والرفع عطفاً على (كتاب)، أو خبر محذوف).
قال الزجاج: التقدير: هو ذكرى. اهـ
قال الطَّيبي: فإن قلت: ما الفرق بينه إذا كان عطفاً على (كِتَاب) وبينه إذا كان
خبر مبتدأ محذوف؟ قلت: المعنى على الأول هو جامع بين كونه كتاباً وكونه ذكرى
للمؤمنين لتنذر به، وعلى الثاني عطف جملة على جملة، أي: هو كتاب منزل من عند الله
لإنذار الكافرين وهو ذكرى للمؤمنين وبشارة لهم، فيكون كل من الوصفين مستقلاً بنفسه
والتركيبان مستبدين برأسهما. اهـ
قوله: (وإن جعلت مصدرية لم ينتصب (قليلاً) بـ (تذكرون)).
قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية، لأنَّ (قَلِيلاً) لا يبقى له ناصب.
اهـ
(3/409)
قوله: (وإنما حذفت واو الحال استثقالاً
لاجتماع حرفي عطف، فإنها واو عطف استعيرت للوصل).
قال أبو حيان: هذا التعليل ليس بصحيح لأنَّ واو الحال ليس حرف عطف فيلزم من ذكرها
اجتماع حرفي عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف
حالاً على حال، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنَّها ليست واو عطف،
ولا لحظ فيها معنى واو عطف، تقول: جاء زيد والشمس طالعة، فجاء زيد ليس بحال فيعطف
عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام
الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف. اهـ
ًوقال السفاقسي: تعقبه عليه ليس بطائل لأن الزمخشري إنما قال إنَّها واو العطف على
الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط، فقد صرح بخروجها عن أصله، فكيف يلزمه
وقوع حال قبلها؟ وقوله: استثقالاً لاجتماع حرفي العطف، يعني في واو الحال اعتباراً
بأصلها. اهـ
وقال الحلبي: لم يدع الزمخشري في واو الحال أنها عاطفة بل ادعى أن أصلها العطف،
ويدل على ذلك قوله: استعيرت للوصل، فلو كانت عاطفة على حالها لما قال: استعيرت،
فدل قوله ذلك على أنَّها خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها
في امتناع مجامعتها لعاطف آخر، وأما تسميتها حرف عطف فباعتبار أصلها، ونظر ذلك
أيضاً واو مع فإنَّهُم نصوا على أن أصلها واو العطف ثم استعملت في المعية، فكذلك
واو الحال.
قال: وقد سبقه في تسمية هذه الواو حرف عطف الفراء وابن الأنباري.
قال الفراء: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) فيه واو مضمرة، المعنى: أهلكناها فجاءها بأسنا
بياتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، فاستثقلوا نسقاً على إثر نسق، ولو قيل لكان صواباً.
وقال أبو بكر ابن الأنباري: أضمرت واو الحال لوضوح معناها، ومن أجل أنَّ (أو) حرف
عطف والواو كذلك فاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني.
(3/410)
قال الحلبي: فهذا تصريح من هذين
الإمامين بما ذكره الزمخشري.
قال: وإنما ذكرت نصها لأعلم اطلاعه على أقوال الناس، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل
العلم كما يرميه به غير مرة. اهـ
وقال الطَّيبي: قوله: واو عطف استعيرت للوصل، صريح في أنَّ واو الحال غير العاطفة
الصرفة، وتحقيق ذلك ما قال صاحب المفتاح: وحق النوعين أي الحال بالإطلاق والحال
المؤكدة أن لا يدخلهما الواو؛ نظراً إلى إعرابهما الذي ليس بتبع؛ لأنَّ هذه الواو
وإن كنا نسميها واو الحال أصلها العطف، وقال أيضاً: الأصل في الجملة إذا وقعت موقع
الحال أن لا يدخلها الواو، ولكن النظر لها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة
غير متحدة بالأولى وغير منقطعة عنها كجهة جامعة بينهما يبسط العذر في أن يدخلها
واو الجمع بينها وبين الأولى، مثله في نحو: قام زيد وقعد عمرو. اهـ
قوله: (لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح).
قال أبو حيان: تبع في ذلك الفراء، وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام
العرب نثرها ونظمها، وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين.
قال: وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة. اهـ
قوله: (وقت دعة).
قال الجوهري: الدعة: الخفض، والهاء عوض من الواو، ويقال: ودع الرجل -بالضم- فهو
وديع، أي: ساكن. اهـ
قوله: (روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً ... )
الحديث.
أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
بنحوه.
قال الطَّيبي: البطاقة: رقعة صغيرة، وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه. اهـ
(3/411)
وقال القرطبي في التذكرة: قوله في
الحديث (فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله) ليست هذه شهادة التوحيد
لأنَّ من شأن الميزان أن يوضع في كفته (شىء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة
والسيئات في كفة) فهذا غير مستحيل لأنَّ العبد يأتي بهما جميعاً، ويستحيل أن يأتي
بالكفر والإيمان عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في كفة، فلذلك استحال أن
توضع شهادة التوحيد في الميزان، وأما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا
الله حسنة فتوضع في الميزان مع سائر الحسنات قاله الترمذي الحكيم.
قال القرطبي: ويدل على هذا قوله في الحديث (فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة) ولم يقل
إن لك عندنا إيماناً، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله
أمن الحسنات هي؟ فقال: من أعظم الحسنات.
قال: ويجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا. اهـ
قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قل: إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا
يزن عند الله جناح بعوضة).
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
قوله: (يكذبون بدل التصديق).
قال الطَّيبي: يريد أنَّ قوله (يَظْلِمُونَ) ضمن معنى التكذيب فعدي بالياء. اهـ
قوله: (وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار).
قال الطيبي: يمكن أن تحمل (ثم) على التراخي في الرتبة، لأن مقام الامتنان يقتضي أن
يقال: إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى
شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثَمَّ
عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي. اهـ
قوله: (و (لا) صلة مثلها في (لئلا يعلم) مؤكدة معنى الفعل).
قال الطَّيبي: قال صاحب المفتاح: للتعلق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى
تركه يحتمل عندي أن يكون (مَنَعَك) في الآية مراداً به: ما دعاك إلى أن لا تسجد،
(3/412)
وأن تكون (لا) غير صلة قرينة للمجاز.
اهـ
وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية، وقد يقال في الحماية، وقوله (مَا مَنَعَكَ
أَلاّ تَسْجُدَ) أي: ما حملك. اهـ
قوله: (جواب من حيث المعنى).
قال الطَّيبي: لأنَّ الجواب الحقيقي: منعني كذا وكذا، وقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)
جواب أيكما خير، والمعنى: منعني من السجود فضلى عليه.
قال: فالجواب من الأسلوب الأحمق كقول نمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). اهـ
قوله: (قال عليه الصلاهَ والسلام: من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله).
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمر بن الخطاب.
قوله: (كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ).
أوله:
لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه ...............
يصف الرمح، لدن: أي لين، وعسل الرمح: اهتز واضطرب، والذئب: أسرع، وضمير (فيه) للكف
أو للهز، والبيت من قصيدة لساعدة بن جؤية وأولها:
هجرتْ غضوبُ، وحبَّ من يتجنب ... وعدت عوادٍ دون وَلْيِك تشعب
شاب الغراب ولا فؤادك تارك ... ذكر الغضوب ولا عتابك يعتب
قوله: (وقيل: تقديره: على صراطك).
قال الطيبي: لا اختلاف بين النحويين في أنَّ (على) محذوفة، وفي التخريج الأول
إشكال لأنَّ حكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف فلا يحذف، والبيت شاذ. اهـ
قوله: (بالتسويل).
(3/413)
في النهاية: التسويل: تحسين الشيء
وتزيينه للإنسان ليفعله أو يقوله. اهـ
قوله: (وعن ابن عباس: (من بين أيديهم): من قبل الآخرة، (ومن خلفهم): من قبل
الدنيا، (وعن أيمانهم وعن شمائلهم): من جهة حسناتهم وسيئاتهم).
أخرجه ابن أبي حاتم.
قوله: (وقرئ «لِمَنْ» بكسر اللام على أنه خبر (لأملأن) على معنى: لمن تبعك هذا
الوعيد).
قال أبو حيان: إن أراد ظاهر هذا الكلام فهو خطأ على مذهب البصريين، لأنَّ (لأملأن)
جملة وهي جواب قسم محذوف، فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن يكون مبتدأة، ومن حيث
كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً لأنَّها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع
لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يتصور أن تكون
الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال. اهـ
وقال الحلبي: بعد أن قال: على معنى لمن تبعك هذا الوعيد، كيف يورد عليه ذلك مع
تصريحه بالتأويل؟، وأما قوله علي أن (لأملأن) في محل الابتداء لأنه دال على الوعيد
الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدال ما ينسب إلى المدلول من جهة المعنى. اهـ
قوله: ((ويا آدم): وقلنا يا آدم).
قال الطَّيبي: إنما قدر (قلنا) ليؤذن بأنَّ هذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها
وهي قوله (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) لا على (قَال) وهو أقرب، وأنها كرامة أخرى
منحت أبا البشر امتناناً على المخاطبين من أولاده، ومن ثم أتى بصيغة التعظيم وأن
قوله (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ ... ) إلى آخره وارد على الاستطراد لحديث
الأمر بالسجود وامتناع إبليس منه، كما أن قوله (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) مستطرد لذكر بدو السوءات، وقوله (وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً) استطراد في استطراد لأنه حكاية عن فعلٍ قبيح كانوا يفعلونه ويزعمون أنه
نسك من المناسك وهو طوافهم بالبيت عراة، فشنع عليهم بتسميته فاحشة، والدليل على
كونه مستطرداً العود إلى حديث الاستطراد الأول بقوله (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وفائدة عنه الأمر بالستر
(3/414)
وأكل المباحات بعد تقبيح تلك الفعلة
والتزي بزي المتقين ولذلك صرح بذلك بكل مسجد، ويؤيده قول الإمام: إن أهل الجاهلية
كانوا لا يأكلون الطعام في الموسم إلا القليل ويحترزون عن الدسم تعظيماً فأنزل
الله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) بياناً لفساد تلك الطريقة.
وسبيل هذا الاستطراد سبيل قوله تعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ
مِنْ أَبْوَابِهَا) سواء بسواء. اهـ
قوله: (وفيه دليل على أنَّ كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح
مستهجن فى الطباع).
تبع فيه صاحب الكشاف وقد قال ابن المنير: فيه ميل إلى الاعتزال وأن العقل يقبح
ويحسن.
قال: وهذا اللفظ لو صدر من السني كان تأويله أن العقل أدرك المعنى الذي لأجله
حَسَّن الشرعُ الستر وقبَّح الكشف. اهـ
وقال الطَّيبي: في تقديره أي في جعل الإبداء غرضاً للشيطان في الوسوسة دليل على أن
المطلوب الأولي منه أنه مهتم بشأنه لكونه مستتبعاً للإخراج من الجنة وموجباً
للفضيحة وشماتة العدو، ثم في إيقاع الصلة الموصولة وهي (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا)
موضع العورة على نحو قوله تعالى (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) إشعار
بزيادة التقبيح، وفي جعل (مِنْ سَوْءَاتِهِمَا) بياناً له إيذان بمزيد الشناعة
والقبح على منوال قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ)، وإنما كان مستقبحاً في الطباع والعقول لأنه لم يكن في الجنة تكليف
سوى المنع من قربان الشجرة وإنما علم قبحه من جهة العقل. اهـ
ثم عقبه بكلام ابن المنير السابق.
(3/415)
قوله: (أو يصل).
أصلة: وويصل.
قوله: (لأن الثانية مدة).
قال الطَّيبي: أي إنما تقلب إذا كانت الثانية متحركة، شبه الواو الثانية بالألف
لسكونها في أن لا أثر لها، أما أو يصل فحركتها أخرجتها من ذلك الحكم. اهـ
قوله: (واستدل به على تفضيل الملائكة على الأنبياء ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: الجواب أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك أن يكون الأمر على ما
اعتقده ووسوس به، فقد علل إبليس منع الشجرة بأنه كراهية أن يخلد أو يكونا ملكين
وهو كاذب فيه، ولم يقرر الله تعالى قوله بل أشَار إلى كذبه بقوله (فَدَلاّهُمَا
بِغُرُورٍ) فدل على أن تفضيل الملائكة من جملة غروره. اهـ
قوله: (وقيل: أقسما له بالقبول).
قال ابن المنير: إنما يتم هذا لو لم يذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما إذا ذكره
فلا يتم إلا بأن يسمي قبول النصح نصحاً للمقابلة كما قرئ (ووعدنا موسى) جعل
التزامه بالوعد وحضوره وعداً. اهـ
قوله: (وقيل: أقسما عليه بالله إنه لمن الناصحين وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة).
قال ابن المنير: فيكون في الكلام لف، لأن آدم وحواء لا يقسمان بلفظ المتكلم بل
بلفظ الخطاب. اهـ
وقال الطَّيبي: هو إلى التغليب أقرب. اهـ
قوله: (وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف فى ثياب عصينا
الله تعالى فيها، فنزلت).
أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن جبير، وأصله في صحيح مسلم من حديث ابن عباس.
(3/416)
قوله: (ولِبَاسًا يتجملون به).
قال الطَّيبي: إنما عطف (وَرِيشُا) على (لِبَاسًا) ليؤذن بأن الزينة أيضاً غرض
صحيح كقوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً)، وكما أن ستر العورة مأمور به كذلك أخذ الزينة مأمور به قال تعالى
(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). اهـ
قوله: ((ذلك) صفته)
قال الطيبي: قال نور الدين الحكيم: الوصف بذلك غير سديد على الظاهر، لأن حق
الموصوف أن يكون أخص، وذلك أخص من لباس التقوى، وقد صرحوا بأن عامهم هذا جائز
والعام هذا غير جائز والمضاف إلى المعرف باللام أحط درجة من المعرف باللام.
قال أبو البقاء: يجوز ذلك على تأويل المذكور أو المشار إليه.
وقال صاحب الكشاف: كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه، كما تقول: زيد هذا قائم.
اهـ
قوله: (كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها).
قال الطَّيبي: يريد أن قوله (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) وضع موضع مصدر
(يَفْتِنَنَّكُمُ) وضعاً للسبب موضع المسبب، أي: أوقعه في المحن والبلاء بسبب
الإخراج. اهـ
قوله: (لا يقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا).
قال أبو حيان: لأنه تعالى أثبت أنَّهم يروننا من جهةٍ نحن لا نراهم منها، وهي الجهة
التي يكونون فيها على أصل خلقهم من الأجسام اللطيفة، ولو أريد نفي رؤيتنا على
العموم لم يتقيد بهذه الحيثية، وكان يكون التركيب: إنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا
ترونهم، وأيضاً فلو فرض أن في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي
المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان. اهـ
(3/417)
قوله: (فى كل وقت سجود، أو مكانه وهو
الصلاة).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (مَسجِد) مصدر ميمي، والوقت مقدر، واسم مكان كنى
به عن الصلاة، وإليه الإشارة بقوله: وهو الصلاة. اهـ
قوله: (وعن ابن عبَّاسٍ رضى الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك
خصلتان: سرف ومخيلة).
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في تفسيره.
قوله: (وانتصابها على الحال).
قالي أبو البقاء: العامل فيها (للذِين) أو (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إذا جعلته
خبراً أو حالاً، والتقدير: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم
القيامة، أي الزينة يشاركون فيها في الدنيا وتخلص لهم في الآخرة، ولا يجوز أن تعمل
في (خَالِصَةً) (زِينَةَ اللهِ) تعالى لأنَّها وصفت بقوله (التِي) والمصدر إذا وصف
لا يعمل، ولا قوله (أَخْرَجَ) لأجل الفصل الذي بينهما وهو قوله (قُل)، وأجاز أبو
على أن يعمل (حَرَّم) وهو بعيد لأجل الفصل أيضاً. اهـ
قوله: ((ما لم ينزل به سلطاناً) تهكم بالمشركين).
قال ابن المنير: لأنه أجري مجرى ما له سلطان إلا أنه لم ينزل لأنه نفى أن ينزل
السلطان ولم ينف السلطان، وقياسه أن يكون كقوله:
على لاحبٍ لا يهتدي بمناره. اهـ
قوله: (أقصر وقت).
قال الطَّيبي: يريد أن تقدير الساعة ليس للتحديد بل للمثل لأقصر وقت، لأن التقديم
والتأخير لا يتصور ثمة. اهـ
قال الزجاج: ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء
(3/418)
الأوقات. اهـ
قوله: (ورتبوه عليه).
قال الطَّيبي: على وجه التسبب لأن إخبار الله بقوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سبب لعلمهم
بالمساواة وحملهم على أن يقولوا وإذا كان كذلك فقد ثبت حينئذ أن لا فضل لكم علينا
في استحقاق الضعف. اهـ
قوله: (وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال (مَا وَعَدَنا) ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني أن الله تعالى وعد المؤمنين الثواب والكافرين العقاب فلو قال:
وعدكم لاختص بالعقاب، لأن المخاطبين أصحاب النار، كما أن (وَعَدَنَا) مختص بالثواب
يدل عليه ذكر الجنة والنار في قوله (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ) فأطلق ليتناول الثواب والعقاب وما يتصل بهما، يعني هل وجدتم المواعيد
كلها صدقاً؟. اهـ
قال ابن المنير: ينعكس ويرد في قوله (وعَدَنَا) ولو ذكر المفعول في الثاني أو في
الأول لم ينف إرادة جميع ذلك، والوجه حذفه تخفيفاً واستغناءً بالأول. اهـ
قوله: (أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله تعالى (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِةِ) جزاء
شرط محذوف لدلالة قوله تعالى (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ
النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا) وكلاهما كالتفصيل لقوله تعالى (يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ)، وإنما قدر: نظروا دون (صُرِفَتْ) للمقابلة ليؤذن بأن النظر إلى
أصحاب الجنة وجد منهم على سبيل الرغبة وميل النفس وأصحاب النار بخلافه. اهـ
قوله: (من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة).
قال الحلبي: يعني أنَّ الإفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه من المائعات،
فقدر: من سائر الأشربة، ليصح تسليط الإفاضة عليه. اهـ
قوله: (أو من الطعام، كقوله: علفتها تبناً وماءً بارداً)
(3/419)
أي على تضمين (أفِيضُوا) معنى (ألقوا)
ليصح انصبابه على الشراب والطعام معاً، أو على تقدير فعل ألقوا بعد (أو)، والوجهان
جاريان في البيت وفي كل ما شابهه.
قال أبو حيان: والصحيح منهما التضمين لا الإضمار. اهـ
قال الطَّيبي: وهذا المصراع أنشد تمامة ابن قتيبة في كتاب مشكل القرآن عن الفراء:
حتى شتت همالة عيناها.
قوله: (يفعل بهم فعل الناسين).
قال الطَّيبي: يعني إنه تمثيل، لأنه متعال أن ينسى شيئاً، لكن شبه معاملته مع
هؤلاء المتكبرين بمعاملة من ينسى عبده من الخير فلا يلتفت إليه. اهـ
قوله: (عالمين بوجه تفصيله).
قال الطَّيبي: يعني أوقع (عَلَى عِلْمٍ) حالاً عن ضمير الفاعل في (فَصَّلْنَاهُ)
ليكون كناية عن كون الكتاب حكيماً غير ذي عوج، لأن الفاعل إذا كان عالماً بما يفعل
متقناً فيه جاء فعله محكماً مستقيماً. اهـ
قوله: (أو لأنَّ اللفظ يحتملها).
قال الطَّيبي: أي يحتمل أن يكون النهار ملحقاً بالليل وأن يكون الليل ملحقاً
بالنهار. اهـ
قوله: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء ... ) الحديث.
أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث سعد، وفيه: لا أدري (وحسب المرء أن يقول ... ) هو
من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصدره في سنن أبي داود وابن ماجه
وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم.
قوله: (لأن الرحمة بمعنى الرحم).
(3/420)
بالضم، قال تعالى (وَأَقْرَبَ
رُحْمًا)، وفي نسخة بمعنى الترحم، وهي عبارة أبي البقاء.
قال الزجاج: إن الرحمة والغفران والعفو في المعنى واحد. اهـ
وقال الأخفش: إن الرحمة في معنى المطر. اهـ
ذقوله: (أو على تشبيهه بفعيل الذي بمعنى مفعول).
يعني فإنه يستوي في المذكر والمؤنث كجريح، وأسير، وقتيل، وقيل: هو نفسه فعيل بمعنى
مفعول.
قوله: (أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره).
قال الزجاج: هذا غلط كل ما قرب من مكان أو نسب يجوز فيه التذكير والتأنيث. اهـ
قوله: (فإن المقل للشيء يستقله).
قال صاحب الكشاف: حقيقة أقله: جعله قليلاً في زعمه، كقولك: أكذبه، إذا جعله كاذباً
في زعمه. اهـ
وقال نور الدين الحكيم: أقله: وجده قليلاً واعتقده قليلاً، من الجعل الاعتقادي
كأكذبه.
قوله: (وإفراد الضمير باعتبار اللفظ).
لأنَّ (سحاباً) لفظه مفرد.
قوله: ((لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لأجله).
قال أبو حيان: جعل اللام لام العلة، ولا يظهر، وفرق بين قولك: سقت لك مالاً، وسقت
لأجلك مالاً، فإن الأول معناه: أوصلته لك وأبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله
إليه، بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق، ألا ترى إلى صحة قول
القائل: لأجل زيد سقت لك مالا. اهـ
(3/421)
قال الحلبي: وهذا واضح. اهـ
قوله: (بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق).
قال الطَّيبي: فالباء على الأول بمعنى (في)، وعلى الآخرين كما في قولك: كتبت
بالقلم. اهـ
قوله: ((لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في
الإِثبات).
عبارة الكشاف: فإن قلت: لم قال (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ولم يقل (ضلال) كما قالوا؟
قلت: الضلالة أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي
شيء من الضلال، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة. اهـ
قال صاحب الانتصاف: قوله: نفيها أبلغ لأنَّها أخص، لا يستقيم، فإن نفي الأعم أخص
من نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فلا يستلزمه، لأن الأعم لا يستلزم
الأخص، فإذا قلت: هذا ليس بإنسان، لا يلزمه سلب الحيوانية عنه، ولو قلت: هذا ليس
بحيوان، لم يكن إنساناً، والحق أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال لأنَّها لا تطلق
إلا على الفعلة منه، والضلال يصلح للقليل والكثير، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى
لا من جهة كونه أخص بل من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. اهـ
وفي حاشية الطَّيبي: عن صاحب الكشاف روى أنه قال: نفى أن يكون معه طرف من الضلال
وأثبت أنه في الغاية القصوى من الهدى حيث كان رسولاً من رب العالمين، وفيه إظهار
لمكابرتهم وفرط عنادهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال المبين
الظاهر شأنه لا ضلال بعده.
(قال صاحب الفرائد: جعل التاء في الضلالة بمنزلة التمرة والفعلة في أنَّها
للوحدة)، وقد قال صاحب المجمل: الضلال والضلالة بمعنى واحد.
وقال صاحب المثل السائر: الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين
واحدها تاء التأنيث فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد
الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة
مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالاً وضلالة كان القولان سواء، لأن الضلالة هنا ليست
عبارة عن المصدر بل عن المرة الواحدة، فإذا نفى نوح صلى الله عليه وسلم عن نفسه
المرة
(3/422)
الواحدة من الضلال فقد نفى ما فوق ذلك
من المرتين والمرات الكثيرة.
وقال صاحب الفلك الدائر على المثل السائر: الذي ذكره غير صحيح لا إن كانت الضلالة
مصدراً ولا إن كانت المرة الواحدة، أما الأول فلأنهما لما دلا على المصدر لم تكن
دلالة أحدهما أبلغ من الآخر، لأن المصدر يدل على الماهية فقط فإذا نفى نفيت
الماهية، وأما الثاني فلا يصح أيضاً، لأنه لو قال القائل: ما عندي تمرة، يعني ما
عندي تمرة واحدة وعندي تمر كثير يصح، لأنه لو أظهر ما أضمر فقال ليس عندي تمرة
واحدة بل تمرات لم يكن مناقضاً، وقول نوح صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ) بمعنى ضلالة واحدة لم يكن نافياً لكونه ضلالاً، لأنه إذا كانت الضلالات
مختلفة الأنواع لم يفده قوله لجواز أن لا تكون ضلالة واحدة بل ضلالات مختلفة
متنوعة، ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة فقد صدق عليه أنه انتفت عنه ضلالة واحدة.
وقال صاحب التقريب: في قول صاحب الكشاف نظر، لأنَّ الضلال إما أن يراد الكثرة أو
الجنس، فعلى الأول لا نسلم أنَّ الواحد أخص بل الصحيح العكس، لأنه كلما وجدت
الكثرة وجد الواحد، ولا ينعكس، فالواحد أعم ويتم الجواب، إذ يلزم من نفي العام نفي
الخاص من غير عكس، فكان نفيها أبلغ، أي: ليس بي شيء من الضلال، وعلى الثاني يصح أن
الضلالة أخص ولكن لا يتم الجواب، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، ولما تضمن
كونه رسولاً مع كونه مهتدياً صح الاستدلال به عن انتفاء الضلالة.
وقال الطَّيبي: العجب من هؤلاء الفضلاء كيف يتكلمون بما لا جدوى منه، وطولوا من
غير نظر إلى المقام، فإن الزمخشري إنما يتكلم بمقتضى الحال ومطابقة الجواب للسؤال،
ولا يعتبر مفردات اللفظ، وبيانه أن القوم لما أثبتوا له نوعاً من الضلال وهو كونه
ضلالاً مبيناً لا مطلق الضلال كما توهموه، يدل عليه قوله السابق: وصفوه بالضلال
المبين والظاهر شأنه لا ضلال بعده، والجواب إنما يطابق إذا كان أبلغ منه، فإذا لم
تحمل الضلالة على ما قدره فمن أين تفيده الأبلغية، ولو لم ترد المبالغة لكان مقتضى
الظاهر أن يقال في جواب (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ): ليس بي ضلال، فلما
أثبتوا النوع نفى الواحدة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام نفى الجنس لتنتفي الماهية،
فيحصل المقصود؟ قلت: إذاً يفوت مقتضى العدول من لفظ الضلال إلى الضلالة وإرادة
النزرة منها لأن نفي الشيء مع الصفة في مقام نفيه أبلغ من نفيه وحده، ولأن نفي
(3/423)
الواحدة لإرادة انتفاء الماهية أبلغ من
العكس لمكان الكناية واستلزام الاستغراق بحسب إفراد الجنس كما قال صاحب المثل
السائر: فإذا نفى نوح عليه الصلاة والسلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلالة فقد
نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة، فظهر أن التركيب إنما يفيد المطلوب إذا
وقع جواباً مع إرادة المبالغة لا بالنظر إلى اللفظ من حيث هو، ألا ترى أن قوله
تعالى (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إنما كان أبلغ من قوله (إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ) من حيث كونه وقع جواباً له، ولو نظر إلى اللفظ فقط كان هو أحط
منه بدرجات كثيرة، وأما مسألة التمرة فإذا قال القائل: ليس عندي تمرة، ابتداءً يصح
ما قاله الزاعم، أما لو قاله على سبيل الإنكار لمن يتهمه بإدخار التمر يصح ما قال
والحاصل أن اقتضاء المقام ينحي بالهدم لجميع ما بنوه، ولما كان الإمام الداعي إلى
الله تعالى ذا حظ وافر من علم البيان قال في تفسيره: فإن قيل: إن القوم قالوا
(إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا
وعدل إلى قوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ)؟ قلنا: لأن المراد بقوله (لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ) أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة.
وقال القاضي: (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أيّ شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا
في الإثبات. اهـ
قوله: (استدراك باعتبار ما يلزمه).
جواب سؤال تقديره: إنَّ (لكن) حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً
فأين هذا المعنى في الآية؟ وتقرير الجواب: أن التغاير حاصل من حيث المعنى، لأن
معنى قوله (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه على صراط مستقيم، كأنه قال: ليس
بي ضلالة فقط لكني على الهداية ألبتة، كقولك: جاءني زيد لكن عمرواً غائب. قاله
الطَّيبي.
قوله: (والأول أبلغ لدلالته على الثبات).
قال الطَّيبي: لدلالة الصفة المشبهة على الثبوت (والعامي على العمى حادث لأن اسم
الفاعل دونها في الدلالة على الثبوت). اهـ
قوله: (استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سؤال ... ) إلى آخره.
(3/424)
قال الطَّيبي: حاصله إن كان الفاء
رابطاً لفظياً فالإستئناف رابط معنوي.
قال صاحب الفرائد: إنما حسن هذا لأنَّ قصة نوح عليه الصلاة والسلام ابتداء كلام،
فالسؤال غير مقتضى الحال، وأما قصة هود عليه الصلاة والسلام فكانت معطوفة على قصة
نوح عليه الصلاة والسلام فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هودٌ ما قال نوحٌ أم
قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال هود لقومه؟ فقيل: قال ما قال نوح لقومه (يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). اهـ
قوله: (إذا كان من أشرافهم من آمن).
قال الطَّيبي: يعني إنما وصف الملأ من قوم هود دون قوم نوح ليمتاز الذين كفروا من
الذين لم آمنوا، ولما لم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن لم يفتقر إلى التفرقة.
قال الإمام بهاء الدين الكاشي: وفيه نظر، لأن قوله تعالى في سورة المؤمنين
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) وارد في قوم نوح، فهو لا يساعد هذا الجواب. اهـ
قوله: (قد وجب أو حق عليكم).
قال الطَّيبي: يعني استعمال (وَقَعَ) في الرجس والغضب مجاز من الوجوب الذي هو
اللزوم من إطلاق السبب على المسبب، كاستعمال الوجوب الشرعي لأنه في الأصل للوقوع،
ويجوز أن تكون استعارة تبعية، شبه تعلق الرجس والغضب بهم بنزول جسم من علو وهو
المراد من قوله: أو قد نزل عليكم. اهـ
قوله: (تعريض بمن آمن منهم).
قال الطَّيبي: يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة
هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده. اهـ
قوله: (وضعوا (آمنتم به) موضع (أُرسل به)).
قال ابن المنير: لو طابقوا لقالوا: إنا بالذي أرسل به كافرون، لكن عدلوا عن ذلك
لما فيه من إثبات رسالته وهم يجحدونها، وقد ثبت مثل ذلك على وجه التهكم في قوله
(3/425)
(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، لكن هؤلاء بالغوا في التحرز حذراً من النطق بثبوت
الرسالة. اهـ
قوله: (تنفحج).
بفاء وحاء مهملة ثم جيم.
قال في الصحاح: التفحج مثل التفشج وهو أن يفرج بين رجليه. اهـ
قوله: (سقبها).
السقب: الذكر من أولاد الإبل.
قوله: (أي: وأرسلنا لوطاً -إلى قوله- أو واذكر لوطاً، و (إذ) بدل منه).
قال الطَّيبي: على هذا عَطَفَ جملةَ القصة على مثلها، وعلى الأول من عطف بعض
مفردات الجملة على مثله، أي: لقد أرسلنا نوحاً ولوطاً، وقوله (إذ) ظرف لـ (أرسلنا)
فمعناه الزمان أو القرن الذي أرسل فيه لوط، قيل إن الوقت الحقيقي لقوله
(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) هو الجزء المعين من الزمان الذي وقع فيه هذا الكلام،
وذلك الجزء لا يصح أن يكون ظرفاً للإرسال، لكن كما أن ذلك الجزء زمان هذا القول
فكذلك ذلك اليوم وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فيتحقق من هذا التقرير معنى
الأين الحقيقي وغير الحقيقي، وعلى عطف القصة على القصة و (إذ) بدل يكون أفيد، وذلك
أن ذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لتثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم
وتسليته مما يقاسي من قومه، أي: اذكر تلك الحالة وصورها في نفسك لتعلم أن الأنبياء
السالفة درجوا على ما أنت عليه مع القوم. اهـ
قوله: (والباء للتعدية).
قال أبو حيان: معنى التعدية هنا قلق جداً، لأن الباء المعدية من الفعل المتعدي إلى
واحد بجعل الفعل الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء، فهي كالهمزة، فإذا
قلت: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت الحجر يصك الحجر، وكذلك: دفعت زيداً بعمرو عن
خالد، معناه: أدفعت زيداً عمروا، أي: جعلت زيداً يدفع عمرواً عن
(3/426)
خالد، فللمفعول الأول تأثير في الثاني،
ولا يتأتى هذا المعنى هنا إلا بتكلف. اهـ
قوله: (والثانية للتبعيض).
قال الطَّيبي: فيكون بدلاً من محل (من أحد)، أي: ما سبقكم بها بعض العالمين، أي:
أنتم تفردتم لهذا الفعل من بين من عداكم من العالمين. اهـ
قوله: (والجملة استئناف).
قال الطَّيبي: أي ابتداء، وهو الاستئناف اللغوي لا الاصطلاحي. اهـ
قوله: (و (شهوة) مفعول له، أو مصدر فى موضع الحال بمعنى: مشتهين).
قال الطيبي: الفرق بينهما أنه إذا قدر حالاً كان المطلوب مجرد الذم من متابعة
الشهوة والجري على الطبيعة، وإذا قدر مفعولاً له يعود معناه إلى تقبيح توخى قلب
الحكمة لأن الحكمة في موضعها أن تكون ذريعة إلى بقاء النوع وتكثير النسل، أو وسيلة
إلى التعفف والتخلي للعبادة، فإذا جعل الغرض الأصلى هو الشهوة كان أسمج وأقبح من
طلب مجرد الشهوة. اهـ
قوله: (سدوم).
قال الشيخ سعد الدين: بفتح السين قرية قوم لوط، والذال المعجمة رواية الأزهري دون
غيره. اهـ
قوله: (وكان يقال له خطيب الأنبياء).
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً
يقول: ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.
قوله: (وإرهاصاً).
قال الطَّيبي: هو أن يظهر الله تعالى على يد من سيصير نبياً خوارق العادات. اهـ
قوله: (أو أصلحوا فيها ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: بيان لكون المعنى على الظرفية وإلا فالتحقيق أنه من إضافة
(3/427)
المصدر إلى الفاعل، حيث جعل الأرض
مصلحة على الإسناد المجازي، كما جعل الليل والنهار ماكرين. اهـ
قوله: (بكل طريق من طرق الدين).
قال الطَّيبي: يعني القعود على الصراط تمثيل، مَثَّلَ إغوائهم الناس عن دين الحق
بكل ما يمكن من الحيل بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة فيكمن لهم من حيث لا
يدرون. اهـ
وقال أبو حيان: حمل القعود والصراط على المجاز، والظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا
يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه
ويقولون: إنه كذاب. اهـ
قوله: (وقيل كانوا يجلسون على المراصد ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فعلى هذا لا يكون تمثيلاً، ولا يكون (تَصُدُّونَ) حالاً ولا (عَن
سَبِيلِ اللهِ) من وضع الظاهر موضع المضمر كما في الوجه السابق، و (تُوعِدُون)
استئناف لبيان المقتضى، كأنه لما قال لهم: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ).
قالوا: لم ذلك؟
فأجيب: لأنكم توعدون وتصدون عن سبيل الله وعن دين الله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: على هذا الوجه هل يكون (تُوعِدُون) وما عطف عليه حالاً؟
فقيل: لا بل استئنافاً، والأظهر الحال. اهـ
قوله: (لكن غلبوا الجماعة ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: وقد يستعمل عاد من أخوات كان بمعنى صار فلا يستدعى الرجوع إلى
حالة سابقة بل عكس ذلك وهو الانتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كأنهم قالوا:
أو لتصيرن كفاراً في ملتنا. اهـ
قوله: (وعلى ذلك أُجْريَ الجواب).
(3/428)
قال الطيبي: أي أجابهم كما أوردوا عليه
كلامهم من التغليب ليتطابقا، ويجوز أن يكون على المشاكلة. اهـ
قوله: (واستأنف الجملتين).
قال الشيخ سعد الدين: يعني ابتداء (الَّذِينَ كَذَّبُوا شعَيبًا) من غير عطف. اهـ
وقال الطَّيبي: إنه تعالى لما رتب العذاب بأخذ الرجفة على التكذيب والعناد وتركهم
هامدين لا حراك بهم أتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثو؟ فقيل:
الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، أي: استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا
في ديارهم.
ثم سأل: أختص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: الذين كذبوا شعيباً كانوا هم
الخاسرين، أي: اختص الدمار بهم، فجعلت صلة الأول ذريعة إلى تحقيق الخبر، كقول
الشاعر:
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
ولذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم بقوله (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) فارق
تقوى الحكم على التخصيص، وجعلت صلة الثانية علة لوجود الخبر نحو قولك: الذين آمنوا
لهم جنات النعيم والذين كفروا لهم دركات الجحيم. اهـ
قوله: (ثم أنكر على نفسه).
قال الطَّيبي: أي جرد من نفسه شخصاً وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه كما فعل
امرئ القيس في قوله:
تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد. اهـ
قوله: (ويسرناه لهم من كل جانب).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن ذكر السماء والأرض لتعميم الجهات لا لتبين ما منه
البركات كما هو رأي من فسرها بالمطر والنبات. اهـ
قوله: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) عطف على قوله (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً)).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الفرائد: ما ذكر يشكل بما قيل إن لهمزة الاستفهام صدر
(3/429)
الكلام فلم يجز عطف ما بعدها على ما
قبلها، وإنما الواجب أن يقدر المعطوف عليه بعد الهمزة وقبل الواو.
وقال صاحب الإيجاز: إنما تدخل ألف الاستفهام على فاء العطف مع منافاة العطف
للاستئناف لأن المتنافي في المفرد إذ الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام
الأول والاستئناف يخرجه عن أن يكون منه ويصح ذلك في عطف جملة على جملة لأنه على
استئناف جملة على جملة.
وقال الطَّيبي: الحق أن هذه الهمزة مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير،
فتدخل بين الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر والحال وعاملها، وقد نص عليه الزجاج في
قوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ
مَنْ فِي النَّارِ). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: اختلفت كلمتهم في الواو والفاء وثم الواقعة بعد همزة
الاستفهام، فقيل: عطفت على مذكور قبلها لا مقدر بعدها بدليل أنه لا يقع ذلك قط في
أول الكلام وقيل بل بالعكس لأن الاستفهام له صدر الكلام، وصاحب الكشاف يحملها في
بعض المواضع على هذا وفي بعضها على ذلك بحسب مقتضى المقام وسياق الكلام، ولم يلزم
بطلان صدارة الهمزة إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه وتعلق معناها
بمضمونه، غاية الأمر أنَّها توسطت بين الكلامين المتعاطفين لإفادة إنكار جمع
الثاني مع الأول، أو وقوعه بعده متراخياً أو غير متراخ، ولا ينبغي أن يخفى على
المحصل أن هذا مراد من قال إن الهمزة مقحمة مزيدة للإنكار أو التقرير، أي مقحمة
على المعطوف مزيدة بعد إعتبار عطفه، ولم يرد أنَّها مزيدة بمنزلة حروف الصلة غير
مذكورة لإفادة معناها.
فإن قيل: هلا جعل المعطوف عليه (فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فإنه
أقرب؟ قلنا: لأن مساق (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى) إلى (يَكْسِبُونَ) مساق
التكرير والتأكيد بخلاف ما قبله فإنه لبيان حال القرى وقصة هلاكها قُصدا، فالعطف
عليه أنسب وإن كان هذا أقرب. اهـ
قوله: (بَيَاتًا ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (بَيَاتًا) إذا جعل بمعنى البتوت فنصب على المصدر من
(3/430)
(يَأْتِيَهُمْ) لكونه نوعاً فيه، أو
على الحال من ضمير (يَأْتِيَهُمْ) لكونه بمعنى اسم المفعول أو من (بَأسُنَا) لكونه
بمعنى اسم الفاعل. اهـ
قوله: (تقرير لقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى)).
قال الطَّيبي: فحينئذ مكر الله تعالى عبارة عما ذكره الله تعالى في دوله (أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ... ) الآيتين، والفاء في (فَلا يَأْمَنُ) للعطف على مقدر،
والهمزة في قوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) للتقريع والتوبيخ يعني: من بعدما
عرفوا ذلك أمنوا واطمأنوا فإذن خسروا لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
اهـ
قوله: (وإنما عدى (يهد) باللام لأنه بمعنى: يبين).
قال الطَّيبي: وذلك أنه يتعدى إلى المفعول الثاني باللام أو بـ (إلى)، وهنا عدى
إلى الأول باللام. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: الظاهر أن اعتبار التضمين إنما هو على قراءة النون حيث ذكر
المفعول الثاني، وأما على قراءة الياء فهو من قبيل التنزيل منزلة اللازم ولا حاجة
إلى تقدير المفعول، أي: ألم يبين لهم هذا البيان الطريق المستقيم. اهـ
قوله: ((ونطبع على قلوبهم) عطف على ما دل عليه (أولم يهد) أي: يغفلون عن الهداية).
قال أبو حيان: هذا الوجه ضعيف، لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صح أن يكون على
الاستئناف من باب عطف الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام،
وهو الوجه الثاني من كلام المصنف. اهـ
قوله: (أو منقطع عنه بمعنى: ونحن نطبع).
هذا ما رجحه أبو حيان.
وقال الطَّيبي: المختار أن تكون الجملة منقطعة واردة على الاعتراض والتذييل: أي:
ونحن نطبع على قلوبهم، أي: من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلوب من لم نرد منه
الإيمان حتى لا يعتبر بأحوال الأمم السالفة ولا يلتفت إلى الدلائل الدالة كما شوهد
من هؤلاء حيث آمنوا واطمأنوا. اهـ
(3/431)
وقال الشيخ سعد الدين: معنى الانقطاع
في هذا الوجه أنه استئناف واعتراض ولا يعتبر في مثله معطوف عليه معين بخلاف الأول.
اهـ
قوله: (ولا يجوز عطفه على (أصبناهم) على أنه بمعنى: وطبعنا لأنه في سياقه جواب
(لو) لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم).
قال الطَّيبي: أي لأنه لو عطف ما في خبره (أو) لدخل في حكمه، وهي لامتناع الشىء
لامتناع غيره، فيلزم أن القوم لم يكونوا مطبوعاً على قلوبهم، والحال أنهم مطبوعون.
وقال في الانتصاف: يجوز عطفه عليه ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولو
كانوا كفاراً إذ ليس الطبع من لوازم الكفر والاقتراف، إذ الطبع هو التمادي في
الكفر والإصرار حتى ييأس من قبول صاحبه للحق، وليس كل كافر ولا مقترف بهذه المثابة
بل يهدد الكافر بأن يطبع على قلبه، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين: الإصابة ببعض
الذنوب، والطبع على القلوب، وهذا الثاني وإن كان نوعاً من الإصابة بالذنوب فهو أشد
كما قال تعالى (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
وقال صاحب التقريب: في كلام الزمخشري نظر، لأنَّ المذكور من كونهم مذنبين دون
الطبع، وأيضاً جاز أن يراد: لو شئنا لزدنا في الطبع على قلوبهم أو لأدمنا.
وقال الطَّيبي: هذا مردود، لأن الكلام وارد على التوبيخ والتهديد بالإهلاك
والاستئصال لقوم ورثوا ديار قوم هلكوا بالاستئصال وهؤلاء استخلفوهم واقتفوا آثارهم
بمثل تلك الذنوب وهم أهل مكة لأن قوله (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) إما مظهر
وضع موضع المضمر، أو عام فيدخلون فيه دخولاً أولياً، ولا شك أنَّ الطبع وازديادهم
ليس من الإهلاك في شيء حتى يهددوا به. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: استدل في الكشاف على نفي كونه عطفاً على جواب (لو) بأنه
يستلزم انتفاء كونهم مطبوعاً على قلوبهم لما تعطيه كلمة (لو) من انتفاء جملتها،
واللازم باطل لقوله تعالى (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي مصرون على عدم القبول وكقوله
تعالى (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) على ما يعم أهل
القرى من الوارثين والموروثين وقوله (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) لدلالته على أن
حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منهم ألبتة، وبهذا يندفع الاعتراض بأن غاية
الأمر كونهم كفاراً مذنبين ولا يلزم
(3/432)
كونهم مطبوعاً على قلوبهم لأن معناه
التمادي والإصرار على الكفر بحيث لا يرجى زواله، وأما الدفع بأنَّ الكافر مخذول
غير موفق ولا معنى للطبع سوى هذا، غاية الأمر أنه قد يكون دائماً وقد يكون زائلاً
كما في الكافر الذي وفق للإيمان ففي غاية الفساد. اهـ
وقال أبو حيان: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون معطوفاً على (أصبنا) إذا كان بمعنى
نصيب، فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما قال تعالى
(تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) أي: إن يشاء، يدل
عليه قوله تعالى (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا).
قال أبو حيان: فجعل لو شرطية بمعنى (إن) ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع
غيره، ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب، وهذا الذي قاله ابن الأنباري رده الزمخشري من
جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون (وَنطبَع) بمعنى: وطبعنا، فيكون قد عطف المضارع على
الماضي لكونه بمعنى الماضي، وابن الأنباري جعل التأويل في (أصبنا) الذي هو جواب
(لوْ نشَآءُ) فجعله بمعنى نصيب، فتأول المعطوف عليه وهو الجواب ورده إلى المستقبل،
والزمخشري تأول المعطوف ورده إلى المضي، وأنتج رد الزمخشري أن كلا التقديرين لا
يصح.
قال: وما رد به الزمخشري ظاهر الصحة، وملخصه: أن المعطوف على الجواب جواب سواء
تأولنا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب (لو) لم يقع بعدُ سواءً كانت حرفاً لما كان
يقع لوقوع غيره أم بمعنى (إن) الشرطية، والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع
فلا يصح أن يعطف على الجواب فلو تأول (وَنَطْبَعُ) على معنى: ونستمر على الطبع على
قلوبهم، أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع. اهـ
قوله: (حال إن جعلنا (القرى) خبراً، وتكون إفادته بالتقييد بها).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنه جعل شرط كون (تِلْكَ
الْقُرَى) كلاماً مقيداً تقييده بالحال، وإذا جعل (نقُصُّ) خبراً ثانياً انتفى ذلك
الشرط إلا أن يريد: تلك القرى المعلومة حالها وصفتها، على أن اللام للعهد، لكنه
حينئذ يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال.
وقال الطَّيبي: هذا وهم، لأن ذلك على الوجه الأول، لأن المشهور أن الحال فضلة في
فائدة الجملة، بخلافه إذا كان خبراً بعد الخبر، لأن القرى حينئذ بمنزلة حلو في
قولك: هذا حلو حامض، فلا يكون كلاماً تاماً.
(3/433)
قال الزجاج: الحال هنا من لطيف النحو
وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: هذا زيدٌ قائماً فإن قصدت أن تخبر من لم يعرف زيداً أنه
زيد لم يجز أن يقول: هذا زيدٌ قائماً، لأنه يكون زيد ما دام قائماً فإذا زال عن
القيام فليس بزيد، وإنما يقول ذلك للذي يعرف زيداً فيعمل في الحال التنبيه أي:
أنبه لزيد في حال قيامه، أو أشير إلى زيد في حال قيامه لأن هذا إشارة إلى ما حضر
يريد بقوله أحضر تقييد المشار إليه بالحال وإلا فلا فائدة في الجملة لأن السامع
يعرفها، وكذا في الآية المعنى: نخبرك عن القرى التي عرفتها في حال أنَّا قاصُّون
بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وإذا كان المقصود من الإيراد هذا فلا
بد من ذكر الحال.
فبطل قوله: لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقرير ما قاله المصنف: لا خفاء أنَّ الكلام فيما إذا أريد
الجنس لا تلك القرى المعلومة حالها وقصتها، أو تلك القرى الكاملة في شأنها مثل
(ذَلِكَ الكتابُ) فإن الكتاب بمنزلة الموصوف، واعترض بأن الحال راجع إلى تقييد
المبتدأ لأن العامل فيه ما في اسم الإشارة من معنى الفعل، ولو سلم فالسؤال إنما
يندفع على تقدير كون (نقُص) حالاً لا خبراً بعد خبر، والقول بأن حصول الفائدة
بانضمام الخبر الثاني الذي هو بمنزلة الجزء على طريقة هذا حلو حامض أي مر فالسؤال
إنما هو على تقدير الحالية لأن الحال فضلة ربما يتوهم عدم حصول الفائدة بها ليس
بشيء لظهور أن ليس هذا من قبيل حلو حامض بمعنى مر، بل كل من الخبرين مستقل. اهـ
قوله: (والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان).
قال الطَّيبي: هو تفسير لقوله: لتأكيد النفي، يعني جاء باللام تأكيد لهذا المعنى
الذي يعطيه التركيب. اهـ
قوله: (والآية اعتراض).
قال الشيخ سعد الدين: إن كان الضمير للناس، وإن كان للأمم المذكورين من تتمة
الكلام السابق. اهـ
وقال الحلبي: فيه نظر، لأنه إذا كان الأول خاصاً ثم ذكر شيء مندرج فيه ما بعده وما
(3/434)
قبله كيف يجعل ذلك العام معترضاً بين
الخاصين. اهـ
قوله: (أو لأكثر الأمم المذكورين).
قال الطَّيبي: فعلى هذا تكون الجملة تتميماً لا اعتراضاً.
قال: وعلى الوجهين قوله (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ
وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) من باب الطرد والعكس إن فسرنا الفاسقين
بالناكثين. اهـ
قوله: (ذا الحفاظ).
قال الجوهري: يقال أنه لذو حفاظ: إن كانت له أنفة. اهـ
قوله: (الضمير للرسل فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) أو للأمم).
قال الطيبي: الأول أوفق لأن تلك القصص ذكرت تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أصالةً (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ) واعتبار الأمة تبع، ويقويه أنه قيل (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ) ولم يقل: ثم أنشأنا من بعدهم أمة فرعون
وبعثنا إليهم موسى. اهـ
قوله: (فقلب لأمن الإلباس).
قال أبو حيان: أصحابنا يخصون القلب بالضرورة، فينبغي أن ينزه القرآن عنه. اهـ
وقال الحلبي: الناس فيه ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع، والتفصيل بين أن يفيد
معنى بديعاً فيجوز، أو لا فيمتنع. اهـ
قوله: (كقوله: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر).
هو لخداش ابن زهير، وأوله: وتلحق خيل لا هوادة بينها
وقبلها:
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم قرب لا تلين ولا تمرى.
يقال: أمرت الناقة إذا در لبنها، والهوادة: الصلح، والميل، والتهويد: المشي
(3/435)
الرويد مثل الدبيب، والضيطر: الرجل
الضخم الذي لا غناء عنده، والحمر:
العجم، لأن الشقرة غلبت عليهم، والأصل: ويشقى الضياطرة بالرماح.
قوله: (أو لأن ما لزمك فقد لزمته).
قال صاحب التقريب: حقيق في هذا الوجه بمعنى اللازم.
وقال الطَّيبي: بل هو إيماء إلى أن الأسلوب من الكناية الإيمائية كقوله:
فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
يعني: بلغت اللازمة بين الجود والممدوح بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته
فيسير حيث سار، وهو المراد بقول الكشاف: فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو
حقيقاً على قول الحق. اهـ
قوله: (أو للإغراق في الوصف بالصدق ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني كيف ينسحب إلي الكذب ولو كان الصدق مما يعقل لكان الواجب عليه
أن يجعلني قائله، أي: يجتهد لتحصيل ما يوجب أن أكون أنا قائله، فيكون من الاستعارة
المكنية. اهـ
وقال أبو حيان: لا يتضح هذا الوجه إلا إن عنى أن يكون (عَلَى أَنْ لا أَقُولَ) صفة
له، كما تقول: أنا عليَّ قول الحق، أي: طريقي وعادتي قول الحق. اهـ
وقال السفاقسي: هو على المبالغة في اتصاف موسى بالصدق بحيث يجب على الحق أن لا
يقوم به إلا هو. اهـ
قوله: (أو ضمن (حقيق) معنى حريص).
قال ابن المنير: هذا يلائم بين القراءتين. اهـ
(3/436)
قال أبو شامة بعد ذكره هذه الأوجه
الأربعة: هذه وجوه متعسفة، والأوجه (عَلَى) متعلقة بـ (رَسُول).
قال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول، أي: رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا
أقول على الله إلا الحق، وهذا معنى صحيح واضح، وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب
اللغة عن تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول)، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بـ (حَقِيق).
قال أبو حيان: وكلامه فيه تناقض في الظاهر، لأنه قدر أولاً العامل في (عَلَى) أرسلت،
وقال أخيراً: إنهم غفلوا عن تعليق على بـ (رَسُول)، فأما هذا الأخير فلا يجوز عند
البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز، وأما تعليقه بأرسلت
مُقَدَّراً لدلالة لفظ رسول عليه فهو تقدير سائغ ويتأول كلامه أنه أراد بقوله
تعليق (عَلَى) بـ (رَسُول) أنه لما كان دالاً عليه صح نسبة التعليق إليه. اهـ
قوله: (فاغراً).
أي: فاتحاً.
قوله: (وتعريف الخبر وتوسط الفصل).
قال الطَّيبي: فإن قلت ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكداً وبين أن يكون فصلاً؟
قلت: التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي: نحن
نفعل الإلقاء ألبتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لأنه لتخصيص المسند بالمسند
إليه فيعرى عن التوكيد. اهـ
قوله: (وتأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل).
قلت: في جمع المصنف بين العبارتين نظر فإنه ليس في الآية إلا لفظ (نحن) فإما أن
يكون من باب ضمير الفصل، وإما أن يكون من باب تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، ولا
يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الاعراب، وعلى الثاني كالمؤكد.
قوله: (وأرهبوهم).
(3/437)
إشارة إلى أن استفعل في
(اسْتَرْهَبُوهُمْ) كما قال أبو حيان بمعنى أفعل، لا للاستدعاء والطلب كما قال
الزمخشري، لعدم ظهوره هنا، إذ لا يلزم منه حصول المستدعي والمطلوب.
قوله: (وهي مع الفعل).
أي المصدر.
قوله: (بمعنى المفعول)
أي المأفوك.
قوله: (فثبت الحق).
قال الطَّيبي: استعير للثبوت الوقع لأنه في مقابل (وَبَطَل) والباطل زائل،
وفائدتها شدة الرسوخ والتأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام. اهـ
قوله: (أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه تمثيل شبه حالهم في سرعة الخرور وشدته بحال من
أُلقي. اهـ
قوله: (وقرأ حفص (آمنتم) على الإخبار).
قال الكشاف: توبيخاً لهم. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن هذا الإخبار الصوري لقصد التوبيخ على ما يقتضيه
المقام، فإنَّ إلقاء الجملة الخبرية قد يكون لأغراض آخر سوى إفادة الحكم أو لازمه.
اهـ
وقال الطَّيبي: في هذا الخبر معنى التوبيخ كما في الاستفهام ونحوه، لأن الجملة إذا
ألقيت إلى من هو عالم بها تؤكد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام. اهـ
قوله: (أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء).
قال الطَّيبي: فهي استعارة تبعية في (أَفْرِغْ)؛ والقرينة (صَبْرًا)؛ لأن الصبر لا
يستعمل فيه الإفراغ. اهـ
قوله: (أو صب علينا ماءً يطهرنا من الآثام وهو الصبر).
(3/438)
قال الطَّيبي: فعلى هذا الاستعارة
مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن الإفراغ إنما يستعمل في الماء والصبر المكنية. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وقد فهم البعض وحاشاه من سوء الفهم من قوله: كما يفرغ الماء
أن الأول أيضاً كذلك إلا أن الجامع ثمة الغمر وهنا التطهير. اهـ
قوله: (كقول الحطيئة:
ألم أك جاركم وتكون بينى ... وبينكم المودة والإخاء).
أول القصيدة:
ألا قالت أمامة هل تعزى ... فقلت أمام هل غلب العزاء
وقبل هذا البيت:
ألا أبلغ بني عوف بن كعب ... فهل قوم على خلق سواء
ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والرجاء
قوله: (أو اسئئناف أو حال).
قال الطيبي: بإضمار، أي: وهو يذرك، أما الاستئناف فعلى أن تكون الجملة معترضة
مؤكدة لمعنى ما سبق، وأما الحال فمقررة لجهة الإشكال. اهـ
قوله: (وقرئ بالسكون، كأنه قيل ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل العطف على التوهم فإن جواب الاستفهام
كثيراً ما يكون بالجزم وترك الفاء فكان هنا كذلك فعطف عليه (يذرْك) بالجزم كما جعل
(فَأَصَّدَّقَ) بالنصب في جواب التخصيص منزلاً منزلة أصدق بالجزم فعطف عليه
(وَأَكُنْ). اهـ
وقال ابن جني: بل هو كقراءة أبي عمرو (يأمرْكم) بسكون الراء استثقالاً للضمة عند
توالي الحركات. اهـ
قوله: (ثم اشتق منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا).
قال في الصحاح: السنة إذا قلته بالهاء وجعلت نقصانه بالواو فهو من الناقص يقال:
أسنى الناس يسنون إذا لبثوا في موضع سنة، وأسنتوا: إذا أصابتهم الجدوبة بقلب الواو
(3/439)
تاءً للفرق بينهما فقال المازني: هذا
شاذ لا يقاس. اهـ
وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذا وجدوها ثالثة فقلبوها تاء. اهـ
قوله: (أي سبب خيرهم وشرهم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: اعلم أن لفظ الطائر يطلق على الحظ والنصيب سواءً كان خيراً أو شراً،
وهو المراد بقوله: أي سبب خيرهم وشرهم، وعلى التشاؤم وحده وهو الوجه الثاني. اهـ
قوله: (أصلها (ما) الشرطية ضمت إليها (ما) المزيدة للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء).
قال أبو حيان في شرح التسهيل: اختلف النحويون في (مهما) من حيث البساطة والتركيب،
فذهب الخليل إلى أنها مركبة من (ما) التي هي جزاء و (ما) التي تزاد بعد الجزاء
نحو: أيًّا ما، فكان الأصل ما ما فاستقبحوا التكرير فقلبوا الألف الأولى هاء،
ونظير ذلك قولهم: جأجأت جأجيت، ودهدهت الحجر ودهديت قلبوا الألف والهاء الأخيرة
ياء كراهية اجتماع الأمثال، وذهب الأخفش والزجاج والبغداديون إلى أنها مركبة من
(مه) بمعنى: اكفف، و (ما) الشرطية، وذهب بعض النحويين إلى أنَّ مهما اسم بسيط ليس
مركباً من شيء، ووزنه فعلى والألف فيه للإلحاق وللتأنيث.
قال أبو حيان: والذي نختاره أنَّها ليست مركبة وأنها موضوعة كلمة مفردة بسيطة لأن
دعوى التركيب لم يقم عليه دليل، ولأن من يدعي أن أصلها ما ما يضعف لأنه أصل لم
ينطق به في موضع من المواضع. اهـ
وقال ابن هشام في المغني: (مهما) بسيطة، لا مركبة من (مه) و (ما) الشرطية، ولا من
(ما) الشرطية و (ما) الزائدة، ثم أبدلت الهاء من الألف الأولى دفعاً للتكرار،
خلافاً لزاعمي ذلك. اهـ
قوله: (والضمير فى (به) و (بها) لـ (مهما) ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ، وأنثه
باعتبار المعنى).
قال الطَّيبي: قالوا اللطيفة فيه هى أن الضمير الأول لما عاد إلى (مَهْمَا) ولفظه
مذكر ذُكر، والضمير الثاني إنما رجع إليه بعد ما بين بقوله (مِنْ آيَةٍ) فأنث بهذا
الاعتبار. اهـ
(3/440)
وقال ابن هشام في المغني: الأولى أن
يعود ضمير (بِهَا) لـ (ءَايَة). اهـ
قوله: (بعهده عندك وهو النبوة).
قال الشيخ سعد الدين: قيل سميت النبوة عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبي،
وهو عهد أن يستقل بأعبائها، أو لأن فيها كلفةً واختصَاصاً كما بين المتعاهدين، أو لأن
لها حقوقاً تحفظ كما يحفظ العهد، أو أنَّها بمنزلة عهد ومنشور يكتب للولاة. اهـ
قوله: (فاجؤوا النكث).
قال الشيخ سعد الدين: محافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة (لما) من
الفعلين يجب أن يكون ماضياً لفظاً أو معنى؛ لإنَّ مقتضى ما ذكروا من (إذا)
الفجائية في موضع موقع المفعول به للفعل المتضمن فيما أتاه أن يكون التقدير:
فاجأوا زمان النكث؛ أو مكانه وحقيقته، على ما نقل صاحب الكشاف أنه شبه وجود هذا
بوجود ذاك، فكأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان. اهـ
وقال أبو حيان: لا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير، لأن ما دخلت عليه (لما) ترتب
جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل
الابتداء أو الاستمرار حتى تتحقق الغاية، ولذلك لا تصح الغاية في الفعل غير
المتطاول لا يقال: لما قتلت زيداً إلى يوم الجمعة جرى كذا وكذا، وجعل بعضهم (إِلَى
أَجَلٍ) من تمام الرجز أي الرجز كائناً إلى أجل، والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً،
ويقوي هذا التأويل كون جواب (لما) بـ إذا الفجائية، أي: فلما كشفنا عنهم العذاب
المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث، وعلى معنى تغيية الكشف بالأجل المبلوغ لا
تتأتي المفاجأة إلا على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا فتكون المفاجأة بالنكث إذ
ذاك ممكنة. اهـ
وقال الحلبي بعد نقله كلام أبي حيان: وهو حسن، وقد يجاب عنه بأن المراد بالأجل هنا
وقت إيمانهم وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المراد بالكشف: استمرار رفع الرجز،
كأنه قيل: فلما تمادى كشفنا عنهم إلى أجل، وأما من فسر الأجل بالموت أو بالغرق
فيحتاج إلى حذف مضاف تقديره: فلما كشفنا عنهم الرجز إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه،
وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكث فكيفَ يتصور أن يكون
(3/441)
النكث منهم بعد موتهم أو غرقهم. اهـ
وقال السفاقسي: لا نسلم إن ما دخلت عليه (لما) يترتب جوابه على ابتداء وقوعه، بل
قد يترتب على ابتدائه وقد يترتب على انتهائه، فلا يمتنع أن يقال: لما قرأ زيد من
يوم السبت إلى يوم الخميس قرأ عمرو، والكشف يمتد باستمراره فلا يشبه ما ذكره من
المثال. اهـ
قوله: (فأردنا الانتقام).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: إنما قدر أردنا لأن ما تعقبه الإغراق هم إرادة
الانتقام لا هو بعينه فإن الإغراق عين الانتقام، ومنهم من يجعل الفاء لمجرد
التفسير كقوله تعالى (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). اهـ
قوله: (وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لـ (إن)).
قال أبو حيان: لا يتعين هذا، بل الأحسن في إعرابه أن يكون خبر (إِن) (مُتَبَّرٌ)
وما بعده مرفوع به، وكذا (ما كَانوا) مرفوع بقوله (وَبَاطِلٌ) فيكون إذ ذاك قد
أخبر عن اسم (إِن) بمفرد لا جملة. اهـ
قال الحلبي: وهو كما قال إلا أن الزمخشري رجح ما ذكره من جهة ما ذكر من المعنى،
وإذا دار الأمر بين مرجح لفظي ومرجح معنوي فاعتبار المعنوي أولى. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: ما ذكر من تقديم الخبر مبني على أن (ما هُم فيهِ) مبتدأ و
(مُتَبَّرٌ) خبر له وإن كان يحتمل احتمالاً مساوياً أو راجحاً أن يكون (ما هُمْ
فيهِ) فاعل (مُتَبَّرٌ) لاعتماده على المسند إليه وذلك لاقتضاء المقام الحصر
المستفاد من التقديم، أي: (مُتَبَّرٌ) لا ثابت وباطل لا حق، ولم يتعرض في تقديره
لهذا الحصر لظهوره. اهـ
قوله: (وهو فضلكم على العالمين).
قال الشيخ سعد الدين: أي على جميع من سواكم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء
(3/442)
والملائكة. اهـ
قوله: ((مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار ولمجرور).
قال الشيخ سعد الدين: لم يجعل (مَوْعِظَةً) مفعولاً له وإن كانت شرائط النصب حاصلة
لأن الظاهر أنَّ (وَتَفْصِيلاً) عطف عليه، وظاهر أنه لا معنى لقولك: كتبنا له من
كل شىء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفاً على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ
والمعنى. اهـ
قوله: (أي: وكتبنا له كل شيء).
قال الشيخ سعد الدين: ربما يشعر بأن (من) مزيدة لا تبعيضية ولم يجعلها ابتدائية
حالاً من (مَوْعِظَةً)، و (مَوْعِظَةً) مفعولاً به لأنه ليس له كبير معنى. اهـ
قوله: (من زمرذ).
قال الشيخ سعد الدين: بالذال المعجمة وضم باقي الحروف، وعن الأزهري: فتح الراء.
اهـ
وقوله: (وسقفها بأصابعه).
قال الطَّيبي: أي جعلها سقائف وهي الألواح، وقال في بعض النسخ: شقفها بالشين
المعجمة. اهـ
قوله: (عطف على (كتبنا) أو بدل من قوله (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)).
قال الطَّيبي: العطف على (كتَبْنَا) أجرى على سنن البلاغة لما يلزم في البدل من
تباطل التركيب وفك النظم لأن قوله تعالى (وَكتَبْنَا لَهُ) مع ما عقب به من قوله
(فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) معطوف على قوله (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) مع
ما عقب به وهو (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) على سبيل البيان والتفصيل، فلو جعل بدلاً
لدخل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي. اهـ
قوله: (كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار والاقتصاص).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل
هو
(3/443)
القصاص قطعاً.
زاد الشيخ سعد الدين: والجواب أنه مثال للحسن والأحسن لا أنه مكتوب في التوراة
بعينه. اهـ
قوله: (كقولهم: الصيف أحر من الشتاء).
قال الشيخ سعد الدين: أي هو في حره أبلغ من الشتاء في برده، فكذا هنا المأمور به
أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح. اهـ
قوله: (لتعتبروا فلا تفسقوا).
قال الطَّيبي: إشارة إلى أن قوله (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) تأكيد لأمر
القوم بالأخذ بأحسن ما في التوراة، وبعث عليه في موضع الإرادة موضع الاعتبار إقامة
للسبب مقام المسبب. اهـ
قوله: (أي ولقائهم الدار الأخرة، أو ما وعد الله تعالى في الدار الآخرة).
قال في الكشاف: هو على الأول من إضافة المصدر إلى المفعول به، وعلى الثاني من
إضافته إلى الظرف. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: على تنزيله منزلة المفعول؛ كما ذكر في (مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ). اهـ
إتساعاً كما أفصح به أبو حيان، لأن الإضافة إلى الظرف لا على وجه الاتساع، ونصبه
نصب المفعول به لا يجوز لأنه على تقدير (فِي)؛ والإضافة إنما تكون على تقدير اللام
أو (من).
قوله: (من بعد ذهابه إلى الميقات).
قال الطَّيبي: فيكون (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) عطفاً على (وَوَاعَدنَا مُوسىَ)
عطف قصة على قصة. اهـ
قوله: ((ولما سقط في أيديهم) كناية).
قال الشيخ سعد الدين: جعله كناية لا مجازاً لعدم المانع عن الحقيقة. اهـ
(3/444)
قوله: (بمعنى وقع العض فيها).
قال الشيخ سعد الدين: جعل الفاعل ضمير العض دون الغم لأنه أقرب إلى المقصود، ولأن
كونه كناية إنما هو حيث يكون سقوط الغم على وجه العض، ثم الأيدي على هذا حقيقة
والكلام كناية. اهـ
قوله: (و (ما) نكرة موصوفة تفسير المستكن في (بئس)).
قال الشيخ سعد الدين: لأنه يلزم أن يكون فاعل (بئس) مضمراً مفسراً بالنكرة، أو
مظهرًا معرفاً باللام أو بالإضافة. اهـ
زاد الطَّيبي: ولا يجوز أن تكون (ما) هي المخصوص بالذم لأنه يبقى (بئس) بلا فاعل
لأنه إنما يضمر فاعل (بئس) بشرط أن يعقبه المفسر. اهـ
قوله: (الذي وعدنيه من الأربعين).
قال الطَّيبي: هذا الميعاد غير ميعاد الله تعالى لموسى في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) لضرب ميعاد موسى قبل مضيه
إلى الطور لقوله سبحانه (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) وميعاد القوم عند مضيه لقوله
(بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ). اهـ
قوله: (وفى هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث أنه جعل الغضب ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فهو استعارة مكنية مقارنة بالتخييلية، شبه الغضب بإنسان يغري موسى
ويقول له: افعل كذا وكذا، ثم يقطع الإغراء ويترك كلامه، وجعلها صاحب المفتاح
استعارة تبعية لأنه استعار لتفاوت الغضب عن اشتداده إلى السكون إمساك اللسان عن
الكلام والظاهر الأول. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: مرجعه إلى كون الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق،
والسكوت استعارة تصريحية عن ظفره وسكون هيجانه وغليانه لكن في غاية من اللطف
والبراعة وغاية من الفصاحة والبلاغة. اهـ
قوله: (ما كلفوا به من التكاليف الشاقة).
قال الزجاج: الأغلال تمثيل. اهـ
(3/445)
قوله: (من الحراك).
أي: الحركة.
قوله: (ويجوز أن يكون (به) متعلقاً بـ (اتبعوا)).
قال الطَّيبي: فعلى الأول هو حال من الضمير في (أُنزِل) والمضاف مقدر، المعنى:
اتبعوا النور الذي أُنزل مصحوباً معه نبوته يعني إن حكم ثبوت نبوته نزل من السماء،
وهو مشفوع بهذا النور، وعلى الثاني يكون ظرفاً لـ (اتبَعُوا) فيكون كل واحد من
النور والنبي مستقلاً بالاتباع، وقد أشير به إلى متابعة الكتاب والسنة. اهـ
قوله: (أو مدح منصوب).
قال في الكشاف: إنه الأحسن.
قال الشيخ سعد الدين: أما لفظاً فلسلامته من الفصل بين الصفة والموصوف وإن كان
جائزاً وبغير أجنبي، وأما معنى فلما له من نوع أصالة واستقلال. اهـ
قوله: (وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله)
في الكشاف: أنه بدل من الصلة أيضاً.
قال الشيخ سعد الدين: والإبدال لا ينافي البيان، ولم يجعله عطف بيان لتغاير
المدلولين، ولأنه ليس لمجرد الإيضاح والتفسير، وسوق كلامه يشعر بأن بدل اشتمال.
اهـ
وقال أبو حيان: إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه، والأحسن أن
تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى.
اهـ
قول: (و (إذ) ظرف -إلى قوله- أو بدل منه).
قال أبو حيان: هذا لا يجوز لأن (إذ) من الظروف التي لا تنصرف، ولا يدخل عليها حرف
جر، وجعلها بدلاً يجوز دخول (عن) عليها لأن البدل على نية تكرار العامل. اهـ
وأورد ذلك أيضاً على قوله بعد: أو بدل بعد بدل.
(3/446)
قوله: ((وإذ قالت) عطف على (إِذْ
يَعْدُونَ)).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على (إِذْ تَأْتِيهِمْ)
وإن كان أقرب لفظاً لأنه إما بدل أو ظرف، فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان،
وليس كذلك. اهـ
قوله: (أو عزم، لأن العازم على الشىء يؤذن نفسه بفعله ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني إنما عبر عن العزم بالإذن لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في
الفعل والترك ثم يجزم على الفعل ويطلب من النفس الإذن بالفعل، فكنى عن العزم
بالإذن، ولما كان العازم جازماً على الشيء مخاطباً كان معنى عزم: جزم وقضى، فصار
كفعل القسم في التأكيد وأجيب بما يجاب به القسم. اهـ
قوله: (وهم الذين بالمدينة).
قال الطَّيبي: الظاهر خلافه لما يقتضيه النظم لقوله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بالفاء. اهـ
قوله: (ومنهم ناس دون ذلك).
قال الشيخ سعد الدين: قد شاع في الاستعمال وقوع المبتدأ والخبر ظرفين، واستمر
النحاة على جعل الأول خبراً والثاني مبتدأً بتقدير موصوف دون العكس وإن كان أبعد
من جهة المعنى، والتأخير بالخبر أحرى وكأنهم يرون المصير إلى الحذف في أوانه أولى.
اهـ
قوله: ((وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير في (لَنا)
أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه).
لم يصرح في الكشاف بأن الحال من ماذا.
وقال الطَّيبي: الحال من الضمير في (ويقُولُون)، والقول بمعنى الاعتقاد والظن،
ولذلك قال: يرجون المغفرة مصرين. اهـ
وقال الحلبي: إنما جعل الزمخشري الواو للحال للغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطه
التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأما أهل السنة فيجوزون المغفرة مع عدم التوبة. اهـ
(3/447)
وقال السفاقسي: فيه اعتزال، ولا يرد
عليه بأن جملة الشرط لا تكون حالاً لأن ذلك جائز.
قال: والظاهر أن هذه الجملة مستأنفة. اهـ
قوله: (ودرسوا ما فيه) عطف على (ألم يؤخذ) من حيث المعنى فإنه تقرير).
قال الطَّيبي: أي عطف عليه وإن اختلفا خبراً وطلباً، لأن الاستفهام وارد على
التقرير فهو بمنزلة الإخبار عن الثابت فصح العطف لعدم المنافاة. اهـ
قوله: (على طريقة التمثيل).
أي الاستعارة التمثيلية المركبة من عدة أمور متوهمة، وهذا تبع فيه الزمخشري، وقد
قال ابن المنير: قد أجراه قوم على ظاهره وقالوا: لا تترك الحقيقة مع إمكانها.
قلت: والأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك.
قوله: (وقيل: لما خلق الله تعالى آدم أخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم
العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر).
قلت: هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، والبخاري في تأريخه، وأبو
داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في كتاب الأسماء
والصفات عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر ابن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه
فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره
فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون.
فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟
فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخله اللهُ الجنةَ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل
النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله اللهُ النارَ.
(3/448)
قال الإمام: أطبقت المعتزلة على أنه لا
يجوز تفسير الآية بالحديث لأنَّ قوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من قوله (مِنْ بَنِي
آدَمَ)، فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً،
ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بل كان يجب
أن يقول: من ظهره وذريته.
ثم أجاب بأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم، وأما أنه
أخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته ولا على نفيه
إلا أن الخبر قد دل فثبت إخراج الذرية من ظهر بني آدم بالقرآن وإخراج الذر من ظهر
آدم بالحديث ولا منافاة بينهما فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن
الاختلاف.
وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما حد المعتزلة في الهرب عن القول في معنى
الآية بما يقتضي ظاهر الحديث لكان قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فيقال: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث
كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ
فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى رأينا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان
عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضاً أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار
بتوفيق وعصمة وحرمناهما من بعد ولو أمددناهما أبداً لكانت كل شهادتنا في كل حين
كشهادتنا في اليوم الأول، فتبين أن الميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من المعقول
وآتاهم من البصائر لأنَّها هي الحجة الباقية المانعة لهم عن قولهم (إِنَّا كُنَّا
عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما
جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا عنه من الغيوب، ولهم في ذلك كلام
كثير اكتفينا منه بهذا المقدار والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال. اهـ
وقال الطَّيبي: الواجب على المفسر المحقق أن لا يفسر كلام الله المجيد برأيه إذا
وجد من جانب السلف الصالح نقلاً معتمداً، فكيف بالنص القاطع من جانب حضرة الرسالة
صلوات الله وسلامه على صاحبها؛ فإن الصحابي رضي الله تعالى عنه إنما سأله صلى الله
عليه وسلم عما أشكل عليه من معنى الآية أن الإشهاد هل هو حقيقة أم لا؟ والإخراج
والمقاولة بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أهما على التعارف أم
على الاستعارة؟
(3/449)
فلما أجابه صلوات الله وسلامه عليه بما
عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغاً، ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب
بيان تلك الجهة، وكذا فهم الفاروق رضوان الله تعالى عليه، وأما قولهم: لو كان
المراد أنه أخرج من ظهر آدم لما قال (مِن ظُهُورِهِم) بل يجب أن يقول من ظهره
وذريته، فجوابه أنَّ المراد آدم وذريته لكن غلب إخراج الذراري من أصلاب أولاده
نسلاً بعد نسل حينئذ على ذراري نفسه لأنَّ الكلام في الاحتجاج على الأولاد بشهادة
قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى)، ونحوه لكن في إرادة الامتنان قوله تعالى (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ) بقرينة قوله (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ويعضده ما رواه الواحدي عن
الكسائي أنه قال: لم يذكر ظهر آدم وإنما أخرجوا جميعاً من ظهره لأنَّ الله تعالى
قد أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء عن الآباء فاستغنى
عن ذكر ظهر آدم لما علم أنَّهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره.
وأما قولهم: إن كان هذا الإقرار عن الاضطرار إلى آخره فخلاصته أنه يلزم أن يكونوا
محجوجين يوم القيامة، وجوابه: أنَّهم إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة
ووكلنا إلى رأينا كان كذا كُذِّبوا بأنكم ما وكلتم إلى أرآئكم بل أرسلنا رسلنا
تتراً ليوقظوكم عن سنة الغفلة.
قال محي السنة: فإن قيل: كيف تلزم الحجة واحداً لا يذكر ذلك الميثاق؟ قيل: قد أوضح
الله سبحانه الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا فمن أنكره كان معانداً
ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار
المخبر الصادق.
وأما الجواب عن قولهم: فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرمناهما
من بعد فهو أن يقال: إن هذا مشترك الإلزام لأنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول
والبصائر. فلهم أن يقولوا: فإذن حرمنا اللطف والتوفيق، فأي منفعة لنا في العقل
والبصيرة.
ثم قال: ومن أبى هذا التقرير قرب أن يعدل إلى مذهب المعتزلة، والذي يقضي منه العجب
أن التوربشتي كيف نقل كلامهم هذا وقرره ولم يرد عليهم مع رسوخ علمه وعلو مرتبته،
إلى أن قال: والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث
الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات بأنها متروكة العمل لعلة كونها من
(3/450)
الآحاد لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثير
من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم منح الإلهية.
ثم ساق جملة من الأحاديث الواردة في وعيد من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثاً فرده، ومن كلام الأئمة في وجوب قبول خبر الواحد، من ذلك ما روى البيهقي في
المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن
واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها.
وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة.
وروي الدرامي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به،
وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. اهـ
قوله: ((فَانْسَلَخَ مِنْهَا) من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها).
قال الطيبي: هذه للمبالغة لأن السلخ حقيقتة هو كشط الجلد من المسلوخ وإزالته عنه
بالكلية.
قال الإمام: يقال لكل من فارق الشيء بالكلية انسلخ. اهـ
قوله: (وإلى السفلة).
قال الطَّيبي: الرواية بفتح السين، وفي الصحاح: السفالة بضم السين نقيض العلم،
وبالفتح النذالة. اهـ
قوله: (والشرطية في موضع الحال).
في حاشية الطَّيبي: قال صاحب الضوء: الشرطية لا تكاد تقع بتمامها موقع الحال، ولو
أريد ذلك فجعلت خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو: جاءني زيد وهو إن يسأل يعط،
فالحال إذن جملة اسمية، والسر فيه أن الشرطية لتصدرها بما يقتضي الصدرية لا تكاد
ترتبط بما قبلها إلا أن يكون هناك فضل قوة، نعم إنما يجوز إذا خرجت عن حقيقة الشرط
ثم هي لم تخل من أن عطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف، والأول حذف الواو فيه مستمر
نحو: أتيتك إن تأتي أو لم تأتني لأن النقيضين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على
(3/451)
معنى الشرط بل يتحولان، ومعنى التسوية
كالاستفهامين المتناقضين في قوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، وأما الثاني فلابد فيه من الواو نحو: أتيتك وإن لم تأتني، ولو
ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة.
قال الطَّيبي: والآية من الأول، ولذا ترك الواو لأن المراد إن حمل عليه أو لم
يحمل. اهـ
قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ).
قال الطَّيبي: من تفكر في هذا المثل المضروب في قصة بلعام تحقق له أن حال علماء
السوء أسوأ، وأقبح من ذلك وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون
إلى لذاتها وشهواتها ومن متابعة النفس الأمارة بالسوء وإرغامها في حرامها.
وكتب شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي إلى الإمام فخر الدين الرازي: من
تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله عليه، ينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب
الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفى الله مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من
شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحراً من العلم، ونوازع الهوى المركون في
النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم خطتة من أوجه،
وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله التي ينفد البحر دون
نفادها ويبقى العلم على كمال قوته وهذه مرتبة الراسخين في العلم لأن المترسمين به
وهم ورثة الأنبياء كثر عملهم على علمهم وكثر علمهم على عملهم وتناوب العلم والعمل
بينهم حتى صفت أعمالهم ولطفت فصارت مسامرات مرئية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال
بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى
الاستعدادات وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال
(3/452)
الله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)
فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي تركت العقول
الصغار المداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال؛ فتصحب نفوسهم
الطاهرة الملأ الأعلى فتسوح في ميادين القدس، فالنزاهة النزاهة من محبة حطام
الدنيا، والفرار الفرار من استجلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع ... إلى آخره.
اهـ
قوله: (أو منقطعاً).
قال الطَّيبي: وهذا الكلام تذييل وتأكيد لمضمون الجملة. اهـ
قوله: (أو ذرهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام ... ) إلى آخره.
قال ابن المنير: هذا هو الصواب. اهـ
قوله: (واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن كل قرن طائفة بهذه الصفة).
فعلى هذا هذه الآية من الأدلة على أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى الساعة، لأن
المجتهدين هم أرباب الإجماع.
قوله: (لقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر
الله).
أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن أبي شعبة).
قوله: (روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن قتادة بلفظ: يصوت، وهو معنى يهوت.
قال الطيبي: والأصل فيه حكاية الصوت، وقيل: هو أن يقول ياه ياه؛ وهو نداء الداعي
لصاحبه من بعد. اهـ
قوله: (و (أن) مصدرية أو مخففة من الثقيلة).
تبع في ذلك أبا البقاء، واقتصر في الكشاف على المخففة.
(3/453)
وقال الشيخ سعد الدين: لأن المصدرية لا
تدخل الأفعال الغير المنصرفة التي لا مصادر إليها. اهـ
قوله: (مغافصة الموت).
في الأساس: غافصه الأمر: فاجأه على غرة منه، ووقاك غوافص الدهر أي: حوادثه. اهـ
قوله: (ورسو الشىء: ثباته).
قال الطَّيبي: الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على الساعة تشبيهاً
للمعاني بالأجسام. اهـ
قوله: (وإشتقاق أيَّان من أي).
قال الشيخ سعد الدين: الاشتقاق في غير المنصرفة مما يأباه الأكثرون، وكذا اشتقاق
أي من أويت، وعبارة ابن جني في المحتسب: أيان بفتح الهمزة فَعلان، وبكسرها فعلان،
والنون فيهما زائدة حملاً على الأكثر في زيادة النون في نحو ذلك، ولم يجعل
فَِعَّالا من لفظ أين لما يمنع منه وهو كون أيان ظرف زمان وأين ظرف مكان، وأي من
لفظ أَوَيْت ومعناه، أما اللفظ فلأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت وعييت، وأما
المعنى فلأن البعض آوٍ إلى الكل ومتساند إليه، فأصلها على هذا أَوْىٌ ثم قلبت
الواو ياء وأدغمت في الياء وصارت أيا، كقولك: طويت الكتاب طياً وشويت اللحم شياً.
اهـ
قوله: (قال عليه الصلاة والسَّلام: إن الساعة تهيج بالناس ... ) الحديث.
أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير من مرسل قتادة، وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة
بمعناه.
قوله: (وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب).
أي لئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى والأمر بخلافه، قاله الطَّيبي.
(3/454)
زاد الشيخ سعد الدين: لأن الذكَر هو
الذي يميل في غالب الأمر إلى الأنثى ويجامعها، ولأنه خلق أولاً وخلقت هي إزالةً
لاستيحاشه فكان نسبة المؤانسة إليه أولى. اهـ
قوله: (وقيل لما حملت حواء أتاها إبليس -إلى قوله- وأمثال ذلك لا يليق بالأنبياء).
قال الطَّيبي: هذا مكتسب من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة فقد أخرجه أحمد والترمذي
وحسنه والحاكم وصححه عن سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما
ولدت حواء طاف بها إبليس -وكان لا يعيش لها ولد- فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش،
فسمته، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره (1).
قال محي السنة: وهو قول السلف مثل ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة.
قال: ولم يكن هذه إشراكاً في العبادة ولا أن الحارث ربهما فإن آدم كان نبياً
معصوماً من الشرك ولكن قصد أنَّ الحارث كان سبباً لنجاة الولد وسلامة أمه، ويطلق
اسم العبد على من لا يراد أنه مملوك كما إن اسم الرب يطلق على من لا يراد أنه
معبود، فعلى هذا قوله تعالى (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ابتداء كلام
وأريد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث كان الأولى بهما أن
لا يفعلانه من الإشراك في الاسم.
قال الطَّيبي: ويدفع هذا قوله (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا) فإنه في
الأصنام قطعاً على القول أنه ابتداء كلام. اهـ
قال غيره: يؤيد هذا التقرير أنَّ تقدير المضاف لا يصار إليه إلا عند الحاجة وكلمة
(لما) تستقيم عليه لأن إشراك أولادهما لا يكون حين آتاهما صالحاً بل بعده بأزمنة
متطاولة.
قوله: (ويحتمل أن يكون الخطاب لآل قصي من قريش فلأنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له
زوج من جنسه عربية قرشية).
قال الشيخ سعد الدين: استبعد هذا الوجه بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي كلهم
وإنما هو مجتمع قريش، ولم تكن زوجه عربية قرشية بل هي بنت سيد مكة من خزاعة
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال
الشرك وفيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا الله مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ غَيْرِ
أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ... فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ
رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ
بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ
أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ
السَّلامُ، فَلَمْ يَزَالا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ
سَأَلْتِ الله أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ
مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ
لَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شَرِيكًا أَيْ
جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي:
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
هَذِهِ الآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى،
وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ
كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لا يَخْلُقُ شَيْئًا،
وَلَمْ يَقُلْ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ
بِصِيغَةِ «مَنْ» لا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ
الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ
لا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ
الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى
ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ
يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟
الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ
الْخَيْرَ وَالصَّلاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ
بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ
الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ
الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31]
وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي
وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا
الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ
الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ
بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلا يَخْلُو إِمَّا أَنْ
يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً
لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ
مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بالله لِأَنَّ
أَسْمَاءَ الْأَعْلامِ وَالْأَلْقَابِ لا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً،
فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ،
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلاً بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
اعْتَقَدَ أَنَّ لله شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ
وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ
سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى
ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ
هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ،
وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ،
فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ
وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا
الله وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لله شُرَكَاءَ
فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى
الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ
كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ
كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ الله
عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا
فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ،
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ
وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا،
فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ
مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللاّتِ، وَجَعَلَ
الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا
بِهِمَا فِي الشِّرْكِ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَرَدَتْ فِي
شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ
هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ
إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي
طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ
وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالا: لَئِنْ
آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما
ولداً سوياً صَالِحًا لاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ:
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ،
وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا
آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى الله
عَنْ شِرْكِ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ
وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ
رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ
لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ
وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ
فُلانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ
إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ آدَمَ وَحَوَّاءَ/ وَلا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ
مِنْ أَلْفَاظِهَا إِلاّ قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ، فَلَمَّا آتَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا
سَوِيًّا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى
حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا فِيمَا
آتَاهُمَا، أَيْ فِيمَا آتَى أَوْلادَهُمَا وَنَظِيرُهُ قوله: وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّثْنِيَةِ فِي
قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ.
قُلْنَا: لِأَنَّ وَلَدَهُ قِسْمَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَقَوْلُهُ: جَعَلا
الْمُرَادُ مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بلفظ التثنية
لِكَوْنِهِمَا صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ، وَمَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ
الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما عَائِدٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا
السَّلامُ، إِلاّ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمَا الْوَلَدَ
الصَّالِحَ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاهُ وَقْفًا عَلَى خِدْمَةِ الله
وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَى الْإِطْلاقِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ،
فَتَارَةً كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا،
وَتَارَةً كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِخِدْمَةِ الله وَطَاعَتِهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ
وَإِنْ كَانَ مِنَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، إِلاّ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ
سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا
نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ الله
سُبْحَانَهُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرْكُتُهُ وَشِرْكَهُ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ تِلْكَ
الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعيد الحرث لِأَجْلِ
أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الآفَةِ وَالْمَرَضِ بِسَبَبِ
دُعَاءِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بالحرث، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُنْعَمُ
عَلَيْهِ عَبْدًا لِلْمُنْعِمِ. يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَنَا عَبْدُ مَنْ
تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ كَتَبَ عَلَى
عُنْوَانٍ: كِتَابَةُ عَبْدِ وُدِّهِ فُلانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَلا شِيمَةَ لِي بَعْدَهَا
تُشْبِهُ الْعَبْدَا
فَآدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تَنْبِيهًا
عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الآفَاتِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا لا
يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ الله مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ
وَمَخْلُوقُهُ، إِلاّ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ
سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَلَمَّا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْعَبْدِ
لا جَرَمَ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُعَاتَبًا فِي هَذَا الْعَمَلِ
بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ الْحَاصِلِ فِي مُجَرَّدِ لَفْظِ الْعَبْدِ، فَهَذَا
جُمْلَةُ مَا نَقُولُهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ.
اهـ (مفاتيح الغيب. 15/ 427 - 429).
(3/455)
وقريش إذ ذاك متفرقون. اهـ
وقال صاحب الانتصاف: أقرب من هذا ومن الأول أن يراد جنسا الذكر والأنثى من غير قصد
إلى معين معلوم، أي: خلقكم جنساً وجعل أزواجكم منكم لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس
جنسه الآخر جرى من هذين الجنسين كذا وكذا، ويجوز إضافة الكلام إلى الجنس تقول: قتل
بنو تميم فلاناً، وعلى التفسير الأول إضافة الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من
بعضهم، وعلى الثاني أضافه إلى قصي وعقبه وأراد بعضهم، ويسلم هذا من حذف المضاف
اللازم للأول ومن استبعاد إرادة قصي بهذا، فالظاهر من قوله (لِيَسْكُنَ إِلَيهَا)
أن المراد الجنس. اهـ
قال الطيبي: إن لزم من التفسيرين ما ذكر من المحذور لزم من تفسيره أيضاً إجراء
جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة، والتأويل ما نص عليه من أُوحي إليه التنزيل
كما سبق بيانه. اهـ
قوله: (شبه وسوسته ... ) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه استعارة تبعية تشبيهاً للإغراء على المعاصي بالنزغ.
اهـ
قوله: (فيكون الخبر جارياً على ما هو له).
قال الطَّيبي: فعلى الأول التقدير: وإخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين الشياطين
يمدونهم؛ الضمير المسند إليه الفعل ليس للمبتدأ بل لمتعلقه، وعلى الثاني التقدير:
وإخوان الجاهلين الذين هم الشياطين يمدون الجاهلين. اهـ
قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: [" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ
السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ
فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ]
... ) الحديث. (1)
رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع.
__________
(1) في الأصل [إذا قرأ ابن آدم السجدة ... )] الحديث.
رواه الثعلبي عن أُبي وهو موضوع.
والحديث صحيح وهذا نصه في مسلم (" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ
فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ
فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ
").
وكلام الإمام السيوطي -رحمه الله- على رواية " «من قرأ سورة الأعراف جعل الله
يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة»." وهو ما
أثبتناه بفضل الله تعالى. ولم يتنبه محقق الكتاب لهذا الأمر. اهـ (مصحح النسخة
الإلكترونية).
(3/456)
سورة الأنفال
قوله: (وإنما سميت الغيمة نفلاً لأنها عطية من الله وفضل).
عبارة الإمام: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم.
اهـ
قوله: (وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر ... ) إلى آخره.
أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت.
قوله: (وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له بلاء ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما.
قوله: (كنا ردءاً).
أي: عوناً.
قوله: (سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير
فقتلت به سعيد بن العاص ... ) الحديث.
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة.
وقال أبو عبيد: كذا فيه سعيد بن العاص، والمحفوظ عندنا العاص بن سعيد.
قوله: (فى القبض).
هو بالتحريك: ما قبض من الغنائم.
قوله: (كما أخرجك ربك خبر مبتدأ -إلى قوله- أو صفة مصدر ... ) إلى آخره.
قال ابن الشجري في أماليه: الوجه هو الأول، والثاني ضعيف لتباعد ما بينهما. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن الأوجه هو الرفع، لأن الناصب
(3/457)
بعيد والفاصل كثير، وجعل (كَمَا
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) داخلاً في حيز (قُل) ليس بحسن
الانتظام. اهـ
وقال أبو حيان: في الوجه الثاني بعد لكثرة الفصل بين المشبه والمشبه به، ولا يظهر
كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة.
قال: وخطر لي في المنام أن هنا محذوفاً وهو نصرك، والكاف فيها معنى التعليل أي:
لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله نصرك وأيدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله بعد
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... ) الآيات. اهـ
قوله: (وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام ... ) إلى آخره.
هو في سيرة ابن هشام من قول ابن إسحاق، وروى ابن جرير بعضه عن ابن عباس وبعضه عن
عروة ابن الزبير وبعضه عن السدي.
قوله: (النجاء النجاء).
قال الطيبي: هو منصوب بفعل مضمر، اللام فيهما للجنس، والنجاء ممدودة: الإسراع. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هو مصدر، أي: أسرعوا الإسراع، أو إغراء، أي: الزموا
الإسراع. اهـ
قوله: (على كل صعب وذلول).
قال الطيبي: أي: أسرعوا وبادروا مجتمعين ولا تقفوا لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون
صعب. اهـ
قوله: (عيركم وأموالكم).
قال الشيخ سعد الدين: أي: الزموها وبادروها واحفظوها. اهـ
(3/458)
وقال الطَّيبي: أموالكم بدل من عيركم.
اهـ
قوله: (حلق بها).
قال الطَّيبي: التحليق بالشيء الرمي به إلى فوق. اهـ
قوله: (فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو).
قال الطَّيبي: هذا هو المراد من إيراد هذه القصة لأنَّها سبقت لبيان أن قوله تعالى
(وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حال. اهـ
قوله: (إلى عدن أبين).
قال في النهاية: عدن أبين: مدينة معروفة باليمن أضيفت إلى أبين -بوزن أبيض- وهو
رجل من حمير عدن بها، أي: أقام. اهـ
وقال المرتضي اليماني: أبين اسم قصبة بينها وبين عدن مقدار ثمانية فراسخ يجلب منها
إلى عدن الفواكه والخضروات.
قوله: (لو استعرضت بنا هذا البحر).
أي: طلبت أن نقطعه عرضاً في صحبتك.
قوله: (أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير، فناداه
العباس وهو فى وثاقه ... ) الحديث.
أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما بزيادة: قال: صدقت.
قوله: (وما كان فيهم إلا فارسان).
قال الطَّيبي: قيل: هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام. اهـ
قوله: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو متعلق بقوله
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ)).
قال الطَّيبي: هذا أوجه من أن يكون بدلاً لأن زمان الوعد غير زمان الاستغاثة إلا
على
(3/459)
تأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في
زمان واسع كما تقول: كفتنة سنة كذا. اهـ
قوله: (وعن عمر أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين ... ) الحديث.
أخرجه مسلم والترمذي.
قوله: (متبعين المؤمنين ... ) إلى آخره.
قال أبو حيان: هذا تكثير في الكلام وملخصه أن اتبع مشدداً يتعدى إلى واحد، وأتبع
مخففاً يتعدى إلى اثنين، وأردف أتى بمعناهما، والمفعول لاتبع محذوف، والمفعولان
لأتبع محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى. اهـ
قلت: فقول المصنف: ولا متبعين المؤمنين بالتشديد، وقوله ثانياً: أو متبعين بعضهم
بعضاً بالتخفيف، وقوله: أو أنفسهم المؤمنين، أي: متبعين أنفسهم المؤمنين، أي:
يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم.
قوله: (أو متعلق بالنصر).
قال أبو حيان: فيه ضعف من وجوه:
أحدها: أنه مصدر فيه أل، وفي إعماله خلاف.
الثاني: أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو (إِلاّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) وذلك لا يجوز، لا يقال: ضرب زيد شديد عمراً.
الثالث: أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول
مستثنى منه أو صفة له، و (إذ) ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد
يوم الجمعة، وجوز ذلك الكسائي والأخفش. اهـ
قوله: (أو بما في (عند الله) من معنى الفعل).
قال أبو حيان: يضعفه المعنى، لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف، والنصر من
عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره. اهـ
وقال الحلبي: هذا لا يضعف به، لأن المراد هذا النصر نصر خاص، وهذا النصر الخاص
(3/460)
كان مقيداً بذلك الظرف. اهـ
قوله: (أو بجعل).
قال أبو حيان: هو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك
الثلاثة. اهـ
قوله: (وهو مفعول له باعتبار المعنى).
أي لوجوب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً، ولا يتأتى ذلك إلا بهذا
التقدير، أي: ينعسون لأمنكم.
قوله: (ويجوز أن يراد بها الأمان).
قال الشيخ سعد الدين: هذا بعيد في اللغة. اهـ
قوله: (وأن تجعل على القراءة الأخيرة)
أي: قراءة ابن كثير وأبي عمرو (يغشاكم النعاسُ) بالرفع.
قوله: (فعل النعاس على المجاز).
قال الطَّيبي: أي على أنه من الاستعارة المكنية شبه النعاس بشخص طالب للأمن ثم خيل
أنه إنسان بعينه حيث أثبت له على سبيل الإستعارة التخييلية الأمنة التي هي من
لوازم المشبه به وجعل نسبتها إليه قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وفيه إغراق في
الوصف لأنه جعل النعاس الذي هو سبب للأمن بسبب غشيانه إياهم ملتمساً للأمن منهم.
وقد صوب ابن المنير هذا الوجه.
وقال العلم العراقي: فيه بعد، لأن مثل هذه الاستعارة البعيدة للنوم قد يستحسن في
الشعر لبنائه على المبالغة وغلبة باطله على حقه، ولا يكاد يوجد مثلها في الكتاب
العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقال الطَّيبي متعقباً عليه: إن منع استعمال المجاز في كتاب الله المجيد يمشى له
هذا المنع وإلا فهو غير مستحسن لأن هذا الأسلوب في الدرجة القصوى من البلاغة،
وكلام الله
(3/461)
تعالى إنما كان معجزاً من حيث اللفظ
والمعنى إذا استعمل فيه أمثال ذلك. اهـ
قوله: (يهاب النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فَهُوَ نَفَّارٌ
شَرُودُ).
قال الطَّيبي: قيل إن هذا البيت للزمخشري، وتهابك: صفة لـ (عيوناً)، فهو: ضمير
للنوم، ونفار: صيغة مبالغة من نفرت الدابة نفاراً، وشرود: من شرد البعير، والمعنى:
يخاف النوم أن يدخل عيون أعدائك فهو لذلك نفار شرود. اهـ
قوله: (روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن عباس بمعناه، وليس
فيه: فاحتلم أكثرهم.
قوله: (كثيب أعفر).
أي: رمل أبيض تعلوه حمرة.
قوله: (تسوخ فيه الأقدام).
أي: تدخل وتغيب.
قوله: ((ذلكم) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات).
قال الطَّيبي: من الغيبة في (شَآقُّوا). اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: فيه إرشاد إلى أن الخطاب المعتبر في الالتفات أعم من أن
يكون بالاسم على ما هو الشائع كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، أو بالحرف كما في
(ذَلِكُم) بشرط أن يكون خطاباً لمن وقع الغائب عبارة عنه. اهـ
قوله: (أو نصب بفعل دل عليه (فذوقوه)).
أي: على الاشتغال.
قال أبو حيان: لا يجوز ذلك لأن الاشتغال إنما يصح إن جوزنا صحة الابتداء فِي
(ذَلِكم)، وما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ إلا إن كان المبتدأ موصولاً أو نكرة
موصوفة. اهـ
قوله: (أو عليكم).
قال أبو حيان: لا يجوز هذا التقدير لأن (عليكم) من أسماء الأفعال، وأسماء الأفعال
(3/462)
لا تضمر. اهـ
وقال الحلبي: قد يكون المصنف نحى نحو الكوفيين، فإنَّهُم يجرونه مجرى الفعل
مطلقاً، وكذلك يعملونه متأخراً نحو (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ). اهـ
قوله: (عطف على (ذلكم)
أي: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو عكسه.
قوله: (ووضع الظاهر فيه موضع المضمر).
أي: وضع (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) موضع: وأن لكم.
قوله: (وقرئ (وإن) بالكسر على الاستئناف).
قال الطَّيبي: فالجملة تذييل، واللام للجنس. اهـ
قوله: (روى ابن عمر أنه كان في سرية ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه بمعناه، وقال: العكَّار الذي نفر إلى إمامه لينصره
لا يريد الفرار من الزحف.
وفي النهاية: العكارون: الكرارون إلى الحرب، والعطافون نحوها، يقال للرجل يولي عن
الحرب ثم يكر راجعاً إليها عكر واعتكر. اهـ
قوله: (وانتصاب (مُتَحَرِّفًا) على الحال، وإلا لغو ... ).
قال الطَّيبي: من حيث اللفظ، أي: زائدة، لأن العامل يعمل في الحال استقلالاً لكنها
معطية في المعنى فائدتها، والكلام في سياق النفي، المعنى: (فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبَارَ) في حال من الأحوال إلا متحرفاً. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: إلا لغو في اللفظ مستوٍ وجودها وعدمها في حق إعراب ما بعدها
بخلاف النصب على الاستثناء فإن إلا عامل أو مشارك للعامل أو واسطة في العمل. اهـ
(3/463)
وقال أبو حيان: لا يريد بقوله: إلا لغو
أنها زائدة بل يريد أن العامل وهو (يُوَلِّهِمْ) وصل لما بعدها، كقولهم في نحو:
جئت بلا زاد أنها لغو، وفي الحقيقة هي استثناء من حال محذوفة، والتقدير: (وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ) ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا، وإن لم يقدر حال عامة محذوفة لم
يصح دخول (إلا) لأن الشرط عندهم واجب والواجب حكمه أن لا تدخل (إلا) فيه لا في
المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه استثناء مفرغ والمفرغ لا يكون في الواجب إنما
يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤول. اهـ
قوله: (ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يحوز).
زاد في الكشاف: كالمتدير.
قال الشيخ سعد الدين: وذكر المرزوقي أن تدير تفعل نظراً إلى شيوع ديار بالياء.
قال: وعلى هذا يجوز أن يكون تحيز تفعل نظراً إلى شيوع الحيز بالياء ولهذا لم يجئ
يدور ولا يحوز. اهـ
قوله: (روي أنه لما طلعت قريش ... ) الحديث.
أخرجه ابن جرير عن عروة مرسلاً، وليس فيه أمر جبريل له بذلك.
وروي ابن جرير وابن مردويه أمر جبريل له بذلك عن ابن عباس، ولم يقف عليه الطَّيبي
فقال: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت يوم بدر إنما هي يوم حنين.
واغتر به الشيخ سعد الدين فقال: المحدثون على أن الرمية لم تكن إلا يوم حنين.
وليس كما قالا، والطَّيبي وإن كان له إلمام بالحديث لكنه لم ييلغ فيه درجة الحفاظ،
ومنتهى نظره الكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ومسند الدارمي لا يُخَرِّج من غيرها،
(3/464)
وكثيراً ما يورد صاحب الكشاف الحديث
المعروف فلا يحسن تخريجه ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور
في التخريج.
قوله: (من العقنقل).
قال في الصحاح: العقنقل: الكثيب العظيم المتداخل الرمل؛ والجمع: عقاقل، وربما سموا
مصارين الضب عقنقلا. اهـ
قوله: (شاهت الوجوه).
أي: قبحت.
قوله: (والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم).
قال أبو حيان: ليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه
قال (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) وكان
امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي: لستم مستبدين
بالقتل لأن الإقدار عليه والخالق له إنما هو الله سبحانه. اهـ
قال السفاقسى: وهذا أولى من دعوى الحذف. اهـ
وقال ابن هشام: تبع بدر الدين ابن مالك الزمخشري على ذلك، ويرده أن الجواب المنفي
بـ (لم) لا تدخل عليه الفاء.
قوله: (وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل
يخور حتى مات).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري.
قوله: (أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على
فراشه).
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير.
قوله: ((وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) معطوف عليه).
قال الطَّيبي: أي عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون عطف جملة، أي: الأمر ذلكم
(3/465)
، والأمر أن الله موهن. وعليه كلام أبي
البقاء. اهـ
قوله: (شر ما يدب على الأرض، أو شر البهائم).
قال الطَّيبي: الأول محمول على عرف اللغة، والثاني على العرف العام. اهـ
قوله: (روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي ... ) الحديث.
أخرجه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة.
قوله: (لاَ تعْجَبَنَّ الجَهُولَ حِلَّته ... فَذَاكَ مَيتٌ وَثَوْبُهُ كَفَن).
هو للزمخشري.
قال الطَّيبي: هو مأخوذ من قول المتنبي:
لا يعجبن مضيما حسن بزتة ... وهل يذوق دفيناً جودة الكفن.
قوله: (كإقرار المنكر).
قال الطَّيبي: أي تمكين الفعل المنكر بين المسلمين، من أقره في مكانه فاستقر. اهـ
قوله: ((لا تُصِيبَنَّ) إما جواب الأمر ... ).
قال ابن هشام: هذا فاسد لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصيب الذين ظلموا
منكم خاصة، وقوله: إن التقدير: إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة مردود لأن الشرط
إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب ألا ترى أنك تقدر في: ائتني أكرمك، إن
تأتني أكرمك. اهـ
وذكر أبو حيان نحوه.
وقال صاحب التقريب: هذا ليس بجواب للأمر بل جواب لشرط مقدر إذ لا يستقيم: إن تتقوا
لا تصب، وهو ما يقتضيه جواب الأمر. اهـ
(3/466)
قال الطَّيبي: أراد أن الآية ليست من
باب جواب الأمر إذ لو قدر ذلك رجع إلى أن يقال: إن تتقوا لا تصب، فيفسد، بل هو من
باب آخر وهو أن يقدر الشرط بقرينة الجزاء واقتضاء المقام كما قال: إن أصابتكم لا
تصب الظالمين. اهـ
وقال ابن الحاجب: قد قيل إنَّ (لا تُصِيبَنَّ) جواب للأمر، ويقدر: واتقوا فتنة إن
أصبتموها لا تصب الظالمين خاصة ولكن تعم فتأخذ الظالم وغيره، وهو غير مستقيم إذ
جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس المظهر لا من جنس الجواب، وإن يقول: فإنكم إن
تتقوا لا تصب الظالمين، فيفسد المعنى لأنه يصير الانتفاء سبباً لانتفاء الإصابة عن
الظالم المرتكب وهو بالعكس أشبه. اهـ
قال الطيبي: وجوابه: أنَّ هذا إذا أجرى الكلام على ظاهره، وإما إذا جعل الظاهر
مهجوراً وذهب إلى قوة المعنى فجعل القرينة المعنوية حاكمة على اللفظية فيجوز أن
يحمل على مسألة: لا تدن من الأسد يأكلك، وأن يقال: واتقوا فتنة فإنكم إن لم تتقوها
أصابتكم فإن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، فاكتفى بالسبب عن
المسبب.
وقال نور الدين الحكيم: تقرير كلام الزمخشري أنه مثل قول القائل: اتق غضب الله لا
يحلل عليك فإن من شأن غضبه إن حل لا يحل بالمجرم خاصة بل يعم، وأقرب منه: اتق
غضباً لا يحل على المجرم خاصة. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا الوجه عليه إشكال ظاهر وهو أنَّ الشرط المقدر بجواب
الأمر يكون مضمون الأمر مثل: أسلم تدخل الجنة، إن تسلم تدخل الجنة، فيجب أن يكون
التقدير هنا: إن تتقوا لا تصيبن الظالمين منكم خاصة بل تعمكم، وفساده بين، وأجيب
بأنه على رأي الكوفيين حيث يقدرون ما يناسب الكلام ولا يلتزمون أن يكون المقدر من
جنس الملفوظ، ففى مثل: لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي: إن تدن يأكلك، وفي مثل:
اتقوا فتنة لا تصيبنكم النفى أي: إن لم تتقوا تصبكم، فالمصنف قدر شرطاً يستقيم به
المعنى لا مضمون الأمر ولا يقتضيه فلا يتبين به كون المذكور جواب الأمر فقيل:
مراده أنَّ التقدير: إن تتقوا لا تصبكم وإن أصابتكم لا تصب
(3/467)
الظالمين خاصة بل تعمكم، فأقيم جواب
الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو مضمون الأمر لتسببه عنه وأنت خبير
بأنَّ عموم إصابة الفتنة ليس سبباً عن عدم الإصابة ولا عن الأمر، وقيل: مراده أن
التقدير: إن لم تتقوا أصابتكم على مذهب الكسائي وإن أصابتكم لا تخص الظالمين، وأنت
خبير بأنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة بل يكفي إن لم تتقوا لا تصيب الظالمين خاصة.
اهـ
قوله: (أو النهي عن إرادة القول).
قال الشيخ جمال الدين ابن هشام في المغني: وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب
إضمار القول، أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك. اهـ
قال البدر ابن الدماميني: هذا هو المشهور بين القوم، وقرره بعض المتأخرين على وجه
لا يحتاج معه إلى إضمار القول فقال: لا شك أن طلب الضرب مثلاً صفة قائمة بالمتكلم
وليس حالاً من أحوال الرجل مثلاً في قولك: مررت برجل أضربه، إلا باعتبار تعلقه به
أو كونه مقولاً فيه واستحقاقه أن يقال فيه فلا بد أن يلاحظ في وقوعه صفة له هذه
الحيثية فكأنه قيل: مررت برجل مطلوب ضربه، أو مقول في حقه ذلك لا على معنى الحكاية
بل على معنى أنه يستحق أن يقال فيه. اهـ
قوله: (حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط).
قال المبرد في الكامل: العرب تختصر التشبيه وربما أومأت إليه إيماء، قال أحد
الرجاز:
بتنا بحسان ومعزاه تئط ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
يقول في لون الذئب واللبن إذا خلط بالماء ضرب إلى الغبرة. اهـ
والمذق: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وقاف اللبن الممزوج بالماء.
قوله: (ويحتمل أن يكون نهياً بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله
يصيب الظالم خاصة).
قال أبو حيان: الذي دعاه إلى هذا استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بـ (لا)
واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء، فيصير المعنى: لا أصابت الفتنة الظالمين
خاصة، واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير: لا أصابت ظالماً ولا غير
(3/468)
ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنة لا
أوقعها الله تعالى بأحد. اهـ
قوله: (و (من) فى (منكم) على الوجه الأول. .).
قال الطَّيبي وأبو حيان والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون جواباً للأمر.
قوله: (للتبعيض).
قال الطَّيبي: محله نصب على أنه بدل من (الذين ظلموا). اهـ
قوله: (وعلى الأخيرين ... ).
قال الطَّيبي والشيخ سعد الدين: أي على أن يكون صفة أو نهياً. اهـ
قوله: (للتبيين).
قال الطَّيبي: لأنه تفسير للذين ظلموا، أي: لا يصيبن الظالم الذي هو أنتم.
قال صاحب التقريب: وفي تخصيص (من) بالتبعيض في الأول والتبيين في الثاني حزازة.
اهـ
وكذا قال الحلبي: في هذا التخصيص نظر، إذ المعنى يصح في كل الوجوه مع التبعيض
والبيان. اهـ
وقال الطَّيبي: إذا حقق النظر تبين أنَّ المخاطبين في الأول كل الأمة، وراكب
الفتنة بعضهم، فـ (من) لا محالة تبعيض، وفي الثاني بعض الأمة الذين باشروا الفتنة
خصوصاً فـ (من) بيان ولا محيد عنه. اهـ
ولذا قال الشيخ سعد الدين: إنما كان (من) للتبعيض على جواب الأمر لأن الذين ظلموا
بعض من كل الأمة المخاطبين بقوله (وَاتَّقُوا)، وللتبيين على النهي سواء أعتبر
مستقلاً أو صفة لأن المعنى لا تتعرضوا للظلم فتصيب الفتنة الظالمين الذين هم أنتم.
اهـ
قوله: (وروي أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة) الحديث.
أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب، ومن
(3/469)
طريق سعيد بن المسيب نحوه وفيه أنه
حاصرهم خمساً وعشرين ليلة.
وأبو لبابة اسمه رفاعة بن عبد المنذر صحابي معروف، وفي حديث ابن المسيب أنه تصدق
بثلث ماله ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك إلا خيراً حتى فارق الدنيا.
وقوله: (إنه الذبح).
قال الشيخ سعد الدين: يعني أن حكم سعد هو القتل. اهـ
قوله: ((وأنتم تعلمون) أنكم تخونون، أو أنتم علماء).
قال الطَّيبي: يريد (أنتم تعلمون) إما مفعول مقدر منوي معه بقرينة السياق وهو أنكم
تخونون، أو غير منوى بمنزلة اللازم وهو المراد بقوله: وأنتم علماء. اهـ
قوله: (أو محنة من الله تعالى).
قال الطَّيبي: عطف على قوله: سبب الوقوع. اهـ
قوله: ((فُرْقَانًا) هداية ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: فإن قلت: ذكر لقوله تعالى (فُرْقَانًا) وجوهاً وهو أن يكون نصراً أو
بياناً أو مخرجاً أو تفرقةً فأيها أحسن؟
قلت: الجمع بينها، لأن هذه الآية كالخاتمة لجميع ما سبق بدليل عوده إلى بدء القصة
وهو قوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، و (أو) في كلام المصنف
للتخيير كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. اهـ
قوله: (تذكار لما مكر قريش به ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: يعني بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بتمامه
ذكره بدء حالهم معه ليعتبر فيشكر، وفيه بيان لتوفيق النظم. اهـ
قوله: (وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ... ) إلى آخره.
أخرجه ابن هشام في السيرة الكبرى وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل من حديث ابن
(3/470)
عباس بمعناه، وابن سعد في الطبقات من
حديث عائشة وابن عباس.
ودار الندوة بمكة بناها قصي لينتدوا فيها أي: ليجتمعوا للمشاورة.
ولم يحسن الطيبي تخريج الحديث على عادته فقال: إنه في مسند أحمد، وليس فيه ذكر
إبليس.
وأساء والحديث إنما هو بتمامه في الكتب التي أشرنا إلى التخريج منها.
قوله: (للمزاوجة).
أي: المشاكلة.
قال الطَّيبي: هو وجه، وحمله صاحب الكشاف على الاستعارة بجامع الإخفاء والأخذ
بغتة، شبه صورة صنع الله تعالى ذلك معهم بصورة صنع الماكر، وعلى هذا لا يحتاج إلى
وقوعه في صحبة مكر العبد، ومنه قول علي رضي الله تعالى عنه: من وسع عليه في دنياه
ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في غفلة. اهـ
قوله: (وقرئ (صَلاتَهُمْ) بالنصب على أنه الخبر المقدم).
فيه كون الخبر معرفة والاسم نكرة كقول حسان:
يكون مزاجها عسل وماء
وقد ذهب صاحب المفتاح إلى أنه من باب القلب.
وقال ابن جني: إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، فإنك لو قلت: خرجت فإذا أسد بالباب
أو إذا الأسد بالباب لم تجد الفرق بينهما لأنك لا تريد بالصورتين أسداً معيناً
فكأنه تعالى قال: ما كان صَلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية، أي: هذا الجنس من
الفعل، ولم يجر هذا مجرى: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في قائم
(3/471)
وجالس معنى الجنسية التي يتلاقى معنى
معرفتها ونكرتها. اهـ
قال الشيخ سعد الدين عقب حكايته: وما يقال إن في المعرفة الإشارة إلى الجنس
واعتبار الحضور في الذهن والنكرة خلو عن ذلك فتدقيق علمي بيّن الفرق بين المعرفة
وفائدة اللام، ولا أدري هل هو من اللغة؟. اهـ
ثم قال ابن جني: ويجوز أيضاً مع النفي جعل اسم كان نكرة ولا يجوز مع الإيجاب، ألا
تراك تقول: ما كان إنسان خيراً منك، ولا تقول: كان إنسان خيراً منك. اهـ
قوله: (وجعل ذاتها تصير حسرة).
قال الطَّيبي: يعني الظاهر أن يقال: ثم يكون عاقبة إنفاقها حسرة فأنث الفعل رداً
إلى الأموال. اهـ
قوله: (مبالغة).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة
إنفاقها حسرة بكون ذاتها حسرة وأطلق المشبه به على المشبه. اهـ
قوله: (سجالاً).
أي: مساجلة تارة لهم وتارة عليهم، وأصله المساجلة في ملء الدلو.
قوله: (والمعنى: قل لأجلهم).
قال أبو حيان: بل الظاهر أنَّها لام التبليغ، وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى
الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها. اهـ
قوله: (على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد).
قال الطَّيبي: هذه خاتمة شريفة في أمر الجهاد ولذلك كانت مخلصاً إلى ذكر ما بدأت
به السورة من حديث الغنائم وقسمتها. اهـ
قوله: ((فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف).
قال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم أن لله خمسه. اهـ
(3/472)
قال الشيخ سعد الدين: وفيه زيادة حذف
-أعني اللام- إلا أنه ترجح بأن حذف المبتدأ أكثر. اهـ
قوله: (وقرئ (فإن) بالكسرة).
قال أبو البقاء: فعلى هذا تكون (أن) وما عملت فيه مبتدأ وخبر في موضع خبر المبتدأ.
اهـ
قوله: (لما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة ثم يقسم
ما بقي على خمسة).
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، وأبو داود في المراسيل، وابن جرير
عن أبي العالية مرسلاً.
قلت: فينبغي أن يعزا قول المصنف لما روى -بفتح الراء والواو مبيناً للفاعل-
والضمير فيه لأبي العالية في قوله: وذهب أبو العالية.
قوله: (رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى) الحديث.
أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم، وفي الصحيحين بعضه.
والطَّيبي على عادته خرج هذا الحديث لكونه في الأصول المذكورة ولم يخرج هذا الحديث
الذي قبله لعزته عليه.
قوله: (وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة).
وذلك أن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفل الأربعة أولاد عبد مناف، ونسبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء ينتهي إلى عبد مناف فهو محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم بن عبد مناف صلوات الله تعالى عليه وسلامه، وأما عثمان فهو ابن
عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما جبير فهو ابن مطعم بن عدي بن
نوفل بن عبد مناف.
قوله: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف).
قال الطَّيبي: أي جزاؤه محذوف. اهـ
(3/473)
قوله: (من الآيات والملائكة والنصرة).
قال الطيبي: يعني لم يذكر مفعول (وَمَا أَنْزَلْنَا) ليشتمل على جميع ما يناسب أن
ينزل في ذلك المقام. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تفسير (وَمَا أَنْزَلْنَا) بذلك: شبه الجمع بين الحقيقة
والمجاز. اهـ
ثم قال الطَّيبي: الآيات في قول المصنف مطلقة فيجوز أن يراد بها قوله
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) على ما ذهب إليه محي السنة، ويجوز أن يراد بها
الآيات الدالة على القدرة الباهرة ويكون عطف الملائكة والنصرة من باب عطف جبريل
وميكائيل على ملائكته، والذي يشعر بالثاني قوله (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) وقراءة من قرأ (عُبُدنا) بالجمع. اهـ
قوله: (وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة).
أي فإن المقرر في التصريف قلب واو (فعلى) الاسم ياءً دون الصفة.
قال الطَّيبي: فإن قلت لا شك في وقوع الدنيا والقصوى في الآية صفتين للعدوة فكيف
يقال إنهما إسمان لا صفتان؟
فالجواب: ما قاله ابن جني أنهما وإن كانا صفتين في الأصل إلا أنهما ذهب بهما مذهب
الأسماء بتركهم إجراهما وصفاً في أكثر الأمر واستعمالهم إياهما استعمال الاسماء،
ولذا كان القياس فيهما قلب الواو ياء. اهـ
قوله: (كالقود).
قال الطَّيبي: يعني القياس أن تقلب واوه ألفاً كأشباهه فتركوه. اهـ
قوله: (وهو أكثر استعمالاً من القصيا).
وإن كان القصيا هو القياس.
قوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه).
أو من (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحرف.
قوله: (أو متعلق بقوله مَفْعُولاً).
(3/474)
زاد أبو البقاء: أو بقوله
(لِيَقْضِيَ).
قال الطَّيبي: والبدل أولى، لأن المراد بالحياة: الإيمان، وبالهلاك: الكفر،
وبالبينة: إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة، أي: فعلنا ذلك لتظهر حجة
من أسلم، ويدحض باطل من كفر، ولا ارتياب في أن هذه المعاني في هذا التركيب أوضح
منها في قوله تعالى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً). اهـ
قوله: (وقرئ (لِيَهْلَكَ) بالفتح).
قال ابن جني في المحتسب: هي شاذة مرغوب عنها لأن ماضيه هلك بالفتح ولا يأتي فعل
يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة.
قوله: (أكله جزور).
جمع آكل، أي: قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في العد والأمر الذي لا يعبء به.
قاله الطَّيبي.
قوله: (ولم يصفها).
قال الشيخ سعد الدين: أي لم يقل فيه كافرة مع أنه المقصود. اهـ
قوله: (والريح مستعارة للدولة).
قال الطَّيبي: شبهت الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس
المشبه به إدِّعاءً، وأطلق المشبه به وهو الريح على المشبه المتروك. اهـ
قوله: (وقيل: المراد بها الحقيقة).
قال الطَّيبي: ويجوز أن يكون كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد. اهـ
قوله: (فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله).
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه
العدو وإذا كان كذلك لم يكن لهم قوام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
(3/475)
كان عند القتال لم يقاتل أول النهار
إلى أن تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر.
قوله: (وفي الحديث: نصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور).
أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.
قوله: (وتعزف).
قال في النهاية: العزف: اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرها مما يضرب.
قوله: (والعطف لتغاير الوصفين).
قال الشيخ سعد الدين: أي نقول الجامعون بين صفتي النفاق ومرض القلب.
قال: وجعل الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، أو من قبيل: أعجبني زيد وكرمه وهْمٌ.
اهـ
يشير إلى الرد على الطَّيبي حيث قال: ويجوز أن تكون الواو في (وَالذِين) من التي
تتوسط بين الصفة والموصوف لتأكيد لصوق الصفة، لأن هذه الصفة في المنافقين صفة لا
تنفك، قال تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أو تكون من التي تدخل بين المفسر
والمفسر؛
نحو: أعجبني زيد وكرمه. اهـ
قوله: (ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً).
قال الشيخ سعد الدين: لا بد أن يحمل المضي ههنا على الغرض والتقدير، وكأنه قيل: قد
مضى هذا المعنى ولم تره ولو رأيته لرأيت أمراً عظيماً قطعياً، وإلا فظاهر أن ليس
المعنى هنا على حقيقة المضي. اهـ
قوله: (وهو مبتدأ خبره (يضربون)).
قال الطَّيبي: فالجملة على هذا استئناف.
قوله: (ويقولون ذوقوا).
(3/476)
قال الشيخ سعد الدين: ليس الاحتياج إلى
هذا التقدير لمجرد قبح عطف الإنشاء على الإخبار، بل لأن المعنى على ذلك، لأن هذا
من كلام الملائكة قطعاً وإنما الكلام في (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حيث
يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى. اهـ
قوله: (فلا يتوقع منهم إيمان).
قال الطَّيبي: يعني دل قوله (فَهُم لا يُؤمِنُونَ) لما فيه من بناء (لا يؤمِنُونَ)
على (هم) المفيد لتقوي الحكم على عدم توقع الإيمان منهم وذلك لترتب هذه الجملة على
قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث أوقع
(الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو معرفة خبراً لـ (إِنَّ) وجعل اسمه (شَرَّ الدَّوَابِّ).
اهـ
قوله: (أن لا يمالؤا).
أي: يساعدوا.
قوله: (وعن عقبة بن عامر: سمعته عليه الصلاة والسلام على المنبر يقول: ألا إن
القوة الرمي، قالها ثلاثاً).
أخرجه مسلم.
قوله: ((وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) اسم للخيل التى تربط في سبيل الله تعالى).
قال الطَّيبي: قيل: فإذن يلزم من إضافته إضافة الشيء إلى نفسه. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: وليس بشيء، بل في التحقيق الرباط: اسم للمربوطات إلا أنه لا
يستعمل إلا في الخيل، فالإضافة باعتبار عموم المفهوم الأصلي. اهـ
قوله: (أو مصدر).
قال في الانتصاف: هذا هو المطابق للرمي. اهـ
قوله: (قال جرير:
إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا).
بعده:
وإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
(3/477)
قال الطَّيبي: حسبكم أي: محسبكم، وأن
تلبسوا: فاعله، وخز الثياب: نفيسها، ويروى خز بالخاء والزاي المعجمتين وهو نوع من
الإبريسم، وتقنعوا: أي غطوا رءوسكم ووجوهكم من الحياء، يهجوهم بأن همتهم مقصورة
على المآكل والملابس. اهـ
قلت: ذكر الزمخشري في شرح شواهد سيبويه أنَّ هذين البيتين لعبد الرحمن بن حسان،
وقيل: لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان وأورد الأول بلفظ: إني رأيت، وقال: جعل (أن
تلبسوا) أحد مفعولي (رأيت) و (حسبكم) المفعول الثاني، يهجو بني أمية بن عمرو بن
سعيد بن العاص وكانوا زوجوا أختهم من سليمان بن عبد الملك وحملوها إلى الشام
فصحبهم وكانوا وعدوه بالقيام بحوائجه فقصروا فهجاهم.
قوله: ((وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما فى محل النصب على المفعول
معه).
قال أبو حيان: هذا مخالف لكلام سيبويه فإنه قال: قالوا: حسبك وزيداً درهم لما كان
فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قيل: بحسبك وبحسب زيداً
درهم.
قال: وفي ذلك الفعل المضمر ضمير يعود على الدرهم، والنية بالدرهم التقديم، فيكون
من عطف الجمل، ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه
ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك فيه. اهـ
قوله: (فحسبك والضحاك سيفٌ مهند).
أوله: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا.
قال الطيبي: انشقاق العصا عبارة عن التفرق، ونصب (الضحاكَ) بـ (حسبك) لأنه في معنى
يكفيك، يقول: إذا كان يوم الحرب ووقع الخلاف بينكم فحسبك مع الضحاك سيف هندي.
وقال ابن يعيش في شرح شواهد الإيضاح: يروي (الضحاك) بالرفع والنصب والجر، فالرفع
على أنه مبتدأ خبره (سيف) وخبر (حسبك) محذوف لدلالة الكلام عليه لأنه
(3/478)
في معنى الأمر، أي: فلتكتف ولتثق
والضحاك سيفك الأوثق، والنصب على أنه مفعول معه و (حسبك) مبتدأ و (سيف) خبره،
والمعنى: كافيك سيف مع صاحبه الضحاك وحضوره، أي حضور هذا السيف المغني عن سواه،
والجر على أن الواو واو قسم، أو عطفاً على الكاف في (حسبك).
قال: وكلاهما مخالف للمعنى، لأن القصد الإخبار بأن الضحاك نفسه هو السيف الكافي
والإخبار بأن المخاطب يكفيه ويكفي الضحاك معه سيف. اهـ
قوله: (أو الرفع عطفاً على اسم الله).
زاد أبو البقاء: أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: كذلك، أي: حسبهم الله تعالى. اهـ
قوله: (أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بِاللَّيْلِ نَاراً)
هو لأبي داود جعفر بن الحجاج، وقيل: حارثة بن حمران الإيادي الحذاقي من أبيات
أولها:
ودارٍ يقول لها الرائدو ... ن ويلُ امِّ دار الحذاقيّ دارا
يصف أيام لذته بالتقييد ثم مصيره إلى حال أنكرت عليه امرأته بمنزلته من السوء
فأنبأها بجهلها بمكانه وأنه لا ينبغي أن يغتر بأمرئٍ من غير امتحانه.
قال ابن يعيش: سيبويه يحمل قوله: (ونار) على حذف مضاف تقديره: وكل نار، إلا أنه
حذف ويقدرها موجودة، وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملين، فيخفض (نارا) بالعطف
على (امرئٍ) المخفوض بـ (كل)، وينصب بالعطف على (أمرأً) المنصوب، وهذا البيت من
أوكد ما استشهد به أبو الحسن. اهـ
وقال غيره: يروي (وناراً) الأول بالنصب فراراً من العطف عاملين.
ووقع في كامل المبرد نسبة هذا البيت إلى عدي بن زيد.
قوه: (روي أنه عليه الصلاة والسلام أُتي يوم بدر بسبعين أسير ... ) الحديث.
أخرجه أحمد وابن جرير وابن مردويه من حديث ابن مسعود، ومسلم من حديث ابن عباس
بنحوه.
(3/479)
قوله: (روي أنه عليه السلام قال: لو
نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ).
أخرجه ابن جرير عن محمد بن إسحاق بلفظ: لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر
بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليَّ، وأخرجه ابن مردويه
من حديث ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ.
قوله: (روي أنها نزلت في العبَّاس ... ) الحديث.
أخرجه الحاكم وصححه من حديث عائشة.
قوله: (تشبيهاً لها بالعمل والصناعة).
قال الشيخ سعد الدين: يريد أن (فعاله) بالكسر في المصادر إنما يكون في الصناعات
وما يزاول كالكتابة والزراعة والحراثة والخياطة، والولاية ليست من هذا القبيل إلا
على التشبيه. اهـ
قوله: (إلا تفعلوا ما أمرتم به).
قال الطَّيبي: يريد أن الضمير في (تَفعَلُوهُ) بمنزلة اسم الإشارة الذي يشار به
إلى جميع ما ذكر. اهـ
قوله: (من قرأ سورة الأنفال ... ) الحديث.
رواه الثعلبي عن أُبيٍّ وهو موضوع.
(3/480)
سورة التوبة
قوله: (ولها أسماء أخر ... ) إلى آخره.
قلت: لبراءة أكثر من عشرة أسماء، وقد نظمتها في أبيات فقلت:
أسماء براءة تفوق العشرة ... فاضحة البحوث والمنقرة
وسورة العذاب والتوبة ... مع حافرة مثيرة مبعثرة
مخزية مقشقشة مدمدمة ... منكلة مشردة يا بررة
قوله: (والبحوث).
بفتح الباء، كذا ضبطه.
قوله: (لما فيها من التوبة للمؤمنين).
أي في قوله (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ) إلى قوله تعالى (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). قاله
الطَّيبي.
قوله: (وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت سورة ... ) الحديث.
أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن
عباس.
قوله: (روي أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ... ) الحديث.
هو ملفق من عدة أحاديث بعضها في مسند أحمد من حديث علي، وبعضها في الصحيحين من
حديث أبي هريرة، وبعضها في الدلائل للبيهقي من حديث ابن عباس، وبعضها في تفسير ابن
مردويه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. الشيخ سعد الدين.
قوله: (أمرت بأربع).
(3/481)
أي بأن أخبر وأنادي بها، وكان العلم
بأن الكافر لا يدخل الجنة لم يكن حاصل للمشركين قبل ذلك، أو أريد الإعلام بأنه لا
يقبل من المشركين بعد هذا إلا الإيمان، أو بأن التعادي والتباين بين النفسين
المسلمة والكافرة ثابت في الدنيا والآخرة.
الطَّيبي.
قوله: (العضباء).
لقب لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصله المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته
الشريفة كذلك.
قوله: (في بعض الروايات: لا ينبغى لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي).
أخرج هذه الرواية أحمد والترمذي وحسنه من حديث أنسٍ.
قوله: (روي أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع
فقال: هذا يوم الحج الأكبر).
أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر.
قوله: (الحج عرفة).
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والدارقطني
والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر.
قوله: ((ورسوله) عطفاً على المستكن في (بريء) لوجود الفاصل).
قال الشيخ سعد الدين: ويحتمل أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي ورسوله كذلك. اهـ
قوله: (أو على محل (إن) واسمها في قراءة من كسرها).
قال الطيبي: وذلك لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على
(3/482)
محل ما عملت فيه، هذا معنى قولهم: يعطف
على محلها مع اسمها، هذا على ما قرئ في الشاذة بكسر (إن)، وأما على المشهورة بفتح
(أن) فقال أبو البقاء: إنه عند المحققين غير جائز لأن المفتوحة لها موضع غير
الابتداء بخلاف المكسورة.
وقال ابن الحاجب: (وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوف على (أنَّ) باعتبار المحل وإن كانت
مفتوحة لأنَّها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون فإنَّهُم قالوا
(إذا) يعطف على اسم (إنَّ) المكسورة دون غيرها، توهموا أنه لا يجوز العطف على
المفتوحة، والمفتوحة تنقسم إلى قسمين: قسم يجوز العطف فيه على اسمها بالرفع، وقسم
لا يجوز، فالذي يجوز هو أن يكون في حكم المكسورة كقولك: علمت أنَّ زيداً قائمٌ
وعمرو، لأنه في معنى إنَّ زيداً قائم وعمرو فكما جاز العطف ثَمَّ جاز هنا، ألا ترى
أنَّ (عَلمَ) لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر، يدل على ذلك وجوب الكسر في قولك:
علمتَ إنَّ زيداً القائم، وإنما انتصب بعدها توفيراً لما تقتضيه علمت من معنى
المفعولية، وإذا تحقق أنها في حكم المكسورة جاز العطف على موضعها، وإن كانت
المفتوحة على غير هذه الصفة لم يجز العطف على اسمها بالرفع مثل قولك: أعجبني أنَّ
زيداً قائم وعمرو، فلا يجوز إلا النصب لأنَّها ليست مكسورة ولا في حكمها.
وقال في موضع آخر: إنما لم يعطف على المفتوحة لفظاً ومعنى لأنها واسمها وخبرها
بتأويل جزء واحد، فلو قدرت أنها في حكم العدم لأخللت بموضعها بخلاف (إن) المكسورة
لأنَّها لا تغير المعنى فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض كما جاز تقدير عدم
الباء المؤكدة في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا. اهـ
قوله: (استثناء من المشركين).
أي في قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
قوله: (أو استدراك).
أي: استثناء منقطع.
قال الشيخ سعد الدين: ولا يضره تخلل الفاصل -أعني قوله (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ ... ) إلى آخره- لأنه ليس بأجنبي بالكلية لكونه أمراً بالإعلام، كأنه
قيل لهم: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن اللهَ بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم
ينقضوا عهدهم أتموا إليهم عهدهم ولا تجعلوهم في حكم الناكثين الذين لا رخصة في
إمهالهم أربعة أشهر.
(3/483)
قال: وفي جعله استثناء متصلاً من
(الْمُشْرِكِينَ) يلزم تخلل الفاصل الأجنبي مع منافاته لعموم المشركين في قوله
تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلا أن يحمل على المعهود أعني
المشركين الذين استثنى منهم غير الناكثين، أو يخص عمومهم بهذه القرينة، لكن تأخر
الاستثناء ينافي ذلك ولا محيص سوى أن يجعل من جهة المعنى من المشركين الثاني
أيضاً.
وذهب صاحب الانتصاف إلى أنه لا حاجة إلى تقدير القول في (فَسِيحُوا) وإنما هو تفنن
وذهاب من خطاب المسلمين إلى خطاب المشركين ثم رجوع إلى خطاب المسلمين بقوله تعالى
(إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ). اهـ
وعبارة الانتصاف: يجوز أن يكون (فَسِيحُوا) خطاباً من الله تعالى ولا يضمر قبله
قولوا، ويكون استثناء من قوله (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، والمعنى: براءة من
الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين
في (عَاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في (فَسِيحُوا)، والتفات بقوله (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ ... ) وقياسه: غير معجزي وأني،
فيه افتنان وتفخيم للشأن، ثم يعود إلى خطاب المؤمنين في قوله تعالى (إِلاّ
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا
وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ). اهـ
قوله: (وانتصابه على الظرف).
قال أبو حيان: سبقه إلى ذلك الزجاج، ورده أبو علي، لأنَّ المرصد: المكان الذي يرصد
فيه العدو، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً.
قال أبو حيان: وأقول يصح انتصابه على الظرف لأن قوله (وَاقْعُدُوا لَهُمْ) ليس
معناه حقيقة القعود بل المعنى: أرصدوهم في كل مرصد يرصد فيه، ولما كان المعنى هذا
جاز قياساً أن يحذف منه (في) لأن العامل في الظرف المختص إذا كان من لفظه أو معناه
جاز أن يصل إليه بغير وساطة (في). اهـ
وقال صاحب الانتصاف: يحتمل أن يكون المرصد مصدراً لأن اسم الزمان والمكان والمصدر
من فعله واحد. اهـ
قوله: (وَخَبَّرتماني أَنَّما الموْتُ بِالقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ
وَقَلِيبُ).
(3/484)
هو لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه
وقبله:
لعمركما إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتي غداً لقريب
الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض، والقليب: البئر.
قال الزمخشري في شرح شواهد سيبويه: أي قلتما لي إن من سكن القرى مرض للوباء الذي
فيها فكيف مات أخي في برية وهذه هضبة أي جبل وقليب أي بئر، أشار إلى هضبة وبئر في
الموضع الذي مات فيه أخوه ومن أبيات هذه القصيدة قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجب عند النداء مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا ... لعل أبا المغوار منك قريب
قوله: (قال حسان: لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإِلَّ السَّقْبِ مِنْ
رَأَلِ النَّعَامِ).
السقب: ولد الناقة الذكر، والرأل: ولد النعام.
قوله: (وهو الجؤار).
بضم الجيم والهمز: رفع الصوت.
قوله: ((وأكثرهم فاسقون) متمردون).
قال الطَّيبي: الكافر إذا وصف بالفسق دل على نهاية ما هو فيه من الكفر. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: أشار بقوله متمردون إلى دفع ما يقال إن الكفر أقبح من الفسق
كله فما وجه إخراج البعض بقوله (وَأَكْثَرُهُمْ)؟. اهـ
قوله: (من التفادي).
بالفاء، يقال: تفادى الرجل من كذا، إذا تحاماه. قاله الطيبي.
قوله: ((وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض).
قال الشيخ سعد الدين: بين (فَإن تَابُوا) (وَإِنْ نَكَثُوا). اهـ
قوله: (وإظهار الياء لحن).
قال الحلبي: لأنه إنما اشتهر من القراء التسهيل بين بين لا الإبدال المحض حتى إن
الشاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين لا للقراء فقال: وفي النحو إبدالاً. اهـ
(3/485)
قلت: فقوله: لحن مراده اللحن الخفي عند
القراء لا الجلي الذي هو خلاف مما تقتضيه قواعد النحو، فاندفع ما أورد عليه من أنه
خلاف ما ذكره النحاة ومنهم الزمخشري في المفصل حيث قال: إذا التقت همزتان في كلمة
واحدة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين على حسب حركتها.
قال ابن الحاجب في شرحه: كقولك أيمة بياء محضة. هذه عبارته.
قوله: (فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه).
قال الطَّيبي: وذلك أن المؤمن إذا اعتقد أن لا ضار ولا نافع إلا الله وإن أحداً لا
يقدر أن يضره وينفعه إلا بإذنه ومشيئته فلا يخاف إلا ربَّه. اهـ
قوله: (روي أنه لما أُسر العبَّاس. .) إلى آخره.
أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، وأخرجه ابن جرير وأبو
الشيخ عن الضحاك بلفظه.
قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد ...
) الحديث.
أخرجه الطبراني من حديث سلمان بلفظ: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد
فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره، وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيريهما
والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن ميمون قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقاً على الله أن يكرم من زاره
فيها.
قوله: (وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أن الإيمان باللهِ تعالى قرينه ...
) إلى آخره.
قال الشيخ سعد الدين: يعني أنه مذكور بطريق أبلغ لما اشتهر من تقارنهما وعدم
إنفكاك أحدهما عن الآخر.
وقال الطَّيبي: خلاصة الجواب أن في الكلام دلالة على ذكره وليس فيه بيان الفائدة
في
(3/486)
طي ذكره، ويمكن أن يقال: إن المراد بـ
(مَنْ آمَنَ) الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم الأحق بعمارة مساجد الله،
وهو الذي يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى وعبادته وذكره، فلما كان داخلاً في لفظ
(من) لم يحسن أن يقال ورسوله. اهـ
قوله: (نزلت فى المهاجرين ... ) إلى آخره.
أخرجه الثعلبي عن ابن عباس.
قوله: (وقيل نزلت نهياً عن مولاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة).
رواه الثعلبي عن مقاتل.
قوله: (وموطن يوم حنين ... ) إلى آخره.
تبع الزمخشري في تقدير موطن في الثاني، أو تفسير موطن بالوقت في الأول ليكون من
عطف الزمان على المكان، (وقد قال صاحب الانتصاف متعقباً عليه: لا مانع من عطف
الزمان على المكان كعطف أحد المفعولين على الآخر تقول: ضرب زيد عمرواً يوم الجمعة
وفي المسجد، كما تقول: ضربت زيداً وعمروا.
وقال الحلبي: لا أدري ما حمل الزمخشري على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن
بالوقت ليصح عطف زمان على زمان أو مكان على مكان إذ يصح عطف أحد الطرفين على
الآخر. اهـ
وقال الطَّيبي في توجيه صنع صاحب الكشاف: قيل يعني أن الفعل كما يقتضي ظرف المكان
يقتضي ظرف الزمان فلا يجوز أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر كما لا يعطف المفعول به
على المفعول فيه ولا الفاعل على المفعول ولا المصدر على شيء من ذلك ولا بالعكس.
ثم قال الطَّيبي: والزمخشري إنما راعى المناسبة وهي واجبة عند علماء البيان دون
النحويين. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا ينبغي أن يذهب في وجه ذلك لأنه ليس بينهما من المناسبة
ما يصلح معه العطف فإنه ظاهر الفساد، بل وجهه إن كلاً منهما متعلق بالفعل بلا توسط
العاطف كسائر المتعلقات لا يعطف بعضها على بعض، وإنما تعطف على البعض
(3/487)
ما هو من جنسه ولا يتعلق معه استقلالاً
مثل: ضربت زيداً وعمرواً، وصمت يوم الخميس ويوم الجمعة، وصليت في الدار وفي
المسجد، ونحو ذلك، فاحتاج إلى أن يجعله من عطف المكان على المكان بتقدير المضاف،
أو الزمان على الزمان كذلك، أو يجعل الموطن اسم زمان على ما يجوزه القياس وإن كان
بعيداً من الفهم قليلاً في الاستعمال، كأنه قيل: في أزمنة أوقات مواقف الحروب. اهـ
قوله: (ولا يمنع إبدال قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه أن يعطف على
موضع (في مَواطِنَ) فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي
كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن).
هذا ردٌّ لقول الكشاف على أن الواجب أن يكون (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) منصوباً بفعل
مضمر لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أن قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ) فلو جعل ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك
المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فنفى أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به إلا إذا
كان نصبت (إذ) بإضمار اذكر.
وقد تكلم الناس على كلام الزمخشري هذا فمن متعقب ومن مقرر، فقال صاحب الانتصاف: ما
ذكره غير لازم، تقول: اضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، والناصب للظرفين واحد، وهما
متغايران، إنما يمتنع أن ينتصب الفعل الواحد بظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف.
اهـ
قال الطَّيبي بعد أن حكاه: وعليه قول القاضي: ولا يمتنع إبدال قوله (إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ) ... إلى آخره.
وقال صاحب التقريب تقريراً لقول الزمخشري: الواجب أن ينصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) بـ
(نصر) مضمراً لئلا يعطف زمان على مكان بل يكون عطف جملة على جملة لا بهذا
الظاهر إن جعل (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلاً من
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) لا منتصباً بـ (اذكر) إذ التقدير على البدلية نصركم في مواطن
كثيرة زمان أعجبتكم كثرتكم، ولا يصح لأن الإعجاب والكثرة لم يكونا في جميع تلك
المواطن، وقد يقال: يمكن أن ينصب بهذا الظاهر مطلقاً لا مقيداً بالظرف، وغاية
الجواب أنه إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف نحو: صليت قائماً في المسجد، فالمعنى
أن الصلاة المقيدة بالقيام
(3/488)
وقعت في المسجد، والحال في المعنى ظرف
فيعتبر في الثاني ذلك الظرف كما يعتبر في الحال وللبحث فيه مجال.
قال الطَّيبي: وتمام التقرير أنَّ الأصوليين ذكروا أن الأصل اشتراك المعطوف
والمعطوف عليه فِى المتعلقات كالحال والشرط وغيرهما هذا هو المراد من كلام
الزمخشري وصاحب التقريب.
قال: فالواجب أن يقال: ما في الآية ليس من باب عطف المفرد على المفرد بل هو من باب
عطف الجملة على الجملة، إما على تقدير ناصب من جنس المذكور، أو تقدير اذكر من غير
إبدال لئلا يلزم المحذور، وبيانه أن (نصر) مطلق وتقييده بحسب كل واحد من الظرفين
فإن الأحوال والظروف كلها مقيدات للفعل المطلق، فإذا قيد أحدهما بقيد لزم تقييد
الفعل به، لأن القيد بيان المراد من المطلق فيسري منه إلى الآخر، لعل هذا هو
المعنى من قول صاحب التقريب: إذا تقدم فعل مقيد بحال عنى ظرف نحو: صليت قائماً في
المسجد فيعتبر في الثاني ذلك القيد قريب من قولهم المتعقب للحمل للجميع. اهـ
وقال الحلبي: كلام الزمخشري حسن، وتقديره أن الفعل مقيد بظرف المكان، فإذا جعلنا
(إِذ) بدلاً من (ويوْم) كان معمولاً له، لأن البدل يحل محل المبدل منه، فيلزم أنه
نصرهم إذ أعجبتهم كثرتهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض المواطن لم يكونوا
بهذه الصفة، إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل في جميع المواطن حتى يلزم ما
قاله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين في تقرير كلام الكشاف: الواجب أن ينتصب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)
بفعل مضمر وهو (نَصَرَكُمُ) ليكون من عطف الجملة على الجملة، لا بقوله (لَقَدْ
نَصَرَكُمُ) ليكون عطفاً على (فِي مَوَاطِنَ) بالتأويل وبدون التأويل وذلك لأن
(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) فيكون زمان
الإعجاب بالكثرة ظرفاً للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لأن الفعل واحد، ولأن
الأصل في العطف أن يتقيد المعطوف بما يتقيد به المعطوف عليه وبالعكس مثل: أعجبني
قيام زيد يوم الجمعة وقيام عمرو، وبالعكس، و (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) مقيد بزمان
الإعجاب بالكثرة لأن العامل
(3/489)
منسحب على البدل والمبدل منه جميعاً
وكذا المواطن، واللازم باطل إذ لا إعجاب بالكثرة في المواطن، وبهذا التقرير يندفع
ما يقال: هذا إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حذف حرف العطف ليؤول
إلى: نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم، وليس كذلك، بل يؤول إلى: نصركم في
مواطن إذ أعجبتكم، وعلى ما ذكره الزمخشري منع ظاهر مرجعه إلى أن الفعل في المعطوف
والمعطوف عليه لا يلزم أن يكون واحداً بحيث لا يكون له تعدد أفراد، ألا ترى إلى
قولنا: ضرب زيد اليوم وعمرو غداً، وأضربه حين يقوم وحين يقعد، وأضرب زيداً قائماً
وعمرواً قاعداً، إلى غير ذلك ولا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق
المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر خلافه إلى الدليل. اهـ
قلت: وهذا المنع هو تقرير ما مشى عليه البيضاوي.
(ثم قال الشيخ سعد الدين: وأما ما يقال إن هذه النكتة تدفع ما تقدم أيضاً) لأن
الزمان إنما لا يعطف على المكان لو كان زمان ذلك الفعل وهو ليس بلازم لجواز تغاير
الفعلين ففيه نظر لأن مراده الامتناع فيما إذا كان معمولي فعل واحد في اللفظ نحو:
ضربت زيداً وعمرواً في الدار ويوم الجمعة، حتى يجري فيما إذا تحقق التغاير مثل:
أكرمت أول الزائرين وآخرهم في الدار ويوم الجمعة. اهـ
قوله: (وحنين واد ... ) إلى آخره.
الحديث أخرجه مسلم من حديث العبَّاس بنقص يسير، وروى البيهقي في الدلائل عن الربيع
بن أنس أن رجلاً قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأنزل الله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).
قال الربيع: وكانوا اثني عشر ألفاً منهم ألفان من أهل مكة.
قوله: (الطلقات).
قال الشيخ سعد الدين: هم الأسارى الذين أخذوا يوم الفتح وأطلقوا. اهـ
قوله: (لن نغلب اليوم من قلة).
قال الطَّيبي: ليس نفياً للمغلوبية بل نفي للقلة، يعني متى غلبنا كان سببه غير
القلة. اهـ
(3/490)
وقال الشيخ سعد الدين: هو نفى للقلة
وإعجاب بالكثرة، يعني إن وقعت مغلوبية فليس عنها. اهـ
قوله: (فقال العبَّاس وكان صيتاً).
أي عالي الصوت.
روى ابن سعد في الطبقات عن كذا.
قوله: (يا أصحاب الشجرة).
أي أصحاب بيعة الرضوان المذكورين في قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).
قوله: (يا أصحاب سورة البقرة).
قال الطَّيبي: قيل: أريد المذكورون في قوله (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)، وقيل: الذي أنزل عليهم سورة البقرة. اهـ
قلت: الظاهر أن المراد الذين حفظوا سورة البقرة فإنَّهُم عظماء الصحابة، قال أنس
بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا.
قوله: (فكرُّوا عنقاً واحداً).
قال الزمخشري: أي رجعوا جماعة واحدة واحدة، أي دفعة، منه قوله (فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ) أي رؤساءهم وجماعاتهم. اهـ
قوله: (حمى الوطيس).
قال في النهاية: الوطيس: التنور.
وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ذكر ابن دريد في المجتبى وغيره أن أول من
قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يومئذ، ولم يسمع قبله.
(3/491)
قال الطَّيبي: وهو من أحسن الاستعارات.
اهـ
قوله: (رُوي أن ناساً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ) الحديث.
ذكره الثعلبي بلفظ المصنف بغير إسناد، وأصله عند البخاري من حديث المسور بن مخرمة
ومروان بن الحكم بنحوه.
قوله: (ما نعدل بالأحساب شيئاً).
قال في الأساس: الحسب ما يعده الرجل من مفاخر آبائه. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: كنوا بذلك عن اختيار الذراري والنساء على استرجاع الأموال
لأن تركهم في ذل الأمر يقضي إلى الطعن في أحسابهم. اهـ
قوله: (فشأنه).
قال الشيخ سعد الدين: أي فيلزم أمره وشأنه. اهـ
قوله: (وأكثر ما جاء تابع لرجس).
قال الطَّيبي: أي أكثر ما جاء نجس بكسر النون اهـ.
في الصحاح: قال الفراء: إذا قالوه مع الرجس أتبعوه إياه قالوا رجس نجس بالكسر. اهـ
قوله: (أهل تبالة).
هي بفتح التاء وتخفيف الموحدة بلدة صغيرة باليمن.
قوله: (وجُرَش).
بضم الجيم وفتح الراء: مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف في اليمن كالرستاق في
العراق.
قوله: (مواتية).
أي: موافقة.
(3/492)
قوله: (أو عن يد قاهرة).
قال في الانتصاف: هدا الوجه أملأ بالفائدة.
قوله: (ويؤيده أن عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنه
عليه الصلاة والسَّلام أخذها من مجوس هجر).
أخرجه البخاري إلى هنا، وأما قوله: وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فحديث آخر أخرجه
مالك في الموطأ والشافعي في الأم عنه عن جعفر عن أبيه عن عمر أنه قال: ما أدري ما
أصنع في أمرهم؟
فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول لم الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا
هم سنة أهل الكتاب.
قوله: (ووى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من
العرب).
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عنه.
قوله: (أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا، وهو مزيف لأنه يؤدي
إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر).
قال الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز طاعناً في هذا الوجه: الاسم إذا وصف بصفة
ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً، فلو كان
المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم
وحصل تسليم كونه ابناً لله وذلك كفر. اهـ
وقال الإمام: هذا الطعن ضعيف، أما قوله إنه يتوجه الإنكار إلى الخبر فمسلم، وأما
قوله ويكون ذلك تسليماً للوصف فممنوع لأنه لا يلزم من كونة مكذباً لذلك الخبر كونه
مصدقاً لذلك الوصف إلا أن يقال تخصيص ذلك الخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهذا
بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف. اهـ
وقال الطَّيبي: هذا الكلام يحتمل أمراً آخر وهو أن يقال إنَّ المراد من إجراء تلك
الصفة على الموصوف بناء الخبر عليه فحينئذ يرجع التكذيب إلى جعل الوصف علة للخبر،
قال
(3/493)
: فبطل ما ذكره المصنف من التزييف. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: القول بالوصفية ليكون حذف التنوين من اللفظ والألف من الخط
قياساً كما في قولك زيد بن عمرو حاضر يوهم بل يدل بدليل الخطاب وشهادة الاستعمال
أن الوصف -أعني النبوة- ثابتة وإنما الكذب والخطأ في الحكم وهو كونه معبوداً،
مثلاً إذا أنكرت على من قال زيد بن عمرو سيدنا كان إنكارك راجعاً إلى كونه سيداً
لا إلى كونه ابن عمرو.
قال: وقد يتمحل فيجاب بأن الصفة هنا للعلمية أو للمدح فإنكار العبودية يتضمن
إنكارها، ولو سلم فلا يستلزم تسليمها.
قال: وذكر بعضهم أن القول ههنا بمعنى الوصف فلا حاجة إلى تقدير الخبر، كما أنَّ
أحداً إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت ذلك المنكر فقط.
قال: وهو مع كونه مخالفاً لظاهر قوله (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ليس دفعاً للتزييف المذكور بل وجهاً آخر. اهـ
قوله: (إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها).
لم يذكر هذا الوجه في الكشاف، وقال أصحاب الحواشي إنه غير مناسب.
قال الطَّيبي: فإن قلت: فهلا يعتبر التأكيد نحو رأيته بعيني وقلته بفمي وكتبته
بيدي؟
قلت: المقام يأباه، لأن المقصود الإخبار عن ذلك القول الشنيع الذي يخرج من أفواههم
من غير تحاش ولا مبالاة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ولا يقال ذلك الأسلوب إلا في أمر
يعظم مثاله ويعز الوصول إليه ليؤذن بنيله وحصوله. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: لا خفاء في أن جعل (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) من
قبيل كتبته بيدي وأبصرته بعيني وسمعته بأذني غير مناسب للمقام، فلذا حمله صاحب
الكشاف على وجهين حاصل الأول: أنه مجرد ملفوظ لا معقول له كالمهملات، وحاصل
الثاني: أنه رأي ومذهب لا أثر له في قلوبهم، وإنما يرونه ويتكلمون به جهلاً
وعناداً. اهـ
قوله: (ومنه قولهم: امرأة ضهياء على فعيل).
(3/494)
قال أبو البقاء: الأشبه أن لا يكون
مشتقاً منه، لأنَّ الياء في (ضهياء) أصلية والهمزة زائدة. اهـ
وقد قال الزجاج إن وزن ضهياء فعلاء والهمزة زائدة.
قوله: (وقيل إنه تمثيل لحالهم ... ) إلى آخره.
قال الطَّيبي: هو استعارة مصرحة تمثيلية، والمستعار جملة الكلام، لأنَّ حالهم في
محاولة إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه وهو مطوي، والمشبه
به حال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق المعنى بقوله تعالى
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) وهو الظرف المذكور،
وقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ترشيح للاستعارة، لأنَّ إتمام
النور زيادة في استنارته ونشر ضوءه فهو تفريع على الأصل أي المشبه به، وقوله (هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) تجريد للاستعارة وتفريع على الفرع، وروعي في كل من الممثل
والممثل به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى
الله تعالى، وما شأن نور يضاف إلى الله تعالى؟، وكيف السبيل إلى إطفائه لا سيما
بالفم؟، ومن ثم قال: في نور عظيم منبث في الآفاق، وتمم كلاً من الترشيح والتجريد
بقوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وأوهم
التناسب بين الكفر والإطفاء، لأن الكفر التغطية والستر، وبين الشرك ودين الحق،
لأنَّ دين الحق التوحيد.
قال: ويجوز أن يجعل (نُورَ اللهِ) استعارة تحقيقية، والقرينة الإضافة، والمراد
بالنور رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، شبه بذلك
لما جلى الله سبحانه به صلى الله عليه وسلم من ظلمات الشرك وهدى به الضالين، ثم
أطلق اسم النور والسراج على المشبه المتروك، ثم رشح الاستعارة لأنه صفة ملائمة
للمشبه به وهو السراج ولذلك قال (بِأَفْوَاهِهِمْ)، وأما قوله تعالى (وَيَأْبَى
اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) فكما
سبق في الاستعارة الأولى. اهـ
قوله: (نور عظيم).
قال الشيخ سعد الدين: مستفاد من الإضافة إلى الله تعالى. اهـ
قوله: (منبث).
(3/495)
قلت: الظاهر أنَّها بالنون ثم الموحدة
ثم المثلثة المشددة، أي: منتشر.
قوله: (لأنه فى معنى النفي).
أي: لا يرضى ولا يريد.
قوله: (لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... )
الحديث.
أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس كذا.
قوله: (ما أدي زكاته فليس بكنز).
أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدي الكامل وابن مردويه من حديث أبي ذر، والطبراني
من حديث أبي أمامة.
قوله: (أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز).
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن حبان عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
موقوفاً عليه.
قوله: (قانون التمول).
في الصحاح: القوانين: الأصول، الواحد قانون وليس بعربي.
قوله: (أو للفضة ... ) إلى آخره.
قال الراغب: أعيد الضمير للفضة دون الذهب لأن جنس الفضة عن الناس أعظم ضرراً
(3/496)
، والحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة
أجلب. اهـ
قوله: (وعن عطاء).
قال الشيخ سعد الدين: إذا أطلق عطاء فهو ابن أبي رباح. اهـ
قوله: (وقيل الضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم).
قال الشيخ سعد الدين: وعلى الأول لله تعالى. اهـ
وقال في الانتصاف: يريد الثاني في قوله عقبه (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ). اهـ
قوله: (أي إن لم تنصروه فسينصره الله ... ) إلى آخره.
قال في الانتصاف: الفرق بين الوجهين عسير، وغايته أن في الأول وعد بنصر مستقبل أكد
تحقيقه بوجود نصره من قبل، وفي الثاني إخبار باستمرار نصر ماضي، والأمر فيهما
متقارب. اهـ
قال الطَّيبي: قوله (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) من باب قولك إن
تكرمني الآن فقد أكرمتك أمس، فقوله: فسينصره الله كما نصره؛ إخبار على سبيل
التوبيخ، والمقصود أن الله تعالى ناصره الآن كما كان ناصره فيما مضى، فهو مستغن
عنكم ولا يضره خذلانكم، وقوله: وأوجب له النصر، إخبار بأن الله تعالى حكم بأنه
منصور، والنصر على الأول وقع تحقيقاً، وهو إمارة النصر المستقبل، وعلى الثاني النصر
محتوم مقدر وما قدره الله تعالى واجب الوقوع. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: الوجهان متقاربان، وحاصلهما أنَّ الجواب محذوف، والمذكور
بمنزلة العلة له، والفرق عائد إلى جهة العِلِّية، فالأول بمنزلة القياس الجلي، أي:
إن لا تنصروه فسينصره الله تعالى كما نصره، ولأنه نصره في وقت أصعب من هذا،
والثاني بمنزلة الاستصحاب المعلوم للمخاطبين، أي: فلا يخذله الله تعالى بل ينصره،
لأنه في حكم الله تعالى وفي سالف الزمان وسائر الأحوال من المنصورين لا من
المخذولين، وأنتم عالمون بذلك. اهـ
وقال أبو حيان: الوجه الثاني لا يظهر منه جواب الشرط لأنَّ إيجاب النصر له أمر
سبق،
(3/497)
والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي
يظهر الوجه الأول. اهـ
وقال السفاقسي: نصره له ثابت مستمر في المستقبل، فيصح حينئذ ترتبه على المستقبل،
وقد أشار إليه بقوله: فلن نخذله في غيره، وقد ذكر الشيخ أبو حيان جواز ذلك إذا كان
بهذا المعنى في البقرة. اهـ
قوله: (روي أن المشركين طلعوا فوق الغار ... ) الحديث.
أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي بكر إلى قوله: الله ثالثهما.
قوله: (فأعماهم الله تعالى عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه).
أخرجه ابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل من حديث أنس وزيد
ابن أرقم والمغيرة بن شعبة.
قوله: (وقيل لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين) الحديث.
أخرجه المذكورون من هذا الوجه.
قوله: (أو على صاحبه وهو الأظهر).
قال الشيخ سعد الدين: ولا ينافي كون ضمير (وَأَيَّدَهُ) للرسول ألبتة، لأنه عطف
على (فَقَدْ نَصَرَهُ) لا على قوله (فَأَنْزَلَ اللهُ). اهـ
قوله: (والرفع أبلغ).
قال الطَّيبي: لأنه يدل على الدوام والثبوت، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله،
وأنها في نفسها غالبة، وفيه إشارة إلى قدم كلمة الله تعالى. اهـ
وقال أبو البقاء: النصب ضعيف لأنه فيه دلالة على أن كلمة الله كانت سُفلى فصارت
عُليا، وليس كذلك، ولأن التوكيد بالضمير المرفوع للمنصوب بعيد إذ القياس يأباه.
اهـ
(3/498)
وقال الشيخ سعد الدين: إنما كان الرفع
أبلغ لما في النصب من إيهام التقييد بالظروف السابقة أعني (إِذْ أَخْرَجَهُ) و
(إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) و (إِذْ يَقُولُ)، لكن لا يخفى أن هذا ورد على قوله
(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ) فالأَولى التعليل بأن جعل (وَكَلِمَةُ اللهِ) في حيز
الجعل، والتصيير غير مناسب بل هو دائم ثابت، ولا كذلك تسفيل كلمة الذين كفروا فإنه
عبارة عن جعل دعوتهم إلى الكفر مضمحلة مقهورة منكوسة فيما بين الناس، وأما التعليل
بأن قولنا جعل الله كلمة الله هى العليا؛ بمنزلة: أعتق زيد غلام زيد؛ فمدفوع بأن
في إضافة الكلمة إلى صريح اسم الله زيادة إعلاء لمكانها وتنويهاً بشأنها. اهـ
قوله: ((لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابى القسم والشرط).
قال أبو حيان: ليس هذا بجيد بل للنحويين في هذا مذهبان أحدهما: أن (لَخَرَجْنَا)
هو جواب القسم وجواب (لَو) محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم
على الشرط، وهو اختيار ابن عصفور، والآخر: أنَّ (لَخَرَجْنَا) هو جواب (لَو)،
وجواب القسم هو (لَو) وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك، وأما أنه سد مسدهما فلا أعلم
أحداً ذهب إليه.
قال: ويحتمل أن يتأول كلامه على أنه لما حذف جواب (لَو) ودل عليه جواب القسم جعل
كأنه سد مسدهما. اهـ
قوله: (وهو بدل من (سيحلفون)).
قال أبو حيان: هذا بعيد لأنَّ الإهلاك ليس مرادفاً للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز
أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. اهـ
وقال الحلبي: يصح على أنه بدل اشتمال، وذلك لأنَّ الحلف سبب للإهلاك فهو مشتمل
عليه فأبدل المسبب من سببه لاشتماله عليه، وله نظائر كثيرة منها قوله:
إن عليَّ الله أن تبايعا ... تؤخذَ كرهاً أو تجيء طائعا
فـ (تؤخذ) بدل من (تبايعا) بدل اشتمال بالمعنى المذكور، وليس أحدهما نوع من الآخر.
اهـ
قلت: وهذا معنى قول المصنف: لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك.
قوله: (كناية عن خطئه في الإذن لهم فإن العفو من روادفه).
(3/499)
تبع في هذه العبارة السيئة الزمخشري،
وقد قال صاحب الانتصاف: هو بين أمرين: أن لا يكون هذا المعنى مراداً فقد أخطأ، أو
يكون مراداً لكن كنى الله تعالى عنه إجلالاً ورفعاً لقدره، أفلا يتأدب بأدب الله
تعالى لا سيما في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم. اهـ
وقال الطَّيبي: أخطأ الزمخشري في هذه العبارة خطأً فاحشاً، ولا أدري كيف ذهب عنه
-وهو العَلَمُ في استخراج لطائف المعاني- أنَّ في أمثال هذه الإشارات وفي تقديم
العفو إشعار بتعظيم المخاطب وتوقير حرمته. اهـ
وقال السجاوندي: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) تعليم بعظمته صلوات الله وسلامه عليه، ولولا
تصدير العفو في المقال لما قام بصولة الخطاب، وربما يستعمل في ما لم يسبق به ذنب
ولا يتصور كما يقول لمن يعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما
جوابك عن كلامي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره
والله يغفر له. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: ما كان ينبغي له أن يعبر بهذه العبارة الشنيعة بعدما راعى
الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقديم العفو وذكر الإذن المنبيء عن علو
المرتبة وقوة التصرف وإيراد الكلام في صورة الاستفهام وإن كان القصد إلى الإنكار
على أن قولهم: عفا الله عنك؛ قد يقال عند ترك الأولى والأفضل بل وفي مقام التعظيم
والتبجيل مثل: عفا الله عنك ما صنعت في أمري. اهـ
وقال القاضي عياض في الشفا: قال مكي: هذا افتتاح كلام بمنزلة: أصلحك الله وأعزك
الله. اهـ
وقد ألف في هذا الموضع رداً على الزمخشري الصدر حسن بن محمد بن صالح النابلسي
الحنبلي كتاباً سماه جنة الناظر وجُنة المناظر في الانتصاف لأبي القاسم الطاهر صلى
الله عليه وسلم، وبهذه النكتة وأمثالها اشمأز أهل الدين والورع من النظر في الكشاف
(3/500)
ونهوا عن مطالعته وإقرائه.
وألف الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين السبكي كتاباً سماه (سبب الانكفاف عن
إقراء الكشاف) قال فيه: وبعد فإن كتاب الزمخشري كنت قرأت منه شيئاً على الشيخ علم
الدين عبد الكريم بن علي المشهور بالعراقي في سنة اثنين وسبعمائة وكنت أحضر قراءته
عند قاضي القضاة شمس الدين السروجي وكان له عناية ومعرفة ثم لم أزل أسمع دروس الكشاف
وأبحث فيه ولي فيه غرام لما اشتمل عليه من الفوائد والفضائل التي لم يسبق إليها،
والنكت البديعة والدقائق التي تقر العيون عليها، وأتجنب ما فيه من الاعتزال،
وأتخرج الكدر وأشرب الصفو الزلال، وفيه ما لا يعجبني مثل كلامه في قوله تعالى
(عَفَا اللهُ عَنْكَ)، وطلب مني مرة بعض أهل المدينة بنسخة من الكشاف فأشرت عليه
بأن لا يفعل حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل إليه كتاب فيه ذلك الكلام،
ثم صار هذا الكتاب يقرأ عليَّ وأنا أبقر عن فوائده حتى وصلت إلى تفسير سورة
التحريم وقد تكلم في الزلة فحصل لي بذلك الكلام غص، ثم وصلت إلى كلامه في سورة
التكوير في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إلى آخر الآية، والناس
اختلفوا في هذا الرسول الكريم من هو، فقال الأكثرون: جبريل، وقال بعضهم: هو محمد
صلى الله عليه وسلم، فاقتصر الزمخشري على القول الأول ثم قال: وناهيك بهذا دليلاً
على جلالة مكان جبريل وفضله على الملائكة ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد
صلى الله عليه وسلم إذا وازنت
بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ (21). وبين قوله تعالى (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). فطرحت الكشاف من
يدي، وأخرجته من خلدي، ونويت أن لا أقربه ولا أنظر فيه إن شاء الله تعالى، وذلك
لأني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأجله بحسب ما رزقني الله تعالى من محبته
وإجلاله، وأمتنعت من هذه الموازنة والمقايسة التي قالها الزمخشري، وهب أن الملائكة
أفضل البشر كما تقوله المعتزلة أما كان هذا الرجل يستحي من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يذكر هذه المقايسة بينه وبين جبريل (1) بل بهذه
__________
(1) قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
ورد في القرآن الكريم مرتين الأولى في سورة الحاقة والثانية في سورة التكوير
والمشهور عند سادتنا المفسرين أن آية الحاقة يراد منها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وآية التكوير يراد بها سيدنا جبريل - عليه السلام -
والآيتان سُبقتا بالقسم ففي الحاقة {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا
لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}
وفي التكوير {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}.
وتأمل في سورة التكوير أقسم الله تعالى بالكواكب وبالليل والنهار، وفي الحاقة أقسم
ربُّ العالمين بكل شيء {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا
تُبْصِرُونَ (39)} الليل والنهار، الدنيا والآخرة، الملك والملكوت، الخلق والخالق،
ماذا بعدد يقال بعد ذلك.؟!!
ولم يقسم ربُّنا - عز وجل - بعُمْرِ أحدٍ من خلقه إلا المصطفى - صلى الله عليه
وسلم - قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}.
والموضوع به كلام طويل لكن أختمه بلطيفة ذكرها الإمام ابن القيم.
قال عليه سحائب الرحمة والرضوان ما نصه:
فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة؟
قال ابن عقيل: "سألني سائل أيما أفضل حُجْرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم
الكعبة فقلت: إن أردتَ مجرد الحجرة فالكعبة أفضل وإن أردتَ وهو - صلى الله عليه
وسلم - فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدْنٍ ولا الأفلاك الدائرة لأنَّ
بالْحُجْرة جسداً لو وُزن بالكونَين لرجح. اهـ (بدائع الفوائد. 3/ 135 - 136).
(مصحح النسخة الإلكترونية).
(3/501)
العبارة، والذي أقوله إن كتاب الله
تعالى المبين لا مرية فيه وفيه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) و (إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) وغير ذلك مما القرآن
طافح به وبتعظيمه - صلى الله عليه وسلم -، وأنا واحد الناس كل ما أنا فيه من خير
أمور الدنيا والآخرة من الله تعالى بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أن
الله سبحانه تعبدني بذلك، (ومقام جبريل) صلى الله عليه وسلم مقام عظيم قُوانا
وعلومنا تقصر عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أكثر منا، فما لنا وللدخول في
هذا المكان الضيق ولم يكلفنا الله تعالى بذلك، فحسب امرئ إذا لم يعرف تفضيل الملك
على البشر ولا البشر على الملك أن يتأدب ويقف عند حده، ويعظم كلاً منهما بما يجب
له من التعظيم، ويكف لسانه وقلبه عن فضول لا يعنيه ولم يكلف به، ويقدر في نفسه
أنَّ هذين المخلوقين العظيمين حاضران وهو بين أيديهما ضئيل حقير والله تعالى رابعهم
وهو عالم بما تخفي الصدور. اهـ
قوله: (أي ليس من عادة المؤمنين).
قال الطَّيبي: نفي العادة مستفاد من نفي فعل المستقبل، والمراد به الاستمرار، على
نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: حمله على نفي الاستمرار، ولو حمله على استمرار النفي كما في
أكثر المواضع أي عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد. اهـ
قوله: (شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه).
قال الطَّيبي: أما الشهادة فمن وضع الظاهر موضع المضمر، أو إرادة الجنس بالمتقين
فيدخلون فيه دخولاً أولياً، وأما العدة فإن مقتضى العلم بعد ذكر أعمال العباد خيراً
أو شراً إما الوعد بالثواب أو الوعيد بالعقاب. اهـ
قوله: (وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا).
(3/502)
أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا.
الخليط: المخالط، والإنجراد: المضي في الأمر.
قوله: (ولا سرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة).
قال الطَّيبي: يعني أنه من الاستعارة التبعية، شبه سرعة إفسادهم لذات البين
بالنمائم بسرعة سير الركائب ثم استعير لها الإيضاع وهو إسراع البعير، وأصل
الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه
مقامهما لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. اهـ
قال الشيخ سعد الدين: ولو قدر: ولأوضعوا النمائم، على أنَّها استعارة مكنية
والإيضاع تخييل لكفى. اهـ
قوله: (أي أن الفتنة هى التى سقطوا فيها -إلى قوله- لا ما احترزوا عنه).
قال الطَّيبي: التخصيص يفيده معنى تقديم الظرف على عامله، والتحقيق من تصدير
الجملة بأداة التنبيه فإنَّها تدل على تحقيق ما بعدها. اهـ
تم بفضل الله إلى نهاية الآية التاسعة والأربعين من سورة التوبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق