روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الأربعاء، 25 مايو 2022

مجلد 1. و2. من كتاب:السيرة النبوية أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي


مجلد 1. من كتاب:السيرة النبوية أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي
الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيتوى و لا له أجل معدود فيفنى و لا يحيط به جوامع المكان و لا يشتمل عليه تواتر الزمان و لا يدرك نعمته بالشواهد و الحواس و لا يقاس صفات ذاته بالناس تعاظم قدره عن مبالغ نعت الواصفين و جل وصفه عن إدراك غاية الناطقين و كل دون وصف صفاته تحبير اللغات و ضل عن بلوغ قصده تصريف الصفات و جاز في ملكوته غامضات أنواع التدبير و انقطع عن دون بلوغه عميقات جوامع التفكير و انعقدت دون استبقاء حمده ألسن المجتهدين و انقطعت إليه جوامع أفكار آمال المنكرين إذ لا شريك له في الملك و لا نظير و لا مشير له في الحكم و لا وزير و أشهد أن لا إله إلا الله أحصى كل شيء عددا و ضرب لكل امرئ { ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة } و أشهد أن محمدا عبده المجتبى و رسوله المرتضى بعثه بالنور الساطع و الضياء اللامع فبلغ عن الله عز و جل الرسالة و أوضح فيما دعا إليه الدلالة فكان في اتباع سنته لزوم الهدى و في قبول ما أتى به وجود السنا فصلى الله عليه و على آله الطيبين
أما بعد فإن الله اختار محمدا صلى الله عليه و سلم من عباده و استخلصه لنفسه من بلاده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيرا و من النار لمن زاغ عن سبيله نذيرا ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته و من اتباع السبيل إلى لزوم طاعته ثم لم يجعل الفزع عند وقوع حادثة و لا الهرب عند وجود كل نازلة إلا إلى الذي أنزل عليه التنزيل و تفضل على عباده بولايته التأويل فسنته الفاصلة بين المتنازعين و آثاره القاطعة بين الخصمين
فلما رأيت معرفة السنن من أعظم أركان الدين و أن حفظها يجب على أكثر المسلمين و أنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح و لا صحة إخراج الدليل من الصريح إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين و كيفية ما كانوا عليه من الحالات أردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين و من الفقهاء من أهل الفضل والصالحين و من سلك سبيلهم من الماضين بحذف الأسانيد و الاكثار و لزوم سلوك الاختصار ليسهل على الفقهاء حفظها و لا يصعب على الحفاظ وعيها و الله أسأل التوفيق لما أوصانا و العون على ما له قصدنا و أسأله أن يبني دار المقامة من نعمته و منتهى الغاية من كرامته في أعلى درجة الأبرار المنتخبين الأخيار إنه جواد كريم رؤوف رحيم
[ أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي ثنا علي بن المديني ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن يزيد ثنا خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي و حجر ابن حجر الكلاعي قالا : أتينا العرباض بن سارية و هو ممن نزل فيه { و لا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه } فسلمنا و قلنا : أتيناك زائرين و عائدين و مقتبسين فقال العرباض : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون و وجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله ! كان هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن عبدا حبشيا مجدعا فإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا ! فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور ! فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ] قال الوليد : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن العلاء بن زبر ؟ فقال : نعم حدثني بنحو من هذا الحديث
قال أبو حاتم : إن الله جل و علا اصطفى محمدا صلى الله عليه و سلم من بين خلقه و بعثه بالحق بشيرا و نذيرا و افترض على خلقه طاعته و مذكوره و حدثنا فقال { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و رسوله و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و رسوله } و قال { و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا } الآية فأمر الله بطاعة رسوله مع طاعته و عند التنازع بالرجوع إلى سنته إذ هو المفزع الذي لا منازعة لأحد من الخلق فيه فمن تنازع في شيء بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب رد أمره إلى قضاء الله ثم إلى قضاء رسوله صلى الله عليه و سلم لأن طاعة رسوله طاعته قال الله تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث } الآية و قال { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فقد أعلمهم جل و علا أن اتباعهم رسوله اتباعه وأن طاعتهم له طاعته ثم ضمن الجنة لمن أطاع رسوله و اتبع ما أجابه فقال : { و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } الآية ثم أعلمنا جل و علا أنه لم يجعل الحكم بينه وبين خلقه إلا رسوله و نفى الإيمان عن من لم يحكمه فيما شجر بينهم قال { فلا و ربك لا يؤمنون } الآية ثم أعلمنا جل و علا أن دعاهم إلى رسوله ليحكم بينهم إنما دعاهم إلى حكم الله لا أن الحاكم بينهم و رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنهم متى ما سلموا الحكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقد سلموه بفرض الله قال الله عز و جل { إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم } إلى قوله { فأولئك هم الفائزون } ذا حكم الله فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله و إعلامهم أنها طاعته ثم أعلمنا أن الفرض على رسوله اتباع أمره فقال { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين } و قال جل و علا { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع } الآية و قال { يأيها النبي اتق الله و لا تطع الكفرين } إلى قوله { خبيرا } ثم شهد الله جل و علا لرسوله باتباع أمره و استمساك بأمره لما سبق في علمه من إسعاده بعصمته و توفيقه للهدى مع هداية من اتبعه فقال { و لولا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم } الآية ثم أمره الله جل و علا بتبليغ ما أنزل إليه مع الشهادة له بالعصمة من بين الناس
فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس } ثم أعلمنا أن الذي يهدي إليه رسوله هو الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه فقال { و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتب و لا الإيمان } إلى قوله { و ما في الأرض } ففي هذه الآية التي طولناها ما أقام بها الحجة على خلقه بالتسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم و اتباع أمره فكل ما بين رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنه و وجب علينا اتباعه و في العنود عن اتباعه معصية إذ لا حكم بين الله و بين خلقه إلا الذي و صفه الله جل و علا موضع الإبانة لخلقه عنه
فالواجب على كل من انتحل العلم أو نسب إليه حفظ سنن المصطفى صلى الله عليه و سلم و التفقه فيها و لا حيلة لأحد في السبيل إلى حفظها إلا بمعرفة تاريخ المحدثين و معرفة الضعفاء منهم من الثقات لأنه متى لم يعرف ذاك لم يحسن تمييز الصحيح من السقيم و لا عرف المسند من المرسل و لا الموقوف من المنقطع فإذا وقف على أسمائهم و أنسابهم و عرف ـ أعني بعضهم بعضا ـ و ميز العدول من الضعفاء وجب عليه حينئذ التفقه فيها و العمل بها ثم إصلاح النية في نشرها إلى من بعده رجاء استكمال الثواب في العقبى بفعله ذلك إذ العلم من أفضل ما يخلف المرء بعده نسأل الله الفوز على ما يقربنا إليه ويزلفنا لديه
إذ هو من خير ما يخلف المرء بعده
[ أخبرنا الفضل بن الحباب ثنا موسى بن إسماعيل ثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
أخبرنا محمد بن محمد الهمداني ثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ثنا بشر ابن المفضل ثنا ابن عون [ عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة ذكر النبي صلى الله عليه و سلم قال : وقف على بعيره و أمسك إنسان بخطامه ـ أو قال : بزمامه ـ فقال : أي يوم هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال : أليس بيوم النحر ؟ قلنا بلى قال : فأي شهر هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال : أليس بذي الحجة ؟ قلنا : بلى قال : فأي بلد هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال : أليس البلد الحرام ؟ قلنا : بلى فقال : إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم بينكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا ! ليبلغ الشاهد منكم الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من أوعى له منه ]
قال أبو حاتم في قوله صلى الله عليه و سلم : [ ليبلغ الشاهد منكم الغائب ] كالدليل على استحباب حفظ تاريخ المحدثين الوقوف على معرفة الثقات منهم من الضعفاء إذ لا يتهيأ للمرء أن يبلغ الغائب ما شهد إلا بعد المعرفة بصحة ما يؤدي إلى من بعده و أنه إذا أدى إلى من بعده ما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنه لم يؤد عنه صلى الله عليه و سلم شيئا و لا سبب له إلى معرفة صحة الأخبار و سقيمها إلا بمعرفة تاريخ من ذكر اسمه من المحدثين و كتابا أبين فيه الضعفاء و المتروكين و أبدأ منهما بالثقات فنذكر ما كانوا عليه في الحالات فأول ما أبدأ في كتابنا هذا ذكر المصطفى صلى الله عليه و سلم و مولده و مبعثه و هجرته إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته ثم نذكر بعده الخلفاء الراشدين المهديين بأيامهم إلىأن قتل علي رحمة الله عليه ثم نذكر صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا واحدا على المعجم إذ هم خير الناس قرنا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نذكر بعدهم التابعين الذين شافهوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأقاليم كلها على المعجم إذ هم خير الناس بعد الصحابة قرنا ثم نذكر القرن الثالث الذين رأوا التابعين فأذكرهم على نحو ما ذكرنا الطبقتين الأوليين ثم نذكر القرن الرابع الذين هم أتباع التابعين على سبيل من قبلهم و هذا القرن ينتهي إلى زماننا هذا
و لا أذكر في هذا الكتاب الأول إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم و أقنع بهذين الكتابين المختصرين عن كتاب التاريخ الكبير الذي خرجناه لعلمنا بصعوبة حفظ كل ما فيه من الأسانيد و الطرق و الحكايات و لأن ما نمليه في هذين الكتابين أن يسر الله ذلك و سهله من توصيف الأسماء بقصد ما يحتاج إليه يكون أسهل على المتعلم إذا قصد الحفظ و أنشط له في وعيه إذا أراد العلم من التكلف بحفظ ما لو أغضى عنه في البداية لم يخرج في فعله من التكلف لحفظ ذلك فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تعرى خبره عن خصال خمس فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا فإن ذلك الخبر لاينفك من إحدى خمس خصال : إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف لا يحتج بخبره أو يكون دونه رجل واه لا يجوز الاحتجاج بروايته والخبر يكون مرسلا لا يلزمنا به الحجة أو يكون منقطعا لا يقوم بمثله الحجة او يكون في الإسناد رجل مدلس لم يبين سماعه في الخبر من الذي سمعه منه فإن المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر لأنه لا يدري لعله سمعه من إنسان ضعيف يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه و عرف الخبر به فما لم يقل المدلس في خبره و إن كان ثقة : سمعت أو : حدثني فلايجوز الاحتجاج بخبره فذكرت هذه المسألة بكمالها بالعلل و الشواهد و الحكايات في كتاب شرائط الأخبار فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب و إنما أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ و قد ضعفه بعض أئمتنا و وثقه بعضهم فمن صح عندي منهم أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب الفصل بين النقلة أدخلته في هذا الكتاب لأنه يجوز الاحتجاج بخيره و من صح عندي منهم أنه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب الفصل بين النقلة لم أذكره في هذا الكتاب لكني أدخلته في كتاب الضغفاء بالعلل لأنه لا يجوز الاحتجاج بخبره فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره لأن العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم ! و إنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم جعلنا الله ممن أسبل عليه جلاليب الستر في الدنيا و اتصل ذلك بالعفو عن جناياته في العقبى ! إنه الفعال لما يريد
أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ببغداد ثنا يحيى بن معين ثنا حجاج بن محمد عن يونس بن أبي إسحاق عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل
قال أبو حاتم : ولد النبي صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي بعث الله طيرا أبابيل على أصحاب الفيل و كان من شأن الفيل أن ملكا كان باليمن غلب عليها و كان أصله من الحبشة يقال له أبرهة بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس و زعم أنه يصرف إليها حج العرب و حلف أنه يسير إلى الكعبة فيهدمها فخرج ملك من ملوك حمير فيمن أطاعه من قومه يقال له [ ذو نفر ] فقاتله فهزمه أبرهة و أخذه فلما أتى به قال له ذو نفر : أيها الملك ! لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه و أوثقه ثم خرج ثائرا يريد الكعبة حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي و من اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم و أخذ النفيل فقال النفيل : أيها الملك ! إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني و هاتان يداي على قومي بالسمع و الطاعة فاستبقاه و خرج معه يدله حتى إذا بلغ الطائف خرج معه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف فقال : أيها الملك ! نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف و ليس بيتنا و بيتك الذي تريد ـ يعنون ـ اللات إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه فبعثوا معه مولى لهم يقال له [ أبو رغال ] فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس مات [ أبو رغال ] وهو الذي رجم قبره و بعث أبرهة من المغمس رجلا يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله
فجمع إليه أهل الحرم و أصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأراك ثم بعث أبرهة حناطة الحميري إلى أهل مكة فقال : سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال إنما جئت لأهدم هذا البيت فانطلق حناطة حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال : إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأتي لقتال إلا أن تقاتلوه إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم فقال عبد المطلب ما عندنا له قتال فقال : سنخلي بينه و بين البيت فإن خلى الله بينه و بينه فو الله ما لنا به قوة ! قال : فانطلق معي إليه قال : فخرج معه حتى قدم المعسكر و كان [ ذو نفر ] صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفر ! هل غندكم من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة و عشية و لكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فأمره أن يضع لك عند الملك ما استطاع من خير و يعظم خطرك و منزلتك عنده قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال : إن هذا سيد قريش صاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل و الوحوش في الجبال و قد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك ! هذا سيد قريش و صاحب عين الكعبة الذي يطعم الناس في السهل و الوحوش في الجبال يستأذن عليك و أنا أحب أن تأذن له فقد جاءك غير ناصب لك و لا مخالف عليك فأذن له و كان عبد المطلب رجلا عظيما جسيما وسيما فلما رآه أبرهة عظمه و أكرمه و كره أن يجلس معه على سريره و أن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه معه فقال له عبد المطلب : أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما فأردده علي فقال له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك و لقد زهدت فيك قال : و لم ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك و دين آبائك و عصمتكم و منعتكم لأهدمه فلم تكلمني فيه و تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ! قال : أنا رب هذه الإبل و لهذا البيت رب سيمنعه ! قال : ما كان ليمنعه مني ! قال : فأنت و ذاك ! قال : فأمر بإبله فردت عليه ثم خرج عبد المطلب و أخبر قريشا الخبر و أمرهم أن يتفرقوا في الشعاب و أصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول و عبى جيشه و قرب فيله و حمل عليه ما أراد أن يحمل و هو قائم فلما حركه وقف و كاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فأدخلوا محاجنهم تحت أقرانه و مرافقه فأبى فوجهوه إلى اليمن فهرول فصرفوه إلى الحرم فوقف و لحق الفيل بجبل من تلك الجبال فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه و حجر في منقاره و يحملن أمثال الحمص و العدس من الحجارة فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحد إلا هلك و ليس كل القوم أصاب فذلك قول الله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } السورة كلها و بعث الله على أبرهة داء في جسده و رجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد و جعل أبرهة تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعها مدة من قيح و دم فانتهى إلى اليمن و هو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه ثم مات فلما هلك استخلف ابنه يكسوم بن أبرهة فهذا ما كان من شأن الفيل و سميت هذه السنة [ سنة الفيل ]
أخبرنا عبد الله بن محمد بن سالم ببيت المقدس ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثنا شداد أبو عمار [ عن واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل و اصطفى قريشا من كنانة و اصطفى بني هاشم من قريش و اصطفاني من بني هاشم فأنا سيد ولد آدم و لا فخر و أنا أول من تنشق عنه الأرض و أنا أول شافع و أول مشفع ] قال أبو حاتم : نسبة رسول الله صلى الله عليه و سلم تصح إلى عدنان و ما وراء عدنان فليس عندي فيه شيء صحيح أعتمد عليه غير أني أذكر اختلافهم فيه بعضهم لبعض من ليس ذلك من صناعته : فهو صلى الله عليه و سلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ و اسم عبد المطلب شيبة ـ بن هاشم ـ و اسم هاشم عمرو ـ بن عبد مناف ـ و اسم عبد مناف المغيرة ـ بن قصي ـ و اسم قصي زيد ـ بن كلاب ـ و هو المهذب ـ بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ـ و هو قريش ـ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مهد بن عدنان إلى هنا ليس بين النسابة خلاف فيه و من عدنان هم مختلفون فيه إلى إبراهيم :
فمنهم من قال : عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تريح بن يعقوب بن نبت بن نابت بن أنوش بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن آزر
و منهم من قال : عدنان بن أدد بن الهميسع بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر
و منهم من قال : عدنان بن أدد بن سحب بن أيوب بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر
و منهم من قال : عدنان بن أدد بن أمين بن شاجب بن ثعلبة بن عتر بن يربح بن محلم بن العوام بن المحتمل بن دائمة بن العيقان بن علة بن شحدود بن الظريف بن عبق بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر
و منهم من قال : عدنان بن أدد بن عوج بن المعطم بن الطمح ابن القسود بن العبور بن دعدع بن محمود بن الزائد بن بدان بن الدرس بن حصن بن النزال بن القاسم بن المجشر بن معدد بن صيفي بن النبت بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر
ثم اختلفوا أيضا فيما فوق إبراهيم :
فمنهم من قال : إبراهيم بن آزر بن ناحور بن شارغ بن الراغ بن القاسم الذي قسم الأرض بين أهلها ابن معن بن السايح بن الرافد ابن السايح و هو سام بن نوح نبي الله عليه الصلاة و السلام
و منهم من قال : إبراهيم بن آزر بن ناحور بن صاروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح
و منهم من قال : إبراهيم بن آزر بن تارخ بن ناحور بن ساروح بن أرغو بن فالج بن عيبر بن أرفخشد بن سام بن نوح ثم اختلفوا فيما بعد نوح عليه السلام فمنهم من قال : نوح بن ملكان بن متوشلخ بن إدريس نبي الله صلى الله عليه و سلم بن الرائد بن مهلهل بن قنان بن الطاهر ابن هبة الله بن شيث بن آدم
و منهم من قال : نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ و هو إدريس النبي عليه السلام بن يارز بن مهابيل بن قبش بن أنش بن شيث بن آدم
و منهم من قال : نوح بن لامك بن متوشلح بن خنوخ بن يارزا بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم
و منهم من قال : نوح بن لامك بن متوشلح بن مهليل بن قينين بن يافش ابن شيث بن آدم و أم رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و لم يكن لها أخ ـ فيكون خالا للنبي صلى الله عليه و سلم ـ إلا عبد يغوث بن وهب و لكن بنو زهرة يقولون : إنهم أخوال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن آمنة أم رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت منهم و أم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة اسمها مرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي و أمها أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي و أمها برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي هؤلاء جدات رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبل أم أمه و أما جداته صلى الله عليه و سلم من قبل أبي أمه فإن أم وهب بن عبد مناف بن زهرة اسمها قيلة بنت أبي قيلة و اسم أبي قيلة فهر بن غالب بن الحارث و هو غبشان و كان يعير بأبي كبشة الذي نسبت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه إذ كان مشركا فتنصر لما سافر إلى الشام و رجع إلى قريش بدين غير دينها فعيرت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم به و أما أم قيلة خالدة بنت عابس بن كرب بن الحارث بن الفهر و أم عبد مناف و أم زهرة جدة أم رسول الله صلى الله عليه و سلم اسمها جمل بنت مالك بن سعد بن مليح و أمها سلمى بنت حيان بن غنم و أم زهرة بن كلاب جدة رسول الله صلى الله عليه و سلم اسمها فاطمة بنت سعد بن سيل بن حرب و أمها طريفة بنت قيس بن ذي الرأسين بن عمرو بن قيس بن عيلان و أما أمهات آبائه صلى الله عليه و سلم فإن أم عبد الله بن عبد المطلب اسمها عاتكة بنت أرقص بن مالك ابن زهرة وهي أول العواتك اللاتي و لدن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أما أم عبد المطلب بن هاشم فهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار لذلك و أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة و هي الثانية من العواتك وهي أم هاشم بن عبد مناف و المطلب بن عبد مناف و عبد شمس بن عبد مناف و إنما سمى هاشم هاشما لأنه هشم الثريد لقوله :
( عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... و رجال مكة مستنون عجاف )
و كان اسمه عمرو العلاء و أم عبد مناف بن قصي اسمها حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة فهي والدة عبد الدار و عبد العزى أولاد قصي بن كلاب و أم قصي فاطمة بنت سعيد بن سيل بن حرب بن حمالة ابن عوف بن الأزد و كان قصي يسمى مجمعا لأن الله به جمع القبائل من فهر و أم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة و هي والدة بن مرة و يقظة ابني مرة و أم مرة بن كعب مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر و قد قيل وحشية بنت محارب بن فهر و أم كعب بن لؤي ماوية بنت كعب بن القين بن أسد بن وبرة و أم لؤي بن غالب سلمى بنت عمرو بن عامر بن حارثة بن خزاعة و أم غالب بن فهر عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة و هي إحدى العواتك اللاتي ولدن النبي صلى الله عليه و سلم ما قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين : [ أنا ابن العواتك ] و أم فهر بن مالك جندلة بنت الحارث بن عامر بن الحارث الجرهمي
و أم مالك بن النضر عكرشة بنت عدوان و هو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان
و أم النضر بن كنانة برة بنت مر أخت تميم بن مر و قيل : إنها فكهة بنت هنى بن بلي و النضر هو قيس و إنما قيل للنضر : قريش لتجمعها من تفرق من بيتها لأن التقرش هو التجمع
و أما أم كنانة فهي عوانة و قد قيل : هند بنت سعد بن قيس عيلان
و أما أم خزيمة بن مدركة فهي سلمى بنت سعد بن قيس بن الحاف بن قضاعة
و أما أم مدركة بن إلياس فهي خندف و هي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة و كان لإلياس بن مضر ثلاثة من البنين : عمرو و هو مدركة و عامر و هو طابخة و عمير فهو قمعة و أمهم خندف و إنما سمي هؤلاء بهذه الأسماء لأن الناس خرجوا في نجعة لهم فنفرت إبلهم من أرنب فخرج في أثرها عمرو فادركها فسمي مدركة و أخذها عامر فنحر منها و طبخها فسمي طابخة و انقمع عمير في الخباء و لم يخرج معها فسمي قمعة و خرجت أمهم تمشي في طلب الإبل فقيل لها : أين تخندفين و قدرت الإبل فسميت خندف و الخندفة ضرب من المشي
و أم إلياس بن مضر الربابة بنت إياس بن معد
و أم مضر بن نزار سودة بنت عك بن عدنان بن أدد
و أم نزار بن معد معانة بنت جوش بن جلهمة بن عمرو بن حليمة بن حرميه
و أم معد بن عدنان مهددة بنت جلحب بن جديس
و أم عدنان بن أدد بلها بنت ماعز بن قحطان
فهذه جوامع ما يحتاج إليه معرفة نسبة أمهات آباء رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما أولاد عبد المطلب فهم عشرة : عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الزبير بن عبد المطلب و العباس بن عبد المطلب و حمزة بن عبد المطلب و المقوم بن عبد المطلب و اسمه عبد العزى و الحارث بن عبد المطلب و الغيداق بن عبد المطلب و أبو لهب بن عبد المطلب و أبو طالب ابن عبد المطلب اسمه عبد مناف
فأما عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ذكر و لا أنثى و توفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو طالب من أم واحد
و أما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو طاهر و كان من أجلة قريش و فرسانها و كان من المبارزين و كان يقول الشعر فيجيز
و أما العباس بن عبد المطلب فإن كنيته أبو الفضل و كان إليه السقاية و زمزم في الجاهلية فلما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم دفعها إلى يوم فتح مكة و مات العباس سنة اثنتين و ثلاثين في خلافة عثمان بن عفان و هو ابن ثمان وثمانين سنة بالمدينة و صلى عليه عثمان ابن عفان
و أما ضرار بن عبد المطلب فإنه كان يتعاطى بقول الشعر و مات قبل الإسلام من غير أن أعقب
و أما حمزة بن عبد المطلب فإن كنيته أبو عمارة و كان أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قيل إن كنيته أبو يعلى استشهد يوم أحد قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم في شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة و كان حمزة أكبر من النبي صلى الله عليه و سلم بسنتين
و أما المقوم بن عبد المطلب فكان من رجالات قريش هلك قبل الإسلام و لا عقب له
و أما أبو لهب بن عبد المطلب فكنيته أبو عقبة و إنما سمي أبو لهب لجماله و كان أحول ممن يعادي رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين عمومته و يظهر له حسدا إلى أن مات عليه من العدسة في عقب يوم بدر لما بلغه ما كان في ذلك اليوم من المشركين من النكاية من المسلمين كمد منه حتى مات
و أما الحارث بن عبد المطلب فهو أكبر ولد عبد المطلب و اسمه كنيته و هو ممن حفر بئر زمزم مع عبد المطلب
و أما الغيداق بن عبد المطلب فإنه مات و لم يعقب و كان من رجالات قريش
و أما أبو طالب بن عبد المطلب فكان هو و عبد الله بن عبد المطلب لأم واحدة و كان وصي عبد المطلب أوصى إليه عبد المطلب في ماله بعده و في حفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم و تعهده على ما كان تعهده عبد المطلب في حياته و مات أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم بثلاث سنين و أربعة عشر
و أما عمات رسول الله صلى الله عليه و سلم فهن ست بنات عبد المطلب بن هاشم لصلبه أولهن عاتكة بنت عبد المطلب و أميمة بنت عبد المطلب و أروى بنت عبد المطلب و البيضاء بنت عبد المطلب و هي أم حكيم و برة بنت عبد المطلب و صفية بنت عبد المطلب
فأما عاتكة بنت عبد المطلب فكانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي
و أما أميمة بنت عبد المطلب فكانت عند جحش بن رئاب الأسدي
و أما البيضاء بنت عبد المطلب فكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس
و أما برة بنت عبد المطلب فكانت عند عبد الأسد بن بلال المخزومي
و أما صفية بنت عبد المطلب فكانت عند العوام بن خويلد بن أسد
و أما أروى بنت عبد المطلب فكانت عند عمير بن قصي بن كلاب و لم يسلم من عمات النبي صلى الله عليه و سلم إلا صفية و هي والدة الزبير بن العوام و توفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب
فهذه جوامع ما يجب أن يحفظ من ذكر عمومة رسول الله صلى الله عليه و سلم و عماته
و أما أم رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف فإنها لما وضعته جاءت به إلى جده عبد المطلب و أخبرته أنها رأت حين حملت به في النوم أنه قيل لها :
حملت سيد هذه الأمة ! فإذا وضعته فسميه محمدا فأخذه عبد المطلب فدخل به على هبل في جوف الكعبة و قام عنده يدعو الله و يشكر ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها فقالت أمه : رأيت في المنام كأنه خرج مني نور أضاء لي قصور الشام
ثم التمس له الرضاعة فاسترضع رسول الله صلى الله عليه و سلم من امرأة من بني سعد ابن بكر يقال لها : حليمة بنت أبي ذؤيب وأبو ذؤيب اسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر و زوج حليمة اسمه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة من بني سعد بن بكر و أخو رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أرضعته حليمة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم اسمه عبد الله بن الحارث بن عبد العزى و لعبد الله هذا أختان من حليمة : إحداهما أنيسة و الأخرى جذامة بنت الحارث بن عبد العزى قالت حليمة : خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة فخرجت على أتان لي قمراء في سنة شهباء و معي زوجي و معنا شارف لنا و الله إن تبض بقطرة من لبن و معي صبي لي لا ننام ليلتنا من بكائه ما في ثديي ما يغنيه فلما قدمنا مكة لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فتأباه و إنما نرجو الكرامة في رضاع من يرضع له من والد المولود و كان يتيما فكنا نقول : ما عسى أن تصنع به أمه فكنا نأباه حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعة غيري فكرهت أن أرجع و لم آخذ شيئا و قد أخذ صواحبي ما أردن فقلت لزوجي : و الله لأرجع على ذلك اليتيم و لآخذنه ! قالت : فأتيته فأخذته ثم رجعت إلى رحلي قال زوجي : أصبت و الله يا حليمة ! عسى أن يجعل فيه خيرا قالت : فو الله ما هو إلا أن وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روي و شرب أخوه حتى روي ثم قام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا بها حافل فحلب لبنا فشربت حتى رويت و شرب حتى روي فبتنا بخير وقد نام صبينا و روي فقال زوجي : و الله يا حليمة ! ما أراك إلا أصبت نسمة مباركة قالت : ثم خرجنا فو الله ! لخرجت أتاني أمام الركب حتى أنهم ليقولون لي : يا ويحك كفا علينا أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها ؟ فأقول : و الله بلى حتى قدمنا أرضنا من حاضر بني سعد بن بكر قالت : قدمنا على أجدب أرض فو الذي نفس حليمة بيده ! إن كانوا ليسرحون بأغنامهم إذا أصبحوا و يسرح راعي غنمي فتروح غنمي حفلا بطانا لبنا و تروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن فنشرب ما شئنا من اللبن و ما من الحاضر أحد يحلب قطرة و لا يجدها قالت : فيقولون لرعاتهم : و يلكم ! ألا تسرحون حيث راعي حليمة ؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه فتروح أغنامهم جياعا هالكة و تروح غنمي حفلا لبنا قالت : و كان يشب في اليوم شاب الصبي في الشهر و يشب في الشهر شباب الصبي في السنة
فلما بلغ سنتين قدمنا به على أمه فقالت : إن لابني هذا شأنا إني حملت به فو الله ما حملت حملا قط كان أخف علي منه ! و لقد رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى ـ أو قالت : قصور بصرى ـ ثم وضعته فو الله ! ما وقع كما يقع الصبيان ! لقد وقع معتمدا على يديه إلى الأرض رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته و انطلقا
قال أبو حاتم : فتوفيت أمه صلى الله عليه و سلم بالأبواء و رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن أربع سنين و كان عبد المطلب من أشفق الناس عليه أبر الآباء به إلى أن توفي عبد المطلب و رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن ثمان سنين و أوصى به إلى أبي طالب و اسم أبي طالب عبد مناف ابن عبد المطلب و ذلك أن عبد الله و أبا طالب كانا لأم فكان أبو طالب الذي يلي أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد عبد المطلب إلى أن راهقه و بلغ مبلغ الرجال و كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
( فشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود و هذا محمد )
ذكر في الاستيعاب لابن عبد البر بإسناده إلى ابن عباس أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه و سلم يوم سابعه و جعل له مأدبة سماه محمدا قال ابن عبد البر بعد هذا : قال يحيى بن أيوب : ما وجدنا هذا الحديث عند أحد إلا عند ابن أبي السري العسقلاني قال : و قد روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد مختونا مسرورا يعني : مقطوع السرة
حدثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو بكرأبي شيبة ثنا قراد أبو نوح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبي موسى قال : خرج أبو طالب إلى الشام و خرج معه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب و كانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم و لا يلتفت فأتاهم و هم يحلون رواحلهم و أحلاسهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال هذا سيد العالمين ! هذا رسول رب العالمين ! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ! فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ قال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجدا و لا يسجدون إلا لنبي و إني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به و كان هو صلى الله عليه و سلم في رعية الإبل قال : أرسلوا إليه فأقبل و عليه غمامة تظله فقال : انظروا إليه عليه غمامة تظله ! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال عليه قال : فبينما هو قائم عليهم و هو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم فإن الروم لو رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا إلى هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا و قد بعث إليه ناس و إنا أخبرنا بخبره فبعثنا إلى طريقك هذا فقال لهم : [ أفرئيتم أمرا إذ أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ ] قالوا : لا فتابعوه و أقاموا معه قال : فأتاهم فقال لهم :
[ أنشدكم بالله ! أيكم وليه ؟ ] قال أبو طالب : أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب و بعث معه أبو بكر بلالا و زوده الراهب من الكعك و الزيت
قال أبو حاتم : فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و كانت سفرته الثانية بعدها مع ميسرة غلام خديجة ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة بنت خويلد بن أسد و هو ابن خمس وعشرين سنة و خويلد هو ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب و كانت قبل أن يتزوج بها رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت أبي هالة أخي بني تميم ثم كانت تحت عتيق ابن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و كان السبب في ذلك أن خديجة كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها و تضار بهم إياه بشيء تجعله لهم منه و كانت قريش قوما تجارا فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بلغها من صدق حديثه و عظيم أمانته و كريم أخلاقه بعثت إليه و عرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا و تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له [ ميسرة ] فقبله منها رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج في مالها معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ فقال ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي ثم باع رسول الله صلى الله عليه و سلم سلعته التي خرج بها و اشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة و معه ميسرة فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة و اشتد الحر يرى ظلا على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم من الشمس وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به و أخبرها ميسرة عن قول الراهب و عن ما كان من أمر الإظلال و كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالت : إني قد رغبت فيك و في قرابتك و في أمانتك و حسن خلقك و صدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها و كانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا و أعظمهن شرفا و أكثرهن مالا فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك صلى الله عليه و سلم لأعمامه فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه حتى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه فزوجها من رسول الله صلى الله عليه و سلم فولد له منها زينب و رقية و أم كلثوم و فاطمة و القاسم [ وكان به يكنى و الطاهر ] و الطيب فهلكوا قبل الوحي
و أما البنات فكلهن أسلمن و هاجرن إلى المدينة و كانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ـ و كان ابن عمها وكان نصرانيا قد قرأ الكتب و علم من علم الناس ـ ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب و ما كان من الإظلال عليه فقال ورقة : إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن بهذه الأمة سيظهر في هذا الوقت
[ أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج ثنا العباس بن عثمان البجلي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : متى وجبت لك النبوة ؟ قال : بين خلق آدم و نفخ الروح فيه ـ عليه الصلاة و السلام ]
[ أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة بعسقلان ثنا ابن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت : أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة يراها في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ و هو التعبد الليالي ذوات العدد ـ و يتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق و هو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال : { إقرأ } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال لي { إقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { إقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { إقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ { ما لم يعلم } قال فرجع بها ترجف فؤاده حتى دخل على خديجة فقال : زملوني زملوني ! فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال : يا خديجة ! ما لي ؟ و أخبرها الخبر و قال : خشيت علي فقالت : كلا ! أبشر فو الله لا يخشيك الله أبدا ! إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث و تمل الكل و تقري الضعيف و تعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن قصي و هو عم خديجة أخو أبيها و كان امرأ تنصر في الجاهلية و كان يكتب الكتاب العربي يكتبه بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب و كان شيخا كبيرا قد عمر فقالت له خديجة : أي عم ! اسمع من أخيك فقال ورقة : يا ابن أخي : ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ! يا ليتني أكون فيها جذعا ! يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي و أوذي و إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي و فتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم حزنا غدا منه مرارا لكي يتردى من روؤس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه منها فيرى له جبريل فقال له يا محمد ! إنك رسول الله حقا ! فيسكن لذلك جأشه و تقر نفسه فيرجع فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك ]
قال أبو حاتم : روي في بدء الوحي عن النبي صلى الله عليه و سلم خبران : خبر عن عائشة و خبر عن جابر فأما خبر عائشة فقد ذكرناه و أما خبر جابر [ فحدثناه عبد الله بن محمد بن سالم ببيت المقدس ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن : أي القرآن أنزل أول ؟ قال : { يأيها المدثر } فقلت أو { إقرأ } ؟ قال : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و عن شمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فنظرت إلى السماء فإذا هو فوقي على العرش في السماء فأخذتني رجفة شديدة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني ثم صبوا علي الماء و أنزل الله عز و جل علي { يأيها المدثر } إلى قوله { فطهر } ]
قال أبو حاتم : هذان خبران أوهما من لم يكن الحديث صناعته أنهما متضادان و ليس كذلك إن الله عز و جل بعث رسوله صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين و هو ابن أربعين سنة و نزل عليه جبريل و هو في الغار بحراء بـ { اقرأ باسم ربك الذي خلق } فلما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت خديجة و دثروه أنزل الله عليه في بيت خديجة { ياأيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر } من غير أن يكون بين الخبرين تضاد و لا تهاثر فكان أول من آمن برسول الله زوجته خديجة بنت خويلد ثم آمن علي بن أبي طالب و صدقه بما جاء به و هو ابن عشر سنين ثم أسلم أبو بكر الصديق فكان علي بن أبي طالب يخفي إسلامه من أبي طالب و أبو بكر لما أسلم أظهر إسلامه فلذلك اشتبه على الناس أول من أسلم منهما ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان أبو بكر أعلم قريش بأنسابها و بما كان فيها من خير وشر و كان رجلا سهلا بليغا أظهر الإسلام و دعا إلى الله وإلى رسوله فأجابه عثمان بن عفان و الزبير بن العوام و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي و قاص و طلحة بن عبيد الله فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين استجابوا له فأسلموا و صلوا ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح و أبو سلمة ابن عبد الأسد المخزومي و الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي و عثمان بن مظعون الجمحي و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف و سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل و امرأته فاطمة بنت الخطاب و أسماء بنت أبي بكر و عبد الله و قدامة ابنا مظعون الجمحيان و خباب بن الأرت و مسعود بن الربيع القاري و عبد الله بن مسعود و عمير بن أبي و قاص و سليط بن عمرو و عياش بن أبي ربيعة المخزومي و امرأته أسماء بنت سلامة التميمية و عامر بن ربيعة أبو عبد الله و عبد الله بن جحش و أبو أحمد بن جحش الأسدي و جعفر ابن أبي طالب و امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية و حاطب بن الحارث الجمحي و امرأته فاطمة بنت المجال و حطاب بن الحارث و امرأته فكيهة و صهيب بن سنان و معمر بن الحارث الجمحي و سعيد ابن الحارث السهمي و المطلب بن أزهر بن عبد عوف و امرأته رملة بنت أبي عوف و النحام و اسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد و بلال بن رباح مولى أبي بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر و خالد بن سعيد بن العاص و امرأته أميمة بنت خلف بن أسعد و حاطب بن عمرو بن عبد شمس و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة و واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة التميمي و خالد بن البكير وإياس بن البكير و عامر بن البكير و عبد ياليل بن ناشب غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة و عمار بن ياسر حليف بني مخزوم
و دخل في الإسلام الرجال و النساء إرسالا و أنزل الله عز و جل { و انذر عشيرتك الأقربين } فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى الصفا ثم صعد عليه ثم نادى : [ يا صباحاه ] ! فاجتمع إليه الناس فمن رجل يجيء و من رجل يبعث رسوله فقال : [ يا بني عبد المطلب ! يا بني عبد مناف ! يا بني يا بني ! أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أصدقتموني ؟ ] قالوا : نعم قال : [ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] ثم قال : [ يا معشر قريش ! اشتروا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف ! لا أغني عنكم من الله من شيء يا عباس بن عبد المطلب ! يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم ! يا بني كعب بن لؤي ! يا بني هاشم ! يا بني عبد المطلب ! اشتروا أنفسكم من النار ] فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت { تبت يدا أبي لهب و تب } ثم نزل النبي صلى الله عليه و سلم و جعل يدعو الناس في الشعاب و الأودية و الأسواق إلى الله و أبو لهب خلفه و الحجارة تنكبه يقول : يا قوم ! لا تقبلوا منه فإنه كذاب
ثم تزوج النبي رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد خديجة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن النضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى وقدان بن حلبس عمها و كانت قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي وكانت سودة امرأة ثقيلة ثبطة و هي التي و هبت يومها لعائشة و قالت : لا أريد ما تريد النساء و قد قيل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتزوج على خديجة حتى ماتت
و زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته رقية من عتبة بن أبي لهب و أم كلثوم ابنته الأخرى من عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت { تبت يدا أبي لهب } أمرهما أبوهما أن يفارقهما ففارقهما ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان ابنته رقية بعد عتبة بن أبي لهب ثم مرض أبو طالب فدخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : ابن أخيك يشتم آلهتنا و يفعل و يفعل و يقول و يقول و لو بعثت إليه فنهيته ! فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه و سلم و دخل البيت و بين أبي جهل و بين أبي طالب مجلس رجل فخشي أبو جهل أنه إذا جلس إلى جنب أبي طالب يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس و لم يجد النبي صلى الله عليه و سلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب قال أبو طالب : أي ابن أخي ! ما بال قومك يشكونك و يزعمون أنك تشتم آلهتهم و تقول و تقول ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أي عم ! إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم العرب و تؤدي إليهم بها العجم الجزية ] فقال أبو طالب : و أي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال : [ لا إله إلا الله ] فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم و يقولون { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ثم توفي أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب فلقي المسلمون أذى من المشركين بعد موت أبي طالب فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم حين ابتلوا و شطت بهم عشائرهم بمكة : [ تفرقوا ] ـ و أشار قبل أرض الحبشة و كانت أرضا دفئة ترحل إليها قريش رحلة الشتاء أول هجرة في الإسلام فأول من خرج من المسلمين إلى الحبشة عثمان بن عفان و معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس و معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو و الزبير بن العوام و مصعب بن عمير و عبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة و عثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى و أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود و سهيل ابن وهب بن ربيعة و هو سهيل بن بيضاء أمه ثم خرج بعدهم جعفر ابن أبي طالب معه امرأته أسماء بنت عميس و عمرو بن سعيد بن العاص ومعه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية وأخوه خالد بن سعيد بن العاص و معه امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد و عبد الله بن جحش بن رياب و أخوه عبد بن جحش معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب و قيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة معه امرأته بركة بنت يسار و معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي و عتبة بن غزوان وأسد بن نوفل بن خويلد و يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب و عمرو بن أمية بن الحارث بن أسد و طليب بن عمير بن وهب و سويط بن سعد بن حريملة و جهم بن قيس بن عبد شرحبيل و ابناه عمرو بن جهم و خزيمة بن جهم وعامر بن أبي وقاص و المطلب بن أزهر معه امرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة و عبد الله بن مسعود و أخوه عتبة بن مسعود و المقداد بن عمرو و الحارث بن خالد بن صخر معه امرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب و شماس عثمان بن عبد بن الشريد بن سويد و هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و سلمة بن هشام بن المغيرة و عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة و معتب بن عوف بن عامر بن الفضل و السائب بن عثمان بن مظعون و عماه قدامة و عبد الله ابنا مظعون و حاطب بن الحارث بن معمر معه امرأته فاطمة بنت المجلل و ابناه محمد بن حاطب و الحارث بن حاطب و أخوه حطاب بن الحارث معه امرأته فكيهة بنت يسار و سفيان بن معمر بن حبيب معه ابناه جابر بن سفيان و جنادة بن سفيان و معه امرأته حسنة و هي أمهما و عثمان بن ربيعة بن أهبان و خنيس بن حذافة بن قيس و عبد الله بن الحارث بن قيس و هشام ابن العاص بن وائل و قيس بن حذافة بن قيس و الحجاج بن الحارث بن قيس و معمر بن الحارث بن قيس و بشر بن الحارث بن قيس و سعيد بن الحارث ابن قيس و السائب بن الحارث بن قيس و عمير بن رئاب بن حذيفة و محمية بن جزء حليف لهم و معمر بن عبد الله بن نضلة و عدي بن نضلة ابن عبد العزى معه ابنه النعمان وأبو عبيدة بن الجراح بعدهم و عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى و السكران بن عمرو بن عبد شمس معه امرأته سودة بنت زمعة و مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس و عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس و عبد الله بن سهيل بن عمرو و عمرو بن الحارث بن زهير و عياض بن زهير بن أبي شداد و ربيعة بن هلال بن مالك و عثمان بن عبد غنم بن زهير و سعد بن عبد قيس بن لقيط و عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة جد الزهري فخرجوا حتى قدموا أرض الحبشة و أقاموا بها على الطمأنينة ثم إن قريشا اجتمعت في أن يبعث إلى النجاشي حتى يرد من ثم من المسلمين عليها فبعثوا عمرو بن العاص و عمارة بن الوليد بن ربيعة و بعثوا معهما بهدايا كثيرة إليه وإلى بطارقته فلما قدما عليه ما بقي بطريق من بطارقته إلا قدما إليه بهديته و سألاه أن يكلم الملك حتى يسلمهم إليهما قبل أن يكلمهم و يسمع منهم فلما فرغا من بطارقته قدما إلى النجاشي هداياه فقبلها منهما ثم قالا له : أيها الملك ! إن قومنا بعثوا إليك في فتيان منهم خرجوا إلى بلادك فارقوا أديان قومهم و لم يدخلوا في دينك و لا دينهم و قومهم أعلاهم عينا قالت بطارقته : صدقا أيها الملك ! فغضب النجاشي و قال لأيم الله إذا لا أدفعهم إليهما قوم جاءوني لجئوا إلى بلادي حتى أنظر فيما يقولون و أنظر فيما يقول هؤلاء فإن كانوا صادقين و كانوا كما قال هؤلاء أسلمناهم إليهما و إن كانوا على غير ذلك لم ندفعهم إليهما و منعتهم منهما فقال عمارة بن الوليد : لم نصنع شيئا لو كان دفعهم إلينا من وراء وراء كان ذلك أحب إلينا قبل أن يكلمهم ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ما الذي نكلم به الرجل ؟ ثم قالوا : نكلمهم و الله بالذي نحن عليه و عليه نبينا ! كائنا ما كان فيه فدخلوا عليه فقالوا لهم : اسجدوا للملك فقال جعفر بن أبي طالب : لا نسجد إلا لله ! فقال لهم ما يقول هذان ؟ يزعمان أنهن فارقتم دين قومكم و لن تدخلوا في ديني و أنكم جئتم بدين مقتضب لا يعرف ! فقال جعفر بن أبي طالب : كنا مع قومنا في أمر جاهلية نعبد الأوثان فبعث الله إلينا رسولا منا رجلا نعرف نسبه و صدقه و وفاءه فدعا إلى أن نعبد الله وحده لا نشرك به و أمرنا بالصلاة و الزكاة و صلة الرحم و حسن الجوار و نهانا عن الفواحش و الخبائث فقال : هل معك شيء مما جاء به ؟ قال : نعم فدعا النجاشي أساقفته فنشروا المصاحف حوله فقرأ عليهم جعفر بن أبي طالب { كهيعص } فبكى النجاشي حتى اخضل لحيته و بكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال : إن هذا و الذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة انطلقا ! فلعمر الله لا أرسلهم معكما و لا هم و كان أتقى الرجلين عمارة بن الوليد فقال عمرو بن العاص : و الله ! لأجيبنه بما أبيد به خضراءهم لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهك الذي تعبد عبد فقال له عمارة بن الوليد : لا تفعل فإن لهم رحما و إن كانوا قد خالفونا قال : أحلف بالله لأفعلن فرجع إليه الغد فقال أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فابعث إليهم فاسألهم عنه فأرسل إليهم فقال : ماذا تقولون في عيسى ؟ قالوا : نقول فيه ما قال الله عز و علا و ما قال لنا نبينا فقال له جعفر : هو عبد الله و روحه و كلمته ألقاها الله إلى العذراء البتول فأدلى النجاشي يده فأخذ من الأرض عودا و قال : ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتم هذا العود فنخرت بطارقته فقال : و إن نخرتم و الله ثم قال : اذهبوا فأنتم شيوم في أرضي ـ يقول : آمنون من شتمكم غرم ما أحب أن لي دبرا ذهبا ـ و دبر هو جبل بالحبشة ـ و أني آذيت رجلا منكم و قال : ردوا عليهما هداياهما التي جاءا بها لا حاجة لنا بها و اخرجوهما من أرضي فأخرجا و أقام المسلمون عند النجاشي بخير دار و خير جار لا يصل إليهم شيء يكرهونه فولد بالحبشة عبد الله بن جفعر بن أبي طالب و محمد بن أبي حذيفة و سعيد ابن خالد بن سعيد و أخته أمة بنت خالد و عبد الله بن المطلب بن أزهر و موسى ابن الحارث بن خالد و إخواته : عائشة و زينب و فاطمة بنات الحارث فلم يزل المسلمون بأرض الحبشة إلى أن ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الخروج إلى المدينة فمنهم من رجع إلى مكة فهاجر مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و منهم من بقي بأرض الحبشة حتى لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد قدومه المدينة و خرج أبو بكر من مكة مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة و هو سيد القارة فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض و أعبد ربي فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ! أنت تكسب المعدوم و تصل الرحم و تحمل الكل و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق ! فأنا لك خافر فارجع و اعبد ربك ببلدك فرجع و ارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عيشة في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم و يصل الرحم و يحمل الكل و يقري الضيف و يعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة و قالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره و ليصل فيها و ليقرأ ما شاء و لا يؤذينا بذلك و لا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا و نساءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بعد ذلك يعبد ربه في داره و لا يستعلن بصلاته و لا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه و يقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين و أبناؤهم يعجبون منه و ينظرون إليه و كان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن و أفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك و ابتنى مسجدا بفناء داره و أعلن بالصلاة و القراءة فيه و إنا خشينا أن يفتن أبناءنا و نساءنا فإنهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد في داره فعل فإن أبى إلا يعلن بذلك فسله أن يرد ينادي بأعلى صوته : أيها الناس ! قولوا : لا إله إلا الله و رجل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه و عرقوبيه و يقول : يا أيها الناس ! لا تطيعوه فإنه كذاب ! قال قلت : من هذا ؟ قالوا هذا غلام بني عبد المطلب قال فقلت : من هذا الذي يتبعه يدميه ؟ قالوا : عمه عبد العزى أبو لهب
قال أبو حاتم : كان النبي صلى الله عليه و سلم يدعو الخلق إلى الله وحده لا شريك له و كان أبو جهل يقول للناس : إنه كذاب يحرم الخمر و يحرم الزنا و ما كانت العرب تعرف الزنا فبينما النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في ظل الكعبة إذ قام أبو جهل في ناس من قريش و نحر لهم جزورا في ناحية مكة فأرسلوا فجاءوا بسلاها و طرحوه عليه فجاءت فاطمة و ألقته عنه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ! عليك بقريش اللهم ! عليك بقريش اللهم عليك بقريش بأبي جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة و أمية بن خلف و عقبة بن أبي معيط ] ثم اجتمعوا يوما و رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي عند المقام و هم جلوس في ظل الكعبة فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جره حتى وجب النبي صلى الله عليه و سلم لركبته ساقطا و تصايح الناس و ظنوا أنه مقتول و أقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله صلى الله عليه و سلم من ورائه و هو يقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه و سلم فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال : [ يا معشر قريش ! و الذي نفس محمد بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح ] و أشار بيده إلى حلقه فقال له أبو جهل : يا محمد ! ما كنت جهولا ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت منهم ] فقال أبو جهل : ألم أنهك يا محمد ؟ فانتهره النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو جهل : [ لم تنهرني و الله لقد علمت ما بها رجل أكثر ناديا مني ] ! فقال جبريل : فليدع ناديه و لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب فقالت قريش : انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا و شتت أمرنا و عاب ديننا فليكلمه و لينظر ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد ! فأتى عتبة فقال : يا محمد ! أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت و إن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى تسمع قولك أما و الله ! ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا و شتت أمرنا و عبت ديننا و فضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش كاهنا و الله ! ما تنتظر إلا أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل ! إن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت حتى أزوجك عشرا و إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش مالا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أفرغت ؟ ] قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { بسم الله الرحم الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ { فإن أعرضوا فقد أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد و ثمود } فقال له عتبة : حسبك حسبك ! ما عندك غير هذا ثم رجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا تكلمت به قالوا : فهل أجابك ؟ قال : نعم لا و الذي نصبها ـ يعني الكعبة ـ ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال : { أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد و ثمود } قالوا : ويلك ! يكلمك رجل بالعربية ما تدري ما قال ! قال : فو الله ! ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى و رسول الله صلى الله عليه و سلم يبلغهم رسالات ربه صابرا محتسبا ثم إن الله جل و علا أراد هدي عمر بن الخطاب و كان عمر من أشد قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم شغبا و أكثرهم للمسلمين أذى و كان السبب في إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل و كانت قد أسلمت و أسلم زوجها سعيد بن زيد و هم يستخفون بإسلامهم من عمر و كان نعيم بن عبد الله بن النحام قد أسلم و كان يخفي إسلامه و كان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا و هم قريب من أربعين بين رجال و نساء و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حمزة و علي و أبو بكر في رجال من المسلمين ممن أقام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و لم يخرج إلى أرض الحبشة فلقي نعيم بن النحام عمر بن الخطاب فقال : أين تريد ؟ فقال : أريد محمدا هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش و سفه أحلامها و عاب دينها و سب آلهتها فاقتله فقال له نعيم : و الله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ! أترى أن عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمدا ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ! قال : و أي أهل بيتي ؟ فقال : ختنك و ابن عمك سعيد بن زيد وأختك فقد أسلما و بايعا محمدا على دينه فعليك بهما فرجع عمر عامدا لختنه و أخته و عندهما خباب بن الأرت و معه صحيفة فيها طه يقرئها إياهما فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم و أخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع حين دنا من البيت قراءتهما عليه فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت ؟ قالا له : ما سمعت شيئا قال : بلى و الله ! لقد أخبرت أنكما بايعتما محمدا على دينه و بطش بختنه سعيد بن زيد : فقامت إليه فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته و ختنه نعم قد أسلمنا و آمنا بالله و رسوله فاصنع ما بدا لك ! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ارعوى و قال لأخته : اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا انظر ما هذا الذي جاء به محمد ـ و كان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته : إنا لنخشاك عليها قال : لا تخافي ـ و حلف لها بآلهته ليردها إليها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له : يا أخي ! إنك نجس على شركك و إنه لا يمسها إلا المطهرون فقام عمر بن الخطاب فاغتسل ثم أعطته الصحيفة و فيها { طه } فلما قرأ سطرا منها قال : ما أحسن هذا الكلام ! فلما سمع خباب ذلك خرج إليه فقال له : يا عمر ! و الله لأرجو يكون خصك الله بدعوة نبيه صلى الله عليه و سلم فإني سمعته يقول [ اللهم ! أيد الإسلام بأبي الحكم بن هاشم أو بعمر بن الخطاب ] ! فقال له عمر : دلني عليه يا خباب حتى أتيه فأسلم فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بلغ ضرب عليه الباب فلما سمع المسلمون صوته قام رجل فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا بالسيف فقال حمزة بن عبد المطلب : أئذن له فإن كان يريد خيرا به لناله و إن كان يريد شرا قتلناه بسيفه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أئذن له ] فأذن له الرجل و نهض إليه صلى الله عليه و سلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته ثم جبذه جبذة عظيمة و قال : [ ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ و الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ! ] فقال له عمر : يا رسول الله ! جئتك لأومن بالله و رسوله و بما جئت به من عند الله قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن عمر أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عمر ! استره ] فقال عمر : و الذي بعثك بالحق لأعلنته كما أعلنت الشرك فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك و قد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر و حمزة و عرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه و سلم و لذلك كان يقول ابن مسعود : ما زلنا أعزة مذ أسلم عمر
ثم توفيت خديجة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رأيت لخديجة بيتا في الجنة لا صخب فيه و لا نصب ]
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاة خديجة عائشة بنت أبي بكر قبل الهجرة بثلاثة سنين في شهر شوال و هي بنت ست لم يتزوج بكرا غيرها و كانت أم عائشة أم رومان بنت عامر ابن عويمر بن عبد شمس
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف المنعة و أشراف ثقيف يومئذ عبد يا ليل و حبيب و مسعود بن عمرو فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاهم إلى الله فقال أحدهم : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ؟ و قال الآخر هو يمرط ثياب الكعبة : إن كان الله أرسلك ـ و قال الآخر : إن كان كما تقول ـ ما ينبغي لي أن أكلمك أجلالا لك و إن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد سمع ما يكره فالتجأ إلى حائط لبني ربيعة و إذا عتبة و شيبة فيه فلما رأياه تحركت له رحمها فدعوا غلاما لهما يقال له : عداس نصرانيا فقالا له : خذ هذا العنب و اجعله في هذا الإناء و اذهب به إلى ذلك الرجل فلما أتاه به عداس وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده في العنب و سمى الله فنظره عداس في وجهه و قال : إن هذا لشيء ما يقوله الناس اليوم ! قال : [ و من أنت ؟ ] قال : أنا رجل نصراني من أهل نينوى قال : [ من قرية يونس بن متى ؟ ] قال : و ما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال : [ ذلك أخي كان نبيا من الأنبياء ] فجعل عداس يقبل يديه و رجليه و يقول : قدوس ! و قال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما رجع إليهما فسألاه عما قال له فقال : لقد أخبرني عن شيئ ما يعلمه إلا نبي ! قالا : يا عداس ويحك ! لا تخدع عن دينك
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أيس من الطائف فمر بنخلة فقام يصلي من جوف الليل فمر به النفر من الجن أصحاب نصيبين فاستمعوا له عامة ليلته فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين و هم سبعة أنفس
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يدعوهم إلى الله و يستنصرهم ليمنعوا ظهره حتى ينفذ عن الله ما بعثه به ثم افتقده أصحابه ليلة فباتوا بشر ليلة فجعلوا يقولون : استطير أو اغتيل و تفرقوا في الشعاب و الأودية يطلبونه فلقيه بن مسعود مقبلا من نحو حراء فقال : يا نبي الله ! بأبي أنت و أمي ! بتنا بشر ليلة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أتاني داعي الجن فأتيتهم أقرئهم القرآن و سألوني الزاد فقلت : كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أو فرما كان لحما و البعر علفا لدوابكم ] فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الاستنجاء بالروث و العظم لأنه زاد إخواننا من الجن و كان بن مسعود يقول : أراني رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة الجن آثارهم و نيرانهم ثم أمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب
أخبرنا الحسن بن عبد الله بن يزيد القطان بالرقة ثنا عبد الجبار بن محمد ابن كثير التميمي ثنا محمد بن بشر اليماني عن أبان بن عبد الله البجلي عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس قال حدثني علي بن أبي طالب قال : لما أمر الله و رسوله صلى الله عليه و سلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج و أنا معه و أبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم و قال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة قال : و أي ربيعة أنتم ؟ أمن هامتها أم من لهازمها ؟ فقالوا : لا بل من هامتها العظمى قال أبو بكر : و أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا : من ذهل الأكبر قال أبو بكر : فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف ؟ قالوا : لا قال فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا : لا قال : فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا : لا قال : فمنكم الحوفزان قاتل الملوك سالبها أنفسها ؟ قالوا : لا قال : فمنكم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا قال أبو بكر : فلستم إذا ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال : على سائلنا أن نسأله يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك و لم نكتمك شيئا فممن الرجل ؟ فقال أبو بكر : أنا من قريش فقال الفتى : بخ بخ أهل الشرف و الرئاسة فمن أي القرشيين أنت ؟ قال : من ولد تيم بن مرة قال : أمكنت و الله الرامي من صفاء الثغرة ! فمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في قريش مجمعا ؟ قال : لا قال : فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه و رجال مكة مسنتون عجاف ؟ قال : لا قال : فمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا قال : فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا قال : فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء الداجية ؟ قال : لا قال : فمن أهل السقاية ؟ قال : لا و اجتذب أبو بكر زمام الناقة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الغلام :
( صادف درء السيل درئا يدفعه ... يهيضه حينا و حينا يصدعه )
أما و الله لقد ثبت ! قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقال علي : فقلت : يا أبا بكر ! لقد وقعت من الإعرابي على باقعة ! فقال لي : أجل يا أبا الحسن ! ما من طامة إلا و فوقها طامة و البلاء موكل بالمنطق قال علي : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة و الوقار فتقدم أبو بكر و كان مقدما في كل خير فسلم و قال : ممن القوم ؟ فقالوا : من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! ما وراء هذا القوم غر هؤلاء غرر قومهم و فيهم مفروق بن عمرو و هانئ بن قصيبة و المثنى بن حارثة و النعمان بن شريك و كان مفروق بن عمرو و قد غلبهم جمالا و لسانا و كان له غديرتان تسقطان على تربيته و كان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال أبو بكر كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق : إنا لنزيد على ألف و لن يغلب ألف من قلة ! فقال أبو بكر : و كيف المنعة فيكم ؟ قال مفروق علينا الجهد و لكل قوم جد قال أبو بكر : كيف الحرب بينكم و بين عدوكم ؟ قال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى و إنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب و إنا لنؤثر الجياد على الأولاد و السلاح على اللقاح و النصر من عند الله يديلنا مرة و يديل علينا أخرى لعلك أخو قريش ! قال أبو بكر : و قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فها هو ذا ! قال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك قال : فإلى م تدعو يا أخا قريش ! [ قال : أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أني رسول الله و أن تؤوني و تنصروني فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله فكذبت رسله و استغنت بالباطل عن الحق و الله هو الغني الحميد فقال مفروق بن عمرو : إلى ما تدعونا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الآية قال مفروق و إلى م تدعو يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { إن الله يأمر بالعدل و الإحسان } الآية فقال مفروق : دعوت و الله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و كأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال : و هذا هانئ بن قبيصة شيخنا و صاحب ديننا ! فقال : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ! و إني أرى إن تركنا ديننا و اتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا زلة في الرأي و قلة فكر في العواقب و إنما تكون الزلة مع العجلة و من ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا و لكن ترجع و نرجع و تنظر و ننظر و كأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال : و هذا المثنى بن حارثة شيخنا و صاحب حربنا ! فقال المثنى قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ! و الجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا و اتباعنا إياك على دينك و إنما نزلنا بين ضرتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما هاتان الضرتان ؟ قال : أنهار كسرى و مياه العرب و إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثا و لا نؤوي محدثا و إني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك و ننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق و إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم و ديارهم و أموالهم و يفرشكم نساءهم أتسبحون الله و تقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم ! نعم قال : فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم قابضا على يد أبي بكر و هو يقول : يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض ]
قال أبو حاتم : إن الله جل و علا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعرض على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وحده و أن لا يشركوا به شيئا و ينصروه و يصدقوه فكان يمر على مجالس العرب و منازلهم فإذا رأى قوما وقف عليهم و قال : [ إني رسول الله إليكم ! يأمركم أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا و تصدقوني ] و خلفه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب عمه يقول : يا قوم لا تقبلوا منه فإنه كذاب ـ حتى أتى كندة في منازلهم فعرض عليهم نفسه و دعاهم إلى الله فأبوا أن يستجيبوا له ثم أتى كلبا في منازلهم فكلم بطنا منهم يقال له بنو عبد الله فجعل يدعوهم حتى أنه ليقول لهم : [ يا بني عبد الله ! إن الله قد أحسن اسم أبيكم إني رسوله فاتبعوني حتى أنفذ أمره ] فلم يقبلوا منه ثم أتى بني حنيفة في منازلهم فردوا عليه ما كلمهم به و لم يكن من قبائل العرب أعنف ردا عليه منهم ثم أتى بني عامر بن صعصعة في منازلهم فدعاهم إلى الله فقال قائل منهم : إن اتبعناك و صدقناك فنصرك الله ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ] فقالوا : أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر في غيرنا ! لا حاجة لنا في هذا من أمرك
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحضر الموسم فيعرض نفسه على من حضر من العرب فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة و إذا رهط منهم رموا الجمرة فاعترضهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ ممن أنتم ] ؟ قالوا : من الخزرج قال : [ أمن موالي يهود ؟ ] قالوا : نعم فكلمهم بالذي بعثه الله به فقال بعضهم لبعض : يا قوم ! إن هذا الذي كانت اليهود يدعوننا به أن يخرج في آخر الزمان و كانت اليهود إذا كان بينهم شيء قالوا : إنما ننتظر نبيا يبعث الآن يقتلكم قتل عاد و ثمود فنتبعه و نظهر عليكم معه ثم قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : نرجع إلى قومنا و نخبرهم بالذي كلمتنا به فما أرغبنا فيك ! إنا قد تركنا قومنا على خلاف فيما بينهم لا نعلم حيا من العرب بينهم من العداوة ما بينهم و سنرجع إليهم بالذي سمعنا منك لعل الله يقبل بقلوبهم و يصلح بك ذات بينهم و يؤلف بين قلوبهم و أن يجتمعوا على أمرك ! فإن يجتمعوا على أمر واحد فلا رجل أعز منك ثم قدموا إلى المدينة فأفشوا ذلك فيهم و لما رجع حاج العرب كان لبني عامر شيخ قد كبر لا يستطيع أن يوافي معهم الموسم و كان من أمرهم بمكان فكانوا إذا رجعوا سألهم عما كان في موسهم ذلك فلما كان ذلك العام سألهم فأخبروه عما قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و دعاهم إليه فوضع الشيخ يده على رأسه و قال : يا بني عامر ! هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ فو الله ما تقولها إسماعيلي و إنها لحق ! و يحكم ! أين غاب عنكم رأيكم !
و سمعت قريش بمكة بالليل صوتا و لا يرون شخصه يقول : فإن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا يخشى خلاف المخالف فقالت قريش : لو علمنا من السعدان لفعلنا و فعلنا فسمعوا من القائل و هو يقول :
( فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... و يا سعد سعد الخزرجين الغطارف )
( أجيبا إلى داعي الهدى و تمنيا ... على الله في الفردوس زلفة عارف )
( فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف )
السعدان يريد به سعد الأوس ـ سعد بن معاذ و سعد الخزرج ـ سعد بن عبادة
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون الرازي ثنا عمار بن الحسن ثنا سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق قال أخبرني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال : كنا اثني عشر رجلا في العقبة الأولى فبايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على بيعة النساء أن لا نشرك بالله شيئا و لا نسرق و لا نزني و لا نقتل أولادنا و لا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا و أرجلنا و لا نعصيه في معروف فمن وفي فله الجنة و من غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء عذبه و إن شاء غفر له
قال أبو حاتم : فلما كان الموسم جعل النبي صلى الله عليه و سلم يتبع القبائل يدعوهم إلى الله فاجتمع عنده بالليل اثنا عشر نقيبا من الأنصار فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنا نخاف إن جئتنا على حالك هذه أن لا يتهيأ لنا الذي نريد و لكن نبايعك الساعة و ميعادنا العام المقبل فبايعهم النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا يشركوا بالله شيئا و لا يسرقوا و لا يزنوا و لا يقتلوا أولادهم و لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم و أرجلهم و لا يعصونه في معروف فمن وفى فله الجنة و من غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله إن شاء غفر له و إن شاء عذبه
و أسماؤهم : منهم من بني النجار و ثلاثة أنفس : أسعد بن زرارة بن عدس و هو أبو أمامة و عوف و معاذ ابنا الحارث بن رفاعة
و من بني زريق بن عامر بن زريق : رافع بن مالك بن العجلان و ذكوان بن عبد قيس بن خالدة
و من بني غنم : عوف بن عمر بن عوف بن الخزرج
و منهم القوافل : عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم و أبو عبد الرحمن ابن يزيد بن ثعلبة حليف لهم من بلى و من بني سالم بن عوف : عباس بن عبادة بن نضلة
و من بني سلمة جعد بن سعيد ثم من بني حرام : عقبة بن عامر بن نابي و قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد
و من بني عبد الأشهل بن جشم : أبو الهيثم بن التيهان و اسمه مالك و عويم بن ساعدة
ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة و أخبروهم الخبر و فشا ذكر الإسلام بالمدينة فكان الواحد بعد الواحد من الأنصار يخرج من المدينة إلى مكة فيؤمن برسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينقلب إلى أهله فيسلم بإسلامه جماعة حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا و فيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام
ثم اختلف الأوس و الخزرج في الصلاة و أبوا أن يترك بعضهم يؤم بعضا فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة مصعب بن عمير مع جماعة و ذلك أنهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه أن يبعث عليهم رجلا من أصحابه يفقههم في الدين فنز ل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة فكان يأتى به دور الأنصار فيدعوهم إلى الله و يقرأ عليهم القرآن و يفقه من كان منهم دخل في الإسلام و كان إسلام سعد بن معاذ و أسيد بن حضير على يد مصعب و ذلك أنه خرج مع أسعد بن زرارة إلى حائط من حوائط بني النجار معهما رجال من المسلمين فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لأسيد بن حضير : ائت هذا الرجل فلولا أنه مع أسعد بن زرارة و هو ابن خالتي كما علمت كنت أنا أكفيك شأنه ! فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم خرج حتى أتى مصعبا فوقف متشتما و قد قال أسعد لمصعب حين نظر إلى أسيد : هذا أسيد ! من سادات قوم له خطر و شرف فلما انتهى إليهما تكلم بكلام فيه بعض الغلظة فقال له مصعب بن عمير : أوتجلس فتسمع ؟ فإن سمعت خيرا قبلته و إن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه قال أسيد : ما بهذا بأس ثم ركز حربته و جلس فتكلم مصعب بالإسلام و تلا عليه القرآن قال أسيد : ما أحسن هذا القول ! ثم أمره فتشهد شهادة الحق و قال لهم : كيف أفعل ؟ فقال له : تغتسل و تطهر ثوبك و تشهد شهادة الحق و تركع ركعتين ففعل و رجع إلى بني عبد الأشهل و ثبتا مكانهما فلما رآه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد رجع إليكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فلما وقف عليه قال له سعد : ما وراءك ؟ قال : كلمت الرجلين فكلماني بكلام رقيق و زعما أنهما سيتركان ذلك و قد بلغني أن بني حارثة قد سمعوا بمكان أسعد فاجتمعوا لقتله و إنما يريدون بذلك إحقارك و هو ابن خالتك فإن كان لك به حاجة فأدركه فوثب سعد و أخذ الحربة من يدي أسيد و قال : ما أراك أغنيت شيئا ! ثم خرج حتى جاءهما و وقف عليهما متشتما و قد قال أسعد لمصعب حين رأى سعدا : هذا و الله سيد من وراءه ! إن تابعك لم يختلف عليه اثنان من قومه فأبلى الله فيه بلاء حسنا فلما وقف سعد قال لأسعد بن زرارة : أجئتنا بهذا الرجل يسفه شبابنا و ضعفاءنا و الله لولا ما بيني و بينك من الرحم ما تركتك و هذا ! فلما فرغ سعد من مقالته قال له مصعب : أوتجلس فتسمع ؟ فإن سمعت خيرا قبلته و إن خالفك شيء أعفيناك قال : أنصفت فركز حربته ثم جلس فكلمه بالإسلام و تلا عليه القرآن فقال سعد : ما أحسن هذا ! نقبله منك ونعينك عليه كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟ قال : تغتسل وتطهر ثوبك و تشهد شهادة الحق و تركع ركعتين ففعل ثم خرج سعد حتى أتى بني عبد الأشهل فلما رأوه قالوا : و الله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فلما وقف عليهم قالوا : مما حئت ؟ قال يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون رأيي فيكم و أمري عليكم ؟ قالوا أنت خيرنا رأيا قال فإن كان كلام رجالكم و نسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وحده و تشهدوا أن محمدا رسول الله و تدخلوا في دينه فما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل و لا امرأة إلا أسلم
جمعها أبو أمامة أسعد بن زرارة و هم أربعون رجلا في روضة يقال لها نقيع الخضمات من حرة بني بياضة فكان كعب بن مالك يقول فيما بعد إذا سمع الأذان يوم الجمعة : رحمة الله على أبي أمامة أسعد بن زرارة !
أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني و أحمد بن علي بن المثنى التميمي و عمران بن موسى بن مجاشع السختياني قالوا ثنا هدية بن مجاشع السختياني قالوا ثنا هدية بن خالد القيسي ثنا همام ابن يحيى ثنا قتادة [ عن أنس بن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه و سلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : بينا أنا في الحطيم ـ و ربما قال في الحجر ـ مضطجع إذ أتاني [ جبريل ] فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا و حكمة فغسل قلبي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل و فوق الحمار يضع خطوة عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتح فلما خلصت إذا فيها آدم فقال : هذا أبوك آدم فسلم عليه قال : فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال : مرحبا بالابن الصالح و النبي الصالح ! ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح قيل : ما هذا ؟ قال : جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قبل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتح له فلما خلصت إذا نحن بعيسى و يحيى و هما ابنا الخالة قال : هذا يحيى و عيسى فسلم عليهما قال : فسلمت و ردا ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ! ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل ؟ قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال : هذا يوسف فسلم عليه قال : فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ! ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاسفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتح فلما خلصت فإذا إدريس قال : هذا إدريس فسلم عليه قال : فسلمت عيه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ! ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتح فلما خلصت إذا بهارون قال : هذا هارون فسلم عليه قال : فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ! ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا موسى قال : هذا موسى فسلم عليه قال : فسلمت عليه فرد و قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح ! فلما تجاوزت بكى قال : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به ! فنعم المجيء جاء ! ففتحت فلما خلصت إذا إبراهيم قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه قال : فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالنبي الصالح و الابن الصالح ! ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر و إذا ورقها مثل آذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى قال فإذا أربعة أنهار : نهران ظاهران و نهران باطنان فقلت : ما هذان يا جبريل قال : أما الباطنان فنهران في الجنة و أما الظاهران فالنيل و الفرات ثم رفع إلى البيت المعمور ثم أتى بإناء من خمر و إناء من لبن و إناء من عسل فأخذت اللبن فقال : هي الفطرة و أنت عليها و أمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت بموسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم و إني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بأربعين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم إني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فرجعت فوضع عني عشرا فرجعت إلي موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بثلاثين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم فإني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فرجعت فوضع عشرا فرجعت إلى موسى قال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بعشرين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع عشرين صلاة و إني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم ثم رجعت إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بعشر صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع عشر صلاة كل يوم و إني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم و إني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك قلت : قد سألت ربي حتى استحييت و لكني أرضى و أسلم فلما جاوزت ناداني مناد : أمضيت فريضتي و خففت عن عبادي ]
قال أبو حاتم : أسرى النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء و فرض عليه خمس صلوات ثم بعث الله جبريل ليؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم عند البيت و يعلمه أوقات الصلوات فلما كان الظهر نودي : إن الصلاة جامعة ففزع الناس و اجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم حين زالت الشمس على مثل الشراك يؤم جبريل محمد و يؤم محمد الناس ثم صلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله ثم صلى به المغرب حين أفطر الصائم ثم صلى به العشاء حين غاب الشفق ثم صلى به الفجر حين حرم الطعام و الشراب على الصائم
ثم صلى به الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله ثم صلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثليه ثم صلى به المغرب حين أفطر الصائم ثم صلى به العشاء حين ذهب ثلث الليل ثم صلى به الفجر حين أسفر ثم التفت جبريل إلى محمد صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا محمد ! هذا وقتك و وقت الأنبياء قبلك الوقت فيما بين هذين الوقتين
أخبرنا محمد بن صالح الطبري بالصيمرة ثنا أبو كريب ثنا إدريس عن يحيى بن سعيد الأنصاري و عبد الله بن عمر و محمد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع و الطاعة في العسر و اليسر و المكره و المنشط و على أثرة علينا و أن لا ننازع الأمر أهله و أن نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
قال أبو حاتم : فلما كان العام المقبل من حيث واعد الأنصار رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يلقوه من العام المقبل بمكة خرج سبعون رجلا من الأنصار فيمن خرج من أهل الشرك من قومهم من أهل المدينة فلما كانوا بذي الحليفة قال البراء ابن معرور بن صخر بن خنساء و كان كبير الأنصار : إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا قد رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر و أن أصلي إليها ـ يعني الكعبة فقالوا له : و الله ما هذا برأي و ما كنا لنصلي إلى غير قبلة فأبوا ذلك عليه و أبى أن لا يصلي إلا إليها فلما غابت الشمس صلى إلى الكعبة و صلى أصحابه إلى الشام حتى قدموا مكة ن قال البراء بن معرور لكعب بن مالك : و الله يا ابن أخي ! قد وقع في نفسي مما صنعت في سفري هذا فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أسأله عما صنعت و كانوا لا يعرفون رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما كانوا يعرفون العباس بن عبد المطلب لأنه كان يختلف إليهم إلى المدينة تاجرا فخرجوا يسألون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة حتى إذا كانوا بالبطحاء سألوا رجلا عنه فقال : هل تعرفونه ؟ قالوا : لا قال : فهل تعرفون العباس بن عبد المطلب ؟ قالوا : نعم قال : فإذا دخلتم المسجد فانظروا من الرجل الذي مع العباس جالس فهو هو تركته معه الآن فخرجوا حتى جاءوا فسلموا عليهما ثم جلسوا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس : هل تعرف هذين الرجلين ؟ قال : نعم هذا البراء بن معرور و هذا كعب بن مالك فقال له البراء يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! إني صنعت في سفري هذا شيئا قد وقع في نفسي منه شيء فأخبرني عنه رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر و صليت إليها فعنفني أصحابي و خالفوني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها ـ و لم يزد على ذلك ثم خرجوا إلى منى فلما كان في أوسط أيام التشريق ذات ليلة واعدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة فخرجوا في جوف الليل يتسللون من رجالهم و يخوفون ذلك من قومهم من المشركين فلما اجتمعوا عند العقبة أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه عمه العباس فكان أول من تكلم العباس فقال : يا معشر الخزرج إن محمدا صلى الله عليه و سلم في منعة من قومه و بلاده و قد منعناه ممن ليس على مثل رأينا فيه و قد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم توفون له بما وعدتموه فأنتم و ما جئتم به و إن كنتم تخافون عليه من أنفسكمم شيئا فالآن فاتركوه فإنه في عز و منعة قالوا : قد سمعنا ما قلت ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تلا عليهم القرآن و دعاهم إلى الله فآمنوا و صدقوه ثم تكلم البراء معرور وأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : بايعنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أبايعكم على السمع و الطاعة في المنشط و المكره و النفقة في العسر و اليسر و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أن لا تخافوا في الله لومة لائم و على أن تنصروني و تمنعوني بما تمنعون به أنفسكم و أزواجكم و أبناءكم و لكم الجنة ] فبايعوه على ذلك فقال رجل من الأنصار يقال له عباس بن عبادة بن نضلة : يا معشر الأنصار ! هل تدرون ما تبايعون عليه هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأسود و الأحمر فإن كنتم ترون أنكم لتوفون بما عاهدتموه عليه فهو خير الدنيا و الأخرة فخذوه و إن كنتم ترون أنكم مسلموه إذا كان ذلك فالآن فدعوه فهو خزي الدنيا و الآخرة فقال أبو الهيثم بن التيهان : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بيننا و بين قومه رحما و إنا قاطعوها فيك فهل عسيت إن نحن بايعناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك و تدعنا ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ الدم الدم ! الهدم الهدم ! إني منكم و أنتم مني أسالم من سالمتم و أحارب من حاربتم ] ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ابعثوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلا على قومهم بما كان منهم ككفالة الحواريين بعيسى ابن مريم ] فقال أسعد بن زرارة : نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و أنت نقيب على قومك ] فقال : نعم فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم اثني عشر نقبيبا فكان نقيب بني مالك بن النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار و كان نقيب بني سلمة البراء بن معرور و عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله و كان نقيب بني ساعدة المنذر بن عمرو بن خنيس و سعد بن عبادة بن دليم و كان نقيب بني زريق بن عامر رافع ابن مالك بن العجلان و كان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة ابن مالك و سعد بن الربيع بن عمرو و كان نقيب القوافل عبادة بن الصامت بن قيس و كان نقيب بني عبد الأشهل أسيد بن حضير بن سماك و أبو الهيثم بن التيهان و كان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة بن الحارث فقال عباس بن عبادة بن نضلة : و الله يا رسول الله ! لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لم أؤمر بذلك ارجعوا إلى رحالكم فرجعوا إلى رحالهم و هم سبعون رجلا فلما أصبحوا غدت عليهم قريش قالوا : يا معشر الخزرج ! إنه قد بلغنا عنكم شيء لا ندري أحق هو أم باطل إنه لأبغض قوم إلينا أن تنشب الحرب بيننا و بينهم منكم فجعل من كان من المشركين من قومهم يحلفون بالله ما علمنا و لا فعلنا و صدقوا قال : كعب بن مالك : فنظرت إلى عبد الله بن عمرو بن حرام فقلت : يا أبا جابر ! أنت شيخ من شيوخنا و سيد من ساداتنا ألا تتخذ نعلا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ـ يريد الحارث بن هشام فلما سمعه الحارث خلعهما و رمى بهما إليه فقال : البسهما قال كعب : قال : و الله صالح ! و لئن صدق لأسلبنه
فرجع الأنصار إلىالمدينة و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة و كانت هذه البيعة في ذي الحجة قبل هجرة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة بثلاثة أشهر فلما علمت قريش أن القوم قد عاقدوه و رأت من اتبعه من الأنصار اجتمع نفر من أشراف كل قبيلة و دخلوا دارالندوة ليدبروا أمرهم في رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعترضهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : رجل من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم و لن يعدمنكم مني رأي و نصح قالوا : أجل ثم قال : انظروا في أمر هذا الرجل فقال بعضهم : احبسوه في وثاق تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء فإنما هو كأحدهم قال النجدي : ما هذا برأي فيخرجنه من محبسه و ليوشكن أن يثبوا عليكم حتى يأخذوه من بين أيديكم ثم لا آمن أن يخرج من بلادكم انظروا في غير هذا قال قائل : اخرجوه من بين أظهركم فإنه إذا خرج غاب أذاه و شره و أصلحتم أمركم بينكم و خليتم بينه و بين ما هو فيه قال النجدي : ما هذا برأي ألم تروا حسن حديثه و حلاوة قوله و طلاقة لسانه و أخذ القلوب بما يسمع منه و لئن فعلتم استعرض و لا آمن أن يدخل على كل قبيلة فيقبل منه ما جاء به ثم يسيره إليكم حتى ينزع أمركم من أيديكم فيخرجكم من بلادكم و يقتل أشرافكم انظروا رأيا غير هذا قال أبو جهل : و الله ! لأشيرن برأيي عليكم ما أراكم أبصرتموه بعد قالوا : و ما هو ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا ثم نعطيه سيفا صارما حتى يضربوه ضربة رجل واحد فإذا تفرق دمه في القبائل فلا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فإذا أرادوا ذلك قبلوا العقل و استرحنا منه ثم أصلحتم أمركم فاجتمع ملككم على ما كنتم عليه من دين آبائكم فقال النجدي : القول ما قال هذا الفتى لا رأي غيره فتفرقوا على ذلك
و أتاه جبريل و أمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه و أخبره بمكر القوم فأمر النبي صلى الله عليه و سلم عليا فتغشى بردا له أحمر حضرميا فبات في مضجعه و اجتمعت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم عند باب بيته يرصدونه فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في يده حفنة من تراب فرماها في وجوههم فأخذ الله بأعينهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فباتوا رصدا على بابه و انطلق رسول الله لحاجته فخرج عليهم من الدار خارج فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدا قال : قد خرج عليكم فانصرفوا يائسين ينفض كل واحد منهم التراب عن رأسه قال أبو بكر الصديق إنا لله و إنا إليه راجعون ! أخرجوا نبيهم ليهلكن ! فنزلت { أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير } فأمره الله بالقتال و فرض عليه الجهاد و هي أول آية نزلت في القتال ثم أمر الله جل و علا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجرة إلى يثرب
[ أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي ثنا ابن أبي السرى ثنا عبد الرزاق أن معمر عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين و هما حرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين و تجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن فقال أبو بكر : و ترجو ذلك بأبي أنت و أمي ؟ قال : نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم لصحبته و علف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر قالت عائشة : فبينا نحن جلوس يوما في بيتنا في نحر الظهيرة فقال قائل لأبي : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبل مقتنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها قال أبو بكر : فداه أبي و أمي ! إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر ! قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر : أخرج من عندك قال أبو بكر : إنما هو أهلك بأبي أنت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإنه قد أذن لي بالخروج فقال أبو بكر : فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم فقال أبو بكر : بأبي أنت يا رسول الله ! خذ إحدى الراحلتين هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بالثمن قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز و صنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاق و لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر بغار في جبل يقال له : ثور فمكثا فيه ثلاث ليال ]
قال أبو حاتم : لما أمر الله جل و علا رسوله صلى الله عليه و سلم بالهجرة استأجر رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من بني الديل و هو من بني عدي هاديا خريتا ـ و الخريت : الماهر بالهداية ـ قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي و هو على دين كفار قريش فأمناه و دفعا إليه راحلتيهما و أوعداه بغار ثور بعد ثلاث و خرج صلى الله عليه و سلم و أبو بكر حتى أتيا الغار في جبل ثور كمنا فيه و خرج المشركون يطلبونهما حتى جاءوا إلى الجبل و أشرفوا على الغار فقال أبو بكر : يا رسول الله ! لو أبصر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ] فأعمى الله أعينهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أيسوا رجعوا و مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر الصديق و هو غلام شاب ثقف ئخن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها فلا يسمع أمرا يكاد به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط للكلام و يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل يفعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم بعد ثلاث معه أبو بكر و عامر بن فهيرة و الدليل فأخذ بهم الدليل طريق الساحل فاجتنوا ليلتهم حتى أظهروا و قام الظهيرة رمى أبو بكر بصره هل يرى ظلا يؤون إليه فإذا هم بصخرة فانتهوا إليها فإذا بقية ظلها فسوى أبو بكر ثم فرش لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : اضطجع يا رسول الله ! فاضطجع ثم ذهب ينظر هل يرى من الطلب أحدا فإذا هو براعي الغنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي يريدون من الظل فسأله أبو بكر : لمن أنت يا غلام قال : لفلان ـ رجل من قريش فعرفه أبو بكر فقال : هل في غنمك من لبن ؟ قال : نعم فقال : هل أنت حالب لي ؟ قال : نعم فأمره فاعتقل شاة من غنمه و أمره أن ينفض عنها من الغبار فحلب له كثبة من لبن و كان معه إداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم على فمها خرقة فصب اللبن حتى برد أسفله ثم ملأها فانتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد استيقظ فقال : اشرب يا رسول الله ! فشرب و شرب أبو بكر فقال أبو بكر : قد أتى الرجل يا رسول الله ! قال : [ لا تحزن ] و القوم يطلبونهم قال سراقة بن مالك بن جعشم : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فقال سراقة : فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل فقال : يا سراقة ! إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا و أصحابه قال سراقة : فعرفت أنهم هم فقلت لهم : إنهم ليسوا هم و لكنك رأيت فلانا و فلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبث في مجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحسبها علي و أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجة الأرض حتى أتيت فرسي فركبتها و دفعتها تقرب بي حتى ذنوت منهم فعرد بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستسقمت بها أخرج أما لا ! فخرج الذي أكره فركبت فرسي و عصيت الأزلام فقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو لا يلتفت و أبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكن تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم و وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إن قومك قد جعلوا فيك الدية و أخبرتهم بأخبار ما يريد الناس بهم و عرضت عليهم بالزاد و المتاع فلم يرزءاني و لم يسألاني إلا أنهما قالا : أخف علينا فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة و أمن فأمر أبا بكر فكتب لي في رق من أدم قال سراقة : و الله لأعمين على من ورائي من الطلب و هذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي و غنمي بمكان كذا و كذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حاجة لنا في إبلك و غنمك ] و انطلق راجعا إلى أصحابه و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقي الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبا بكر ثيابا بيضاء
ثم ساروا إلى خيمتي أم معبد الخزاعية و كانت امرأة برزة جلدة تحتبي و تجلس بفناء الخيمة ثم تسقي و تطعم فينالونها تمرا و يشترون فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك فإذا القوم مرملون مسنتون فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شاة في كسر خيمتها فقال : [ ما هذه الشاة يا أم معبد ] ؟ قالت : خلفها الجهد عن الغنم فقال : [ هل بها من لبن ] ؟ قالت هي أجهد من ذلك قال : [ أتأذنين لي أن أحلبها ] ؟ قالت : نعم بأبي أنت و أمي ! إن رأيت بها حلبا فاحلبها فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشاة فمسح ضرعها و ذكر اسم الله عليه و قال : [ اللهم ! بارك لها في شاتها ] فتفاجت و درت و اجترت فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء فسقاها فشربت حتى رويت و سقى أصحابه فشربوا حتى رووا و شرب آخرهم و قال : [ ساقي القوم آخرهم شربا ] فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى أراضوا ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها فقل ما لبث فجاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا له حفلا عجافا يتساوكن هزلا مخهن قليل لا نقى بهن
فلما رأى اللبن عجب و قال : من أين لك هذا و الشاء عاذب و لا حلوبة في البيت ؟ فقالت : لا و الله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت و كيت قال : و الله إني أراه صاحب قريش الذي نطلبه صفيه لي يا أم معبد ! قالت : رأيت رجلا ظاهر الوضاءة مليح الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة و لم تزره صلعة وسيم جسيم قسيم في عينه دعج و في أشفاره وطف و في صوته صهل أحور الأكحل أزج أقرن رجل شديد سواد الشعر في عنقه سطع و في لحيته كثاثة إذا صمت فعليه الوقار و إن تكلم سما و علاه البهاء كأن منطقه خرزات نظم يتحدرون حلو المنطق فصل لا نزر و لا هذر أجمل الناس و أبهاهم من بعيد و أحلاه و أحسنه من قريب ربعة لا يتثنى من طول و لا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا و أحسنهم قدرا و له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله و إن أمر تسارعوا إلى أمره محفود محشود لا عابس و لا مفند قال : هذا و الله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ! لو كنت وافقت لالتمست إلى أن أصحب و لأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلا و أصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه و لا يدرون من يقوله و هو يقول :
( جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد )
( هما نزلا بالبر و ارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد )
( فيال قصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجازى و سودد )
( سلوا أختكم عن شاتها و إنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد )
( دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد )
( فغادره رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد )
فأجابه حسان بن ثابت
( لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... و قد سر من يسري إليه و يغتدي )
( ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... و حل على قوم بنور مجدد )
( و هل يستوي ضلال قوم تسكعوا ... عمي و هداة يهتدون بمهتدي )
( نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... و يتلوا كتاب الله في كل مشهد )
( و إن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو الغد )
( ليهنئ أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد )
( ليهنئ بني كعب مقام فتاتهم ... و مقعدها للمؤمنون بمرصد )
فلما سمع المسلمون الأبيات خرج المسلمون سراعا فوجا فوجا يلحقون برسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذوا على خيمة أم معبد
و سمع المسلمون بالمدينة بخروج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرون قومهم حتى يردهم حر الظهيرة فكان أول من قدم عليهم من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي فقالوا : ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : هو و أصحابه على إثري ثم أتاهم بعده عمرو بن أم مكتوم الأعشى أخو بني فهر فقالوا : ما فعل من ورائك رسول الله و أصحابه ؟ فقال : هم الآن على أثري ثم أتاهم بعده عمار بن ياسر و سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود و بلال ثم أتاهم عمر بن الخطاب في عشرين راكبا و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث خرج من الغار سلك بهم الدليل أسفل من مكة ثم مضى بهم حتى جاوز بهم الساحل أسفل عسفان ثم استجاز بهم على أسفل أمج حتى عارض بهم الطريق ثم أجاز بهم فسلك بهم الخرار ثم أجاز بهم ثنية المرة ثم سلك بهم القفا ثم أجاز بهم مدلجة لفف ثم استبطن بهم مدلجة لفف ثم استبطن بهم مدلجة مجاج ثم سلك مرجح من ذي العضوين ثم بطن ذي كشد ثم أخذ بهما الجداجد ثم الأجرد ثم سلك بهم بطن أعداء ثم مدلجة تعهن ثم العبابيد ثم الفاجة ثم العرج ثم بطن العائر ثم بطن ريم ثم رحلوا من بطن ريم و نزلوا بعض حرار المدينة و ذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول و بعثوا رجلا من أهل البادية يؤذن بهم الأنصار فجاء البدوي و آذن بهم الأنصار و صعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مبيضين ؟ فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ! هذا جدكم الذي تنتظرون ! فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بظهر الحرة و هم خمسمائة رجل من الأنصار فتلقى الناس و العواتق فوق الأجاجير و الصبيان و الولائد يقولون :
( طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع )
و أخدت الحبشة يلعبون بحرابهم لقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم فرحا بذلك
0
[ أخبرنا أبو خليفة ثنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول : اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء : فليحمله إلى أهلي فقال له عازب : لا حتى تحدثني كيف صنعت أنت و رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرجتما من مكة و المشركون يطلبونكم ؟ فقال : ارتحلنا من مكة ـ فذكر حديث الرحل و قال : حتى أتينا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أنزل الليلة على بني النجار و أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك ] فخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق و على البيوت و الغلمان و الخدم يقولون : جاء محمد ! جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر
قال أبو حاتم : لما أمسى رسول الله صلى الله عليه و سلم الليل عدل فنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو كانت من بني عدي بن النجار فلما أصبح صلى الله عليه و سلم نزل حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و أبو مرثد و ابنه مرثد و أبو كبشة و زيد بن حارثة على كلثوم بن الهدم العمري أخي بني عمرو بن عوف و نزل أبو بكر الصديق و طلحة بن عبيد الله و صهيب بن سنان على خبيب بن إساف و نزل عمر و زيد ابنا الخطاب و عمر و عبد الله ابنا سراقة و عبد الله بن حذافة و واقد بن عبد الله و خولى بن أبي خولى و عياش بن ربيعة و خالد و عاقل و إياس بن البكير على رفاعة بن عبد المنذر و نزل عبيدة و الطفيل و الحصين بنو حرب و مسطح بن أثاثة و سويبط مولى أبي سعد و كليب ابن عمير و خباب بن الأرت على عبد الله بن سلعة العجلاني و نزلت زينب بنت جحش و جدامة بنت جندل و أم قيس بنت محصن و أم حبيبة بنت نباتة و أمية بنت رقيش و أم حبيبة بنت جحش و أم سخبرة بنت نعيم على سعد بن خيثمة و عشى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمون و أقام أبو بكر للناس و جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم صامتا يسلمون و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في بني عوف بقباء يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسس المسجد بقباء و صلى فيه تلك الأيام فلما كان يوم الجمعة خرج على ناقته القصوى يوم الجمعة يريد المدينة و اجتمع عليه الناس فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فكانت أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ثم جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يمر بدور الأنصار فيدعونه للنزول و يعرضون عليه المؤاساة فيجزيهم النبي صلى الله عليه و سلم خيرا حتى مر على بني سالم فقام عتبان بن مالك في أصحاب له فقالوا له : يا رسول الله ! أقم في العدد و العدة و المعنة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة ] ثم مر ببني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة و أبو دجانة و المنذر بن عمرو و داود راودوه على النزول فقال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ] ثم مر ببني بياضة فاعترضه فروة بن عمرو و زياد ابن لبيد و راودوه على النزول فقال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ] ثم مر على بني عدي بن النجار فقال أبو سليط بن أبي خارجة : عندنا يا رسول الله ! فنحن أخوالك ـ و ذكروا رحمهم فقال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ] و أقبلت الناقة حتى انتهت به إلى مربد التمر و هو يومئذ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر أسعد بن زرارة اسمهما سهل و سهيل ابنا رافع بن أبي عمرو و كان المسلمون بنوا مسجدا يصلون فيه و هو موضع مسجده اليوم فلما انتهت به الناقة إلى المسجد بركت فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ هذا إن شاء الله المنزل ] ! و جاء أبو أيوب الأنصاري خالد بن زبد بن كليب فأخذ برحله و جاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته ثم سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المربد فقال معاذ بن عفراء هو لغلامين يتيمين وانا مرضيهما عنه فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المسجد قالوا : يا رسول الله المرء مع موضع رحله فنزل على أبي أيوب الأنصاري و منزله في بني غنم بن النجار ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون في بناء المسجد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل معهم اللبن :
( هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا و أطهر )
( اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار و المهاجرة )
و كان عمار بن ياسر جعدا قصيرا و كان ينقل اللبن و قد أغبر صدره فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ابن سمية ! تقتلك الفئة الباغية و قدم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يعين المسلمين في بناء المسجد فكان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ قربوا الطين من اليمامى فإنه من أحسنكم به مسكا ] و مات أسعد بن زرارة و المسجد يبنى أخذته الشهقة و دفن بالبقيع و هو أول من دفن بالبقيع من المسلمين فكان النبي صلى الله عليه و سلم نازلا على أبي أيوب حتى فرغ من المسجد و بنى له فيه مسكن فانتقل رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فرغ من المسجد و مسكنه إليه ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة و أبا رافع إلى مكة ليقفل سودة بنت زمعة زوجته و بناته و بعث أبو بكر الصديق عبد الله بن أريقط إلى عبد الله بن أبي بكر أن يقدم بأهله فلما قدم ابن أريقط على عبد الله بن أبي بكر خرج عبد الله بعيال أبي بكر : عائشة و عبد الرحمن و أم رومان أم عائشة و كان البراء بن معرور مات في صفر قبل قدوم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة بشهر و أوصى عند موته أن يوجه إذا وضع في قبره إلى الكعبة ففعل به ذلك فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة صلى على قبره و ولد مسلمة بن مخلد و كان آخر الأنصار إسلاما بنو واقف و بنو أمية و بنو وائل و كانت الأنصار كل واحد منهم يهدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة تيسا و كانت أم سليم لم يكن لها ما تهدي فأتت بابنها أنس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله ! ابني هذا يخدمك و ليس عندي ما أهديه فادع الله له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ! أكثر ماله و ولده ]
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم دار أنس بن مالك و كان أنس له عشر سنين حيث قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فكانت أمهاته يحثثنه فلما دخل داره حلب له من داج و شاب له لبنها بماء يسير في الدار و أبو بكر عن شماله و أعرابي عن يمينه فناوله رسول الله صلى الله عليه و سلم الأعرابي و قال : [ الأيمن فالأيمن ] و كانت الصلاة ركعتين ركعتين فرآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم متنفلين فقال : [ يا أيها الناس ! اقبلوا فريضة الله ] فأقرت صلاة المسافر و زيد في صلاة المقيم و ذلك اثنتي عشر ليلة من شهر ربيع الآخر بعد قدومه عليه السلام المدينة بشهر
و وعك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وعكا شديدا فدخلت عائشة على أبي بكر و هو يقول :
( كل امرئ مصبح في أهله ... و الموت أقرب من شراك نعله )
ثم دخلت على عامر بن فهيرة و هو يقول :
( كل امرئ مدافع بطوقه ... الثور يحمي جلده بروقه )
فدخلت على بلال و هو يقول :
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد و حولي إذخر و جليل )
( و هل أردن يوما مياه مجنة ... و هل يبدون لي شامة و طفيل )
و كان بلال يقول : اللهم العن عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبا سفيان بن حرب و أبا جهل بن هشام كما أخرجونا من مكة فأخبر عائشة النبي صلى الله عليه و سلم بما رأت من وعكهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ! حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة و بارك لنا فيها كما باركت لنا في مكة و بارك في صاعها و مدها و انقل وباءها إلى مهيعة و هي الجحفة ]
و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد و قد حمى الناس و هم يصلون قعودا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ] فختم الناس الصلاة قياما ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ! ثم أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يؤاخي بين المهاجرين و الأنصار في شهر رمضان فدخل المسجد فجعل يقو ل : أين فلان بن فلان ؟ فلم يزل يعدهم و يبعث إليهم اجتمعوا عنده فقال : إني أحدثكم بحديث فاحفظوه و حدثوا من بعدكم إن الله اصطفى من خلقه خلقا ثم تلى هذه الآية { الله يصطفي من الملئكة رسلا و من الناس } خلقا يدخلهم الجنة و إني مصطف منكم من أحب أن أصطفيه و مؤاخ بينكم كما آخا الله بيت الملائكة قم يا أبا بكر فقام فجيء بين يديه فقال : إن لك عندي يد الله يجزيك بها و لو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا و أنت عندي بمنزلة قميصي في جسدي ـ و حرك قميصه ثم قال : ادن يا عمر فدنا فقال : لقد كنت شديد الثغب علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز الدين بك أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك و كنت أحبهما إلى الله فأنت معي ثالث ثلاثة من هذه الأمة ! ثم تنحا و آخا بينه و بين أبي بكر و دعا عثمان بن عفان فقال : ادن يا عثمان ! ادن يا أبا عمرو فلم يزل يدنو حتى ألزق ركبته بركبته ثم نظر إلى السماء فقال : سبحان الله العظيم ! ثم نظر إلى عثمان فإذا إزاره محلولة فزرها عليه ثم قال : اجمع لي عطفي ردائك على نحرك فإن لك شانا عند أهل السماء أنت ممن يرد علي الحوض و أوداجه تشخب دما ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : ادن يا أمين الله ! يسلط الله على مالك بالحق أما إن لك عندي دعوة قد أخرتها فقال : خرلي فقال : أكثر الله مالك ! ثم تنحى و آخى بينه و بين عثمان ] ثم دعا طلحة و الزبير فقال : ادنوا مني فدنوا منه فقال : [ أنتما حواري كحواري عيسى ابن مريم ! ثم آخى بينهما ]
ثم دعا سعد بن أبي وقاص و عمار بن ياسر فقال : [ يا عمار ! تقتلك فئة الباغية ثم آخى بينهما ]
ثم دعا عميرا أبا الدرداء و سلمان الفارسي فقال : [ يا سلمان ! أنت منا أهل البيت و قد آتاك الله العلم الأول و العلم الآخر ثم قال : ألا أنشدك يا أبا الدرداء ! قال : بأبي أنت و أمي بلى قال : إن تنقدهم فينقدوك و إن تتركهم لا يتركوك فأقرضهم عرضك ليوم فقرك و اعلم أن الجزاء أمامك ثم آخى بينهما ثم نظر في وجوه أصحابه فقال : ابشروا و قروا عينا فأنتم أول من يرد علي الحوض و أنتم في أعلى الغرف و نظر إلى عبد الله بن عمر فقال : الحمد لله الذي يهدي من الضلالة من أحب ]
فقال علي بن أبي طالب : يا رسول الله ! ذهب روحي فانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت فإن كان من سخطة علي فلك العتبي و الكرامة ! قال : [ و الذي بعثني بالحق ! ما أخرتك إلا لنفسي و أنت مني بمنزلة هارون بن موسى غير أنه لا نبي بعدي و أنت أخي و وارثي قال : يا رسول الله ! ما أرث منك ؟ قال : ما ورثت الأنبياء قبلي قال : و ما ورثت الأنبياء قبلك ؟ قال : كتاب الله و سنة نبيهم و أنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي ثم تلا رسول الله { إخوانا على سرر متقبلين } ]
و مات الوليد بن المغيرة بمكة و أبو أحيحة بالطائف بلغ المسلمين نعيهما و ولد عبد الله بن الزبير في شوال فكبر المسلمون و كانوا يخافون أن يكون اليهود سحرت نساءهم و كان أول مولود ولد من المهاجرين بالمدينة و هنئ به أبو بكر و الزبير ولم ترضعه أسماء بنت أبي بكر حتى أتت به النبي صلى الله عليه و سلم فأخذه و وضعه في حجرة فحكنه بتمرة فكان أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم سماه عبد الله
ثم عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم اللواء لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد المناف على ستين من المهاجرين و ليس فيهم من الأنصار أحد هي أول راية عقدها بالمدينة و بعثه إلى بطن رابغ فبلغ ثنية المرة بالقرب من الجحفة فالتقوا على ماء يقال له أحياء و أمير السرية أبو سفيان بن حرب في مائتين من المشركين فلم يكن بينهم إلا الرمي بالرمي ثم انحاز المسلمون على رامية و انحاز من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو بن الأسود و قد قيل : عتبة بن غزوان ثم انصرفوا من غير أن يسلوا السيوف و قد قيل : إن المشركين أميرهم كان مكرز بن حفص بن الأخيف و كان حامل اللواء لعبيدة بن الحارث مسطح بن أثاثة
ثم عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم اللواء لحمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا كلهم من المهاجرين بعثه إلى ساحل البحر من قبل العيص من أرض الجهينة ليتعرض لعير قريش فلقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني و كان حليفا للفريقين فانصرف الفريقان من غير قتال و كان حامل لواء حمزة يومئذ أبو مرثد
ثم بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعائشة و هي بنت تسع على رأس ثمانية أشهر من هجرته و ذلك في شوال و كان تزوج بها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين و هي ابنة ست فأهديت إلى النبي صلى الله عليه و سلم و معه البهاء و لم يزوج من النساء بكرا غيرها
ثم عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم اللواء لسعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يريد العير في ذي القعدة فخرجوا على أقدامهم فكانوا يكفون بالنهار و يسيرون بالليل حتى أصبحوا لحرار صبح خامسة و قد سبقهم العير قبل ذلك بيوم فانصرفوا و كان حامل اللواء يومئذ لسعد المقداد بن عمرو
و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو قيس بن الأسلت فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم الإسلام فقال : ما أحسن ما تدعو إليه ! انظر في أمري ثم أعود إليك فلقيه عبد الله بن أبي فقال : كرهت و الله حرب الخزرج ! فقال أبو قيس : لا أسلم سنة فمات في ذي الحجة
[ حدثنا عبد الله بن محمد بن المدايني ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد اليهود يصومون عاشوراء فقال لهم : ما هذا ؟ قالوا : يوم عظيم ! نجى الله فيه موسى و أغرق فرعون فيه و قومه فصامه موسى شكرا لله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أولى بموسى و أحق بصيامه منكم فصامه و أمر بصيامه ]
قال : وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهود يصومون يوم عاشوراء في أول قدومه المدينة و هو أول
السنة الثانية من الهجرة فسألهم فأخبروه أن الله نجى الله موسىفي ذلك اليوم و أغرق آل فرعون فصامه موسى شكرا لله فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصيامه و قال : أنا أولى بموسى فصامه صلى الله عليه و سلم و المسلمون
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته فاطمة عليا في صفر و قال له : [ أعطها شيئا ] فقال : ما عندي يا رسول الله شيء قال : [ فأين درعك الحطمية ؟ ] فبعث إليها بدرعه
و قد روي في تزويجها أخبار فيها طول تؤدي إلى مسلك القصاص فتنكبت عن ذكرها لعلمي بعدم صحتها من جهة النقل
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة الأبواء و هي أول غزوة غزاها بنفسه و بين الأبواء و ودان ستة أميال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين ليس فيهم أنصاري و ذلك في شهر ربيع الأول على رأس سنة من مقدمه المدينة و استخلف سعد بن عبادة بن دليم و كان حامل لوائه حمزة بن عبد المطلب و كانت غيبته خمس عشرة ليلة ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا و الأبواء جبل و ودان و الأبواء بينهما الطريق كلاهما ورد رسول الله صلى الله عليه و سلم و في هذه الغزاة وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم مخشي بن عمرو الضمري ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم في مائتين من أصحابه إلى ناحية رضوى يريد عير قريش فيها أمية بن خلف
و استخلف على المدينة سعد بن معاذ و كان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سعد بن أبي وقاص في السبعة نفر أو ثمانية حتى انتهى إلى الخرار من أرض الحجاز ثم رجع و لم يلق كيدا و كان سرح في المدينة يرعى في الحمى فاستاقه كرز بن جابر الفهري فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في إثره في المهاجرين و كان حامل لوائه علي بن أبي طالب
و استخلف على المدينة زيد بن حارثة و طلب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ بدرا فلم يلحقه و فاته كرز فرجع إلى المدينة و هذه الغزوة تسمى غزوة بدر الأولى
ثم ولد النعمان بن بشير في جمادى الأولى فحملته أمه عمرة بنت رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فحنكه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو أول مولود من الأنصار ولد بعد قدوم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة
ثم بعث رسول الله في رجب عبد الله بن جحش في اثني عشر نفسا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري و كتب له كتابا و قال : أمسك كتابك فإذا سرت يومين فانشره فانظر ما فيه ثم امض و خرج مع عبد الله بن جحش أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب و سعد بن أبي وقاص و سهيل بن بيضاء و عتبة بن غزوان و واقد بن عبد الله التميمي حليف بني عدي بن بيضاء و خالد بن البكير حليف بني عدي و عكاشة بن محصن فسار عبد الله بن جحش ليلتين على ما أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم فتح الكتاب فإذا فيه : سر حتى تنزل نخلة على اسم الله و لا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك و امض فيمن تبعك منهم حتى تقدم بطن نخلة فترصد بها عير قريش فلما قرأ الكتاب قال : لست بمستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فليمض فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فمضى و مضى القوم معه حتى إذا كانوا ببحران ـ معدن بالحجاز فوق الفرع ـ أضل عتبة بن غزوان و سعد بن أبي وقاص بعيرا فتخلفا في طلبه و مضى عبد الله بن جحش حتى أتى المكان الذي أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عير قريش فيها عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان و عثمان بن عبد الله بن المغيرة و نوفل بن عبد الله بن المغيرة فلما رأى أصحاب العير القوم هابوهم و حلزوهم فأشرف لهم عكاشة ابن محصن و كان قد حلق رأسه فلما رأوه قال عمار : لا بأس عليكم ! و أمنوا فاستشاروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمرهم ن و كان آخر يوم من رجب
فقال المسلمون : إن أخرنا عنهم هذا اليوم دخلوا الحرم فامتنعوا و إن أصبناهم أصبناهم في الشهر الحرام فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله و استأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة و الحكم بن كيسان و أعجزهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة و استاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقف رسول الله صلى الله عليه و سلم العير و لم يأخذ منها شيئا و حبس الأسيرين و قال لأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام فسقط في أيدي القوم و ظنوا أنهم هلكوا و قالت قريش : استحل بهذا الشهر الحرام قد أصاب فيه الدم و المال فأنزل الله فيما كان قول رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما عظم في أنفس أصحابه و ما جاؤوا به { يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه } إلى قوله { أكبر من القتل } يريد أنهم كانوا يفتنونكم في دينكم و أنتم في حرم الله حتى تكفروا بعد إيمانكم فهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم و صدهم عن سبيل الله و إخراجكم منه فلما نزل القرآن بذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم العير و أما الأسيران فإن الحكم أسلم و أقام عند رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا و أما عثمان ففاداه رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجعوا به مكة و مات بها مشركا
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ذي العشيرة في المهاجرين و استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد و كان حامل لوائه حمزة بن عبد المطلب حتى بلغ بطن ينبع فوادع بها بني مدلج و حلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع و كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فقال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله ! لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ! فأنزل { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية و قال السفهاء من الناس : من اليهود { ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } فأنزل الله { قل لله المشرق و المغرب } الآية فصرفت القبلة إلى الكعبة في الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان فكانت صلاته نحو بيت المقدس بعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرا و ثلاثة أيام فخرج رجل بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار و هم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه قد وجه إلى الكعبة فانحرف القوم حتى توجهوا إلى الكعبة
ثم أنزل الله جل وعلا فريضة الصوم في شعبان فلم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد فرض رمضان بصيام عاشوراء و لا نهاهم عنه
خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في شهر رمضان لاثتني عشرة ليلة خلت منه يريد اعتراض عير قريش و معه المهاجرون و الأنصار و ضرب بعسكره قبل أن يخرج من المدينة ببئر أبي عيينة و عرض أصحابه و رد من استصغر منهم فكان ممن رد في ذلك اليوم من المسلمين عبد الله بن عمر و رافع بن خديج و البراء بن عازب و زيد ابن ثابت و أسيد بن حضير و كان عمير بن أبي وقاص يستر في ذلك اليوم لأن لئلا يراه النبي صلى الله عليه و سلم فقال له سعد : ما لك يا أخي ؟ قال : إني أخاف أن يراني النبي صلى الله عليه و سلم فيستصغرني فيردني ! لعل الله أن يرزقني الشهادة فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرده فبكى بكاء شديدا فأجازه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قتل ببدر شهيدا
ثم رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم من بئر أبي عيينة في ثلاثمائة و ثمانية عشر رجلا منهم أربعة و سبعون رجلا من المهاجرين و سائرهم من الأنصار و كان لهم من الإبل سبعون بعيرا يتعاقب النفر البعير الواحد فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على طريق الساحل إلى الحوران يتجسسان خبر العير
و رأت عاتكة بنت عبد المطلب بمكة رؤيا أفزعتها فبعثت إلى العباس فقالت : يا أخي ! لقد رأيت البارحة رؤيا أفظعتني فاكتم علي قال : و ما رأيت ؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته : ألا ! انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فإذا الناس قد اجتمعوا إليه فدخل المسجد و الناس يتبعونه فبيناهم حوله إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم خرج بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت فما بقي بيت بمكة و لا دار إلا دخلها منها فلقة قال العباس : و الله ! إن هذه لرؤيا فاكتميها و لا تذكريها
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة و كان له صديقا فذكرها له فذكرها الوليد لأبيه ففشا الحديث بمكة فقال أبو جهل : ما يرضى بنو عبد المطلب أن يتنبأ رجالهم حتى تتنبأ نساؤهم
و كان أبو سفيان بن صخر أقبل من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموالهم وتجاراتهم و فيها ثلاثون ـ و قيل : أربعون ـ رجلا من قريش منهم عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل الزهري
و كان أبو سفيان يتحسس الأخبار و يسأل من لقي من الركبان فأصاب خبرا من الركبان أن محمدا قد نفر في أصحابه فحذر عند ذلك و استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة و أمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم و يخبرهم أن محمدا قد عرض لها فدخل ضمضم في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة مكة و هو يصرخ ببطن الوادي و قد جدع بعيره و حول رحله و شق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش ! اللطيمة ! اللطيمة ! قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها أو لا تدركوها الغوث ! الغوث ! فتجهزت قريش سراعا إما خارج و إما باعث مكانه رجلا و خرجت تريد العير
و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء بينها و بين المدينة ثلاث ليال بعث عدي بن أبي الزغباء الجهيني حليف بني النجار و بسبس بن عمرو الجهيني حليف بني ساعدة قدامه إلى مكة فلما نزل الوادي أناخ إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا لهما يستسقيان فيه وعلى الماء إذ ذاك مجدي بن عمرو الجهني فسمع عدي و بسبس جاريتين من جواري جهينة و هما يتلازمان فقالت الملزومة لصاحبتها : إنما يأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم و أقضيك الذي على فقال مجدي : صدقت و خلص بينهما فلما سمع بذلك عدي و بسبس ركبا راحلتيهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبراه و أقبل أبو سفيان و قد تقدم العير حتى ورد الماء حذرا من الذي كان يخافه فقال لمجدي بن عمرو : و هل أحسست أحدا ؟ فقال : و الله ! ما رأيت أحدا إلا أني رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال : هذه و الله علائف يثرب ! فرجع و ضرب وجوه عيره فساحل بها و ترك بدرا يسارا و انطلق حتى أسرع
و أقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة رؤيا فقال : أنا بين النائم و اليقظان رأيت رجلا قد أقبل على فرس له حتى وقف ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو الحكم بن هشام و أمية بن خلف ـ و فلان و فلان ثم ضرب في لبة بعيره و أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه فبلغ أبا جهل رؤياه فقال : هذا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا ! فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش قال : إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم و أموالكم و قد نجاهما الله فارجعوا فقال أبو جهل : و الله لا نرجع حتى نرد بدرا ! ـ و كان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق ـ فنقيم عليه ثلاثا و ننحر الجزور و نطعم الطعام و نسقي الخمر و تعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب و بمسيرنا و جمعنا ثم رحلت قريش حتى نزلت العدوة القصوى من بدر
و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم عرق الظبية دون بدر استشار الناس فقال : أشيروا علي أيها الناس ! فقام أبو بكر فقال و أحسن ثم قام عمر فقال مثل ذلك ثم قام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله ! أمض بنا لأمر الله فنحن معك و الله لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ههنا قعدون } و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون و الذي بعثك بالحق ! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تنتهي إليه رسول الله ! فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و دعا له بخير
ثم قال : أشيروا علي أيها الناس ! و إنما يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم الأنصار و ذلك أنهم كانوا عدد الناس فقال سعد بن معاذ : كأنك يا رسول الله إنما تريدنا ! قال : أجل فقال سعد : قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا بما جئت به أنه الحق و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة فامض بنا يا نبي الله لما أردت فنحن معك و الذي بعثك لو ! استعرضت هذا البحر و خضت بنا لخضناه معك ما بقي منا رجل و ما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك ! فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ركب و رجل من أصحابه قدام الجيش و مضى حتى وقف على شيخ قريبا من بدر فقال له : [ أيها الشيخ ! ما بلغك عن محمد و أصحابه ؟ فقال : ما أنا مخبرك حتى تخبرني من أنت ! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أخبرتنا أخبرناك من نحن فقال الشيخ : أذاك بذاك ؟ قال : نعم فقال الشيخ بلغني أن محمدا و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا فإن يكن الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بكذا و كذا ـ بالمنزل الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا و كذا فإن يكن الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بكذا و كذا ـ بالمنزل الذي هم فيه ثم قال : ممن أنت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم نحن من ماء ] ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه
و أصاب علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام و سعد بن أبي وقاص رواية لقريش و فيها غلام لبني العاص و غلام لمنبه بن الحجاج فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي فقالوا لهما : من أنتما ؟ فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا لنسقي لهم الماء فكره القوم خبر قريش و رجوا أن يكونا لأبي سفيان فقالوا لهما : من أنتما ؟ ألا لأبي سفيان ؟ فأنكرا فضربوهما فلما آذوهما قالا : نحن لأبي سفيان فأمسكوا عنهما فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلاته وأقبل عليهم فقال : [ إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم تركتموهما ! و الله إنهما لقريش ! ثم دعاهما فقال : لمن أنتما ؟ فأخبراه ثم قال : أين قريش ؟ قالا : خلف هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى من الوادي قال : و كم هم ؟ قالا : هم كثير قال : ما عددهم ؟ قالا : ما ندري قال : فكم تنحر في اليوم ؟ قالا : يوما عشرا و يوما تسعا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم بين التسعمائة إلى الألف ] ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسميا عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة في رجال من قريش و كان الذي ينحر لقريش تسعة رهط من بني هاشم : العباس بن عبد المطلب و من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة و من بني نوفل : الحارث بن عامر ابن نوفل و طعيمة بن عدي بن نوفل و من بني الدار : النضر بن الحارث و من بني أسد : حكيم بن حزام و من بني مخزوم : أبو جهل بن هشام و من بني جمح : أمية بن خلف و من بني سهم : منبه بن الحجاج و من بني عامر بن لؤي : سهيل بن عمرو ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين فقال : [ هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها وبعث الله السماء فأصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمين ماء لبدلهم الأرض و أصاب قريشا ماء لم يقدروا أن يرتحلوا معه ] ثم رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسلمين و قال لهم : [ سيروا على بركة الله فإنه قد و عدني إحدى الطائفتين فكأني أنظر إلى مصارع القوم ] ثم مضى يبادر قريشا إلى الماء حتى إذا جاء أدنى من ماء بدر نزل به فقال حباب بن المنذر ابن الجموح أحد بني سلمة : يا رسول الله ! أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ قال : [ بل هو الحرب و الرأي و المكيدة ] قال : فإن هذا ليس لك بمنزل فانهض حتى نأتي أدنى قليب القوم فنزله ثم نغور ما سواه من القلب ثم نبني حوضا فنملأه ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد أشرت بالرأي ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم و سار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل و بنى حوضا على القليب و قذفوا فيه الآنية ثم أمر بالقلب فغورت ] فقال سعد بن معاذ : يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه و نعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا و إن كان علينا يا نبي الله جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام و ما نحن بأشد حبا لك منهم و لو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك و يجاهدون معك فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بخير و بنى له عريش فقعد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و ارتحلت قريش حين أصبحت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم ! هذه قريش قد أقبلنا بخيلائها و فخرها تحادك و تكذب رسلك اللهم ! فنصرك الذي وعدتني ! اللهم فاحنهم الغداة ] و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم عتبة بن ربيعة على جمل له أحمر فقال : [ إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشد ] فلما نرلت قريش أقبل نفر منهم حتى أقبلوا حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم حكيم بن حزام فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ دعوهم بما شرب رجل منهم شربة إلا قتل غير حكيم بن حزام ]
فلما اطمأنت قريش بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احرز لنا محمد و أصحابه فاستحال عمير بن وهب بفرس حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا و لكن امهلوني حتى أنظر هل لهم من كمين و مدد فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع له إليهم فقال : ما رأيت شيئا و لكني رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح بثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم و الله ! ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منا فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم فلما سمع بذلك حكيم بن حزام مشي في الناس حتى أتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد ! أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها ! فهل لك أن لا تزال تذكر بخير آخر الدهر ! قال : و ما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس و تحمل أمر حليفك قال : قد فعلت أنت على بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله ـ يعني عمر بن الحضرمي ـ و ما أصيب من ماله و لكن أنت ابن الحنظلية فإني لا أخشى على الناس غيره ـ يعني أبي جهل ثم قام عتبة فقال : يا معشر قريش ! إنكم و الله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا و أصحابه و الله ! لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا و خلوا بينه و بين محمد و سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم و إن كان غير ذلك ألقاكم و لم تعرضوا منه ما تريدون فجاء حكيم بن حزام أبا جهل فوجده قد نثل درعا له من جرابها و هو يهنئها فقال : يا أبا الحكم ! إن عتبة أرسلني إليك بذلك بكذا و كذا فقال أبو جهل : انتفخ و الله سحره حين رأى محمدا و أصحابه كلا و الله لا نرجع حتى يحكم الله بينا و بين محمد ! ثم قال أبو جهل : اللهم ! اقطعنا الرحم و أتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة ! ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال : هذا حلفيك عتبة يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك و الله ما ذلك بعتبة و لكنه قد عرف أن ابنه فيهم و أن محمدا و أصحابه إنما هم آكلة جزور و قد رأيتم ثأركم فقم فانثل مقتل أخيك فقام عامر بن الحضرمي ثم صرخ : و اعمراه ! و اعمراه ! فحميت الحرب و حمى الناس و استوثقوا فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة فلما بلغ عتبة قول أبي جهل قال : سيعلم المصفر إسته من انتفخ سحره ! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتم على رأسه بعمامة له و خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي و كان رجلا شرسا فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه ! فلما خرج يريد الحوض خرج إليه حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدميه بنصف ساقه و هو دون الحوض فخبا إلى الحوض فاقتحم فيه و اتبعه حمزة بضربة أخرى فقتله في الحوض
ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة و ابنه الوليد بن عتبة فلما دنا إلى الصف دعا إلى البراز فخرج إليه فتية ثلاثة من الأنصار : عوف و معوذ ابنا الحارث ـ و أمهما عفراء ـ و ابن رواحة فسألهم فقالوا : رهط من الأنصار فقال عتبة : أكفاء كرام ما لنا بكم حاجة إنما نريد قومنا ثم نادى مناديهم : يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قم يا حمزة بن عبد المطلب ! قم يا علي بن أبي طالب ! قم يا عبيدة بن الحارث ! و كان أسن القوم فبارز عتبة بن ربيعة و بارز حمزة شيبة بن ربيعة و بارز علي بن أبي طالب الوليد بن عتبة ]
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله و لم يمهل علي الوليد أن قتله و اختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه و كر حمزة و علي على عتبة و احتملا صاحبها فحازاه إلى أصحابه ثم تزاحف الناس و دنا بعضهم من بعض و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لأصحابه أن لا تحملوا حتى آمركم و هو في العريش مع أبي بكر ليس في العريش معه غيره و هو يناشد الله ما و عده من النصر و يقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ] و أبو بكر يقول يا رسول الله ! أقصر من مناشدتك الله فإن الله موفيك بما وعدك و شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم و قللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم و خفق رسول الله خفقة و هو في العريش ثم انتبه ثم قال : ابشر أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة يقول : أتاك نصر الله و عونه فبعث الله الملائكة مسومين فكان أبو أسيد مالك بن ربيعة شهد بدرا قال بعد أن ذهب بصره : لو كنت معكم ببدر الآن و معي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة ! لاأشك و لا أمتري و لم تقاتل الملائكة في غزاة إلا ببدر و إنما كانت تنصر و تعين و كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حفنة من الحصى بيده و خرج من العريش فاستقبل القوم و قال : [ شاهت الوجوه ] ! ثم نفخهم بها ثم قال : [ و الذي نفسي بيده ! لا يقاتلهم رجل اليوم فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ] ! فقال عمير بن الحمام أحد بني سلمة و في يده تمرات : يا رسول الله ! أرأيت إن قاتلت حتى قتلت مقبلا غير مدبر ما لي ؟ قال : [ لك الجنة ] فألقي التمرات من يده و تقدم فقاتل حتى قتل ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : احملوا و من لقي العباس منكم فليدعنه فإنه أخرج مستكرها فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : أنقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و نترك العباس ! و الله لئن لقيته لألجمنه السيف ! فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله فقال لعمر : [ يا أبا حفص ! أيضرب و جه عم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسيف ] ؟ فقال عمر : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ! و الله لقد نافق ! فكان أبو حذيفة بعد ذلك يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت و لا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة ـ فقتل يوم اليمامة شهيدا و كان العباس قد أسلم بمكة و لكنه كان خاف قومه فيكتم إسلامه فحمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على المشركين فلم يكن إلا الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديد قريش و أسر من أسر منهم فلما و ضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في و جه سعد بن معاذ الكراهة فقال له صلى الله عليه و سلم : [ و الله يا سعد ! لكأنك تكره ما يصنع الناس ] ! فقال : أجل يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قال : كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال و كان ذلك يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان و المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر نفسا منهم أربعة و سبعون رجلا من قريش و المهاجرين و سائر من الأنصار و المشركون تسعمائة و خمسون مقاتلا فقتل من المسلمين في ذلك اليوم من قريش ستة أنفس : من بني المطلب عبيدة بن الحارث بن المطلب و من بني زهرة بن كلاب : عمير بن أبي وقاص أخو سعد و ذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نضلة حليف لهم من خزاعة و من بني عدي بن كعب : عاقل بن البكير حليف لهم من بني سعد بن ليث و مهجع مولى عمر و من بني الحارث بن فهر : صفوان بن بيضاء
و قتل من الأنصار من بني عمرو بن عوف : سعد بن خيثمة و مبشر بن عبد المنذر و من بني الحارث بن الخزرج : يزيد بن الحارث و هو الذي يقال له ابن فسحم و من بني سلمة : عمير بن الحمام و من بني حبيب بن عبد الحارثة بن مالك بن غضب بن جشم : رافع بن المعلى و من بني النجار : حارثة ابن سراقة بن الحارث و من بني غنم بن مالك بن النجار : عوف و معوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد و هما ابنا عفراء
فجميع من استشهد من بني قريش و الأنصار أربعة عشر رجلا و قتل علي بن أبي طالب في ذلك اليوم الوليد بن عتبة بن ربيعة و قتل طعيمة ابن عدي بن نوفل أخاطعمة فلما علاه بالسنة قال : و الله ! لا تخلصنا في الله بعد اليوم أبدا و شارك حمزة في قتل عتبة بن ربيعة و قتل عامر بن عبد الله الأنماري حليف بني عبد شمس و قتل النضر بن الحارث بن كلدة أحد بني عبد مناف و قتل العاص بن سعيد بن العاص بن أمية و قتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة
فجميع من قتل من المشركين في ذلك اليوم أربعة و سبعون رجلا و أسر مثل ذلك
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يلتمس أبو جهل فسمع معاذ بن عمرو بن الجموح و هو يطلبه جماعة من المشركين يقولون : أبا الحكم ! لا يصلون إليك فلما سمعها علم أنه أبو جهل جعله من شأنه و قصد نحوه فلما أمكن منه حمل عليه و ضربه ضربة فقطع قدمه بنصف ساقه و كان عكرمة بن أبي جهل ابنه معه فحمل على معاذ فضربه ضربة على عاتقه طرح يده فتعلقت بجلدة من جنبه و ترك أبا جهل و أجهضه القتال فقاتل عامة يومه وإنه يسحب يده خلفه بجلدة منه فلما آذته وضع عليها قدمه حتى طرحها و عاش بعدها بلا يد حتى كان زمن عثمان و مر معوذ بن عفراء بأبي جهل و هو مطروح فضربه حتى أثر فيه و تركه و به رمق
ثم مر عبد الله بن مسعود فوجده بآخر رمق فعرفه فوضع رجله على عاتقه ثم قال : أخزاك الله يا عدو الله ! قال : و بماذا أخزاني هل إلا رجل قتلتموه ! أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ فقال ابن مسعود : لله و لرسوله و لما رآه أبو جهل قد وطي عنقه قال له : لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقى صعبا ! فاحتز عبد الله رأسه ثم جاء به فقال : يا رسول الله ! هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ آلله الذي لا إله غيره ] ؟ فقال ابن مسعود : نعم و الله الذي لا إله غيره ! فحمد الله رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك : و كان عبد الرحمن بن عوف صديقا لأمية ابن خلف بمكة : أرغبت عن اسم سماك أبوك ؟ فيقول : نعم فيقول أمية : فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني و بينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول و أما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف فقال له عبد الرحمن : قل ما شئت قال : فأنت عبد الإله فكان يسميه في مكة عبد الإله فمر به عبد الرحمن بن عوف في المعركة و هو واقف و معه ابنه و مع عبد أدرع يحملها فلما رآه أمية بن خلف قال : عبد عمرو ! فلم يجبه عبد الرحمن قال : يا عبد الإله ! فقال : نعم فقال : أنا خير لك من هذه الأدرع التي معك فقال عبد الرحمن : نعم و الله هو الله إذا ! فطرح عبد الرحمن الأدرع و أخذ بيده و يد ابنه فقال له أمية بن خلف : يا عبد الإله ! من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال : ذلك حمزة بن عبد المطلب فقال : ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل فبينما عبد الرحمن يقودهما إذ رآهما بلال فقال : رأس الكفر أمية بن خلف ! لا نجوت إن نجا ! فقال عبد الرحمن : أي بلال ! أسيرى فقال : لا نجوت إن نجا ! فقال عبد الرحمن : أتسمع يا ابن السوداء قال : لا نجوت إن نجا ! ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله ! رأس الكفر أمية بن خلف ! لا نجوت إن نجا ! فأحاط به المسلمون و عبد الرحمن يذب عنه فخالف رجل بالسيف فضرب ابنه فوقع فقال عبد الرحمن : انج بنفسك فو الله ما أغني عنك شيئا ! فعلاهم المسلمون بأسيافهم حتى فرغوا منهما فكان عبد الرحمن يقول بعد ذلك : يرحم الله بلالا ! اذهب أدرعي و فجعني بأسيري و أسر أبو اليسر كعب بن عمرو العباس بن عبد المطلب و أوثقه فبات رسول الله صلى الله عليه و سلم تلك الليلة ساهرا فقيل له فقال : [ سمعت حنين العباس في وثاقه ] فأطلق من وثاقه فقال المسلمون : يا رسول الله ! عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه وهو أسير : لا يصلح ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين و قد أعطاك ما وعدك
ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم للمسلمين : [ ما تقولون في هؤلاء الأسرى ] ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! قومك و أهلك استبقهم واستأنهم لعل الله أن يتوب عليهم و قال عمر : كذبوك و أخرجوك قدمهم قدمهم فاضرب أعناقهم ! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني } الآية و إن مثلك يا عمر مثل نوح قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } ـ الآية
ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أسر أم حكيم فليخل سبيلها فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمنها و كان أسرها رجل من الأنصار و كتفها بذوابتها فلما سمع منادي رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقليب فطرح فيه جيف المشركين ثم وقف عليهم فقال ! [ يا أهل القليب ! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ] ! فقال المسلمون : يا رسول الله ! نتادي قوما قد ماتوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن كنتم تسمعونها لقد سمعوها ] ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضهم ثلاثا
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفتح إلى أهل المدينة فبعث عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية و زيد بن حارثة إلى أهل السافلة فقدم زيد المدينة والناس يسوون على ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم رقية التي كانت تحت عثمان فكان عثمان استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في التخلف عن بدر ليقيم على امرأته رقية و هي عليلة فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك و ضرب له بسهمه وحده فلما فرغوا من دفنها أتاهم الخبر بفتح الله المسلمين فجاء أسامة بن زيد أباه و هو واقف بالمصلى قد غشيه الناس و هو يقول : قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو الحكم بن هشام و زمعة ابن الأسود و العاص بن هشام فقال : يا أبتاه ! أحق هذا ؟ فقال : نعم يا بني ! فقال المنافقون : ما هذا إلا أباطيل فلم يصدقوه ؟ حتى جيء بهم مصفرين مغللين
و كان أول من قدم مكة من قريش بالخبر بمصابهم الحيسمان بن جابس بن عبد الله المدلجي فقيل له : ما وراءك ؟ فقال : قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو الحكم هشام و أمية بن خلف فقال صفوان بن أمية ابن خلف : و الله إن يعقل هذا بما يقول فسلوه عني فقال : ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال : ها هو ذلك جالس في الحجر ! و قد و الله رأيت أباه و أخاه حين قتلا
ثم قدم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مكة و كان أبو لهب قد تخلف عن بدر و بعث مكانه العاص بن هشام فلما رأى أبو لهب أبا سفيان بن الحارث مقبلا قال : هلم يا ابن أخي فعندك الخبر فجلس إليه و الناس قيام عليهما فقال : يا ابن أخي ! كيف كان أمر الناس ؟ قال : لا شيء والله ! إن هو إلا لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا حتى قتلونا كيف شاءوا و أسرونا كيف شاءوا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لأنا لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض والله لا يقوم له شيء ! فعاش أبو لهب بعد هذا الخبر سبعة أيام و رماه الله بالعدسة فمات فدفنوه بأعلى مكة و كانت قريش لا تبكي على قتلاها مخافة أن يبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فيشمتوا بهم
و لما وقع بأيدي المسلمين ما وقع من المشركين اختلفوا فكانوا ثلاثا : فقال الذين جمعوا المتاع : قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نفل كل امرئ ما أصاب و قال الذين كانوا يطلبون العدو : و الله ! لولا نحن ما أصبتموه و نحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم و قال الحرس الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه و سلم مخافة أن يخالف إليه العدو : و الله ! ما أنتم أحق به منا لو أردنا أن نقبل العدو حين منحونا أكتافهم و أن نأخذ المتاع حين لم يكن أحد دونه فعلنا ! و لكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم أحق به منا ! و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : من صنع كذا فله كذا فتنازعوا في ذلك شباب الرجال و بقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كان القائمون جاؤا يطلبون الذي جعل لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا وراءكم و كنا تحت الرايات و لو أنا كشفنا لكشفتم إلينا فتنازعوا فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الأنفال } ـ إلى آخر السورة فانتزع الله ذلك من أيديهم و جعله إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم عبد الله بن كعب المازني
ثم رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر بعد ثلاث يريد المدينة و حمل الأسارى معه فلما انحدر من بدر إذا بطلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد قد أقبلا من الحوران فضرب لهما النبي صلى الله عليه و سلم بسهميهما و أجرهما فلما بلغ النبي الصفراء و بينهما و بين المدينة ثلاث ليال أمر بقتل النضر بن الحارث و كان أسيرا قتله علي بن أبي طالب فلما بلغ عرق الظبية قتل عتبة بن أبي معيط فقال عتبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : من للصبية يا محمد فقال النبي صلى الله عليه و سلم : النار
ثم قسم الغنائم بين الناس بالصفراء و بين الصفراء و بين بدر سبعة عشر ميلا قسمها على من حضر بدرا و أخذ سهمه مع المسلمين
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل إلى المدينة قبل الأسارى بيوم ثم قدم بالأسارى يوم الثاني فلما بلغوا الروحاء لقيهم المسلمون يهنؤونهم بفتح الله عليهم فقال سلمة بن سلامة بن وقش : ما الذي تهنئون به ! والله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة ننحرها ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ يا ابن أخي ! أولئك الملأ من قريش ]
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس بن عبد المطلب : افد نفسك و بني أخيك عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث و حليفك عتبة بن عمر أحد بني الحارث ابن فهر فإنك ذو مال فقال يا رسول الله ! إني كنت مسلما و لكن القوم استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ منه عشرين أوقية من ذهب ] فقال العباس : يا رسول الله ! فاحسبها من فدائي قال : [ لا ذلك شيء أعطانا الله منك ] فقال العباس : فإنه ليس لي مال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فأين المال الذي و ضعته بمكة حين خرجت عند أم فضل بنت الحارث فليس معكما أحد فقلت لها : إن أصبت في سفري فللفضل كذا و لقثم كذا و لعبد الله كذا ] ؟ قال : فو الذي بعثك بالحق ! ما علم بهذا أحد من الناس غيري و غيرهما و إني لأعلم أنك رسول الله
ثم بعث قريش في فك الأساري جبير بن مطعم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل النبي صلى الله عليه و سلم من قتل منهم و فادى من فادى منهم و من لم يكن له مال من عليهم و فادى من كان من العرب فيهم بأربعين أوقية من كان منهم من الموالي بعشرين أوقية في
غزوة بدر و نزلت { لولا كتب من الله سبق لمسكم } ـ إلى قوله { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس من قبلكم و ذلك أن الله جل و علا رأى ضعفكم فطيبها لكم و كانت الغنائم فيما قبل تنضد فتجيء النارفتأكلها ]
[ أخبرنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
قال : شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من المهاجرين و الأنصار ثلاثمائة و ثلاثة عشر نفسا ـ عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ـ و إني ذاكر ما يحضرني من أساميهم على قبائلهم لكيلا يبعد على سالك سبيل العلم الوقوف على أساميهم إن وفقه الله لذلك
فنبدأ من ذلك من شهد منهم بدرا من قريش ثم من بني هاشم و من بني المطلب ابنى عبد مناف : حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي بن أبي طالب بن عبد المطلب و زيد بن حارثة بن شر حبيل بن كعب بن عبد العزى بن يزيد بن امرئ القيس الكلبي و أنسة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو كبشة مولى رسول الله و أبو مرثد كناز بن حصين ابن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن ظريف بن جلان بن غنم بن غني بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر و ابنه مرثد بن أبي مرثد حليفا حمزة بن عبد المطلب و حصين بن الحارث بن المطلب و مسطح بن أثاثة بن المطلب و من بني تيم بن مرة بن كعب : أبو بكر الصديق و اسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة و بلال بن رباح مولى أبي بكر و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة لم يحضر بدرا و كان النبي صلى الله عليه و سلم بعثه لتجسس الخبر فوافاهم و قد فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من بدر و ضرب له بسهمه
و من بني عدي بن كعب بن لؤي : عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي و أخوه زيد بن الخطاب بن نفيل و مهجع مولى عمر بن الخطاب و هو أول قتيل قتل ببدر و عامر ابن ربيعة و عمرو بن سراقة بن المعتمر بن أنس بن أذاة بن رباح بن عدي بن كعب و أخوه عبد الله بن سراقة و واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم و خولى بن أبي خولى و عاقل بن البكير و خالد بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث و سعيد بن زيد بن عمرو و بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي لم يحضر بدرا كان مع طلحة بعثها رسول الله صلى الله عليه و سلم يتجسسان خبر العير فوافيا و قد فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر فضرب لهما بسهميهما و أجرهما
و من بني عبد شمس بن عبد مناف : عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف تخلف بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على امرأته رقية و كانت عليلة أذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك و ضرب له بسهمه و أجره و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس
و من حلفائهم : عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرة بن كبير بن غنم و شجاع بن وهب بن ربيعة و أخوه عقبة بن وهب بن ربيعة و يزيد بن رقيش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم و أبو سنان أخو عكاشة بن محصن بن حرثان و ابنه سنان بن أبي سنان و محرز بن نضلة بن عبد الله بن مرة بن كبير بن غنم و ربيعة بن أكثم ابن عمرو بن بكير بن عامر بن غنم و مالك بن عمرو
و من بني زهرة بن كلاب : عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث ابن زهرة بن كلاب و سعد بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب و عمير بن أبي وقاص بن أهيب أخو سعد
و من حلفائهم المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن ثمامة بن مطرود بن عمرو بن سعد بن زهير بن ثور بن ثعلبة بن مالك بن الشريد و مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة بن غالب بن محلم ابن عائذة بن الهون بن خزيمة من القارة و ذو الشمالين بن عبد عمرو ابن نضلة بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن خزاعة و عبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعد بن هذيل و خباب بن الأرت و صهيب بن سنان بن عبد عمرو بن الطفيل بن عامر بن جندلة و من بني أسد بن عبد العزى بن قصي : الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي و حاطب بن أبي بلتعة و سعد مولى حاطب و من بني نوفل بن عبد مناف : عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة و خباب مولى عتبة بن غزوان
و من بني عبد الدار بن قصي : مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي و كان صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر قتل يوم أحد و سويبط بن سعد بن حرملة بن مالك بن عميله بن السباق بن عبد الدار بن قصي
و من بني مخزوم بن يقظة : أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و شماس بن عثمان بن الشريد بن هرمي بن عامر بن مخزوم و الأرقم بن أبي الأرقم و اسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و عمار بن ياسر و معتب بن عوف بن عامر بن الفضل بن عفيف
و من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي : عثمان بن مظعون ابن حبيب بن حذافة بن جمح و قدامة بن مظعون و عبد الله بن مظعون ابن حبيب و معمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب
و من بني سهم بن عمرو بن هصيص : خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم
و من بني عامر بن لؤي : ابن غالب بن مالك بن حسل و عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي القيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل و عبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود و عمير بن عوف مولى سهيل ابن عمرو و سعد بن خولة حليف له
و من بني الحارث بن فهر : أبو عبيدة بن الجراح و اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر و عمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث و سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث و أخوه صفوان بن وهب و هما ابنا بيضاء أمهما و عمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن أهيب
فجميع من شهد بدرا من المهاجرين و من ضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه و أجره من قريش ثلاثة و ثمانون رجلا
و ممن شهد بدرا من الأنصار ثم من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس : سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل و عمرو بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أخوه و الحارث بن أوس بن معاذ بن النعمان و الحارث بن أنس ابن رافع بن امرئ القيس و سعد بن زيد بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل و سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة بن زعواء بن الأشهل و عباد بن بشر بن وقش و سلمة بن ثابت بن وقش و رافع بن يزيد بن كرز بن السكن بن زعواء بن عبد الأشهل و الحارث بن خزمة بن عدي بن أبي غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الحارث بن الخزرج و محمد بن مسلمة ابن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث حليف لهم و سلمة بن أسلم ابن حريش بن عدي بن مجدعة حليف لهم و أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك و عبيد بن التيهان حليف لهم و عبد الله بن سهل
و من بني سواد بن كعب : قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر و عبيد بن أوس بن مالك بن سواد
و من بني رزاح بن كعب : نصر بن الحارث و عبد الله بن طارق و معتب بن عبيد حليفان لهم
و من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس : مسعود بن سعد بن عامر بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث وأبو عبس اسمه عبد الرحمن بن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم ابن مجدعة بن حارثة بن الحارث و أبو بردة بن نيار و اسمه هانئ حليف لهم
و من بني عمرو بن عوف ثم من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ـ و أبو الأقلح قيس ـ بن عصمة بن مالك بن أمية بن ضبيعة و معتب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف وعمرو بن معبد بن الأزعر بن زيد بن العطاف و سهل بن حنيف ابن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن الحارث بن عمرو
و من بني أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف : مبشر بن عبد المنذر بن زنبر و سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية و عويم بن ساعدة بن عائش بن قيس و رافع بن عنجدة و عبيد بن أبي عبيد و ثعلبة بن حاطب و قد قيل إن أبا لبابة بن عبد المنذر و الحارث بن حاطب شهدا بدرا
و من بني عبيد بن زيد بن مالك : أنيس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث بن عبيد و سالم مولى بنت يعار و هو الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة و كانت بنت يعار تحت أبي حذيفة بن عتبة و من حلفائهم : معن بن عدي بن الجد بن عجلان و ربعي بن رافع بن زيد بن حارثة بن الجد بن عدي بن العجلان و قد قيل : إن عاصم بن عدي ابن الجد بن العجلان رده النبي صلى الله عليه و سلم و ضرب له بسهمه
و من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف : عبد الله بن جبير بن النعمان و عاصم ابن قيس و أبو ضياح بن ثابت و سالم بن عمير و الحارث بن النعمان بن أبي خزمة و خوات بن جبير بن النعمان
و من بني جحجبي بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف : المنذر بن محمد ابن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبي وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة بن بيحان بن عامر بن الحارث بن مالك بن عامر بن أنيف حليف له
و من بني غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس بن حارثة : سعد بن خيثمة و المنذر بن قدامة و مالك بن قدامة و ابن عرفجة و تميم مولى بني غنم بن سلم و من معاوية بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف : جابر بن عتيك بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية و النعمان بن عصر حليف له من بلى و ممالك بن نميلة حليف لهم
و من بني الحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة و خاجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس و خلاد ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس
و من بني زيد بن مالك بن ثعلبة : بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد ابن مالك و سبيع بن قيس بن عيشة بن مالك و عبادة بن قيس و سماك بن سعد و عبد الله بن عبس و يزيد بن الحارث ابن قيس و هو الذي يقال له ابن فسحم
و من بني جشم بن الحارث : عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه بن زيد ابن الحارث بن الخزرج الذي رأى النداء في النوم و أخوه حريث بن زيد بن ثعلبة و خبيب بن إساف بن عنبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم و سفيان بن بشر
و من بني جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج : زيد بن المري ابن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة و تميم بن يعار بن قيس بن عدي بن أمية بن جدارة و عبد الله بن عمير بن حارثة
و من بني الأبحر بن عوف : عبد الله بن الربيع بن قيس بن عمرو بن عباد ابن الأبجر
و من بني عوف بن الخزرج : عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك و أوس بن خولي بن عبد الله بن الحارث بن عبيد بن مالك
و من بني جزء بن عدي بن مالك بن سالم : زيد بن وديعة بن عمرو بن قيس بن جزء و رفاعة بن عمرو بن زيد و عقبة بن وهب بن كلدة و عامر بن سلمة بن عامر حليفان لهم و معبد بن عباد بن قشعر بن المقدم بن سالم بن غنم و يكنى معبد أبا خميصة و عامر بن البكير حليفه
و من بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج : نوفل بن عبد الله بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم و مليل بن وبرة ابن خالد بن العجلان بن زيد و عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان و عصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان
و من بني قربوس بن غنم : أمية بن لوذان بن سالم بن ثابت بن هزال بن عمرو بن قربوس
و من بني أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف : عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم و أخوه أوس بن الصامت
و من بني دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم : النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد و هو من الذين يقال لهم القوافل
و من بني مرضخة بن غنم بن عوف : مالك بن الدخشم بن مالك بن الدخشم بن مرضخة بن غنم
و من بني لوذان بن غنم : الربيع بن إياس بن عمرو بن غنم بن أمية بن لوذان و ورقة بن إياس و عمرو بن إياس
و من حلفائهم : المجذر بن زياد بن عمرو بن زمزمة بن عمرو بن عمارة و عباد بن الخشخاش بن عمرو بن زمزمة و عبد الله بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم و نحاب بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم و عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية حليف لهم
و من بني ساعدة بن كعب بن الخزرج : أبو دجانة و اسمه سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة و المنذر ابن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة
و من بني البدن : عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج و أبو أسيد مالك بن ربيعة بن البدن و مالك بن مسعود
و من بني طريف بن الخزرج : عبد الله بن حق بن أوس بن وقش بن ثعلبة بن طريف
و من حلفائه : كعب بن حمار بن ثعلبة بن خالد و بسبس بن عمرو و ضمرة و زياد
و من بني جشم بن الخزرج : خراش بن الصمة بن عمرو بن الجموح بن زيد ابن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة و تميم مولى خراش بن الصمة وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب و عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب و الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب و معاذ بن عمرو بن الجموح و معوذ ابن عمرو بن الجموح و خلاد بن عمرو بن الجموح و عقبة بن عامر بن نابئ بن زيد بن حرام و حبيب بن الأسود مولاهم و ثابت بن ثعلبة بن زيد ابن الحارث بن حرام و هو الذي يقال له الجذع و عمير بن الحارث بن ثعلبة
و من بني عبيد بن عدي بن غنم : عبد الله بن الجد بن قيس بن صخر بن خنساء و بشر بن البرار بن معرور بن صخر بن خنساء و الطفيل بن النعمان بن خنساء و عبد الله بن حمير و خارجة بن حمير حليفان لهم من أشجع
و من بني النعمان بن سنان بن عبد بن عدي بن غنم : جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان و عبد الله بن عبد مناف بن النعمان بن سنان و خليدة بن قيس بن النعمان بن سنان
و من بني خناس : جبار بن صخر بن أمية بن خناس و يزيد بن المنذر بن سرح بن خناس و عبد الله بن النعمان بن بلدمة بن خناس و الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة و سواد بن زريق بن ثعلبة و معبد بن قيس بن صخر ابن حرام و عبد الله بن قيس بن صخر بن حرام
و من بني سواد بن غنم بن كعب : سليم بن عمرو بن حديدة بن عمرو ابن سواد و قطبة بن عامر بن حديدة أبو المنذر و عنترة مولى سليم بن عمرو
و من بني عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن كعب : معاذ بن جبل بن عمرو بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن سعد بن علي بن أسد ابن سادرة بن تزيد بن جشم و عبس بن عامر بن عدي بن نابي و ثعلبة بن غنمة بن عدي و أبو اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد و عبد الله بن أنيس و عمرو بن طلق بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب و سهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب
و من بني زريق بن عامر بن زريق : سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد و الحارث بن قيس بن خالد بن مخلد و جبير بن إياس بن خالد بن مخلد وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق و أسعد بن يزيد ابن الفاكه بن زيد بن خلدة بن عامر و الفاكه بن بشر بن الفاكه بن زيد بن خلدة و عائذ بن ماعص بن قيس بن خلدة و أخوه معاذ بن ماعص و مسعود بن سعد بن قيس بن خلدة
و من بني العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق : رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان و أخوه خلاد بن رافع و عبيد بن زيد بن عامر بن العجلان
و من بني بياضة بن عامر بن زريق : زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة و فروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد بن عامر ابن بياضة و رخلية بن ثعلبة بن عامر بن بياضة و خالد بن قيس بن مالك بن العجلان بن عامر بن بياضة و خليفة بن عدي بن عمرو مالك بن عامر بن فهيرة ابن بياضة
و من حبيب بن عبد الحارثة : رافع بن المعلى بن لواذن بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد حارثة
و من بني النجار و هو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج : أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم
و من بني عمرو بن عبد عوف : عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان و سراقة بن كعب بن عبد العزى بن غزية و ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء ابن عسيرة
و من بني عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك : حارثة بن النعمان بن رافع بن زيد بن عبيد و سليم بن قيس بن قهد ـ و اسم قهد خالد ـ بن قيس بن ثعلبة ابن عبيد بن ثعلبة
و من بني عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك : سهيل بن رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة و عدي بن أبي الزغبا حليف لهم
و من بني زيد بن ثعلبة بن غنم : مسعود بن أوس بن زيد و أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة و رافع بن الحارث بن سواد بن زيد
و من بني سواد بن مالك بن غنم : عوف بن الحارث و معوذ بن الحارث و معاذ بن الحارث و رفاعة بن الحارث بن سواد ـ و أمهم عفراء و النعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد و عامر بن مخلد بن الحارث بن سواد و عبد الله بن قيس بن زيد بن سواد و قيس بن عمرو بن قيس و ثابت بن عمرو بن زيد و عصيمة و وديعة بن عمرو حليفان لهم
و من بني عامر بن مالك بن النجار ثم من بني عتيك بن عمرو بن مبذول : ثعلبة بن عمرو بن محصن بن عمرو بن عتيك و سهيل بن عتيك بن النعمان ابن عمرو بن عتيك و الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك كسر به بالروحاء فرجع فضرب له النبي صلى الله عليه و سلم بسهمه
و من بني قيس بن عبيد بن زيد : أبي بن كعب بن قيس بن عبيد و أنس ابن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد
و من بني عدي بن عمرو بن مالك بن النجار : أبو طلحة و اسمه زيد بن سهل ابن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي و أوس بن ثابت بن المنذر ابن حرام
و من بني عدي بن النجار ثم من عدي بن عامر بن غنم بن النجار : حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر و عمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر و عمرو أبو خارجة بن قيس ابن مالك بن عدي بن عامر و سليط بن قيس بن عمرو بن عتيك بن مالك بن عدي و أبو سليط اسمه أسيرة و ثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدي و عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك بن عدي و سواد بن غزية بن وهيب حليف لهم
و من بني حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار : أبو الأعور كعب بن الحارث بن ظالم بن عبس بن حرام بن جندب و قيس بن السكن بن قيس بن زعور بن حرام و سليم بن ملحان و حرام بن ملحان ـ و ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب
و من بني مازن بن النجار ثم من بني عوف بن مبذول : قيس بن صعصعة ـ و اسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول و عبد ابن كعب بن عمرو بن عوف و عيصمة حليف لهم و من بني ثعلبة بن مازن : قيس بن مخلد بن ثعلبة بن صخر بن حبيب الحارث بن ثعلبة بن مازن
و من بني مسعود بن عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار : النعمان عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل و الضحاك بن عبد عمرو بن مسعود و ابن الحارث بن ثعلبة بن كعب بن حارثة أخوهما لأمهما و جابر بن خالد بن عبد الأشهل بن حارثة و سعد بن سهل بن عبد الأشهل
و من بني قيس بن مالك : كعب بن زيد بن مالك بن كعب بن حارثة و بجير بن أبي بجير حليف لهم
فجميع من شهد بدرا من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من الأوس و مائة و سبعون رجلا من الخزرج
ثم كان قتل عصماء و العصماء هذه بنت مروان من بني أمية بن زيد زوجها زيد بن الحصن الخطمي كانت تحرض على المسلمين و تؤذيهم و تقول الشعر فجعل عمير بن عدي عليه نذرا لئن رد الله رسوله سالما من بدر ليقتلنها فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة بعد فراغه من بدر عدا عمير بن عدي على عصماء فدخل عليها في جوف الليل لخمس ليال بقين من رمضان فقتلها ثم لحق بالنبي صلى الله عليه و سلم فصف مع الناس و صلى معه الصبح و كأن صلى الله عليه و سلم يتصلخهم إذا قام يريد الدخول إلى منزله فقال لعمير بن عدي : [ أقتلت عصماء ] ؟ قال : نعم يا رسول الله ! هل علي في قتلها شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينتطح فيها عنزان ]
و مات أبو قيس بن الأسلت في آخر شهر رمضان
ثم خطب النبي صلى الله عليه و سلم قبل الفطر بيوم و أمرهم بزكاة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الفضاء و العنزة ركزت بين يديه و صلى إليها من غير أذان و لا إقامة ركعتين ثم خطب خطبتين بينهما جلسة و كانت العنزة للزبير بن العوام أعطاها إياه النجاشي فوهبها الزبير لرسول الله صلى الله عليه و سلم
في شوال و ذلك أن المسلمين لما قدموا المدينة و ادعتهم اليهود أن لا يعينوا عليهم أحدا فلما قفل رسول الله صلى الله عليه و سلم من قتل بدر و رجع إلى المدينة أظهروا البغي و قالوا : لم يلق محمد أحدا من يحسن القتال لو لقينا للقي عندنا قتالا لا يشبه قتالهم فأنزل الله { و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم } الآية
فصار رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب و استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر حتى أتاهم فحاصرهم خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فكتفوا و أراد قتلهم فكلمه فيهم عبد الله بن أبي و أخذ بجمع درع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : ما أنا بمرسلك حتى تهبهم لي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خلو عنهم ] ! ثم أمر بإجلائهم و غنم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون ما كان لهم من مال و كانوا صاغة لم يكن لهم الأرضون و لا قراب فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم سلاحهم و آلة صياغة و ولى أكثر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عبادة بن الصامت أن يجليهم و يخرجهم بذراريهم من المدينة فمضى بهم عبادة حتى بلغوا ذباب و أجلاهم و هذه الغنيمة أول الخمس خمسها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإسلام أخذ منهم صفيه و خمسه و قسم أربعة أخماسا على المسلمين
في ذي القعدة و ذلك أن أبا سفيان لما رجع من الشام بالعير و أفلت بها نذر أن النساء و الدهن عليه حرام حتى يطلب ثأره من محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير و سلك النجدية و دق على حي بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له و دق على سلام من مشكم ففتح له فقراه و سقاه خمرا و أخبره سلام بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم و أخبار المدينة
فلما كان في السحر خرج فمر بالعريض فإذا رجل معه أجير له معبد بن عمرو من المسلمين فقتلهما و حرق أبياتا هناك و تبنا و رأى أن يمينه قد بر فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثره في مائتي رجل من المهاجرين و الأنصار على المدينة أبا لباب بن عبد المنذر فأعجزهم أبو سفيان و كان هو و أصحابه عامة زادهم السويق فجعلوا يلقون السويق يتخففون بذلك فسميت هذه الغزوة [
غزوة السويق ] و رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثرهم فلما أعجزهم و لم يلحقهم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة
و مات أبو السائب عثمان بن مظعون في ذي الحجة ثم ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج الناس في المصلى و هي أول ضحية ضحى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح كبشين أملحين أقرنين بيده و وضع رجله على صفاحهما و سمى و كبر و ضحى المسلمون معه ثم بنى علي بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي الحجة
[ أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ثنا أبو يعلي بالموصل ثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل ثنا سفيان بن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول قال النبي صلى الله عليه و سلم : من لكعب بن أشرف ؟ فإنه آذى الله و رسوله فقال له محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله أتأذن لي أقول شيئا ؟ قال : بلى فأتاه فقال : إن هذا سألنا صدقة في أمولنا قال و أيضا : و الله قال : فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه و إني قد أتيتك استسلفك قال : فارهنوا نسائكم قالوا : كيف نرهنك نساءنا ؟ و كنت أجمل العرب قال : فارهنوني أبناءكم قالوا : كيف نرهنك أبناءنا ؟ تسب الدهر و تعير فيقال : رهين بوسق أو وسقين و لكنا نرهنك اللأمة أي السلاح فأتاه و معه أبو عبس بن جبر و الحارث بن أوس بن معاذ و عباد بن بشر و أبو نائلة فقال لهم محمد بن مسلمة : إني محبس رأسه و ممسكه فإذا قلت اضربوا فاضربوا فقال : نعم فمس و قال : ما أطيب ريحك ! قال : عندي فلانة و هي أعظم نساء العرب ثم قال له : أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال : نعم فمس رأسه حتى استمكن منه قال لهم : اضربوا فضربوه حتى قتلوه فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه ]
قال : خرج كعب بن الأشرف إلى مكة فقدمها و وضع رجله عند المطلب ابن أبي وداعة السهمي و جعل ينشد الأشعار و يحرض الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم و يبكي على قتلى بدر من أصحاب القليب ثم رجع إلى المدينة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله و رسوله ] فقال : محمد بن مسلمة : أنا إن تأذن أن أقول ـ يريد ـ كذبا في الحرب فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج محمد بن مسلمة و معه أربعة نفر : أبو عبس بن جبر و عباد بن بشر بن وقش و أبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش و الحارث بن أوس بن معاذ بن أخي سعد بن معاذ فانتهوا إلى كعب بن الأشرف و هو في أطم من آطام المدينة فقال له محمد بن مسلمة : إن محمدا يأخذ صدقة أموالنا ـ و أراد المال منه ـ ثم قال له : أتيتك أستسلفك فأرهن السلاح ثم جاء يغمر رأسه فلما استمكن منه ضربه و ضربوه حتى قتل و احتزوا رأسه و جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه و سلم
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة قرقرة الكدر حامل لواءه علي بن أبي طالب و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ثم رجع و لم يلق كيدا
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم كلثوم ابنته الأخرى من عثمان بن عفان في أول شهر ربيع الأول
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة بذي أمر في شهر ربيع الأول فلما بلغ رسول الله ذا أمر عسكر به ذا من غطفان أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مطر فبل ثوبه ثم نزع ثيابه فعلقها على شجرة ليسجفها و نام تحتها فقالت غطفان لدعثور بن الحارث و كان شجاعا : تفرد محمد من أصحابه و أنت لا تجد أخلى منه الساعة فأخذ سيفا صارما ثم انحدر و رسول الله صلى الله عليه و سلم مضطجع ينتظر جفوف ثيابه فلم يشعر إلا بدعثور بن الحارث واقف على رأسه بالسيف و هو يقول : من يمنعك مني ؟ يا محمد ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله ! و دفعه جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذ رسول الله السيف ثم قام على رأسه و قال : من يمنعك مني ؟ قال : لا أحد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قم فاذهب لشأنك ] فلما ولى قال : أنت خير نبي يا محمد ! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنا أحق بذلك منك ] فلما سمعت الأعراب من غطفان برسول الله صلى الله عليه و سلم لحقت بذي الجبال فلما أعجزوه رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة
و ولد السائب بن يزيد ابن أخت نمر
و غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم في شهر جمادى الأولى بحران معدن بناحية الفرع ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يلق كيدا
و ذلك أن قريشا قالت : قد عور علينا محمد متجرنا و هو على طريقنا و إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا فقال أبو زمعة بن الأسود بن المطلب : أنا أدلكم على رجل يسلك بكم طريقا ينكب على محمد وأصحابه لو سلكها مغمض العينين لاهتدى ! فقال صفوان بن أمية : من هو ؟ قال : فرات بن حيان العجلي ـ و كان دليلا فاستأجره صفوان بن أمية و خرج بهم في الشتاء و سلك بهم على ذات عرق ثم على غمرة فلما بلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث زيد بن حارثة في جمادى الأولى فاعترض العير فظفر بها و أفلت أعيان القوم و أسر فرات بن حيان العجلي و كان له مال كثير و أواقي من فضة فقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم على من حضر على من حضر الواقعة و أخذ الخمس عشرين ألفا و أطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فرات بن حيان فرجع إلى مكة
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفصة بنت عمر بن الخطاب قال عمر بن الخطاب : لما تأيمت حفصة لقيت عثمان بن عفان فعرضتها عليه فقال إن شئت زوجتك حفصة قال : سأنظر في ذلك فمكث ليال ثم لقيني فقال : بدأ لي أن لا أتزوج يومي هذا قال عمر : فلقيت أبا بكر فقلت له : إن شئت زوجتك حفصة ! فصمت أبو بكر و لم يرجع إلي بشيء فكنت على أبي بكر أوجد مني على عثمان ثم مكثت ليال فخطبها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت في نفسك ؟ فقلت : نعم فقال أبو بكر : لم يمنعني أن أرجع إليك فيها بشيء إلا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان ذكرها فلم أكن أفشي سره و لو تركها قبلتها
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب بنت خزيمة من بني هلال التي يقال لها أم المساكين و دخل بها حيث تزوجها في أول شهر رمضان و كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث فطلقها ثم ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان و عق عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بكبشين و حلق رأسه و أمر أن يصدق بوزن شعره فضة على الأوقاص من المساكين
و ذلك أن أبا سفيان لما رجع بعيره إلى مكة قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي و عكرمة بن أبي جهل و رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم و أبناؤهم و إخوانهم ببدر : يا معشر قريش ! إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا على حربه لعلنا أن ندرك منه بعض ما أصاب منا ! فاجتمعت قريش على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأحابيشها و من أطاعها من قبائل مكة و غيرها و خرجوا معهم بالظعن فخرج أبو سفيان بن حرب بهند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية و خرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام و خرج الحارث بن هشام بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة و خرج صفوان بن أمية ببرة ابنة مسعود بن عمرو و هي أم عبد الله بن صفوان و خرج عمرو بن العاص بريطة ابنة منبه بن الحجاج السهمي و هي أم عبد الله بن عمرو و خرج طلحة بن أبي طلحة بسلافة ابن شهيد أحد بني عروة بن عوف مع نسوة غيرهن و دعا جبير بن مطعم غلامه وحشيا فقال : إن قتلت عم محمد حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق فخرجت قريش تريد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة على شفير الوادي مما يلي المدينة و هم ثلاثة آلاف رجل معهم من الخيل مائتا فرس و من الظعن خمسة عشر امرأة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما سمع بهم : [ إني رأيت فيما يرى الغنائم في ذباب سيفي ثلمة و رأيت بقرة نحرت و رأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فتأولتها المدينة ] و كره رسول الله صلى الله عليه و سلم الخروج إليهم فقال عبد الله ابن أبي سلول : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! لا تخرج إليهم فو الله ! ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا و ما دخلها علينا إلا أصبناه فقال رجال من المسلمين ممن كان فاتهم بدر : يا رسول الله ! اخرج بنا إلى أعداء الله لا يرون أنا جبنا عنهم أو ضعفنا فقال عبد الله بن أبي : يا رسول الله ! أقم فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس و إن دخلوا علينا قاتلهم الرجال في وجوههم و رماهم النساء و الصبيان بالحجارة من فوقهم فلم يزل برسول الله صلى الله عليه و سلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلبس لأمته ثم خرج عليهم و قد ندم الناس و قالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يكن لنا ذلك ثم قالوا : يا رسول الله استكرهناك و لم يكن لنا ذلك إن شئت فاقعد ـ صلى الله عليك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل ] ! فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم شوال يوم السبت في ألف رجل و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم و صلى المغرب بالشيخين في طرف المدينة ـ و قد قيل : بالشوط
ثم عرض المقاتلة فأجاز من أجاز ورد من رد فكان فيمن رد زيد بن ثابت و عبد الله بن عمر و أسيد بن ظهير و البراء بن عاذب و عرابة بن أوس الحارثي و أبو سعيد الخدري و أجاز سمرة بن جندب و أما رافع بن خديج فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم استصغره فقام على خفين و تطاول على أطرافه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم أجازه و كان دليل النبي صلى الله عليه و سلم أبو حثمة الحارثي فقال عبد الله بن أبي لمن معه : أطاعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعصاني و الله ما ندري على ما نقتل أنفسنا معه أيها الناس ارجوا ! فعزل من العسكر ثلاثمائة رجل ممن تبعه و رجع بهم المدينة
و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في سبعمائة رجل و سلك حرة بني حارثة ثم نزل حتى مضى بالشعب من أحد في عدوة الوادي و جعل ظهره إلى أحد و قال : [ لا يقاتلن أحد حتى أمره ]
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم على الرماة عبد الله بن جبير أحد بني عمرو بن عوف و هم خمسون رجلا و قال : [ انضح عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت علينا أو لنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ] ! ثم ظاهر رسول الله صلى الله عليه و سلم في درعين و أعطى اللواء علي بن أبي طالب و قال : [ من يأخذ مني هذا السيف بحقه ] ؟ قال أبو دجانة سماك بن خرشة : و ما حقه يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : [ تضرب به في العدو حتى ينحني ] فقال : يا رسول الله ! أنا آخذه بحقه فأعطاه إياه ـ و كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب و كان إذا أعلم بعصابة له حمراء و يعصب بها رأسه فإذا رأوا علموا أته سيقاتل فأخذ السيف من رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخرج عصابة فعصب بها رأسه ثم أخذ يتبختر بين الصفين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن ]
و تعبأت قريش و جعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد و على ميسرتها عكرمة بن أبي جهل و قال أبو سفيان بن حرب لأصحابه : إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم و إنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا مالت مالوا فإما أن تكفونا لواءنا و إما أن تخلوا بيننا و بينه فنكفيكموه فهموا به و تواعدوه و قالوا : نحن نسلم إليك ستعلم كيف نصنع ! و جاءت هند بنت عتبة و النسوة اللواتي معها يحرضنهم على القتال و تقول فيما تقول :
( إن تقبلوا نعانق ... و نفرش النمارق )
( أو تدبروا نفارق ... فراق غير دامق )
و أول من خرج من المشركين أبو عامر بن أمية في الأحابيش و قال : يا معشر الأوس ! أنا أبو عامر ! قالوا : فلا أنعم الله بك عينا ثم راضخ المسلمين بالحجارة و قاتلهم قتالا شديدا و قاتل أبو دجانة في رجال من المسلمين حتى حميت الحرب و أنزل الله النصر و كشفهم المسلمون عن معسكرهم و كانت الهزيمة عليهم فلم يكن بين أخذ المسلمين هندا و صواحبها إلا شيء يسير و قتل علي بن أبي طالب طلحة و هو حامل لواء قريش و أبا الحكم بن الأخنس بن شريق و عبيد الله بن جبير بن أبي زهير و أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة و أخذ اللواء بعد طلحة أبو سعد فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله و بقي اللواء صريعا لا يأخذه أحد فتقدم رجل من المشركين يقال له صؤاب فأخذ اللواء و أقامه لقريش فكر المسلمون عليه حتى قطعوا يديه ثم قتل و صرع اللواء
فلما رأى الرماة الذين خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن المشركين قد انهزموا و تركوا تركوا مصافهم يريدون النهب و خلوا ظهور المسلمين للخيل و أتاهم المشركون من خلفهم و صرخ صارخ : ألا ! أن محمدا قد قتل ! فانكشف المسلمون فصاروا بين قتيل و جريح و منهزم حتى خلص [ العدو إلى ] رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصيب رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه و يقول : [ كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم ]
ثم قام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا رجلا حتى قتلوا و كان آخرهم زياد بن السكن فأثبته الجراحة و جاء المسلمون فأجهضوهم عنه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ادنوه مني ] ! فوسده قدمه حتى مات في حجره و ترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه فكانت النبل تقع في ظهره و هو ينحني عليه حتى كثرت فيه النبل و قاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل أصابه ابن قميئة الليثي و هو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم رجع إلى قريش و قال : قتلت محمدا ! و التقى حنظلة بن أبي عامر و أبو سفيان فاستعلى حنظلة أبا سفيان بالسيف فلما رآه ابن شعوب أن أبا سفيان قدعلاه حنظلة بالسيف ضربه فقتله فقال رسول الله : [ إن صاحبكم لتغسله الملائكة ] ! و خرج حمزة بن عبد المطلب فمر به سباع بن عبد العزى الخزاعي و كان يكنى أبا نيار فقال : هلم يا ابن مقطعة البظور ! فالتقيا فضربه حمزة فقتل ثم جعل يرتجز ومعه سفيان إذعثر دابته فسقط على قفاه و انكشف الدرع عن بطنه فانتزع وحشي حربته فهزها و رماها فبقر بها بدنه ثم أخذ حربته و تنحاه
و قد انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب و طلحة ابن عبيد الله و رجال من المهاجرين و الأنصار قد أسقطوا ما في أيديهم و ألقوا بأيديهم فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه ! ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل و وجد فيه سبعون ضربة بالسيف و الرمح
و كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث كانت الهزيمة كعب بن مالك قال : عرفت عينيه نزهران من تحت المغفر فناديت بصوتي : يا معشر المسلمين ! ابشروا فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه و سلم نهضوا إليه فيهم : أبو بكر و عمر و علي و طلحة و الزبير و سعد و الحارث بن الصمة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يناول النبل سعدا و يقول : [ ارم فداك أبي و أمي ]
ثم أدرك رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بن خلف و هو يقول : يا محمد ! لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يا رسول الله ! أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال : [ دعوه ] ! فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه و سلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتفض بها انتفاضة ثم استقبله و طعنه بها فمال عن فرسه و قد كان أبي بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فيقول : إن عندي العود أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ! فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بل أنا أقتلك إن شاء الله ] فرجع أبي بن خلف إلى المشركين و قد خدشته حربة رسول الله صلى الله عليه و سلم خدشا غير كبير فقال قتلني والله محمد فقالوا : ذهب والله فؤادك و الله إن بك من بأس فقال : إنه قد كان يقول بمكة : إني أقتلك والله ! لو بصق علي لقتلني فمات بسرف و هم قافلون إلى مكة
فانتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن معه من أصحابه إلى الشعب و مر علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس و جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم شربه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه و غسل عن وجهه الدم و صب على رأسه و قال : [ اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله ] صلى الله عليه و سلم ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الصخرة ليعلوها فلما ذهب لينهض لم يستطع ذلك فجلس طلحة تحته فنهض رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استوى على الصخرة ثم قال : [ أوجب طلحة الجنة ]
و كانت هند و اللاتي معها جعلن يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يجدعن الآذان و الآناف حتى اتخذت هند قلائد من آذان المسلمين و آنفهم و بقرت عن كبد حمزة فلاكته فلم تستطعه فلفظته ثم علت صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها بشعر لها طويل ـ أكره ذكره فقتل من المسلمين سبعون رجلا في ذلك اليوم منهم أربعة من المهاجرين و كان المسلمون قتلوا اليمان أبا حذيفة و هم لا يعرفونه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخرجوا ديته و قتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا
ثم أن أبا سفيان أراد الانصراف فصرخ بأعلى صوته : الحرب سجال أعلى هبل يوم بيوم ببدر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ناحية : [ الله أعلى و أجل لا سواء ! قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار ] فقال أبو سفيان : يا عمر أنشدك الله أقتلنا محمدا ؟ فقال : اللهم لا و إنه ليسمع كلامك فقال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة و لكن موعدكم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هو بيننا و بينكم ]
رحل أبو سفيان بالمشركين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي بن أبي طالب : [ أخرج في آثار القوم فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل و امتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة و إن ركبوا الخيل و ساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة و الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأنجزتهم ] ! فخرج في آثارهم فرآهم قد اجتنبوا الخيل و امتطوا الإبل و وجهوا إلى مكة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره
و فرغ الناس لقتلاهم و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يلتمس حمزة فوجده ببطن الوادي قد بطنه عن كبده و مثل به فوقف عليه و قال : [ لولا أن تحزن صفية أن تكون سنة بعدي ما غيبته و لتركته حتى يكون في بطون السباع و الطير و لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن ] ! فأنزل الله { و إن عاقبتم فعاقبوا } الآية ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فسجى ببردة
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات ] ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فنظره فوجده جريحا في القتلى و به رمق فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال : أنا في الأموات أبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم عني السلام و قل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما جزى نبي عن أمته و أبلغ قومك السلام و قل لهم إن سعدا يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم و فيكم عين تطرف ـ ثم مات فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره
و احتمل الناس قتلاهم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدفنوهم حيث صرعوا بدمائهم و أن لا يغسلوا و لا يصلى عليهم فكان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ويقول : [ أيهم أكثر أخذا للقرآن ] ؟ فإذا أشير إليه بأحدهما قدمه في اللحد و قال : [ أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ] قال : [ انظروا عمرو بن الجموح و عبد الله بن عمرو فإنهما كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد ]
ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ إن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم و مأكلهم و سقياهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع ربنا بنا ] ! فأنزل الله { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } الآية و كان ابن عمير لم يترك إلا بردة واحدة فكانوا إذا غطوا رأسه بدت رجلاه و إذا غطوا رجليه بدا رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ غطوا رأسه و اجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر ]
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة بمن معه من المسلمين فمر بدار من دور الأنصار فسمع البكاء على قتلاهم فقال : [ لكن حمزة لا بواكي له ] ! فلما سمع سعد بن معاذ و أسيد بن حضير أمرا نساء بني عبد الأشهل أن يذهبن فبيكن على عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بكاءهن قال : [ اجعل ]
ثم ناول علي بن أبي طالب سيفه فاطمة و قال : اغسلي عن هذا دمه فو الله ! لقد صدقني اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سهل بن حنيف و أبو دجانة ]
فلما كان ثاني يوم أحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج في طلب القوم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم و قال : [ لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ] و كان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جرحى فمر على رسول الله صلى الله عليه و سلم معبد بن أبي معبد الخزاعي ـ و كانت خزاعة مسلمهم و مشركهم عيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم بتهامة ـ فقال : و الله يا محمد ! لقد عز علينا ما أصابك و لوددنا أن الله كان أعفاك منهم ثم خرج فلحق أبا سفيان بالروحاء و من معه من قريش و قد أزمعوا الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد توامروا بينهم و قالوا : رجعنا قبل أن نصطلم أصحاب محمد نرجع فنكر على بقيتهم فلما رأى أبو سفيان معبدا مقبلا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه في طلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قال : ويلك ما تقول ! و الله لقد أجمعنا الكرة على أصحابه لنصطلمهم قال : فإني و الله أنهاك عن ذلك بهم ! عليكم من الجود بشيء ما رأيته بقوم قط فساءه ذلك
و مر بأبي سفيان ركبة من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة قال : و لم ؟ قالوا : نريد الميرة قال : فاخبروا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة عليه و على أصحابه لنصطلهم
ثم رحل أبو سفيان راحلا إلى مكة و مر الركب برسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه بما قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون : حسبنا الله و نعم الوكيل ! فأنزل الله جل و علا في ذلك { الذين استجابوا لله و الرسول } إلى قوله { و الله ذو فضل عظيم } لما صرف عنهم من لقاء عدوهم { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } ـ الآية فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمراء الأسد ثلاثا ثم انصرف إلى المدينة
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري قال أنا أحمد بن أبي بكر الزهري [ عن مالك عن اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا يدعو على رعل و ذكوان و عصية ] قال أنس : فأنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه حتى نسخ [ بلغوا عنا قومنا إنا قد لقينا ربنا فرضى عنا و رضينا عنه ]
قال : في أول هذه السنة كانت غزوة بئر معونة و ذلك أن أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة قدم المدينة [ فأهدى لرسول الله صلى الله عليه و سلم فرسين و راحلتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لاأقبل هدية مشرك ] فعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم عليه الإسلام ] فلم يسلم و قال : يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى نجد رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني أخاف عليهم من أهل نجد ] فقال أبو براء : أنا لجار فابعثهم فليدعوا الناس إلى ما أمرك الله به فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعين راكبا و قد قيل في سبعين رجلا من الأنصار حتى نزلوا ببئر معونة ـ و هي بئر أرض بني عامر و حرة بني سليم ثم بعثوا حرام بن ملحان من بني عدي بن النجار بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عامر بن الطفيل فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه بما دعاهم إليه و قالوا : لن نخفر أبا براء إنه قد عقد لهم عقدا فاستصرخ عليهم قبائل من سليم : رعلا و ذكوان و عصية فأجابوه إلى ذلك فخرج حتى غشي القوم في رحالهم فأحاطوا بهم فلما رآهم المسلمون أخذوا أسيافهم ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه و به رمق
و كان من المسلمين عامر بن فهيرة طعنه جبار بن سلمى الكلابي بالرمح ثم طلب في القتلى فلم يجد جثته فمن ذلك قيل : رفع عامر بن فهيرة إلى السماء
و كان في سرحهم ابن أمية و رجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا : إن لهذا الطير لشأنا ! فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم و إذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى ؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فنخبره فقال الأنصاري : لكني ما كنت لأرغب عن موطن قتل فيه هؤلاء ثم تقدم فقاتل حتى قتل و رجع عمرو بن أمية حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فدعا النبي صلى الله عليه و سلم على رعل و ذكوان و عصية ثلاثين صباحا فأنزل الله فيهم [ بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا و رضينا عنه ]
أميرها مرثد بن أبي مرثد فيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و خالد ابن البكير و أسر خبيب بن عدي و زيد بن الدثنة و خرجوا بهما إلى مكة و باعوهما
و كان السبب في ذلك أن عمرو بن أمية لما انفلت من رعل و ذكوان و عصية و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره بقتل أصحاب بئر معونة لقيه في الطريق رجلان من بني عامر و قد كان معهم عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم و جوار لا يعلم عمرو بذلك فلما نزلا سألهما عمرو : من أنتما ؟ قالا : رجلان من بني عامر فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما و هو يرى أنه قد أصاب ثأرة من بني عامر بما أصابوا من أصحاب بئر معونة فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بئس ما عملت قد كان لهما مني جوار ] و كتب عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إنك قد قتلت رجلين لهما منك جوار فابعث بديتهما فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قباء ثم مال إلى بني النضير ليستعين في ديتهما و معه نفر من المهاجرين فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مجلسهم فاستند إلى جدار هناك فكلمهم فقالوا : أنى لك أن تزورنا يا أبا القاسم نفعل ما أحببت فأقم عندنا حتى تتغدى و تآمروا بينهم فقال عمرو بن جحاش بن عمرو بن كعب : يا معشر بني النضير ! و الله لا تجدونه أقرب منه الساعة ! أرقى على ظهر هذا البيت فأدلي عليه صخرة فأقتله بها فنهاهم سلام بن مشكم فعصوه و صعد عمرو بن جحاش ليدحرج الصخرة و أخبر الله جلا و علا رسوله فقام كأنه يريد حاجة و انتظر أصحابه من المسلمين فأبطأ عليهم و جعلت اليهود تقول : ما حبس أبا القاسم ! فلما أبطأ على المسلمين انصرفوا فقال كنانة ابن صوريا : جاءه و الله الخبر الذي هممتم به ! فلقي أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم رجلا مقبلا من المدينة فقالوا : أرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : رأيته داخلا المدينة فانتهوا إليه و هو جالس في المسجد فقالوا : يا رسول الله ! انتظرناك فمضيت و تركتنا فقال : [ هممت اليهود بقتلي ادعوا لي محمد بن مسلمة ] فأتي بمحمد فقال : [ اذهب إلى اليهود فقل لهم : اخرجوا من المدينة لا تساكنونني و هممتم بما هممتم من الغدر ]
فجاءهم محمد بن مسلمة فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن تظعنوا من بلاده فقال : يا محمد ! ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس فقال محمد ابن مسلمة : تغيرت القلوب و محا الإسلام العهود فقالوا : نتحمل فأرسل إليهم عبد الله بن أبي : لا تخرجوا فإن معي ألفي رجل من العرب يدخلون معكم و قريظة تدخل معكم فبلغ الخبر كعب بن أسد صاحب عهد بني قريظة فقال لا ينقض العهد رجل من بني قريظة و أنا حي
فأرسل حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان من سادات بني النضير : إنا لا نفارق ديارنا فاصنع ما بدا لك ! فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون و قال : حاربت يهود
ثم زحف إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يحمل لواءه علي بن أبي طالب و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم حتى أتاهم فحاصرهم خمسة عشر يوما و قطع نخلهم و حرقها و كان الذي حرق نخلهم و قطعها عبد الله بن سلام و عبد الرحمن بن كعب أبو ليلى الحراني من أهل بدر فقطع أبو ليلى العجوة و قطع ابن سلام اللون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم قطعتهم العجوة ] ؟ قال أبو ليلى : يا رسول الله كانت العجوة أحرق لهم و أغيظ فنزل { ما قطعتم من لينة أو تركتموها } الآية فاللينة ألوان النخل و القائمة على أصولها العجوة فنادوا : يا محمد ! قد كنت تنهى عن الفساد و تعيبه على من صنعه فما لك و قطع النخل و تحريقها
ثم تربصت اليهود نصرة عبد الله بن أبي إياهم فلما لم يجئ و قذف الله في قلوبهم الرعب صالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن يحقن لهم دماءهم و له الأموال و ينجلون من ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم فاحتملوا من استقلت به الإبل حتى أن كان الرجل منهم يهدم بيته فيضع بابه على ظهر بعيره فينطلق به و خرجوا إلى خيبر و ذلك قوله { يخربون بيوتهم بأيديهم } الآية
و لم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عمير بن كعب و أبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها فقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم غنائمهم على المهاجرين فأنزل الله سورة الحشر إلى آخرها
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا سلمة بن عبد الأسد إلى ماء لبني أسد فقتل عورة بن مسعود الأنصاري و غنم نعما و شاء و رجع إلى المدينة
و مات عبد الله بن عثمان بن عفان و هو ابن ست سنين فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و نزل في حفرته عثمان بن عفان ثم ولد الحسين بن علي بن أبي طالب لليالي خلون من شعبان
و ذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أحد قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : موعدك بدر الموسم و كان بدر موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل سنة ثمانية أيام فلما قرب الميعاد جهز رسول الله صلى الله عليه و سلم لغزوة الموعد
و كان نعيم بن مسعود الأشجعي قد اعتمر و قدم على قريش فقالوا : يا نعيم ! من أين وجهك ؟ قال : من يثرب قالوا : هل رأيت لمحمد حركة ؟ قال : نعم تركته على هيئة الخروج ليغزوكم ـ و ذلك قبل أن يسلم نعيم فقال له أبو سفيان : يا نعيم ! إن هذا عام جدب و لا يصلحنا إلا عام غيداق ترعى فيه الإبل الشجر و نشرب اللبن و قد جاء أوان موعد محمد فالحق بالمدينة فثبطهم و أخبرهم أننا في جمع كثير و لا طاقة لهم بنا حتى يأتي الخلف منهم و لك عشر فرائض أضعها لك على يد سهيل بن عمرو ! فجاء نعيم سهيلا فقال : يا أبا يزيد ! تضمن لي هذه الفرائض و انطلق إلى محمد فأثبطه ؟ فقال : نعم
فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون فجلس يتجسس لهم و يقول : هذا ليس برأيي قدموا عليكم في عقر دوركم و أصابوا فتخرجون إليهم ليس هذا برأيي ألم يجرح محمد بنفسه ! ألم يقتل عامة أصحابه ! فثبط الناس عن الخروج حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ و الذي نفسي بيده ! لو لم يخرج معي أحد خرجت وحدي ]
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون في شهر رمضان و استخلف على المدينة عبد الله بن رواحة و مع المسلمين تجارات كثيرة حتى وافوا
بدر الموعد فأصابوا بها سوقا عظيما و ربحوا لدرهم درهما و لم يلقوا عدوا ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بأم سلمة بنت أبي أمية وفي شوال و دخل بها في ذلك الشهر و كانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي
ثم رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم يهوديا و يهودية تحاكما إليه و كانا محصنين
و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود و قال : إني لا آمن أن يبدلوا كتابي ! فتعلم زيد بن ثابت ذلك في خمسة عشر يوما
و ذلك أنه كان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه و سلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس و الخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم غناء إلا قالت الخزرج : و الله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإسلام ! قال : فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها و إذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف قالت الخزرج : من رجل في العداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ككعب بن الأشرف فذكروا سلام بن أبي الحقيق بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتله فأذن لهم و نهاهم عن قتل النساء و الولدان فخرج عبد الله بن عتيك و عبد الله بن أنيس و مسعود بن سنان و أبو قتادة بن ربعي بن بلدمة بن سلمة و خزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم حتى قدموا خيبر فدخلوا على سلام بن أبي الحقيق داره ليلا و لم يبق في الدار بيت إلا أغلقوه ثم صعدوه في درجة إلى علية له فضربوا عليه بابه فخرجت امرأته و قالت : من أنتم ؟ قالوا : نفر من العرب أردنا الميرة فقالت : هو ذاك في البيت فدخلوا عليه و غلقوا الباب عليهم فما دلهم عليه إلا بياضه في ظلمة البيت و كان قبطي فابتدروه بأسيافهم و تحامل عليه عبد الله بن أنيس فوضع سيفه في بطنه و هتفت امرأته و خرجوا و كان عبد الله ابن عتيك أمير القوم و كان في بصره شيء فسقط من الدرجة فوثئت يده وثأ شديدا
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبروه و اختلفوا في قتله و ادعى كل واحد منهم أنه قتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هاتوا سيوفكم فأعطوه فنظر فقال : سيف عبد الله بن أنيس هذا قتله أرى فيه أثر الطعام ]
حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون الدماتي ثنا عمار بن الحسن الهمداني ثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس حدثني سلمان الفارسي من فيه قال : كنت رجلا مجوسيا من أهل جي من أهل أصبهان و كان أبي دهقان قريته و كنت أحب الخلق إليه فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية و كنت قد اجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة و كانت لأبي ضيعة فيها بعض العمل بني أبي بنيانا له في داره فدعاني فقال : أي بني ! إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها و أمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي : و لا تحتبس عني فإنك إن احتسبت عني كنت أهم عندي مما أنا فيه فخرجت فمررت بكنيسة النصارى و هم يصلون فيها فسمعت أصواتهم و دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فو الله ! ما زلت قاعدا عندهم و أعجبني دينهم و ما رأيت من صلاتهم و أخذ بقلبي فأحببتهم حبا لم أحبه شيئا قط و كنت لا أخرج قبل ذلك و لا أدري ما أمر الناس فقلت في نفسي : هذا و الله خير من ديننا فو الله ! ما برحت حتى غربت الشمس و تركت حاجة أبي التي أرسلني إليها و ما رجعت إليه ثم بعث في الطلب يلتمس لي فلم يجد حيث أرسلني فبعث رسله فبغوني بكل مكان حتى جئته عشيا و قد قلت للنصارى حين رأيت ما أعجبني من هيئتهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام فلما أتيت أبي فقال : أي بني ! أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك أن لا تحتسب علي ؟ فقلت : بلى و إني مررت على كنيسة النصارى فأعجبني ما رأيت من أمرهم و حسن صلاتهم و رأيت دينهم خيرا قال : كلا يا بني ! إن ذلك الدين لا خير فيه دينك و دين آبائك خير منه فقلت : كلا و الله إنه لخير من ديننا ! قال فخافني أن أذهب من عنده فكلبني ثم حبسني فأرسلت إلى النصارى و أخبرتهم أني قد رضيت أمرهم و قلت : إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم أذهب معهم
فقدم عليهم ركب من الشام فأخبروني بهم فأرسلوا إلي فأرسلت إليهم إذا أرادوا الرجعة فأخبروني فلما أرادوا الخروج جئتهم فانطلقت معهم فلما قدمت الشام سألت عن عالمهم فقالوا : صاحب الكنيسة أسقفهم فدخلت عليه فأخبرته خبري و قلت له : إني أحب أن أكون معك في كنيستك أخدمك و أصلي معك و أتعلم منك فإني قد رغبت في دينك قال : أقم ! فمكثت معه في الكنيسة أتفقه في النصرانية و كان رجل سوء فاجر في دينه يأمرهم بالصدقة و يرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه الأموال اكتنزها لنفسه و كنت أبغضه لما أرى من فجوره و قد جمع سبع قلال دنانير و دراهم ثم إنه مات فاجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم : تعلمون أن صاحبكم هذا رجل سوء كان يأمركم بالصدقة فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه و لم يعط المساكين منها شيئا قالوا : و ما علامة ذلك ؟ قلت : أدلكم على كنزه ؟ قالوا : أنت و ذاك فدللتهم عليه فأخرجوا قلالا مملوءة ذهبا و ورقا قال : فلما رأوها قالوا : و الله لا نغيبه أبدا ! فصلبوه على خشبة و رجموه بالحجارة و جاءوا برجل فجعلوه مكانه قال : فيقول سلمان : يا ابن أخي ! ما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه زهادة في الدنيا و لا أرغب في الآخرة و لا أدأب ليلا و لا نهارا منه اجتهاد في العبادة قال سلمان : فأقمت معه و أحببته حبا ما علمت أني أحببت شيئا كان قبله فكنت معه أخدمه و أصلي معه في الكنيسة حتى حضرته الوفاة قلت يا فلان ! إني قد كنت معك و ما أحببت حبك شيئا قط فإلى من توصي بي و من ذا الذي تأمرني متبع أمرك و مصدق حديثك ؟ قال : أي بني ! ما أعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بالموصل يقال له فلان فإني و إنه كنا على أمر واحد في الرأي و الدين و هو رجل صالح و ستجد عنده بعض ما كنت ترى مني فأما الناس قد بدلوا و هلكوا فلما توفي لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري فقال : أقم ! فكنت معه في كنيسته فوجدته كما قال صاحبي رجلا صالحا فكنت معه ما شاء الله فلما حضرته الوفاة قلت : يا فلان ! إن فلانا أوصاني إليك حين حضرته الوفاة و قد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي و إلى من تأمرني ؟ قال : أي بني ! ما أعلم أحدا على أمرنا إلا رجلا بنصيبين يقال له فلان فالحق به فلما توفي لحقت بصاحب نصيبين و أخبرته خبري و أقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه صاحباه فمكثت معه ما شاء الله ثم حضرته الوفاة فقلت له : إن فلانا أوصاني إلى فلان صاحب الموصل ثم أوصاني صاحب الموصل إليك فإلى من توصي بي بعدك ؟ قال أي بني ! ماأعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية في أرض الروم فإنك واجد عنده بعض ما تريد فإن استطعت أن تلحق به فالحق به فلما توفي لحقت بصاحب عمورية و أخبرته خبري فقال : أقم فأقمت عنده فوجدته على مثل ما كان عليه أصحابه و أثاب لي شيئا حتى أتخذت بقرات و غنيمة ثم حضرته الوفاة فقلت له : إن فلانا أوصاني إلى فلانا صاحب الموصل ثم أوصاني صاحب الموصل إلى فلان صاحب نصيبين ثم أوصاني صاحب نصيبين إليك فإلى من توصي بي ؟ قال : يا بني ! ما أعلمه أصبح في هذه الأرض أحد على ما كنا عليه لكنك قد أظلك خروج نبي يخرج بأرض العرب يبعث بدين إبراهيم الحنفية يكون منها مهاجره و قراره إلى أرض يكون بها النخل بين حرتين ـ نعتها بكذا وكذا بظهره خاتم النبوة بين كتفيه إذا رأيته عرفته يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة ثم مات فمر بي ركب من كلب فسألتهم من هم ؟ فقالوا : من العرب فسألتهم من بلادهم فأخبروني عنها فقلت لهم : أعطيكم بقري و غنمي هذا على أن تحملوني حتى تقدموا أرضكم قالوا : نعم فأعطيتهم إياها و حملوني معهم حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني برجل من اليهود فأقمت و رأيت بها النخل و رجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي حتى قدم رجل من يهود بني قريظة فابتاعني من ذلك اليهودي ثم خرج بي حتى قدم المدينة فو الله ! ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي و أيقنت أنه البلد فمكثت بها أعمل له في ماله في بني قريظة حتى بعث محمد و خفي علي أمره و أنا في رقي مشغول حتى قدم المدينة مهاجرا فنزل في قباء في بني عمرو بن عوف فو الله ! إني لفي رأس نخلة أعمل لصاحبي فيها و صاحبي تحتي جالس إذ أقبل ابن عم له من اليهود فقال : يا فلان ! قاتل الله بني قيلة ! إنهم آنفا لمجتمعون يقبلون على رجل بقباء قدم من مكة يزعمون أنه نبي فو الله ! ما هو إلا أن قالها له أخذتني رعدة من النخلة حتى ظننت أني سقطت على صاحبي فنزلت سريعا فقلت : أي سيدي ! ما الذي تقول ؟ فغضب مما رأى في و رفع يده فضربني بها ضربة شديدة ثم قال : ما لك و لهذا ! أقبل على عملك قلت : لا شيء سمعت منك شيئا فأردت أن أعلمه فسكت عنه ثم أقبلت على عملي فلما أمسيت جمعت ما كان عندي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بقباء فدخلت عليه و معه نفر من أصحابه فقلت : بلغني أنك رجل صالح و أن معك أصحابا لك أهل حاجة و غربة و قد كان عندي شيء وضعته للصدقة من طعام يسير فجئتكم به و هو ذا ـ فقربت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ كلوا و أمسك يده و أبى أن يأكل ] فقلت في نفسي : هذه واحدة من صفة فلان ثم رجعت فتحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فجمعت شيئا ثم جئته فسلمت عليه فقلت : هذا شيء كان لي و أحببت أن أكرمك و هو هدية أهديها لك كرامة ليست بصدقة فإني رأيتك لا تأكل الصدقة فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه فأكلوا و أكل معهم فقلت في نفسي : هاتان اثنتان ثم رجعت فمكثت شيئا ثم جئته و هو ببقيع الغرقد مشى مع جنزة و حوله أصحابه و عليه شملتان مرتديان بواحدة و متزرا بالأخرى فسلمت عليه ثم تحولت حتى قمت و راءه لأنظر في ظهره فعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إني إنما أريد أن أنظر وأثبته فقال بردائه فألقاه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصفه لي صاحبي فأكببت على رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل موضع الخاتم من ظهره و أبكى فقال : [ تحول عني ] فتحولت عنه فجلست بين يديه و قصصت عليه قصتي و شأني و حديثي فأعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أحب أن يسمع ذلك أصحابه ثم أسلمت و مكثت مملوكا حتى مضى شأن بدر و شأن أحد و شغلني الرق فلم أشهد مجامع النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كاتب نفسك ] فسألت صاحبي الكتابة فلم أزل حتى كاتبني على أن أفي له ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية ورق ـ و تلك أربعة آلاف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ أعينوا أخاكم بالنخل ] فأعانني الرجل بقدر ما عنده منهم من يعطيني العشرين و الثلاثين و العشرة و الخمس و الست و السبع و الثمان و الأربع و الثلاث حتى جمعتها فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذهب فإذا أردت أن تضعها فأتني حتى أكون أنا أضعها لك بيدي فقمت في تفقيرها و أعانني أصحابه حتى فرغنا من شربها و جاء أصحابي كل رجل بما أعانني من النخل فوضعته ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فخرج فجعلنا نحمل إليه النخل فيضعها بيده فما مات منها ودية و بقيت الدراهم ] ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا سلمان ! إذا سمعت بشيء قد جاءني فأتني أغنيك بمثل ما بقي من مكاتبتك ] فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم في أصحابه إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابها في بعض المغازي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ] ! قال قلت : و أين تقع هذه مما علي من المال ؟ قال : إن الله سيؤديها عنك فو الذي نفسي بيده ! لقد وزنت لهم أربعين أوقية حقهم جميعا و عتق سلمان و غزا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق و ما كان بعده من المغازي قال : في أول هذه السنة كان فك سلمان من الرق وأداؤه بما كوتب عليه
خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و استخلف على المدينة عثمان بن عفان يريد بني محارب و بني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس و لم يكن بينهم حرب إلا أن الناس قد خاف بعضهم من بعض حتى صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف و إنما سميت هذه الغزاة غزاة ذات الرقاع لأن الخيل كان فيها سواد و بياض فسميت الغزوة بتلك الخيل
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون [ فبينا جابر إذ أبطأعليه جمله فقال لحقه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا جابر ! قال : نعم قال : ما شأنك ؟ قال : أبطأعلي جملي فحجنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بمحجنه و قال : اركب فقال جابر : و لقد أريتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا جابر ! تزوجت ؟ قلت : نعم قال : بكرا أم ثيبا ؟ قلت : بل ثيبا قال : أفلا جارية تلاعبها و تلاعبك ؟ قلت : إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج بمن يجمعهن و يمشطهن و تقوم عليهن قال : أما ! إنك قادم فإذا قدمت فالكيس الكيس ! ثم قال : أتبيع جملك ؟ فقلت : نعم فاشتراه منه بأوقية ثم قدم المدينة صلى الله عليه و سلم قال جابر : فوجدته عند باب المسجد فقال : الآن قدمت ؟ قلت : نعم قال : فدع جملك و ادخل المسجد فصل ركعتين فدخلت فصليت ركعتين ثم أمر بلالا أن يزن لي أوقية فوزن لي فأرجح في الميزان فانطلقت حتى إذا وليت فقال : ادعوا لي جابرا قلت : الآن يرد علي الجمل و ليس شيء أبغض إلي منه قال : خذ جملك ولك ثمنه ]
و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه أن جمعا تجمعوا بها فغزاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ دومة الجندل فلم ير كيدا و استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري ثم رجع إلى المدينة
و توفيت أم سعد بن عبادة و سعد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدومة الجندل فلما رجع جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم قبرها و صلى عليها فقال سعد : يا رسول الله ! إن أمي أفتلتت نفسها و لم توص أفأقضي عنها ؟ قال : [ نعم ]
و كسف القمر في جمادى الآخرة فجعلت اليهود يرمونه بالشهب و يضربون بالطاس و يقولون : سحر القمر فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الكسوف
و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قريشا أصابتهم شدة حتى أكلوا الرمة فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء من الذهب إليهم مع عمرو بن أمية و سلمة بن أسلم بن حريش
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد من مزينة و هو أول وفد قدم عليه في رجب و فيهم بلال بن الحارث المزني في رجال من مزينة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنتم مهاجرون أينما كنتم ! فرجعوا إلى بلادهم [ ثم قدم بعدهم ضمام بن ثعلبة بعثه بنو سعد بن بكر فقال : يا محمد ! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال : صدق قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله قال : فمن نصب هذه الجبال ؟ قال : الله قال : فمن جعل فيها هذه المنافع ؟ قال : الله آلله تعالى أرسلك ؟ قال : نعم قال : فبالذي خلق السماوات و الأرض و نصب الجبال و جعل فيها هذه المنافع هو الله الذي أرسلك ؟ قال : نعم قال : و زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا و ليلتنا قال : صدق قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قال : و زعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا قال : صدق قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قال : فو الله الذي بعثك بالحق ! لا أزيد عليهن و لا أنقص منهن شيئا فلما قفا قال النبي صلى الله عليه و سلم : لئن صدق ليدخلن الجنة ! فأسلم ضمام و رجع إلى قومه بالإسلام ]
في شعبان قصد بني المصطلق من خزاعة على ماء لهم قريب من الفرع فقتل منهم رجالهم و سباهم و كان فيمن سبى جويرة بنت الحارث ابن أبي ضرار تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل صداقها أربعين أسيرا من قومها
في هذه الغزوة سقط عقد عائشة فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس على التماسه و ليسوا على ماء و ليس معهم ماء فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ! فبعثوا العير التي كانت عليه فوجدوا العقد تحته
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا نملة الطائي بشيرا إلى المدينة بفتح المريسيع
و كان من شأنها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أجلى بني النضير خرج نفر من اليهود فيهم حي بن أخطب النضري و هوذة بن قيس الوائلي و كنانة بن الربيع النضري في نفر من بني النضير و بني وائل و حزبوا الأحزاب حتى قدموا على قريش مكة و دعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نسستأصله و من معه فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود ! إنكم أهل الكتاب و العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم و أنتم أولى بالحق منه فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أجمعوا لذلك و اتعدوا له ثم خرجوا حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبروهم أن قريشا قد تابعوهم على ذلك و أجمعوا معهم على ذلك
و خرجت قريش
و قائدها أبو سفيان بن حرب و خرجت غطفان و قائدها عيينة ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري و كان قائد أشجع مسعود بن رخيلة
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمرهم استشار المسلمين فأشار عليه سلمان بضرب الخندق على المدينة و هي أول غزوة غزاها سلمان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فخندق على المدينة فيما بين المذاد إلى ناحية راتج
و أقبلت قريش
حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة في عشرة آلاف رجل من أحابيشهم و من تابعهم من أهل كنانة و أهل تهامة و أقبلت غطفان حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم و ذلك في شهر شوال ـ حتى جعل سلعا وراء ظهره و الخندق بينه و بين القوم و هو في ثلاثة آلاف من المسلمين و خرج حي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب بني قريظة فلم يزل يفتله حتى بايعه على ذلك
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سعد بن معاذ و سعد بن عبادة و عبد الله بن رواحة و خوات بن جبير يستخبرون خبر كعب بن أسد أهم على وفاء أم لا فمضوا إليه فسألوه فقال : لا عهد بيننا و بين محمد ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه
فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بحذاء المشركين بضعا و عشرين ليلة ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من يأتيني بخبر القوم ] ؟ فقال الزبير : أنا ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل نبي حواريا و إن حواري الزبير ] و لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل غير أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أخو بني عامر و عكرمة بن أبي جهل المخزومي و هبيرة بن أبي وهب المخزومي و ضرار بن الخطاب بن مرداس المحاربي قد تهيأوا للقتال و تلبسوا و خرجوا على خيلهم و مروا بمنازل كنانة ثم أقبلوا بخيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا : و الله إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها ! ثم أتوا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه و جالت في السبخة بين الخندق و سلع فلما رآهم المسلمون خرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الموضع الذي منه اقتحموا و أقبلت الفوارس تعنق نحوهم و كان عمرو بن عبد ود فارس قريش و قد كان قاتل يوم بدر و لم يشهد أحدا فخرج عام الخندق معلما ليرى مشهده فلما وقف هو و خيله قال علي بن أبي طالب : يا عمرو ! إني أدعوك إلى البراز قال : و لم يا ابن أخي ؟ فو الله ما أحب أن أقتلك ! قال علي : لكني و الله أحب أن أقتلك ! فحمى عمرو عند ذلك و اقتحم عن فرسه و عقره ثم أقبل إلى علي فتنازلا و تجاولا إلى أن قتله علي و خرجت خيله منهزمة من الخندق
و حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الظهر و العصر و المغرب و العشاء و ذلك بعد أن كفوا كما قال الله تعالى : { و كفى الله المؤمنين القتال }
و لم يقتل من المسلمين غير ستة نفر : كعب بن زيد الدنباني و رمي سعد بن معاذ بسهم فقطع أكحله و عبد الله بن سهل و أنس بن أوس بن عتيك والطفيل بن النعمان بن خنساء و ثعلبة بن غنمة و قتل من المشركين جماعة
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال يا رسول الله ! إني أسلمت و إن قومي لا يعلمون بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا فإن الحرب خدعة ] فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة و كان لهم نديما في الجاهلية فقال : يا معشر قريظة ! إنكم قد عرفتم ودي لكم و خاصة ما بيني و بينكم قالوا : صدقت قال : فإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد و إنهم ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم لا تقدرون على أن تتحولوا عنه و إن قريشا و غطفان إن وجدوا فرصة أشهروها و إن كان غير ذلك هربوا و خلوا بينكم و بين الرجل ببلدكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم على أن يقاتلوا مع القوم حت تناجزوه فقالوا : قد أشرت برأي و نصح ثم خرج نعيم حتى أتى قريشا و أبا سفيان فقال : يا معشر قريش إنكم قد عرفتم ودي لكم قد رأيت أن حقا علي أن أبلغكموه و أنصح لكم فاكتموه علي قالوا : نفعل قال : إن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد و قد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك منا أن ناخذ من القبيلتين من قريش و غطفان رجالا من أشرافهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم فأرسل إليهم أن نعم فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون رهنا فلا تدفعوا إليهم
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ! إنكم أصلي و عشيرتي و أحب الناس إلي و لا أراكم تتهموني قالوا : صدقت قال : فاكتموا علي قالوا : نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش في شأن بني قريظة و حذرهم مثل الذي حذرهم فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر معه من رؤوس غطفان إلى بني قريظة فقالوا : لسنا بدار مقام قد هلك الكراع و الحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا و نفرغ مما بيننا و بينه فأرسلوا أن غدا لسبت و هو يوم لا نعمل فيه و لسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من أشرافكم يكونون عندنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى الحرب إن اشتدت أن تتشمروا إلى بلادكم و تتركونا فلما رجع عكرمة إلى قريش و غطفان بما قالت بنو قريظة قالوا : و الله ! إن جاءكم به نعيم بن مسعود لحق فأرسلوا إلى بني قريظة أنا و الله لا ندفع إليكم رجلا واحدا ! فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا و قاتلوا فقالت بنو قريظة : إن الذي ذكر لنا نعيم لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها و إن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل فأرسلوا إلى قريش و غطفان أنا و الله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا و بعث الله على المشركين ريحا تطرح آنيتهم و تكفأ قدورهم في يوم شديد البرد فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان قال : [ اذهب فادخل بين القوم و انظر ما يقولون و لا تحدثن شيئا حتى ـ تأتيني و ذلك ليلا ] فدخل حذيفة في الناس و قام أبو سفيان بن حرب و قال : يا معشر قريش ! لينظر كل امرئ من جليسه ؟ قال حذيفة : و أخذت رجلا إلى جنبي و قلت له : من أنت ؟ قال : أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ! إنكم و الله ! ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع و الخف و أخلفتنا بنو قريظة و بلغنا عنهم الذي نكره و لقينا من هذه الريح ما ترون و الله ! ما يستمسك لنا بناء و لا تطمئن لنا قدور فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام إلى جمله و هو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا و هو قائم ثم قال حذيفة : و لولا عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ألا تحدث شيئا حتى تأتيني لقتلته بسهمي فرجع حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فسمعت غطفان بما صنعت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هو المسلمون و وضعوا السلاح
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : قد وضعتم السلاح و أن الملائكة لم تضع سلاحها بعد إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ! فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا ! لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يحمل لواءه علي بن أبي طالب فلما بلغ الصورين قال : [ هل مر بكم أحد ] ؟ قالوا : نعم مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذاك جبريل ] ! فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل على بئر لبني قريظة في ناحية أموالهم و تلاحق به الناس و أتى رجال بعد عشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ] فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار و قذف الله في قلوبهم الرعب و قد كان حي بن أخطب قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش و غطفان وفاء لكعب بن أسد فلما تيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف لنستشيره فأرسله رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم فقالوا : يا أبا لبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ـ و أشار بيده إلى حلقه أنه الذبح فقالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ انزلوا على حكمه ]
ثم إن ثعلبة بن سعيه و أسد بن سعيه و أسد بن عبيد أسلموا فمنعوا ديارهم و أموالهم فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الأوس : يا رسول الله ! إنهم موالينا دون الخزرج فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم ] ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فذاك إلى سعد بن معاذ ] و كان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقومه حين أصابه السهم : [ اجعلوه في خيمة قريب مني حتى أعوده ] فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه و سلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يقولون : يا أبا عمرو ! إن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما ولاك مواليك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فلما جاء سعد قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قوموا إلى سيدكم ] فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو ! إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ولاك الحكم قال سعد : عليكم عهد الله و ميثاقه إن الحكم فيكم ما حكمت قالوا : نعم قال و على من كان ههنا في هذه الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و هو معرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إجلالا له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ نعم ] فقال سعد فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال و تقسم الأموال و تسبى الذراري و النساء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ] فحبسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما قدمها خرج إلى سوق المدينة فحفر حفرا ثم بعث إليهم و أمر بضرب أعناقهم و هم ما بين ستمائة إلى تسعمائة فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم فيهم حي بن أخطب و كعب بن أسد
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم أموال بني قريظة و نساءهم و أبناءهم على المسلمين فكان مع المسلمين ستة و ثلاثون فرسا فأعطى الفارس ثلاثة أسهم : للفرس سهمان و لصاحبه سهم و للراجل الذي ليس له فرس سهم و أخرج منها صلى الله عليه و سلم الخمس و قد قيل : إنه اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة
ثم مات سعد بن معاذ فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بغسله فغسله أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن وقش ثم و ضع في أكفافه على سريره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ] ! و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمام جنازة سعد حتى صلى عليه و نزل في حفرته أربعة نفر : الحارث بن أوس و أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن وقش و أبو نائلة مالك بن سلامة ثم بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بزينب ابنة جحش فلما أصبح دعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا و نفر منهم عند النبي صلى الله عليه و سلم فأطالوا القعود و قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم رجع و نزلت آية الحجاب { وإذا سألتموهن متاعا فاسئلوهن من وراء حجاب }
إلى خالد بن سفيان بن خالد بن ملهم الهذلي ثم اللحياني بعرنة فصادفه ببطن عرنة و معه أحابيش فقتله و حمل رأسه إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذي الحجة إلى الغابة فسقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن فخرج فصلى بهم جالسا فقال : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا و إذا ركع فاركعوا و إذا سجد فاسجدوا و إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين ] و في ذي الحجة دفت دافة من عامر بن صعصعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقى عندكم من ضحاياكم بعد ثلاثة شيء ] أراد به صلى الله عليه و سلم أن يوسع السعة عمن لا سعة عنده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلوا و ادخروا بعد ثلاث ]
[ أخبرنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر بحران ثنا سلمة بن شبيب ثنا عبد الرزاق أنا عبد الله بن عمر عن سعيد المقربي عن أبي هريرة : أن ثمامة بن أثال الحنفي أسر فكان النبي صلى الله عليه و سلم يعوده يقول : ما عندك يا ثمامة ؟ فيقول : إن تقتل تقتل لا تمن و إن تمن تمن على شاكر و إن ترد المال تعط قال : فكان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يحبون الفداء و يقولون : ما نصنع بقتل هذا ؟ فمر به النبي صلى الله عليه و سلم فأسلم فأمره أن يغتسل فاغتسل و صلى ركعتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : حسن إسلام صاحبكم ]
قال : في أول هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة إلى القرطاء فأخذ ثمامة بن أثال الحنفي فأمر به فربط بسارية من سواري المسجد فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ ما عندك يا ثمامة ] ؟ فقال : عندي يا محمد خير إن تقتلني تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر و إن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان الغد ثم قال : [ ما عندك يا ثمامة ] ؟ قال له مثل ذلك فتركه النبي صلى الله عليه و سلم حتى كان بعد الغد فقال له : [ ما عندك يا ثمامة ] ؟ فقال : عندي ما قلت لك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أطلقوا ثمامة ] فأطلق فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله [ صلى الله عليه و سلم ] يا محمد ! ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي و الله ! ما كان من دين أبغض إلي من دينك فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي و الله ! ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فقد أصبح اليوم بلدك أحب البلاد إلي و إن خيلك أخذتني و أنا أريد العمرة فما ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت قال : لا و لكني أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عكاشة بن محصن الأسدي سرية الغمر فنذر به القوم فهربوا فنزل على مياههم و بعث الطلائع فأصابوا عينا فدلهم على ماشيتهم فساقوا مائتي بعير إلى المدينة
ثم كسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الكسوف و قال : [ إن الشمس و القمر لا ينكسفان لموت أحد و لحياته فإذا رأيتموهما فصلوا ]
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة و هي بلاد بني ثعلبة و أنمار ـ فصلوا المغرب و خرج أبو عبيدة في أربعين رجلا فساروا ليلتهم حتى أتوا ذا القصة عند الصبح فأغاروا عليهم و هربوا في الجبال ثم قدموا المدينة فخمس رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنيمة و قسم ما بقي على أصحابه
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في عشرة أنفس فخرج مائة من المشركين فكمنوا فلما نام المسلمون خرجوا عليهم فقتلوهم و انفلت محمد بن مسلمة جريحا وحده
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم فأصاب نعما و شاء و أسراء ثم سبق رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الخيل فكان أول سباق بالمدينة ثم سبق في الخف فكانت العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقه فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ حق على الله أن لا يرتفع شيء في الدنيا إلا وضعه ]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة سرية إلى الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فتحسس الأعراب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سار إليهم فانهزموا و أصاب المسلمون عشرين بعيرا من نعمهم و رجعوا إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أيضا زيد بن حارثة إلى العيص فأسر جماعة منهم أبو العاص بن الربيع فاستجار بزينب بنت النبي صلى الله عليه و سلم فأجارته
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيدا أيضا إلى حسمى فرجع منها بنعم و سبي
ثم تزوج عمر بن الخطاب جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح و هي أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فولد له منها عاصم بن عمر فطلقها عمر فتزوج بها بعده زيد بن حارثة فولد له عبد الرحمن بن زيد فهو أخو عاصم بن عمرو لأمه
ثم كانت سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه إلى فدك في مائة رجل إلى حي من بني سعد بن بكر
ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فعممه النبي صلى الله عليه و سلم بيده و قال : [ إن أطاعوا الله فتزوج ابنة ملكهم ] فأسلم القوم فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ و كان أبوها ملكهم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الرحمن بن عوف في ثلاثة أنفس لينظر إلى خيبر و ما عليها أهلها فمضى و جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخبر
ثم أجدب الناس جدبا شديدا في أول شهر رمضان فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يستسقي بهم فصلى ركعتين و جهر بالقراءة ثم استقبل القبلة و حول رداءه
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة سرية إلى أم قرفة فسبى سلمة بن الأكوع و زيد بن حارثة بنت مالك بن حذيفة وجدها في بيت من بيوتهم و أمها أم قرفة و هي فاطمة بنت ربيعة بن بدر
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني لحيان حتى بلغ أمج و بين أمج و عسفان بلد لهم يقال له ساية فوجدهم قد حذروا و تمنعوا في رؤوس الجبال فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد أخطأهم خرج في مائتي راكب من المسلمين و هو صائم و هم صوام حتى بلغ عسفان و بلغ كراع الغميم فأفطر و أفطر المسلمون معه ثم رجع و لم ير كيدا و جعل يقول في رجوعه : [ آيبون تائبون عابدون و لربنا حامدون أعوذ بالله من وعثاء السفر و كآبة المنقلب و الحور بعد الكور و سوء المنظر في الأهل و المال و الولد ]
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و أقام أياما أغار عيينة بن محصن بن بدر الفزاري في خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه و سلم بالغابة و فيها رجل من بني غفار و امرأة فقتلوا الرجل و احتملوا المرأة و اللقاح فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثرهم حتى بلغ ذا قرد و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم و تلاحق به الناس و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي قرد يوما و ليلة و صلى بهم صلاة الخوف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم قافلا إلى المدينة و انقلب عيينة بمن معه و كانت سرح المسلمين بالمدينة بذي قرد فقدم ثمانية نفر من عرينة فأسلموا فبعثهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى السرح فشربوا من ألبانها و أبوالها فلما صحوا قتلوا الراعي و استاقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في طلبهم كرز بن جابر الفهري سرية في شوال في عشرين راكبا معهم قائفا فأحدقوا بهم حتى أخذوهم و جاءوا بهم النبي صلى الله عليه و سلم و كانوا قد ارتدوا و قطعوا أيدي الرعاة و أرجلهم و سملوا أعينهم كما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم و طرحوا في الحرة يستسقون فلا يسقون
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوة بني المصطلق و ذلك أنه بلغه أن بني المصطلق تجمعوا و قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل من قتل منهم و نفل رسول الله صلى الله عليه و سلم أبناءهم و نساءهم و أموالهم لما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها و كانت امرأة حلوة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم تستعينه في كتابتها فقالت : يا رسول الله ! أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه و قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال : [ و هل لك في خير من ذلك ] ؟ قالت : و ما هو يا رسول الله ؟ قال : [ أقضي كتابتك و أتزوجك ] قالت : نعم يا رسول الله ! قال : [ فعلت ] و خرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج جويرية بنت الحارث فقال الناس : أصهار رسول الله ! فأرسلوا ما بأيديهم فلقد أعتق و أطلق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد المدينة و كانت عائشة تحمل في هودج فنزلوا منزلا فمشت عائشة لحاجتها حتى جاوزت الجيش فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها فإذا عقد لها من جزع ظفار قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها و حبسها ابتغاؤه فأذن بالرحيل و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلونها فاحتملوا هودجها على بعيرها الذي كانت تركب عليه و هم يحبسون أنها فيه و كانت النساء إذ ذاك خفاقا و ساروا فرجعت عائشة بعد ما رحل الجيش فجاء منازلهم فإذا ليس بها داع و لا مجيب فأمت منزلها التي كانت فيه و علمت أنهم سيفقدونها فبينا هي جالسة إذ غلبت عينها عليها و كان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم فعرفها حين رآها و كان رآها قبل أن ينزل الحجاب فاستيقظت عائشة باسترجاعه حين عرفها فخمرت عائشة وجهها بجلبابها و ما كلمها حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقامت إليه فأركبها و انطلق يقود الراحلة حتى أتى الجيش فوجدهم موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيها من هلك و كان الذي كبره عبد الله بن أبي بن سلول فلما قدموا المدينة لبثت عائشة شهرا و الناس يخوضون في قول أصحاب الإفك و هي لا تشعر بشيء من ذلك فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتيها فيسلم عليها و يقول : [ كيف تيكم ] ؟ و ينصرف و كان تراها ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرجت ذات ليلة مع أم مسطح قبل المناصع و كانت متبرزهم قبل أن تتخذ الكنف فلما فرغتا من شأنهما عثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ! فقالت لها عائشة : بئس ما تقولين ! تسبين رجلا من أهل بدر ! فقالت : أي هنتاه ! ألم تسمعي ما قال ؟ قالت عائشة : لا فأخبرتها بقول أهل الإفك فازدادت مرضا فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : ائذن لي أن آتي إلى أبوي أذن لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا أبتاه ! ماذا يتحدث الناس ؟ قال : يا بنتي ! هوني عليك فو الله لقل ما كانت امرأة قط عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها فبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع و لا تكتحل بنوم فلما أصبح دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذي يعلم من براءة أهله و قال : أهلك لا نعلم إلا أخيرا و أما علي فقال : يا رسول [ ا لله ] لم يضيق الله عليك و النساء سواها كثير و سل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة فقال : [ أي بريرة ! هل رأيت من أهلي شيئا يريبك ] ؟ قالت بريرة : و الذي بعثك بالحق ! ما رأيت عليها شيئا قط أغمضه عليها أكثر من أنها حديثة السن تنام عن عجين فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من يومه و استعذر من عبد الله بن أبي بن سلول و هو على المنبر فقال : [ يا معشر المسلمين ! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ؟ و الله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا ! و لقد ذكروا رجلا ما علمت إلا خيرا و ما يدخل على أهلي إلا معي ] فقال أسيد بن حضير : [ يا ] رسول الله ! أنا أعذر منه ! فإن كان من الأوس ضربت عنقه و إنا كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ! و كاد أن يكون بين الأوس و الخزرج قتال بهذه الكلمة فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم حتى سكتوا و بكت عائشة يومها ذلك كله فبين أبواها جالسين عندها و هي تبكي إذا استأذنت عليها امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معها ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم ثم جلس ثم تشهد حين جلس ثم قال : [ أما بعد ! يا عائشة ! فإنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه ] فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسست منها بقطرة و قالت لأبيها : أجب رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما قال فقال أبو بكر : و الله ! ما أدري ما أقول ! فقالت لأمها : أجيبي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما قال فقالت : و الله ! ما أدري ما أقول ! فقالت عائشة ! إني و الله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم و صدقتم ! فلو قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك و إن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه بريئة لا تصدقوني و الله ! ما أجد لي و لكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف { فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون } ثم تحولت عائشة و اضطجعت على فراشها فما راح رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا خرج أحد من البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من الرحضاء حتى أن ينحدر منه العرق مثل الجمان و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فسرى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لها : [ يا عائشة ! إما و الله ! فقد برأك ] ! فقالت لها أمها : قومي إليه فقالت : لا و الله ! ما أقوم و إني لا أحمد إلا الله و أنزل الله { إن الذين جاءو بالإفك عصبة } إلى تمام العشر الآيات فلما أنزل الله هذه الآيات قال أبو بكر : و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره : و الله ! لا أنفق على مسطح شيئا بعد الذي قال لعائشة ! فأنزل الله { و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولى القربى } ـ الآية فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ! و الله إني لأحب أن يغفر الله لي ! فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه و قال : لا أنتزعها منه أبدا و قد قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم حد أصحاب الإفك الذين رموا عائشة فيما رواه
خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه ألف و ثمانمائة رجل و سبعون بدنة فأحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم و من معه من ذي الحليفة و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم و ساق أبو بكر بدنا و طلحة بدنا و سعد بن عبادة بدنا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم غدير عسفان ذات الأشطاط لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله ! هذه قريش سمعت بك و خرجت قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدا و هذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني و بين سائر العرب ! فإن أصابوني كان الذي أرادوا و إن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام و آووني و الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله عليه حتى يظهرني الله ] ! ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية فلما بلغ صلى الله عليه و سلم ثنية المرار بركت ناقته فقالوا : خلأت القصواء ! فقال : [ ما خلأت القصواء و ما هو لها بخلق و لكن حبسها حابس الفيل عن مكة و الله ! لا يدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ] ! ثم قال للناس : [ انزلوا ] فقالوا : يا رسول الله ! ما بالوادي ما ينزل عليه الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغزره في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس بعطن فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كقوله لبشر بن سفيان فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ! إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت فقالوا : و إن جاء لذلك فلا و الله لا يدخلها عنوة و لا تتحدث بذلك العرب ! ثم بعثوا مكرز بن حفص بن الأحنف أحد بني عامر ابن لؤي فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هذا الرجل غادر ] فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم لنحو ما كلم به أصحابه فرجع إلى قريش و أخبرهم بذلك فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني و هو يؤمئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن هذا من قوم يتألهون فاثعبوا الهدي في وجهه ] فلما رأى الهدي يسير عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس رجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ! قد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله فقالوا : اجلس لا علم لك و بعث رسول الله خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة و حمله على جمل يقال له الثعلب فلما دخل مكة أراد قريش قتله فمنعه الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب ليبعث إلى مكة فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي و ليس لي بها من بني عدي بن كعب أحد يمنعني و قد عرفت قريش عداوتي إياها و غلطتي عليها و لكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعثه إلى قريش ليخبرهم أنه لم يأت لحرب و إنما جاء زائرا لهذا البيت المعظم لحرمته فخرج عثمان بن عفان حتى أتى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته و حمله بين يديه و أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم و انطلق حتى أتى أبا سفيان و عظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أرسله به فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال عثمان : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رجع عثمان
و بعث قريش سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي و قالوا : ائت محمدا و صالحه و لا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا ! فأتى سهيل بن عمرو فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قد أراد القوم الصلح حتى بعثوا هذا الرجل ] فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم تكلم فأطال الكلام و تراجعا ثم جرى بينهما الصلح فلما التأم الأمر و لم يبق إلا الكتاب وثب عمر فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! ألست برسول الله ؟ أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال : [ بلى ] قال : فلم نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : [ أنا عبد الله و رسوله ] ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فقال : [ اكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } ] فقال سهيل : لأعرف هذا و لكن اكتب [ باسمك اللهم ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اكتب باسمك اللهم ! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله و سهيل بن عمرو ] فقال : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك و لكن أكتب [ محمد بن عبد الله ] اسمك و اسم ابيك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اكتب محمد بن عبد الله و سهيل بن عمرو ] فكتب : محمد بن عبد الله [ هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله و سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن بهذا الناس و يكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أصحابهم بغير إذن وليه رده عليهم و من جاء قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرده و أنه لا أسلال و لا أغلال ] فلما فرغ من الكتاب و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي في الحرم و هو مضطرب في الحل ـ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أيها الناس ! انحروا و احلقوا ] فما قام رجل من المسلمين فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أم سلمة فقال : [ يا أم سلمة ! ما شأن الناس ؟ ] قال له : يا رسول الله ! قد أحل بهم ما رأيت كأنهم كرهوا الصلح فاعمد إلى هديك حيث كان و انحر و احلق فإنك لو فعلت ذلك فعلوا فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحرها ثم جلس فحلق فقام الناس ينحرون و يحلقون فحلق رجال منهم و قصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يرحم الله المحلقين ] ! قالوا : يا رسول الله ! و المقصرين ؟ قال : [ و المقصرين ] ! قالوا : ما بال المحلقين يا رسول الله ذكرت لهم الترحم ؟ قال : [ لأنهم لم يشكوا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم البيعة على الناس تحت الشجرة هناك أن لا يفروا ] فبايعه الناس كلهم غير الجد بن قيس اختبأ تحت إبط بعيره فذلك قول الله عز و جل { إذ يبايعونك تحت الشجرة } و قال صلى الله عليه و سلم : [ لن يدخل النار أحد شهد بدرا و الحديبية ]
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بين مكة و المدينة في وسط الطريق نزلت عليه سورة الفتح { إنا فتحنا لك فتحا } ـ إلى آخر السورة فما فتح في الإسلام فتح أعظم من نزول هذه السورة
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها و آمن الناس كلهم بعضا و استفاضوا و لا يكلم أحد بالإسلام يعقل عنه إلا دخل فيه حتى دخل فيه في تلك السنة من المسلمين قريبا مما كان قبل ذلك و في هذه العمرة أصاب كعب بن عجرة أذى في رأسه فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحلق و يذبح شاة و يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين مدين و أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل حمار وحش فرده و قال : [ لم نرده و لكنا حرم ]
و في هذه العمرة صلى بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبح في إثر سماء في الحديبية فلما انصرف أقبل عليهم بوجهه فقال : [ أتدرون ما قال ربكم ] ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : [ يقول : أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي فأما من قال : مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب و أما من قال : مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ]
و في هذه العمرة أصاب الناس عطش شديد فحبسوا فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده في الركوة فثار الماء مثل العيون فتوضئوا منها و رووا
خرج سلمة بن الأكوع و معه غلام له يقال له رباح مع الإبل فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و قتل راعيها و جعل ينظر في أناس معه في خيل فقال سلمة لرباح : اركب هذا الفرس و اخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد أغير على سرحه ثم قام سلمة على تل و جعل وجهه قبل المدينة ثم نادى ثلاث مرات ـ و كان صيتا : يا صباحاه ! ثم اتبع القوم و معه سيف و نبله فجعل يرميهم و ذلك حين كثر الشجر فإذا كر عليه الفارس جلس له في أصل شجرة ثم رماه و لا يظفر بفارس إلا عقر فرسه فجعل يرمي و يقول :
( أنا ابن الأكوع ... و اليوم يوم الرضع )
و إذا كان كثر الشجر رشقهم بالنبل فإذا تضايقت الشجرة علا الجبل و رماهم بالحجارة فما زال ذلك دأبه و دأبهم و يرتجز حتى ما بقي من ظهر النبي صلى الله عليه و سلم إلا استقذه من أيديهم و خلفه وراء ظهره ثم لم يزل يرميهم حتى طرحوا أكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها فكلما ألقوا شيئا جمع عليه سلمة فلما اشتد الضحى أتاهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ممدا لهم و هم في ثنية ضيقة في علوة الجبل فقال لهم : ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقد لقينا من هذا ـ يعنون سلمة ما فارقنا منذ سحر حتى الآن و أخذ كل شيء من أيدينا و خلفه وراءه فقال عيينة : لولا أن هذا يرى وراءه طلبا لقد ترككم ! فليقم إليه نفر منكم فقام إليه نفر منهم أربعة و صعدوا في الجبل فقال لهم سلمة : أتعرفوني ؟ قال : و من أنت ؟ قال : ابن الأكوع ! و الذي كرم وجه محمد صلى الله عليه و سلم ! لا يطلبني رجل منكم فيدركني و لا أطلبه فيفوتني فبينا سلمة يخاطبهم إذ نظر فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لحقوا يتخللون الشجر و إذ أولهم الأخرم الأسدي و على أثره أبو قتادة و على أثره المقداد الكندي فولى المشركون مدبرين فنزل سلمة من الجبل و قال : يا أخرم ! احذر القوم فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه قال : يا سلمة ! إن كنت تؤمن بالله و اليوم الآخر و تعلم أن الجنة حق و النار حق فلا تحل بيني و بين الشهادة ثم أرخى عنان فرسه و لحق بعبد الرحمن ابن عيينة و يعطف عليه عبد الرحمن و اختلف بينهما طعنتان فقتله عبد الرحمن و تحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن و اختلف بينهما طعنتان فعقر بأبي قتادة و قتله أبو قتادة و تحول أبو قتادة على فرس الأخرم ثم خرج سلمة يعدو في أثر القوم حتى ما يرى من غبار أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم شيئا فلم يقرب غيبوبة الشمس و قرب المشركون من شعب فيه ماء يقال له : ذو قرد فأرادوا أن يشربوا منه فالتفتوا فأبصروا سلمة وراءهم فعطفوا عن الماء و شدوا في الثنية و غربت الشمس فلحق سلمة رجل منهم فرماه بسهم و قال : خذها :
( أنا ابن الأكوع ... و اليوم يوم الرضع )
قال : يا ثكل أمياه ! أكوع بكرة ؟ قلت : نعم أي عدو نفسه ! و كان الذي رماه بكرة و أتبعه سهما آخر فأثبت فيه سهمين و خلقوا فرسين فجاء بهما يسوقهما و رسول الله صلى الله عليه و سلم على الماء الذي خلفهم عند ذي قرد و إذا بلال قد نحر جزورا مما خلفه بسهمه و هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه و سلم من كبدها و سنامها فقال سلمة : يا رسول الله ! خلني فأنتخب من أصحابك مائة رجل و أتبع الكفار حتى لا يبقى منهم مخبر إلا قتلته قال : [ أكنت فاعلا ذلك ] ؟ قال : نعم و الذي أكرم وجهك ! فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فجاء رجل من غطفان فقال : مر المشركون على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا ثم خرجوا هرابا فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف إلى المدينة و جعل يقول : [ خير فرساننا اليوم أبو قتادة ! و خير رجالتنا سلمة ] ! فأعطى سلمة ذلك اليوم سهم الراجل و الفارس جميعا
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أردفه و راءه على العضباء فلما كان بينهم و بين المدينة قريب و في القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق فجعل ينادي : هل من مسابق ! ألا رجل يسابق إلى المدينة ! فقلت : يا رسول الله بأبي أنت و أمي خلني فلأ سابق الرجل ! قال : [ إن شئت ] : قلت اذهب إليك فطفر عن راحلته و ثنيت رجلي فطفرت عن الناقة ثم إني ربطت عيله شرفا أو شرفين يعني استبقيت نفسي ثم عدوت حتى لحقته فأصكه بين كتفيه بيدي و قلت : سبقت و الله ! حتى قدمنا المدينة ثم توفيت أم رومان امرأة أبي بكر الصديق أم عبد الرحمن و عائشة في ذي الحجة
أخبرنا محمد بن حسن بن قتيبة نا ابن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في قال : انطلقت في المدة التي كانت بيننا و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل قال : هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه فقال : قل لهم : إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال أبو سفيان : و الله ! لولا مخافة أن يؤثروا عني كذبا لكذبته ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ فقلت : لا قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا قال : من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم قال : فهل يزيدون أم ينقصون ؟ قال : قلت : بل يزيدون قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال : قلت : لا قال : فهل قاتلتموه ؟ قال : قلت : نعم قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : يكون الحرب بيننا و بينه سجالا يصيب منا و نصيب منه قال : فهل يغدر ؟ قال : قلت : لا و نحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ! قال : و الله فما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ! قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قال : قلت : لا ثم قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه فيكم قلت : إنه ذو حسب و كذلك الرسل تبعث في الحساب قومها و سألتك : هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا فقلت : إن كان في آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك آبائه و سألتك عن أتباعه ضعفاء الناس أم أشرافهم قلت : بل ضعفاؤهم و هم أتباع الرسل و سألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس فيذهب فيكذب على الله و سألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطه له ؟ فزعمت أن لا فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب و سألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون و كذلك أمر الإيمان حتى يتم و سألتك : هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فزعمت أن الحرب بينكم و بينه سجال تنالون منه و ينال منكم و كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة و سألتك : هل يغدر ؟ فزعمت أن لا و كذلك الرسل لا تغدر و سألتك : هل قال هذا القول قبله أحد ؟ فزعمت أن لا فقلت : لو كان قال هذا القول أحد قبله لقلت : رجل يأتم بقول قيل قبله ثم سألتك بما يأمركم ؟ قلت : بالصلاة و الزكاة و الصلة و العفاف قال : إن يكن ما تقول فيه فإنه نبي و قد كنت أعلم أنه خارج و لم أكن أظن أنه منكم و لو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه و لو كنت عنده لغسلت عن قدميه و ليبلغن ملكه ما تحت قدمي فقال : ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأه فإذا فيه [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ إلى هرقل ملك الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد ! فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم و أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين { و يا أهل الكتاب تعالوا ـ إلى قوله : بأنا مسلمون } ] فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده و كثر اللغط و أمر بنا فأخرجنا فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام
قال : في أول هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الملوك و بعث إليهم بالرسل يدعوهم إلى الله فقيل : إنهم لا يقرأون كتابا إلا بخاتم فاتخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم خاتما من فضة نقش فيه [ محمد رسول الله ] ليختم به الصحف فكان يلبسه تارة بيمينه وتارة في يساره
فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بكتاب فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ليدفعه عظيم البحرين إلى كسرى و بعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر و هو هرقل ملك الروم و أمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل و بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية و بعث عمرو بن أمية الضمري إلى أصحم بن أبحر النجاشي و بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث ابن أبي شمر الغساني صاحب دمشق و بعث عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة
فأما كسرى فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغه ذلك [ مزق الله ملكه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ]
و أما قيصر فسأل أبا سفيان عما سأل ثم قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خلا بدحية الكلبي و قال : إني لأعلم أن صاحبكم نبي مرسل و أنه الذي كنا ننتظره و نجده في كتابنا و لكن أخاف الروم على نفسي و لولا ذاك لاتبعته و لكن اذهب إلى ضغاطر الأسقف فاذكر له أمر صاحبكم و انظر ماذا يقول فجاء دحية و أخبره مما جاء به من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل و بما يدعو إليه فقال ضغاطر : صاحبك والله نبي مرسل ! نعرفه بصفته و نجده في كتابنا باسمه ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سوداء و لبس ثيابا بيضا ثم أخذ عصاه و خرج على الروم و هم في الكنيسة فقال للروم : إنه قد أتانا كتاب من أحمد يدعو فيه إلى الله و إني أشهد أن لاإله إلا الله و أن محمد عبده و رسوله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد و ضربوه حتى قتلوه فرجع دحية إلى هرقل و أخبره الخبر قال : قلت لك : إنا نخافهم على أنفسنا فضغاطر كان والله أعظم عندهم و أجوز قولا مني
و أما النجاشي فكان كتابه [ من محمد رسول االله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة سلم أنت فأني أحمد الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر و أشهد أن عيسى روح الله و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه و نفخه كما خلق آدم بيده و نفخه و إني أدعوك إلى الله و قد بعثت إليك ابن عمي جعفرا و معه نفر من المسلمين فدع التجبر فإني أدعوك إلى الله و قد بلغت و نصحت فاقبل نصيحتي و السلام على من اتبع الهدى ] فقرأ النجاشي الكتاب و كتب جوابه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم من النجاشي الأصحم بن الأبحر سلام عليك يا نبي الله و رحمة الله و بركاته من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء و الأرض أن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا إنه كما قلت و لقد عرفنا ما بعثت به إلينا و قد قربنا ابن عمك و أصحابه و أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه و سلم صادقا مصدقا و قد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت على يديه لله رب العالمين و بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم فإني لا أملك إلا نفسي و إن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت فإني أشهد أن ما تقوله حق ـ و السلام عليك يا رسول الله ! فخرج ابنه في ستين نفسا من الحبشة في سفينة البحر فلما توسطوا ولججوا أصابتهم شدة و غرقوا كلهم
و أما المقوقس فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع جوار فيهن مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك سائر الملوك أهدى إليه الهدايا فقبلها رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يقبل الهدية و يثيب عليها خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في بقية المحرم إلى خيبر و استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري و قدم عينا له ليجيئه بالخبر و أخرج من نسائه أم سلمة و خرج على الأموال بجيشه فلا يمر بمال إلا أخذه و يقتل من فيه و يفتتحها حصنا حصنا فأول ما أصاب منها حصن ناعم ثم حصن الصعب بن معاذ ثم حصن القموص فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى حصنهم الوطيح و السلالم و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصبح قوما أو غزا لم يغر عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك و إن لم يسمع أذانا أغار فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم استقبلهم عمال خيبر بمساحيهم و مكاتلهم فلما رأوا النبي صلى الله عليه و سلم و الجيش قالوا : محمد و الله و الخميس ! و أدبروا هرابا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله أكبر الله أكبر ! خربت خيبر ! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ] ! فخرج مرحب اليهودي من الحصن يرتجز و يطلب البراز فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لهذا ] ؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله ! فلما دنا أحدهما من صاحبه بادر مرحب بالسيف فاتقاه محمد بن مسلمة بدرقته فوقع سيفه فيها و عضت به الدرقة فأمسكت فضربه محمد بن مسلمة فقتله ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا يقاتل فمر و رجع و لم يكن فتحا ثم بعث آخر يقاتل فمر و رجع و لم يكن فتحا و حمى الحرب بينهم و تقاعسوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله ! و يحبه الله و رسوله ! يفتح الله على يديه ليس بفرار فلما أصبح دعا عليا و هو أرمد فتفل في عينيه فبرأ ثم قال : خذ هذه الراية و اقبض بها حتى يفتح الله عليك ] فخرج علي يهرول و المسلمون خلفه حتى ركز رايته في رضم من حجارة فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن و قال : من أنت ؟ فقال : أنا علي بن أبي طالب فقال اليهودي : علوتم و ما أنزل على موسى ! فلم يزل علي يقاتل حتى سقط ترسه من يده ثم تناول بابا صغيرا كان عند الحصن فاترس به فلم يزل في يده و هو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده فلما أيقن اليهود بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحقن دماءهم و أن يسيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك فنزلوا على ذلك و قالوا : يا محمد ! إنا نحن أرباب الأموال و نحن أعلم بها منكم فعاملناها فعاملهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الخيبر على النصف فلما فعل ذلك أهل خيبر سمع بذلك أهل فدك بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم محيصة بن مسعود فنزلوا على ما نزلت عليه اليهود بخيبر على أن يسيرهم و يحقن دماءهم فعاملهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على مثل معاملة أهل خيبر فكانت فدك لرسول الله خالصة و ذلك أنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر على ألف و ثمانمائة سهم و كان الرجال بها ألف و أربعمائة و الفرس مائتي فرس فقسم للفارس ثلاثة أسهم : سهمين لفرسه و سهما له و للرجل سهما فكان للأفراس أربعمائة و لركابها و لرجالهم ألف و أربعمائة سهم و كان سهم رسول الله صلى الله عليه و سلم مع عاصم بن عدي ثم أطعم رسول الله صلى الله عليه و سلم رجالا مشوا بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين أهل فدك في الصلح و أعطى محيصة ابن مسعود ثلاثين و سقا من شعير و ثلاثين و سقا من تمر و قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم و بني المطلب فكانت قسمة خيبر على ما وصفنا و كانت صفية بنت حيي بن أخطب في السبي أخرجوها من حصن القموص فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن آنية المشركين فقال : [ اغسلوها و كلوا فيها و أطعموا و أطعم رسول الله صلى الله عليه و سلم تسعا من نسائه اللاتي توفي و هن عنده تسعمائة وسق تمر و من القمح مائة و ثمانين وسقا ] فلما فرغوا من الغنائم و قسمها أكل المسلمون لحوم الحمر الأهلية فأمر مناديا فنادى في الناس : إن الله و رسوله ينهيانكم عن المتعة و أمر بالقدور أن تكفأ ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم خطيبا فقال : [ لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره يعني إتيان الحبائل من السبايا و لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يصيب امرأة ثيبا من السبي حتى يستبرئها و لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم و لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يركب دابة من غنيمة المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيها و لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده ] ثم اطمأن الناس
و أهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم لرسول الله صلى الله عليه و سلم شاة مصلية و أكثرت فيها من السم فلما و ضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم ] ! ثم دعاها فاعترفت فقال : [ ما حملك على ذلك ] ؟ فقالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت : إن كان ملكا استرحت منه و إن كان نبيا فسيخبر فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان بشر بن البراء بن معرور يأكل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكل منها قطعة و كان ذلك سبب موته
=================================

===================================مجلد 2. من كتاب:السيرة النبوية أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي
ربيعة بن أكثم بن سخبرة و ثقف بن عمرو بن سميط و رفاعة بن مسروح و عبد الله بن الهبيب و مسعود بن قيس بن خلدة و محمود بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة و أبو الضياح بن ثابت بن النعمان بن أمية و مبشر بن عبد المنذر بن الزنبر بن زيد بن أمية بن سفيان بن الحارث و الحارث بن حاطب و عروة بن مرة بن سراقة و أوس بن القائد و أنيف بن حبيب و ثابت بن أثلة و عمارة بن عقبة بن حارثة بن غفار و بشر بن البراء بن معرور و كان سبب موته أكله من الشاة المسمومة
وعند فراغ المسلمين من خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و الله ! ما أدري بأي الأمرين أنا أشد فرحا بفتح خيبر أو قدوم جعفر ] ! ثم قام إليه فقبل ما بين عينيه
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم سار إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غلام له أهداه رفاعة بن زيد الجذامي فبينا هو يضع رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتاه سهم غرب فقتله فقال المسلمون : هنيئا له الجنة ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلا و الذي نفسي بيده ! إن شملته الآن تحترق عليه في النار و كان غلها من فيء المسلمين ] فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! أصبت شراكين لنعلين لي ! و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يبدلك الله مثلها في النار ]
ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم الحجاج بن علاط السلمي و قال : يا رسول الله ! إن لنا مالا بمكة فأذن لي فأذن له فقال : يا رسول الله ! و أن أقول ؟ قال فقل قدم الحجاج بمكة و إذا قريش بثنية البيضاء يستمعون الأخبار و قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد سار إلى خيبر و قد كانوا عرفوا أنها أكثر أرض الحجاز ريفا و منعة و رجالا فلما رأوه قالوا : يا حجاج ! أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر فقال الحجاج : عندي من الخبر ما يسركم ! قالوا : ما هي يا حجاج ؟ فقال هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط و أسر محمدا أسرا فقالوا : لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان قتل من رجالهم فقاموا و صاحوا بمكة : جاءكم الخبر و هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فقال الحجاج : أعينوني على مالي بمكة و على غرمائي فإني أقدم خيبر فأصيب من فيء محمد و أصحابه قبل أن يسبقني التجار فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر أقبل حتى وقف على جنب الحجاج بن علاط قال : يا حجاج ! ما هذا الخبر الذي جئتنا به ؟ قال : و هل عندك حفظا لما وضعت عندك ؟ قال : نعم قال : استأخر عني حتى ألقاك على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف حتى إذا فرغ الحجاج من جمع ماله و أراد الخروج لقي العباس فقال : احفظ علي حديثي فإني أخشى الطلب قال افعل قال : و الله ! إني تركت ابن أخيك عروسا على ابنة ملكهم صفية بنت حيي و لقد افتتح خيبر فصارت له و لأصحابه له قال : ما تقول يا حجاج ! قال : أي و الله ! فاكتم علي ثلاثا و لقد أسلمت و ما جئت إلا لآخذ مالي فرقا من أن أغلب عليه فإذا مضى ثلاث فأظهر أمرك فإن الأمر و الله على ما تحب ! ثم خرج الحجاج بماله فلما كان اليوم الثالث من خروجه لبس العباس حلة و تخلق و أخذ عصاه ثم خرج حتى طاف بالكعبة فلما رأوه قالوا : يا أبا الفضل ! هذا و الله التجلد لحر المصيبة قال كلا و الذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر و أصبح عروسا على ابنة ملكهم و أحرز أموالهم و ما فيها قالوا : من جاء بهذا الخبر ؟ قال : الرجل الذي جاءكم بما جاءكم به و لقد دخل عليكم و أخذ ماله و انطلق فلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه و يكون معه قالوا : يا لعباد الله انفلت عدو الله و الله لو علمنا لكان لنا و له شأن فلم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في رجوعه من خيبر إلى المدينة نزل بعض المنازل ثم قال : من يكلؤنا اللية ؟ فقال بلال : أنا يا رسول الله ! فنزل رسول الله بالناس و ناموا و قام بلال يصلي فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره و استقبل الفجر يرمقه فغلبته عيناه فنام فلم يوقظهم إلا حر الشمس و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أول أصحابه هبا فقال : [ ماذا صنعت يا بلال ] ! فقال : يا رسول الله ! أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك قال : [ صدقت ] ثم اقتاد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ و توضأ الناس معه ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال : [ إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموهما فإن الله يقول : { أقم الصلوة لذكري } ]
ثم قدم رسول الله المدينة و أبو هريرة أسلم و قدم المدينة و النبي صلى الله عليه و سلم بخيبر و عليها سباع بن عرفطة الغفاري فصلى مع سباع الغداة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه يقرأ { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا } ـ الآية و كان عمرو بن أمية الضمري خطب أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى النجاشي لرسول الله صلى الله عليه و سلم و هم بأرض الحبشة حيث حمل كتاب النبي صلى الله عليه و سلم فزوجها النجاشي من رسول الله صلى الله عليه و سلم على مهر أربعمائة من عنده و كان الذي زوجها خالد بن سعيد بن العاص و بعثها النجاشي مع من بقي من المسلمين بأرض الحبشة إلى المدينة في سفينتين فلما بلغوا الجار ركبوا الظهر حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم عند انصرافه من خيبر و رد رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته علي أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول و قدم عمرو بن العاص زائرا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و مسلما عليه من عند النجاشي و كان قد أسلم بأرض الحبشة و معه عثمان بن طلحة العبدري و خالد بن الوليد بن المغيرة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشير بن سعد سرية إلى بني مرة في ثلاثين رجلا فقتلوا و رجع وحده إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر الصديق سرية إلى نجد و معه سلمة بن الأكوع
و بعث صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح في رمضان في مائة و ثلاثين رجلا فأغاروا عليهم و استاقوا النعم و الشاء و جاءوا بها إلى المدينة ونذروا لخروج العدو خلفهم فجاء السيل و حال الوادي بينهم و بين المسلمين و رجعوا إلى المدينة بالغنائم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب سرية في ثلاثين رجلا إلى أرض هوزان فخرج معه بدليل من بني هلال فكانوا يسيرون بالليل و يكمنون بالنهار حتى ملكوا هوازن و نذر القوم و هربوا و لم يلق عمر كيدا ثم رجع
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشير بن سعد إلى جناب في شوال معه حسيل بن نويرة فأصابوا نعما و انهزم جمع عيينة بن حصن إلى المدينة
ثم أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعتمر في ذي القعدة عمرة القضاء لما فاتهم من العام الأول من عمرة الحديبية و عزم أن ينكح ميمونة فبعث أبا رافع و رجلا من الأنصار من المدينة إلى ميمونة ليخطبها له ثم أحرم و ساق سبعين بدنة في سبعمائة رجل و استعمل على المدينة ناجية بن جندب الأسلمي و تحدثت قريش أن محمدا و أصحابه في عسر و جهد و حاجة فقدم صلى الله عليه و سلم مكة و عبد الله بن رواحة أخذ بخطام ناقته يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله )
( يا رب إني مؤمن بقيله ... أعرف حق الله في قبوله )
( نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله )
و اصطفت قريش عند دار الندوة لينظروا إليه و إلى أصحابه فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد اضطبع بردائه و أخرج عضده اليمنى و قال : [ رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ] ! ثم استلم الركن فخب ثلاثا و مشى أربعا و خب المسلمون معه و استلم الركن و هرول بين الصفا و المروة ليرى المشركون أن به قوة ثم حلق و نحر البدن فكانت البدنة عن عشرة و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثلاثا و تزوج ميمونة بها و هي حل و هو حرام فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود في نفر من قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة و قالوا : إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ! فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة بالمسلمين و خلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها و هما حلالان ثم رجع إلى المدينة
ثم بعث صلى الله عليه و سلم بعد رجوعه من مكة بخمسين رجلا ابن أبي العوجاء السلمي في سرية إلى بني سليم فلقيهم بنو سليم على حرة فأصيب أصحابه و نجا هو بنفسه فقدم المدينة
[ حدثنا أحمد بن علي بن المثنى التميمي بالموصل ثنا عبد الواحد بن غياث ثنا حماد بن سلمة عن قتادة و ثابت و حميد عن أنيس قال : غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ! سعر لنا فقال : إن الله هو القابض و الباسط المسعر الرزاق و إني أرجو أن ألقى الله و ليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس و لا مال ]
قال : في أول هذه السنة غلا السعر على المسلمين فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم يسعر لهم فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك ثم قال : [ لا تباغضوا و لا تحسدوا و لا تدابروا و كونوا عباد الله إخوانا ] ثم قال : [ لا يسوم الرجل على سوم أخيه و لا يبيع حاضر لباد دعو الناس يرزق بعضهم من بعض ]
ثم طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم سودة بنت زمعة فقعدت له على طريقه بين المغرب و العشاء ثم قالت : يا رسول الله ! ارجعني فو الله ما بي حب الرجال ! لكني أحب أن أحشر في أزواجك و يومي لعائشة ! فردها رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم توفيت زينب بنت رسول الله غسلتها سودة بنت زمعة و أم سلمة بنت أبي أمية زوجتا رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الليثي سرية إلى بني ليث في بضعة عشر رجلا فقتل مقاتلهم و سبى ذراريهم و ساق نعمهم و مواشيهم إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص إلى جيفر و عباد ابني الجلندي بعمان فصدقا بالنبي صلى الله عليه و سلم و اقرأ بما جاء به و صدق عمرو بن العاص أموالهم و أخذ الجزية من المجوس
ثم صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم المنذر بن ساوى العبدي و كتب إليه كتابا مع العلاء بن الحضرمي [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر ابن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن كتابك جاءني و رسلك و أنه من صلى صلاتنا و استقبل قبلتنا فإنه مسلم له ما للمسلم و عليه ما على المسلم و من أبى فعليه الجزية فصالحهم العلاء بن الحضرمي على أن على المجوس الجزية لا تؤكل ذبائحهم و لا تنكح نساؤهم ]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم كعب بن عمير الغفاري سرية في خمسة عشر رجلا حتى انتهى ذات أطلاح من ناحية الشام قريبا من مغار و كانوا من قضاعة فوجد بها جمعا كثيرا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا و قتلوا أصحاب كعب جميعا و نجا هو بنفسه حتى قدم المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم شجاع بن وهب سرية إلى بني عامر قبل نجد في أربعة و عشرين رجلا فأغار عليهم فجاءوا نعما و شاء فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا و نفلهم النبي صلى الله عليه و سلم بعيرا بعيرا
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة إلى مؤتة ناحية الشام فأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا و قال : [ إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس و إن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ] و تجهز الناس معه فخرج معه قريبا من ثلاثة آلاف من المسلمين و مضى حتى نزل معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم فشجع الناس عبد الله بن رواحة و قال : يا قوم ! و الله إن التي تكرهون هي التي خرجتم من أجلها ـ الشهادة ! و لا نقاتل الناس بعدد و لا قوة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين إما ظهور و إما شهادة فقال الناس : قد و الله صدق ابن رواحة ! ثم رحلوا فلما كانوا بالقرب من بلقاء لقيهم جموع هرقل في الروم فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فتعبأ لهم المسلمون و جعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة و على ميسرتهم رجلا من الأنصار من بني سعد بن هريم يقال له عبادة ابن مالك ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى ألحمه القتال فاقتحم عن فرسه الشقراء و عرقبها و قاتل حتى قتل و فيه اثنتان و سبعون ما بين ضربة بالسيف و طعنة بالرمح ثم أخذ عبد الله بن رواحة الراية و تقدم بها و هو على فرسه فقاتل حتى قتل و أخذ الراية ثابت بن أقرم و قال : يا معشر المسلمين ! اصطلحوا على رجل منكم قالوا : أنت قال : ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ خالد الراية و دافع القوم و حاشى بهم ثم انصرف بالناس فنعى رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس جعفر بن أبي طالب و زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة قبل أن يجيء خبرهم ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ] و قدم خالد بن الوليد بالمسلمين فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون و الصبيان يحثون على الجيش التراب و يقولون : أفررتم في سبيل الله ! و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ليسوا بالفرارين و لكنهم الكرارون ]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل و هم قضاعة و كانت أم العاص بن وائل قضاعية فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتألفهم بذلك فخرج في سراة المهاجرين و الأنصار ثم استمد رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي عبيدة ابن الجراح على المهاجرين و الأنصار فيهم أبو بكر و عمر فلما اجتمعوا و اختلف أبو عبيدة و عمرو بن العاص في الإمامة فقال المهاجرون : أنت أمير أصحابك و أبو عبيدة أميرنا فأبى عمرو بن العاص و قال : أنتم لي مدد فقال أبو عبيدة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي : [ إذا قمت على أصحابك فتطاوعا و إنك إن عصيتني لأطيعنك ] فأطاعه أبو عبيدة بن الجراح و كانوا يصلون خلف عمرو بن العاص و فيها صلى بهم و هو جنب فلما قدموا على رسول الله أخبره الخبر فقال عمرو : لقيت من البرد شدة و إني لو اغتسلت خشيت الموت ! فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمرو : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قال الله { و لا تقتلوا أنفسكم } ـ الآية
و في هذا الشهر كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خزاعة بن بديل و بشر و سروات بني عمرو يدعوهم إلى الله و يعرض عليهم الإسلام
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا قتادة سرية إلى غطفان في ستة عشر رجلا فبيتوهم و أصابوا نعما و شياه و رجعوا إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة من المهاجرين و الأنصار قبل جهينة و زودهم جراب تمر فأصابهم جوع شديد و كان أبو عبيدة يعطيهم حفنة حفنة ثم أعطاهم تمرة تمرة ثم ضرب لهم البحرة بدابة يقال لها العنبر فأكلوا منها شهرا ثم أخذ أبو عبيدة ضلعا فنصبه فمر راكب البعير تحته فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال : [ هو رزق رزقتموه من الله هل عندكم منه شيء ] ؟ و سمى هذا الجيش جيش الخبط و ذلك أنهم جاعوا فكانوا يأكلون الخبط حتى صارت أشداقهم كأشداق الإبل
ثم استشار عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لي أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني ؟ قال : [ إن شئت حبست أصلها و تصدقت بها ] فحبس عمر أصلها و تصدق بها ـ و لا تباع و لا توهب و لا تورث ـ في الفقراء و الغرباء و ما بقي أنفق في سبيل الله و ابن السبيل لا جناح على وليها أن يأكل منها بالمعروف و أن يعطي طريفا عنه غير متمول فيه ثم إن بكر بن عبد مناة بن كنانة خرجت على خزاعة و هم على ماء لهم بأسفل مكة فقاتلوا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك قال للمسلمين : [ كأنكم بأبي سفيان قد قدم لتجديد العهد بيننا ] ! و كان بديل بن ورقاء بالمدينة فخرج إلى مكة راجعا فلما بلغ عسفان لقيه أبو سيفان و كانت قريش قد بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لتجديد العهد فقال له أبو سفيان : من أين أقبلت يا بديل ؟ قال : سرت إلى خزاعة قال : جزت بمحمد ؟ قال : لا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم طوته عنه فقال : يا بنيتي ! ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه ؟ قالت : هذا فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنت رجل مشرك نجس ! فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أنا بفاعل ثم خرج حتى أتى عمر فكلمه فقال عمر : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ! و الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم بهم ثم خرج أبو سفيان حتى دخل على علي بن أبي طالب و عنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندها الحسن ابنها يدب فقال : يا علي ! إنك أمس القوم بي رحما و أقربهم منى قرابة و قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت اشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ويحك يا أبا سفيان ! لقد عزم رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال : هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت : ما بلغ ذلك ابني أن يجير بين الناس قال : يا أبا الحسن ! إني أرى الأمور قد اشتدت علي ما تنصح لي ؟ قال : و الله ! ما أعلم شيئا يغني عنك و لكن قم فأجر بين الناس و الحق بأرضك قال : و ترى ذلك يغني عني شيئا ؟ قال : و الله ما أدري ! فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ! إني قد أجرت بين الناس ـ ثم خرج فلما قدم على قريش مكة قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمدا فكلمته قال : فو الله ما رد علي بشيء ! ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم و قد أشار علي برأي صنعته فو الله ! ما أدري هل يغنيني شيئا أم لا ! قالوا : و بما ذا أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت قالوا : فهل أجاز محمد ذلك ؟ قال : لا قالوا : ويحك ! و الله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك ! و الله ما يغني عنك ما فعلت !
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسير إلى مكة و أمرهم بالجد و التهيؤ و قال : [ اللهم ! خذ العيون و الأخبار عن قريش ] فلما صح ذلك منه و من المسلمين كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبر بالذي قد أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أعطاه امرأة من مزينة و جعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت و أخبر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بما فعل حاطب فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام و قال : أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قدمنا عليه فخرجا حتى أدركاها بالحليفة فاستنزلا و التمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي : إن أحلف بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كذب و لا كذبنا إما أن تخرجي الكتاب و إلا نكشفنك فلما رأت الجد قالت : أعرض عني فأعرض عنها علي فحلت قرون رأسها و استخرجت الكتاب فدفعته إليه فجاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حاطبا فقال : [ يا حاطب ! ما حملك على هذا ] ؟ قال : يا رسول الله ! و الله إني لمؤمن بالله و رسوله ما غيرت و لا بدلت و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا عشيرة و كان لي بينهم أهل و ولد فقال عمر : دعني أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و ما يدريك يا عمر ! لعل الله قد اطلع يوم بدر إلى أهل بدر فقال : اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة و استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عبيد بن خلف الغفاري و ذلك لعشر مضين من رمضان فصام رسول الله صلى الله عليه و سلم فصام المسلمون و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرة آلاف من المسلمين و لم يعقد الألوية و لا نشر الرايات فلما بلغ الكديد ـ و الكديد ما بين عسفان و أمج أفطر و أفطر المسلمون و قد كان عيينة بن حصن الفزاري لحق رسول الله بالعرج و لحقه الأقرع بن حابس التميمي في نفر من أصحابهما فقال عيينة : يا رسول الله ! و الله ما أرى آلة الحرب و لا تهيئة الإجرام فأين تتوجه ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ حيث شاء الله ] فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم مر الظهران قد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يدرون ما هو فاعل خرج أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار و ينظرون هل يرون خبرا أو يسمعون به فقال العباس بن عبد المطلب : يا صباح قريش ! و الله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم عنوة قبل أن يأتوه فاستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ! فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء و مضى عليها حتى أتى الأراك و قال هل أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخرجوا إليه و يستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فبينما هو يسير إذ سمع كلام أبي سفيان و هو يقول : و الله ما رأيت كالليلة نيرانا قط و عسكرا فقال بديل بن ورقاء : هذه و الله نيران خزاعة ! فقال أبو سفيان : خزاعة و الله الأم و أذل من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها ! فلما عرف العباس صوتهم قال : يا أبا حنظلة ! فعرف أبو سفيان صوته فقال : أبو الفضل ؟ قال : نعم قال : ما لك ؟ قال فداك أبي و أمي ويحك يا أبا سفيان ! هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قال : واصباح قريش ! قال : فما الحيلة ـ فداك أبي و أمي ؟ قال العباس : أما و الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ! فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه و سلم فركب أبو سفيان خلف العباس و رجع صاحباه إلى مكة فكلما مر العباس بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ و إذا رأوه قالوا : بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم و العباس عليها عمه فلما مر بنار عمر ابن الخطاب قال : من هذا ؟ و قام إليه فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد و لا عهد ! ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم و ركض العباس بالبغلة فسبقه إلى رسول الله فاقتحم العباس على باب القبة و دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل عليه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد ! فدعني أضرب عنقه فقال العباس : يا رسول الله ! إني قد أجرته ثم جلس العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكثر عمر في شأن أبي سفيان فقال العباس : مهلا يا عمر ! أما والله لو كان من رجال بنيي عدي بن كعب ما قلت هذا و لكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ! فقال عمر : مهلا يا عباس : فو الله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ! و ما بي إلا أني عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذهب به يا عباس إلى رحلك إذا أصبحت فأتني به ] فذهب به العباس إلى رحله فبات عنده فلما أصبح غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ] ؟ قال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أكرمك و أوصلك ! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا ! قال : [ ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ] ؟ قال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أكرمك و أوصلك ! أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن فقال العباس : ويحك ! أسلم قبل أن يضرب عنقك فتشهد أبو سفيان شهادة و أسلم فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال : [ نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن ] ! فلما أراد أبو سفيان أن ينصرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عباس احبسه احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ] فخرج به العباس فحبسه حيث أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم و مرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان : من هؤلاء يا عباس ؟ فيقول العباس : سليم فيقول أبو سفيان : ما لي ولسليم ! ثم مرت به القبيلة فقال : من هؤلاء ؟ فقال العباس : مزينة قال : ما لي و لمزينة ـ حتى مرت القبائل لا تمر به قبيلة إلا سأله عنها فإذا أخبره قال : ما لي و لبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها المهاجرون و الأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين و الأنصار ! قال : و لا حد بها و لا قبل و لا طاقة يا أبا الفضل ! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ! فقال العباس : يا أبا سفيان ! إنه لنبوة ! قال : فنعم إذا قال العباس : أرحلك إلى قومك فخرج أبو سفيان حتى إذا دخل مكة صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ! هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ! فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه و قالت : اقتلوا
الحميت الدسم الأحمش ! فقال أبو سفيان : لا يغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! قالوا : قبحك الله ! و ما تغني دارك ؟ قال : و من أغلق عليه بابه فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم و إلى المسجد
و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذا طوى فرق جنوده فبعث عليا من ثنية المدنيين و بعث الزبير من الثنية التي تطلع على الحجون و بعث خالد بن الوليد من الليط و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم طريق أذاخر أمرهم أن لا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن زمعة و سهيل ابن عمرو قد جمعوا جماعة من القريش و الأحابيش بالخندمة ليقاتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلقيهم خالد بن الوليد بمن معه من المسلمين ناوشوهم فقتل منهم خالد بن الوليد ثلاثة وعشرين رجلا و هو معهم و قتل من المشركين كرز بن جابر الفهري فمن ههنا اختلف الناس في فتح مكة عنوة كان أم صلحا
فلما بلغ أبا قحافة قدوم النبي صلى الله عليه و سلم مكة قال لابنة له من أصغر ولده : أي بنيتي ! اظهري بي على ظهر قبيس و كان نظره قد كف إذ ذلك فقال : أي بنية ! ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا قال : تلك الخيل ثم قالت : والله قد انتشر السواد ! فقال : والله لقد دفعت الخيل سرعى إلى بيتي ! فانحبطت به و تلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أذاخر مكة على رأسه مغفر من حديد عليه عمامة سوداء و لم يلق أحد من المسلمين قتالا إلا ما كان من خالد بن الوليد و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل ستة أنفس من المشركين قبل قدومهم إلى مكة و قال : [ أي موضع رأيتم هؤلاء فاقتلوهم ] : عبد الله بن سعد بن أبي سرح و عبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب و الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي و مقيس بن صبابة الليثي و سارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب فأما عبد الله بن سعد بن ابي سرح ففر إلى عثمان بن عفان و كان أخاه في الرضاعة فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمنه و أما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب و أما ابن خطل فتعلق بأستار الكعبة يلوذ بها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقتلوه فقتله سعيد بن المخزومي و أبو بررة تحت الأستار اشتركا في دمه و أما مقسيس فقتله نميلة بن عبد الله ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لايقتل قرشي صبرا بعد اليوم ] ! و نزل النبي صلى الله عليه و سلم الأبطح و ضرب لنفسه فيه قبة و جاءته أم هانئ بنت أبي طالب فوجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم يغتسل في جفنة فيها أثر العجين و فاطمة ابنته تستره بثوب فلمل اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إليها فقال مرحبا مرحبا و أهلا بأم هانئ ! ما الذي جاء بك ؟ قالت رجلان من أصهاري من بني مخزوم و قد أجرتهما و أراد علي قتلهما ـ و كانت أم هانئ تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أجرنا من أجرت يا أم هانئ ] ! ثم إن عمير بن وهب قال : يا رسول الله ! إن صفوان بن أمية سيد قومه و قد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فآمنه قال : هو آمن قال : يا رسول الله ! أعطني شيئا يعرف به أمانك فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عمامته التي دخل بها مكة فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان بن أمية بجدة و هو يريد أن يركب البحر فقال : يا صفوان فداك أبي و امي ! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ! فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه و سلم جئتك به قال : ويلك ! اغرب عني قال : أي صفوان فداك أبي و أمي ! أوصل الناس و أبر الناس و أحلم الناس و خير الناس ابن عمتك رسول الله صلى الله عليه و سلم عزه عزك و شرفه شرفك و ملكه ملكك قال صفوان : و يلك ! إني أخافه على نفسي فأعطاه العمامة و خرج به معه فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! هذا زعم أنك قد آمنتني قال : [ صدق ] قال : فاجعلني بالخيار شهرين قال : [ أنت بالخيار أربعة أشهر ]
ثم جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و طاف بالبيت سبعا على بعيره يستلم الركن بمحجنه ثم طاف بين الصفا و المروة ثم دعا عثمان بن طلحة الحجبي فأخذ مفتاح الكعبة و فتحه ثم دخله و صلى فيه ركعتين بين الأسطوانتين بينه و بين الجدار ثلاثة أذرع ثم خرج فوقف على بابها و هو يقول : [ لا إله إلا الله و حده لا شريك له صدق و عده و نصر عبده و هزم الأحزاب و حده ألا ! كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة و سقاية الحاج ألا ! و قتيل الخطأ مثل العمد بالسوط و العصا فيه الدية مغلظة مائة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها يا معشر قريش ! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها بالآباء الناس من آدم و آدم من تراب ] ثم تلا هذه الآية { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الآية ثم قال : [ يا أهل مكة ! ما ترون أني فاعل بكم ؟ ] قالوا : خيرا أخ كريم و ابن أخ كريم ثم قال : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء ] ! فقام إليه علي بن أبي طالب و مفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ! اجعل الحجابة مع السقاية فلتكن إلينا جميعا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أين عثمان بن طلحة الحجبي ؟ ] فدعاه فقال : [ هل لك مفتاحك ] ؟ فدفعه إليه
فلما كان الغد من فتح مكة عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه و هو مشرك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : [ أيها الناس ! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك دما ] ثم قال : [ إن الله حبس عن مكة الفيل و سلك عليها رسوله و إنها لم تحل لأحد قبلي و إنما أحلت لي ساعة من نهار و إنها لا تحل لأحد بعدي لا ينفر صيدها و لا يختلي شوكها و لا يحل ساقطتها إلا لمنشد ] فقال العباس : إلا الإذخر ! فإنا نجعله في بيوتنا و قبورنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إلا الإذخر ] و كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل و فاخنة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية فلما أسلمتا قالت أم حكيم لرسول الله صلى الله عليه و سلم و سألته أن يستأمن عكرمة فآمنه و قد كان خرج إلى اليمن فلحقته باليمن حتى جاءت به وأسلم عكرمة و صفوان فأقرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم عندهما على النكاح الأول الذي كانا عليه
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم كل من كان في بيته صنم أن يكسره فكسروا الأصنام كلها و كسر خالد بن الوليد العزى ببطن نخلة و هدم بيته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ تلك العزى لا تعبد أبدا ] و كسر عمرو بن العاص سواع ثم قال النبي للسادن : كيف رأيت ؟ قال : أسلمت لله و كسر سعد بن زيد الأشهلي المناة بالمشلل
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم حول مكة الناس يدعون إلى الله و لم يأمرهم بقتال و كان ممن بعث خالد بن الوليد وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا و لم يبعثه مقاتلا و معه سليم و مدلج و قبائل من غيرهم فلما نزلوا بغميصاء و هي من مياه بني جذيمة و كانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد أبا عبد الرحمن بن عوف و الفاكه بن المغيرة كانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما و أخذوا أموالهما فلما كان الإسلام بلغ خالد بن الوليد إليهم و رآه القوم أخذوا السلاح فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن القوم أسلموا فوضع القوم السلاح لقول خالد فلما وضعوها أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع يديه إلى السماء و قال : [ اللهم أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب فقال : يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم و انظر في أمرهم و اجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ] فخرج علي حتى جاءهم و معه مال قد بعثه به رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ودى لهم الدماء و ما أصيب من الأموال حتى لم يبق لهم شيء من دم و لا مال إلا وداه و بقيت معه بقية فقال لهم علي : بقي لكم من دم أو مال لم يود إليكم ؟ قالوا : لا قال : فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا رسول الله صلى الله عليه و سلم مما لا يعلم و لا تعلمون ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره قال : [ أصبت ]
ثم إن هوزان لما سمعت بجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخوله مكة اجتمعت مع ثقيف و جشم و سعد بن بكر و كان في بني جشم دريد بن الصمة و هو شيخ كبير ليس فيه إلا التيمن برأيه و بعلمه بالحرب و في ثقيف قارب بن الأسود بن مسعود و في بني بكر سبيع بن الحارث و كان جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف فأجمع مالك بالناس على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فساروا حتى إذا أتوا بأوطاس و معه الأموال و الأبناء و النساء فقال دريد بن الصمة : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس قال : نعم مجال الخيل ! لا حزن و لا سهل دهس مالي أسمع رغاء الإبل و نهاق الحمير و بكاء الصغير و يعار الشاء ! قالوا : ساق مالك بن عوف بأوطاس مع الناس أموالهم و نساءهم وأبناءهم فقال : أين مالك ؟ فقيل : هذا مالك فقال دريد يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ما لي أسمع رغاء البعير و نهاق الحمير وبكاء الصغير فقال مالك : سقت مع الناس أموالهم و أبناءهم و نساءهم قال : و لم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله و ماله ليقاتل عنهم فانقض به فقال : و هل يرد القوم شيء ! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه و رمحه و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك ما فعلت كعب و كلاب ؟ قال مالك لم يشهد منهم أحد قال : غاب الحد و الجد لو كان علاء و رفعة لم تغب عنه كعب و لا كلاب يا مالك ! لا تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم في متمنع بلادهم و عليا قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك و إن كانت عليك ألفاك ذلك و قد أحرزت مالك و أهلك قال : تلك و الله لا أفعل لتطيعنني يا معشر هوزان أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري و كره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي قالوا : أطعناك فقال مالك للقوم : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا عليهم شد رجل واحد و جاء الخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فدخل في الناس فأقام فيهم حتى سمع و علم من كلام مالك و أمر هوزان ما كان و ما أجمعوا له ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره
و قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عند صفوان بن أمية أدرعا فأرسل إليه فقال : [ يا أبا أمية ! أعرنا سلاحك نلقى فيها عدونا ] فقال صفوان : أغضبا ؟ قال : لا بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك قال : ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح و سأله النبي صلى الله عليه و سلم أن يكفيه حملها فحملها صفوان لرسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة معه ألفان من أهل مكة و عشرة آلاف من أصحاب الذين فتح الله بهم مكة و استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية أميرا و كان مقامه صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة ليلة يقصر فيها الصلاة فبينا الناس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يسيرون إذ مروا بسدرة قال أبو قتادة الليثي : يا رسول الله ! اجعل هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ـ و كان للكفار سدرة يأتونها كل سنة و يعقلون عليها أسلحتهم و يعكفون عليها و يذبحون عندها ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله أكبر ! قلتم و الذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل : { إجعل لنا إلها كما لهم آلهة } ! لتركبن سنن من قبلكم ]
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم وادي حنين و انحدر المسلمون في الوادي قرب الصبح و هو واد أجوف و قد كمن المشركون لهم في شعابه و مفارقه فأعدوا للقتال فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ينحدر و المسلمون بالوادي إذ اشتدت عليهم الكتائب من المشركين شد رجل واحد و انهزم المسلمون راجعين لا يعرج أحد و انحاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات اليمين ثم قال : [ أين أيها الناس ! هلموا أنا رسول الله ! أنا محمد بن عبد الله ] ! و احتملت الإبل بعضها بعضا و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رهط من المهاجرين و الأنصار و أهل بيته فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعطفون على شيء قال : [ يا عباس ! اصرخ : يا معشر الأنصار ! يا أصحاب السمرة ] ! فنادى العباس و كان امرأ جسيما شديد الصوت : يا معشر الأنصار ! يا أصحاب السمرة ! فأجابوا لبيك لبيك ! و كان الرجل من المسلمين يذهب ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ثم يأخذ سيفه و ترسه ثم يقتحم عن بعيره فيخلي سبيل بعيره و يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى اجتمع على رسول الله صلى الله عليه و سلم مائة رجل و استقبلوا الناس و قاتلوا و كانت الدعوة أول ما كانت : يا للأنصار ! ثم جعلت أخيرا فقالوا : يا للخزرج ! و كانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله صلى الله عليه و سلم في ركابه و نظر إلى مجتلد القوم فقال : [ الآن حمي الوطيس ] ! و إذ رجل من هوازن على جمل أحمر في يده راية سوداء و في رأسه رمح طويل أمام الناس و هوازن خلفه فإذا أدرك طعن برمحه و إذا فاته رفعه لمن وراءه و يتبعونه فأهوى إليه علي بن أبي طالب و رجل من الأنصار يريدانه فأتاه علي من خلفه فضرب الجمل فوقع على عجزه و وثبت الأنصار على الرجل فضربوه ضربة أطن بها قدمه بنصف ساقه و اختلف الناس و كان شعار المهاجرين يومئذ : يا بني عبد الرحمن ! و شعار الخزرج : يا بني عبد الله ! و شعار الأوس : يا بني عبيد الله
و كانت أم سليم بنت ملحان مع زوجها أبي طلحة فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي حازمه وسطها و معها جمل أبي طلحة فقالت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله [ صلى الله عليه و سلم ] ! اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أويكفى الله يا أم سليم ] ! و إنها يومئذ لحبلى بعبد الله بن أبي طلحة و معها خنجر فقال لها أبو طلحة : ما هذا الخنجر معك يا أم سليم ؟ قالت : خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجت بطنه فقال أبو طلحة : يا رسول الله ! ألا تسمع ما تقوله أم سليم
و رأى أبو قتادة رجلين يقتتلان : مسلم و مشرك فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه فأتاه أبو قتادة فضرب يده فقطعها فاعتنقه المشرك بيده الثانية و صدره فقال أبو قتادة : و الله ! ما تركني حتى وجدت ريح الموت ! فلولا أن الدم تزفه يقتلني فسقط و ضربته فقتلته ثم انهزم المشركون و أخذ المسلمون يكتفون الأسارى فلما وضعت الحرب أوزارها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] فقال رجل من أهل مكة : يا رسول الله ! لقد قتلت قتيلا ذا سلب و أجهضني عنه القتال فلا أدري من سلبه ! فقال رجل من أهل مكة : يا رسول الله ! أنا سلبته فأرضه مني عن سلبه فقال أبو بكر الصديق : أيعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه سلبه ! رد عليه سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق أبو بكر رد عليه سلبه ] فرد عليه قال أبو قتادة : فبعته فاشتريت به مخرفا في المدينة لأنه أول مال تأثلته في الإسلام
و كان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين قارب بن الأسود فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة و هرب و كان على راية بني مالك ذو الخمار فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله و أقامها للمشركين فقتل عثمان و انحاز المشركون منهزمين إلى الطائف و عسكر بعضهم بأوطاس
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الخيول في آثارهم فأدرك ربيعة بن رفيع دريد ابن الصمة و هو في شجار على راحلته فأخذ بخطام جمله و هو يظن أنه امرأة فلما أناخه إذ شيخ كبير و إذا هو دريد و لا يعرفه الغلام فكان ربيعة غلاما قال دريد ماذا تريد بي قال : أقتلك ! قال : و من أنت ؟ قال : أنا ربيعة بن رفيع السلمي و ضربه ربيعة بسيف فلم يقدر شيئا فقال له دريد : بئس ما أسلحتك أمك ! خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار ثم أضرب و أرفع عن العظام و أخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة بسيفه
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسبايا و الأموال فجمعت بالجعرانة و بعث في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك الناس بعض من انهزم فساروا يرمون كل من لقوه و رمي أبا عامر بسهم فقتل و أخذ برايته بعده أبو موسى فقاتلهم ففتح له و هزمهم الله
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف و فيها مالك بن عوف و قد عسكر جماعة من المشكرين و على مقدمة خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة مقتولة فقال : [ من قتل هذه ] ؟ قال : خالد بن الوليد فقال لرجل : [ أدرك خالدا و قل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تقتلوا امرأة و لا ولدا و لا عسيفا ] فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم الطائف نزل قريبا فلم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطا فضرب معسكره رسول الله صلى الله عليه و سلم عند مسجده الذي بالطائف اليوم و حاصرهم بضع عشرة ليلة و أمر بقطع أعنابهم و قاد رجلا من هذيل من بني ليث وهو أول دم أقيد في الإسلام ثم نصب المنجنيق على حصنهم حتى فتحه الله عليه و كان في أيامه يقصر الصلاة
و قد كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ يقال له ماتع مخنث يدخل على نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول لخالد بن الوليد : يا خالد ! إن فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم غدا فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع و تدبر بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا يفطن لما سمع به ثم قال لنسائه : لا يدخلن عليكن ] ! فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف إلى الجعرانة فقال له سراقة بن جعشم المدلجي : يا رسول الله ! ترد الضالة حوضي فهل فيه أجر إن أنا سقيتها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في كل كبد حري أجر ] و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن وطء الحبالى حتى يضعن و بينما النبي صلى الله عليه و سلم قاعد بالجعرانة و معه ثوب و قد أظل به مع ناس من أصحابه إذ جاءه أعرابي ـ عليه جبة ـ متضمخ بطيب فقال : يا رسول الله ! كيف ترى برجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب ؟ و إذا النبي صلى الله عليه و سلم مخمر الوجه يغط فلما سري عنه قال : [ أين الذي سألني عن العمرة آنفا ؟ ] فأتي به فقال : [ أما الطيب فاغسله عنك و أما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك ] و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم بالجعرانة بين المسلمين فأصاب كل رجل أربعا من الإبل و أربعين شاة و من كان فارسا أخذ سهمه و سهمي فرسه ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم وبرة من سنام بعيره ثم قال : [ أيها الناس ! إني و الله ما لي من فيئكم و لا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط و المخيط فإن الغلول يكون على أهله نارا و شنارا يوم القيامة ] ! فجاءه رجل من الأنصار بكبة خيوط من شعر قال : يا رسول الله ! أخذت هذه الكبة أخيط بها بردعة بعير لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما نصيبي منها فلك ] فقال : أما إذا بلغت هذه فلا حاجة لي فيها
ثم أسلم مالك بن عوف و قال : يا رسول الله ! ابعثني أضيق على ثقيف فاستعمله رسول الله صلى الله عليه و سلم على من أسلم من قومه من تلك القبائل و من تبعه من بني سليم فكان يقاتل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليهم
ثم جاء وفد هوازن راغبين في الإسلام ـ بعد أن قسم لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم السبي ـ فأسلموا
ثم أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤلفة تألفا فأعطى جويطب بن عبد العزى مائة من الإبل و أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل و أعطى صفوان ابن أمية مائة من الإبل و أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل و أعطى مالك بن عوف مائة من الإبل و أعطى عباس بن مرداس السلمي شيئا دونهم فقال فيه أبياتا و لم يعط الأنصار منها شيئا فقال قائل الأنصار : ألا ! إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد لقي قومه فانطلق سعد بن عبادة فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : يا رسول الله ! الأنصار قد وجدوا في أنفسهم مما رأوك صنعت في هذه العطايا قال : [ فأين أنت من ذلك يا سعد ] ؟ قال : ما أنا إلا رجل من قومي قال : [ فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ] فخرج سعد فنادى في قومه : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن تجتمعوا في هذه الحظيرة فقاموا سراعا و قام سعد على باب الحظيرة فلم يدخلها إلا رجل من الأنصار و قد رد أناسا ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هذه الأنصار قد اجتمعت لك فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ يا معشر الأنصار ! ما مقالة بلغتني عنكم ؟ أكثرتم فيها ! ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله ؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله ؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بينكم ] ؟ قالوا : بلى قال : [ أفلا تجيبوني ] ؟ قالوا : إليك المن و الفضل قال : [ أما و الله لو شئتم لقلتم و صدقتم : جئتنا طريدا فآويناك و مخذولا فنصرناك و عائلا فآسيناك و مكذبا فصدقناك ! أوجدتم في أنفسكم من لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا و و كلتكم إلى إيمانكم أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير و تذهبون برسول الله إلى رحالكم ! فالذي نفس محمد بيده ! لو سلك الناس واديا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار و لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار إن الأنصار كرشي و عيتبي اللهم اغفر للأنصار و أبناء الأنصار و لأبناء أبنائهم ] ! فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم و قالوا : رضينا بالله و برسوله حظا و قسما و نصيبا ! ثم تفرق الأنصار و في هذه المقالة قال ذو الخويصرة : يا رسول الله ! اعدل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شقيت إن لم أعدل ] ثم علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه حتى ألجأوه إلى شجرة عظيمة و خطفت رداءه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ردوا علي ردائي فو الذي نفس محمد بيده لو كانت عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوبا و لا جبانا و لا بخيلا ]
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجعرانة معتمرا فاعتمر منها فبات بالجعرانة و استخلف على مكة عتاب بن أسيد أميرا و خلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس و يعلمهم القرآن و كانت هذه العمرة في ذي القعدة
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجعرانة يريد المدينة فسلك في وادي سرف حتى خرج على سرف ثم على مر الظهران حتى قدم المدينة في بقعة ذي القعدة
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد عذت بعظيم ! الحقي بأهلك ] و فارقها و حج بالناس عتاب بن أسيد
و ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم من مارية القبطية في ذي الحجة فوقع في قلب النبي صلى الله عليه و سلم منه شيء فجاء جبريل عليه السلام فقال : [ السلام عليك يا إبراهيم ] ! فسرى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و تنافست نساء الأنصار فيه أيتهن ترضعه فدفعه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد و زوجها ابن مبذول فكانت ترضعه و حلق رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه يوم السابع و تصدق بوزن شعره فضة على المساكين و عق عنه بكبشين و عاش ستة عشر أشهر
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن المتوكل بن أبي السري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا أن عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم اللتين قال الله لهما { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ! ثم قال : هي عائشة و حفصة ـ ثم أنشأ يسوق الحديث فقال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدناهم قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم و كان منزلي في بني أمية بن زيد في العوالي قال فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقال : ما تنكر أن أراجعك ! فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليل ! فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت : نعم و تهجره إحدانا اليوم إلى الليل قال : قد خاب من فعل ذلك منكم و خسر أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هي قد هلكت فلا تراجعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تسأليه شيئا و سليني ما بدا لك و لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم و أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منك ـ يريد عائشة قال : و كان لي جار من الأنصار و كنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فينزل يوما و أنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي و غيره و آتيه بمثل ذلك و كنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا قال : فنزل صاحبي يوما ثم أتاني عشاء فضرب على بابي ثم ناداني ؟ فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ! فقلت : و ماذا ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك و أطول ! طلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه فقلت : خابت حفصة و خسرت قد كنت أظن هذا كائنا فلما صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : لا أدري هوذا معتزل في هذه المشربة قال : فأتيت غلاما له أسود فقلت : استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إلي و قال : قد ذكرتك به و لم يقل شيئا فانطلقت حتى أتيت المسجد فإذا قوم حول المنبر جلسوا يبكي بعضهم إلى بعض قال : فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي و قال : قد ذكرتك له فصمت فرجعت ثم جلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فسكت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني و يقول : ادخل قد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر بجنبه فقلت : أطلقت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءك ؟ قال : فرفع رأسه إلي و قال : [ لا ] فقلت : الله أكبر ! لو رأيتنا يا رسول الله و كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك عليها فقالت لي : أتنكر أن أراجعك ! فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليلة ! قال : فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن و خسر ! أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ! قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فقلت : يا رسول الله ! فدخلت على حفصة فقلت لها : لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تسأليه شيئا و سليني ما بدا لك و لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم و أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منك قال : فتبسم رسول الله أخرى فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : [ نعم ] قال : فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع الله على فارس و الروم و هم لا يعبدونه قال : فاستوى جالسا ثم قال : [ أو في شك أنت يا ابن الخطاب ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ] فقلت : استغفر لي يا رسول الله ! و كان أقسم أن لا يدخلن عليهن شهرا من شدة مودجته عليهن حتى عاتبه الله
قال الزهري : [ فأخبرني عروة عن عائشة قالت : فلما مضى تسع و عشرون ليلة دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم بدأ بي فقلت : يا رسول الله ! إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا و إنك دخلت من تسع و عشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع و عشرون ثم قال : يا عائشة ! إني ذاكر لك أمرا فلا أراك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ! قلت : ثم قرأ علي الآية { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا و زينتها } ـ إلى قوله : { عظيما } قالت عائشة : قد علم و الله أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله و رسوله و الدار الآخرة ]
قال : في أول هذه السنة هجر رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه شهرا و كان السبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح ذبحا فأمر عائشة أن تقسم بين أزواجه فأرسلت إلى زينب بنت جحش نصيبها فردته قال : [ زيديها ] فزادتها ثلاثا كل ذلك ترده فقالت عائشة : قد أقمأت وجهك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنتن أهون على الله من أن تغضبن لا أدخل عليكن شهرا ] ! فدخل عليهن بعد مضي تسع و عشرون يوما
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علقمة بن مجزز في صفر إلى الحبشة فانصرف و لم يلق كيدا
و في هذه السرية أمر علقمة أصحابه أن يوقدوا نارا عظيما ثم أمرهم أن يقتحموا فيها فتحرزوا و أبوا ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ]
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد في ربيع الأول و نزل على رويفع بن ثابت البلوي
و قدم وفد بني ثعلبة بن منقذ و فيها وفد سعد هذيم
و قدم الداريون من لخم عشرة أنفس : هانئ بن حبيب و الفاكه بن النعمان و حبلة بن مالك و أبو هند بن بر و أخوه الطيب بن بر و تميم بن أوس و نعيم ابن أوس و يزيد بن قيس و عروة بن مالك و أخوه مرة بن مالك و أهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم راوية خمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله قد حرم الخمر ] فأمروا ببيعها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ]
و قدم وفد بني أسد فقالوا : يا رسول الله ! قدمنا عليك قبل أن ترسل إلينا رسولا فنزلت هذه الآية { يمنون عليك أن أسلموا }
و قدم عروة بن مسعود بن معتب الثقفي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم ثم استأذن أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هم قاتلوك ] ! قال : أنا أحب إليهم من بكار أولادهم فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى قومه و دعاهم إلى الإسلام و أذن بالصبح على غرفة فرماه رجل من بني ثقيف بسهم فقتله
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الضحاك بن سفيان الكلابي إلى القرطاء سرية فأصابهم بغدير الزج و كتب إليهم النبي صلى الله عليه و سلم كتابا فأبوا و رقعوا كتابهم بأسفل دلوهم
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب سرية إلى الفلس من بلاد طيء في ربيع الآخر فأغار عليهم و سبى منهم نساء فيهن أخت عدي بن حاتم
ثم نعى رسول الله صلى الله عليه و سلم النجاشي للناس في رجب و قال : [ صلوا على صاحبكم ] فقام فصلى هو و أصحابه و صفوا خلفه و كبر عليه أربعا
في شدة الحر و جدب من البلاد حين طاب الثمار و أحبت الظلال و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قلما يخرج في غزوة إلا ورى بغيرها غير غزوة تبوك هذه فإنه أمر التأهب لها لبعد الشقة و شدة الزمان و حض رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الغنى على النفقة و الحملان في سبيل الله و رغبهم في ذلك و حمل رجال من أهل الغنى و احتسبوا و أنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم البكاؤن و هم سبعة نفر فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانوا أهل حاجة فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } و جاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فاعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعذرهم و هم بنو غفار و قد كان نفر من المسلمين أبطأ بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى تخلفوا عنه من غير شك و لا ارتياب منهم كعب بن مالك أخو بني سلمة مرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف و هلال بن أمية أخو بني واقف و أبو خيثمة أخو بني سالم و كانوا نفر صدق و لا يتهمون في إسلامهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة و ضرب معسكره على ثنية الوداع و ضرب عبد الله بن أبي سلول معسكره أسفل منه و خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب على أهله و أمره بالإقامة فيهم و استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أخا بني غفار فقال المنافقون : و الله ما خلفه علينا إلا استثقالا له فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل بالجرف و قال : يا نبي الله ! زعم المنافقون أنك إنما خلفتني استثقالا ؟ فقال : [ كذبوا و لكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك ! ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ] ! فرجع علي إلى المدينة و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم و تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين فلما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجر استقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تشربوا من مائها شيئا و لا تتوضأوا منه للصلاة و ما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ] ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل الله السحاب فأمطر حتى ارتوى الناس و توضأوا ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل في بعض المنازل فضلت ناقته فخرج أصحابه في طلبها فقال بعض المنافقين : أليس محمد يزعم أنه نبي و يخبركم بخبر السماء و هو لا يدري أين ناقته ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الله ما أعلم إلا ما علمني الله ! و قد علمني أنها في الوادي بين شعب كذا و كذا قد حبستها شجرة بزمامها ] قال : فانطلقوا حتى تأتوا بها فذهبوا فجاءوا بها ثم سار رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون : و الله يا رسول الله ! تخلف فلان فيقول : دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم حتى قيل له : يا رسول الله ! تخلف أبو ذر و أبطأ به بعيره فقال : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم فلما أبطأ على أبي ذر بعيره أخذ متاعه على ظهره و ترك بعيره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه و سلم ماشيا و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ! رجل على الطريق يمشي وحده ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كن أبا ذر ! فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هذا والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله أبا ذر يعيش وحده و يموت وحده و يبعث وحده ] فانتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك فلما أتاها أتاه يحنة ابن رؤبة صاحب أيلة و صالح على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعطاه الجزية و أتاه أهل جرباء و أذرح فأعطوه الجزية و كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل كتابا و هو عندهم فكتب ليحنة بن رؤبة [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذه أمنة من الله و من محمد النبي صلى الله عليه و سلم ليحنة بن رؤبة و أهل بلده و سيارته في البر والبحر فهم في ذمة الله و ذمة محمد النبي صلى الله عليه و سلم و من كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه و إنه طيب للناس ممن أخذه و إنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه و لا طريقا يريدونه من بر و بحر ] و كتب جهيم بن الصلب بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم
و كتب لأهل جرباء و أذرح [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه و سلم لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله و أمان محمد و أن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة و الله كفيل عليهم بالنصح و الإحسان و من لجأ إليهم من المسلمين ] و قد كان أبو خيثمة أحد بني سالم رجع بعد أن خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها و بردت له ماء و هيأت له فيه طعاما فلما دخل أبو خيثمة قام على باب العريشين و نظر إلى امرأتيه و ما صنعتا له فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم في الريح و الحر و أبو خيثمة في ظلال باردة و طعام مهيأ و امرأة حسناء في ماله مقيم ! ما هذا بالنصف ! ثم قال : و الله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه و سلم ! فهيأتا له زادا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينا أبو خيثمة يسير إذ لحقه عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه و سلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعل عمير ثم سار أبو خيثمة حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كن أبا خيثمة ! فقالوا : يا رسول الله ! هو و الله أبو خيثمة ! فلما أناخ أقبل و سلم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أخبره الخبر فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و دعا له بخير ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا خالد بن الوليد و بعثه إلى أكيدر دومة و هو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة و كان ملكا عليهم و كان نصرانيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالد : إنك ستجده يصيد بقر الوحش فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صاءفة و هو على سطح له و معه امرأته فباتت البقر تحك قرونها بباب القصر فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا و الله ! قالت : فمن يترك هذا ؟ قال : لا أحد فنزل أكيدر دومة و أمر بفرسه فأسرج و ركب في نفر من أهل بيته و معه أخوه حسان فلما خرجوا بمطاردهم تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم خالد بن الوليد فقتلوا أخاه حسانا و قد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد و بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قدم به على رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل المسلمون يلمسونه بأيديهم و يعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اتعجبون من هذا ! و الذي نفس محمد بيده ! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ] ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه و سلم فحقن له دمه و صالحه على الجزية ثم خلى سبيله و رجع إلى قريته
و افتقد رسول الله صلى الله عليه و سلم كعب بن مالك فقال : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ! حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس والله ما قلت ! و الله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة و لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة و كان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب و الراكبين و الثلاثة بواد يقال له : المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى آتيه ] فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع يده فيها فجعل ينصب في يده ما شاء الله أن ينصب ثم مجه فيه و دعا الله بما شاء أن يدعو فانخرق من الماء فشرب الناس و استقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لئن بقيتم ـ أو بقي منكم ـ لتسمعن بهذا الوادي و هو أخصب ما بين يديه و ما خلفه ] و ذلك الماء فوارة تبوك اليوم
ثم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل بعض المنازل و مات عبد الله ذو البجادين فحفروا له و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في حفرته و أبو بكر و عمر يدليانه إليه و هو يقول : [ أدليا لي أخاكما ] فأدلوه إليه فلما هيأه لشقه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ! إنك قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه ] فقال عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة
و كان المسلمون يقولون : لا جهاد بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ] و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك إلى المدينة مساجد في منازله معروفة إلى اليوم فأولها مسجد تبوك و مسجد بثنية مدران و مسجد بذات الزراب و مسجد بالأخضر و مسجد بذات الخطمى و مسجد بذات البتراء و مسجد بالشق و مسجد بذي الجيفة و مسجد بالصدر و مسجد وادي القرى و مسجد الرقعة و مسجد بذي مروة و مسجد بالفيفاء و مسجد بذي خشب
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون فيهم كعب بن مالك و مرارة ابن الربيع و هلال بن أمية و غيرهم فجعلوا يعتذرون إليه و يحلفون له و كانوا بضعة و ثمانين رجلا فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل منهم على نيتهم و يكل سرائرهم إلى الله حتى جاء كعب بن مالك فسلم عليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم تبسم المغضب ثم قال : [ تعال ] ! فجاء كعب بن مالك يمشي حتى جلس بين يديه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما خلفك ! ألم تكن ابتعت ظهرك ] ؟ قال : بلى يا رسول الله ! و الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر و لقد أعطيت جدلا و إن لي لسانا و لكن و الله ! لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضين به عني و ليوشكن الله أن يسخطك علي و لئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه و إني لأرجو عقبى الله فيه لا و الله ما كان لي عذر ! و الله ما كنت قط أقوى و أيسر مني حين تخلفت عنك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق قم حتى يقضي الله فيك ] فقام و ثار معه رجال من بني سلمة و اتبعوه و قالوا : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا و لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كما اعتذر إليه المخلفون و قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك و جعلوا ينوبونه حتى أراد أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و يكذب نفسه ثم قال لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت و قال لهما مثل ما قال لك قال : و من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الواقفي
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كلام هؤلاء الثلاثة فأما مرارة و هلال فقعدا في بيوتهما و أما كعب بن مالك فكان أشب القوم و أجلدهم وكان يخرج و يشهد الصلاة مع المسلمين و يطوف في الأسواق و لا يكلمه في الأسواق و لا يكلمه أحد و يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسلم عليه و هو في مجلسه بعد الصلاة و يقول في نفسه : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ! ثم يصلي قريبا منه و يسارقه النظر فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إذا التفت نحوه أعرض عنه حتى طال ذلك عليه من جفوة المسلمين
ثم مر كعب حتى تسور جدار أبي قتادة ـ و هو ابن عمه و أحب الناس إليه ـ فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال له : يا أبا قتادة ! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله و رسوله ؟ فسكت فعاد ينشده فسكت فعاد ينشده فقال : و الله و رسوله أعلم ففاضت عينا كعب و وثب فتسور الجدار ثم غدا إلى السوق فبينا هو يمشي و إذا نبطي من نبط الشام يسأل عنه ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة و هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فجعل الناس يشيرون إليه حتى جاء كعبا فدفع إليه كتابا من ملك غسان في سرقة حرير فيه : أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك و لم يجعلك الله بدار هوان و لا مضيعة فالحق بنا نواسك فلما قرأ كعب الكتاب : و هذا من البلاء أيضا قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ثم عمد بالكتاب إلى تنور فسجره به ثم أقام على ذلك حتى إذا مضى أربعون ليلة أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ! فقال كعب : أطلقها أم ماذا ؟ قال : بل اعتزلها و لا تقربها و أرسل إلى مرارة و هلال بمثل ذلك فقال كعب لامرأته : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض و جاءت امرأة هلال بن أمية فقالت : يا رسول الله ! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه قال : [ لا و لكن لا يقربنك ] ! قالت : و الله يا رسول الله ما به من حركة إلي ! و الله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا و الله لقد تخوفت على بصره فلبثوا بعد ذلك عشر ليال حتى كمل خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامهم فصلى كعب بن مالك الصبح على ظهر بيت من بيوته على الحال التي ذكر الله منه : ضاقت عليه الأرض و ضاقت عليه نفسه إذا سمع صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ! أبشر فخرج كعب الله ساجدا و عرف أنه قد جاء الفرج و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله عليهم حين صلى الصبح ثم جاء كعبا الصارخ بالبشرى فنزع ثوبيه فكساهما إياه ببشارته و استعار ثوبين فلبسهما ثم انطلق يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تلقاه الناس يتهنأونه بالتوبة و يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخل المسجد و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس حوله الناس فقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياه و هنأه فلما سلم كعب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم و وجهه يبرق بالسرور : [ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ] ! فقال كعب : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال [ بل من عند الله ] ! ثم جلس بين يديه فقال : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] فقال : إني ممسك سهمي الذي بخيبر ثم قال : يا رسول الله ! إن الله قد نجاني بالصدق فإن توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار } ـ إلى قوله : { إن الله هو التواب الرحيم }
ثم لاعن رسول الله صلى الله عليه و سلم بين عويمر بن الحارث بن عجلان ـ و هو الذي يقال له عاصم ـ و بين امرأته بعد العصر في المسجد في شعبان وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! لو أحدنا رأى امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم ! و أن سكت سكت على مثل ذلك ! فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان بعد ذلك أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به ! فأنزل هذه الآيات { و الذين يرمون أزواجهم } ـ حتى ختم الآيات فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عاصما فتلا عليه و وعظه و ذكره و أخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال عاصم : لا و الذي بعثك ! ما كذبت عليها ثم دعا بامرأته فوعظها و ذكرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت : لا و الذي بعثك بالحق ! فبدأ بعاصم فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين و الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضع يده على فيه عند الخامسة و قال : احذر فإنها موجبة ! ثم ثنى بامرأته فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما و أحق الولد بالأم
و ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعبان و غسلتها صفية بنت عبد المطلب و نزل في حفرتها علي و الفضل و أسامة
و ورد على رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب ملوك حمير في رمضان مقرين بالإسلام فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب جوابهم و بعثه مع عمرو بن حزم [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ إلى شرحبيل بن عبد كلال و الحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين و معافر و همدان أما بعد فقد رفع رسولكم و أعطيتم من المغانم خمس الله و ما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار و ما سقت السماء إذا كان سيحا أو بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق و ما سقى بالرشاء و الدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق و في كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعا و عشرين فإذا زادت واحدة على أربع و عشرين ففيها ابنة مخاض فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمسا و ثلاثين فإن زادت واحدة على خمس و ثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسا و أربعين فإن زادت واحدة على خمس و أربعين ففيها حقة طروقة الجمل إلى أن تبلغ ستين فإن زادت على الستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسا و سبعين فإن زادت واحدة على خمس و سبعين ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين فإن زادت واحدة على التسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين و مائة فما زاد على عشرين و مائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة و في أربعين باقورة بقرة و في كل أربعين شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين و مائة فإذا زادت على عشرين و مائة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين فإن زادت واحدة فثلاث إلى أن تبلغ ثلاثمائة فإن زادت ففي كل مائة شاة شاة و لا تؤخذ في الصدقة بهرمة و لا عجفاء و لا ذات عوار و لا تيس الغنم و لا يجمع بين متفرق و لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة و ما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية و في كل خمس أوراق من الورق خمسة دراهم و ما زاد ففي كل أربعين درهما درهم و ليس فيما دون خمس أواق شيء و في كل أربعين دينارا دينار و إن الصدقة لا تحل لمحمد و لا أهل بيته إنما هي الزكاة يزكى بها أنفعهم في فقراء المؤمنين و في سبيل الله و ليس في رقيق و لا مزرعة و لا عمالها شيء إذا كانت تؤدى صدقتها من العشر و ليس في عبد المسلم و لا فرسه شيء و إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حق و الفرار في سبيل الله يوم الزحف و عقوق الوالدين و رمي المحصنة و تعلم السحر و أكل الربا و أكل مال اليتيم و إن العمرة هي الحج الأصغر و لا يمس القرآن إلا طاهر و لا طلاق قبل إملاك و لا عتاق حتى يبتاع و لا يصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبيه شيء و لا يحتبين في ثوب واحد ليس بين فرجه و بين السماء شيء ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد و شقه باد و لا يصلين أحد منكم عاقصا شعره و إن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينه فهو قود إلا أن يرضى أولياء المقتول و إن في النفس الدية مائة من الإبل و في الأنف إذا أوعب جدعه الدية و في اللسان الدية و في الشفتين الدية و في البيضتين الدية وفي الذكر الدية و في المأمومة ثلث الدية و في الجائفة ثلث الدية و في الرجل الواحدة نصف الدية و في الصلب الدية و في العينين الدية و في المنقلة خمس عشرة من الإبل و في السن خمس من الإبل و في الموضحة خمس من الإبل و إن الرجل يقتل بالمرأة و على أهل الذهب ألف دينار ] فقرئ الكتاب على أهل اليمن
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل إلى اليمن و ذكر أنه صلى الله عليه و سلم صلى الغداة ثم أقبل على الناس بوجهه فقال : [ يا معشر المهاجرين و الأنصار ! أيكم ينتدب إلى اليمن ] ؟ فقام عمر بن الخطاب فقال : أنا يا رسول الله ! فسكت عنه ثم قال : [ يا معشر المهاجرين و الأنصار ! أيكم ينتدب إلى اليمن ] ؟ فقام معاذ بن جبل فقال : أنا يا رسول الله ! فقال : [ يا معاذ أنت لها ! يا بلال لها ! يا بلال ائتني بعمامتي ] ! فأتاه بعمامته فعمم بها رأسه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و المهاجرون و الأنصار يشيعون معاذ و هو راكب و رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي إلى جانب راحلته ثم قال : [ يا معاذ ! أوصيك بتقوى الله و صدق الحديث و أداء الأمانة و ترك الخيانة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و خفض الجناح و حفظ الجار و لين الكلام و رد السلام و التفقه في القرآن و الجزع من الحساب و حب الآخرة على الدنيا يا معاذ ! لا تفسد أرضا و لا تشتم مسلما و لا تصدق كاذبا و لا تكذب صادقا ولا تعص إماما و إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم و ليلتهم فإذا فعلوا ذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أمولهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم و توق كرائم أموال الناس يا معاذ ! إني أحب لك ما أحب لنفسي و أكره لك ما أكره لها يا معاذ ! إذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة السر بالسر و العلانية بالعلانية يا معاذ ! يسر و لا تعسر واذكر الله عند كل حجر و مدر يشهد لك يوم القيامة يا معاذ ! عد المريض و أسرع في حوائج الأرامل و الضعفاء و جالس المساكين و الفقراء و أنصف الناس من نفسك و قل الحق حيث كان و لا يأخذك في الله لومة لائم و القني على الحال التي فارقتني عليها ] فقال معاذ : بأبي و أمي أنت يا رسول الله ! لقد حملتني أمرا عظيما فادع الله لي على ما قلدتني عليه فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم قم ودعه و انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و أصحابه ثم أردفه بأبي موسى الأشعري فلما قدم صنعاء صعد منبرها فحمد الله و أثنى عليه ثم قرأ عليهم عهده ثم نزل فأتاه صناديد صنعاء فقالوا : يا معاذ ! هذا نزل قد هيأناه لك و هذا منزل فرغناه لك قال : بهذا أوصاني حبيبي أوصاني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا تأخذك في الله لومة لائم وخلع رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل من ماله لغرمائه حيث اشتدوا عليه و بعثه إلى اليمن و قال : [ لعل الله يجبرك ] !
و قدم وفد كلاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة عشر نفرا فيهم لبيد بن ربيعة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية مع جماعة من العرب ليس فيهم من المهاجرين أحد و لا من الأنصار إلى بني تميم فأغار عليهم و سبى منهم النساء و الولدان و أخذ منهم عشرين رجلا فقدم بهم المدينة فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم لحسان منبرا فقام عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يؤيد حسانا بروح القدس ] فقال القوم : شاعرهم أشعر من شاعرنا و خطيبهم أخطب من خطيبنا
و قدم وفد الطائف و نزلوا دار المغيرة بن شعبة و طلبوا الصلح فأمر النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن سعيد بن العاص أن يكتب لهم كتاب الصلح
و مرض عبد الله بن أبي سلول في ليال بقين من شوال و مات في ذي القعدة و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعوده فلما مات جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! أعطني قميصك أكفنه فيه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم قميصه و أتى قبره فصلى عليه فنزلت الآية { و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره }
و قدم وفد بني فزارة و هم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن
و قدم وفد بني عذرة ثلاثة عشر رجلا و نرلوا على المقداد بن عمرو
و فرض الله تعالى الحج على من استطاع إليه سبيلا فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر يحج بالناس من المدينة في ثلاثمائة نفس و بعث معه عشرين بدنة مفتولة قلائدها ففتلها عائشة بيدها و قلدها و أشعرها وساق أبو بكر لنفسه خمس بدنات و حج معه عبد الرحمن بن عوف فلما بلغ العرج و ثوب بالصبح سمع أبو بكر خلفه رغوة و أراد أن يكبر الصلاة فوقف عن التكبير و قال : هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم الجدعاء لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه و سلم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم فنصلي معه ! فإذا علي عليها فقال أبو بكر : أمير أم رسول ؟ فقال : لا بل رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسلني ببراءة أقرأها على الناس في مواقف الحج فقدموا مكة فقرأ على الناس سورة براءة حتى ختمها فلما كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس و عرفهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأها على الناس حتى ختمها فلما كان يوم النحر خطب أبو بكر الناس و حدثهم عن إفاضتهم و نحرهم و مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها لينبذ إلى كل ذي حق حقه و ذي عهد عهده و أن لا يحج بعد هذا العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر و خطب الناس و حدثهم كيف ينفرون و كيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأعلى الناس براءة حتى ختمها ثم رجعوا إلى المدينة
[ حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ثنا محمد بن بشار ثنا أبو عامر ثنا قرة بن خالد عن أبي جمرة الضبعي قال : قلت لابن عباس : إن لي جرة ينبذ لي فيها فإذا أطلت الجلوس مع القوم خشيت أن أفتضح من حلاوته قال : قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مرحبا بالوفد غير خزايا و لا ندامي ! قالوا : يا رسول الله ! إن بينا و بينك المشركين من مضر و إنا لا نصل إليك إلا في أشهر الحرام فحدثنا جملا من الأمر إذا أخذنا به دخلنا الجنة و ندعو إليه من وراءنا فقال : آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع : الإيمان بالله و هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ فقالوا : الله و رسوله أعلم قال : شهادة أن لا إله إلا الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و إن تعطوا الخمس من المغنم و أنهاكم عن النبيذ في الدباء و النقير و الحنتم و المزقت ]
قال : في أول هذه السنة قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما دنوا من المدينة تركوا رواحلهم و بادروا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و نزل عبد الله بن الأشج العبدي فعقل راحلته و نزع ثيابه فلبسها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن فيك لخصلتين يحبهما الله و رسوله : الحلم و الأناة ] ـ سألوه عما ذكرنا
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان في شهر ربيع الأول و هم بنو الحارث بن كعب و أسلموا وأخذ الصدقة من أغنيائهم و ردها على فقرائهم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن حزم عاملا على نجران فخرج و أقام عندهم يعلمهم السنة و معالم الإسلام إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على نجران
و قدم عدي بن حاتم الطائي و معه صليب من ذهب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ]
و قدم بعده وفد طيء فيهم زيد الخيل و هو رأسهم
ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هدم ذي الخلصة فهدمها
ثم قدم وفد الأزد رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر رجلا فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جرش فافتتحها و كان عاملا للنبي صلى الله عليه و سلم
و ولد محمد بن عمرو بن حزم بنجران فكتب عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك و أخبره أنه سماه محمدا و كناه أبا سليمان
وقدم وفد سلامان و هم سبعة نفر رأسهم حبيب السلاماني
و قدم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة فقال : يا محمد ! إن جعلت لي الأمر بعدك آمنت بك وصدقتك وفي يد رسول الله صلى الله عليه و سلم جريدة فقال النبي : [ و لو سألتني هذه الجريدة ماأعطيتكها ! و لن تعدوا أمر الله فيك و لئن أدبرت ليعقرنك الله إني لأراك الذي أريت ] و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخها فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين : أحدهما العنسي و الآخر مسيلمة صاحب اليمامة ]
و قدم وفد غسان و وفد عبس و وفد كندة و وفد محارب و وفد خولان وكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قدم عليه الوفود لبس أحسن ثيابه و أمر أحبابه بذلك
و قدم وفد مراد رأسهم فروة بن مسيك المرادي و استعمله رسول الله صلى الله عليه و سلم على مراد و مذحج و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد على الصدقات إليهم و كتب لهم كتابا بذلك و [ دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد و هو جالس و حده فقال : يا أبا ذر ! إن للمسجد تحية قال : و ما تحيته يا رسول الله ؟ قال : ركعتان فقام فركعهما ثم قال : إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة ؟ قال : خير موضوع فمن شاء أقل و من شاء أكثر ! فقال : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : إيمان بالله و جهاد في سبيله قال : فأي المؤمنين أكملهم إيمانا ؟ قال : أحسنهم خلقا قال : فأي المسلمين أفضل ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه و يده قال : فأي الهجرة أفضل ؟ قال : من هجر السوء قال : فأي الليل أفضل ؟ قال : جوف الليل الغابر قال : فأي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت قال : فأي الرقاب أفضل قال : أغلاها ثمنا و أنفسها عند أهلها قال : فأي الجهاد أفضل ؟ قال : من عقر جواده و أهريق دمه قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد من مقل إلى فقير في سر قال : فما الصوم أفضل ؟ قال : فرض مجزي و عند الله أضعاف كثيرة قال : فأي آية مما أنزلها الله عليك أفضل ؟ قال : آية الكرسي قال : يا رسول الله ! كم النبيون قال : مائة ألف و أربعة و عشرون ألف نبي قال : كم المرسلون منهم ؟ قال : ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا قال : من كان أول الأنبياء ؟ قال : آدم قال : و كان من الأنبياء مرسلا ؟ قال : نعم خلق الله آدم بيده و نفخ فيه من روحه ثم سواه و كلمه قبلا ثم قال : يا أبا ذر ! أربعة من الأنبياء سريانيون : آدم و شيث و خنوخ ـ و هو إدريس و هو أول من خط بالقلم ـ و نوح و أربعة من العرب : هود و صالح و شعيب و نبيك محمد و أول الأنبياء آدم و آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم و أول نبي من أنبياء بني إسرائيل مو سى و آخرهم عيسى و بينهما ألف نبي قال : يا رسول الله ! كم أنزل الله من كتاب ؟ قال : مائة كتاب و أربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة و أنزل على إبراهيم عشر صحائف و أنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف و أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان قال : يا رسول الله ! فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها : أيها الملك المسلط المبتلي المغرور ! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض و لكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها و لو كانت من كافر و على العاقل مالم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه و ساعة يحاسب فيها نفسه و ساعة يتفكر فيها في صنع الله عز و جل و ساعة يخلوا فيها لحاجته من الحلال فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات و استجمام للقلوب و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإنه من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه و على العاقل أن يكون طالبا لثلاث : مرمة لمعاش و تزود لمعاد و تلذذ في غير محرم و قال : يا رسول الله ! فما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت عبرأ كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح و عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب و عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل قال : هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم و موسى ؟ قال : يا أبا ذر تقرأ { قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى } ـ الآية قال : يا رسول الله ! أوصني قال : أوصيك بتقوى الله فإنه زين لأمرك قال : زدني قال : عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان عنك و عون لك على أمر دينك و إياك و الضحك فإنه يميت القلوب و يذهب نور الوجه قال : زدني قال : أحب المساكين و مجالستهم قال : زدني قال : قل الحق و لو كان مرا قال : زدني قال : لا تخف في الله لومة لائم قال : زدني قال : ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك و لا تجد عليهم فيما يأتي ثم قال : يا أبا ذر ! كفى للمرء غيا أن يكون فيها خصال : يعرف من الناس ما يجهل من نفسه و يتجسس لهم ما هو فيه و يؤذي جليسه فيما لا يعنيه يا أبا ذر ! لا عقل كالتدبير و لا ورع كالكف و لا حسب كحسن الخلق ]
ثم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه سرية إلى اليمن في شهر رمضان قال : يا رسول الله ! كيف أصنع قال : [ إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تروهم أناة فإذا أتيتهم فقل لهم : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة فتردونها على فقرائكم فإن قالوا : نعم فلا تبغ منهم غير ذلك و لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس ]
و نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم { لا يستوي القعدون من المؤمنين و المجهدون } فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! إني أحب الجهاد في سبيل الله و لكن بي ما ترى قد ذهب بصري قال زيد بن ثابت : فثقلت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها : ثم قال : غير أولي الضرر
و قدم العاقب و السد من نجران فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا صالحهم عليه ـ فهو في أيديهم إلى اليوم و قالا : يا رسول الله ! ابعث علينا رجلا أمينا نعطه ما سألتنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين ] فاستشرف لها الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح و مات أبو عامر الراهب عند هرقل فاختلف كنانة بن عبد ياليل و علقمة بن علاثه في ميراثه فقضي برسول الله صلى الله عليه و سلم لكنانة بن عبد ياليل
و قدم الأشعث بن قيس وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في قومه فبعث معه رسول الله صلى الله عليه و سلم زياد بن لبيب البياضي إلى البحرين ليأخذ منهم الصدقات
[ و بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعد مع أصحابه إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر و لا يعرفه منهم أحد حتى جلس إلى نبي الله صلى الله عليه و سلم فوضع ركبته إلى ركبته و وضع كفه على فخذه ثم قال : يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال : صدقت ! فعجب المسلمون منه يسأله و يصدقه ثم قال : أخبرني عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر كله خيره و شره قال : صدقت قال : أخبرني عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال : فأخبرني عن الساعة قال : ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل قال : فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها و أن ترى الحفاة العراة يتطاولون في البنيان قال : ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ]
ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يحج حجة الوداع فأذن في الناس أنه خارج فقدم الدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن بأتم برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أصنع ؟ قال : [ اغتسلي واستثفري بثوب و أخرى ] ثم صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد و أمر ببدنة أن تشعر و سلت عنها الدم ثم ركب القصواء فلما استوت به ناقته على البيداء أهل و إن بين ييديه وخلفه و عن يمينه و يساره من الناس ما بين راكب و ماش و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم فأهل : لبيك ! اللهم لبيك ! لا شريك لك لبيك ! إن الحمد و النعمة لك والملك لا شريك لك و أهل الناس معه فمنهم من أهل مفردا و منهم من أهل قارنا حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة من الثنية فلما دخل مكة توضأ إلى الصلاة ثم دخل من باب بني شيبة فلما أتى الحجر استلمه ورمل ثلاثا و مشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ { و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } و جعل المقام بينه و بين البيت و صلى ركعتين فقرأ فيهما { قل هو الله أحد } و { قل يا أيها الكافرون } ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما رقى على الصفا قرأ { إن الصفا و المروة من شعائر الله } و قال : [ أبدأ بما بدأ الله ] فلما رقى عليها و رأى البيت استقبل القبلة و قال : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ـ قال ذلك ثلاث مرات فلما نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي خب حتى إذا صعد مشى فلما أتى المروة صعد عليها و فعل عليها ما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة فقال : لو استقبلت ما استدبرت لم أسق الهدي و لجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل و ليجعلها عمرة ] فقال سراقة ابن مالك بن جعشم : يا رسول الله ! لعامنا هذا أو للأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصابعه و قال : [ دخلت العمرة في الحج ـ مرتين ـ لا بل للأبد ]
و قدم علي من اليمن فوجد فاطمة قد لبست ثياب صبغ و اكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت : أبي أمرني بهذا ! ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي : [ بم فرضت الحج ] ؟ قال : قلت : اللهم ! إني أهل بما أهل به رسولك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فإن معي الهدي فلا تحل ] فكان الهدي الذي قدم به علي بن أبي طالب من اليمن و الذي أتى به النبي صلى الله عليه و سلم ماءة فحل الناس و قصروا إلا النبي صلى الله عليه و سلم و من كان معه هدي
و [ اعتل سعد بن أبي وقاص فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى سعد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ما يبكيك فقال : خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة ! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اشف سعدا ـ ثلاثا فقال : يا رسول الله ! إن لي مالا كثيرا و أنعما و مورثتي بنت لي واحدة أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا قال : فالنصف ؟ قال : لا قال : الثلث ؟ قال : الثلث و الثلث كثير إنك إن صدقت مالك صدقة و إن نفقتك على عيالك صدقة و ما تأكل امرأتك من طعامك صدقة و أن تدع أهلك بخير خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس اللهم ! أمض لأصحابي هجرتهم و لا تردهم على أعقابهم ] لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن مات بمكة
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى و أهل الناس بالحج فصلى بهم الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الصبح بمنى ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس و أمر بقبة له فضربت له بنمرة ثما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فجاز رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاء عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فلما أتى بطن الوادي خطب الناس وقال في خطبته : [ إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ! ألا ! كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع و دماء الجاهلية موضوعة فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله و لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف و قد تركت فيكم مالن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به : كتاب الله و أنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت و أديت و نصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء : اللهم اشهد ] ! ثم أذن و أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر و لم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن القصواء إلى الصخرة و جعل جبل المشاة بين يديه و استقبل القبلة فلم يزل واقفا ـ و المسلمون معه ـ حتى غربت الشمس و ذهبت الصفرة قليلا ثم أردف أسامة بن زيد خلفه و دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد شفق للقصواء الزمام و يقول بيده اليمنى : أيها الناس السكينة ! كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد فلما أتى المزدلفة صلى بها المغرب و العشاء بأذان واحد و إقامتين و لم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر و صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان و إقامة ثم ركب القصواء حتى أتىالمشعر الحرام فاستقبل القبلة و دعا و كبر و هلل ثم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس و أردف الفضل بن عباس حتى أتى محسر فسلك الطريق الوسطى التي تخرج إلى الجمرة الكبرى فلما أتى الجمرة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة رماهامن بطن الوادي بمثل حصى الخذف ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا و ستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ماغير منها و أشركه في هدية و أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها و شربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم القصواء فأتى البيت فطاف طواف الزيارة ثم قال : يا بن عبد المطلب انزعوا فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم فناولوه دلوا من زمزم فشرب منه ثم رجع صلى الله عليه و سلم إلى منى و صلى الظهر بها ثم أقام بها أيام منى ثم ودع البيت و خرج إلى المدينة حتى دخلها و المسلمون معه فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم و بعض صفر
أخبرنا أبو يعلى حدثنا أحمد جميل المروزي ثنا عبد الله بن المبارك أنا معمر عن يونس عن الزهري أخبرني أنس بن مالك أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم الإثنين و أبو بكر يصلي لهم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كشف ستر حجر عائشة فنظر إليهم و هم صفوف في صلاتهم ثم تبسم و نكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف و ظن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يخرج إلى الصلاة وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاته فرحا برسول الله صلى الله عليه و سلم حين رأوه فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن اقضوا صلاتكم ثم دخل الحجرة و أرخى الستر بينه و بينهم و توفي في ذلك اليوم
قال : أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر و هو في بيت ميمونة حتى أغمي عليه من شدة الوجع فاجتمع عنده نسوة من أزواجه و العباس بن عبد المطلب و أم سلمة و أسماء بنت عميس الخثعمية و هي أم عبد الله بن جعفر و أم الفضل بنت الحارث و هي أخت ميمونة فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أغمي عليه فلدوه و هو مغمر فلما أفاق قال : [ من فعل هذا ] ؟ قالوا : يا رسول الله ! عمك العباس قال : [ هذا عمل نساء جئن من ههنا ] و أشار إلى أرض الحبشة فقالوا : يا رسول الله ! أشفقن أن يكون بك ذات الجنب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كان الله ليعذبني بذلك الداء ] ثم قال : [ لا يبقين أحد في الدار إلا لد إلا العباس ]
فلما ثقل برسول صلى الله عليه و سلم العلة استأذنت عائشة أزواجه أن تمرضه في بيتها فأذن لها فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بين رجلين رسول الله صلى الله عليه و سلم بين رجلين تخط رجلاه في الأرض : بين عباس و علي حتى دخل بيت عائشة فلما دخل بيتها اشتد وجعه فقال : [ أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس ] فأجلسوه في مخضب لحفصة ثم صب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إليهن بيده أن فعلتن ثم قال : [ ضعوا لي في المخضب ماء ] ففعلوا فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال : [ و ضعوا لي في المخضب ماء ] ففعلوا ثم ذهب لينوء فأغمي عليه فأفاق و قال : [ أصلى الناس بعد ] ؟ قالوا : لا يا رسول الله و هم ينتظرونك و الناس عكوف ينتظرون رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصلي بهم العشاء الآخرة فقال : [ مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ] فقالت عائشة : يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل رقيق و إنه إذا قدم مقامك بكى فقال : [ مروا أبا بكر يصلي بالناس ] ثم أرسل إلى أبا بكر فأتاه الرسول فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر : يا عمر ! صل بالناس ! فقال : أنت أحق إنما أرسل إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام
ثم وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم من نفسه خفة فخرج لصلاة الظهر بين العباس و علي و قال لهما : [ أجلساني عن يساره ] فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو جالس و الناس يصلون بصلاة أبي بكر ثم وجد خفة صلى الله عليه و سلم فخرج فصلى خلف أبي بكر قاعدا في ثوب واحد ثم قام و هو عاصب رأسه بخرقة حتى صعد المنبر ثم قال : [ و الذي نفسي بيده ! إني لقائم على الحوض الساعة ] ثم قال : [ إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة ] فلم يفطن لقوله إلا أبو بكر فذرفت عيناه و بكى و قال : بأبي و أمي ! نفديك بآبائنا و أمهاتنا و أنفسنا و أموالنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أمن الناس علي في بدنه و دينه و ذات يده أبو بكر و لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن أخوة الإسلام سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر ] ثم نزل و دخل البيت و هي آخر خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان يوم الإثنين كشف الستارة من حجرة عائشة و الناس صفوف خلف أبي بكر و كأن وجهه ورقة مصحف فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار إليهم أن مكانكم و ألقى السجف و توفي آخر ذلك اليوم و كان ذلك اليوم لاثنتي عشرة خلون من شهر ربيع الأول
و كان مقامه بالمدينة عشر حجج سواء و كانت عائشة تقول : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي و يومي و بين سحري و نحري و كان أحدنا بدعاء إذا مرض فذهبت أعوذ فرفع رأسه إلى السماء و قال : [ في الرفيق الأعلى ] و مر عبد الرحمن ابن أبي بكر و في يده جريدة خضراء رطبة فنظر إليه فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ثم دفعتها إليه فاستن بها ثم ناولنيها و سقطت من يده فجمع الله بين ريقي و ريقه في آخر يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة
و كان أبو بكر في ناحية المدينة فجاء فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مسجى فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل يقبله و يبكي و يقول : بأبي و أمي ! طبت حيا و طبت ميتا ! فلما خرج و مر بعمر بن الخطاب و عمر يقول : ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يموت حتى يقتل المنافقين و يخزيهم ! و كانوا قد رفعوا رؤسهم لما رأوا أبا بكر فقال أبو بكر لعمر : أيها الرجل ! اربع على نفسك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد مات ألم تسمع الله يقول : { إنك ميت و إنهم ميتون } و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخلدون } ثم أتى أبو بكر المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات و إن كان إلهكم الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت ثم تلا { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ـ حتى ختم الآية و قد استيقن المؤمنون بموت محمد صلى الله عليه و سلم
و قد كان لعبد المطلب بن هاشم من الأولاد ستة عشرا ولدا : عشرة ذكور منهم تسعة عمومة رسول الله صلى الله عليه و سلم و واحد والد رسول الله صلى الله عليه و سلم و ست من الإناث عمات رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأما أولاد عبد المطلب الذكور منهم : عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الزبير بن عبد المطلب و أبو طالب بن عبد المطلب و العباس ابن عبد المطلب و ضرار بن عبد المطلب و حمزة بن عبد المطلب والمقوم بن عبد المطلب وأبو لهب بن عبد المطلب والحارث بن عبد المطلب و الغيداق بن عبد المطلب
فأما عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يكن ولد غير رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ذكر و لا أنثى و توفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو الطاهر من أجلة القريش و فرسانها من المبارزين و كان متعالما يقول الشعر فيجيد
و أما أبو طالب بن عبد المطلب فإن اسمه عبد مناف و كان هو و عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه و سلم لأم واحدة و كان أبو طالب وصى عبد المطلب لابنه في ماله بعده و في حفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعده على من كان يتعهده عبد المطلب في حياته و مات أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة بثلاث سنين و أربعة أشهر
و أما العباس فكنيته أبو الفضل و كان إليه السقاية و زمزم في الجاهلية فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة دفعها إليه يوم الفتح و جعلها إليه و مات العباس بن عبد المطلب سنة اثنتين و ثلاثين في خلافة عثمان بن عفان
و أما ضرار فإنه كان يقول الشعر و يجيده ومات قبل الإسلام و لا عقب له
و أما حمزة فكنيته أبو ليلى و قد قيل : أبو عمارة و استشهد يوم أحد قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم في شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان حمزة أكبر من النبي صلى الله عليه و سلم بسنتين
و أما المقوم فكان من رجالات قريش و أشدائها هلك قبل الإسلام و لم يعقب
و أما أبو لهب فإن اسمه عبد العزى و كنيته أبو عتبة و إنما كني أبا لهب لجماله و كان أحول يعادي رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين عمومته و يظهر له حسده إلى أن مات عليه
و أما الحارث ـ و هو أكبر ولد عبد المطلب ـ اسمه كنيته و هو ممن شهد حفر زمزم مع عبد المطلب قديما
و أما الغيداق فإنه كان من أسد قريش و أجلادها و مات قبل الوحي و لم يعقب
و أما بنات عبد المطلب فإن إحداهن عاتكة بنت عبد المطلب و أميمة بنت عبد المطلب و البيضاء و هي أم حكيم و أروى بنت عبد المطلب و صفية بنت عبد المطلب و برة بنت عبد المطلب
و أما عاتكة فإنها كانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي
و أما أميمة فإنها كانت عند جحش بن رئاب الأسدي
و أما البيضاء فإنها كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس
و أما صفية فكانت عند العوام بن خويلد بن أسد
و أما برة فإنها كانت عند عبد الأسد بن هلال المخزومي
و أما أروى فكانت عند عمير بن عبد مناف بن قصي
و لم يسلم من عمات النبي صلى الله عليه و سلم إلا صفية و هي والدة الزبير بن العوام و توفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب ـ فهذا ما يجب أن يعلم من ذكر عمات رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بمكة قبل الوحي و رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن خمس و عشرين سنة وكانت خديجة قبله تحت عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم و ولد له منها أولاده إلا إبراهيم و توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة
ثم تزوج بعد موت خديجة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي و أمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمها وقدان بن عبد شمس وكانت قبل ذلك تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي و كانت امرأة ثقيلة ثبطة و هي التي وهبت يومها لعائشة و قالت : لا أريد مثل ما تريد النساء و توفيت سودة سنة خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة الصديق في شوال و هي ينت ست وبنى و هي بنت و هي بنت تسع بعد الهجرة و توفيت عائشة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع و خمسين و صلى عليها أبو هريرة و دفنت بالبقيع و لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بكرا غيرها
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان و أمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح و كانت قبل ذلك تحت خنيس ابن حذافة بن قيس و ذلك في سنة ثلاث من الهجرة و توفيت حفصة بنت عمرو سنة خمس و أربعين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه السنة في شهر رمضان زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة التي يقال لها : أم المساكين و كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث و هي أول من لحقت بالنبي صلى الله عليه و سلم من نسائه
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في السنة الرابعة من الهجرة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم و ماتت أم سلمة سنة تسع و خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في سنة خمس زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و كانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و توفيت زينب هذه سنة عشرين
ثم اصطفى رسول الله صلى الله عليه و سلم صفية بنت حيي بن أخطب في سنة سبع و هي من بني إسرائيل و كانت قبله عند كنانة بن أبي الحقيق سباها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاصطفاها و كانت ممن اصطفاها و أعتقها و تزوج بها و ماتت صفية بنت حيي سنة خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر هذه السنة أم حبيبة بنت أبي سفيان من حرب وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش و كانت بأرض الحبشة مع زوجها مهاجرة فمات زوجها عبيد الله بن جحش فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها لرسول الله صلى الله عليه و سلم و كان وليها في تلك الناحية إذ كان سلطانا و لم يكن ولى بتلك الناحية والسلطان ولي من لا ولي له و كان الذي تولى الخطبة عليها و السعي في أمرها سعيد بن العاص وكان وليها حينئذ بالبعد فخرجت أم حبيبة مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ماتت أم حبيبة سنة أربع و أربعين
تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن عامر بن صعصعة و كانت قبله تحت أبي رهم بن عبد العزى من بني عامر بن لؤي و ماتت ميمونة سنة ثمان و ثمانين و هي خالة عبد الله بن عباس لأن أم عباس أم الفضل أخت ميمونة
تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية ـ و كانت قبله عند صفوان بن تميم ـ سباها رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة بني المصطلق فصارت لثابت بن قيس بن الشماس فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعتقها و توفيت جويرية في شهر ربيع الأول سنة ست و خمسين فصلى عليها مروان بن الحكم
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أسماء بنت النعمان الجونية و لم يدخل بها ثم طلقها و ردها إلى أهلها
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرة بنت يزيد الكلابية و طلقها قبل أن يدخل بها
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعوذت بعظيم فالحقي بأهلك ]
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ريحانة بنت عمرو القرظية فرأى بها بياضا قدر الدرهم ثم طلقها و لم يدخل بها فماتت بعد ذلك بأربعة أشهر
و قد أعطى المقوقس ملك الإسكندرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم جارية يقال لها مارية القبطية فأولدها رسول الله صلى الله عليه و سلم إبراهيم ابنه
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدنيا يوم خرج و عنده تسع نسوة : عائشة بنت أبي بكر الصديق و حفصة بنت عمر بن الخطاب و سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس و أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب و زينب بنت جحش بن رئاب و أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة وميمونة بنت الحارث بن حزن و جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار و صفية بنت حيي بن أخطب
و أما أولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم كلهم من خديجة بنت خويلد بن أسد إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية
و أما أولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأولهم عبد الله و هو أكبرهم و الطاهر و الطيب و القاسم و قد قيل : إن عبد الله هو الطاهر و هو أول مولود ولد لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قالت قريش : صار محمد أبتر لأن ابنه توفي أنزل الله { إن شانئك هو الأبتر }
و بنات رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب و أم كلثوم و رقية و فاطمة رضي الله عنهن فأما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبي العاص بن الربيع فولدت له أمامة بنت أبي العاص و هي التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي و هو رافعها على عاتقه فإذا ركع وضعها و إذا قام رفعها و ماتت أمامة و لم تعقب
و أما رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت عند عتبة بن أبي لهب
و أما كلثوم فكانت عند عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت { تبت يدا أبي لهب } أمرهما أبوهما ان يفارقاهما حينئذ لم يحرم الله تزويج المسلمين من نساء المشركين و لا حرم على المسلمات أن يتزوجهن المشركون ثم حرم الله ذلك على المسلمين و المسلمات
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم رقية بنته عثمان بن عفان و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ بمكة و خرجت معه إلى أرض الحبشة و ولدت له هناك عبد الله بن عثمان و به يكنى عثمان ثم توفيت رقية عند عثمان بن عفان مرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر و دفنت بالمدينة و ذلك أن عثمان استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في التخلف عند خروجه إلى بدر لمرض ابنته رقية و توفيت رقية يوم قدوم زيد بن حارثة العقيلي من قبل يوم بدر
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان ابنته أم كلثوم فماتت و لم تلد
و زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة علي بن أبي طالب بالمدينة فولدت من علي الحسن و الحسين و محسنا و أم كلثوم و زينب ليس لعلي من فاطمة إلا الخمس
فأما أم كلثوم فزوجها علي من عمر فولدت لعمر زيدا و رقية و أما زيد فأتاه حجر فقتله و أما رقية بنت عمر فولدت لإبراهيم بن نعيم بن عبد الله النحام جارية فتوفيت و لم تعقب
و أما زينب بنت علي فولدت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب جعفرا ـ و كان يكنى به ـ الأكبر و أم كلثوم و أم عبد الله
و كان ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصدقات حتى توفي عدي بن حاتم على قومه و مالك بن نوبرة على بني الحنظلة و قيس بن عاصم على بني منقر و الزبرقان بن بدر على بني سعد و كعب بن مالك بن أبي القيس على أسلم و غفار و جهينة و الضحاك بن سفيان على بني كلاب و عمرو بن العاص على عمان و المهاجر بن أبي أمية على صنعاء و زياد بن لبيد على حضرموت
أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي ـ يخبر بإسناد ليس له في القلب وقع ـ ثنا سفيان بن وكيع بن الجراح ثنا جميع بن عمرو بن عبد الرحمن العجلي أملاه علينا من كتابه ثنا رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبي هالة عن الحسن بن علي قال : سألت خالي هند بن أبي هالة ـ و كان وصافا ـ من حديث النبي صلى الله عليه و سلم و أنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع و أقصر من المشذب عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته فرق و إلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين أزج الحواجب سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم كث اللحية سهل الخدين ضليع الفم أشنب مفلج الأسنان دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن و الصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة و السرة بشعر يجري كالخط عاري اليدين و البطن مما سوى ذلك أشعر الذراعين و المنكبين و أعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين و القدمين سائر أو سائل ـ شك ابن سعيد ـ الأطراف خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا و يمشي هونا ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب و إذا التفت التفت جميعا خافض الطرف نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه يبدأ من لقي بالسلام
قال : قلت : صف لي منطقه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة طويل السكت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلم فضل لا فضول و لا تقصير دمث ليس بالجافي و لا بالمهين يعظم النعمة و إن دقت لا يذم شيئا غير أن لا يذم ذواقا و لا يمدحه و لا تغضبه الدنيا و ما كان لها فإذا نوزع الحق لم يعرفه أحد و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر لا يغضب لنفسه و لا ينتصر لها إذا أشار بكفه كلها و إذا تعجب قلبها و إذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن كفه اليسرى و إذا غضب أعرض و أشاح و إذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم و يفتر عن مثل حب الغمام ـ قال الحسن : فكتمها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبق إليه و سأله عما سألته
قال الحسين : فسألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك كان إذا أوى إلى منزله جزأ نفسه ثلاثة أجزاء : جزء لله و جزءا لأهله و جزءا لنفسه ثم جزأ جزءا بينه و بين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة و لا يدخر عنهم شيئا و كان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمه على قدر فضلهم في الدين فمنهم ذو الحاجة و منهم ذو الحاجتين و منهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم و يشغلهم فيما يصلحهم و إلا معه من مسألتهم يلائمهم و يخبرهم بالذي ينبغي لهم و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب و أبلغوا في الحاجة من لا يستطيع إبلاغها فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها يثبت الله قدميه يوم القيامة لا يذكر عنده إلا ذلك و لا يقبل من أحد غيره يدخلون روادا و لا يفترقون إلا عن ذواق و يخرجون أذلة
قال : فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه قال : كان يخزن لسانه إلا فيما يعنيه و يؤلفهم و لا ينفرهم و يكرم كريم القوم و يوليه عليهم و يحذر الناس و يحترس منهم من غير أن يطهر على أحد بسره و يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس و يحسن الحسن و يقويه و يقبح القبيح و يوهنه معتدل الأمر غير متخلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا لكل حال عنده عتاد و لا يقصر عن الحق و لا يجاوزه الذين يلونه من الناس خيارهم و أفضلهم عنده أعمهم نصيحة و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة و مؤازرة
قال : فسألته عن مجلسه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر لا يوطن الأماكن و ينهى عن إيطانها و إذا جلس إلى قوم جلس حيث انتهى المجلس و يأمر بذلك و يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه من جالسه أوقاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المتصرف و من سأله عن حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس منه بسطه و خلقه فصار الناس أبا و صاروا في الحق عنده سواء مجلسه مجلس حلم و حياء و صبر و أمانة لا ترفع فيه الأصوات و لا تؤبن فيه الحرم و لا تنثى فلتاته متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى متواضعين يوقرون الكبير و يرحمون الصغير و يؤثرون ذوي الحاجة و يحفظون الغريب
قال : فسألته عن سيرته في جلسائه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا عياب و لا مزاح يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤنس معه و لا يخيب فئة قد نزه نفسه من ثلاث : كان لا يذم أحدا و لا يطلب عورته و لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه و إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير و إذا سكت تكلموا و لا يتنازعون عنده الحديث من تكلم صمتوا له حتى يفرغ جل حديثه عندهم حديث أوليهم يضحك مما يضحكون من و يتعجب مما يعجبون منه و يصبرللغريب على الجفوة في منطقه حتى أن كان أصحابه يسجلبونهم و يقول : إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفده و لا يقبل الثناء إلا من مكافئ و لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوره فيقطعه بنهي أو قيام
قال : و سألته : كيف كان سكوت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : كان سكوته على أربعة : على الحلم و الحذر و التقدير و التفكر فأما تقديره ففي تسوية النظر و الاستماع بين الناس و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى و جمع له الحلم في الصبر فكان لا يغضبه شيء و لا يستنفزه و جمع له الحذر في أربعة : أخذه بالحسن ليقتدي به و تركه القبيح ليتناهى عنه و إجهاده الرأي فيما يصلح أمته و القيام فيما يجمع لهم فيه خير الدنيا و الآخرة
قال أبو حاتم : قد ذكر جمل ما يحتاج إليه من مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مبعثه و أيامه و هجرته إلى أن قبضه الله إلى جنته ثم إنا ذاكرون بعده الخلفاء الأربعة بأيامه و جمل ما يحتاج إليه من أخبارهم ليكون ذلك طريقا للمتأسين بهم إذ المصطفى صلى الله عليه و سلم أمر بذلك الحديث حيث قال : [ عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور ! فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ] ـ جعلنا الله و إياكم من المتبعين لسنة المبادرين إلى لزوم طاعته إنه الفعال لما يريد بكم
آخر مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مبعثه
قال الشيخ أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي : و اسمه عبد الله و لقبه عتيق و اسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان و أم أبي بكر أم الخير بنت صخر بن عامر بن كعب ـ أخو عمرو بن كعب ـ بن سعد بن تيم بن مرة بن لؤي بن غالب
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن المتوكل ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : كنت عند عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشاء فقال : لو شهدت أمير المؤمنين اليوم و جاءه رجل و قال : يا أمير المؤمنين ! إني سمعت فلانا يقول : لو مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا فقال عمر : إني لقائم العشية في الناس و محذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم فقلت : يا أمير المؤمنين : إن الموسم يجمع رعاع الناس و غوغاءهم و إنهم الذين يغلبون على مجلسك و إني أخشى أن تقول فيهم اليوم مقالة لا يعونها و لا يضعونها مواضعها و أن يطيروا بها كل مطير و لكن أمهل يا أمير المؤمنين حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة و دار الهجرة فتخلص بالمهاجرين و الأنصار و تقول ما قلت متمكنا فيعون مقالتك و يضعونها مواضعها قال عمر : أما و الله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة ! قال ابن عباس : فلما قدمنا المدينة و جاء يوم الجمع هجرت لما حدثني عبد الرحمن ابن عوف فوجدت سعيد بن زيد بن نفيل قد سبقني بالهجرة جالسا إلى جنب المنبر فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته فلما زالت الشمس خرج علينا عمر فقلت و هو مقبل : أما و الله ليقولن اليوم أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل عليه أحد قبله قال : فغضب سعيد بن زيد فقال : و أي مقال يقول لم يقل قبله ؟ فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه قام عمر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلى فمن عقلها و وعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته و من خشى أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق و أنزل عليه الكتاب و كان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها و وعيناها فرجم رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجمنا بعده و إني خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ألا ! و إن الرجم على من أحصن إذا زنى و قامت عليه البينة أو كان الحمل أو الاعتراف ثم إنا قد كنا نقرأ { و لا ترغبوا عن آبائكم } ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله و رسوله ] ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا فلا يغتر امرؤ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك ألا و إن الله وقى شرها و دفع عن الإسلام و المسلمين ضرها و ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر و إنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم إن عليا و الزبير و من تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة و تخلف عنا الأنصار في سقيفة بني ساعدة و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت : يا أبا بكر ! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار شهدا بدرا فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء الأنصار قالا : فارجعوا فامضوا أمركم بينكم فقلت : و الله لنأتينهم ! فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل قلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة قال : قلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع فقام خطيب الأنصار فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام و أنتم يا معشر قريش رهط منا و قد دفت إلينا دافة منكم و إذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا و يحضنونا بأمر دوننا و قد كنت زورت في نفسي مقالة أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر و كنت أدارئ من أبي بكر بعض الحد و كان أوقر مني و أحلم فلما أردت الكلام قال : على رسلك ! فكرهت أن أغضبه فحمد الله أبو بكر و أثنى عليه و و الله ما ترك كلمة قد كنت زورتها إلا جاء بها أو بأحسن منها في بديهته ثم قال : أما بعد ! و أما ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل و لم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب دارا و نسبا و لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح فو الله ما كرهت مما قال شيئا غير هذه الكلمة كنت لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر فلما قضى أبو بكر مقالته قام رجل من الأنصار فقال : أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب منا أمير و منكم أمير يا معشر قريش و إلا أجلنا الحرب فيما بيننا و بينكم خذعة قال معمر : فقال قتادة : قال عمر : فإنه لا يصلح سيفان في غمد و لكن منا الأمراء و منكم الوزراء قال معمر عن الزهري في حديثه : فارتفعت الأصوات بيننا و كثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف فقلت : يا أبا بكر ! ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته و بايعه المهاجرون و بايعه الأنصار قال : و نزونا على سعد بن عبادة حتى قال قائل منهم : قتلتم سعدا قال قلت : قتل الله سعدا ! و أنا و الله ما أرينا فيما حضرنا أمرا كان أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة فأما أن نتابعهم على ما لا نرضى و إما أن نخالفهم فيكون فسادا فلا يغرن امرأ يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة و قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها و ليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع هو و لا الذي بايعه بعده قال الزهري : و أخبرني عروة أن الرجلين اللذين لقياهما من الأنصار عويم بن ساعدة و معن بن عدي و الذي قال : [ أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب ] الحباب بن المنذر
قال أبو حاتم : نظر المسلمون إلى أعظم أركان الدين و عماد الإسلام للمؤمنين فوجدوها الصلاة المفروضة وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولى أبا بكر إقامتها في الأوقات المعلومات فرضي المسلمون للمسلمين ما رضي لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فبايعوه طائعين في سائر الأركان و بايعوه في السر و الإعلان
فلما كان اليوم الثاني قام عمر بن الخطاب على المنبر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس ! إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا مني و ما جدتها في كتاب الله و لا كانت عهدا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سيأمرنا بقول يكون آخرنا و إن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان قد هدى به أهله و إن الله قد جمع أمركم على خيركم : صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا إليه فبايعوه فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد أيها الناس ! فإني قد وليت عليكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني الصدق أمانة و الكذب خيانة و الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله و القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم بالبلاء و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله و رسوله فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله
فلما فرغ الناس من بيعة أبي بكر و هو يوم الثلاثاء أقبلوا على جهازه صلى الله عليه و سلم فاختلفوا في غسله فقالوا : و الله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ثيابه كما نجرد موتانا أو نغسله و عليه ثيابه فلما اختلفوا ألقى الله عليهم السبات حتى ما منهم أحد إلا و ذقته في صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت ـ لا يدري من هو أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه ثيابه فقاموا فغسلوه و عليه قميصه فأسنده علي إلى صدره فكان العباس و الفضل و القثم يقلبونه و كان أسامة بن زيد و شقران مولياه يصبان عليه الماء و علي يغسله و يدلكه من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول : بأبي أنت و أمي ! ما أطيبك حيا و ميتا ! و لم ير من رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص و لا عمامة أدرج فيها إدراجا ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا بدأ به الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء ثم أدخل الصبيان ثم أدخل العبيد و لم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد و كان أبو عبيدة بن الجراح يحفر كحفر أهل مكة و كان أبو طلحة زيد ابن سهيل يحفر كحفر أهل المدينة و كان يلحد فدعا العباس بن عبد المطلب رجلين فقال لأحداهما : اذهب إلى أبي عبيدة و قال : للآخر : اذهب إلى أبي طلحة فقال : اللهم ! خر لرسولك فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقائل يقول : ندفنه في مسجده و قائل يقول : ندفنه مع أصحابه فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ] فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي توفي عليه فحفر أبو طلحة تحته ثم دفن صلى الله عليه و سلم ليلة الأربعاء حين زاغت الشمس و نزل في قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب و الفضل بن العباس و قثم بن العباس و شقران مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و طرح تحته قطيفة و كان آخرهم عهدا به قثم بن العباس و كان المغيرة بن شعبة يقول : لا بل أنا و كان يحكي قصة
ثم قام أبو بكر في الناس خطيبا بعد خطبته الأولى فقال : الحمد لله أحمده و أومن بوحدانيته و أستعينه على أمركم كله سره و علانيته نعوذ بالله مما يأتي به الليل و النهار و ترتكب عليه السر و الجهار و أشهد أن لا إله إلا الله حافظا و نصيرا و أن محمدا عبده و رسوله بالحق بشيرا و نذيرا قدام الساعة فمن أطاعه رشد و من عصاه هلك و شرد فعليكم أيها الناس بتقوى الله ! فإن أكيس الكيس التقوى و إن أحمق الحمق الفجور فاتبعوا كتاب الله و اقبلوا نصيحته و اقتدوا بسنة رسوله و خذوا شريعته فإن الله يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات و هو الحكيم العليم { و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } ـ الآية و احذروا الخطايا التي لكل بني آدم فيها نصيب و تزودوا للآخرة فإن المصير إليها قريب و لكن خيركم من اتبع طاعة الله و اجتنب معصيته فاحذروا يوما لا ينفع فيه من حميم و لا شفيع و لا حميم يطاع و ليعمل عامل ما استطاع من عمل يقربه إلى ربه و اعملوا من قبل أن لا تقدروا على العمل و إن الله لو شاء لخلقكم سدى و لكن جعلكم أئمة هدى فاتبعوا ما أمركم الله به و اجتنبوا ما نهاكم عنه و اعملوا الخير فإن قليله كثير نام مبارك و اتقوا الله حق تقاته و احذروا ما حذركم في كتابه و توقوا معصيته خشية من عقابه فليس فيها رغبة لأحد و استعفوا عما حرم الله و أمر باجتنابه و إياكم و المحقرات فإنها تقرب إلى الموجبات واعملوا قبل أن لا تعلموا و توبوا من الخطايا التي لا يغسلها إلا الله برحمته وصلوا على نبيكم كما أمركم ربكم ثم قال : أيها الناس ! إن الذي رأيتم مني لم يكن على حرص على ولايتكم ولكني خفت الفتنة و الإختلاف فدخلت فيها و هأنذا و قد رجع الأمر إلى أحسنه و كفى الله تلك الثائرة و هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم من الناس و أنا أجبيكم على ذلك وأكون كأحدكم فأجابه الناس : رضينا بك قسما و حظا إذ أنت ثاني اثنين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : اللهم ! صل على محمد و السلام على محمد و رحمة الله و بركاته اللهم ! إنا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك و لا نكفرك و نؤمن بك و نخلع من يكفرك
ثم نزل و استقام له الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بايعه الناس و رضوا به و سموه خليفة رسول الله إلا شرذمة مع علي بن أبي طالب تخلفوا عن بيعته
و كان أسامة بن زيد يقول : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أغير صباحا على أهل أبني ثم أمر أبو بكر أن يبعثوا بعث أسامة بن زيد فقال له الناس : إن العرب قد انتفضت عليك و إنك لا تصنع بتفرق المسلمين عنك شيئا قال : و الذي نفس أبي بكر بيده ! لو ظننت أن السباع أكلتني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإنفاذه ثم قال أبو بكر لأسامة : إن تخلف معي عمر بن الخطاب فافعل فأذن له أسامة فتخلف عمر مع ابي بكر و مضى أسامة حتى أوطأهم ثم رجع فسمع به المسلمون فخرجوا مسرورين بقدومه و لوائه معقود حتى دخل المسجد فصلى ركعتين ثم دخل بيته ولواءه معقود و يقال : إنه لم يحمل اللواء حتى توفي و وضعه في بيته
ثم كتب أبو بكر الصديق كتابا إلى معاذ بن جبل يخبره بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعثه مع عمار بن ياسر و قد كان معاذ أتى اليمن فبينا هو ذات ليلة على فراشه إذا هو بهاتف يهتف عند رأسه : يا معاذ ! كيف يهنئك العيش و محمد في سكرات الموت ؟ فوقف فزعا ما ظن إلا أن القيامة قد قامت فلما رأى السماء مصحية و النجوم ظاهرة استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم نودي الليلة الثانية : يا معاذ ! كيف يهنئك العيش و محمد بين أطباق الثرى ؟ فجعل معاذ يده على رأسه و جعل يتردد في سكك صنعاء و ينادي بأعلى صوته : يا أهل اليمن ! ذروني لا حاجة لي في جواركم فما شر الأيام يوم جئتكم و فارقت رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فخرج الشبان من الرجال و العواتق من النساء و قالوا : يا معاذ ! ما الذي دهاك ؟ فلم يلتفت إليهم و أتى منزله وشد على راحلته و أخذ جرابا فيه سويق و أداوة من ماء ثم قال : لا أنزل عن ناقتي هذه إن شاء الله إلا لوقت صلاة حتى آتي المدينة فبينا هو على ثلاثة مراحل من المدينة إذ لقيه عمار فعرفه بالبعير قال : اعلم يامعاذ أن محمدا قد ذاق الموت و فارق الدنيا فقال معاذ : يا أيها الهاتف في هذا الليل القار من أنت يرحمك الله ! قال : أنا عمار بن ياسر قال : و أين تريد ؟ قال : هذا كتاب أبي بكر إلى معاذ يعلمه أن محمدا قد مات و فارق الدنيا قال معاذ : فإلى من المهتدى والمشتكى ؟ فمن لليتامى و الأرامل و الضعفاء ؟ ثم سار و رجع عمار معه و جعل يقول : نشدتك بالله كيف أصحاب محمد قال : تركتهم كنعم بلا راع قال : كيف تركت المدينة قال : تركتها وهي أضيق على أهلها من الخاتم فلما كان قريبا من المدينة سمعت عجوزا و هي تذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي تبكي فقالت : يا عبد الله ! لو رأيت ابنته فاطمة و هي تبكي و تقول : يا أبتاه ! إلى جبريل ننعاه ! يا أبتاه ! انقطع عنا أخبار السماء و لا ينزل الوحي إلينا من عند الله أبدا فدخل معاذ المدينة ليلا و أتى باب عائشة فدق عليها الباب فقالت : من هذا الذي يطرق بنا ليلا ؟ قال : أنا معاذ بن جبل ففتحت الباب فقال : يا عائشة ! كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم عند شدة وجعه ؟ قالت : يا معاذ ! لو رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصفار مرة و يحمار أخرى يرفع يدا و يضع أخرى لما هنأك العيش طول أيام الدنيا ! فبكى معاذ حتى خشي أن يكون الشيطان قد استفزه ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم و أتى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم
ثم ظهر طليحة في أرض بني أسد و مالت فزارة فيها عيينة بن حصن بن بدر مرتدين عن الإسلام و بايعه بنو عامر على مثل ذلك و تربصوا ينظرون الوقعة بين المسلمين و بين بني أسد و فزارة و قد كان أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين بعثهم على الصدقات قد جمعوا ما كان على الناس منها فلما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما عدي بن حاتم فتمسك بالإسلام و بقي في يده الصدقات و كذلك الزبرقان بن بدر و أما مالك بن نويرة فأرسل ما في يده و قال لقومه : قد هلك هذا الرجل فشأنكم بأموالكم و قد كانت طيء و بنو سعد كلمهما عدي بن حاتم و الزبرقان بن بدر فقالا ـ و هما كانا أحزم رأيا و أفضل في الإسلام رغبة من مالك بن نويرة ـ لقومهما : لا تعجلوا فإنه ليكونن لهذا الأمر قائم فإن كان ذلك كذلك ألقاكم و لم تبدلوا دينكم و لم تعزلوا أمركم و إن كان الذي تطلبون فلعمري إن ذلك أموالكم بأيديكم لا يغلبنكم عليها أحد غيركم و سكناهم بذلك حتى أتاهم خبر الناس و اجتماعهم على أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بيعة المسلمين إياه فبعثا ما بأيديهم من الصدقة إلى أبي بكر فلم يزل أبو بكر يعرف فضلهما على من سواهما من المسلمين
و جاء العباس و فاطمة إلى أبي بكر يلتمسان ميراثهما من النبي صلى الله عليه و سلم و هما حينئذ يطلبان أرضه من فدك و سهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نورث ما تركناه صدقة ] إنما يأكل محمد من هذا المال و إني و الله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنعه فيه إلا صنعته فيه فهرجته فاطمة و لم تكلمه حتى ماتت
ثم جهز أبو بكر الجيش ليقاتل من كفر من العرب فترك إعطاء الصدقات و ارتد عن الإسلام فقال له عمر : كيف تقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله و قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ] فقال أبو بكر : و الله لأقاتلن من فرق بين الصلاة و الزكاة و الذي نفس أبي بكر بيده ! لو منعوني عقالا أو عناقا ـ كانو يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه حتى آخذها قال عمر : فلما رأيت شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق فأمر أبو بكر على الناس خالد بن الوليد و أمر ثابت بن قيس بن شماس على الناس الأنصار و جمع أمر الناس إلى خالد بن الوليد ثم أمرهم أن يسيروا و سار معهم مشيعا حتى نزل ذا القصة من المدينة على بريد وأميال فضرب معسكره و عبأ جيشه ثم تقدم إلى خالد بن الوليد و قال : إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم أذانا للصلاة فأمسكوا عنها حتى تسألوهم ما الذي يعلمون و إن لم تسمعوا الأذان فشنوا الغارة و اقتلوا و حرقوا ثم أمر خالد بن الوليد أن يصمد لطليحة و هو على ماء من مياه بني أسد و كان طليحة يدعي النبوة و ينسج للناس الأكاذيب و الأباطيل و يزعم أن جبريل يأتيه و كان يقول للناس : أيها الناس ! إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم و قبح أدباركم شيئا الأنصار و اذكروا الله قعودا و قياما و جعل يعيب الصلاة وهو يقول : إن الصريح تحت الرغوة و كان أول ما ابتلى من الناس طليحة أنه أصلب هو و أصحابه العطش في منزلهم فيه فقال طليحة فيما شجع لهم من أباطيله : اركبوا علالا يعني فرسا و اضربوا أميالا تجدوا قلالا ففعلوا فوجدوا ماء فافتتن الأعراب به ثم قال أبو بكر لخالد بن الوليد : لآتيك من ناحية خيبر إن شاء الله فيمن بقي من المسلمين و أراد أبو بكر أن يبلغ الخبر الناس بخروجه إليهم ثم ودع خالدا و رجع إلى المدينة و مضى خالد بالناس و كانت بنو فزارة و أسد يقولون : والله ! لا نبايع أبا الفصيل ـ يعنون أبا بكر و كانت طيء على إسلامها لم تزل عنه مع عدي بن حاتم و مكنف بن زيد الخيل فكانا يكالبانها و يقولان لبني فزارة : والله ! لا نزال نقاتلكم إن شاء الله فلما قرب خالد بن الوليد من القوم و بعث عكاشة بن محصن و ثابت بن أقرم أخا بني العجلان طليعة أمامه و خرج طليحة بن خويلد المتنبئ و أخوه سلمة بن خويلد أيضا طليعة لمن وراءهما فالتقيا عكاشة بن محصن و ثابت بن أقرم فانفرد طليحة بعكاشة و سلمة بن خويلد بثابت فأما سلمة فلم يلبث ثابتا أن قتله ثم صرخ طليحة و قال : يا سلمة ! أعني على الرجل فإنه قاتلي فاكتنفا عكاشة حتى قتلاه و كرا راجعين إلى من وراءهما فلما وصل خالد و المسلمون إلى ثابت بن أرقم و عكاشة بن محصن و هما قتيلان عظم ذلك على المسلمين وراءهم ثم مضى خالد حتى نزل على طيء في خللهم سلمى فضرب معسكره و انضم إليه من كان من المسلمين في تلك القبائل ثم تهيأ للقتال و سار إلى طليحة وهو على مائة و التقى معه طليحة في سبعمائة رجل من بني فزارة فاقتتلوا قتالا شديدا و طليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر يتنبأو يسجع فهز عيينة بن حصن الحرب و شد القتال ثم كر على طليحة فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا فرجع عيينة و قاتل حتى إذا هزته الحرب كر عليه ثانية و قال : لا أبا لك ! هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : نعم ! قال : فماذا قال لك قال : قال لي : إن لك رحى كرحاه و حديثا لا تنساه قال عيينة : أظن الله أنه قد علم أنه سيكون لك حديث لا تنساه يا بني فزارة هكذا فانصرفوا فهذا والله كذاب فانصرف و انصرفت معه فزارة و انهزم الناس و كان طليحة قد أعد فرسا له عنده و هيأ بعيرا لامرأته النوار ثم اجتمعت إليه فزارة و هم مبارزون فقالوا : ما تأمرنا فلما سمع منهم ذلك استوى على فرسه و حمل امرأته على البعير ثم نجا بها و قال لهم : من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت و ينجو بأهله فليفعل ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشام و انصرفت فزارة و قتل منهم من قتل ثم دخلت القبائل في الإسلام على ما كانوا عليه من قبل
فلما فرغ خالد من بيعتهم أوثق عيينة بن حصن و قرة بن هبيرة بن سلمة و بعث بهما إلى أبي بكر فلما قدما عليه قال قرة : يا خليفة رسول الله ! إني كنت مسلما و إن عند عمرو بن العاص من إسلامي شهادة قد مر بي فأكرمته و قربته و كان عمرو بن العاص هو الذي جاء بخبر الأعراب و ذلك أن عمرا كان على عمان فلما أقبل راجعا إلى المدينة مر بهوازن و قد انتقضوا و فيهم سيدهم قرة بن هبيرة فنزل عليه عمرو بن العاص فنحر له و أقراه و أكرمه فلما أراد عمرو الرحيل خلى به قرة بن هبيرة و قال : يا عمرو ! إنكم معشر قريش إن أنتم كففتم عن أموال الناس و تركتموها لهم ـ يريد الصدقات ـ فقمن أن يسمع لكم الناس و يطيعوا فإن أنتم أبيتم إلا أخذ أموالهم فإني و الله ما أرى العرب مقرة بذلك لكم و لا صابرة عليه حتى تنازعكم أمركم و يطلبوا ما في أيديكم فقال عمرو بن العاص : أبالعرب تخوفنا موعدك أقسم بالله ! لأوطئنه عليك الخيل ثم مضى عمرو حتى قدم المدينة على أبي بكر و أخبره الخبر قبل خروج خالد إليهم فتجاوز أبو بكر عن قرة ابن هبيرة و عيينة بن حصن و حقن لهما دماءهما
و لما فرغ خالد بن الوليد من بيعة بني عامر و بني أسد قال : إن الخليفة قد عهد إلي أن أسير إلى أرض بني غانم فسار حتى نزل بأرضهم و بث فيها السرايا فلم يلق بها جمعا و أتى بمالك بن نويرة في رهط من بني تميم و بني حنظلة فأمر بهم فضربت أعناقهم و تزوج مكانه أم تميم و امرأة مالك بن نويرة فشهد أبو قتادة لمالك بن نويرة بالإسلام عند أبي بكر ثم رجع خالد يؤم المدينة فلما قدمها دخل المسجد و عليه درع معتجرا بعمامة و عليه قباء عليه صدأ الحديد قد غرز في عمامته أسهما فقام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال : أقتلت امرأ مسلما مالك بن نويرة ثم تزوجت امرأته ؟ و الله ! لنرجمك بأحجارك و خالد بن الوليد لا يكلمه و لا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر و اعتذر إليه أنه لم يعلم فعذره أبو بكر و تجاوز عنه ما كان منه في حربه تلك فخرج خالد من عنده و عمر جالس في المسجد فقال : هلم إلي ابن أم شملة ! فعرف أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه فقام فدخل بيته
ثم ماتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أبيها بستة أشهر فدفنها علي ليلا و لم يؤذن به أبا بكر و لا عمر و كان لعلي جهة من الناس حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي فلما رأى انصراف الناس ضرع علي إلى مصالحة أبي بكر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا و لا تأتنا معك بأحد و كره أن يأتيه عمر لما علم من شدته فقال عمر : لا تأتهم وحدك فقال أبو بكر : و الله ! لآتينهم وحدي و ما عسى أن يصنعوا بي ؟ فانطلق أبو بكر و حده حتى دخل على علي و قد جمع بني هاشم عنده فقام علي و حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك و لا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك و لكنا كنا نرى أن لنا في هذا حقا فاستبددت به علينا ثم ذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و حقهم و لم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! و الله لقرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب إلي أن أصل من قرابتي و إني و الله ما أعلم في هذه الأمور التي كانت بيني و بين علي إلا الخير و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد من هذه المال قوتا ] و إني و الله لا أدع أمرا صنع فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا صنعته إن شاء الله ثم قال : موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به ثم قام علي فعظم من حق أبو بكر و ذكر فضيلته و سابقته ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه و أقبل الناس على علي فقالوا : أصبت و أحسنت
ثم توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق و كان أصابه سهم بالطائف مع النبي صلى الله عليه و سلم رماه ابن محجن ثم دمل الجرح فمات في شوال بعد الظهر و نزل حفرته عبد الرحمن بن أبي بكر و عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله و دخل عمر على أبي بكر و هو آخذ بلسانه ينصنصه فقال له عمر : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ! الله الله ! فقال أبو بكر : هذا أوردني الموارد
فلما دخل شهر ذي الحجة حج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة و اشترى مولاه أسلم في حجته تلك ثم رجع إلى المدينة
ثم وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى اليمامة و كان مسيلمة قد تنبأ بها في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أمره ضعيفا ثم وفد إلى النبي صلى الله عليه و سلم و رجع إلى قومه فشهد رجال بن عنفوة لأهل اليمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أشركه في الأمر فعظم فتنته عليهم
و خرج خالد بن الوليد بالمهاجرين و الأنصار حتى إذا دنا من اليمامة نزل واديا من أوديتهم فأصاب في ذلك الوادي مجاعة بن مرارة في عشرين رجلا منهم كانوا خرجوا يطلبون رجلا من بني تميم و كان أصاب لهم دما في الجاهلية فلم يقدروا بذلك الوادي فلم ينبههم إلا خيل المسلمين قد وقفت عليهم فقالوا : من القوم ؟ فقالوا : بنو حنيفة قال : فلا أنعم لكم علينا ثم نزلوا فاستوثقوا منهم فلما أصبح دعاهم خالد بن الوليد فقال : يا بني حنيفة ! ما تقولون ؟ فقالوا : منا نبئ و منكم نبئ فعرضهم خالد على السيف حتى بقي سارية ابن عامر و مجاعة بن مرارة فقال له سارية : يا أيها الرجل ! إن كنت تريد هذه القرية فاستبق هذا الرجل و أوثق مجاعة في الحديد و دفعه أم تميم امرأته و قال : استوصي به خيرا و ضرب عنق سارية بن عامر ثم سار بالمسلمين حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة و ضرب معسكره هناك و خرج أهل اليمامة مسيلمة و تصاف الناس و كان خالد جالسا على سريره و مجاعة مكبل عنده و الناس على مصافهم إذ رأى بارقة في بني حنيفة فقال خالد : أبشروا يا معشر المسلمين ! قد كفاكم الله عدوكم و اختلف القوم فكر مجاع إليه و هو مكبل فقال : كلا و الله إنها الهندوانية خشوا من تحطمها فأبرزوها للشمس لتلين لهم فكان كما قال فلما التقى الناس كان أول من خرج رجال بن عنفوة فقتل و اقتتل المسلمون قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون و خلص أصحاب مسيلمة إلى الرحال و دخلوا فسطاط خالد بن الوليد و فيه مجاعة مكبلا عند أم تميم امرأة خالد فحمل عليها رجل بالسيف فقال مجاعة : أنا لها جار فنعمت الحرة عليكم بالرجال فرحبلوا الفسطاط بالسيف ثم إن المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس بن شماس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء المسلمون ثم أخذ سيفه حتى جالد به حتى قتل و رأى زيد بن الخطاب انكشاف المسلمين عن رحالهم فتقدم فقاتل حتى قتل و قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك و كان البراء ـ فيما يقال ـ إذا حضر البأس أخذه انتفاض حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول في سراويله فإذا بال صار مثل السبع فلما رأى ما صنع المسلمون من الانكشاف و ما رأى من أهل اليمامة أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال فلما بال وثب فقال : أين يا معشر المسلمين ؟ أنا البراء بن مالك هلموا إلي فاجتمع عنده جماعة من المسلمين فقاتل القوم قتالا شديدا حتى خلصوا إلى محكم اليمامة و هو محكم بن الطفيل فلما بلغه القتال قال : يا معشر حنيفة ! الآن و الله تستحقب الكرائم غير رضيات و ينكحن غير حظيات فما كان عندكم من حسب فأخرجوه ثم تقدم فقاتل قتالا شديدا فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر بسهم فوضعه في نحره فقتله و زحف المسلمون حتى ألجأوهم إلى الحديقة و فيها مسيلمة فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ! ارموني عليهم في الحديقة فقال الناس : لا تفعل يا براء ! فقال : و الله أفعل فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحم فقاتلهم حتى فتحها الله للمسلمين و دخل عليهم المسلمون و قتل مسيلمة اشترك وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم و رجل من الأنصار في قتله فرماه و حشي بحربته و ضربه الأنصاري بسيف فكان وحشي يقول : ربك أعلم أينا قتله ! قتلت : خير الناس و شر الناس
فلما فرغ المسلمون من مسيلمة و أتى خالدا الخبر فخرج بمجاعة في الحديد يرسف معه ليدله على مسيلمة و كان يكشف القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل و كان رجلا و سيما فقال خالد : هذا صاحبكم فقال مجاعة : لا ! هذا و الله خير منه و أكرم هذا محكم اليمامة ثم دخلوا الحديقة و قلبا القتلى فإذا رويجل أصيفر أخينس فقال مجاعة : إنه و الله ما جاءك إلا سرعان الناس و إن جماهير الناس في الحصون فقال : و يلك ما تقول ؟ قال : و الله إن ذلك لحق فهلم أصالحك على قومي فصالحه خالد بن الوليد على الصفراء و البيضاء و الحلقة و نصف السبي ثم قال لمجاعة : امض إلى القوم فاعرض ما صنعت فانطلق إليهم ثم قال للنساء : البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون ثم انتهى إلى خالد قال : إنهم لم يرضوا على مصالحتك عليه و لكن إن شئت شيئا صنعت و عرضت على القوم ! قال : ما هو ؟ قال : تأخذ ربع السبي ربعا قال خالد : قد فعلت ! قال : قد صالحتك فلما فرغا دخلوا الحصن فإذا ليس رجل واحد رماهم إلا النساء و الصبيان فقال خالد لمجاعة : خدعتني قال : قومي
ثم بعث أبو بكر إلى خالد بن الوليد بسلمة بن سلامة بن وقش يأمره أن لا يستبقي من بني حنيفة رجلا قد أنبت فأتاه سلمة و قد فرغ خالد من الصلح
ثم إن خالدا قد بعث وفدا من بني حنيفة إلى أبي بكر فقدموا عليه فقال أبو بكر : و يحكم ! ماهذا الرجل الذي استزل منكم ما استزل قالوا : يا خليفة رسول الله ! قد كان الذي بلغك و كان امرءا لم يبارك الله له و لا لعشيرته فيه قال أبو بكر : على ذلك ما دعاكم إليه ؟ قالوا : كان يقول : يا ضفدع نقي نقي ! لا الشراب تمنعين و لا الماء تكدرين لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكن قريشا قوم يعتدون فقال أبو بكر : سبحان الله سبحان الله فلما فرغ خالد من الصلح نزل واديا من أودية اليمامة فبينما هو قاعد إذ دخل عليه رجل من بني حنيفة يقال له سلمة بن عمير فقال لمجاعة : استأذن لي على الأمير فإن لي إليه حاجة فأتى عليه مجاعة ثم قال مجاعة : إني و الله لأعرف الشر في وجهه ثم نظر فإذا هو مشتمل على السيف فقال : ما لك لعنك الله ! أردت أن تستأصل بني حنيفة و الله لئن قتلته ما ترك في بني حنيفة صغير و لا كبير إلا قتل فانقلب الرجل و معه سيفه فوقع في حائط من حوائط اليمامة و حبس به المسلمون فدخلوا خلف الحائط فقتل
و كان من استشهد من المسلمين يوم اليمامة من قريش ممن يحضرنا ذكرهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة و سالم مولى أبي حذيفة و شجاع بن وهب بن ربيعة و مالك بن عمرو و يزيد بن قيس و صفوان بن أمية بن عمرو و أخوه مالك بن أمية و الطفيل بن عمرو الدوسي و جبير بن مالك و أمه بحينة و يزيد بن أوس و حيي بن حارثة و الوليد بن عبد شمس بن المغيرة و حكيم بن حزام بن أبي وهب و زيد بن الخطاب بن نفيل و عبد الله بن عمرو بن بحرة و عبد الله بن الحارث بن قيس و أبو قيس بن الحارث و عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى و عبد الله بن سهيل بن عمرو و سليط بن سليط بن عمرو و عمرو بن أوس بن سعد بن أبي سرح و ربيعة بن أبي خرشة و منقذ بن عمرو بن عطية و عبد الله بن الحارث بن رخصة
و استشهد من الأنصار يوم اليمامة ثابت بن قيس بن شماس و عباد بن بشر ابن وقش و رافع بن سهل و عبد الله بن عتيك و حاجب بن زيد و سهل بن عدي و مالك بن أوس و معن موليان لهم وفروة بن العباس و كليب بن تميم و عامر بن ثابت و بشر بن عبد الله و عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول و عبد الله بن عتبان و ثابت بن هزال و أسيد بن يربوع و أوس بن ورقة و سعد بن حارثة بن لوذان و سماك بن خرشة أبو دجانة و سعد بن حمار و عقبة بن عامر بن نابي و ضمرة بن عياض و عبد الله بن أنيس و مسعود بن سنان و حبيب بن زيد و أبو حبة بن غزية بن عمرو و عمارة بن حزم بن زيد و يزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد رمي بسهم فمات في الطريق و ثابت بن خالد بن عمرو بن خنساء و فروة بن النعمان بن الحارث و عائذ بن ماعص الزرقي و حبيب بن عمرو بن محصن
ثم انصرف خالد بن الوليد بالمسلمين حتى قدم المدينة على أبي بكر و ارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب إلا الجارود بن عمرو بن خنش بن معلى فإنه ثبت على الإسلام فيمن تبعه من قومه وقالت ربيعة بعضها لبعض : نرد الملك إلى المنذر بن ساوى و كان المنذر ملكهم في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم العلاء بن الحضرمي فأسلم المنذر و أقام العلاء بها إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فملك ربيعة المنذر بن النعمان بن المنذر بن ساوى و جمع جمعهم على الارتداد فلما بلغ أبا بكر خبرهم بعث إليهم العلاء بن الحضرمي و أمره بثمامة بن أثال الحنفي و كان قد أسلم ثمامة و أسلم بنو سحيم معه فلما مر العلاء بثمامة بن أثال معه من اتبعه من قومه من بني سحيم و سارت ربيعة إليهم فحاصروهم بجواثا ـ حصن بالبحرين و أصاب المسلمون جهدا شديدا من الجوع حتى كادوا أن يهلكوا فخرج عبد الله بن حذف ليلة من الليالي يتجسس أخبارهم و يجيء المسلمين بالخبر فأتى الحصن و احتال في دخوله فوجدهم سكارى فرجع فأخبر المسلمين أن القوم سكارى لا غناء بهم فبيتهم العلاء بن الحضرمي فيمن معه من المسلمين و قاتلوهم قتالا شديدا حتى فتح الله على المسلمين حصنهم و قسم العلاء بن الحضرمي الغنيمة بالبحرين و جمع بها صلاة الجمعة
و خرج الأسود بن كعب العنسي في كندة فباع الناس و المهاجر بن أبي أمية أميرها و سمعت كندة بذلك و اتفقت أيضا مع من اتبع الأسود على نصره و كان على حضرموت زياد بن لبيد البياضي فلما رأى ذلك منهم بيتهم بالليل و قتل منهم أربعة من الملوك في محاجرهم : جمدا و محوصا و مشرحا و أبضعة ثم كتب المهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر يخبره بانتفاض الناس و يستمد منه فبعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل في جيش معه إلى المدينة و كانت قطعة من كندة ثبتت على الإسلام مع زياد بن لبيد و قطعة مع المهاجر بن أبي أمية و زياد بن أبي لبيد بالحرب فلما اشتد عليهم الحصار نزل إليهم الأشعث بن قيس و سألهم الأمان على دمه و أهله و ماله حتى يقدموه على أبي بكر فيرى فيه رأيه و أن يفتح النجير ففعلوا ذلك و فتح النجير و استزلوا من فيه من الملوك و ضربت أعناقهم و استوثقوا من الأشعث بن قيس و بعثوا به إلى أبي بكر مع السبي وقتل الأسود بن كعب العنسي في بيته فلما قدم الأشعث على أبي بكر قال أبو بكر : فما تأمرني أن أصنع فيك فإنك فعلت ما علمت ؟ قال الأشعث : تمن علي وتفكني من الحديد و تزوجني أختك فإني قد راجعت و أسلمت قال أبو بكر : قد فعلت فزوجه أخته فروة بنت أبي قحافة
ثم قدم أهل البحرين على أبي بكر يفتدون سباياهم أربعمائة فخطب أبو بكر الناس فقال : أيها الناس ! ردوا على الناس سباياهم لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يغيب عنه منهم أحد ثم جاء جابر بن عبد الله أبا بكر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن جاءنا مال من البحرين أعطيناك هكذا و هكذا ] فحرز له أبو بكر [ هكذا ] خمسمائة درهم فأعطاه من مال البحرين ألفا و خمسمائة درهم ثم اعتمر أبو بكر في رجب و خرج هو و عبد الرحمن بن صبيحة على راحلتين و استخلف على المدينة عمر بن الخطاب و قدما مكة ضحوة و خرج منها قبل الليل و مات أبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب و تزوج عمر ابن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ثم خرج أبو بكر سنة اثنتي عشرة و استخلف على المدينة عثمان بن عفان و خرج لليلتين بقيتا من ذي القعدة و أحرم من ذي الحليفة و قدم مكة لسبع خلون من ذي الحجة و كان قد ساق معه عشر بدنات فخطبهم قبل التروية بيوم في المسجد الحرام و أمرهم بتقوى الله و نهاهم عن معصيته المسلمين و عظم عليهم حرمة الإسلام و أمرهم بالقصد في مسيرهم و الترفق و تلا عليه آيات من القرآن ثم قال : من استطاع منكم أن يصلي الظهر بمنى غدا فليفعل ثم حج لهم و نحر البدن و رمى الجمار ماشيا ذاهبا و جائيا
و مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة و كان يسمى جرو البطحاء و أوصى إلى الزبير بن العوام فزوج الزبير ابنته علي بن أبي طالب
ثم قفل أبو بكر من الحج إلى المدينة فلما قدمها كتب إلى خالد بن الوليد يريد العراق و قد قيل : إنه قد قدم المدينة ثم خرج إلى العراق فلما بلغ خالد بن الوليد إلى قريات من السواد يقال لهن بانقياء باروسما و أليبس صالح أهلها و كان الذي صالحه عليها ابن صلوبا فقبل منهم الجزية و كتب له كتابا ـ بسم اله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادي و منزله بشاطئ الفرات أنك آمن بأمان الله ممن حقن دمه بإعطاء الجزية و قد أعطيت عن نفسك و من كان في قريتك ألف درهم فقبلناها و رضي من معي من المسلمين بها عنك فلك ذمة الله و ذمة محمد صلى الله عليه و سلم و ذمم المسلمين على ذلك و شهد هشام بن الوليد ثم أقبل خالد حتى نزل الحيرة و كان عليها قبيصة بن إياس بن حية الطائي أميرا لكسرى فخرج إليه بأشرافهم فقال لهم خالد : أدعوكم إلى الله و إلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم و عليكم ما عليهم و إن أبيتم فالجزية فإن أبيتم الجزية فقد أتيتك بأقوام أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا و بينكم فقال له قبيصة بن إياس : ما لنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا و نعطيك الجزية فصالحهم على تسعين ألف درهم كل سنة فكانت أول جزية و قعت بالعراق هذه و التي صالح عليها ابن صلوبا
و بعث أبو بكر بعد قفوله من الحج الجنود إلى الشام فبعث عمرو بن العاص إلى فلسطين فأخذ طريق المعرقة على أيلة و بعث يزيد بن أبي سفيان و أبا عبيدة ابن الجراح و شرحبيل بن حسنة إلى الشام و أمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام و بعث خالد بن سعيد بن العاص على ربع من الأرباع فلم يزل عمر بن الخطاب بأبي بكر حتى عزله و أمر مكانه ابن أبي سفيان و خرج أبو بكر مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه و يزيد راكب قال : أيها الأمير ! إما أن تركب و إما أن أنزل ! فقال : ما أنت بنازل و لا أنا براكب أليست خطاي هذه في سبيل الله ! ثم قال : يا يزيد ! إنكم ستقدمون بلادا فإذا أكلتم الطعام فسموا الله على أولها و احمدوه على آخرها و ستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما حبسوا أنفسهم و ستجدون أقواما قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد يعني الشمامة ـ فاضربوا تلك الأعناق و لا تقتلن كبيرا هرما و لا امرأة و لا وليدا و لا تعقرن بهيمة إلا لنفع و لا تخربن عمرانا و لا تقطعن بحرا إلا لنفع و لا تغل و لا تغدر و لا تخن { و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } أقرئك السلام و أستودعك الله ! ثم انصرف أبو بكر و مضى يزيد بن أبي سفيان و تبعه شرحبيل بن حسنة و أبو عبيدة بن الجراح فردا فردا و نزل عمرو بن العاص في قصره بغمر العربات و نزل الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفا عليهم تذراق أخو هرقل لأبيه و أمه فكتب عمرو بن العاص إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم و يستمده فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد و هو يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه من أهل القوة و يستخلف على ضعفة الناس رجلا منهم فلما أتاه كتاب أبي بكر قال خالد هذا عمل الأعيسر ابن أم شملة ـ يعني عمر بن الخطاب ـ حسدني أن يكون فتح العراق على يدي فسار خالد بأهل القوة من الناس و رد الضعفاء و النساء إلى المدينة و أمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري واستخلف على من أسلم بالعراق من ربيعة و غيرهم المثنى بن حارثة الشيباني فلما بلغ خالد بمن معه عين النمر أغار على أهلها فأصاب منهم و رابط حصنا بها فيه مقاتلة لكسرى حتى استنزلهم و ضرب أعناقهم و سبى منهم سبايا كثيرة وكان من تلك السبايا أبو عمرة والد عبد الأعلى بن أبي عمرة و يسار جد محمد بن إسحاق و حمران بن أبان مولى عثمان و أبو عبيد مولى المعلى و خير مولى أبي داود الأنصاري و أبو عبد الله مولى زهرة
فأراد خالد المسير و التمس دليلا فدل على رافع بن عميرة الطائي فقال له خالد : انطلق بالناس فقال له رافع : إنك لا تطيق ذلك بالجنود و الأثقال و الله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه و ما يسلكها إلا مغررا ! إنها لخمس ليال جياد و لا يصاب فيها ماء مع مضلتها قال له خالد : ويحك ! ألا بد لي منها ؟ إنه قد أتاني من الأمير عزمة بذلك فمر بأمرك فقال رافع : استكثروا من الماء من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل فإنها المهالك إلا ما دفع الله فتأهب المسلمون و سار خالد بمن معه فلما بلغوا آخر يوم من المفازة قال خالد لرافع بن عميرة : ويحك يا رافع ! ما عندك ؟ قال : أدركت الري ـ إن شاء الله ! فلما دنا من العلمين قال رافع للناس : انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل فلم يروا شيئا فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون ! هلكتم و الله إذا و هلكت ! انظروا فاطلبوها فطلبوا فوجدوها قد قطعت و بقي منها بقية فلما رآها المسلمون كبروا و كبر رافع بن عميرة ثم قال : احفروا في أصلها فحفروا فاستخرجوا عينا فشربوا حتى روي الناس ثم اتصل بعد ذلك لخالد المنازل فقال رافع : فو الله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة ! وردتها مع أبي و أنا غلام فلما بلغ الخالد و المسلمون إلى سوي أغار على أهله و هم بهراء قبيل الصبح و إذا جماعة منهم يشربون الخمر في جفنة لهم قد اجتعوا عليها و مغنيهم يقول :
( ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب و لا ندري )
فقتلهم خالد بن الوليد و قتل مغنيهم و سال دمه في تلك الجفنة ثم سار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط حتى نزل على قناة بصرى و عليها أبو عبيدة بن الجراح و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان و خرج خالد بن سعيد ابن العاص بمرج الصفر في يوم مطير يستمطر فيه فتعاوى عليه أعلاج الروم فقتلوه و اجتمع خالد بن الوليد و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان معهم حتى صالحته بصرى على الجزية و فتحها الله للمسلمين فكانت تلك أول مدينة فتحت بالشام ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص و عمرو مقيم بالعربات من غور فلسطين و سمع الروم باجتماع المسلمين لعمرو ابن العاص فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين و أجنادين بلد بين الرملة و بيت جبرين من أرض فلسطين و سار المسلمون إلى أجنادين و كان الأمراء أربعة و الناس أرباعا إلا عمرو بن العاص كان يزعم أنه جميعهم
فلما اجتمعت العساكر و تدانت بعث صاحب الروم رجلا عربيا ليأتي بخبر المسلمين فخرج الرجل و دخل مع المسلمين و أقام فيهم يوما و ليلة لا ينكر ثم أتى الروم فقالوا له : ما وراءك ؟ فقال : أما بالليل فرهبان و أما بالنهار ففرسان و لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده و لو زنى رجموه لإقامة الحق فيهم
ثم تزاحف الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فقال صاحبهم لهم : لفوا رأسي في ثوب قالوا له : و لم ؟ قال : يوم موقف البئيس لا أحب أن أراه ما رأيت في الدنيا أشد منه و كانت الهزيمة على الروم فلقد قتل صاحبهم و إنه لملفف في ثوبه و كان لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فقتل بأجنادين من المسلمين : نعيم بن عبد الله النحام و هشام بن العاص بن وائل و عمرو بن عكرمة و الطفيل بن عمرو الدوسي و عبد الله بن عمرو حليف لهم و جندب بن عمرو بن حممة الدوسي و ضرار بن الأزور و طليب بن عمرو بن وهب و سلمة بن هشام بن المغيرة و هبار بن سفيان بن الأسود و الحارث بن الحارث و الحجاج بن الحارث و قيس بن صخر و نعيم بن عامر
و هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن فرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو حفص العدوي و أم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل بن هشام [ حدثنا محمد بن القاسم الدقاق بالمصيصة : ثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ثنا هارون بن زياد الحنائي ثنا الحارث بن عمير عن حميد عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر ]
قال أبو حاتم : فلما حانت منية أبي بكر رحمة الله عليه اغتسل قبلها يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الأخرة و كان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما حتى قطعته العلة عن حضور الصلاة و كان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس و كان الناس يعودونه و هو في منزله الذي أقطع له النبي صلى الله عليه و سلم وجاه دار عثمان بن عفان اليوم فبينا هو في ليلة من الليالي عند نسائه أسماء بنت عميس و حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير و بناته أسماء و عائشة و ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر إذ قالت عائشة : أتريد أن تعهد إلى الناس عهدا ؟ قال : نعم قالت : فبين للناس حتى يعرفوا الوالي بعدك قال : نعم قالت عائشة : إن أولى الناس بهذا الأمر بعدك عمر و قال عبد الرحمن بن أبي بكر : إن قريشا تحب ولاية عثمان بن عفان و تبغض ولاية عمر لغلظه فقال أبو بكر : نعم الوالي عمر و ما هو بخير له أن يلي أمة محمد أما إنه لا يقوى عليهم غيره إن عمر رآني لينا فاشتد و لو كان واليا للان لأهل اللين و اشتد على أهل الريب فلما أصبح دعا نفرا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر منهم عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوفو سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد فقال لعبد الرحمن بن عوف : يا أبا محمد أخبرني عن عمر ! فقال : يا خليفة رسول الله ! هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل و لكن فيه غلظة فقال لعبد الرحمن بن عوف ذلك لأنه رآني لينا فاشتد و لو آل إليه الأمر لترك كثيرا مما هو عليه اليوم إني إذ غضبت على الرجل أراني الرضاعنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد مما ذكرت لك شيئا قال : نعم ثم دعا عثمان بن عفان فقال : يا أبا عبد الله ! أخبرني عن عمر فقال أنت أخبر به فقال أبو بكر : فعلي ذلك قال : إن علمي أن سريرته خير من علانيته و أن ليس فينا مثله قال : يرحمك الله يا أبا عبد الله ! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا قال : أفعل فقال له أبو بكر : لو تركته ما عدوتك و ما أدري لعلي تاركه و الخيرة له أن لا يلي أمركم و لوددت أني خلو من أمركم و أني كنت فيمن مضى من سلفكم ثم قال لعثمان : اكتب : هذا ماعهد عليه أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه فذهب عنه فكتب عثمان : أما بعد فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و لم آلكم خيرا ثم فاق أبو بكر فقال : اقرأ علي فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر فقال : جزاك الله عن الإسلام خيرا ! ثم رفع أبو بكر يديه فقال : اللهم ! وليته بغير أمر نبيك و لم أرد بذلك إلا صلاحهم و خفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به و قد حضر من أمري ما قد حضر فاجتهدت لهم الرأي فوليت عليهم خيرهم لهم و أقواهم عليهم و أحرصهم على رشدهم و لم أرد محاباة عمر فاجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدى نبي الرحمة و هدى الصالحين بعده و أصلح له رعيته و كتب بهذا العهد إلى الشام إلى المسلمين إلى أمراء الأجناد أن قد و ليت عليكم خيركم و لم آل لنفسي و لا للمسلمين خيرا
و أو صى أن تغسله أن أسماء بنت عميس ثم نادى عمر بن الخطاب فقال له : إني مستخلفك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عمر : إن الله حقا في الليل لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله في الليل و إنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ياعمر ! إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق و ثقله عليهم و حق لميزان لا يوضع فيه غير الحق أن يكون ثقيلا يا عمر ! إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل و حق لميزان لا يوضع فيه غير الباطل أن يكون خفيفا ياعمر ! إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة و آية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله فيها ما ليس لك و لا ترهب رهبة تلقى فيها يديك يا عمر ! إنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم ردا عليهم ما كان من خير فإذا ذكرتهم قلت : لأرجو أن لا أكون منهم و إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت : أي عمل من أعمالهم أعمل ! فإن حفظت و صيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الحاضر من الموت و لست بمعجزه
و توفي أبو بكر رضي الله عنه ليلة الإثنين لسبع خلت من جمادى الآخرة و له يوم مات اثنتان و ستون سنة و كانت خلافته سنتين و ثلاثة أشهر و اثنان و عشرون يوما و كان مرضه خمس عشرة ليلة و غسلته أسماء بنت عميس و كفن في ثلاث أثواب و نزل في قبره عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و طلحة بن عبيد الله و عبد الرحمن بن أبي بكر و دفن ليلا بجنب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أراد ابن عمر أن ينزل قبر أبي بكر مع أبيه فقال له عمر : قد كفيت و كان أبو قحافة بمكة فسمع الهائعة فقال : ماهذا ؟ فقيل : مات ابنك فقال : رزء جليل فإلى من عهد ؟ قالوا : لعمر : صاحبه و ورثه أبو قحافة السدس و كان من عمال أبي بكر يوم توفي عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف و العلاء بن الحضرمي على البحرين و يعلى بن أمية على خولان و مهاجر بن أبي أمية على صنعاء و زياد بن لبيد على حضرموت و عمرو بن العاص على فلسطين و على الشام أربعة نفر من الأجياد : خالد بن الوليد و أبو عبيدة بن الجراح و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان و مات أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي دفن فيه أبو بكر
ثم قام عمر بن الخطاب في الناس خطيبا و هي أول خطبة خطبها بعدما استخلف فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس ! إني لا أعلمكم من نفسي شيئا تجهلونه أنا عمر بن الخطاب و قد علمتم من هيئتي و شأني و إن بلاء الله عندي في الأمور كلها حسن و قد فارقني رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عني راض بحمد الله و لم يجد علي في شيء من خلقي و أنا أسعد الناس بذلك إن شاء الله و قمت لخليفته من بعده بحق الطاعة و أحسنت له المؤازرة و لم أحرص على القيام عليكم كالذي حرص علي و لكن خليفتكم المتوفى أوصى إلي بالخلافة عليكم برضى منكم و آلوه الهمة ذلكم و إياكم و لولا الذي أرجو أن يأجرني الله في قيامي عليكم لم أقم عليكم و لنحيته عن نفسي و وليته غيري و قد كنت أرى فيكم أمورا على عهد نبيكم صلى الله عليه و سلم كدت أكرها و يسوءني منكم فقد رأيتم تشددي فيها و الأمر الذي أمربه من فوقي أريد طاعة الله و إقامة الدين فأطعتكم قد علمتم ـ أو من علم ذلك منكم ـ أني قد كنت أفعل ذلك و ليس لي عليكم من سلطان و اكن أهن في شيءمنه و قد ولاني الله اليوم أمركم و لقد علمت أني أفع بحضرتكم لكم فإني أسأل الله ربي أن يعينني عليه و أن يحرسني عندما بقي كما حرسني عند غيره و أن يلقنني العقل في قسمكم كالذي أمر به ثم إني مسلم و عبد من عبيده ضعيف إلا ماأعان الله و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله و إنما العظمة لله ليس للعباد منها شيء فلا يقولن أحد منكم : إن عمر بن الخطاب تغير لما ولي أمر المسلمين فمن ظلمته مظلمة فإني أعطيه الحق من نفسي و أتقدم عليكم و أبين لكم أمري أيما رجل كانت له حاجة إلى أمير المؤمنين أو ظلم بمظلمة أو عتب علينا في حق فليؤذني فإنما أنا امرؤ منكم و لم يحملني سلطاني الذي أنا عليه أن أتعظم عليكم و أغلق بابي دونكم و أترك مظالمكم بينكم وإذا منع الله أهل الفاقة منكم اليوم شيئا بعد اليوم فإنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم لست و إن كنت أمير المؤمنين و لن أخفي إبقاء إن كان بيني و بين أحد منكم خصومة أقاضيه إلى أحدكم ثم أقنع بالذي يقضي بيننا فاعلموا ذاك و إنكم قوم مسلمون على شريعة الإسلام ثم عليكم بتقوى الله في سركم و علانيتكم و حرماتكم التي حرم الله عليكم من دمائكم و أموالكم و أعراضكم و أعطوا الحق من أنفسكم و لا يحملن بعضكم بعضا إلى أن يوقع إلى السلطان شأنه فليستعد بي فإنه ليس بيني و بين أحد من الناس هوادة من منع نفسه حقا واجبا عليه أو استحيل من دماء المسلمين و أعراضهم و أبشارهم فأنا أقتص منه وإن كان يدلي إلي بقرابة قريبة ثم إنكم ـ معشر العرب ـ في كثير منكم جفاء في الدين و خرق في الأمور إلا من عصمة الله برحمة و إني قد جعلت بسبيل أمانة عظيمة أنا مسؤول عنها و إنكم أيها الناس لن تغنوا عني من الله شيئا و إني حثيث على صلاحكم عزيز علي ماعنتم حريص علي معافاتكم و إقامة أموركم و إنكم إناء من حصل في سبيل الله عامتكم أهل بلد لا زرع فيها و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه و إن الله قد و عدكم كرامة كبيرة و دنيا بسيطة لكم و إني مسؤول عن أمانتي و ما أنا فيه و لا أستطيع ما بعد منها إلا بالأمناء و أهل النصح منكم للشاهد و الغائب و لست أجعل أمانتي إلى أحد ليس لها بأهل و لن أوليه ذلك و لا أجعله إلا من تكون رغبته في أداء الأمانة و التوقير للمسلمين أولئك أحق بها ممن سواهم اللهم صل على محمد عبدك و رسولك و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و لما ورد كتاب أبي بكر الشام على أمراء الأجناد باستخلاف عمر بايعوه و أطاعوه ثم ساروا إلى فحل من أرض الأردن و قد اجتمع بها الروم و المسلمون عليهم الأمراء الأربعة و خالد بن الوليد على مقدمة الناس فلما نزلت الروم بيسان بثقوا أنهارها وهي أرض سبخة فكانت وحلة فغشيها المسلمون و لم يعلموا بما فعلت الروم فزلقت فيها خيولهم ثم سلمهم الله و التقوا هم و الروم بفحل فاقتتلوا فهربت الروم و دخل المسلمون فحلا و انكشفت الروم إلى دمشق و غنم المسلمون غنائم كثيرة
و كتب خالد بن الوليد إلى عمر أن الناس قد اجترأوا على الشراب فاستشار عمر أصحابه عليا و عثمان و الزبير و سعدا فقال علي : إذا شرب سكر وإذا سكر افترى و إذا افترى فعليه ثمانون فأثبت عمر الحد ثمانين
ثم كانت وقعة الجسر و ذلك أن المثنى بن حارثة الشيباني قدم على عمر ابن الخطاب من العراق و قال يا أمير المؤمنين ! إنا بأرض فارس قد نلنا منهم و اجترأنا عليهم و معي من قومي جماعة فابعث معي ناسا من المجاهدين و الأنصار يجاهدون في سبيل الله فقام عمر بن الخطاب فحمد الله و أثنى عليه ثم دعا الناس إلى الجهاد و رغبهم فيه و قال : إنكم أيها الناس قد أصبحتم في دار غير مقام بالحجاز و قد وعدكم الله على لسان نبيه كنوز كسرى و قيصر فسيروا إلى أرض فارس فسكت الناس لما ذكرت فارس فقام أبو عبيد بن مسعود الثقفي فقال : ياأمير المؤمنين ! أنا أول من انتدب من الناس حتى اجتمعوا و أجمعوا على المسير ثم قال : يأمير المؤمنين ! اجتمع الناس أمر عليهم رجلا من المهاجرين أو من الأنصار فقال : لا أومر عليهم إلا أول من انتدب منهم فأمر أبا عبيدة فقال : إنه لم يمنعني أن أستعمل عليهم سليط بن قيس إلا أنه رجل فيه عجلة إلى القتال فأخاف أن يوقع الناس موقعا يهلككم فاستشره ثم سار أبو عبيد مع المثنى بن حارثة الشيباني و المسلمون معهما حتى إذا انتهى إلى بلاد قومه قام معه ربيعة فسار بهم و سارأبوعبيده بالناس حتى نزلوا باليمن و فيها مسلحة الأعاجم فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزمت العجم ثم بعث أبو عبيد بمن معه من المسلمين فالتقيا فاقتتلوا فهزم الجالنوس و أصحابه و دخل أبو عبيد باروسما حصنا لهم و نزل هو و أصحابه فيه
ثم بعث الأعاجم ذا الحاجب و كان رئيس الأعاجم رستم فلما بلغ أبا عبيد مسيرهم إليه انحاز بالناس حتى عبر الفرات فنزل في المروحة و أقبلت الأعاجم حتى نزلت خلف الفرات ثم إن أبا عبيد حلف : ليقطعن إليهم الفرات فناشده سليط بن قيس و قال : أنشدك الله في المسلمين أن تدخلهم هذا المدخل ! فإن العرب تفر وتكر فاجعل للناس مجالا فأبي أبو عبيد و قال : جبنت و الله يا سليط ! قال : و الله ما جبنت ! ولكن قد أشرت عليك بالرأي فاصنع بما بدا لك فعمد أبو عبيد إلى الجسر الذي عقد له ابن صلوبا فعبر عليه المسلمون فلما التقوا شد عليهم الفيل فلما رأى أبوعبيد ما يصنع الفيل قال : هل لهذه الدابة من مقتل ؟ قالوا : نعم إذا قطع مشفرها ماتت فشد على الفيل فضرب مشفره فبرك عليه الفيل فقتله و هرب المسلمون منهزمين فسبقهم عبد الله ابن مرثد الخثعمي إلى الجسر فقطعه فقال له الناس : لم فعلت هذا ؟ قال : لتقاتلوا عن أميركم
و لما قتل أبو عبيد أخذ الراية المثنى بن حارثة فانحازوا و رجعت الفرس و نزل المثنى بن حارثة أليس و تفرق الناس فلحقوا بالمدينة فأول من قدم المدينة بخبر الناس عبد الله بن حصين الخطمي فجزع المسلمون من المهاجرين و الأنصار بالفرار و كان عمر يقول : لا تجزعوا ! أنا فئتكم إنما انحزتم إلي
و كان ممن قتل بالجسر : أبو عبيد بن مسعود الثقفي و ابنه جبر بن أبي عبيد و أسعد بن سلامة و سلمة بن أسلم بن حريش و الحارث بن عدي بن مالك و الحارث بن مسعود بن عبدة و مسلم بن أسلم و خزيمة بن أوس و أنيس بن أوس بن عتيك بن عامر و عمر بن أبي اليسر و سلمة بن قيس و زيد بن سراقة بن كعب و المنذر بن قيس و ضمرة بن غزية بن عمرو و سهل بن عتيك و ثعلبة بن عمرو بن محصن و حج بالناس عمر بن الخطاب السنة الرابعة عشرة
فلما دخلت السنة الرابعة عشرة سار المسلمون إلى دمشق و خالد بن الوليد على مقدمة الناس و قد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان بدمشق فعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد و أمر أبو عبيدة بن الجراح على جميع الناس فاستحى أبو عبيدة أن يقرى خالدا الكتاب و قال : أصبر حتى يفتح بن دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا و انهزم الروم و تحصنوا فرابطها المسلمون حتى فتحت صلحا و أعطوا الجزية و كان قد أخذ الأبواب عنوة و جرى الصلح على يدي خالد وكتب الكتاب باسمه و لحق باهان بهرقل و كان ذلك في رجب و مدة حصاره دمشق ستة أشهر فلما فرغ المسلمون من دمشق أقرأ أبو عبيدة خالدا الكتاب فانصرف خالد إلى المدينة و قد قيل : إن الصلح جرى على يد أبي عبيدة
ثم خرج عمر على الناس فقال : إني وجدت من عبيد الله ابن ريح شراب و إني سائل عنه فإن كان مسكرا جلدته قال السائب بن يزيد : فشهدته بعد ذلك يحده و كان الذي حده عبد الرحمن بن عبد ثم ضرب أبا محجن الثقفي و ربيعة بن أمية بن خلف المخزومي و حدهم في الخمر
ثم أمر عمر من كان بالبلدان التي افتتحت أن يصلوا فيها التراويح في شهر رمضان و صلى بالناس بالمدينة كذلك
ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي من اليمن على عمر في ركب من بجيلة فقال لهم عمر : إنكم قد علمتم ما كان من المصيبة في إخوانكم بالعراق فسيروا إليهم و أنا أخرج لكم من كان منكم في قبائل العرب قالوا نفعل يا أمير المؤمنين فأخرج إليهم قيسا و كندة و عرينة و أمر عليهم جرير بن عبد الله البجلي فسار بهم إلى الكوفة فلما بلغ قريبا من المثنى بن حارثة كتب له المثنى : أقبل إلي إنما أنت لي مدد فكتب إليه جرير : إني لست فاعلا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين : أنت أمير و أنا أمير ! ثم سار جرير نحو الجسر فلقيه مهران بن باذان عند النخيلة فاقتتلوا قتالا شديدا و شد المنذر بن حسان على مهران فطعنه فوقع عن دابته و اقتحم عليه جرير بن عبد الله فاحتز رأسه فاشتركا جميعا في سلبه
ثم إن عمر بن الخطاب أمر سعد بن أبي وقاص على العراق و معه ستة آلاف رجل و كتب إلى المثنى بن حارثة و جرير بن عبد الله أن اجتمعا إلى سعد فسار سعد بالمسلمين و سار المنذر و جرير إليه حتى نزل سعد بشراف و شتا بها و اجتمع إليه الناس و تزوج سعد امرأة المثنى سلمى بنت حفصة ثم حج بالناس عمر بن الخطاب
فلما دخلت السنة الخامسة عشرة كان فيها وقعة اليرموك و ذلك أن الروم سار بهم هرقل حتى نزل أنطاكية و معه من المستعربة لخم وجذام و بلقين و بلى و عاملة و غسان و من معه من أهل أرمينية بشر كثير فأقام بأنطاكية و سار أبو عبيدة بن الجراح في المسلمين إليهم في أربعة و عشرين ألفا و كان الروم مائة ألف فالتقوا باليرموك فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كانت نساء قريش يضربن بالسيوف و كان أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد فجعل ينادي في المعركة : يا نصر الله ! اقترب حتى أنزل الله نصره و هزم الروم فقتل من الروم و من معه من أهل أرمينية و المستعربة سبعون ألفا و قتل الله الصقلار و باهان رئيسين لهم
ثم بعث أبو عبيدة بن الجراح عياض بن غنم في طلبهم فسلك الأعماق حتى بلغ ملطية فصالح أهلها على الجزية فسمع هرقل بذلك فبعث إلى ملطية فساق من فيها من المقاتلة و أمر بها فأحرقت
و كان ممن قتل باليرموك من المسلمين : عمرو بن سعيد بن العاص و أبان ابن سعيد بن العاص و عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد و سعيد بن الحارث بن قيس
و لما حسر عن سعد بن أبي وقاص الشتاء سار بالمسلمين يريد القادسية و كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستمده فبعث إليه عمر المغيرة بن شعبة في أربعمائة رجل مددا لسعد من المدينة و كتب إلى أبو عبيدة بن الجراح أن أمد سعدا بألف رجل من عندك ففعل أبو عبيدة ذلك و أمر عليهم عياض بن غنم الفهري و سمع بذلك رستم فخرج بنفسه مع من عنده من الأعاجم يريد سعدا و حج عمر بالناس
فلما كانت السنة السادسة عشرة أراد عمر بن الخطاب أن يكتب التأريخ فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منهم من قال : من النبوة و منهم من قال : من الهجرة و منهم من قال : من الوفاة فأجمعوا على الهجرة و كتب التأريخ لسنة ست عشرة من الهجرة
فلما وصل إلى سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة سار بالمسلمين إلى رستم حتى نزل قادس قرية إلى جنب العذيب و أقبل رستم في ستين ألفا من الجموع ممن أحصى في ديوانه سوى التبغ و الرقيق حتى نزل القادسية و بينهم و بين المسلمين جسر القادسية و سعد في منزله وجع قد خرج به قرح شديد فبعث رستم إلى سعدا أن ابعث إلي رجلا جلدا أكلمه فبعث إليه المغيرة ابن شعبة ففرق المغيرة رأسه أربع فرق ثم عقص شعره و لبس برديه و أقبل حتى انتهى إلى رستم من وراء الجسر مما يلي العراق و المسلمون من الناحية الأخرى مما يلي الحجاز فلما دخل عليه المغيرة قال له رستم : إنكم معشر العرب ! كنتم أهل شقاء و جهد و كنتم تأتوننا من بين تاجر و أجير و وافد فأكلتم من طعامنا و شربتم من شرابنا و استظلتم بظلالنا فذهبتم فدعوتم أصحابكم و جئتم تؤذوننا و إنما مثلكم مثل رجل له حائط من عنب فرأى فيه أثر ثعلب فقال : و ما بثعلب واحد ! فانطلق ذلك الثعلب حتى دعا الثعالب كلها إلى ذلك الحائط فلما اجتمعن فيه جاء صاحب الحائط فرآهن فسد الحجر الذي دخلن منه ثم قتلهن جميعا و أنا أعلم إنما حملكم على هذا ـ معشر العرب ! الجهد الذي أصابكم فارجعوا عنا عامكم هذا فإنكم شغلتمونا عن عمارة بلادنا و نحن نوقر لكم ركائبكم قمحا و تمرا و نأمر لكم بكسوة فارجعوا عنا فقال المغيرة بن شعبة : لا يذكر منا جهد إلا و قد كنا في مثله أو أشد أفضلنا في أنفسنا عيشا الذي يقتل ابن عمه و يأخذ ماله فيأكله نأكل الميتة و الدم و العظام فلم نزل على ذلك حتى بعث الله فينا نبينا و أنزل عليه الكتاب فدعانا إلى الله و إلى ما بعثه به فصدقه به منا مصدق و كذبه منا مكذب فقاتل من صدقه من كذبه حتى دخلنا في دينه من بين موقن و مقهور حتى استبان لنا أنه صادق و أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نقاتل من خالفنا و أخبرنا أن من قتل منا على ذلك فله الجنة و من عاش ملك و ظهر على من خالفه و نحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله و رسوله و تدخل في ديننا فإن فعلت كانت لك بلادك و لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت و عليك الزكاة و الخمس و إن أبيت ذلك فالجزية و إن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا و بينك
قال له رستم : ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا منكم معشر العرب ! لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم و أقتلكم كلكم ثم أمر بالمعبر أن يسكر فبات ليلته يسكر بالزرع و القصب و التراب حتى أصبح و قد تركه جسرا و عبأ سعد ابن أبي وقاص الجيش فجعل خالد بن عرفطة على جماعة الناس و جعل الميمنة جرير بن عبد الله البجلي و على الميسرة قيس بن مكشوح المرادي و زحف إليهم رستم و زحف إليه المسلمون و كان سعد في الحصن معه أبو محجن الثقفي محبوس حبسه سعد في شرب الخمر فاقتتل المسلمون قتالا شديدا و الخيول تجول و كان مع سعد أم ولده فقال لها أبو محجن و سعد في رأس الحصن ينظر إلى الجيش كيف يقاتلون : أطلقيني و لك عهد الله و ميثاقه لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي ! فاطلقته و حملته على فرس لسعد بلقاء و خلت سبيله فجعل أبو محجن يشد على العدو و يكر و سعد ينظر فوق الحصن يعرف فرسه و ينكره
و كان عمرو بن معد يكرب مع المسلمين فجعل يحرض الناس على القتال و يقول : يا معشر المسلمين ! كونوا أسودا إن الفارسي تيس و كان في الأعلاج رجل لا يكاد يسقط له نشابه فقصد نحوه و جاءه الفارسي و رماه بنشابة فأصابت ترسه و حمل عليه عمرو فاعتنقه و ذبحه فاستلبه سوارين من ذهب و منطقة من ذهب و يلمقا من ديباج و حمل رستم على المسلمين فقصده هلال بن علقمة التميمي فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه فشكها إلى ركاب سرجه و حمل عليه هلال بن علقمة فضربه فقتله و احتز رأسه و ولت الفرس و اتبعتهم المسلمون يقتلونهم فلما رأى محجن الهزيمة رجع إلى القصر و أدخل رجليه في قيده فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه قد عرقت فعرف أنها قد ركبت فسأل أم ولده عن ذلك فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله و نهض سعد بالمسلمين خلفهم و انتهى الفرس إلى دير قرة فنزل عليهم سعد بالمسلمين و وافى عياض بن غنم في مدده من أهل الشام و هم ألف رجل فأسهم له سعد و لأصحابه من المسلمين مما أصابوا بالقادسية وكان الناس قد أجبنوا سعدا و قالوا : أجبنت عن محاربة الأعداء فاعتذر إلى الناس و أراهم ما به من القروح في فخذيه حتى سكت الناس
ثم أنهزم الفرس من دير قرة إلى المدائن و حملوا ما معهم من الذهب و الفضة و الحرير و الديباج و السلاح و خلوا ما سوى ذلك فبعث سعد خالد بن عرفطة في طلبهم معه أصحابه و أردفه بعياض بن غنم في أصحابه و جعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي و على ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي و تخلف عنهم بنفسه لما به من الوجع ثم أفاق سعد من وجعه و برئ و اتبع الناس بمن معه من المسلمين فأدركهم دون دجلة على بهرسير فطلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها فقال علج من أهل المدائن لسعد : أنا أدلكم على مخاضة تدركونهم قبل أن يمنعوا السير فخرج بهم على المخاضة فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في رجله فلما جاز تبعه خيله ثم أجاز عياض بن غنم بخيله ثم تتابع الناس فخاضوا حتى جازوا و يقال : إن تلك المخاضة لم تعرف إلى الساعة فبلغ المسلمون إلى ساباط طويل مظلم و خشوا أن يكون فيه كمين للعدو فأخذوا يتجابنون فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فلما جاز لاح للناس بسيفه فعرفوا أنه ليس فيه شيء يخافونه ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء و بها جماعة من الفرس و كانت بها وقعة جلولاء الله و هزم الله الفرس و أصاب المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية
و كتب سعد إلى عمر \ الخطاب يخبر بفتح الله على المسلمين فكتب إليه عمر أن قف مكانك و لا تطلب غير ذلك فكتب إليه سعد إنما هي سربة أدركناها و الأرض بين أيدينا فكتب إليه عمر : أقم مكانك و لا تتبعهم و أعد للمسلمين دار هجرة و منزل جهاد و لا تجعل بيني و بين المسلمين بحرا فنزل سعد بالأنبار فاجتووها و أصابهم بها حمى فكتب إلى عمر يخبره بذلك فكتب إلى سعد أنه لا يصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاء في منابت العشب فانظر فلاة إلى جنب بحر فأنزل المسلمين بها واجعلها دار هجرة فسار سعد حتى نزلة بكويفة فلم يوافق الناس الكون بها من كثرة الذباب و الحمى فبعث سعد عثمان ابن حنيف فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم فنزلها سعد بالناس و خط مسجدها و اختط فيها للناس الخطط و كوف الكوفة و استعمل سعد على المدائن رجلا من كندة يقال له شرحبيل بن السمط
ثم كتب عمر إلى سعد أن ابعث إلى أرض الهند ـ يريد البصرة ـ جندا لينزلوها فبعث إليها سعد عتبة بن غزوان في ثمانمائة رجل حتى نزلها و هو الذي بصر البصرة و اختط المنازل و بنى مسجد الجامع بالقصب و كان فتح البصرة صلحا و افتتح عتبة بن غزوان الأبلة و الفرات
و ميسان و من سبي ميسان والد الحسن و أرطبان جد ابن عون
ثم خرج عتبة حاجا و أمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس إلى أن يرجع فحج و رجع فمات في الطريق قبل أن يصل إلى البصرة فأقر عمر المغيرة ابن شعبة على الصلاة و ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة بالبصرة و هو أول مولود ولد بها
و خرج عمر بن الخطاب و خلف عثمان بن عفان على المدينة فلما قدم الشام نزل بالجابية فقام فيها خطيبا لهم ثم أراد عمر الرجوع إلى الحجاز فقال له رجل من اليهود : يا أمير المؤمنين ! لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء فبينا عمر كذلك إذ نظر إلى كردوس خيل مقبل فلما دنوا من المسلمين سلوا السيوف فقال عمر : هم قوم يستأمنون فآمنوهم فأقبلوا و إذا هم أهل إيلياء فصالحوه على الجزية و فتحوها له و كتب إلى عمر كتاب عهد بذلك و رجم بالجابية امرأة أقرت على نفسها بالزنا
ثم رجع إلى المدينة و دون لهم الديوان و غرب أبا محجن الثقفي إلى باضع و تزوج صفية بنت أبي عبيد على مهر أربعمائة درهم و حج بالناس عمر استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما دخلت السنة السابعة عشرة كتب عمر إلى البلدان بمواقيت الصلاة و وضعت ما بين مكة و المدينة مياها للسابلة و اتخذ دارا بالمدينة و جعل فيها الدقيق و السويق للمنقطع و الضيف إذا نزل
و ولى عمر المغيرة على البصرة فسار المغيرة إلى الأهواز فصالحوه على ألفي ألف درهم و ثمانمائة ألف درهم ثم ارتدوا فغزاهم بعد ذلك أبو موسى الأشعري إلى أن افتتحها يقال : عنوة و قد قيل : صلحا
و بعث أبو عبيدة بن الجراح عمرو بن العاص إلى قنسرين فصالح أهل حلب و منبج و أنطاكية و افتتح سائر أرض قيصر عنوة و يقال : إن في هذه السنة افتتح أبو موسى الأشعري الرهاء و سمسياط صلحا
ثم أراد عمر الخروج إلى الشام فخرج حتى إذا بلغ سرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة و أخبروه أن الأرض وبية فقال عمر لابن عباس : اجمع إلي المهاجرين الأولين فجمعهم له و استشارهم فاختلفوا عليه فمنهم القائل : خرجت لوجه تريد فيه الله و الدار الآخرة و لا نرى أن نصدك عنه و منهم من يقول : لا نرى أن تقدم عليه و تقدم الناس فلما اختلفوا عليه قال : قوموا عني ثم جمع الأنصار و استشارهم فسلكوا طريق المهاجرين فلما اختلفوا عليه قال : قوموا عني ثم جمع مهاجرة الفتح فاستشارهم فلم يختلف عليهم منهم اثنان قالوا جميعا : ارجع بالناس فإنه بلاء و فناء فقال عمر لابن عباس : أخبر الناس أن أمير المؤمنين يقول : إني مصبح على ظهر فاصبحوا عليه فأصبح عمر على ظهر و أصبح الناس عليه فقال : أيها الناس ! إني راجع فارجعوا فقال له أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير المؤمنين ! أفرارا من قدر الله ؟ قال : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان : إحداهما خصبة و الأخرى جدبة أليس يرعى من يرعى الجدبة بقدر الله و يرعى من يرعى الخصبة بقدر الله ؟ ثم خلا به بناحية دون الناس فبينا الناس على ذلك إذ لحقهم عبد الرحمن بن عوف و كان متخلفا و لم يشهد معهم يومهم الأمس فقال : ما شأن الناس ؟ فأخبره الخبر فقال : عندي من هذا علم فقال عمر : ما عندك ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه و إذا وقع و أنتم به فلا تخرجوا فرارا منه ] لا يخرجنكم إلا ذلك فقال عمر فلله الحمد فانصرفوا أيها الناس ! فانصرف بهم و رجع أمراء الأجناد إلى أعمالهم
ثم اعتمر فب رجب و أمر بتوسيع المسجد و تجديد أنصاب الحرم و تزوج بمكة بنت حفص بن المغيرة فأخبر أنها عاقر فطلقها قبل أن يدخل بها و أقام بمكة عشرين ليلة و رجع إلى المدينة
و بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد فغلب على أرض البقاع فصالحه أهل بعلبك ثم خرج أبو عبيدة يريد حمص و قدم خالدا أمامه فقاتلوا قتالا شديدا ثم هزمت الروم حتى دخلوا مدينتهم فحاصرهم المسلمون فسألوه الصلح عن أموالهم و أنفسهم و كنائسهم فصالح المسلمون حمص على مائة ألف دينار و سبعين ألف دينار و أخذ سائر مدائن حمص عنوة
و بعد موت عتبة بن غزوان والي البصرة أمر عمر على البصرة أبا موسى الأشعري و كان المغيرة على الصلاة بها فشهد أبو بكرة و شبل بن معبد البجلي و نافع بن كلدة و زياد على المغيرة بما شهدوا فبعث عمر إلى أبي موسى الأشعري أن أشخص إلى المغيرة ففعل ذلك أبو موسى
ثم تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب و هي من فاطمة و دخل بها في شهر ذي القعدة ثم حج و استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما دخلت السنة الثامنة عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة فاستسقى لهم عمر و أخذ بيد العباس و قال : اللهم إنا نستسقي بعم رسول الله صلى الله عليه و سلم فما زال العباس قائما إلى جنبه و عيناه تهملان وعمر يلح في الدعاء حتى سقوا فسمى هذه السنة سنة الرمادة و أجرى عمر الأقوات على المسلمين و كان يرزق الضعفاء القوت و نهى عن الحكرة حاطبا و غيره
و كان طاعون عمواس فتفانى الناس فيه فكتب عمر إلى أبي عبيدة : إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة فسار أبو عبيدة بالناس حتى نزل بالجابية ثم قام أبو عبيدة خطيبا فقال : أيها الناس ! إن هدا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم و موت الصالحين قبلكم و إن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه فمات من يومه و استخلف على الناس معاذ بن جبل فقام معاذ خطيبا بعده فقال : أيها الناس ! إن هذا الوجع رحمة ربكم و دعوة نبيكم و موت الصالحين قبلكم إن معاذا يسأل الله أن يقسم له حظه ثم لأهل بيته فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات ثم طعن معاذ في راحته فكان يقبل ظهر كفه و كان يقول : ماأحب أن لي بما فيك من الدنيا شيئا ثم مات و استخلف على الناس عمرو بن العاص فقام فيهم خطيبا فقال : أيها الناس ! إن هذا الوجع إذا وقع يشتعل اشتعال النار فارتفعوا عنه في الجبال
فمات في طاعون عمواس : يزيد بن أبي سفيان و الحارث بن هشام بن المغيرة و سهيل بن عمرو و عتبة بن سهيل
فلما بلغ عمر بن الخطاب موت أبي عبيدة بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان أمر معاوية بن أبي سفيان على جند دمشق و خراجها و أمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن و خراجها و غرب عمر بن ربيعة بن أمية إلى خيبر و لحق بأرض الروم و تنصر فلم يغرب عمر بعد ذلك رجلا في شيء من عمله
و لا عن عمر بين رجل و امرأته و رجم ساحرا بالبقيع ثم حج عمر بالناس فلما تقدم بمكة أخر المقام مقام إبراهيم ـ و كان ملصقا بالبيت ـ في موضعه الذي هو فيه اليوم و رجع إلى المدينة
فلما دخلت السنة التاسعة عشرة كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث من عندك جندا إلى الجزيرة وأمر عليهم أحد الثلاثة : خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أو عياض بن غنم فلما قرأ سعد الكتاب قال : لم يؤخر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر الثلاثة إلا أن له فيه هوى فولاه جيشا و بعث معه عمر بن سعد و عثمان بن أبي العاص فخرج عياض بن غنم إلى الجزيرة و نزل بجنده على الرهاء و صالح أهلها على الجزيرة و صالحت حران حين صالحه الرهاء و وجه عياض عمر بن سعد إلى رأس العين و سار بنفسه في بقية الناس إلى دارا ونصيبين فنزل عليهما حتى افتتحهما ثم افتتح الموصل صالحه عليها اهلها
و زاد عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم زاد فيه من ناحية دار مروان و أدخل فيه دار العباس و سوى أعمدته وسقفه
و بعث سعد جرير بن عبد الله البجلي إلى حلوان فافتتحها عنوة وافتتح هاشم بن عتبة ماسبذان عنوة و في هذه السنة فتح أبو موسى جنديسابور و السوس صلحا ثم أمر عمر أبا موسى بجرير بن عبد الله فافتتحوا رامهرمز صلحا ثم سار أبو موسى إلى التستر حتى فتحها و افتتح قم وقاشان ثم افتتح معاوية بن أبي سفيان قيسارية و الرملة و ما بينهما فأقر ه عمر عليهما و حج بالناس عمر و في هذه السنة افتتحت تكريت
فلما دخلت سنة عشرين رجفت المدينة بالزلزلة و شكى أهل الكوفة سعدا و زعموا أنه لا يحسن يصلي فاستقدمه عمر و سأله فقال : إني أركن في الأوليين و أحذف في الآخرتين فقال : كذاك الظن فيك يا أبا إسجاق ثم عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين و دخل أبو بحرية الكندي عبد الله بن قيس بلاد الروم و أغار و هو أول من دخلها و افتتح مصر و الإسكندرية عمرو بن العاص عنوة ـ و قد فتحت سنة إحدى و عشرين ـ و غنم بها غنائم كثيرة ثم رجع فلما بلغ بلهيب قرية من قرى الريف أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص أني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم : فارس و الروم فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي من السبي فعلت فبعث إليه عمرو بن العاص أن من ورائي أميرا لا أستطيع أن أنفذ أمرا دونه فإن شئت أن أمسك عنك و تمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فعلت فإن قبل ذلك قبلته و إن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره فقال : نعم فكتب عمرو إلى عمر فكتب إليه عمر : أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أن صاحب الإسكندرية عرض عليك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبي أرضه و لعمري لجزية قائمة تكون لنا و لمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم كأنه لم يكن فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام و بين دين قومهم فمن اختار الإسلام فهم من المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم و من اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه و أما من تفرق من سبيهم فبلغ المدينة و مكة و اليمن فأنا لا نقدر على ردهم فلا نحب أن نصالحهم على ما لا نفي به فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه بالذي كتب أمير المؤمنين فقال : قد قبلت فجمعوا ما بأيديهم من السبي و اجتمعت النصارى فكانوا يخيرون الرجل بين الإسلام و النصرانية فإن اختار الإسلام كبر المسلمون و انحاز إليهم و إن اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم و وضعوا عليه الجزية
ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر : أما بعد يا أمير المؤمنين ! فإنا قدرنا على البحر و إن شئت أن تركبه ركبت فكتب إليه عمر أن صف لي كيف حاله و حال من ركبه فكتب إليه عمرو بن العاص أنه خلق شديد يحل فيه خلق ضعيف دود على عود إن استمسك به فزع و إن خر غرق فكتب إلى عمرو بن العاص : ما كان الله ليسألني عن أمري من المسلمين الذين حملتهم فيه لا حاجة لنا به
و توفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بدمشق و دفن في المقبرة عند باب الصغير ثم أخرج عمر يهود الحجاز من نجران إلى الكوفة و قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لئن عشت لأخرجن اليهود من جزيرة العرب ] ثم قال لهم : من كان له منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم فليأت بعهده حتى ننفذه و من لم يكن له عهده فإني أجليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أقركم ما أقركم الله ] و قد أذن الله بإجلائكم إلا أن يأتي رجل منكم بعهد أو بينة من النبي صلى الله عليه و سلم أنه أقره فأقره و قد فعلتم بمظهر ابن رافع الحارثي ما فعلتم و ذلك أن مظهر بن رافع خرج بأعلاج له من الشام حتى إذا كان بخيبر دخل قوم من اليهود و أعطوا غلمانه السلاح و حرضوهم على قتله فقتلوه فأجلى عمر اليهود من الحجاز و قسم خيبر على ثمانية عشر سهما ثم بعث إلى فدك أبا حبيبة الحارثي و مضى إلى وادي القرى و أنفذ ظعن خيبر و وادي القرى على ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم سماها إلا أنه فرقها و صارت في أيدي أهلها تباع و تورث بدا بأزواج النبي صلى الله عليه و سلم ففرض لكل امرأة منهن اثني عشر ألفا و فرض لأهل بدر صبيهم و حليفهم و مولاهم خمسة آلاف خمسة آلاف و فرض للأنصار صبيهم و حليفهم و مولاهم أربعة آلاف أربعة آلاف
ثم مات أسيد بن حضير في شعبان و دفن بالبقيع
و مات هرقل ملك الروم و أقعد مكانه قسطنطين ثم أغارت الحبشة على أهل بلجة فأصابوهم و قدم الصريخ على عمر فبعث علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركبا إلى الحبشة فأغاروا عليهم و لم يحمل بعدها مسلما في البحر
ثم عزل عمر أبا موسى عن البصرة و ولها عثمان بن أبي العاص و أمرهما أن يطاوعا فنزل عثمان توج و مصرها و بعث سوار بن همام العبدي إلى سابور فقتل بعقبة الطين
ثم ماتت زينب بنت جحش زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل عمر : من يغسلها ؟ فقالت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : نحن نغسلها فغسلنها و صلى عليها عمر و كبر أربعا فلما أتى بسريرها أمر عمر بثوب فمد على قبرها و أمر أسامة بن زيد و ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش و محمد بن طلحة بن عبيد الله فدخل قبرها و لحدوا لها و قام عمر على قبرها حتى سوى عليها و رش على قبرها الماء ثم انصرف و حج عمر بالناس
فلما دخلت السنة الحادية و العشرين مات خالد بن الوليد بحمص و أوصى إلى عمر بن الخطاب
ثم كان فتح نهاوند و أميرها النعمان بن مقرن و ذلك أن أهل الري و أصبهان و همذان و نهاوند تعاقدوا و تعاهدوا و قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نبي العرب الذي أقام لها دينها مات و إن ملكهم من بعده ملك يسيرا ـ يعني أبا بكر ـ ثم هلك و إن عمر قد طال ملكه و مكثه و تأخر أمره حتى جيش إليكم الجيوش في بلادكم و ليس بمنقطع عنكم حتى تسيروا إليهم في بلادهم فتقتلوهم فلما بلغ الخبر أهل الكوفة من المسلمين كتبوا إلى عمر فلما أخذ عمر الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو باك و جعل ينادي : أين المسلمون ! أين المهاجرون و الأنصار من ههنا من المسلمين ! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالا ثم صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس ! فإن الشيطان قد جمع لكم جموعا كثيرة و أقبل بها عليكم ألا ! و إن أهل الري و أصبان و أهل همذان و أهل نهاوند أمم مختلفة ألوانها و أديانها ألا ! و إنهم تعاقدوا و تعاهدوا على أن يسيروا إليكم فيقتلوكم ألا ! و إن هذا يوم له ما بعده من الأيام ألا ! فاشيروا علي برأيكم فقام طلحة بن عبيد الله فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين ! فقد حنكتك البلايا و عجمتك التجارب و قد ابتليت يا أمير المؤمنين و اختبرت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار و أنت يا أمير المؤمنين ميمون النقيبة مبارك الأمر فمرنا نطع و ادعنا نجب و احملنا نركب فأثنى عمر على طلحة خيرا ثم جلس فقام عثمان ابن عفان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ! إني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون إليك من شامهم و تكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم و تسير أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين فإنك لو فعلت ذلك كنت أنت الأعز الأكبر و إن هذا يوم له ما بعده من الأيام و اثنى عليه عمر فجلس فقام علي بن أبي طالب فحمد الله و اثنى عليه ثم قال : اما بعد يا أمير المؤمنين ! فإنك إن تكتب إلى أهل الشام أن يسيروا إليك من شامهم إذا تسير الروم إلى ذراريهم فتسبيهم و إن تكتب إلى أهل اليمن أن يسيروا إليك من يمنهم إذا تسير الحبشة إلى ذراريهم فتسبيهم و إن سرت أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين إذا و الله انتقضت عليك الأرض من أقطارها و أكنافها و كان و الله يا أمير المؤمنين من تخلف وراءك من العورات و العيالات أهم إليك مما بين يديك من العجم و الله يا أمير المؤمنين ! لو أن العجم نظروا إليك عيانا إذا لقالوا : هذا عمر هذا إريس العرب و كان و الله أشد لحربهم و جرأتهم عليك و أما ما كرهت من مسير هؤلاء القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما كره و أما ما ذكرت من كثرتهم فإنا كنا ما نقاتل مع نبينا بالكثرة و لكنا نقاتل معه بالنصرة من السماء و أنا أرى يا أمير المؤمنين رايا من تلقاء نفسي رأيي أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقوا على ثلاث فرق : فرقة نقيم في أهل عهودهم بأن لا ينتقضوا عليهم و فرقة تقيم من ورائهم في ذراريهم و فرقة تسير إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم فطبق عمر ثم أهل مكبرا يقول : الله أكبر الله أكبر ! هذا رأي هذا رأي ! كنت أحب أن أتابع صدق ابن أبي طالب لو خرجت بنفسي لنقضت علي الأرض من اقطارها و لو أن العجم نظروا إلي عيانا ما زالوا عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم أشر علي يا علي بن أبي طالب برجل أوليه هذا الأمر ! قال : مالي و لهم ! هم أهل العراق و فدوا عليك ورأوك و رأيتهم و توسمتهم و أنت أعلمنا بهم قال عمر : إن شاء الله لأولين الراية غدا رجلا يكون لأول أستة يلقاها و هو النعمان بن مقرن المزني ثم دعا عمر السائب بن الأقرع الكندي فقال : يا سائب ! أنت حفيظ على الغنائم بأن تقاسمها فإن الله أغنم هذا الجيش شيئا فلا تمنعوا أحدا حقا هو له ثكلتك أمك يا سائب ! و إن هذا الجيش هلك فاذهب عني في عرض الأرض فلا أنظر إليك بواحدة فإنك تجيئني بذكر هذا الجيش كلما رأيتك ثم كتب إلى أهل الكوفة : سلام عليكم أما بعد فقد استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني فإن قتل النعمان فعليكم حذيفة بن اليمان العبسي فإن قتل حذيفة فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى فإن قتل أبو موسى فعليكم جرير بن عبد الله البجلي فإن قتل جرير فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي فإن قتل المغيرة فعليكم الأشعث بن قيس الكندي
ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن : فإن في جندك رجلين : عمرو بن معد يكرب المدحجي و طليحة بن خويلد الأسدي فأحضرهما و شاورهما في الحرب و إياك أن توليها عملا فإن كل صانع أعلم بصناعته
فلما ورد عليه الكتاب سار بالناس فالتقى المسلمون و المشركون بنهاوند فأقبل المشركون يحمون أنفسهم و خيولهم ثلاثا ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى و فشت الجرحى و الصرعى في الفريقين جميعا ثم حجز بينهما الليل و رجع الفريقان إلى عسكر يهما و بات المسلمون و لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق و يبكون حول مصاحفهم و بات المشركون في معازفهم و خمورهم ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون و قاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى و فشت الجرحى في الفريقين جميعا ثم حجز بينهما الليل و رجع الفريقان إلى عسكريهما و بات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق و يبكون حول مصاحفهم و بات المشركون في معازفهم و خمورهم
ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة ـ و كان رجلا قصيرا أبيض ـ على برذون أبيض قد أعلم بالبياض فجعل يأتي راية يحرضهم على القتال و يقول : الله الله في الإسلام أن تخذلوه فإنكم باب بين المسلمين و بين المشركين فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين يا أيها الناس ! إني هاز لكم الراية مرة فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها و أعنتها ألا ! و إني هاز لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلى موقف فرسه و مضرب رمحه ووجه مقاتله ألا ! و إني هاز لكم الثالثة و مكبر فكبروا الله و اذكروه و مستنصر فاستنصروه ألا ! فحامل فاحملوا فقال رجل : قد سمعنا مقالتك و حفظنا و صيتك فأخبرنا بأي النهار يكون ذلك يكون ذلك حتى يكونوا على آلة و عدة قال النعمان : ليس يمنعني أن يكون ذلك من أول النهار إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل بالقتال حتى تزول الشمس و تهب الرياح و يطيب القتال و تحضر الصلاة و ينزل النصر من السماء مع مواقيت الصلاة في الأرض فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية و يراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء هز النعمان الراية هزة فانتزعوا المخالي عن الخيول و قرطوها الأعنة و أخذوا أسيافهم بأيمانهم و الأترسة بشمائلهم و صلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما ثم هز النعمان الراية ثانيا فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه و لزمت الرجال منهم نحور الخيل و جعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان ! تنح عني لأوطئك بفرسي إني أرى وجه مقاتلي إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله علي ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول الأدنى فالأدنى و قذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ثم ولوا مدبرين و حمل النعمان و حمل الناس فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين جاءه سهم فقتله فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه بردا له ثم أخذ الراية و إنها لتنضح دما من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل فهزم الله المشركين و فتح على المسلمين و بايع الناس لحذيفة بن اليمان فجمع السائب بن الأقرع الغنائم كأنها الأكام فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال : هل لك أن تؤمنني على دمي و دم أهل بيتي و دم كل ذي رحم لي و أدلك على كنز عظيم ؟ قال : نعم قال : خذوا المكاتل و المعاول فامشوا فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان قال : احفروا فحفروا فإذا هم بصخرة قال : اقلعوها فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضيء ضوءها كأنها شهب تتلألأ فأعطى السائب كل ذي حق حقه من الغنائم و حمل السفطين حتى قدم بهما على عمر فلما نظر عمر إلى السائب ولى باكيا ثم أقبل يقول : يا سائب ! ويحك ! ما وراءك ؟ ما فعلت ؟ ما فعل المسلمون ؟ قال السائب : خير يا أمير المؤمنين ! هزم الله المشركين و فتح للمسلمين قال : و يحك يا سائب ! و الله ما أتت ليلة بعد ليلة بات فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا ميتا مثل البارحة ! لا و الله مابت البارحة إلا تقديرا ! فما فعل النعمان ابن مقرن ؟ قال : استشهد يا أمير المؤمنين فبكى عمر ثم قال : يرحم الله النعمان ـ ثلاثا ثم قال : مه ! قال : لا و الذي أكرمك بالخلافة و ساقها إليك ! ما قتل بعد النعمان أحد نعرفه فبكى عمر بكاء شديدا ثم قال : الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة و ساقها إليهم أدفنتم إخوانكم ؟ لعلكم غلبتم على أجسادهم و خليتم بين لحمومهم و الكلاب و السباع ! أخشى أن يكونوا أصيبوا بأرض مضيعة
قال السائب : هون عليك يا أمير المؤمنين ! فقد أكرمهم الله بالشهادة و ساقها إليهم ثم قال عمر : أعطيت كل ذي حق حقه ؟ فقال : نعم فنفض عمر رداءه ثم ولى باكيا فأخذ السائب بطرف ردائه ثم قال : اجلس يا أمير المؤمنين ! فإن لي إليك حاجة قال : و ما حاجتك ؟ ألم تخبرني أنك أعطيت كل ذي حق حقه ؟ قال : بلى قال : فما حاجتك إلي ؟ فأبدى له عن السفطين فصوصهما كأنها شهب تتلألأ فقال عمر : ماهذا ؟ فأخبره السائب خبر الدهان فصعد فيها بصره و خفضه ثم قال : ادع لي عليا و عبد الرحمن بن عوف و ابن مسعود و عبد الله بن الأرقم فلما اجتمعوا عنده قال السائب : لم يكن لي هم إلا أن أنفلت من عمر فركبت راحلة لي و أتيت الكوفة فوالله ما جفت بردعة راحلتي حتى أتاني كتاب عمر : عزمت عليك إن كنت قاعدا لا قمت و إن كنت قائما لا قعدت إلا على راحلتك ثم العجل العجل ! فقلت للرسول : هل كان في الإسلام حدث ؟ قال : لا قلت : فما حاجته إلي ؟ قال : لا أدري فركبت راحلتي حتى أتيت عمر فلما نظر إلي أقبل علي بدرته يضربني بها حتى سبقته إلى غيره و هو يقول : مالي ولك يا ابن أم مليكة ! أعن ديني تفارقني أم النار توردني ؟ قلت : دعني عنك يا أمير المؤمنين ! لا تقتلني غما قال عمر : فإنك لما خرجت من عندي فأويت إلى فراشي جاءني ملائكة من عند ربي في جوف الليل فرموني بسفطين هذين فإذا حملتهما فإذا نار توقد على جنبي فجعلت أتأخر و جعلوا يدفعونني إليهما حتى تعاهدت ربي في هذا : إن هو تركني حتى أصبح لأقسمن على من أفاء الله عليه أخرج بهما من عندي لا حاجة لي بهما بعهما بعطية المقاتلة و الذرية فإن لم تصب إلا عطية أحد الفريقين فبع ثم اقسمهما على من أفاء الله عليه والله لئن شكا المسلمون قبل أن تقسم بينهم لأجعلنك نكالا لمن بعدك قال السائب : فخرجت بهما من عنده حتى قدمت الكوفة فأخرجتهما إلى الزحمة فأبديت عنهما فلاح ضوءهما كأنهما شهب تلألأ فجعل لا يأتي عليهما قوم إلا صفقوا تعجبا منهما حتى أتاني عمر بن حريث فلما نظر إليهما استامني بهما فقلت : بعطية المقاتل و الذرية فما كلمني حتى صفق على يدي و أوجبت له البيع فخرج بهما إلى الحيرة فباع أحدهما بعطية المقاتل و الذرية و استفضل الآخر ربحا فكان أول شيء اعتقله بالكوفة مالا
ثم سار المغيرة بالمسلمين إلى مدينة آذربيجان فصالحه أهلها على ثمانمائة ألف درهم في كل سنة ثم غزا حذيفة بن اليمان الدينور فافتتحها عنوة و كانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت ثم غزا حذيفة ماه سندان فافتتحها عنوة و كانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة
ثم ولى عمر عمار بن ياسر الكوفة على الصلاة و الحرب و عبد الله بن مسعود على بيت المال و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض فشكا أهل الكوفة عمارا و قالوا رجل لا يعلم فاستعفى عمار و دعا عمر جبير بن مطعم خاليا ليوليه الكوفة و قال له : لا تذكره لأحد فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر قد خلا بجبير بن مطعم فرجع إلى امرأته و قال لها : اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم فأعرضي عليها متاع السفر فأتتها فعرضت عليها فاستعجمت عليها ثم قالت : ائتيني به فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر و قال : بارك الله لك فيمن وليت و أخبره أنه ولى جبير بن مطعم فقال عمر : لا أدري ما أصنع ؟ فولى المغيرة بن شعبة الكوفة فلم يزل عليها إلى أن مات عمر
ثم مضى عمرو بن العاص إلى برقة طرابلس ففتحها و صالح أهل برقة على اثني عشر ألف دينار و بعث عقبة بن نافع الفهري فافتتح لعمر زويلة بالصلح و كان بين برقة و زويلة صلح للمسلمين
و حج عمر بالناس و استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما دخلت السنة الثانية و العشرين فتح المغيرة بن شعبة آذربيجان صلحا على ثمانمائة ألف درهم المسلمون و دخل معاوية أرض الروم الصائفة في عشرة آلاف ثم اعتمر عمر و ساق معه عشر بدنات و نحرها في منحر رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه من الصحابة عبادة بن الصامت و أبو ذر و أبو أيوب و شداد بن أوس و كان نافع بن عبد الحارث عامله على مكة فتلقاه نافع فقال عمر : من خلفت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى رجل من الموالي قال عمر : أمولى أيضا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ! إنه قارئ للقرآن علم بالفرائض فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله عز و جل يرفع بهذا القرآن اقواما و يضع به آخرين ]
فلما دخلت السنة الثالثة و العشرون فتح معاوية عسقلان صلحا و قد قيل : إن الذي فتح في هذه السنة فتحها قرظة بن كعب الأنصاري لعمر و لا يصح عندي
ثم كان غزوة أصطخر الأولى و ذلك أن عثمان بن أبي العاص أقام بتوج و توفي قتادة بن النعمان الظفري فصلى عليه عمر و نزل حفرته أخوه لأمه أبو سعيد الخدري و محمد بن مسلمة و الحارث بن خزمة
ثم حج بالناس عمر و أذن لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يحججن معه فبينا هو بالأبطح إذ أقبل راكب يسأل عن عمر فدل عليه فلما رآه بكى و جعل يقول :
( جزى الله خيرا من أمير و باركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق )
( قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق )
( أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاة بأسوق )
( فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق )
( فما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق )
و كان جبير بن مطعم يقول : بينا أنا واقف مع عمر بعرفات إذ قال رجل : يا خليفة الله ! فقال رجل خلفي : قطع الله لحيتك ! والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبدا ! قال جبير : فالتفت فإذا هو رجل من لهب و لهب بطن من الأزد و بينا نحن نرمي الجمار و إذا رمى إنسان فأصاب رأس عمر فشجه فقال رجل خلفي قطع الله لحيتك ! ما أرى أمير المؤمنين إلا سيقتل قال جبير : فالتفت فإذا هو ذلك اللهبي ثم رجع عمر من مكة إلى المدينة و قام في الناس فقال : إني رأيت كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين و لا أراه إلا لحضور أجلي ثم خرج يوما إلى السوق و هو متكئ على يد عبد الله بن الزبير إذ لقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال لعمر : ألا تكلم مولاي أن يضع عني من خراجي ؟ قال : وكم خراجك ؟ قال : دينار قال : ما أفعل ! إنك لعامل و إن هذا لشيء يسير ثم قال له عمر : ألا تعمل لي رحى ؟ قال : بلى فلما ولى عمر قال أبو لؤلؤة : أعمل لك رحى يتحدث بها من بين المشرق و المغرب قال ابن الزبير : فوقع في قلبي قوله ذلك فلما كان وقت النداء بالفجر خرج عمر إلى الصلاة و ذلك يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة و اضطجع له أبو لؤلؤة فقام عمر فجعل يقول بين الصفوف : فاستووا استووا ! فلما كبر طعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات في وتينه فقال عمر قتلني الخبيث ! ثم أخذ بيد عبد الرحمن فقدمه فصلى عبد الرحمن بالناس الصبح و قرأ { إنا أعطيناك الكوثر } و { إذا جاء نصر الله } ثم دخل عبد الرحمن على عمر و عنده علي و عثمان و سعد و ابن عباس المسلمون فقال : يا ابن عباس : من قتلني ؟ قال : أبو لؤلؤة قال عمر : الحمد لله الذي لم يجعل موتي برجل يدعي الإسلام ثم سكت عمر كالمطرق فقالوا : ألاننبه للصلاة ! فقيل ! الصلاة يا أمير المؤنين ! فقال : نعم و لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ثم صلى و جرحه يثعب دما ثم أقبل على علي فقال : اتق الله يا علي ! إن وليت من أمور الناس شيئا فلا تحملن بني هاشم على رقاب الناس و أنت يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و أنت يا زبير يا سعد ! إن وليتما من أمر الناس فلا تحملان أقاربكما على رقاب الناس ثم قال : إني نظرت في أمر الناس فلم أر عندهم شقاقا إلا أن يكون فيكم و إن الأمر إلى الستة نفر : عثمان و علي و عبد الرحمن و سعد و طلحة و الزبير فتشاوروا ثلاثا و كان طلحة غائبا في مال له فقال عمر : إني مصرت لكم الأمصار و دونت لكم الدواوين و إني تركتكم على الواضحة إنما أتخوف أحد رجلين إما رجل يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله أو رجل يتأول القرآن على غير تأويله و إني قرأت في كتاب الله [ الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله و الله عزيز حكيم ] ألا ! فلا تهلكوا عن آية الرجم فقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجمنا معه و لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في يدي فقد قرأناها بكتاب الله
ثم دعا بكتاب [ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى الخليفة من بعدي : سلام عليك فإني أحمد الله الذي لاإله إلا هو أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله و بالمهاجرين { الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم } ـ الآية فتعرف فضيلتهم و تقسم عليهم فيئهم و أوصيك { بالذين تبوؤا الدار و الإيمان } ـ الآية فهؤلاء الأنصار تعرف فضلهم و تقسم عليهم فيئهم و أولئك { الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا } ـ الآية
و خرج أبو لؤلؤة على وجه يريد البقيع و طعن في طريقه اثني عشر رجلا فخرج خلفه عبيد الله بن عمر فرأى أبا لؤلؤة و الهرمزان و جفينة و كان نصرانيا و هم يتناجون بالبقيع فسقط منهم خنجر له رأسان و نصابه في وسطه فقتل عبيد الله أبا لؤلؤة و الهرمزان و جنيفة ثلاثتهم فجرى بين سعد بن أبي وقاص و بين عبيد الله في شأن جفينة ملاحاة و كذلك بين علي بن أبي طالب و بينه في شأن الهرمزان حتى قال علي بن أبي طالب : إن وليت من هذا الأمر شيئا قتلت عبيد الله بالهرمزان
ثم أرسل عمر إلى عائشة يستأذنها في أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر فأذنت له فقال عمر : أنا أخشى أن يكون ذلك لمكان السلطان مني فإذا مت فاغسلوني فكفنوني ثم قفوا بي على بيت عائشة و قولوا : أيلج عمر ؟ فإن قالت نعم فأدخلوني و إن أبت فادفنوني بالبقيع ثم أرسل عمر فجيء بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلم أنه الموت فقال لعبد الله بن عمر : انظر ما علي من الدين فاحسبه : فقال : ست وثمانون ألفا فقال : إن وفى لها مال آل عمر فأدها عني من أموالهم و إلا فسل بني عدي بن كعب فإن لم تف من أموالهم فسل قريشا و لا تعدهم إلى غيرهم و أدها عني
فتوفي عمر رضي الله عنه و له خمسة و ستون سنة و فعل به ما أمر فأذنت له عائشة و صلى عليه صهيب و دخل حفرته عثمان بن عفان و عبد الله بن عمر و كانت الخلافة عشر سنين و ستة أشهر و أربع ليال
و كان له من العمال وقت ما توفي : على الكوفة المغيرة بن شعبة و على البصرة أبو موسى و على حمص و أعمالها عمير بن سعد الضمري و على دمشق معاوية بن أبي سفيان و على صنعاء يعلى بن منية و على الجند عبد الله بن أبي ربيعة و على الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي و على مكة نافع بن عبد الحارث و على مصر عمرو بن العاص ـ رحمهم الله تعالى أجمعين آمين !
و هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان و كنيته أبو عمرو و قد قيل : أبو عبد الله و يقال : أبو ليلى و أم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس و أمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
[ أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة ثنا علي بن هاشم عن جعفر بن نجيح المديني ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن أحدا ارتج و عليه النبي صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمر و عثمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اثبت أحد ! فما عليك إلا نبي و صديق و شهيدان ]
قال أبو حاتم : لما دفن عمر رضي الله عنه تعمد عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و عبد الرحمن و سعد يتشاورون فأشار عثمان على عبد الرحمن بالدخول في الأمر فأبى عبد الرحمن و قال : لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر و إن شئتم اخترت لكم منكم واحدا فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فلما ولي ذلك مال الناس كلهم إليه و تركوا أولئك الآخرين فأخذ عبد الرحمن يتشاور في تلك الليالي الثلاث حتى إذا كان من الليلة التي بايع عثمان بن عفان من غدها جاء إلى باب المسور بن مخرمة بعد هوي من الليل فضرب الباب و قال : ألا أراك نائما ؟ والله ماكحلت منذ الليلة بكثير نوم ادع لي الزبير و سعدا فدعاهما فشاورهما ثم أرسله إلى عثمان بن عفان فدعاه فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن فلما صلوا الصبح اجتمعوا و أرسل عبد الرحمن إلى من حضر من المهاجرين و الأنصار و أمراء الأجناد ثم خطبهم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني نظرت في أحوال الناس و شاورتهم فلم أجدهم يعدلون بعثمان ثم قال : يا عثمان ! نبايعك على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الخليفتين من بعده ! قال : نعم فبايعه عبد الرحمن و بايعه المهاجرون و الأنصار و أمراء الأجناد و المسلمون و ذلك لغرة المحرم
و بعد دفن عمر بثلاثة أيام في هذه السنة كان فتح همذان ثانيا و كانت قد انتقضت على أميرها المغيرة بن شعبة على رأس ستة أشهر من مقتل عمر وفي هذه السنة سار إليها أبو موسى الأشعري بأهل البصرة حتى فتحها صلحا معه البراء ابن عازب و قرظة بن كعب و كان عمر بن الخطاب قد قتل و حذيفة قد افتتحها و جيشه كان عليها المسلمون ثم انتقضوا حتى غزاهم أبو موسى و خرج عثمان بن عفان يوم الفطر إلى المصلى يكبر و يجهر بالتكبير حتى صلى العيد و انصرف و بعث على الحج عبد الرحمن بن عوف فخطبهم عبد الرحمن قبل التروية بيوم بمكة بعد الظهر فلما زاغت الشمس خرج إلى منى و حج و نفر النفر الأول و كان قد ساق معه بدنات فنحرها في منحر رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما دخلت السنة الخامسة و العشرين غزا معاوية أرض الروم و فتح الحصون و ولد له ابن يزيد بن معاوية ثم نقضت الإسكندرية الصلح الذي صالحهم عمرو بن العاص عليه فغزاهم عمرو و ظفر بهم و سباهم و بعث السبي إلى المدينة فردهم عثمان إلى ذمتهم و قال : إنهم كانوا صلحا و الذرية لا تنقض الصلح و إنما تنقض الصلح المقاتلة و نقض المقاتلة الصلح ليس يوقع السبي على ذراريهم
ثم عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن الإسكندرية و مصر و ولاهما عبد الله سعد بن أبي سرح فوجد عمرو من ذلك و كان بدء الشر بينه و بين عثمان عزله عن مصر و الإسكندرية و كان عمرو قد بعث جيشه إلى المغرب فأصابوا غنائم كثيرة فلما دخل عبد الله بن سعد مصر واليا بعث جرائد الخيل إلى المغرب و استشار عثمان في إفريقية و عزل عثمان سعدا عن الكوفة و ولى عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط فبعث الوليد سلمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا إلى برذعة فافتتحها عنوة و قتل و سبى و غزا البيلقان فصالحوه قبل أن يجيء إلى برذعة و بعث خيله إلى جرزان فصالحوه و في هذه السنة كانت غزوة سابور الأولى ثم حج عثمان بالناس
قدم معاوية المدينة وافدا على عثمان و بعث عثمان بن عفان عثمان بن أبي العاص إلى فارس ففتح سائر الجنود و غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الإفريقية و معه العبادلة : عبد الله بن عمر و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمرو فلقي جرجير في مائتي ألف بموضع يقال له سبيطلة على سبعين ميلا من القيروان فقتلوا جرجير و سبوا و غنموا فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف مثقال ذهب و سهم الراجل ألف مثقال و صالحه أهل تلك المدن إلى قيروان على مائة ألف رطل من ذهب
و اعتمر عثمان و دخل مكة و كان بين الصفا و المروة و حل قبل أن يصبح ثم رجع إلى المدينة و أمر بتوسعة المسجد الحرام و تجديد أنصاب الحرم و تزوج عثمان بنت خالد بن أسيد ثم اعتمر عثمان في رجب و خرج معه عبد الله بن جعفر و الحسين بن علي فمرض الحسين بن علي فأقام عبد الله بن جعفر عليه بالسقيا و بعث إلى علي يخبره بذلك فخرج علي في نفر من بني هاشم إلى السقيا فلما دخلها دعا ببدنة فنحرها و حلق رأسه و أقام على الحسين يمرضه فلما فرغ عثمان من عمرته كلموه بأن يحول الساحل إلى جدة و كانوا قبل ذلك في الجاهلية يرسون بالشعيبة و قالوا : جدة أقرب إلى مكة و أوسع و أقرب من كل ناحية فخرج عثمان إلى جدة فرآها و رأى موضعها و أمرهم أن يجعلوها بمكان الشعيبة فحول الساحل إلى جدة و دخل البحر و قال : إنه مبارك و قال لمن معه : ادخلوا و لا يدخلها إلا بمئزر ثم خرج عثمان من جدة على طريق يخرجه إلى عسفان ثم مضى إلى الجار فأقام بها يوما و ليلة ثم انصرف فمر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في منصرفه و هو يمرض الحسين مع جماعة من بني هاشم فقال عثمان : قد أردت المقام عليه حتى تقدم و لكن الحسين عزم علي و جعل يقول : امض لرهطك فقال علي : ما كان ذلك بشيء يفوتك هل كانت إلا عمرة إنما يخاف الإنسان فوت الحج فأما العمرة فلا فقال عثمان : إني أحببت أن أدرك عمرة في رجب فقال علي بن أبي طالب : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتمر في رجب قط و ما اعتمر عمراته الثلاث إلا في ذي القعدة ثم رجع عثمان إلى المدينة ثم مضى علي مع الحسين إلى مكة
و افتتح عثمان بن أبي العاص سابور الثانية على ثلاثة آلاف ألف و ثلاثمائة ألف صلحا و دخل في صلحهم كازرون و بعث عثمان بن أبي العاص هرم بن حيان العبدي إلى قلعة بجرة على ذلك و هي يقال لها قلعة الشيوخ فافتتحها عنوة و سبى أهلها و حج بالناس عثمان بن عفان
استشار عثمان بن عفان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في إفريقية فأشاروا عليه بذلك و كان عثمان يكره ذلك لأن عمر كان يكرهه و يقول : إنها لا تحمل واليا مقتصدا فخرج عبد الله بن أبي سرح و جلب عثمان إبلا كثيرة من الربذة و سرف و حمل عليها سلاحا كثيرا و سار المسلمون معها يلحقون بعبد الله بن سعد بن أبي سرح فلما التقى المسلمون و المشركون ألقى الله في قلوبهم الرعب و فض ذلك الجمع حتى طلبوا الصلح فصالحهم عبد الله بن أبي سرح على ألفي ألف و خمسمائة ألف و عشرين ألفا
فلما كان العيد خطبهم عثمان و كان صادف العيد يوم الجمعة فقال : من كان من أهل العالية و أحب أن يجتمع معنا فعل و إلا فليجلس في موضعه فافتتح عثمان بن أبي العاص أرجان و دارابجرد و صالح أهلها على ألفي ألف و مائة
تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة و كانت على دين النصرانية فلما دخلت عليه قال لها عثمان : إني شيخ كبير كما ترين قالت : أنا من نساء أحب الأزواج إليهن الكهول قال : تقومين إلي أو آتيك ؟ قالت : ما جئت من سماوة كلب إليك إلا و أنا أريد القيام إليك
و غزا معاوية البحر و معه عبادة بن الصامت معه امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية فأتى قبرس فتوفيت أم حرام بها و قبرها هناك ثم كانت فتح فارس الأول على يدي هشام بن عامر و غزا معاوية قبرس فلحقه عبد الله بن أبي سرح و أهل مصر و غنموا غنائم كثيرة و غزا جبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم ثم كانت قبرس الآخرة أميرها هشام بن عامر و اعتمر عثمان في رجب و معه عمرو بن العاص فأتى عثمان بلحم صيد فأمرهم بأكله فقال له عمرو بن العاص : لا تأكل و لا تأمرنا به فقال عثمان : لست آكل منه شيئا لأنه صيد من أجلي فكان بين عثمان و عمرو كلام كان ذلك أول ملاحاة كانت بينهما و في هذه السنة بنى عثمان دار بالزوراء ثم حج عثمان بالناس
عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة و كان عاملا عليها سبع سنين و عزل عثمان بن أبي العاص عن فارس و ولى ذلك كله عبد الله بن عامر بن كريز و هو يومئذ ابن خمس و عشرين سنة فقدم البصرة ثم خرج عبد الله بن عامر إلى فارس على مقدمته عبيد الله بن معمر التيمي فقتل عبيد الله و فتح إصطخر الثانية عنوة فقتل و سبى فكان ذلك إصطخر الآخرة و قد قيل : في هذه السنة فتح سارية بن زنيم الدئلي أصبهان صلحا و عنوة بأهل البصرة بعثه ابن عامر
و ضاق مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس فكلموا عثمان في توسعته فأمر بتوسعته فكان عثمان يركب على راحلته و يقوم على العمال و هم يعملون حتى يجيء وقت الصلاة فيترك و يصلي بهم و ربما قال في المسجد و نام فيه حتى جعل أعمدته من حجارة وفرش فيها الرضراض و بناه بالحجارة المنقوشة و الساج وجعل له ستة أبواب ثم نقضت حلوان الصلح فافتتحها ابن عامر عنوة و رجم عثمان امرأة من جهينة أدخلت على زوجها فولدت في ستة أشهر من يوم أدخلت عليه فأمر بها عثمان فرجمت فدخل علي على عثمان فقال له : إن الله يقول : { حمله و فصله ثلثون شهرا } فأرسل عثمان في طلبها فوجدها قد رجمت فاعترف الرجل بالغلام و كان من أشبه الناس به
زاد عثمان النداء الثاني على الزوراء حيث كثر الناس و انتقصت آذربيجان فغزاها سعيد بن العاص ففتحها ثم غزا جرجان ففتحها و مات الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف و سقط خاتم رسول الله صلى الله عليه و سلم في بئر أريس على ميلين من المدينة و كانت من أقل تلك الآبار ماء فطلب فلم يوجد إلى الساعة و غزا ابن عامر في هذه السنة جور فافتتحها و أصاب بها غنائم كثيرة و افتتح الكاريان و الفنسجان من دارابجرد ولم يكونا أدخلا في علم عثمان بن أبي العاص ثم افتتح ابن عامر أردشير خرة عنوة فقتل و سبى و هرب يزدجرد فاتبعه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمي حتى نزل على السيرجان و بعث راشد بن عمرو الجديدي ففتح هرمز و وجه ابن عامر زياد بن الربيع الحارتي إلى سجستان فافتتح زالق و ناشروذ ثم بعث زياد بن الربيع إبراهيم بن بسام مولى بني ليث حتى حاصر مدينة زرنج فصالحوه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب و مات مسعود بن الربيع و كان من أهل بدر و مات الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الطفيل بن الحارث ثم حج عثمان بالناس و صلى بمنى أربعا
فتحت أرمينية الآخرة و أميرها حبيب بن مسلمة الفهري و ذلك أن عثمان كتب إلى حبيب بن مسلمة أن سر من الشام في جيش إلى أرمينية فمضى حبيب بن مسلمة من ناحية درب الحدث فافتتح خلاط و سراج و وادي المطامير و مات أبو سفيان بن حرب و هو ابن ثمان و ثمانين سنة ثم خرج ابن عامر إلى خراسان و على مقدمته الأحنف بن قيس فلقي أهل هراة فهزمهم و افتتح أبرشهر صلحا و قد قيل : عنوة ثم افتتح طوس و ما حولها ثم صالح أهل سرخس على مائة ألف و خمسين ألفا
و بعث أبو عامر الأسود بن كلثوم العدوي إلى بيهق فافتتحها و قتل بها و بعث أهل مرو يطلبون الصلح فصالحهم ابن عامر على ألفي ألف و مائتي ألف و كان الذي صالحه ماهويه بن أوزمهر مرزبان مرو ثم بعث ابن عامر الأحنف ابن قيس إلى مرو الروذ و الفارياب و الطالقان و افتتح طخارستان و قتل منهم ثلاثة عشر نفسا ثم خرج الأحنف إلى بلخ فصالحوه على أربعمائة ألف درهم ثم أتى خوارزم فلم يطقها فرجع و بعث ابن عامر خليد بن عبد الله بن زهير الحنفي إلى باذغيس و هراة فافتتحها ثم ارتدوا بعد و غزا عبد الله ابن سعد بن أبي سرح أرض الروم في ناحية المصيصية و غنم ثم رجع و حج بالناس عثمان
مات عبد الله بن مسعود بالمدينة و دفن بالبقيع و صلى عليه عثمان بن عفان و مات عبد الرحمن بن عوف و هو ابن خمس و سبعين سنة و مات العباس بن عبد المطلب و هو ابن خمس و ثمانين سنة لأن العباس ولد قبل الفيل بثلاثة سنين و مات عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء و مات أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل و غزا معاوية غزوة مضيق القسطنطينية و معه امرأته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف و قد قيل : إن اسمها فاختة و فيها غزا سعيد بن العاص طبرستان
مات المقداد بن عمرو بن ثعلبة على ثلاثة أميال من المدينة و حمل على أعناق الرجال إلى المدينة و صلى عليه عثمان بن عفان و دفن بالبقيع و غزا معاوية ملطية و قرطبة من أرض الروم و جمع قارن جمعا كثيرا ببادغس وهراة و أقبل في أربعين ألفا و قام بأمر الناس عبد الله بن خازم السلمي فلقي قارن و هزم أصحابه و أصابوا سبيا كثيرا ثم بعث ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب إلى سجستان فصالحه صاحب زرنج فأقام عبد الرحمن بها و تحرك أهل إفريقية فزحف إليهم عبد الله بن أبي سرح فكانت إفريقية الثانية و غزا معاوية حصن المرأة من بلاد الروم من ناحية ملطية و حج بالناس عثمان
مات مسطح بن أثاثة من أهل بدر و غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الصواري من أرض مصر و قاتل منهم مقتلة عظيمة و ذلك أن المسلمين و عدوهم جميعا كانوا في البحر فالتقوا فاقتلوا قتالا شديدا من غير رمي بالسهم و لا طعن بالرمح إنما كان ضرب السيف أو الطعن بالخنجر حتى قتل من أرض الروم خلق كثير و هزم الله الروم منكوبين و انصرف المسلمون غانمين و مات عبادة بن صامت بالرملة و هو ابن اثنتين و سبعين سنة و مات عاقل بن البكير من بني سعد بن الليث من أهل بدر و مات أبو عبس بن جبر بالمدينة و هو من أهل بدر و حج عثمان بالناس
خرج جماعة من أهل مصر إلى عثمان يشكون ابن أبي سرح و يتكلمون منه فكتب إليه عثمان كتابا و هدده فيه فأبى ابن أبي السرح أن يقبل من عثمان و ضرب بعض من أتاه من قبل عثمان متظلما و قتل رجلا من المتظلمة فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فيهم أربعة من الرؤساء : عبد الرحمن بن عديس البلوي و عمرو بن الحمق الخزاعي و كنانة بن بشر بن عتاب الكندي و سودان بن حمران المرادي فساروا حتى قدموا المدينة و نزلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و شكوا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح فقام طلحة بن عبيد الله إلى عثمان بن عفان و كلمه الكلام الشديد و أرسلت إليه عائشة : قدم عليك أصحاب محمد و سألوك عزل هذا الرجل فأبيت ذلك بواحدة و هذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم منة عاملك و كان عثمان يحب قومه ثم دخل عليه علي بن أبي طالب فقال : سألوك رجلا مكان رجل و قد ادعوا قبله دما فاعزله عنهم و اقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه فقال لهم عثمان : اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا لعثمان : استعمل علينا محمد بن أبي بكر فكتب عهده و ولاه مصر فخرج محمد بن أبي بكر واليا على مصر بعهده و معه عدة من المهاجرين و الأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر و بين ابن أبي سرح فلما بلغوا مسيرة ثلاثة ليال من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير له يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب فقالوا له : ما قصتك و ما شأنك كأنك هارب أو طالب ؟ قال : أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر قالوا : هذا عامله معنا قال : ليس هذا أريد ـ و مضى فأخبر محمد بن أبي بكر بأمره فبعث في طلبه أقواما فردوه فلما جاءوا به قال له محمد : غلام من أنت ؟ فأقبل مرة يقول : أنا غلام أمير المؤمنين و مرة يقول : أنا غلام مروان فعرفه رجل منهم أنه لعثمان فقال له محمد بن أبي بكر لمن أرسلت ؟ قال : إلى عامل مصر قال : بماذا ؟ قال : برسالة قال : أمعك كتاب ؟ قال : لا ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا و كان معه إدواة قد يبست و فيها شيء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإدواة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين و الأنصار و غيرهم ثم فك الكتاب بحضرتهم فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبي بكر و فلان و فلان فاحتل لقتلهم و أبطل كتابه و قر على عملك و احبس من يجيء إلي يتظلم منك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله فلما قرأوا الكتاب فزعوا و أزمعوا و رجعوا إلى المدينة و ختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتم جماعة من المهاجرين معه و دفع الكتاب إلى رجل منهم و انصرفوا إلى المدينة فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر عليا و طلحة و الزبير و سعدا و من كان بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم فك الكتاب بحضرتهم عليه خواتم من معه من المهاجرين و أخبرهم بقصة الغلام فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان و قام أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلحقوا بمنازلهم و ما منهم أحد إلا هو مغتم و كانت هذيل و بنو زهرة في قلوبها ما فيها على عثمان لحال ابن مسعود و كانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار ابن ياسر و كانت بنو غفار و أحلافها و من غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها و أجلب عليه محمد بن أبي بكر من بني تيم و أعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله و عائشة فلما رأى ذلك علي و صح عنده الكتاب بعث إلى طلحة و الزبير و سعد و عمار و نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم بدريون ثم جاء معهم حتى دخل على عثمان و معه الكتاب و الغلام و البعير فقال له : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم قال : و البعير بعيرك ؟ قال : نعم قال : فأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا و حلف بالله أنه ما كتب هذا الكتاب و لا أمر به فقال له علي : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم قال علي : فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به ؟ فحلف عثمان بالله : ما كتبت هذا الكتاب و لا أمرت به و لا وجهت هذا الغلام قط إلى مصر و أما الخط فعرفوا أنه خط مروان فلما شكوا في أمر عثمان سألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى و كان مروان عنده في الدار و كان خشي عليه القتل فخرج من عنده علي و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و علموا أن عثمان لا يحلف باطلا ثم قالوا : لا نسكت إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث و نتعرف منه ذلك الكتاب و كيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بغير حق ! فإن يك عثمان كتب ذلك عزلناه و إن يك مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان و لزموا بيوتهم و فشا الخبر في المسلمين من أمر الكتاب و فقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عثمان و خرج من الكوفة عدي بن حاتم الطائي و الأشتر مالك بن الحارث النخعي في مائتي رجل و خرج من البصرة حكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل حتى قدموا المدينة يريدون خلع عثمان و حوصر عثمان قبل هلال ذي القعدة بليلة و ضيق عليه المصريون و البصريون و أهل الكوفة بكل حيلة و لم يدعوه يخرج و لا يدخل إليه أحد إلا أن تأتيه المؤذن فيقول : الصلاة ! و قد منعوا المؤذن أن يقول : يا أمير المؤمنين فكان إذا جاء وقت الصلاة بعث أبا هريرة يصلي بالناس و ربما أمر ابن عباس بذلك فصعد يوما عثمان على السطح فسمع بعض الناس يقول : ابتغوا إلى قتله سبيلا فقال : و الله ما أحل الله و لا رسوله قتلي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدى ثلاث : كفر بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ] و ما فعلت من ذلك شيئا ثم قال : لا أخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمته بإراقة محجمة دم حتى ألقاه يا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ! أحبكم إلي من كف عنا لسانه و سلاحه ثم أشرف عليهم فقال : أفيكم علي ؟ قالوا : لا قال : أفيكم سعد ؟ قالوا : لا فقال : أذكركم بالله هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بشيء فابتعتها من مالي و جعلتها للغني و الفقير و ابن السبيل فقالوا : نعم قال : فاسقوني منها ثم قال : ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة فما كادت تصل إليه حتى خرج في سببها عدة من بني هاشم و بني أمية حتى وصل الماء إليه ثم قال عثمان : و الله ! لو كنت في أقصى داري ما طلبوا غيري و لو كنت أدناهم ما جاوزني إلى غيري سنجتمع نحن و هم عند الله و سترون بعدي أمورا تتمنون أني عشت فيهم ضعف أمري و الله و ما أرغب في أمارتهم و لولا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لي [ إذا ألبسك الله قميصا و أرادوك على خلعه فلا تخلعه ] لحبست في بيتي و تركتكم و إمارتكم و و الله ! لو فعلت ما تركوني و إنهم قد خدعوا و غروا و الله ! لو أقتل لمت لقد كبر سني و رق عظمي و جاوزت أسنان أهل بيتي و هم على هذا لا يريدون تركي اللهم ! فشتت أمرهم و خالف بين كلمتهم و انتقم لي منهم و اطلبهم لي طلبا حثيثا و قد استجيب دعاءه في كل ذلك
ثم أمر عثمان بن عفان عبد الله بن عباس على الحج فحج بالناس فأمره و بعث إلى الأشتر فدعاه فقال : يا أشتر ! ما يريد الناس ؟ قال : ثلاث ليس من إحداهن بد إما أن تخلع أمرهم و تقول : هذا أمركم فاختاروا له من شئتم و إما أن تقص من نفسك فإن أبيتهما فالقوم قاتلوك قال عثمان : إما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلينه الله و الله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أخلع أمة محمد صلى الله عليه و سلم بعضها على بعض و أما أن أقص من نفسي فو الله لقد علمتم أني لم آت شيئا يجب علي القصاص فيه و أما أن تقتلوني فو الله إن تقتلوني لا تتحابون بعدي ! و لا تقاتلون بعدي عدوا جميعا و لتختلفن حتى تصيروا هكذا { يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } ـ الآية ثم أرسل إلى عبد الله بن سلام فجاءه فقال : الكف الكف ! ثم جاءه زيد بن ثابت فقال : يا أمير المؤمنين ! هذه الأنصار بالباب فقال عثمان : إن شاءوا أن يكونوا أنصار الله منكم و إلا فلا ثم جاءه عبد الله بن الزبير فقال : يا أمير المؤمنين ! اخرج فقاتلهم فإن معك من قد نصر الله بأقل منهم فلم يعرج على قول ابن الزبير ثم قال : ائتوني برجل منهم أقرأ عليه كتاب الله فأتوه بصعصعة بن صوحان و كان شابا فقال : ما وجدتم أحدا تأتوني به غير هذا الشاب ! فتكلم صعصعة بكلام فقال عثمان : { أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير } فلما اشتد بعثمان الأمر أصبح صائما يوم الجمعة و قال : إني رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقال لي : [ يا عثمان ! إنك تفطر عندنا الليلة ] ثم قال علي للحسن و الحسين : اذهبا بسيفكما حتى تقفا على باب عثمان و لا تدعا أحدا يصل إليه و بعث الزبير ابنه و بعث طلحة ابنه و بعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان و رماه الناس بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء و تخضب محمد بن طلحة و شج قنبر مولى علي ثم أخذ محمد بن أبي بكر بيد جماعة و تسور الحائط من غير أن يعلم به أحد من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان و هو قاعد و المصحف في حجره و معه امرأته و الناس فوق السطح لا يعلم أحد بدخولهم فقال عثمان لمحمد بن أبي بكر : والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني ! فرجع محمد و تقدم إليه سودان بن رومان المرادي و معه مشقص فوجأه حتى قتله و هو صائم ثم خرجوا هاربين من حيث دخلوا و ذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة و كان تمام حصاره خمسة و أربعين يوما و كانت امرأته تقول : إن شئتم قتلتموه و إن شئتم تركتموه ! فإنه كان يختم القرآن كل ليلة في ركعة ثم صعدت إلى الناس تخبرهم و همر الناس عليه فدخلوا و أول من دخل عليه الحسن و الحسين فزعين و هما لا يعلمان بالكائنة و كانا مشغولين على الباب ينصرانه و يمنعان الناس عنه فلما دخلوا وجدوا عثمان مذبوحا فانكبوا عليه يبكون و دخل الناس فوجا فوجا و بلغ الخبر علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير و سعدا فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب لعظم الخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا و استرجعوا و قال علي لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين و أنتما على الباب ؟ قالا : لم نعلم قال : فرفع يده و لطم الحسن و ضرب صدر الحسين و شتم محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير ثم خرج وهو غضبان يسترجع فلقيه طلحة بن عبيد الله فقال : ما لك يا أبا الحسن ؟ فقال علي : يقتل أمير المؤمنين رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم من غير أن تقوم عليه بينة و لا حجة ! فقال له طلحة : لو دفع مروان إليهم لم يقتلوه فقال علي : لو خرج مروان إليكم لقتلتموه قبل أن يثبت عليه حكومة ! ثم أتى علي منزله يسترجع فاشتغل الناس بعضهم ببعض و فزعوا و لم يتوهموا بأن هذه الكائنة تكون ثم حمل على سريره بين المغرب و العشاء و صلى عليه جبير بن مطعم و دلته في قبره نائلة بنت الفرافصة و أم البنين بنت عيينة بن حصن بن بدر الفزاري و دفن ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة و كانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما
و قتل يوم قتل عثمان من قريش عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي و عبد الله ابن عبد الرحمن بن العوام و المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و قتل معهم غلام لعثمان أسود ـ أربعة أنفس
و كان عمال عثمان حين قتل : على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز و على الكوفة سعد بن أبي وقاص و على الشام معاوية بن أبي سفيان و على مصر محمد بن أبي حذيفة و على مكة عبد الله بن الحضرمي و على الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي و على صنعاء يعلى بن منبه و على الجند عبد الله بن أبي ربيعة
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو الحسن الهاشمي و أمه فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف و هاشم أخو هشام و من زعم أنه أسد بن هاشم بن عبد مناف فقد وهم
[ أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : كان علي قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيبر و كان به رمد فقال : أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فخرج فلحق بالنبي صلى الله عليه و سلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأعطين الراية ـ أو ليأخذن الراية ـ غدا رجل يحبه الله و رسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي و ما نرجوه فقالوا : هذا علي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم ففتح الله عليه ]
قال أبو حاتم : لما كان من أمر عثمان ما كان قعد علي في بيته و أتاه الناس يهرعون إليه كلهم يقولون : أمير المؤمنين علي حتى دخلوا عليه داره و قالوا : نبايعك فإنه لا بد من أمير و أنت أحق فقال علي : ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليا يطلبون البيعة و هو يأبى عليهم فجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى علي فقال له : ما يمنعك أن تجيب هؤلاء إلى البيعة ؟ فقال : لا أفعل إلا عن ملأ و شورى و جاء أهل مصر فقالوا : ابسط يدك نبايعك فو الله ! لقد قتل عثمان و كان قتله لله رضى فقال علي : كذبتم و الله ما كان قتله لله رضى ! لقد قتلتموه بلا قود و لا حد و لا غيره و هرب مروان فطلب فلم يقدر عليه فلما رأى ذلك علي منهم خرج إلى المسجد و صعد المنبر و حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا أيها الناس ! رضيتم مني أن أكون عليكم أميرا ؟ فكان أول من صعد إليه المنبر طلحة فبايعه بيده و كان إصبع طلحة شلاء فرآه أعرابي يبايع فقال : يد شلاء و أمر لا يتم فتطير علي منها و قال : ما أخلقه أن يكون كذلك ثم بايعه الزبير و سعد و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بلغ عليا أن سعدا و ابن عمر و محمد بن مسلمة يذكرون هنات فقام علي خطيبا فحمد الله و أثنى عليه فقال : أيها الناس ! إنكم بايعتموني على ما بايعتم عليه أصحابي فإذا بايعتموني فلا خيار لكم علي و على الإمام الاستقامة و على الرعية التسليم و هذه بيعة عامة فمن ردها رغب عن دين المسلمين و اتبع غير سبيلهم و لم تكن بيعته إياي فلتة و ليس أمري و أمركم واحدا أريد الله و تريدونني لأنفسكم و أيم الله ! لأنصحن الخصم و لأنصفن المظلوم
و قد أكثر الناس في قتل عثمان فمنهم من قد زعم أنه قتل ظالما و منهم من قد زعم أنه قتل مظلوما و كان الإكثار في ذلك على طلحة و الزبير قالت قريش : أيها الرجلان ! إنكما قد وقعتما في ألسن الناس في أمر عثمان فيما وقعتما فيه فقام طلحة في الناس فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : أيها الناس ! ما قلنا في عثمان أمس إلا نقول لكم فيه اليوم مثله أنه خلف الدنيا بالتوبة و مال عليه قوم فقتلوه و أمره إلى الله ثم قام الزبير فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا أيها الناس ! إن الله اختار من كل شيء شيئا و اختار من الناس محمدا صلى الله عليه و سلم أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون و اختار من الشهور رمضان و أنزل فيه القرآن و فرض فيه الصيام و اختار من الأيام يوم الجمعة فجعله عيدا لأهل الإسلام و اختار من البلدان هذين الحرمين : مكة و المدينة فجعل بمكة البيت الحرام و جعل بالمدينة حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل ما بين قبره و منبره روضة من رياض الجنة و اختار من الشورى التسليم كما اختار هذه الأشياء فأذهبت الشورى بالهوى و التسليم بالشك قد تشاورنا فرضينا عليا و أما إن قتل عثمان فأمره إلى الله
فلما رأى علي اختلاف الناس في قتل عثمان صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! أقبلوا علي بأسماعكم و أبصاركم إن الناس بين حق و باطل فلئن علا أمر الباطل لقديما ما فعل و إن يكن الحق قد غاب فلعل و إني أخاف أن أكون أنا و أنتم قد أصبحنا في فتنة و ما علينا فيها إلا الاجتهاد الناس اثنان و ثلاثة لا سادس لهم : ملك طار بجناحيه أو نبي أخذ الله بيده أو عامل مجتهد أو مؤمل يرجو أو مقصر في النار و إن الله أدب هذه الأمة بأدبين : بالسيف و السوط لا هوادة عند السلطان فيهما فاستتروا و استغفروا الله فأصلحوا ذات بينكم
ثم نزل و عمد إلى بيت المال و أخرج ما فيه و فرقه على المسلمين ثم بعث إلى سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و محمد بن مسلمة فقال : لقد بلغني عنكم هنات فقال سعد : صدقوا ! لا أبايعك و لا أخرج معك حيث تخرج حتى تعطيني سيفا يعرف المؤمن من الكافر و قال له ابن عمر : أنشدك الله و الرحم أن تحملني على ما لا أعرف و الله ! لا أبايع حتى يجتمع المسلمون على من جمعهم الله عليه و قال محمد بن مسلمة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني إذا اختلف أصحابه ألا أدخل فيما بينهم و أن أضرب بسيفي صخر أحد فإذا انقطع أقعد في بيتي حتى تأتيني يد خاطئة أو منية قاضية و قد فعلت ذلك ثم دعا علي أسامة بن زيد و أراده على البيعة فقال أسامة : أما البيعة فإنني أبايعك أنت أحب إلي و آثرهم عندي و أما القتال فإني عاهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا أقاتل رجلا يشهد أن لا إله إلا الله فلما رآهم علي مختلفين قال : أخرجوني من هذه البيعة و اختاروا لأنفسكم من أحببتم فسكتوا و قاموا و خرجوا فدخل عليه المغيرة بن شعبة فقال : يا أمير المؤمنين ! إني مشير عليك بخلال ثلاث فافعل أيها شئت فقال : ما هي يا أعور ؟ فقال : إني أرى من الناس بعض التثاقل فيك فأرى أن تأتي بحمل ظهر فتركبه و تركض في الأرض هاربا من الناس فإنهم إذا رأوا ذلك منك ابتاعوا جمالا أظهر من جمالك و خيولا ثم ركضوا في أثرك حتى يدركوك حيث ما كنت و يقلدوك هذا الأمر على اجتماع منهم شئت أو أبيت فإن لم تفعل هذا فأقر معاوية على الشام كله و اكتب إليه كتاب بذلك تذكر فيه من شرفه و شرف آبائه و أعلمه أنك ستكون له خيرا من عمر و عثمان و اردد عمرو بن العاص على مصر و اذكر في كتابك شرفه و قدمه فإنه رجل يقع الذكر منه موقعا فإذا ثبت الأمر أذنت لهما حينئذ في القدوم عليك تستخبرهما عن البلاد و الناس ثم تبعث بعامين و تقرهما عندك فإن أبيت فاخرج من هذه البلاد فإنها ليست ببلاد كراع و سلاح
فقال علي : أما ما ذكرت من فراري من الناس فكيف أفر منهم و قد بايعوني و أما أمر معاوية و عمرو بن العاص فلا يسألني الله عن إقرارهما ساعة واحدة في سلطاني { و ما كنت متخذ المضلين عضدا } و أما خروجي من هذه البلاد إلى غيرها فإني ناظر في ذلك فخرج من عنده المغيرة ثم عاد و هو عازم على الخروج إلى الشام و اللحوق بمعاوية فقال له : يا أمير المؤمنين ! أشرت عليك بالأمس في رأيي بمعاوية و عمرو إن الرأي أن تعاجلهم بالنزع فقد عرف السامع من غيره و تستقبل أمرك ثم خرج من عنده فلقيه ابن عباس خارجا و هو داخل فلم انتهى إليه قال : رأيت المغيرة خارجا من عندك فيم جاءك ؟ قال : جاءني أمس برأي و اليوم برأي وأخبره بالرأيين فقال ابن عباس : أما أمس فقد نصحك وأما اليوم فقد غشك قال : فما الرأي ؟ قال ابن عباس : كان الرأي قبل اليوم قال علي : علي ذلك ! قال : كان الرأي أن تخرج إلى مكة حتى تدخلها و تدخل دارا من دورها و تغلق عليك بابك فإن الناس لم يكونوا ليدعوك و إن قريشا كانت تضرب الصعب و الذلول في طلبك لأنها لا تجد غيرك فأما اليوم فإن بني أمية يستحسون الطلب بدم صاحبهم و يشبهون على الناس إن يلزموك شعبة من أمره و يلطخونك من ذلك ببعض اللطخ فهم علي بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها و ينظر ما رأى معاوية و ما هو صانع فجاءه أبو أيوب الأنصاري فقال له : يا أمير المؤمنين ! لو أقمت بهذه البلاد ! لأنها الدرع الحصينة و مهاجرة للنبي صلى الله عليه و سلم و بها قبره و منبره و مادة الإسلام فإن استقامت لك العرب كنت فيها كمن كان و أن تشعب عليك قوم رميتهم بأعدائهم و إن ألجئت حينئذ إلى المسير سرت و قد أعذرت فقال علي : إن الرجال و الأموال بالعراق و لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ثم أخذ بما أشار عليه أبو أيوب الأنصاري و عزم على المقام بالمدينة و بعث العمال على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة أميرا و عمارة بن حسان ابن شهاب على الكوفة و عبيد الله بن عباس على اليمن و قيس بن سعد على مصر و سهل بن حنيف على الشام فأما سهل بن حنيف فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيه خيل من أهل الشام فقالوا له : من أنت ؟ قال : أمير قالوا : على أي شيء ؟ قال : على الشام قالوا : إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك و إن كان بعثك غيره فارجع قال : ما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى و لكن ارجع إلى بلدك فرجع إلى علي و إذا القوم أصحاب
و أما قيس بن سعد فإنه انتهى إلى إيلة فلقيه طلائع فقالوا له : من أنت ؟ فقال أنا من الأصحاب الذين قتلوا و شردوا من البلاد فأنا أطلب مدينة آوي إليها فقالوا : و من أنت ؟ قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة فقالوا : امض بنا فمضى قيس حتى دخل مصر و أظهر لهم حاله و أخبرهم أنه ولي على مصر فافترق عليه أهل مصر فرقا : فرقة دخلت في الجماعة و بايعت و فرقة أمسكت و اعتزلت و فرقة قالت : إن قيد من قتلة عثمان فنحن معه و إلا فلا فكتب قيس بن سعد بجميع ما رأى من أهل مصر إلى علي
و أما عبيد الله بن عباس فإنه خرج منطلقا إلى اليمن لم يعانده أحد و لم يصده عنها صاد حتى دخلها فضبطها لعلي و أما عمارة بن حسان بن شهاب فإنه أقبل عامدا إلى الكوفة حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن خويلد الأسدي و هو خارج إلى المدينة يطلب دم عثمان فقال طليحة : من أنت ؟ قال : أنا عمارة بن حسان بن شهاب قال : ما جاء بك ؟ قال : بعثت إلى الكوفة أميرا قال : و من بعثك ؟ قال : أمير المؤمنين علي قال : الحق بطيتك فإن القوم لا يريدون بأميرهم أبي موسى الأشعري بدلا فرجع عمارة إلى علي و أخبره الخبر و أقام طليحة بزبالة
و أما عثمان بن حنيف فإنه مضى يريد البصرة و عليها عبد الله بن عامر بن كريز و بلغ أهل البصرة قتل عثمان فقام ابن عامر فصعد المنبر و خطب و قال : إن خليفتكم قتل مظلوما و بيعته في أعناقكم و نصرته ميتا كنصرته حيا و اليوم ما كان أمس و قد بايع الناس عليا و نحن طالبون بدم عثمان فأعدوا للحرب عدتها فقال له حارثة بن قدامة : يا ابن عامر ! إنك لم تملكنا عنوة و قد قتل عثمان بحضرة المهاجرين و الأنصار و بايع الناس عليا فإن أقرك أطعناك وإن عزلك عصيناك فقال ابن عامر : موعدك الصبح فلما أمسى تهيأ للخروج و هيأ مراكبه و ما يحتاج إليه المسلمون و اتخذ الليل جملا يريد المدينة و استخلف عبد الله بن عامر الحضرمي على البصرة فأصبح الناس يتشاورون في ابن عامر و أخبروا بخروجه فلما قدم ابن عامر المدينة أتى طلحة و الزبير فقالا له : لا مرحبا بك و لا أهلا ! تركت العراق و الأموال و أتيت المدينة خوفا من علي و وليتها غيرك و اتخذت الليل جملا فهلا أقمت حتى يكون لك بالعراق فئة قال ابن عامر : فأما إذا قلتما هذا فلكما علي مائة سيف و ما أردتما من المال
ثم أتت أم كلثوم بنت علي أباها و كانت تحت عمر بن الخطاب فقالت له : إن عبد الله بن عمر رجل صالح و أنا أتكفل ما يجيء منه لك فلما كان من قدوم ابن عامر المدينة جاء ابن عمر إليها فقال : يا أماه ! إنك قد كفلت في و أنا أريد الخروج إلى العمرة الساعة و لست بداخل في شيء يكرهه أبوك غير أني ممسك حتى يجتمع الناس فإن شئت فأذني و إن شئت فابعثيني إلى أبيك قالت : لا بل اذهب في حفظ الله و تحت كنفه فانطلق ابن عمر معتمرا
فلما أصبح الناس أتوا عليا فقالوا : قد حدث البارحة حدث هو أشد من طلحة و الزبير و معاوية قال علي : ما ذاك ؟ قالوا : خرج ابن عمر إلى الشام فأتى علي السوق و جعل يعد طلابا ليرد ابن عمر فسمعت أم كلثوم بذلك فركبت بغلتها حتى أتت أباها فقالت : إن الأمر على غير ما بلغك و حدثته بما ذكر لها ابن عمر فطابت نفس علي بذلك فما انصرفوا من السوق حتى جاءهم بعض القدام من العمرة و أخبروه أنهم رأوا ابن عمر و آخر معه على حمارين محرمين بكساءين
ثم كتب علي إلى معاوية : [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد ! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان و ما اجتمع الناس عليه من بيعتي فادخل في السلام كما دخل الناس و إلا فأذن بحرب كما يؤذن أهل الفرقة ـ و السلام ] و بعث كتابه مع سبرة الجهني و الربيع بن سبرة فلما تقدم سبرة بكتاب علي و دفعه إلى معاوية جعل يتردد في الجواب مدة فلما طال ذلك عليه دعا معاوية رجلا من عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه [ من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ] و قال له : إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار و أبرزه ـ و أوصاه بما يقول و بعثه مع سبرة رسول علي فقدما المدينة فرفع العبسي الطومار كما أمر معاوية فخرج الناس ينظرون إليه و علموا حينئذ أن معاوية معترض معاند فلما دخلا على علي دفع إليه العبسي الطومار ففض عن خاتمه فلم يجد في جوفه شيئا فقال لسبرة : ما وراءك ؟ قال : تركت قوما لا يرضون إلا بالقود و قد تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان فقال علي : أمني يطلبون دم عثمان
ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري و هو على الكوفة [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد ! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان و ما اجتمع الناس عليه من بيعتي فادخل فيما دخل فيه الناس و رغب أهل ملكك في السمع و الطاعة و اكتب إلي بما كان منك و منهم إن شاء الله ـ و السلام عليك و رحمته الله و بركاته ] و بعث الكتاب مع معبد الأسلمي فلما قدم معبد الكوفة دعا أبو موسى الأشعري الناس إلى طاعة علي فأجابوه طائعين و كتب إلى علي بن أبي طالب [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن قيس سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد ! فقد قرأت كتابك و دعوت من قبلي المسلمين فسمعوا و أطاعوا ـ و السلام عليك و رحمة الله و بركاته ] و دفع كتابه إلى معبد
و كانت عائشة خرجت معتمرة فلما قضت عمرتها نزلت على باب المسجد و اجتمع إليها الناس فقالت : أيها الناس ! إن الغوغاء من أهل الأمصار و عبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظلما و استحلوا البلد الحرام و سفكوا الدم الحرام فقال عبد الله ابن عامر : ها أنا ذا أول طالب بدمه فكان أول من انتدب لذلك
و لما كثر الاختلاف بالمدينة استأذن طلحة و الزبير عليا في العمرة فقال لهما : ما العمرة تريدان و قد قلت لكما قبل بيعتكما لي : أيكما شاء بايعته فأبيتما إلا بيعتي و قد أذنت لكما فاذهبا راشدين فخرجا إلى مكة و تبعهما عبد الله بن عامر بن كريز فلما لحقهما قال لهما : ارتحلا فقد بلغتكما حاجتكما فاجتمعوا مع عائشة بمكة و بها جماعة من بني أمية
ثم جمع معاوية أهل الشام على محاربة علي و الطلب بالقود من دم عثمان و احتال في قيس بن سعد بن عبادة و كان واليا على مصر و كتب إلى علي كتابا يمرغ فيه معاوية فلما قرأ علي الكتاب عزل قيسا و ولى عليها محمد بن أبي بكر
و خرج قسطنطين بن هرقل بالمراكب يريد المسلمين فسلط الله عليهم ريحا قاصفا فغرقهم و نجا قسطنطين بن هرقل حتى انتهى إلى سقلية فصنعت الروم حماما فلما دخله قتلوه فيه و قالوا له : قتلت رجالنا
ثم حج بالناس عبد الله بن عباس أمره علي على الحج فلما انصرف أجمع طلحة و الزبير على المسير بعائشة فقال طلحة : ما لنا أمر أبلغ في استمالة الناس إلينا من شخوص ابن عمر معنا و كان من أمره في عثمان و خلافه له على ما يعلمه من يعلمه فأتاه طلحة فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إن عائشة قصدت الإصلاح بين الناس فاشخص معنا فإن لك بنا أسوة فقال ابن عمر : أتخدعونني لتخرجوني كما تخرج الأرنب من جحرها ! إن الناس إنما يخدعون بالوصيف و الوصيفة و الدنانير و الدراهم و لست من أولئك قد تركت هذا الأمر عيانا و أنا أدعى إليه في عافية فاطلبوا لأمركم غيري فقال طلحة : يغني الله عنك
و قدم يعلى بن أمية من اليمن و قد كان عاملا عليها بأربعمائة من الإبل فدعاهم إلى الحملان فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه و لكن أقرضنا من هذا المال فأعطاه ستين ألف دينار و أعطى طلحة أربعين ألف دينار فتجهزوا و أعطوا من خف معهم
تشاوروا في مسيرهم فقال الزبير : عليكم بالشام بها الأموال و الرجال و قال ابن عامر : البصرة فإن غلبتهم عليها فلكم الشام إن معاوية قد سبقكم إلى الشام و هو ابن عم عثمان و إن البصرة لي بها صنائع و لأهلها في طلحة هوى و كانت عائشة تقول : نقصد المدينة فقالوا لها : يا أم المؤمنين ! دعي المدينة فإن من معك لا يقربون لتلك الغوغاء و اشخصي معنا إلى البصرة فإن أصلح الله هذا الأمر كان الذي نريد و إلا فقد بلغنا و يقضي الله فيه ما أحب و كلموا حفصة ابنة عمر أن تخرج معهم فقالت : رأيي تبع لرأي عائشة فأتاها عبد الله بن عمر فناشدها الله أن تخرج فقعدت و بعثت إلى عائشة أن أخي حال بيني و بين الخروج فقالت : يغفر الله لابن عمر ثم نادى منادي طلحة و الزبير : من كان عنده مركب و جهاز و إلا فهذا مركب و جهاز فحملوا على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب و كانوا نحو ألف نفس و تجهزوا بالمال و شيعهم نساء النبي صلى الله عليه و سلم و كان كلهن بمكة حاجات إلا أم سلمة فإنها سارت إلى المدينة فلما بلغوا ذات عرق و دعت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و بكين و بكى الناس فلما رأوا بكاء أكثر من ذلك اليوم و سمي يوم النحيب و جعلن يدعون على قتلة عثمان الذين سفكوا في حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم الدم الحرام ثم انصرفن و مضت عائشة و هي تقول : اللهم ! إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح فأصلح بينهم
و بعثت أم الفضل حين خرجت عائشة و من معها من مكة إلى علي رجلا من جهينة قالت له : اقتل في كل مرحلة بعيرا و علي ثمنه و هذه مائة دينار و كسوة و كتبت معه [ أما بعد ! فإن طلحة و الزبير و عائشة خرجوا من مكة يريدون البصرة ] فقدم المدينة و أعطى عليا الكتاب فدعا علي محمد بن أبي بكر فقال له : ألا ترى إلى أختك خرجت مع طلحة و الزبير ! فقال محمد بن أبي بكر : إن الله معك و لن يخذلك و الناس ناصروك
ثم قام علي فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس تهيئوا للخروج إلى قتال أهل الفرقة فإني سائر إن شاء الله إن الله بعث رسولا صادقا بكتاب ناطق و أمر واضح لا يهلك عنه إلا هالك و إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ] انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ذات البين
و بعث علي الحسن بن علي و عمار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفارهم فلما قدموا الكوفة قام أبو موسى الأشعري في الناس و كان وليا عليها و أخبرهم بقدوم الحسن و استنفاره إياهم إلى أمير المؤمنين على إصلاح البين
و قدم زيد بن صوحان من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والي الكوفة و إذا في كل كتاب منهما [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عائشة أم المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري ـ سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد ! فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت و قد خرجت مصلحة بين الناس فمر من قبلك بالقرار في منازلهم و الرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة و أحلوا بأنفسهم البوار ] فلما قرأ الكتابين وثب عمار بن ياسر فقال : أمرت عائشة بأمر و أمرنا بغيره أمرت أن تقر في بيتها و أمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فهوذا تأمرنا بما أمرت و ركبت ما أمرنا به ثم قال : هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخرجوا إليه ثم انظروا في الحق و من الحق معه ثم قام الحسن بن علي فقال : يا أيها النا س ! أجيبوا دعوة أميركم و سيروا إلى أخوانكم لعل الله يصلح بينكم ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال : إن أمير المؤمنين قد دعانا و أرسل إلينا فاتبعوا قوله و انتهوا إلى أمره فقام حجر بن عدي الكندي فقال : أيها الناس ! أجيبوا أمير المؤمنين و انفروا خفافا و ثقالا بأموالكم و أنفسكم ثم قال الحسن أيها الناس ! إني غاد فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر و من شاء فليخرج في الماء فأجابوه و خرج معه تسعة آلاف نفس بعضهم على البر و بعضهم على الماء و ساروا حتى بلغوا ذا قار و خرج علي من المدينة معه ستمائة رجل و خلف على المدينة سهل بن حنيف فالتقى هو و ابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار فخرجوا جميعا إلى البصرة و لم يدخل علي الكوفة و كتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف أن يقدم عليه و يولي على المدينة أبا حسن المازني و التقى مع طلحة و الزبير و عائشة بالجلحاء على فرسخين من البصرة و ذلك لخمس خلون من جمادى الآخرة و كان علي كثيرا ما يقول : يا عجب كل العجب من جمادى و رجب ! فكان من أمرهم ما كان
و قتل ابن جرموز الزبير ثم أتى عليا يخبره فقال علي : سمعت رسول الله الله يقول [ قاتل ابن صفية بالنار ] فقال ابن جرموز : إن قتلنا معكم فنحن معكم في النار و إن قاتلناكم فنحن في النار ! ثم يعج بطنه بسيفه فقتل نفسه و أما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه فأثبته فيه و قتله و حمله إلى البصرة فمات بها فقبر طلحة بالبصرة و قتل الزبير بوادي السباع و كان كعب بن سور قد علق المصحف في عنقه ثم يأتي هؤلاء فيذكرهم و يأتي هؤلاء فيذكرهم حتى قتل
و كان علي ينادي مناديه : لا تقتل مدبرا و لا تذفف على جريح و من أغلق بابه فهو آمن و لم يقتل بعد آن واحدا فلما اطمأن الناس بعث علي بعائشة مع نساء من أهل العراق إلى المدينة و أقام بالبصرة خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الكوفة و ولى على البصرة عبد الله بن عباس و ولى الولاة في البلدان و كتب إلى المدن بالقرار و الطاعة
ثم إن أبا مسلم الخولاني قال لمعاوية : على ما تقاتل عليا و هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و له من القدم و السابقة ما ليس لك و إنما أنت رجل من الطلقاء ؟ فقال له معاوية : أجل ! و الله ما نقاتل عليا و أنا لست أدعي في الإسلام مثل الذي له و لكن أقاتله على دم أمير المؤمنين عثمان بن عفان و أنا أطلبه بدمه فقال أبو مسلم : إني أستخبر لك عن ذلك فركب راحلته و انتهى إلى الكوفة ثم نزل عن راحلته و أتى عليا ماشيا و الناس عنده و لا يعرفه أحد فقال : من قتل عثمان ؟ فقال علي : الله قتل عثمان و أنا معه فخرج أبو مسلم و لم يتكلم و مضى حتى انتهى إلى راحلته فركبها و لحق بالشام فانتهى إلى معاوية و هو يثقل فقيل له : هذا أبو مسلم قد جاء فعانقه معاوية و سأله عن سفره و خاف أن يكون قد جاء بشيء مما يكره فقال أبو مسلم : و الله لتقاتلن عليا أو لنقاتلنه فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقام معاوية فرحا و صعد المنبر و اجتمع إليه الناس و حمد الله و أثنى عليه و قام أبو مسلم خطيبا و حرض الناس على قتال علي فصح خروج أهل الشام قاطبة على علي و طلبهم إياه بدم عثمان
ثم إن حجر بن الأدبر قدم على علي فقال : يا أمير المؤمنين ! الجماعة و العدد و المال مع الأشعث بن قيس بآذربيجان فابعث إليه فليقدم فكتب إليه علي [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم و احمل ما غللت من المال ] فكتب إليه الأشعث بن قيس [ أما بعد ! فقد جاءني كتابك بأن أقدم عليك و أحمل ما غللت من مال الله فما أنت و ذاك ! و السلام ] ثم قال الأشعث : و الله ! لأدعنه بحال مضيعة و لأفسدن عيه الكوفة ثم ارتحل من آذربيجان و هو يريد معاوية و بلغ ذلك عليا و شق عليه خروجه إلى معاوية فقال حجر بن الأدبر : يا أمير المؤمنين ! ابعثني إلى الأشعث بن قيس فأنا أعرف به و أرفق و إن هو خوشن لم يجب أحدا قال له علي : سر إليه فسار حجر إليه فأدركه بشهر زور فقال له حجر : يا أبا محمد ! أنشدك الله أن تأتي معاوية و تدع ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الأشعث : أوما سمعت كتابه إلي ؟ فقال حجر : إنك إن أتيت معاوية أقبلنا جميعا إلى الشام و أنشدك الله ألا نظرت إلى أيتام قومك و أياماهم ! فإني لا آمن أن يفتضحوا غدا قال : فما تريد يا حجر ؟ قال : تنحدر معي إلى الكوفة فإنك شيخ العرب و سيدها و المطاع في قومك و سيصير إليك الأمر فلم يزل به حجر حتى قال : ليصرفوا صدور الركائب إلى الكوفة فتقدم على علي فسر علي بمجيئه فقال : مرحبا و أهلا بأبي محمد على عجلته فقال : أمير المؤمنين ! إن هذا ليس بيوم عتاب ثم أقام مع علي بالكوفة و حج بالناس عبد الله بن عباس بأمر علي ولاه
كتب معاوية إلى علي بن أبي طالب [ أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه و سلم بعلمه و جعله الأمين على وحيه و الرسول إلى خلقه و اختار له من المسلمين أعوانا فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كان أفضلهم في الإسلام و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة بعده و خليفة خليفته و الخليفة المظلوم المقتول رحمة الله عليهم ! و قد ذكر لي أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا فأمكنا ممن قتله حتى نقتله به و نحن أسرع إليك إجابة و أطوعهم طاعة و إلا فإنه ليس لك و لا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف و الذي لا إله غيره ! لنطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا بعثمان و السلام ] فكتب إليه علي [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ـ أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا صلى الله عليه و سلم و ما أنعم الله عليه من الهدى و الحمد لله على ذلك و أما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم في الإسلام كان عظيما و إن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام و أما ما ذكرت من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك و قد كان أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال لي : يا علي ! أنت أحق الناس بهذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و هات يدك حتى أبايعك فلم أفعل مخافة الفرقة في الإسلام فأبوك أعرف بحقي منك فإن كنت تعرف من حقي ما كان يعرفه أبوك فقد قصدت رشدك و إن لم تفعل فسيغني الله عنك و السلام ] فلما قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو و من معه على المسير إلى علي ثم سار يريد العراق و سار علي من العراق و صلى الظهر بين القنطرة و الجسر ركعتين و بعث على مقدمته شريح بن هانئ و زياد بن النضر بن مالك أمر أحدهما أن يأخذ على شط دجلة و الآخر على شط الفرات معهما أكثر من عشرة آلاف نفس و استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري ثم أخذ على طريق الفرات و جعل يقول : إذا سمعتموني أقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كما أقول و إذا لم أقل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما الحرب خدعة فالتقى علي و أهل الشام بصفين لسبع بقين من المحرم فقام علي خطيبا في الناس فقال : الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض و إن أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون مع أن لله ـ و له الحمد ـ لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه و لا تنازعت الأمة في شيء من أمره و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله { و لو شاء الله ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد } و قد ساقتنا و هؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا المكان فنحن من ربنا بمنظر و مستمع و لو شاء الله لجعل الانتقام و كان منه التغيير حتى يتبين أهل الباطل و يعلم أهل الحق أين مصيره و لكنه جعل الدنيا دار الأعمال و جعل الآخرة هي دار القرار { ليجزي الذين أساءوا } الآية ألا ! إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا فيها من تلاوة القرآن و سلوه النصر و عليكم بالجد و الحزم و كونوا صادقين ثم قعد فوثب الناس إلى سيوفهم يهيؤونها و إلى رماحهم يثقفونها و إلى نبالهم يريشونها ثم جعل على مقدمته شريح بن هانئ الحارثي و الأشتر و على الميمنة الأشعث بن قيس و على الميسرة عبد الله بن عباس و على الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء و على الساقة زياد بن النضر و على ميمنة الرجالة سليمان بن صرد الخزاعي ثم قام معاوية خطيبا في أهل الشام و اجتمع الناس فقال : الحمد لله الذي دنا في علوه و علا في دنوه و ظهر و بطن فارتفع فوق كل منظر أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا يقضي فيفصل و يقدر فيغفر و يفعل ما يشاء و إذا أراد أمرا أمضاه و إذا عزم على أمر قضاه لا يؤامر أحدا فيما يملك و لا يسئل عما يفعل و هم يسئلون و الحمد لله رب العالمين على ما أحببنا و كرهنا ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه الرقعة من الأرض و لقت بيننا و بين أهل العراق فنحن من الله بمنظر و مستمع و قد قال الله { و لو شاء الله ما اقتتلوا } ـ الآية فانظروا يا أهل الشام فإنما تلقون غدا العدو فكونوا على إحدى ثلاث خلال : إما قوما تطلبون ما عند الله بقتالكم قوما بغوا عليكم و إما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم و صهر نبيكم ] و إما قوما تدفعون عن نسائكم و ذراريكم و عليكم بتقوى الله و الصبر الجميل ! نسأل الله لنا و لكم النصر و أن يفرغ علينا و عليكم الصبر و أن يفتح بيننا و بين قومنا بالحق و هو خير الفاتحين فأجابه أهل الشام : طب نفسا ! نموت معك و نحيى معك ثم جعل معاوية أبا الأعور عمرو ابن سفيان السلمي على مقدمته و حبيب بن مسلمة الفهري على ميمنته و بسر ابن أرطأة على ميسرته و مسلم بن عقبة على رجالة العسكر فلما كان الغد اقتتلوا قتالا شديدا فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام فقتل من أصحاب علي بالمبارزة : هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و عمار بن ياسر و عبد الله بن بديل ابن ورقاء و عمار بن حنظلة الكندي و بشر بن زهير و مالك بن كعب العامري و طالب بن كلثوم الهمداني و المرتفع بن و ضاح الزبيدي و شريح بن طارق البكري و أسلم بن يزيد الحارثي و الحارث بن اللجاج الحكمي و عائذ بن كريب الهلالي و واصل بن ربيعة الشيباني و عائذ بن مسروق الهمداني و مسلم ابن سعيد الباهلي و محارب بن ضرار المرادي و سليمان بن الحارث الجعفي و سرحبيل بن يزيد الحضرمي
و قتل من أصحاب معاوية في المبارزة : سرحبيل بن منصور و عبد الرزاق ابن خالد العبسي و شريح بن الحارث الكلابي و صالح بن المغيرة الجمحي و حريث بن الصباح الحميري و الحارث بن وداعة الحميري و روق بن الحارث العكي و المطاع بن المطلب القيني و جلهمة بن هلال الكلبي و الوضاح بن أزهر السكسكي و وزاع بن سلامان الغساني و المهاجر بن حنظلة الجعفي و عبد الله بن جرير العكي و مالك بن و ديعة القرشي سوى من قتل من الفريقين من غير براز
و لما قتل عمار أتى عبد الله بن عمرو معاوية فقال : قتل عمار فقال عمرو ابن العاص : قتل عمار ! فما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لعمار : [ تقتلك الفئة الباغية ] ! فقال معاوية : أنحن قتلناه ! إنما قتله أهل العراق جاءوا به فطرحوه في سيوفنا و رماحنا و قد قيل : إنه قتل بصفين سبعون ألفا : من أهل العراق خمسة و عشرون ألفا و من أهل الشام خمسة و أربعون ألفا فلما اشتدت البلاء بالفريقين و كثر بينهم القتلى قال عمرو بن العاص لمعاوية : إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة فهل لك إلى أمر لا يزداد القوم به إلا فرقة إن أعطونا اختلفوا و إن منعونا اختلفوا ؟ فقال معاوية : ما هو ؟ فقال : المصاحف نرفعها و ندعوهم بما فيها فإنهم لا يقاتلون إلا على ما قد علمت فقال معاوية : افعل ما رأيت فأمر بالمصاحف فرفعت في الرماح ثم جعلوا ينادون : ندعوكم إلى كتاب الله و الحكم بما فيه فسر الناس به و كرهوا القتال و أجابوا إلى الصلح و أنابوا إلى الحكومة و قالوا لعلي : إن القوم يدعونك إلى الحق و إلى كتاب الله فإن كرهنا ذلك فنحن إذا مثلهم فقال علي : و يحكم ! ما ذلك يريدون و لا يفعلون ثم مشى الناس بعضهم إلى بعض و أجابوا الصلح والحكومة و تفرقوا إلى دفن قتلاهم و لم يجد علي بدا من أن يقبل الحكومة لما رأى من أصحابه فحكم أهل الشام عمرو بن العاص و أراد على أن يحكم ابن عباس فقال الأشعث بن قيس و هو يومئذ سيد الناس : لا يحكم في هذا الأمر رجلان من قريش و لا افترق الفريقان على هذا الجمع على حكومة بعد أن كان من القتال بينهما ما كان إلا و أحد الحكمين منا و تبعه أهل اليمن على ذلك ثم قال الأشعث : لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري و كتبوا بينهم كتابي الصلح [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و قاضى معاوية على أهل الشام و من كان معه من شيعته من المسلمين أنا ننزل على حكم الله و كتابه فما و جد الحكمان في كتاب الله فبهما يتبعانه و ما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة تجمعهما و هما آمنان على أموالهما و أنفسهما و أهاليهما و الأمة أنصار لهما على الذي يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين ـ و الطائفتان كلتاهما عليهما عهد الله و ميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين المسلمين الأمن و و ضع السلاح و على عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص عهد الله و ميثاقه ليحكما بين الناس بما في هذه الصحيفة على أن الفريقين جميعا يرجعان سنة فإذا انقضت السنة إن أحبا أن يردا ذلك ردا و إن أحبا زادا فيهما ما شاء الله اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة ]
و شهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس فشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس و عبد الله بن عباس و سعيد بن قيس المداني و حجر بن الأدبر الكندي و عبد الله بن الطفيل العامري و عبد الله بن محل العجلي و وقاء بن سمي البجلي و عقبة بن زيد الأنصاري و يزيد بن حجية التيمي و مالك بن أوس الرحبي
و شهد من أهل الشام أبو الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة الفهري و المخارق ابن الحارث الزبيدي و علقمة بن يزيد الحضرمي و سبيع بن يزيد الحضرمي و زمل بن عمرو العذري و يزيد بن الحر العبسي و حمزة بن مالك الهمداني و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و عتبة بن أبي سفيان
و كتب يوم الأربعاء سنة سبع و ثلاثين
فانصرف علي بمن معه من أهل العراق و انصرف معاوية بمن معه إلى الشام فقال عبد الله بن وهب الحرمي ـ و كان من أصحاب علي : لا حكم إلا لله فقال علي : هذه كلمة حق أريد بها باطل فلما دخل علي الكوفة خرج من كان يقول : لا حكم إلا لله و نزلوا بحروراء و هم قريب من اثني عشر ألفا فسموا الحرورية و مناديهم ينادي : أمير القتال شبث بن ربعي التميمي و الأمر بعد الفتح شورى و البيعة لله و مات خباب بن الأرت بالكوفة
فخرج علي من صفين و ولى علي سهل بن حنيف فارس فأخرجه أهل فارس فوجه زيادا فرفضوا و صالحوه و أدوا إليه الخراج ثم إن الخوارج اجتمعت على زيد بن حصين و قالوا له : أنت سيدنا و شيخنا و عامل عمر بن الخطاب على الكوفة تول أمرنا و جهروا به فقال : ما كنت لأفعلها فلما أبى عليهم ذلك ذهبوا إلى يزيد بن عاصم المحاربي فعرضوا عليه أمرهم فأبى عليهم ذلك ثم ذهبوا إلى سعد بن وائل التميمي فأبى عليهم فأتوا عبد الله بن وهب الراسبي و اجتمعوا عنده بقرب النهروان و خرج إليهم علي في جمعية فلما أتاهم حمد الله و أثنى عليه ثم قال : إنكم أيها القوم قد علمتم و علم الله أني كنت للحكومة كارها حتى أشرتم علي بها و غلبتموني عليها و الله بيني و بينكم شهيد ! ثم كتبنا بيننا و بينهم كتابا و أنتم على ذلك من الشاهدين فقالت طائفة من القوم : صدقت ـ و رجعوا إلى الجماعة و بقيت طائفة منهم على قولهم فقال علي : هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا { الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } منهم أهل النهروان و رب الكعبة ! ثم إنهم عبروا الجسر إلى علي ليحاربوه فلما عبروا الجسر نادى علي في العسكر : استقبلوهم فاستقبلوهم و التقطوهم بالرماح فكان مع علي جميعة يسيرة إنما جاء علي أن يردهم بالكلام و قد كانت الخوارج قريبا من خمسة آلاف فلما فرغوا من قتلهم قال علي : اطلبوا لي المخدع فطلبوه فلم يجدوه فقال : اطلبوا المخدع فو الله ما كذبت و لا كذبت ثم دعا ببغلته البيضاء فركبها و جعل يقلب القتلى حتى أتى على فضاء من الأرض فقال : قلبوا هؤلاء فإذا هم برجل ليس له ساعد بين جنبيه ثدي فيه شعرات إذا مدت امتدت و إذا تركت قلصت [ فقال علي : الله أكبر ! سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج قوم فيهم رجل مخدع اليد و لولا أن تنكلوا عن العمل لأنبأتكم بما وعدا الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه و سلم ] ثم حج بالناس عبد الله بن عباس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسماء الله الحسني بتحقيق أبي نعيم الاصبهاني

طرق حديث الأسماء الحسنى أبو نعيم الأصبهاني وصف الكتاب ومنهجه : لقد رأى الحافظ العَلَمُ أبو نعيم أن حديث " إن لله تسعة...الحديث ...