روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الأربعاء، 25 مايو 2022

مجلد 3. و 4. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

 مجلد 3. و 4. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

مجلد 3.  : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30) قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31)

للحكمة، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 30]
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30)
بدلوا نعمت الله أى شكر نعمة الله كفرا لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا، ونحوه وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أى شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرا على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقا في أعناقهم. وعن عمر رضى الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين.
وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه وأحلوا قومهم ممن تابعهم على الكفر دار البوار دار الهلاك. وعطف جهنم على دار البوار عطف بيان. قرئ ليضلوا بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد، فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمنى، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه، وهو أمر الشهوة.
والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار.

[سورة إبراهيم (14) : آية 31]
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31)

(2/555)


الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)

المقول محذوف، «1» لأن جواب قل يدل عليه، وتقديره قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى:
ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأن الأمر الذي هو قل عوض منه، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز.
فإن قلت: علام انتصب سرا وعلانية؟ قلت: على الحال، أى: ذوى سر وعلانية، بمعنى:
مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أى وقتى سر وعلانية، أو على المصدر، أى: إنفاق سر وإنفاق علانية، المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب: والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ «2» قلت:
من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها. وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أى: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرئ: لا بيع فيه ولا خلال، بالرفع.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 33]
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)
__________
(1) . قال محمود: «المقول محذوف ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الاعراب نظر، لأن الجواب حينئذ يكون خبرا من الله تعالى، بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا الصلاة وأنفقوا، لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم، وخبر الله تعالى يجل عن الخلف، وهذه النكتة هي الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الاعراب من تبادره فيما ذكر بادى الرأى، ويمكن تصحيحه بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق، ويقوى بوجهين لطيفين، أحدهما: أن هذا النظم لم يرد إلا لموصوف بالايمان الحق المنوه بإيمانه عند الأمر، كهذه الآية وكقوله وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن
، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الثاني: تكرر مجيئه للموصوفين بأنهم عباد الله المشرفون باضافتهم إلى اسم الله، وقد قالوا إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين، وخصوصا إذا انضاف إليه تعالى إضافة التشريف، فالحاصل من ذلك أن المأمور في هذه الآي من هو بصدد الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة، فالخبر في أمثالهم حق وصدق، إما على العموم إن أريد، أو على الغالب، والله أعلم.
(2) . قوله «بأنه لا بيع فيه ولا خلال» هذه القراءة بالبناء على الفتح. (ع)

(2/556)


[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34)
الله مبتدأ، والذي خلق خبره، ومن الثمرات بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقا حالا من المفعول، أو نصبا على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق بأمره بقوله كن دائبين يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات وسخر لكم الليل والنهار يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم «1» وآتاكم من كل ما سألتموه من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظرا في مصالحكم. وقرئ من كل بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال لا تحصوها لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأما التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله لظلوم يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 36]
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)
هذا البلد يعنى البلد الحرام، زاده الله أمنا، وكفاه كل باغ وظالم، أجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام آمنا ذا أمن. فإن قلت: أى فرق بين قوله اجعل هذا بلدا آمنا وبين قوله اجعل هذا البلد آمنا؟ قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنا واجنبني وقرئ: وأجنبنى، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد
__________
(1) . قوله «وسباتكم» في الصحاح: السبات النوم، وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى وجعلنا نومكم سباتا. (ع)

(2/557)


ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)

جنبني وأجنبنى، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها وبني أراد بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله واجنبني وبني أن نعبد الأصنام إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا:
البيت حجر، فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت إنهن أضللن كثيرا من الناس فأعوذ بك أن تعصمني «1» وبنى من ذلك، وإنما جعلن مضلات، لأن الناس ضلوا بسببهن، فكأنهن أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم، أى افتتنوا بها واغتروا بسببها فمن تبعني على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي فإنه مني أى هو بعضى لفرط اختصاصه بى وملابسته لي، وكذلك قوله «من غشنا فليس منا» «2» أى ليس بعض المؤمنين، على أن الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم ومن عصاني فإنك غفور رحيم تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.

[سورة إبراهيم (14) : آية 37]
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)
من ذريتي بعض أولادى وهم إسماعيل ومن ولد منه بواد هو وادى مكة غير ذي زرع لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله قرآنا عربيا غير ذي عوج بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت المحرم، لأن الله حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار، كالشىء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه، أو لأنه حرم على الطوفان أى منع منه، كما سمى عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ليقيموا الصلاة اللام متعلقة بأسكنت، أى: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا
__________
(1) . قوله «فأعوذ بك أن تعصمني» لعله أن لا تعصمني. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وابن حبان من حديث ابن مسعود وإسحاق والبزار من حديث ابن عمر. والبخاري في التاريخ. والطبراني في الأوسط من حديث البراء. والبزار من حديث عائشة. وابن أبى شيبة من حديث أبى الحمراء. والحاكم من رواية عمير بن سعيد النخعي وابن أبى شيبة من رواية جميع بن عمير عن خالد بن برزة والطبراني من حديث أبى موسى والبيهقي في الشعب من طريق حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، كذلك أخرجه البيهقي في الشعب، وأخرجه الطبراني من هذا الوجه. فلم يذكر عليا. وأخرجه أبو نعيم عن أنس وعن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبى ربيعة عن جده به.

(2/558)


الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك أفئدة من الناس أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روى عن مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل من لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند. ويجوز أن يكون من للابتداء، كقولك: القلب منى سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرى: آفدة، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر. والثاني:
أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أى، جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: أفدة، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد تهوي إليهم تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله:
يهوى مخارمها هوى الأجدل «1»
وقرئ: تهوى إليهم، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوى إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدى تعديته وارزقهم من الثمرات مع سكناهم
__________
(1) .
فإذا نبذت له الحصاة رأيته ... ينزو لوقعتها طمور الأخبل
وإذا يهب من المنام رأيته ... كرتوب كعب الساق ليس بزمل
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى مخارمها هوى الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتبلل
لأبى كبير الهذلي، يصف تأبط شرا بالتيقظ والشجاعة، يقول: إذا رميت له الحصاة مجربا له هل هو نائم أو صاح، ينزو: أى يثب بسرعة، طمور الأخيل: أى وثوب الأخيل، أى ينهض كنهوضه: وهو طير تتشاءم منه العرب، وأصله من التخيل، وقيل من الخيلاء. ورتب رتوبا: انتصب انتصابا وارتفع ارتفاعا، أى: رأيته يرتفع عن الأرض كارتفاع كعب الساق. والزمل والزمال والزميل- بتشديد الميم فيها-: هو الضعيف الملتف بثيابه، ثم قال:
وإذا قذفته في نواحي الأمكنة المتسعة، رأيته يهوى مخارمها، أى: يسرع في سلوك مسالكها الضيقة، كهوى الأجدل وهو الصقر، أى كاسراعه في الطيران. ويروى: الجندل وهو الحجر. والأسرة: خطوط الجبهة جمع سرار. والعارض: السحاب المعترض في الأفق. والمتهلل: اللامع، أو المرتفع الذي سيمطر. وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كنت قاعدة أغزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخصف نعله، فنحضر جبينه عرفا، فتولد في عينى نورا، فجعلت أنظر إليه فقال: ما تنظرين؟ فقلت له ذلك، وقلت: أما والله لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، فقال: وما قال: قلت: وإذا نظرت ... البيت. فوضع ما في يده وقام فقبل ما بين عينى وقال:
جزاك الله خيرا، ما سررت كسرورى بكلامك. [.....]

(2/559)


ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39)

واديا ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم «1» ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أى بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذى زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه «2» المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا الله بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 38 الى 39]
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى إنك تعلم ما نخفي وما نعلن تعلم السر كما تعلم العلن علما لا تفاوت فيه، لأن غيبا من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولها إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما نخفى من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق، وما نعلن:
يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف وما يخفى على الله من شيء من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله وكذلك يفعلون أو من كلام إبراهيم، يعنى:
وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. «ومن» للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه
__________
(1) . قوله «في واد يباب ليس فيه نجم» أى خراب. والنجم: نبات لا ساق له، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وهي اجتماع البواكير والفواكه» الباكورة: أول الفاكهة، كما في الصحاح. (ع)

(2/560)


رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)

شيء ما. على في قوله على الكبر بمعنى مع، كقوله:
إنى على ما ترين من كبرى ... أعلم من حيث تؤكل الكتف «1»
وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم إن ربي لسميع الدعاء كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه: سمع الله لمن حمده. وفي الحديث «2» «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن «3» » فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيدا، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أمورا، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازى.
والمراد سماع الله.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 40 الى 41]
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)
ومن ذريتي وبعض ذريتى، عطفا على المنصوب في اجعلنى، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذريته كفار، وذلك قوله لا ينال عهدي الظالمين. وتقبل دعاء أى
__________
(1) . ترين: أصله ترأيين كتفعلين، نقلت فتحة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت وحذفت الياء الأولى بعد قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. يقول. إنى مع ما تنظرينه من كبرى وهرمى الموجب للخرف عادة، عارف بالأمور متيقظ لها. وكنى عن ذلك بقوله: أعرف من أين تؤكل الكتف، أى: أعرف جواب هذا الاستفهام، ويروى:
من حيث، فلعل من زائدة. قال بعضهم: تؤكل الكتف من أسفلها ويشق أكلها من أعلاها، وهو مثل يضرب للجرب المتفطن للأمور.
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(3) . قوله «كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» في الصحاح: كاذنه لمن يتغنى ... الخ. (ع)

(2/561)


ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43)

عبادتي وأعتزلكم وما تدعون من دون الله في قراءة أبى: ولأبوى. وقرأ سعيد بن جبير:
ولوالدي، على الإفراد، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى الله عنهما: ولولدى، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ: لولدي، بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف: ولذريتى. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوزات العقل «1» لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام. ويأباه قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفارا صحيحا لا مقال فيه، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم يوم يقوم الحساب أى يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسنادا مجازيا، أو يكون مثل وسئل القرية وعن مجاهد: قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ربنا إني أسكنت الآية، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 43]
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43)
فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل ولا تحسبن الله غافلا؟ قلت: إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا، كقوله ولا تكونن من المشركين، ولا تدع مع الله إلها آخر، كما جاء في الأمر يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والثاني: أن المراد بالنهى عن حسبانه غافلا، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: والله بما تعملون عليم يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة
__________
(1) . قوله «هو من مجوزات العقل» يعنى على مذهب المعتزلة أن العقل قد يدرك الحكم بدون شرع، ومذهب أهل السنة أن لا حكم قبل الشرع حتى يدرك بدونه، فافهم. (ع)

(2/562)


الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلا، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه. وقرئ: يؤخرهم، بالنون والياء تشخص فيه الأبصار أى أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى مهطعين مسرعين إلى الداعي. وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف مقنعي رؤسهم رافعيها لا يرتد إليهم طرفهم لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى:
لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء «1»
لأن النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان:
فأنت مجوف نخب هواء «2»
__________
(1) .
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
أصك مصلم الأذنين أجنى ... له بالسن تنوم وآء
لزهير بن أبى سلمى يصف ناقته. والصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس. والظلمان: جمع ظليم وهو ولد النعام، والجؤجؤ: الصدر. والهواء: الخالي الفارغ، وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير إلى طعامه. والأصك:
الذي تصطك ركبتاه عند المشي لطول رجليه. وصلمه: قطعه. والتصليم: مبالغة. ويقال: أجنى الثمر إذا أدرك، وأجنت الأرض: كثر كلؤها وخصيها. والسن، المكان المستوى واسم موضع بعينه. والتنوم- وزن تنور-:
شجر تنفلق كمامه عن حب صغير تأكله أهل البادية، يغلب على لونه السواد. قيل: وهو شجر الشهدانج. والآء: جنس من الشجر واحده آءة. وقيل: ثمر ذلك الشجر يطلق على نوع من الصوت: والتنوم: فاعل أجنى، أى كثر له في ذلك المكان هذان النوعان.
(2) .
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... فأنت مجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركت عبيدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فان أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
لحسان يهجو أبا سفيان قبل إسلامه. وألا التنبيه، والمأمور بالابلاغ غير معين، وكان الظن أن يقول: فانه، أى: أبا سفيان، لكن خاطبه بالذم لأنه أغيظ. ويجوز أن المأمور أبو سفيان، فهو منادى بحذف حرف النداء.
والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف، أو فارغ القلب من العقل والشجاعة. وروى بدل هذا الشطر «مغلغلة فقد برح الخفاء» والمغلغلة: الحارة من الغلة بالضم، وهي شدة العطش والحرارة. وقيل. المنقولة من مكان لآخر، وبرح كسمع: ذهب وزال. وقيل: ظهر واتضح من براح الأرض وهو البارز منها، فالخفا بمعنى التستر أو السر.
وإسناد الترك للسيوف مجاز عقلى، لأنها آلة للفعل. وعبيد بالتصغير قبيلة، وكذلك عبد الدار، وسادتها مبتدأ.
والإماء خبره، والجملة في محل المفعول الثاني لتركت، أى صيرت عبيدا لا سادة لها إلا النساء، وصيرت عبد الدار كذلك، يعنى: أننا أفنينا رجالهما الرؤساء الأشراف، فأشرافهما النساء لا غير، بل يجوز أنهم سواء الحرائر أيضا، فلم يبق إلا الرقائق. وأتهجوه: استفهام توبيخي، والواو بعده للحال، أى: لا ينبغي ذلك شر وخير، من قبيل أفعل التفضيل، واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما، لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان، والجملة دعائية، دعا عليه بأن يكون فداء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام، ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا نصف بيت قالته العرب، فعليك بالانصاف وأمن يهجو: استفهام إنكارى، أى ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين. ويحتمل أن الهمزة للتنبيه، أو للنداء، والمنادى محذوف، أى: يا قوم أبى سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما وروى: فمن، ولا بد من تقدير، أى: من يهجوه ويخذله منكم ليقابل الخذلان النصر كالهجو والمدح، ثم إن في هذا دليلا على جواز حذف الموصول، وقد أجازه الكوفيون والأخفش، وتبعهم أبو مالك، وشرط كونه معطوفا على موصول آخر كما هنا. وقوله: ووالده، أى والد أمى. ويروى:
ووالدتي. والوقاء: ما يتوقى به المكروه، كالترس وزن الحزام والرباط للمفعول به الفعل، فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم الآلة، ورأيت في كلام الزمخشري ما يفيد تسمية هذا الوزن باسم المفعول. وفي الهمع ما يفيد أنه جاء شاذا من أوزان الآلة، كأراث لما تؤرث به النار، أى تضرم به، وسراد لما يسرد به، أى يحزز به. ولما سمع صلى الله عليه وسلم قوله «وعند الله في ذلك الجزاء» قال: جزاك الله الجنة بإحسان. ولما سمع قوله «فان أبى» قال: وقال الله حر النار بإحسان. وتقريره صلى الله عليه وسلم على المكافأة بالذم، يدل على الجواز.

(2/563)


وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47)

وعن ابن جريج أفئدتهم هواء صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 44 الى 47]
وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47)
يوم يأتيهم العذاب مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى أخرنا إلى أجل قريب ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحد من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة

(2/564)


دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق. أولم تكونوا أقسمتم على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا. وما لكم جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله أقسمتم ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا من زوال والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث، كقوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت يقال: سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لأن السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعديه بفي، كقولك: قر في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: سكنوا «1» ، من السكون، أى: قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدثونها بما لقى الأولون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا وتبين لكم بالإخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرئ: ونبين لكم، بالنون وضربنا لكم الأمثال أى صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم وقد مكروا مكرهم أى مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وعند الله مكرهم لا يخلوا إما أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأول، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم «2» به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أى:
وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معدا لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا. وتنصره قراءة ابن
__________
(1) . قوله «ويجوز أن يكون سكنوا» لعله: سكنتم. (ع)
(2) . قوله «وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به» الذي في الصحاح المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به.
والمكر أيضا: المغرة، وقد مكره فامتكر، أي خضبه فاختضب اه، وهو يفيد أن المكر بمعنى الاحتيال لا يتعدى بنفسه، فتدبر. (ع)

(2/565)


يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51)

مسعود: وما كان مكرهم. وقرئ: لتزول، بلام الابتداء، على: وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ على وعمر رضى الله عنهما: وإن كاد مكرهم مخلف وعده رسله يعنى قوله إنا لننصر رسلنا، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأول «1» ؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رسله ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا- وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟
وقرئ: مخلف وعده رسله، بجر الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم» . عزيز غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه من أعدائه.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 الى 51]
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51)
يوم تبدل الأرض انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام.
والمعنى: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدلت الدراهم دنانير. ومنه بدلناهم جلودا غيرها وبدلناهم بجنتيهم جنتين وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتما، إذا أذبتها وسويتها خاتما، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم المفعول الثاني على الأول ... الخ» ؟ قال أحمد: وفيما قاله نظر، لأن الفعل متى تقيد بمفعول انقطع إطلاقه، فليس تقديم الوعد في الآية دليلا على إطلاق الفعل باعتبار الموعود، حتى يكون ذكر الرسل بائنا كالأجنبى من الإطلاق الأول، ولا فرق في المعنى الذي ذكره بين تقديم ذكر الرسل وتأخيره ولا يفيد تقديم المفعول الثاني إلا الإيذان بالعناية في مقصود المتكلم والأمر بهذه المثابة في الآية، لأنها وردت في سياق الانذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله تعالى به على ألسنة الرسل، فالمهم في التهديد ذكر الوعيد. وأما كونه على ألسنة الرسل فذلك أمر لا يقف التخويف عليه ولا بد، حتى لو فرض التوعد من الله تعالى على غير لسان رسول، لكان الخوف منه حسبيا كافيا، والله أعلم.

(2/566)


وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التى كنت تعلم «1»
وتبدل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبوابا.
وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى الله عنه: تبدل أرضا من فضة، وسموات من ذهب.
وعن الضحاك: أرضا من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: يوم نبدل الأرض، بالنون «2» .
فإن قلت: كيف قال الواحد القهار؟ قلت: هو كقوله لمن الملك اليوم لله الواحد القهار لأن الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعاز فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدة مقرنين قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين.
أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله في الأصفاد إما أن يتعلق بمقرنين، أى:
يقرنون في الأصفاد. وإما أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرنين مصفدين. والأصفاد:
القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل:
وزيد الخيل قد لاقى صفادا ... بعض بساعد وبعظم ساق «3»
القطران: فيه ثلاثة لغات: قطران، وقطران، وقطران: بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربي، فيحرق الجرب بحره وحدته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه.
وقرئ: من قطران، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآنى: المتناهي حره وتغشى وجوههم النار كقوله تعالى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، يوم يسحبون في النار على وجوههم
__________
(1) . يقول: ليس الناس اليوم هم الناس الذين عهدتهم سابقا، لفناء الأحياء من بينهم، وليست الدار اليوم هي الدار التي كنت تعلمها، لتبدل أحوالها وتغير أوصافها.
(2) . قوله «وقرئ نبدل الأرض بالنون» لعله ونصب الأرض والسماوات، فلتحرر. القراءة. (ع)
(3) . لسلامة بن جندل. وزيد الخيل: هو الذي سماء النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير. قد لاقى: أى نال من أعدائه صفادا، أى قيدا وغلا. واستعار العض لقرص الصفاد اليابس الصلب على طريق التصريحية، والباء للإلصاق، وأقحم لفظ العظم للمبالغة في العض حتى وصل العظم. [.....]

(2/567)


هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب (52)

لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ولذلك قال تطلع على الأفئدة وقرئ: وتغشى وجوههم، بمعنى تتغشى: أى يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي الله كل نفس
مجرمة ما كسبت أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.

[سورة إبراهيم (14) : آية 52]
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب (52)
هذا بلاغ للناس كفاية في التذكير والمواعظة، يعنى بهذا ما وصفه من قوله فلا تحسبن إلى قوله سريع الحساب. ولينذروا معطوف على محذوف، أى لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ. وقرئ: ولينذروا، بفتح الياء، من نذر به إذا علمه «1» واستعد له وليعلموا أنما هو إله واحد لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأن الخشية أم الخير كله.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إبراهيم أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» «2»
__________
(1) . قوله «من نذر به إذا علمه» في الصحاح: نذر القوم بالعدو- بكسر الذال- إذا علموا. (ع)
(2) . يأتى إسناده في آخر الكتاب.

(2/568)


الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)

سورة الحجر
(مكية [إلا آية 87 فمدنية] وهي تسع وتسعون آية [نزلت بعد سورة يوسف] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الحجر (15) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1)
تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والكتاب، والقرآن المبين: السورة.
وتنكير القرآن للتفخيم. والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا وأى قرآن مبين، كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.

[سورة الحجر (15) : الآيات 2 الى 3]
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)
قرئ: ربما، وربتما. بالتشديد. وربما، وربما: بالضم والفتح مع التخفيف. فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت: لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ود. فإن قلت: متى تكون ودادتهم؟ قلت:
عند الموت، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين. وقيل: إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار، وهذا أيضا باب من الودادة. فإن قلت: فما معنى التقليل؟ «1» قلت: هو وارد على
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى تقليل ودادتهم ... الخ» ؟ قال أحمد: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدى عكس مقصوده كثيرا، ومنه قوله:
قد أترك القرآن مصفرا أنامله
وإنما يمتدح بالإكثار من ذلك، وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، ومنه والله أعلم. وقد تعلمون أني رسول الله والمقصود توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك، فمنهم من وجهه بما ذكره الزمخشري آنفا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد، وذلك شأن كل ما انتهى لنهايته أن يعود إلى عكسه. وقد أفصح أبو الطيب ذلك بقوله:
ولجدت حتى كدت تنخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام، لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا، فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع بأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، والله أعلم.

(2/569)


وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5)

مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل، ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا: لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون، كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه، كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة، فبالحرى أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة لو كانوا مسلمين حكاية ودادتهم، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم، كقولك: حلف بالله ليفعلن. ولو قيل: حلف بالله لأفعلن، ولو كنا مسلمين، لكان حسنا سديدا. وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكوتهم تمنوا، فلذلك قلل ذرهم يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم عن النهى عما هم عليه والصد عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم يأكلوا ويتمتعوا بدنياهم «1» وتنفيذ شهواتهم، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون
سوء صنيعهم.
والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة. وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه. وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدى إليه طول الأمل. وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.

[سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 5]
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5)
ولها كتاب جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. كتاب معلوم مكتوب معلوم،
__________
(1) . قوله «ويتمتعوا بدنياهم» في الصحاح: سميت الدنيا لدنوها، والجمع دنى، مثل الكبرى والكبر، والصغرى والصغر. (ع)

(2/570)


وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)

وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين، ألا ترى إلى قوله ما تسبق من أمة أجلها في موضع كتابها، وأنث الأمة أولا ثم ذكرها آخرا، حملا على اللفظ والمعنى: وقال وما يستأخرون بحذف «عنه» لأنه معلوم.

[سورة الحجر (15) : آية 6]
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6)
قرأ الأعمش: يا أيها الذي ألقى عليه الذكر، «1» وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء، كما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون. والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع. وقد جاء في كتاب الله في مواضع، منها فبشرهم بعذاب أليم، إنك لأنت الحليم الرشيد وقد يوجد كثيرا في كلام العجم، والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن الله نزل عليك الذكر.

[سورة الحجر (15) : آية 7]
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7)
«لو» ركبت مع «لا» و «ما» لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض: قال ابن مقبل:
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى «2»
والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟.

[سورة الحجر (15) : آية 8]
ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)
قرئ: تنزل، بمعنى تتنزل وتنزل على البناء للمفعول من نزل، وننزل الملائكة: بالنون ونصب الملائكة إلا بالحق إلا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار. ومثله قوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقيل: الحق
__________
(1) . قوله «الذي ألقى عليه الذكر» لعله: إليه. (ع)
(2) . لابن مقبل، ولولا ولو ما: أصلهما «لو» التي تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره، فركبت مع «لا» و «ما» النافيتين. فأفادت معهما امتناع الشيء لوجود غيره، لأن نفى النفي إثبات، فان لم يكن لها جواب أفادت معهما في المضارع التحضيض، وفي غيره التنديم أو التوبيخ، يقول: لولا الحياء موجود، ولو ما الدين موجود لعبتكما ببعض ما فيكما من العيوب، لأنكما عبتمانى بعورى، أو عدد تموه عيبا.

(2/571)


إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13)

الوحى أو العذاب. وإذا جواب وجزاء، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره:
ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم.

[سورة الحجر (15) : آية 9]
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)
إنا نحن نزلنا الذكر رد لإنكارهم واستهزائهم «1» في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك قال: إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها. وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله إنا نحن نزلنا الذكر ردا لإنكارهم واستهزائهم، فكيف اتصل به قوله وإنا له لحافظون؟ قلت: قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية، لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه. وقيل: الضمير في له لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى والله يعصمك.

[سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 11]
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن (11)
في شيع الأولين في فرقهم وطوائفهم. والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة. ومعنى أرسلناه فيهم: نبأناه فيهم وجعلناه رسولا فيما بينهم وما يأتيهم حكاية حال ماضية، لأن «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.

[سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 13]
كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13)
يقال: سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته. وقرئ: نسلكه،
__________
(1) . قال محمود: «هذا رد لانكارهم واستهزائهم ... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن يراد حفظه مما يشينه من تناقض واختلاف لا يخلو عنه الكلام المفترى، وذلك أيضا من الدليل على أنه من عند الله، كما قال تعالى في آية أخرى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

(2/572)


ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)

للذكر، أى: مثل ذلك السلك، ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم «1» مكذبا مستهزآ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت:
كذلك أنزلها باللئام، تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. ومحل قوله لا يؤمنون به النصب على الحال، أى غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله كذلك نسلكه. سنة الأولين طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15]
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)
قرئ يعرجون بالضم والكسر. وسكرت حيرت أو حبست من الإبصار، من السكر أو السكر. وقرئ: سكرت بالتخفيف «2» أى حبست كما يحبس النهر من الجري. وقرئ:
سكرت من السكر، أى حارت كما يحار السكران. والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد: أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك. وقيل:
الضمير للملائكة، أى: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لقالوا ذلك. وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: إنما، ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيرا للأبصار.
__________
(1) . قال محمود: «معناه يلقيه في قلوبهم مكذبا به ... الخ» قال أحمد: والمراد والله أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين، فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن، فأعلمهم الله تعالى من الآن وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين، والله أعلم. ولذلك عقبه الله تعالى بقوله ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون أى هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه، وولج ذلك في قلوبهم ووقر، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وشيمتهم اللدد، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الايمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يفتح لهم بابا في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منه نهارا. وإلى ذلك الاشارة بقوله فظلوا لأن الظلول إنما يكون نهارا، لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف:
إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد، وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها، فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب، وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كله حاصل لهم وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غير والله أعلم.
(2) . قوله: وقرئ سكرت بالتخفيف: لعل هذا من السكر بالفتح كما أن ما يأتى من السكر بالضم. (ع)

(2/573)


ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22)

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 20]
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20)
من استرق في محل النصب على الاستثناء. وعن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها شهاب مبين ظاهر للمبصرين موزون وزن بميزان الحكمة، وقدر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل: ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها معايش بياء صريحة، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما، فإن تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين.
وقد قرئ: معايش، بالهمزة على التشبيه ومن لستم له برازقين عطف على معايش، أو على محل لكم، كأنه قيل: وجعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم من لستم له برازقين، أو: وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين. وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإن الله هو الرزاق، يرزقهم وإياهم، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة، مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون. ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور في لكم لأنه لا يعطف على الضمير المجرور.

[سورة الحجر (15) : آية 21]
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21)
ذكر الخزائن تمثيل. والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.

[سورة الحجر (15) : آية 22]
وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22)
لواقح فيه قولان، أحدهما: أن الريح لا قح إذا جاءت بخير، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل التي لا تأتى بخير: ريح عقيم. والثاني: أن اللواقح بمعنى الملاقح، كما قال:

(2/574)


وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)

ومختبط مما تطيح الطوائح «1»
يريد المطاوح جمع مطيحة. وقرئ: وأرسلنا الريح، على تأويل الجنس فأسقيناكموه فجعلناه لكم سقيا وما أنتم له بخازنين نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه كأنه قال: نحن الخازنون للماء، على معنى: نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها، وما أنتم عليه بقادرين: دلالة على عظيم قدرته وإظهارا لعجزهم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 23 الى 25]
وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)
ونحن الوارثون أى الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت، لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه «واجعله الوارث منا» «2» ولقد علمنا من استقدم ولادة وموتا، ومن تأخر من الأولين والآخرين.
أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة
__________
(1) .
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
لضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد بن نهشل. وقيل: غير ذلك. وليبك: مبنى للمفعول، واللام للطلب، ويزيد نائب الفاعل، وضارع فاعل لفعل محذوف، وفي الكلام سؤال مقدر، كأنه قيل: من يبكيه؟ فقيل يبكيه ضارع وهو الدليل، ومختبط وهو السائل، كأنه يختبط أبواب المسئولين. وما مصدرية، وتطيح تهلك. وقال الجوهري: طوحته الطوايح قذفته القواذف، ولا يقال: المطوحات، وهو من النوادر، والقياس المطيحات من أطاح. أو المطوحات من طوح.
وقال الأصمعى: هو جمع طائحة. يقال: ذهبت طائحة من العرب أى طائفة منها. أى: يبكيه المختبط من أجل إهلاك الطوائح ماله، فما متعلق بمختبط. وقيل: يجوز تعلقه بالفعل المقدر، كقوله الخصومة. ونقل العصام عن العارف الرومي: أن يزيد منادى، وحرف النداء محذوف، وضارع نائب الفاعل، لأن الضارع والمختبط أحق بالبكاء عليهما بعد يزيد الذي كان يغيثهما. وروى ليبك يزيد بالبناء للفاعل ونصب يزيد، فضارع فاعل للفعل المذكور، ولو ضم يزيد على النداء لجاز هنا أيضا، أى: ليبك عليك يا يزيد ضارع ومختبط.
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي والبزار. والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال «فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات: اللهم اقسم لنا من خشيتك- الحديث» وفيه «واجعله الوارث منا» قال الترمذي: حديث حسن وقال البزار: تفرد به عبد الله بن رواحة. وهو واهى الحديث، وأخرج من رواية حبيب بن أبى ثابت عن عروة عن عائشة «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم عافني في جسدي، وعافني في بصرى، واجعله الوارث منى» وأخرجه أبو يعلى أيضا، وفي الترمذي والحاكم من حديث أبى هريرة قال «كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متعني بسمعي وبصرى واجعلهما الوارث منى» وفي الطبراني والأوسط عن على رضى الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو- فذكر مثله.

(2/575)


ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27) وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33) قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراط علي مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)

ومن تأخر. وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين. وروى أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت «1» هو يحشرهم أى هو وحده القادر على حشرهم، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم إنه حكيم عليم باهر الحكمة واسع العلم، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب، وقد أحاط علما بكل شيء.

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27)
الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل، وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة. وقيل: هو تضعيف «صل» إذا أنتن. والحمأ: الطين الأسود المتغير. والمسنون: المصور، من سنة الوجه «2» ، وقيل: المصبوب المفرغ، أى: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. وقيل: المنتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين، ولا يكون إلا منتنا من حمإ صفة لصلصال، أى: خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق مسنون بمعنى مصور، أن يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر والجان للجن كآدم للناس. وقيل: هو إبليس. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: والجأن، بالهمز من نار السموم من نار الحر الشديد النافذ في المسام. قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجان.

[سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 44]
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين (32)
قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33) قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37)
إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراط علي مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)
وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأبو يعلى وأحمد والبزار والطبري وابن أبى حاتم من رواية أبى الجوزاء أوس بن عبد الله عن ابن عباس. قال «كانت امرأة حسناء من أحسن الناس تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لأن لا يراها أو يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف الآخر. فإذا ركع نظر من تحت إبطه. فأنزل الله هذه الآية. قال البزار: لا نعلم رواه ابن عباس ولا له طريق إلا هذه. وقال الترمذي: روى عن أبى الجوزاء مرسلا، وهو أشبه اه.
(2) . قوله «من سنة الوجه» في الصحاح: سنة الوجه صورته. (ع)

(2/576)


وإذ قال ربك واذكر وقت قوله سويته عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها. ومعنى ونفخت فيه من روحي وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. واستثنى إبليس من الملائكة، لأنه كان بينهم مأمورا معهم بالسجود، فغلب اسم الملائكة، ثم استثنى بعد التغليب كقولك: رأيتهم إلا هندا. وأبى استئناف على تقدير قول قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه. وقيل: معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع «أن» محذوف. وتقديره «مالك» في ألا تكون مع الساجدين بمعنى أى غرض لك في إبائك السجود. وأى داع لك إليه. اللام في لأسجد لتأكيد النفي.
ومعناه: لا يصح منى وينافي حالى. ويستحيل أن أسجد لبشر رجيم شيطان من الذين يرجمون بالشهب، أو مطرود من رحمة الله، لأن من يطرد يرجم بالحجارة. ومعناه: ملعون، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها. والضمير في منها راجع إلى الجنة أو السماء، أو إلى جملة الملائكة. وضرب يوم الدين حدا للعنة، إما لأنه غاية يضربها الناس في كلامهم، كقوله ما دامت السماوات والأرض في التأبيد. وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين، من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت

(2/577)


بما ينسى اللعن معه. ويوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم في معنى واحد، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة البلاغة. وقيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت، لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك، وأنظر إلى آخر أيام التكليف بما أغويتني الباء للقسم. و «ما» مصدرية وجواب القسم لأزينن المعنى:
أقسم بإغوائك إياى لأزينن لهم. ومعنى إغوائه إياه: تسبيبه لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه «1» ومن إرادته والرضا به، ونحو قوله بما أغويتني لأزينن لهم: قوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين في أنه إقسام، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله، وقد فرق الفقهاء بينهما. ويجوز أن لا يكون قسما، ويقدر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك لإغوائى أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بى من التسبيب لإغوائهم، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم في الأرض في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى أخلد إلى الأرض واتبع هواه أو أراد أنى أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأوقعن تزييني فيها، أى: لأزيننها في أعينهم ولأحدثنهم بأن الزينة في الدنيا وحدها، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها. ونحوه:
يجرح فى عراقيبها نصلى «2»
__________
(1) . قوله «والله تعالى بريء من غيه» هذا على مذهب المعتزلة: أن الله لا يريد الشر ولا يخلقه. ومذهب أهل السنة: أن كل كائن فهو يخلقه تعالى وإرادته، خيرا كان أو شرا، وإن كان لا يرضى الشر من العبد، وتفصيله في التوحيد. (ع) [.....]
(2) .
وما لام من يوم أخ وهو صادق ... إخالى ولا اعتلت على ضيفها إبلى
إذا كان فيها الرسل لم تأت دونه ... فصالى ولو كانت عجافا ولا أهلى
وإن تعتذر بالمحل عن ذى ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى
لذي الرمة يمدح نفسه، والإخاء مصدر آخاه، كالوفاق مصدر وافقه، والصحاب مصدر صاحبه، وزنا ومعنى.
يقول: وما لام أخ من يوم أى في يوم. وعبر بمن لإشعارها بالاستغراق. أى: لم يلم، والحال أنه صادق في لومه، أو في أخوته مصاحبة لي معه، وقصر الإخاء للوزن، وضمن لام معنى عاب، فعداه إليه. ويجوز أن إيقاع اللوم عليه مجاز عقلى، لأن الإخاء كأنه محل اللوم، ولا اعتلت أى أبدت لضيفها علة في التأخر عن قراه، وإسناد الفعل للإبل وإضافة الضيف إليها لأنها محل قراه، وذلك كناية عن غاية كرمه، ويجوز أن إسناد الفعل إليها مجاز عقلى، لأنها سبب في اعتلال صاحبها للضيف عنها إذا كان بخيلا، وإضافة الضيف إليها ترشيح لذلك. ويحتمل أنه شبه الإبل بالكرماء على طريق المكنية، فذلك تخييل، وبين عدم الاعتلال بقوله «إذا كان فيها الرسل» وهو اللبن القليل، ويطلق على الجمل السهل، لم تأت دونه: أى قريبا من اللبن.
فصالى: جمع فصيل، وهو ولد الناقة. ونفى قربها كناية عن نفى ارتضاعها له، ولو كانت عجافا: أى مهازيل، ولا أهلى: ولا جياعا، وإن تعتذر الإبل بالمحل والجدب، عن ذى ضروعها: كناية عن اللبن، لأنه ملازم للضروع يجرح نصلى: أى سيفي أو سهمي في عراقيبها، وهي بمنزلة الركب للإنسان، وإسناد الاعتذار إليها مجاز، وكذلك إسناد الجرح للنصل، لأنه آلته. ومعنى الجرح في العراقيب: أنه يجعلها مكانا معدا له، ولو قال: يجرح عراقيبها، لفات ذلك المعنى. وقيل: ضمنه معنى يعثو أى يفد، وكانت عادة العرب أن يفصدوا الإبل ويجمعوا دماءها ويضعوها على النار فتصير كالكبد، ويقرون بها الضيفان في الجدب، فحرمه الله: ويجوز أنه كناية عن نحرها، لأنهم كانوا يعقرون الجمل الصعب قبل نحره ليسهل عليهم، وهذا هو الذي يقتضيه مقام المدح.

(2/578)


إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام آمنين (46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48)

استثنى المخلصين، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أى هذا طريق حق علي أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته: وقرئ على، وهو من علو الشرف والفضل لموعدهم الضمير للغاوين. وقيل:
أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين. وقرئ: جزء، بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الزهري: جز، بالتشديد، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاى، كقولك: خب في خبء، ثم وقف عليه بالتشديد، كقولهم: الرجل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام آمنين (46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48)
المتقى على الإطلاق: من يتقى ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما:
اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها ادخلوها على إرادة القول.
وقرأ الحسن: أدخلوها بسلام سالمين أو مسلما عليكم: تسلم عليكم الملائكة. الغل: الحقد الكامن في القلب، من انغل في جوفه وتغلغل، أى: إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم. وعن على رضى الله عنه: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وعن الحرث الأعور: كنت جالسا عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له على:

(2/579)


نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50) ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (54) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56)

مرحبا بك يا ابن أخى. أما والله إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل فقال له قائل: كلا، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: فلمن هذه الآية لا أم لك «1» ؟ وقيل: معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، ونزع منها كل غل، وألقى فيها التواد والتحاب. وإخوانا نصب على الحال. وعلى سرر متقابلين كذلك. وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.

[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 50]
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)
لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه نبئ عبادي تقريرا لما ذكر وتمكينا له في النفوس.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: غفور لمن تاب، وعذابه لمن لم يتب. وعطف ونبئهم على نبئ عبادي، ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 56]
ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (54) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (55)
قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56)
سلاما أى نسلم عليك سلاما، أو سلمت سلاما وجلون خائفون، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت. وقرأ الحسن: لا توجل، بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرئ: لا تأجل. ولا تواجل، من واجله بمعنى أوجله.
وقرئ نبشرك بفتح النون والتخفيف إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهى عن
__________
(1) . أخرجه الطبراني في الأوسط والعقيلي وابن سعد من طريق الحارث الأعور قال: كنت عند على بن أبى طالب إذ جاءه عمران بن طلحة فذكره- وفيه «فقال الحرث- يعنى الراوي-: الله أجل وأعدل من ذلك وله طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق ربعي بن خراش قال «إنى لعند على جالس إذ جاءه ابن طلحة، فسلم عليه فرحب به، فقال: ترحب بى يا أمير المؤمنين، وقد قلت والدي، وأخذت مالى؟ قال: أما مالك فهو معزول في بيت المال، أعد إليه فخذه. وأما أبوك فانى أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل الآية فقال رجل من همدان، فذكره. ورواه الحاكم أيضا والطبري من طريق أبى حبيبة مولى طلحة قال: دخل عمران بن طلحة على على رضى الله عنه. وذكر نحوه.

(2/580)


قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60)

الوجل: أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. يعنى أبشرتموني مع مس الكبر، بأن يولد لي. أى: أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر فبم تبشرون هي ما الاستفهامية، دخلها معنى التعجب، كأنه قال: فبأى أعجوبة تبشروني. أو أراد: أنكم تبشروننى بما هو غير متصور في العادة، فبأى شيء تبشرون، يعنى: لا تبشروننى في الحقيقة بشيء، لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا يكون صلة لبشر، ويكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعنى: بأى طريقة تبشروننى بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة. وقوله بشرناك بالحق يحتمل أن تكون الباء فيه صلة، أى: بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده، وأنه قادر على أن يوجد ولدا من غير أبوين، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وقرئ: تبشرون، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع، والأصل تبشرونن، وتبشرون «1» بإدغام نون الجمع في نون العماد. وقرئ: من القنطين، من قنط يقنط. وقرئ:
ومن يقنط، بالحركات الثلاث في النون، أراد: ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون، كقوله لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون يعنى: لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله.

[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60]
قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60)
فإن قلت قوله تعالى: إلا آل لوط استثناء متصل أو منقطع؟ «2» . قلت، لا يخلو من من أن يكون استثناء من قوم، فيكون منقطعا، لأن القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين، فيكون متصلا، كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم، كما قال فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين. فإن قلت: فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت: نعم، وذلك أن آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا.
ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى. في أنه في معنى التعذيب
__________
(1) . قوله «وتبشرون» بكسر النون والتشديد. قاله النسفي. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت هل الاستثناء الأول متصل ... الخ» قال أحمد: وجعله الأول منقطعا أولى وأمكن، وذلك أن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا، من حيث أن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهذا الدخول متعذر من التنكير، ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفى، لأنها حينئذ أعم، فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثم لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا، والله أعلم.

(2/581)


والإهلاك، كأنه قيل: إنا أهلكنا قوما مجرمين، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأما في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، فلا يكون الإرسال مخلصا «1» بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأول. فإن قلت:
فقوله إنا لمنجوهم بم يتعلق على الوجهين؟ قلت: إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكن» في الاتصال بآل لوط، لأن المعنى. لكن آل لوط منجون، وإذا اتصل كان كلاما مستأنفا، كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم: فما حال آل لوط، فقالوا: إنا لمنجوهم. فإن قلت:
فقوله إلا امرأته مم استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق:
أنت طالق ثلاثا، إلا اثنتين، إلا واحدة. وفي قول المقر: لفلان على عشرة دراهم، إلا ثلاثة، إلا درهما. فأما في الآية فقد اختلف الحكمان، لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا، أو بمجرمين.
وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ لمنجوهم بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله قدرنا إنها لمن الغابرين «2» والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم. فإن قلت: فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده- إلى أنفسهم، ولم يقولوا: قدر الله؟ قلت: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم، كما
__________
(1) . قوله «فلا يكون الإرسال مخلصا» لعله: مختصا. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله قدرنا إنها لمن الغابرين الخ» قال أحمد: وهذه أيضا من دفائنه الاعتزالية في جحد القضاء والقدر، واعتقاد أن الأمر أنف، لأنهم لا يعتقدون أن الله تعالى مريد لأكثر أفعال عبيده من معصية ومباح ونحوهما ولا مقدر لها على العبيد، بمعنى أنه مريد ولكنه عالم بما سيفعلونه على خلاف مشيئته وإرادته. فالتقدير عندهم هو العلم لا الارادة، ثم استدل على أن التقدير هو العلم بتقدير فعله عن العمل، وذلك من خواص فعل العلم وأخواته، فانظر إلى بعد غوره ودقة فطنته في ابتغاء آية يلفقها ويعاند بها البراهين الواضح فلقها، وفي كلامه شاهد على رده، فان التقدير عنده مضمن معنى العلم، ومن شأن الفعل المضمن معنى آخر: أن يبقى على معناه الأصلى، مضافا إليه المعنى الطارئ فيفيدهما جميعا، فالتقدير إذا كما أفاد العلم الطارئ يفيد الارادة أصلا ووضعا. والله أعلم، على أن من الناس من جعل قوله تعالى قدرنا إنها لمن الغابرين من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة، وهو الظاهر، فان الذي يجعله من قول الملائكة يحتاج في نسبتهم التقدير إلى أنفسهم إلى تأويل، ويجعله من باب قول خواص الملك: دبرنا كذا، وأمرنا بكذا، وإنما يعنون دبر الملك وأمر، وبذلك أولة الزمخشري. وإن كان أصله لا يحتاج معه إلى التأويل، لأنه إذا جعل قدرنا بمعنى علمنا إنها لمن الغابرين، فلا غرو في علم الملائكة ذلك باخبار الله تعالى إياهم به، وإنما يحتاج إلى التأويل: من جعل قدرنا بمعنى أردنا وقضينا وجعله من قول الملائكة، والله أعلم.

(2/582)


فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون (64) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66)

يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه. وقرئ: قدرنا، بالتخفيف.

[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 66]
فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون (64) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65)
وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66)
منكرون أى تنكركم نفسي وتنفر منكم، فأخاف أن تطرقوني بشر، بدليل قوله بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أى ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون فيه ويكذبونك بالحق باليقين من عذابهم وإنا لصادقون في الإخبار بنزوله بهم. وقرئ:
فأسر، بقطع الهمزة ووصلها، من أسرى وسرى. وروى صاحب الإقليد: فسر، من السير والقطع في آخر الليل. قال:
افتحى الباب وانظرى فى النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم «1»
وقيل: هو بعد ما يمضى شيء صالح من الليل. فإن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم «2» ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم
__________
(1) . يقول لصاحبته وكان يحب طول الليل ويدعيه: افتحي باب البيت وانظري وتأملى في النجوم، أمالت جهة الغرب أم لا؟ وكم: يحتمل أنها خبرية التكثير، ويحتمل أنها استفهامية، ثم يحتمل أنها مستأنفة، ويحتمل أن الفعل قبلها معلق عن العمل في لفظها لأن لها الصدارة. والمراد من هذا الأمر طلب إخباره بما تعلمه بعد النظر من جواب الاستفهام المذكور. وقطع الليل: ظلمته. وقال في الصحاح: ظلمة آخره، والمراد به هنا جزء الليل.
والبهيم: شديد الظلام لانبهام الأشياء فيه، ووصفه بذلك ملائم للمقام.
(2) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم ... الخ» قال أحمد: ولبعض هذه المقاصد عاتب الله تعالى نبيه موسى عليه السلام حيث تقدم قومه فقال وما أعجلك عن قومك يا موسى
والله أعلم.

(2/583)


أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب «1» فيرقوا لهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة «2» ويطيبوها عن مساكنهم، ويمضوا قدما «3» غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى إليه أخادعه، كما قال:
تلفت نحو الحى حتي وجدتنى ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا «4»
أو جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة حيث تؤمرون قيل: هو مصر، وعدى وامضوا إلى حيث تعديته إلى الظرف المبهم، لأن حيث مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في تؤمرون وعدى قضينا بإلى لأنه ضمن معنى: أوحينا، كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضيا مبتوتا. وفسر ذلك الأمر بقوله أن دابر هؤلاء مقطوع وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش: إن، بالكسر على الاستئناف، كأن قائلا قال: أخبرنا عن ذلك
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب ... الخ» قال أحمد:
ولقد شملت هذه الآية على وجازتها آداب المسافرين لمهم دينى أو دنيوى، من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع ما فرطنا في الكتاب من شيء.
(2) . قوله «وليوطنوا نفوسهم عل المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم» لعل فيه تقديما، والأصل: على المهاجرة عن مساكنهم ويطيبوها، فليحرر. (ع)
(3) . قوله «ويمضوا قدما» في الصحاح «مضى قدماء بضم الدال: لم يعرج ولم ينثن. (ع)
(4) .
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحنن نزعا
بكت عينى اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث، والبشر: السرور وما به السرور، وأعرض: ظهر أمامنا، وحالت- بالمهملة- أى صارت حائلا بيننا وبين البشر ومنعتنا عنه، وبكت: جواب لما، وخص اليسرى أولا، لأنه كان أعور. ويروى: جالت، بالجيم أى حامت خواطر القلب الناشئة من الشوق في قلبي، حال كونها نحن إلى المحبوبة، نازعات شائقات إليها، يقال: نزع نزوعا إذا مال قلبه واشتاق إلى حبه. والنزع: جمع نازع، فشبه الخواطر بالبنات على طريق التصريحية، لتولدها من الشوق وإثبات الجولان والحنين، والنزوع ترشيح، لأن الأول خاص بالمحسوس، والأخيران بالمدرك. وإسناد الحنين والنزوع إليها مجاز عقلى، لأنهما في الحقيقة لمحلها وهو القلب، بل الشخص وهو سببها. والجهل ضد الحلم. أسبلتا: سالت دموعهما، وإسناد البكاء للعين مجازا، ومعناه دمعت عينى، فيجوز تشبيهها بالإنسان على طريق المكنية، وزجرها ترشيح، وجهلها وحلمها تخييل، وتلفت: أى أكثرت الالتفات جهة الحي، حتى وجع ليتى وأخدعى. يقال: وجع وجعا كتعب تعبا. والليت- بالكسر-: صفحة العنق. والأخدع: عرق فيها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، وذلك مبالغة في كثرة التلفت.

(2/584)


وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أولم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين (71) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لآيات للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في ذلك لآية للمؤمنين (77)

الأمر، فقال: إن دابر هؤلاء. وفي قراءة ابن مسعود: وقلنا إن دابر هؤلاء. ودابرهم: آخرهم، يعنى: يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.

[سورة الحجر (15) : الآيات 67 الى 77]
وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أولم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين (71)
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لآيات للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76)
إن في ذلك لآية للمؤمنين (77)
أهل المدينة أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور، مستبشرين بالملائكة فلا تفضحون بفضيحة ضيفي، لأن من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه، كما أن من أكرم من يتصل به فقد أكرم ولا تخزون ولا تذلون بإذلال ضيفي، من الخزي وهو الهوان. أو ولا تشوروا «1» بى، من الخزاية وهي الحياء عن العالمين عن أن تجير منهم أحدا، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهى عن المنكر، والحجر بينهم وبين المتعرض له، فأوعدوه وقالوا: لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين. وقيل: عن ضيافة الناس وإنزالهم، وكانوا نهوه أن يضيف أحدا قط هؤلاء بناتي إشارة إلى النساء، لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته، فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهن، وخلوا بنى فلا تتعرضوا لهم إن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله، كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم لعمرك على إرادة القول، أى قالت الملائكة للوط عليه السلام: لعمرك إنهم لفي سكرتهم أى غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم، من ترك البنين إلى البنات يعمهون
__________
(1) . قوله «ولا تشوروا بى» في الصحاح «الشوار» فرج المرأة والرجل. ومنه قيل: شور به، أى كأنه أبدى عورته (ع)

(2/585)


وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)

يتحيرون، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له، والعمرو العمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم، ولذلك حذفوا الخبر، وتقديره: لعمرك مما أقسم به، كما حذفوا الفعل في قولك: بالله. وقرئ: في سكرهم وفي سكراتهم الصيحة صيحة جبريل عليه السلام مشرقين داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس من سجيل قيل: من طين، عليه كتاب من السجل. ودليله قوله تعالى:
حجارة من طين مسومة عند ربك أى معلمة بكتاب للمتوسمين للمتفرسين المتأملين.
وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال: توسمت في فلان كذا، أى عرفت وسمه فيه. والضمير في عاليها سافلها لقرى قوم لوط وإنها وإن هذه القرى يعنى آثارها لبسبيل مقيم ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار، وهو تنبيه لقريش كقوله وإنكم لتمرون عليهم مصبحين.

[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 79]
وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79)
أصحاب الأيكة قوم شعيب وإنهما يعنى قرى قوم لوط والأيكة. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما لبإمام مبين لبطريق واضح، والامام اسم لما يؤتم به، فسمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه، لأنها مما يؤتم به.

[سورة الحجر (15) : الآيات 80 الى 84]
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)
أصحاب الحجر ثمود، والحجر واديهم، وهو بين المدينة والشأم المرسلين يعنى بتكذيبهم صالحا، لأن من كذب واحدا منهم فكأنهما كذبهم جميعا، أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين، كما قيل: الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم «1» على الحجر
__________
(1) . لم أجده من حديث جابر، وهو في الصحيح من حديث ابن عمر بهذا اللفظ دون قوله «ناقته» وفي رواية:
أن ذلك كان في غزوة تبوك. [.....]

(2/586)


وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلاق العليم (86) ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87)

فقال لنا «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء» ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها آمنين لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم منه ما كانوا يكسبون من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد.

[سورة الحجر (15) : آية 85]
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85)
إلا بالحق إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة، لا باطلا وعبثا. أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال وإن الساعة لآتية وإن الله ينتقم لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك فاصفح فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء. وقيل: هو منسوخ بآية السيف.
ويجوز أن يراد به المخالقة «1» فلا يكون منسوخا.

[سورة الحجر (15) : آية 86]
إن ربك هو الخلاق العليم (86)
إن ربك هو الخلاق الذي خلقك وخلقهم، وهو العليم بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجرى بينكم وهو يحكم بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وفي مصحف أبى وعثمان: إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير، والخلاق للكثير لا غير، كقولك: قطع الثياب، وقطع الثوب والثياب.

[سورة الحجر (15) : آية 87]
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87)
سبعا سبع آيات وهي الفاتحة. أو سبع سور وهي الطوال، واختلف في السابعة فقيل:
الأنفال وبراءة، لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية. وقيل سورة يونس. وقيل: هي آل حم، أو سبع صحائف وهي الأسباع. والمثاني من التثنية وهي التكرير، لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله، الواحدة مثناة أو مثناة أو مثنية صفة للآية. وأما السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير
__________
(1) . قوله «يراد به المخالقة» أى المعاملة بحسن الخلق. وفي الصحاح: يقال خالص المؤمن، وخالق الفاجر اه (ع)

(2/587)


لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)

القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء، كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. و «من» إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إدا أردت الأسباع. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثنى عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها، فإن قلت: كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت: إذا عنى بالسبع للفاتحة أو الطوال، فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله بما أوحينا إليك هذا القرآن يعنى سورة يوسف، وإذا عنيت الأسباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أى: الجامع لهذين النعتين، وهو الثناء أو التثنية والعظم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 88 الى 89]
لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)
أى: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له إلى ما متعنا به أزواجا منهم أصنافا من الكفار. فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟ «1» قلت: يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم، فعليك أن تستغني به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا. ومنه الحديث «ليس منا من لم يتغن بالقرآن، «2» وحديث أبى بكر «من أوتى القرآن فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيما وعظم صغيرا «3» » وقيل: وافت من بصرى وأذرعات: سبع قوافل ليهود
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف وصل هذا بما قبله ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا هو الصواب في معنى الحديث، وقد حمله كثير من العلماء على الغناء، وادعى هؤلاء أن «تغنى» إنما يبنى من الغناء الممدود لا من الغنى المقصور، وأن فعله استغنى خاصة، وقد وجدت بناء تغنى من الغنى المقصور في الحديث الصحيح في الخيل. وأما التي هي ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا، وإنما هذا من الغنى المقصور قطعا واتفاقا، وهو مصدر تعنى، فدل ذلك على أنه مستعمل من البناءين جميعا على خلاف دعوى المخالف، والله الموفق.
(2) . أخرجه البخاري من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة وفي الباب عن سعد وأبى لبابة عند أبى داود. قال المخرج ذهل النووي وقبله المذرى، ثم الطيبي فعزوه لأبى داود ولم يعزوه للبخاري وأخطأ القرطبي فعزاه لمسلم لا للبخاري، ولم يذكره صاحب جامع الأصول، وعزاه الحاكم للشيخين والذي في الصحيحين حديث أبى هريرة «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» «فائدة» قال البيهقي في السنن في كتاب الشهادات، أخبرنا الحاكم عن أبى الأصم سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. فقال له رحل: يستغن؟ قال: ليس هذا معناه، أى معناه يقرأه تحزينا.
(3) . لم أجده عن أبى بكر، وأخرجه ابن عدى في ترجمة حمزة النصيبي عن زيد بن رفيع عن أبى عبيدة عن ابن مسعود رفعه «من تعلم القرآن فظن أن أحدا أغنى منه فقد حقر عظيما وعظم صغيرا» وحمزة اتهموه بالوضع.
وأخرجه إسحاق والطبري من حديث عبد الله بن عمر بلفظ «من أعطى القرآن فرأى أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله- الحديث»

(2/588)


كما أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين (91)

بنى قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها، ولأنفقناها في سبيل الله، فقال لهم الله عز وعلا: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع ولا تحزن عليهم أى لا تتمن أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم، وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء وقل لهم إني أنا النذير المبين أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 91]
كما أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين (91)
فإن قلت: بم تعلق قوله كما أنزلنا؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بقوله:
ولقد آتيناك أى أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعضوه «1» . وقيل: كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن:
ما يقرءونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم، وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم، وقولهم سحر وشعر وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني أن يتعلق بقوله: وقل إني أنا النذير المبين أى: وأنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين، يعنى اليهود، وهو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير، أى: أنذر المعضين الذين يجزءون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر.
ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات، كالوليد بن المغيرة،
__________
(1) . قوله «وعضوه» في الصحاح: عضيت الشاة تعضية، إذا جزأتها أعضاء. وعضيت الشيء تعضية، إذا فرقته. (ع)

(2/589)


فوربك لنسألنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93) فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)

والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام، والاقتسام بمعنى التقاسم. فإن قلت: إذا علقت قوله: كما أنزلنا بقوله: ولقد آتيناك فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره بينهما؟ قلت: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية. من النهى عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين عضين أجزاء، جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء. قال رؤبة:
وليس دين الله بالمعضى
وقيل: هي فعلة، من عضهته إذا بهته «1» . وعن عكرمة: العضة السحر، بلغة قريش، يقولون للساحرة عاضهة. ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة «2» والمستعضهة، نقصانها على الأول واو، وعلى الثاني هاء.

[سورة الحجر (15) : الآيات 92 الى 93]
فو ربك لنسئلنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93)
لنسئلنهم عبارة عن الوعيد. وقيل. يسألهم سؤال تقريع. وعن أبى العالية: يسأل العباد عن خلتين: عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.

[سورة الحجر (15) : آية 94]
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)
فاصدع بما تؤمر فاجهر به وأظهره. يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، كقولك: صرح بها، من الصديع وهو الفجر، والصدع في الزجاجة: الإبانة. وقيل:
فاصدع فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر، والمعنى: بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار، كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به «3»
__________
(1) . قوله «إذا بهته» أى اتهمته. (ع)
(2) . أخرجه أبو يعلى وابن عدى من حديث ابن عباس. وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وهما ضعيفان. وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية عن ابن جريج عن عطاء.
(3) .
فقال لي قول ذى رأى ومقدرة ... محرر نزه خال من الريب
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
لخفاف بن ندبة، وقيل: لعباس بن مرداس. وقيل: لعمرو بن معديكرب. وقيل: لا ياس بن موسى، والمقدرة:
مثلث الدال: القوة، والمحرر النزه- كحذر-: الخالص من الغش. والريب، أى الشبه، وهو نعت لذي رأى.
ولو جعلته نعتا للرأى لكان فيه الفصل بين النعت والمنعوت بالعطف. ويجوز رفعه على أنه نعت مقطوع للقول.
والنشب: المال الأصل صامتا أو ناطقا، فهو من عطف الخاص على العام. ويروى: ذا نسب، بالمهملة: أى نسب عظيم، وأمر: يتعدى للثاني بالباء. ويقال: أمرتك الخير على التوسع، أو تضمين التكليف، وجمعهما الشاعر في البيت.

(2/590)


إنا كفيناك المستهزئين (95) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون (96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)

ويجوز أن تكون بما مصدرية، أى بأمرك مصدر من المبنى للمفعول.

[سورة الحجر (15) : الآيات 95 الى 96]
إنا كفيناك المستهزئين (95) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون (96)
عن عروة بن الزبير في المستهزئين: هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحرث بن الطلاطلة.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: ماتوا كلهم قبل بدر. قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظما لأخذه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أحمص العاص بن وائل، فدخلت فيها شوكة، فقال: لدغت لدغت وانتفخت رجله، حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عينى الأسود بن المطلب، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس، فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات «1» .

[سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 99]
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)
بما يقولون من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن فسبح فافزع فيما نابك إلى الله. والفزع إلى الله: هو الذكر الدائم وكثرة السجود، يكفك ويكشف عنك الغم. ودم
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق. وأخرجه الطبراني في معجميه. وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لهما. وابن مردويه كلهم من طريق جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين قال: هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وأبو زمعة والحرث بن عيطل السهمي قال أتاه جبريل فشكاهم إليه. فأراه الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أكحله. فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته. فساق الحديث. قال: فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود ابن المطلب فعمى. وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما العاص بن وائل فركب إلى الطائف فربط به حماره على شبرقة يعنى شوكة. فدخلت في أخمص قدمه فقتلته. وأما الحرث بن عيطل فأخذه ألم الأصفر في بطنه حتى خرج خرءه من فيه فمات منها»

(2/591)


أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1)

على عبادة ربك حتى يأتيك اليقين أى الموت، أى ما دمت حيا فلا تخل بالعبادة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «1» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم» «2»

سورة النحل
(مكية، غير ثلاث آيات في آخرها وتسمى سورة النعم، وهي مائة وثمان وعشرون آية [نزلت بعد سورة الكهف] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النحل (16) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1)
كانوا يستمجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم أتى أمر الله الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا لقرب وقوعه فلا تستعجلوه روى أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا:
ما نرى شيئا، فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد، ما نرى شيئا مما تخوفنا به، فنزلت أتى أمر الله فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت فلا تستعجلوه فاطمأنوا وقرئ: تستعجلوه، بالتاء والياء سبحانه وتعالى عما يشركون تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء. أو عن إشراكهم، على أن «ما» موصولة أو مصدرية. فإن قلت: كيف اتصل
__________
(1) . تقدم في البقرة.
(2) . رواه الثعلبي من طريق أبى الخليل عن على بن زيد عن زر بن حبيش عن أبى بن كعب. وقد تقدمت أسانيده في آخر آل عمران.

(2/592)


ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2) خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4) والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5)

هذا باستعجالهم؟ قلت: لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك. وقرئ: تشركون، بالتاء والياء.

[سورة النحل (16) : آية 2]
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2)
قرئ ينزل بالتخفيف والتشديد. وقرئ تنزل الملائكة أى تنزل بالروح من أمره بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، وأن أنذروا بدل من الروح، أى ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره: بأنه أنذروا، أى: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن» مفسرة، لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول.
ومعنى أنذروا أنه لا إله إلا أنا أعلموا بأن الأمر ذلك، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى:
يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون.

[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 4]
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4)
ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وجر أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرئ: تشركون، بالتاء والياء فإذا هو خصيم مبين فيه معنيان، أحدهما: فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة، بعد ما كان نطفة من منى جمادا لا حس به ولا حركة، دلالة على قدرته. والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: من يحيى العظام وهي رميم، وصفا للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة.
وقيل نزلت في أبى بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رم؟ «1»

[سورة النحل (16) : آية 5]
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5)
الأنعام الأزواج الثمانية، وأكثر ما تقع على الإبل، وانتصابها بمضمر يفسره
__________
(1) . يأتى في صورة يس.

(2/593)


ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7)

الظاهر، كقوله والقمر قدرناه ويجوز أن يعطف على الإنسان، أى: خلق الإنسان والأنعام، ثم قال خلقها لكم أى ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. والدفء: اسم ما يدفأ به، كما أن الملء اسم ما يملأ به، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. وقرئ:
دف، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء ومنافع هي نسلها ودرها وغير ذلك. فإن قلت:
تقديم الظرف في قوله ومنها تأكلون مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت:
الأكل منها هو الأصل «1» الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجارى مجرى التفكه. ويحتمل أن طعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر فالحب والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها.

[سورة النحل (16) : آية 6]
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6)
من الله بالتجمل بها كما من بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة- فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء «2» - أنست أهلها وفرحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه لتركبوها وزينة، يواري سوآتكم وريشا. فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة:
حينا تريحون وحينا تسرحون، على أن تريحون وحين تسرحون وصف للحين. والمعنى: تريحون فيه وتسرحون فيه، كقوله تعالى يوما لا يجزي والد.

[سورة النحل (16) : آية 7]
وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم (7)
قرئ: بشق الأنفس، بكسر الشين وفتحها. وقيل: هما لغتان في معنى المشقة، وبينهما فرق:
وهو أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم المجرور وأجاب بأن الأكل منها هو الأصل ... الخ» ؟ قال أحمد:
ومدار هذا التقرير على أن تقديم معمول الفعل يوجب حصره فيه فكأنه قال وإنما تأكلون منها.
(2) . قوله «وتجاوب فيها الثغاء والرغاء» الثغاء صوت الشاء والمعز وما شاكلهما. والرغاء صوت ذوات الخف، كذا في الصحاح. [.....]

(2/594)


والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8)

وأما الشق فالنصف، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت: ما معنى قوله: لم تكونوا بالغيه كأنهم كانوا زمانا يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت:
معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت: كيف طابق قوله: لم تكونوا بالغيه قوله:
وتحمل أثقالكم وهلا قيل: لم تكونوا حامليها إليه «1» ؟ قلت: طباقه من حيث أن معناه:
وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى: لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل:
أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة: البلد مكة لرؤف رحيم حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.

[سورة النحل (16) : آية 8]
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8)
والخيل والبغال والحمير عطف على الأنعام، أى: وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت: لم انتصب وزينة؟ قلت: لأن مفعول له، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت: فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد «2» ؟ قلت: لأن الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ: لتركبوها زينة، بغير واو، أى: وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها، أى: وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال ويخلق ما لا تعلمون يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمن علينا بذكره كما من بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف طابق قوله لم تكونوا بالغيه قوله وتحمل أثقالكم ... الخ» ؟ قال أحمد:
ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغنى عن أثقال يستصحبها والمعنى الأول أعلى، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «إن قلت هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد ... الخ» ؟ قال أحمد: يعنى فجاز أن ينتصب مجردا من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول، ويعينه اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين، ومتى لم يتحد الفاعل تعين لحاق اللام، وفي هذا الجواب نظر، فان لقائل أن يقول: كان من الممكن مجيئهما معا باللام فيأتيان على سنن واحد. ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم، والجواب العتيد عنه: أن المقصود المعتبر الأصلى في هذه الأصناف هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب «فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة التعليل، تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب، والله أعلم

(2/595)


وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (9) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)

له في طيه، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار، مما لم يبلغه وهم أحد، ولا خطر على قلبه.

[سورة النحل (16) : آية 9]
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (9)
المراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال ومنها جائر. والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال: سبيل قصد وقاصد، أى: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله وعلى الله قصد السبيل أن هداية الطريق الموصل «1» إلى الحق واجبة عليه، «2» كقوله إن علينا للهدى. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله ومنها جائر؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة «3» لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله:
ومنكم جائر، يعنى: ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه ولو شاء لهداكم أجمعين قسرا وإلجاء «4» .

[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11]
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)
__________
(1) . قال محمود: «ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة ... الخ» قال أحمد: أين يذهب به عن تتمة الآية. وذلك قوله تعالى ولو شاء لهداكم أجمعين ولو كان الأمر كما تزعم القدرية لكان الكلام: وقد هداكم أجمعين. وما كأنهم إلا يؤمنون ببعض الكتاب ويكافرون ببعض، فان ذهبوا إلى تأويل الهداية بالقسر والإلجاء، فما كأنهم إلا يحرفون الكلم من بعد مواضعه. وأما المخالفة بين الأسلوبين، فلأن سياق الكلام لاقامة حجة الله تعالى على الخلق بأنه بين السبيل القاصد والجائر، وهدى قوما اختاروا الهدى، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. وقد تقدم في غير ما موضع أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران، هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وبتأتيه له وتيسره عليه يضاف إلى العبد، وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل، فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها، وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له، والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر، ليناسب ذلك إقامة الحجة قل فلله الحجة البالغة والله الموفق للصواب.
(2) . قوله «الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه» هذا مذهب المعتزلة ولا وجوب عليه تعالى عند أهل السنة، بل ذلك فضل منه تعالى، لكن الكريم يبرز الوعد بالخير في صورة الواجب. (ع)
(3) . قوله «ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل» يعنى أهل السنة من أنه تعالى يخلق الشر كالخير. وقوله «لقيل» الخ: الملازمة ممنوعة لأن الكريم يحب الخير دون الشر، وإن كان كل منهما من عنده قل كل من عند الله. (ع)
(4) . قوله «ولو شاء لهداكم أجمعين قسرا وإلجاء» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فانه لو شاء لهدى الكل اختيارا، وذلك أن المعتزلة أوجبوا على الله الصلاح، وهداية الكل صلاح، فظاهر الآية يخالف مذهبهم. ولذا قالوا: إنه أراد هداية الكل، لكن إرادة لا تنافى تخيير العبد، لئلا يبطل تكليفه. وهذه الارادة لا تستلزم وقوع المراد. وأهل السنة لم يوجبوا على الله تعالى شيئا، وكل ما أراده الله لا بد من وقوعه. وهذه الارادة لا تنافى اختيار العبد عندهم لما تقرر له من الكسب، كما بين في علم التوحيد. (ع)

(2/596)


وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13)

لكم متعلق بأنزل، أو بشراب، خبرا له. والشراب ما يشرب شجر يعنى الشجر الذي ترعاه المواشي. وفي حديث عكرمة: لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت «1» . يعنى الكلأ تسيمون من سامت الماشية إذا رعت، فهي سائمة، وأسامها صاحبها، وهو من السومة وهي العلامة، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض. وقرئ: ينبت، بالياء والنون. فإن قلت:
لم قيل ومن كل الثمرات؟ قلت: لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة يتفكرون ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته.
والآية: الدلالة الواضحة. وعن بعضهم: ينبت، بالتشديد. وقرأ أبى بن كعب: ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، بالرفع.

[سورة النحل (16) : آية 12]
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12)
قرئت كلها بالنصب على: وجعل النجوم مسخرات. أو على أن معنى تسخيرها للناس:
تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك: سخره الله مسخرا، كقولك: سرحه مسرحا، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر.
وقرئ: والنجوم مسخرات، بالرفع. وما قبله بالنصب، وقال إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون فجمع الآية. وذكر العقل، لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.

[سورة النحل (16) : آية 13]
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13)
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في الأحوال عنه موقوفا. وزاد نحوه. وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن منبه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا السحت قالوا: وما السحت؟ قال: بيع الشجر، وثمن الخمر، وإجارة الأمة المساحقة.

(2/597)


وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16)

وما ذرأ لكم معطوف على الليل والنهار. يعنى: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيئات والمناظر.

[سورة النحل (16) : آية 14]
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14)
لحما طريا هو السمك، ووصفه بالطراءة، «1» لأن الفساد يسرع إليه، «2» فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت: ما بال الفقهاء قالوا: إذا حلف الرجل لا يأكل لحما، فأكل سمكا، لم يحنث. والله تعالى سماء لحما كما ترى؟ قلت: مبنى الإيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك، وإذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك، كان حقيقا بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث. حلية هي اللؤلؤ والمرجان»
. والمراد بلبسهم: لبس نسائهم، لأنهن من جملتهم، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر: شق الماء بحيزومها. وعن الفراء: هو صوت جرى الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل: التجارة.

[سورة النحل (16) : الآيات 15 الى 16]
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16)
أن تميد بكم كراهة أن تميل بكم وتضطرب. والمائد: الذي يدار به إذا ركب البحر.
قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة مم خلقت وأنهارا وجعل فيها أنهارا، لأن ألقى فيه معنى: جعل. ألا ترى إلى قوله ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا. وعلامات
__________
(1) . قوله «بالطراءة» في الصحاح: طرو اللحم. وطرى طراوة وطراء وطراة. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «هو السمك، ووصفه بالطراءة لأن الفساد يسرع إليه ... الخ» قال أحمد: فكأن ذلك تعليم لأكله وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «الحلية هي اللؤلؤ والمرجان ... الخ» قال أحمد: ولله در مالك رضى الله عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل المرأة من مالها وزينتها حلية له، فعبر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء، مؤيدا بالحديث المروي في الباب، والله أعلم.

(2/598)


أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19)

هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك. والمراد بالنجم: الجنس، كقولك. كثر الدرهم في أيدى الناس. وعن السدى: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدى. وقرأ الحسن: وبالنجم، بضمتين، وبضمة وسكون، وهو جمع نجم، كرهن ورهن، والسكون تخفيف. وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفا. فإن قلت: قوله وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب، مقدم فيه بالنجم، مقحم فيه هم، كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون، فمن المراد ب هم؟ قلت: كأنه أراد قريشا: كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم، والاعتبار ألزم لهم، فخصصوا.

[سورة النحل (16) : آية 17]
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)
فإن قلت: كمن لا يخلق أريد به الأصنام، «1» فلم جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟ قلت:
فيه أوجه، أحدها: أنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون والثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث: أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده، كقوله ألهم أرجل يمشون بها يعنى أن الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا. فإن قلت: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان «2» وسموها آلهة تشبيها بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق

[سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 19]
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام ... الخ» قال أحمد: هو تحوم على أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن المراد إظهار التفاوت بين من يخلق منهم ومن لا يخلق كالعاجزين والزمنى، حتى يثبت التفاوت بين من يخلق منهم وبين الأصنام بطريق الأولى، ولقد تمكن منه الطمع حتى اعتقد أنه يثبت خلق العبد لأفعاله بتنزيله الآية على هذه التأويل، ويتمنى لو تم له ذلك.
وما كل ما يتمنى المرء يدركه
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله تعالى وكان من حق الإلزام ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى وليس الذكر كالأنثى فجدد بها عهدا.

(2/599)


والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21)

لا تحصوها لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر، أتبع ذلك ما عدد من نعمه تنبيها على أن وراءها ما لا ينحصر ولا ينعد إن الله لغفور رحيم حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها والله يعلم ما تسرون وما تعلنون من أعمالكم، وهو وعيد.

[سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 21]
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21)
والذين يدعون والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله وقرئ بالتاء. وقرئ:
يدعون، على البناء للمفعول. نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب. ومعنى أموات غير أحياء أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أى غير جائز عليها الموت كالحى الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في يبعثون للداعين، أى لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها، غير أحياء يعنى أن من الأموات ما يعقب موته حياة، كالنطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأما الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها وما يشعرون أيان يبعثون أى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها، لأن شعور الجماد محال، «1» فكيف بشعور ما لا يعلمه حى إلا الحى القيوم سبحانه. ووجه ثالث: وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة، وكان ناس منهم يعبدونهم، وأنهم أموات: أى لا بد لهم من الموت، غير أحياء: غير باقية حياتهم. وما يشعرون: ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.
__________
(1) . قوله «لأن شعور الجماد محال» أى شعوره بما يشعر به الحيوان محال، فكيف بشعوره بما لا يعلمه حيوان وإنما يعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث. ولعل في عبارة المصنف سقطا تقديره: شعور الجماد بما يشعر به الحيوان. (ع)

(2/600)


إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23) وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25)

[سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 23]
إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23)
إلهكم إله واحد يعنى أنه قد ثبت بما تقدم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها: استمرارهم على شركهم، وأن قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها لا جرم حقا أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو وعيد إنه لا يحب المستكبرين يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعنى المشركين. ويجوز أن يعم كل مستكبر، ويدخل هؤلاء تحت عمومه.

[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 25]
وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25)
ماذا منصوب بأنزل، بمعنى: أى شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء، بمعنى:
أى شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى أساطير الأولين ما يدعون نزوله أساطير الأولين، وإذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأولين، كقوله ماذا ينفقون قل العفو فيمن رفع. فإن قلت: هو كلام متناقض، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت: هو على السخرية كقوله:
إن رسولكم «1» وهو كلام بعضهم لبعض، أو قول المسلمين لهم. وقيل: هو قول المقتسمين:
الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا أحاديث الأولين وأباطيلهم ليحملوا أوزارهم أى قالوا ذلك إضلالا للناس وصدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا أوزار ضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضل والضال شريكان: هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر. ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضا، كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر بغير علم حال من المفعول أى يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل.
__________
(1) . قوله «على السخرية كقوله إن رسولكم» لعله: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. (ع) [.....]

(2/601)


قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين (27) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29)

[سورة النحل (16) : الآيات 26 الى 29]
قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين (27) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29)
القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس. وهذا تمثيل، يعنى: أنهم سووا منصوبات ليمكروا «1» بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين «فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا. ومعنى إتيان الله: إتيان أمره من القواعد من جهة القواعد من حيث لا يشعرون من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون. وقرئ: فأتى الله بيتهم. فخر عليهم السقف، بضمتين يخزيهم بذلهم بعذاب الخزي ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته يعنى هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة شركائي على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم تشاقون فيهم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم. وقرئ: تشاقون، بكسر النون، بمعنى: تشاقوننى، لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله قال الذين أوتوا العلم هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفا لمن سمعه. وقيل: هم الملائكة. قرئ: تتوفاهم، بالتاء والياء.
وقرئ: الذين توفاهم، بإدغام التاء في التاء فألقوا السلم فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: ما كنا نعمل من سوء وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فرد عليهم أولو العلم إن الله عليم بما كنتم تعملون فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضا من الشماتة وكذلك فادخلوا أبواب جهنم.
__________
(1) . قوله «ليمكروا بها الله ورسوله» لعل تعدية فعل المكر إلى مفعول لتضمنه معنى الخديعة. (ع)

(2/602)


وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (30) جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين (31) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (34)

[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32]
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (30) جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزي الله المتقين (31) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)
خيرا أنزل خيرا. فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقر وجواب الجاحد، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال، فقالوا خيرا: أى أنزل خيرا، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء. وروى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الواقد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيرا لك، فيقول: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبى مبعوث، فهم الذين قالوا خيرا. وقوله للذين أحسنوا وما بعده بدل من خيرا، حكاية لقوله الذين اتقوا، أى: قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيرا ثم حكاه.
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم وبحمدوا عليه حسنة مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها، كقوله فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ولنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره. وجنات عدن خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح طيبين طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم يقولون سلام عليكم قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولى الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.

[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (34)
تيهم الملائكة
قرئ بالتاء والياء، يعنى: أن تأتيهم لقبض الأرواح. ومر ربك

(2/603)


وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (35)

العذاب المستأصل، أو القيامةذلك
أى مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله
بتدميرهم لكن كانوا أنفسهم يظلمون
لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير سيئات ما عملوا جزاء سيئات أعمالهم. أو هو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها

[سورة النحل (16) : آية 35]
وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (35)
هذا من جملة ما عدد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعنى: أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه «1» كذلك فعل الذين من قبلهم أى أشركوا وحرموا حلال الله «2» ، فلما نبهوا على قبح فعلهم
__________
(1) . قوله «وقالوا لو شاء الله لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه» يعنى أهل السنة، وليس كما قال، بل قاله المشركون استهزاء، وأهل السنة اعتقادا، كما أفاده النسفي. وكل ما شاء، الله كان، وما لم يشأ لم يكن، شرا كان أو خيرا. وكل أمر بقضائه تعالى وقدره، شرا كان أو خيرا. وهو الخالق لأفعال العباد وإن كانت بكسبهم واختيارهم، خلافا للمعتزلة في جميع ذلك، كما أطال به فيما سيأتى هنا انتصارا للمعتزلة. (ع)
(2) . قال محمود: «يعنى أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله ... الخ» قال أحمد: قد تكرر منه مثل هذا الفصل في أخت الآية المتقدمة في سورة الأنعام، وقد قدمنا حينئذ ما فيه مقنع إن شاء الله، والذي زاده هنا يثبت معتقده على زعمه بقوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ووجه تمسكه به أن الله تعالى قسم العبادة إلى قسمين: مأمور به ومنهى عنه. والأمر والنهى عند المصنف راجعان إلى المشيئة بناء على زعم القدرية في إنكار كلام النفس وحمل الاقتضاء على الارادة، فالحاصل حينئذ من هذه التتمة أن الله شاء عبادة الخلق له وشاء اجتنابهم عبادة الطاغوت، ولم يشأ منهم أن يشركوا به، وأخبر بهذه المشيئة على لسان كل رسول بعثه إلى أمة من الأمم، فجاءت التتمة مترجمة عن معنى صدر الآية، مؤكدة بمقتضاها. هذا هو الذي زاده المصنف هاهنا، وقد بينا أن مبناه على إنكار كلام النفس الثابت قطعا، فهو باطل جزما. والعجب أن الله تعالى أوضح في الآيتين جميعا أن الذي أنكره من القائلين لو شاء الله ما أشركنا إنما هو احتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة لهم فيها، مع ما خلق لهم من الاختيار بقوله هاهنا فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وبقوله في آخر آية الأنعام فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فتبين فيهما أنه هو الذي شاء منهم الاشراك والضلالة، ولو شاء هدايتهم أجمعين لاهتدوا عن آخرهم. وحصل من هذا البيان: صرف الإنكار عليهم إلى غير نسبة المشيئة لله تعالى، وذلك هو الذي قدمناه في إقامتهم الحجة على الله بمشيئته، مع أن حجتهم في ذلك داحضة، ولله عليهم الحجة البالغة الواضحة، والله الموفق.

(2/604)


ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (37)

وركوه على ربهم «1» فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه.

[سورة النحل (16) : آية 36]
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36)
ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت فمنهم من هدى الله أى لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف ومنهم من حقت عليه الضلالة أى ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتى منه خير فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنى لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.

[سورة النحل (16) : آية 37]
إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (37)
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أى لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. وقرئ: لا يهدى «2» ، أى:
لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله وما لهم من ناصرين دليل على أن المراد بالإضلال: الخذلان الذي هو نقيض النصرة. ويجوز أن يكون لا يهدي بمعنى لا يهتدى. يقال: هداه الله فهدى. وفي قراءة أبى: فإن الله لا هادى لمن يضل، ولمن أضل «3» ، وهي معاضدة لمن قرأ لا يهدي على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله: يهدى، بإدغام تاء يهتدى، وهي معاضدة للأولى. وقرئ «يضل» بالفتح. وقرأ النخعي: إن تحرص، بفتح الراء، وهي لغية.
__________
(1) . قوله «وركوه على ربهم» أى اتهموه به. (ع)
(2) . قوله «وقرئ لا يهدى» أى بالبناء المجهول، كما أفاده النسفي. (ع)
(3) . قوله «وفي قراءة أبى: فان الله لا هادى لمن يضل ولمن أضل» ظاهره أن هذه قراءة أخرى لأبى، فليحرر. (ع)

(2/605)


وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (39) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42)

[سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 39]
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (39)
وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا إيذانا بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدونا: توريك ذنوبهم على مشيئة «1» الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه. وبلى إثبات لما بعد النفي، أى: بلى يبعثهم. ووعد الله: مصدر مؤكد لما دل عليه بلى. لأن يبعث موعد من الله، وبين أن الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب «2» على الله، لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة ليبين لهم متعلق بما دل عليه «بلى» أى يبعثهم ليبين لهم. والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذي اختلفوا فيه هو الحق وليعلم الذين كفروا أنهم كذبوا في قولهم:
لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أى بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على الله الكذب.

[سورة النحل (16) : آية 40]
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)
قولنا مبتدأ، وأن نقول خبره. كن فيكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أى: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأن مرادا لا يمتنع عليه، وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم، والمعنى: أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات. وقرئ: فيكون، عطفا على نقول.

[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42]
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42)
__________
(1) . قوله «توريك ذنوبهم على مشيئة الله» أى نسبة ذنوبهم إلى مشيئته تعالى واتهامها بها. (ع)
(2) . قوله «أو أنه وعد واجب على الله ... الخ» الكلام في الكفار. وعرض فيه المصنف بأهل السنة تعصبا للمعتزلة في قولهم بوجوب الصلاح عليه تعالى فافهم. (ع)

(2/606)


وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)

والذين هاجروا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين. ومنهم من هاجر إلى المدينة. وقيل: هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما خرجوا تبعوهم فردوهم: منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار. وعن صهيب أنه قال لهم: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم، فافتدى منهم بماله وهاجر، فلما رآه أبو بكر رضى الله عنه قال له: ربح البيع يا صهيب. وقال له عمر: نعم الرجل صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه، وهو ثناء عظيم: يريد لو لم يخلق الله نارا لأطاعه «1» ، فكيف في الله في حقه ولوجهه حسنة صفة للمصدر، أى لنبو أنهم تبوئة حسنة. وفي قراءة على رضى الله عنه: لنثوينهم. ومعناه: أثوأة حسنة. وقيل: لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكثر. وقيل: لنبوأنهم مباءة حسنة وهي المدينة، حيث آواهم أهلها ونصروهم لو كانوا يعلمون الضمير للكفار، أى: لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أى: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم الذين صبروا على:
هم الذين صبروا. أو أعنى الذين صبروا، وكلاهما مدح، أى: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 44]
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)
قالت قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فقيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم على ألسنة الملائكة فسئلوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرا. فإن قلت: بم تعلق قوله بالبينات؟ قلت: له متعلقات شتى، فاما أن يتعلق مما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أى: وما أرسلنا
__________
(1) . قوله «لو لم يخلق الله نارا لأطاعه فكيف» أى فكيف لا يطيعه. وقد خلقها لمن عصى. (ع)

(2/607)


أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم (47)

إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدا بالسوط، لأن أصله: ضربت زيدا بالسوط وإما برجالا، صفة له: أى رجالا ملتسين بالبينات. وإما بأرسلنا مضمرا، كأنما قيل: بم أرسلوا؟ فقلت بالبينات، فهو على كلامين، والأول على كلام واحد. وإما بيوحى، أى:
يوحى إليهم بالبينات. وإما بلا تعلمون، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطنى حقي. وقوله فسئلوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة، وأهل الذكر: أهل الكتاب. وقيل للكتاب الذكر، لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ما نزل إليهم يعنى ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا ولعلهم يتفكرون وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.

[سورة النحل (16) : الآيات 45 الى 47]
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم (47)
مكروا السيئات أى المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» في تقلبهم متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله من حيث لا يشعرون وقيل: هو من قولك: تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته:
قال زهير:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن «2»
أى يأخذهم على أن يتنقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا. وعن عمر رضى الله عنه. أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا: التخوف
__________
(1) . قوله «وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم» ضمن المكر معنى الخدع، فعدى إلى المفعول. (ع)
(2) . لأبى كبير الهذلي. وقيل لزهير. والتخوف: التنقص شيئا فشيئا. والتامك: السنام المرتفع. والقرد:
الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. أو الذي تنقب وفسد من الرحل في السفر. والنبعة: واحدة النبع، وهو شجر تتخذ منه القسي. ويروى: ظهر النبعة. والسفن: المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب، يقول: تنقص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر، كما تنقص المبرد عود النبعة. وفيه تشبيه بها في الصلابة. وروى أن عمر قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فسكتوا، فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا، التخوف: التنقص، وأنشد البيت، فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فان فيه تفسير كتابكم.

(2/608)


أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (48) ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50)

التنقص. قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا. وأنشد البيت.
فقال عمر: أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم فإن ربكم لرؤف رحيم حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم.

[سورة النحل (16) : آية 48]
أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (48)
قرئ: أو لم يروا. ويتفيؤا، بالياء والتاء. وما موصولة بخلق الله، وهو مبهم بيانه من شيء يتفيؤا ظلاله واليمين، بمعنى الأيمان. وسجدا حال من الظلال. وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أى عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبى الشيء، أى: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع.

[سورة النحل (16) : الآيات 49 الى 50]
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50)
من دابة يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أن في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسى في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات: الملائكة. وكرر ذكرهم على معنى: والملائكة خصوصا من بين الساجدين، لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم. ويجوز أن يراد بما في السموات: ملائكتهن.
وبقوله والملائكة: ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، «1» فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت: المراد بسجود
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا ما يتمسك به لمن اختار تناول اللفظ الواحد لحقيقته ومجازه شمولا ولم يرد ذلك متناقضا، فان السجود يتناول هل المكلف حقيقة يتناول حال غير المكلف بطريق مجاز التشبيه، وقد أريد جميعا من الآية، والزمخشري ينكر ذلك في مواضع مررت عليها من كتابه، هذا وظاهر مراده هاهنا أن السجود عبارة عن قدر مشترك بين فعل المكلف وحال غير المكلف، وهو عدم الامتناع عند القدرية، وغرضه من ذلك أن يكون اللفظ متواطئا فيهما جميعا، ليسلم من الجمع بين الحقيقة والمجاز، لأنه يأبى ذلك، ولا ينم له هذا المقصد في الآية- والله أعلم- لأن كونها آية سجدة يدل على أن المراد من السجود المذكور فيها منسوبا للمكلفين هو الفعل الخاص المتعارف شرعا، الذي يكون ذكره سببا لفعلة سببية معتادة في عزائم السجود، لا القدر الأعم المشترك، والله أعلم.

(2/609)


وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون (51)

المكلفين: طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم: انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قلت:
فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم يخافون يجوز أن يكون حالا من الضمير «1» في لا يستكبرون أى: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيدا له، لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته من فوقهم إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا، كقوله وهو القاهر فوق عباده، وإنا فوقهم قاهرون وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء.

[سورة النحل (16) : آية 51]
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون (51)
فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين «2» ؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعنايه به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد: لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فإياي فارهبون نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأن الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
__________
(1) . قال محمود: «يجوز أن يكون حالا من الضمير ... الخ» قال أحمد: هذا الثاني هو الوجه ليس الأول، وأما الحال فيعطى انتقالا، ويوهم تقيد العدم استكبارهم، مع أن الواقع أو عدم استكبارهم مطلق غير مقيد بحال، والله الموفق.
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة قوله اثنين مع إغناء التثنية عن ذلك ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من حسناته التي لا يدافع عنها، والله الموفق. [.....]

(2/610)


وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (52) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55)

[سورة النحل (16) : آية 52]
وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (52)
الدين الطاعة واصبا حال عمل فيه الظرف. والواصب: الواجب الثابت، لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه. ويجوز أن يكون من الوصب، أى: وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا. أو: وله الجزاء ثابتا دائما سرمدا لا يزول، يعنى الثواب والعقاب.

[سورة النحل (16) : الآيات 53 الى 55]
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55)
وما بكم من نعمة وأى شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من الله فإليه تجئرون فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا:
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا «1»
وقرئ: تجرون، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف الضر على:
فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة. فإن قلت: فما معنى قوله إذا فريق منكم بربهم يشركون؟ قلت: يجوز أن يكون الخطاب في قوله وما بكم من نعمة فمن الله عاما، ويريد بالفريق: فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال فإذا فريق كافر، وهم أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، ليكفروا بما آتيناهم من نعمة الكشف عنهم،
__________
(1) .
وما آبلى على هيكل ... بناء وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات الملي ... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
بأعظم منك تقى في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا
للأعشى. والآبلى: الراهب، نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة. والهيكل: بيت الصنم. وصلب: أى صور الصليب.
وألف صارا للإطلاق. ويراوح: خبره، وإن لزم عليه التضمين مراعاة لجزالة المعنى، والمراوحة في العمل:
الانتقال من حالة إلى أخرى. والصلوات: الدعوات. والسجود: الانخفاض والخشوع. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء. وبأعظم: خبر آبلى. وتقى: تمييز. يقول: ليس الراهب العاكف على هيكله الذي صور فيه الصليب، وصار يتابع ويتنقل من بعض دعوات الله إلى بعض، فتارة يسجد سجودا، وتارة يجأر جؤارا، تقاه أعظم من تقاك يوم الحساب إذا قام الناس من قبورهم، فنفضهم الغبار، كناية عن ذلك.

(2/611)


ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون (57) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59)

كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة فتمتعوا فسوف تعلمون تخلية ووعيد. وقرئ:
فيمتعوا، بالياء مبنيا للمفعول، عطفا على ليكفروا ويجوز أن يكون: ليكفروا فيمتعوا، من الامر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر.

[سورة النحل (16) : آية 56]
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون (56)
لما لا يعلمون أى لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذا جاهلون بها. وقيل: الضمير في لا يعلمون للآلهة. أى: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر اجعلوا لها نصيبا في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا إليهم لتسئلن وعيد عما كنتم تفترون من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.

[سورة النحل (16) : الآيات 57 الى 59]
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون (57) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59)
كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سبحانه تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم ولهم ما يشتهون يعنى البنين. ويجوز في ما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات، أى: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. وظل بمعنى صار «1» كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة. ويجوز أن يجيء ظل، لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه «2» من الكآبة والحياء من الناس وهو كظيم مملوء حنقا على المرأة يتوارى من القوم يستخفى منهم من أجل سوء المبشر به، ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به على هون
__________
(1) . قال محمود: «ظل بمعنى صار» قال أحمد: وجاز أن يراد الظلول نهارا لقصد المبالغة في وصفهم بالعناد والإصرار وأنهم لو عرجوا نهارا في الوقت الذي لا يتغابى على البصر فيه شيء إلى السماء لتمادوا على كفرهم وتكذيبهم، والله أعلم.
(2) . قوله «ويجوز أن يجيء ظل ... الخ» أى يرد ويستعمل في الآية بمعناه الأصلى، وهو اتصاف الشيء بصفة نهارا فقط، لأن أكثر الوضع ... الخ. ومربد الوجه: متعبسه من الغضب، كما يفيده الصحاح. (ع)

(2/612)


للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62)

على هوان وذل أم يدسه في التراب أم يئده «1» . وقرئ: أيمسكها على هون أم يدسها، على التأنيث. وقرئ: على هوان ألا ساء ما يحكمون حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف.

[سورة النحل (16) : آية 60]
للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60)
مثل السوء صفة السوء: وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ ولله المثل الأعلى وهو الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم.

[سورة النحل (16) : آية 61]
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (61)
بظلمهم بكفرهم ومعاصيهم ما ترك عليها أى على الأرض من دابة قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين. وعن أبى هريرة: أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم «2» . وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم «3» . أو من دابة ظالمة. وعن ابن عباس من دابة من مشرك يدب عليها. وقيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.

[سورة النحل (16) : آية 62]
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62)
ويجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم «4»
__________
(1) . قوله «أم يئده» أى يدفنه في القبر حيا. (ع)
(2) . أخرجه الطبري والبيهقي في الشعب التاسع والأربعين. وفي إسناده محمد بن جابر التمامى. وهو متروك.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة والحاكم والطبراني من طريق أبى الأحوص قال: قرأ ابن مسعود ولو يؤاخذ الله الناس- الآية قال: كاد الجعل يعذب في جحره يذنب ابن آدم» .
(4) . قال محمود: «المراد بما يكرهونه البنات، وشركاء في رياستهم، واستخفاف برسلهم ... الخ» قال أحمد:
ونقيض هؤلاء من إذا أعجبه شيء من ماله جعله لله، بل إذا أحب أمة له أعتقها، وإذا اشتهى طعاما قدم إليه تصدق به على حبه، وإنما ينقل مثل هذا عن السلف الصالح من الصحابة، كابن عمر ونظرائه ومن تابعهم فيها، ويجعلون لله ما يشتهون. اللهم إن لم ننل رتبة أوليائك فأنلنا محبتهم، فمن أحب قوما حشر معهم.

(2/613)


تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (65)

والتهاون برسالاتهم. ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها وتصف ألسنتهم مع ذلك أن لهم الحسنى عند الله كقوله ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى. وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوى اليسار: كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى: هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة. وإذا قال: هاتوا ما دفع إلى فيؤتى بالكسر والخرق ومالا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية.
وعن مجاهد: أن لهم الحسنى، هو قول قريش: لنا البنون، وأن لهم الحسنى: بدل من الكذب.
وقرئ الكذب جمع كذوب، صفة للألسنة مفرطون قرئ مفتوح الراء ومكسورها مخففا ومشددا، فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلانا، وفرطته في طلب الماء، إذا قدمته. وقيل. منسيون متروكون، من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته.
والمكسور المخفف، من الإفراط في المعاصي. والمشدد، من التفريط في الطاعات وما يلزمهم.

[سورة النحل (16) : آية 63]
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63)
فهو وليهم اليوم حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. ومعنى وليهم قرينهم وبئس القرين. أو يجعل فهو وليهم اليوم حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أى فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولى وهؤلاء، لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أى: فهو ولى أمثالهم اليوم.

[سورة النحل (16) : الآيات 64 الى 65]
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (65)
وهدى ورحمة معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على لتبين: لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل. وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل. والذي اختلفوا فيه: البعث، لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار لقوم يسمعون

(2/614)


وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66)

سماع إنصاف وتدبر، لأن من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع.

[سورة النحل (16) : آية 66]
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66)
ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم:
ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفردا. وأما في بطونها في سورة المؤمنين، فلأن معناه الجمع. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان، أحدهما: أن يكون تكثير نعم «1» كأجبال في جبل، وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله:
فى كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه «2»
وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم. وأنه في معنى الجمع. وقرئ نسقيكم بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل: كيف العبرة، فقيل نسقيكم من بين فرث ودم أى يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. والكبد مسلطة على هذه الأصناف
__________
(1) . قوله «أن يكون تكثير نعم» لعله «تكسير» بالسين. (ع)
(2) .
في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه ... ولا يلاقون طعانا دونه
أنعم الأبناء تحسبونه ... هيهات هيهات لما ترجونه
لصبي من بنى أسد اسمه قيس بن الحصين الحارثي. والنعم: أسم جمع يعامل معاملة المفرد. وقد يراعى معناه فيعامل كالجمع. والأنعام عده سيبويه من المفردات المبنية على أفعال، كأخلاق وأمشاج، فيعامل بالتذكير تارة اعتبارا بلفظه، وبالتأنيث أخرى اعتبارا بمعناه. وقيل: هو جمع نعم كأسباب وسبب، والكلام تحسر وتحزن في صورة الاخبار، ويحتمل تقدير همزة الاستفهام التوبيخي أو التعجبي قبل في، أى: أفى كل عام تفعلون ذلك. وروى:
أكل عام، بالاستفهام. وكل: نصب على الظرفية. وفيه الاخبار بالزمان عن اسم العين وهو نعم. إما لأنه يشبه المعنى لتجدده كل عام كما قاله ابن مالك وغيره في مثله. أو على تقدير مضاف كما ذهب إليه جمهور البصريين» أى:
نهب نعم. وجملة تحوونه: صفة نعم، ويجوز أنها خبره، وكل عام: ظرف لتحوونه، وقدم لأنه محط الاستفهام.
وعليه فالمسوغ للابتداء بنعم وقوعه في حيز الاستفهام. أو تقديم معمول الخبر عليه لأنه كتقديم الخبر. ويلقحه قوم أى يطلقون فحوله على إناثه فتحمل عندهم. وتنتجونه أنتم: أى تستولدونه عندكم، كناية عن نهبه منهم. والأرباب الأصحاب. والنوكى: جمع أنوك كحمقى جمع أحمق وزنا ومعنى. والطعان: المطاعنة بالرماح، أى: لا يحاربون أمامه ويصبرون للحرب. وقوله أنعم: استفهام إنكارى توبيخي، أى: لا تحسبوا نعمنا نعم أولئك الحمقى الضعاف.
وهيهات بمعنى بعد، وكرره للتوكيد وقطع الأطماع. وقوله «لما ترجونه» متعلق بمحذوف، أى: أقول ذلك لما ترجونه، واللام فيه لتبيين الفاعل. ويجوز أنها زائدة فيه، والرجا: الطمع، ويجوز أنه الظن.

(2/615)


ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (67)

الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش.
فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمل. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائغا سهل المرور في الحلق.
ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: سيغا، بالتشديد. وسيغا، بالتخفيف. كهين ولين.
فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوبا. والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك: سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله لبنا مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أى: كائنا من بين فرث ودم.
ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبنا من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا.

[سورة النحل (16) : آية 67]
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (67)
فإن قلت: بم تعلق قوله ومن ثمرات النخيل والأعناب؟ قلت: بمحذوف تقديره:
ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أى: من عصيرها، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله تتخذون منه سكرا بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو يتعلق بتتخذون، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك: زيد في الدار فيها. ويجوز أن يكون تتخذون صفة موصوف محذوف، كقوله:
... بكفى كان من أرمى البشر «1»
__________
(1) .
مالك عندي غير سوط وحجر ... وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفى كان من أرمى البشر
السوط: آلة للضرب، معمولة من الجلد. وكبداء صفة لمحذوف، أى قوس كبداء غليظة الكبد، أى المقبض.
وقيل: واسعته. والوتر: حبل تشد به القوس. وجادت: صارت جيدة. ويروى بدله: ترمى. وشبه الرمي لها مجاز عقلى. وكفى مضاف لمحذوف قامت صفته في اللفظ مقامه، وهي جملة «كان» وحذف المنعوت الأول مطرد، والثاني ضرورة، لأنه لا يجوز حذف المنعوت إلا إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو «في» ، أو صلح نعته لمباشرة العامل. و «كان» هنا ليس للمضى، بل لمجرد الثبوت والدوام، أى: بكفى رجل متصف بأنه دائما من أشد الناس رميا، يعنى نفسه. ففيه تجريد. يقول لعدوه: ليس لك عندي غير هذه الأشياء، وهو ضرب من التهديد والتقريع: هدده بالسوط عند القرب، وبالحجر عند المفارقة، وبالسهم عند البعد: ويروى «سهم» بدل سوط، فيضيع الترتيب.

(2/616)


تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا، لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفا مكررا؟
قلت: إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى أو هم قائلون إلى الأهل المحذوف، والسكر: الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا. نحو رشد رشدا ورشدا. قال:
وجاؤنا بهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاحى «1»
وفيه وجهان: أحدهما أن تكون منسوخة. وممن قال بنسخها: الشعبي والنخعي. والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة. وقيل: السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبى حنيفة إلى حد السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم «الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب» «2» وبأخبار جمة. ولقد صنف شيخنا أبو على الجبائي قدس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ، فلما شيخ «3» وأخذت منه السن العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوى به، فأبى. فقيل له: فقد صنفت في تحليله، فقال:
تناولته الدعارة «4» فسمج في المروءة. وقيل: السكر الطعم «5» وأنشد:
جعلت أعراض الكرام سكرا
أى تنقلت بأعراضهم «6» . وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك «7» في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن: الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا، كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء ص 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . أخرجه النسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا. ورواه العقيلي من وجه آخر عن على مرفوعا. وفيه محمد بن الفرات الكوفي، وهو منكر الحديث.
(3) . قوله «فلما شيخ وأخذت منه السن العالية» في الصحاح: شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك، وشيخ تشييخا: أى شاخ. (ع)
(4) . قوله «فقال تناولته الدعارة» في الصحاح: الدعارة الفسق والخبث. (ع) [.....]
(5) . قوله «وقيل السكر الطعم» في الصحاح: الطعم بالضم: الطعام. (ع)
(6) . قوله «أى تنقلت بأعراضهم» في الصحاح: النقل بالضم ما ينتقل به على الشراب. (ع)
(7) . قوله «وإنه إذا ابترك» في الصحاح: ابترك، أى أسرع في العدو وجد. (ع)

(2/617)


وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (69)

[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (69)
الإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيقتها «1» في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أن الله أودعها علما بذلك وفطنها، كما أولى أولى العقول عقولهم. وقرأ يحيى بن وثاب إلى النحل بفتحتين. وهو مذكر كالنخل، وتأنيثه على المعنى أن اتخذي هي أن المفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول. وقرئ: «بيوتا» بكسر الباء لأجل الياء. ويعرشون بكسر الراء وضمها: يرفعون من سقوف البيوت. وقيل: ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها. والضمير في يعرشون للناس. فإن قلت: ما معنى «من» في قوله أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها «2» في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها من كل الثمرات إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل «3» وتعتاد أكلها، أى ابني البيوت، ثم كلى من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك أى الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أى في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها،
__________
(1) . قوله «وإلا فنيقتها» أى تأنقها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «قلت أريد معنى البعضية وأن لا تبنى بيوتها ... الخ» قال أحمد: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض، لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع، ولهذا المعنى دخلت ثم لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات، كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أى شيء شئت، فتوسط ثم لتفاوت الحجر والإطلاق، فسبحان اللطيف الخبير.
(3) . قوله «بالثمرات التي تجرسها النحل» في الصحاح «الجرس» الصوت الخفي، وجرست النحل العرفط إذا أكلته. وفيه أيضا «العرفط» شجر من العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك. (ع)

(2/618)


والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70)

فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله ثم كلي ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك ذللا جمع ذلول، وهي حال من السبل، لأن الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا أو من الضمير في فاسلكي أى: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة شراب يريد العسل، لأنه مما يشرب مختلف ألوانه منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر فيه شفاء للناس لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك.
وتنكيره إما لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخى يشتكى بطنه، فقال: «اذهب واسقه العسل» فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع، فقال: «اذهب واسقه عسلا» فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال «1» . وعن عبد الله بن مسعود:
العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل «2» .
ومن بدع تأويلات الرافضة: أن المراد بالنحل على وقومه: وعن بعضهم أنه قال عند المهدى:
إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدى وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.

[سورة النحل (16) : آية 70]
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70)
إلى أرذل العمر إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن على رضى الله عنه.
وتسعون سنة عن قتادة، لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم لكي لا يعلم بعد علم شيئا ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى سعيد وغفل الحاكم فاستدركه.
(2) . لم أره هكذا. وفي الكامل لابن عدى من رواية لابن إسحاق عن أبى الأحوص عن عبد الله رفعه «عليكم بالشفاءين: العسل: شفاء من كل داء. والقرآن شفاء لما في الصدور» وقال: لم يرفعه عن وكيع عن الثوري إلا سفيان بن وكيع. قال ورواه زيد بن الحباب عن الثوري أيضا مرفوعا اه وأخرجه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم من رواية زيد بن الحباب بهذا الاسناد مرفوعا بلفظ «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» وابن أبى شيبة عن وكيع مرفوعا ولفظه «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم والثعلبي أيضا. قال ابن أبى شيبة: وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حيية عن الأسود عن عبد الله قال «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل» .

(2/619)


والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون (71) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72)

سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا: وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه.

[سورة النحل (16) : آية 71]
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون (71)
أى: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكى عن أبى ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما هم إخوانكم، فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون «1» فما رئي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من عير تفاوت «2» أفبنعمة الله يجحدون فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء. وقيل المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق. فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. وقرئ: يجحدون، بالتاء والياء.

[سورة النحل (16) : آية 72]
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72)
من أنفسكم من جنسكم. وقيل: هو خلق حواء من ضلع آدم. والحفدة: جمع حافد، وهو الذي يحفد، أى يسرع في الطاعة والخدمة. ومنه قول القانت. وإليك نسعى ونحفد وقال:
حفد الولائد بينهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال «3»
واختلف فيهم فقيل: هم الأختان على البنات «4» وقيل: أولاد الأولاد. وقيل: أولاد المرأة
__________
(1) . متفق عليه. وأخرجه أصحاب السنن.
(2) . لم أره.
(3) . يقول، حفد من باب ضرب، أى أسرع. الولائد: جمع وليدة وهي البنت الصغيرة، بينهن: أى بين النساء الطاعنات. وأسلمت: مبنى للمجهول، أى تركت في أكف الظعائن والولائد. أزمة الأجمال: جمع زمام، وذلك دليل على حفظهن وصونهن، حتى لا يتخلل ركبهن إلا الولائد.
(4) . قوله «فقيل هم الأختان على البنات» في الصحاح: الحفدة الأعوان والخدم. وفيه أيضا: الخبن بالتحريك كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ، وهم الأختان، كذا عند العرب وأما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته اه فلعله أيضا ضمن الأختان معنى الأعوان أو الخلفاء فعداء بعلى. وفي الخازن عن ابن مسعود: الحفدة أختان الرجل على بناته. (ع)

(2/620)


ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74)

من الزوج الأول. وقيل: المعنى وجعل لكم حفدة، أى خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ويجوز أن يراد بالحفدة: البنون أنفسهم، كقوله سكرا ورزقا حسنا كأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون، أى جامعون بين الأمرين من الطيبات يريد بعضها، لأن كل الطيبات في الجنة، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به، كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز: هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول.
وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما. ونعمة الله: ما أحل لهم.

[سورة النحل (16) : آية 73]
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73)
الرزق يكون بمعنى المصدر، وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به شيئا كقوله أو إطعام...... يتيما على: لا يملك أن يرزق شيئا. وإن أردت المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا. ويجوز أن يكون تأكيدا للا يملك: أى لا يملك شيئا من. الملك. ومن السماوات والأرض: صلة للرزق إن كان مصدرا بمعنى: لا يرزق من السموات مطرا، ولا من الأرض نباتا. أو صفة إن كان اسما لما يرزق. والضمير في ولا يستطيعون لما، لأنه في معنى الآلهة، بعد ما قيل لا يملك على اللفظ. ويجوز أن يكون للكفار، يعنى: ولا يستطيع هؤلاء- مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب- من ذلك شيئا، فكيف بالجماد الذي لا حسن به.
فإن قلت: ما معنى قوله ولا يستطيعون بعد قوله لا يملك؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت:
ليس في لا يستطيعون تقدير راجع، وإنما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلا، لأنهم موات، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفى الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد: أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم.

[سورة النحل (16) : آية 74]
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74)
فلا تضربوا لله الأمثال تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به «1» ، لأن من يضرب الأمثال
__________
(1) . قال محمود: «تمثيل للاشراك بالله والتشبيه به ... الخ» قال أحمد: فعلى تفسيره الأول يكون قوله لله متعلقا بالأمثال، كأنه قيل: فلا تمثلوا الله ولا تشبهوه. وعلى الثاني يكون متعلقا بالفعل الذي هو تضربوا، كأنه قيل: فلا تمثلوا لله الأمثال، فان ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم، ليبين له ما خفى عنه، والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون، فتمثيل غير العالم للعالم عكس الحقيقة، والله أعلم.

(2/621)


ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75)

مشبه حالا بحال وقصة بقصة إن الله يعلم كنه ما تفعلون وعظمه، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم، لأن العقاب على مقدار الإثم وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه، فذاك هو الذي جركم إليه وجرأكم عليه، فهو تعليل للنهى عن الشرك. ويجوز أن يراد: فلا تضربوا لله الأمثال، إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون.

[سورة النحل (16) : آية 75]
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75)
ثم علمهم كيف تضرب فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان: مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء.
فإن قلت: لم قال مملوكا لا يقدر على شيء «1» وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف؟
قلت: أما ذكر المملوك فليميز من الحر، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا، لأنهما من عباد الله.
وأما لا يقدر على شيء فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له، لأنهما يقدران على التصرف.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم قال مملوكا لا يقدر على شيء ... الخ» قال أحمد: والقول بصحة ملكه هو مذهب الامام مالك رضى الله عنه. وفي هذه الآية له معتصم، لأن الله تعالى مثل بالمملوك لأنه مظنة العجز وعدم الملك والتصرف غالبا، ثم أفصح عن المعنى المقصود: وهو أن هذا المملوك ليس بمن اتفق أن ملكة سيده فملك وقدر، بل هو على الأصل المعهود في المماليك عاجز غير قادر، ولو لم يكن ملك العبد متصورا ومعهودا شرعا وعرفا، لكان قوله تعالى لا يقدر على شيء كالتكرار لما فهم من قوله عبدا مملوكا وقول القائل يقول إنه احتراز من المكاتب، بعيد من فصاحة القرآن: فانه لو كان العبد لا يصح منه ملك البتة إلا في حال الكتابة، لكانت إرادته حينئذ من إطلاق اللفظ، كالألغاز الذي لا يعهد مثله في بيان القرآن واستيلائه على صنوف البلاغة. ومثل هذا أنكره الامام أبو المعالي على من حمل قوله عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» على المكاتبة لبعد القصد إليها على شذوذها.
وأما الاحتراز به عن المأذون له فيبنى على القول بأن المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف، وإن لم يكن المأذون له مالكا عند هذا القائل. وهذا بعيد عن مطابقة قوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا فإنها توجب أن يكون المراد بقوله لا يقدر على شيء لا يملك شيئا من الرزق، كما تقول في الحر المفلس: فلان لا يقدر على شيء، أى لا يملك شيئا يقدر على التصرف فيه. فتلخص من هذا البحث أن في الآية مجالا لنصرة مذهب مالك، وإن كان لقائل أن يقول: هذه الصفة لازمة كالإيضاح لفائدة ضرب المثل بالمملوك، كأنه قيل: وإنما ضربنا المثل بالمملوك، لأن صفته اللازمة له وسمته المعروفة به، أنه لا يقدر على شيء. أى لا يصح منه ملك، وكثيرا ما يجيء الحال والصفة لا يقصد بواحد منهما تقييده ولا تخصيص، ولكن إيضاح وتفسير. ومن ذلك قوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فقوله لا برهان له به. لا يقصد به تمييز له سوى الله من «إله» لأن كل مدعو إلها غير الله تعالى، لا برهان به. وإنما أريد أن عدم البرهان من لوازم دعاء إله غير الله تعالى، فهذا أقصى ما يمكن أن ينتصر به للقائل بعدم صحة ملك العبد. ولنا أن نقول في دفعه أن الأصل في الصفة والحال وشبههما التخصيص والتقييد. وأما الوارد من ذلك لازما فنادر على خلاف الأصل، والله الموفق. [.....]

(2/622)


وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76) ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير (77)

واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصح له. فإن قلت: من في قوله ومن رزقناه ما هي؟ قلت: الظاهر أنها موصوفة، كأنه قيل: وحرا رزقناه، ليطابق عبدا. ولا يمتنع أن تكون موصولة. فإن قلت: لم قيل يستوون على الجمع؟ قلت: معناه:
هل يستوي الأحرار والعبيد؟

[سورة النحل (16) : آية 76]
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76)
الأبكم الذي ولد أخرس، فلا يفهم ولا يفهم وهو كل على مولاه أى ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله أينما يوجهه حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح هل يستوي هو ومن هو سليم الحواس نفاعا ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل والخير وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرئ: أينما يوجه، بمعنى أينما يتوجه، من قولهم: أينما أوجه ألق سعدا: وقرأ ابن مسعود:
أينما يوجه، على البناء للمفعول.

[سورة النحل (16) : آية 77]
ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير (77)
ولله غيب السماوات والأرض أى يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفى عليهم علمه. أو أراد بغيب السموات والأرض: يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم إلا كلمح البصر أو هو أقرب أى هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه.
ونحوه قوله: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون أى هو عنده دان وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه «1» ، إن الله على كل شيء قدير
__________
(1) . قوله «وأوحاه» أى: وأسرعه. أفاده الصحاح. (ع)

(2/623)


والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)

فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. ثم دل على قدرته بما بعده.

[سورة النحل (16) : آية 78]
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78)
قرئ أمهاتكم بضم الهمزة وكسرها، والهاء مزيدة في أمات، كما زيدت في أراق، فقيل: أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة قال:
أمهتى خندف وإلياس أبى «1»
لا تعلمون شيئا في موضع الحال. ومعناه: غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون، وسواكم وصوركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله وجعل لكم معناه:
وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقي إلى ما يسعدكم. والأفئدة في فؤاد، كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير، فجرت ذلك المجرى.

[سورة النحل (16) : آية 79]
ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)
قرئ: لم يروا، بالتاء والياء مسخرات مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية «2» لذلك. والجو: الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو والسكاك «3»
__________
(1) .
إنى لدى الحرب رخى اللبب ... معتزم الصولة عالى النسب
أمهتى خندف وإلياس أبى
لقصي بن كلاب بن مرة جد النبي صلى الله عليه وسلم. ورخى اللبب. رحب الصدر واسع البال. واللبب في الأصل جبل في صدر المطية يمنع الرحلة من الاستئخار، أطلق على ذلك للمجاورة. ومعتزم: مصمم. والصولة: تجشم المكروه واقتحامه. وزيادة الهاء في أمهة شاذ. وخندف، بكسر الخاء والدال: امرأة إلياس بن مضر، وهذا لقبها، واسمها ليلى. والخندفة: مشية كالهرولة. وإطلاق الأم والأب على الجدة والجد: مجاز لمطلق الأصالة.
(2) . قوله «والأسباب المواتية لذلك» في الصحاح آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة إذا وافقته والعامة تقول:
وأتيته. (ع)
(3) . قوله «والسكاك أبعد منه» في الصحاح السكاك والسكاكة الهواء الذي يلاقي أعنان السماء وفيه أيضا أعنان السماء صفائحها وما اعترض من أقطارها. والعنان بالفتح السحاب. (ع)

(2/624)


والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81)

أبعد منه، واللوح مثله ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته.

[سورة النحل (16) : آية 80]
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (80)
من بيوتكم التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها. والسكن: فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف بيوتا هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع تستخفونها ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل يوم ظعنكم ويوم إقامتكم أى يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها «1» ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا، على أن اليوم بمعنى الوقت ومتاعا وشيئا ينتفع به إلى حين إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى أن تموتوا. وقرئ: يوم ظعنكم، بالسكون.

[سورة النحل (16) : آية 81]
والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81)
مما خلق من الشجر وسائر المستظلات أكنانا جمع كن، وهو ما يستكن به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف سرابيل هي القمصان والثياب من الصوف والكتان «2» والقطن وغيرها تقيكم الحر لم يذكر البرد، لأن الوقاية من الحر أهم عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا. وقيل: ما يقي من الحر يقي من البرد «3» فدل ذكر الحر
__________
(1) . قال محمود: «المراد يخف عليكم حملها ونقلها ... الخ» قال أحمد: والتفسير الأول أولى، لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر. وأما المستوطن فغير مثقل، وما أحسن قول الزمخشري في يوم إقامتكم:
أن المراد خفة ضربها وسهولة ذلك عليهم، والله أعلم.
(2) . قال محمود: «هي القمصان والثياب من الصوف والكتان وغيرها ... الخ» قال أحمد: يعنى عند العرب وخصوصا قطان الحجاز، وهم الأصل في هذا الخطاب.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقيل إن ما بقي الحر بقي البرد فدل ذكره عليه» قال أحمد: والأول أظهر. ألا ترى إلى تقديم المنة بالظلال التي تقى من الضحا، في قوله تعالى جعل لكم مما خلق ظلالا فدل على أن الأهم عند المخاطبين وقاية الحر، فامتن الله عليهم بأعظم نعمه موقعا عندهم. وقول القائل «إن ما يقي الحر يقي البرد» مشهود عليه بالعرف، فان الذي يتقى به الحر من القمصان رقيقها ورفيعها، وليس ذلك من البوس البرد، بل لو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين- القيظ والبرد- لباس الآخر، يعد من الثقلاء.

(2/625)


فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83) ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون (85)

على البرد وسرابيل تقيكم بأسكم يريد الدروع والجواشن «1» والسربال عام يقع على كل ما كان من حديد وغيره لعلكم تسلمون أى تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له. وقرئ: تسلمون، من السلامة: أى تشكرون فتسلمون من العذاب. أو تسلم قلوبكم من الشرك. وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع.

[سورة النحل (16) : الآيات 82 الى 83]
فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83)
فإن تولوا فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعد ما أديت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب يعرفون نعمت الله التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله ثم ينكرونها بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم: هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وقيل: قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله. وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سببا في نيلها وأكثرهم الكافرون أى الجاحدون غير المعترفين. وقيل نعمت الله نبوة محمد عليه السلام، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عنادا، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.

[سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 85]
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون (85)
شهيدا نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق، والكفر والتكذيب ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار. والمعنى. لا حجة لهم، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر، وكذا عن الحسن ولا هم يستعتبون ولا هم يسترضون، أى: لا يقال لهم أرضوا ربكم:
لأن الآخرة ليست بدار عمل. فإن قلت: فما معنى ثم هذه؟ قلت: معناها أنهم يمنون «2» بعد
__________
(1) . قوله «والجواشن» في الصحاح: الجوشن الصدر. والجوشن الدرع. (ع)
(2) . قوله «يمنون» في الصحاح: منوته ومنيته إذا ابتليته. (ع)

(2/626)


وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون (87) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)

شهادة الأنبياء بما هو أطم منها، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة. وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره: واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ... الآية.

[سورة النحل (16) : الآيات 86 الى 87]
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون (87)
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم، فمعنى شركاؤنا آلهتنا التي دعوناها شركاء. وإن أرادوا الشياطين، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغى: وندعوا بمعنى نعبد. فإن قلت: لم قالوا إنكم لكاذبون وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت: لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة. والدليل عليه قول الملائكة كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، فهم المعبودون دوننا. أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك. وإن أريد بالشركاء الشياطين، جاز أن يكون «كاذبين» في قولهم إنكم لكاذبون كما يقول الشيطان: إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل وألقوا يعنى الذين ظلموا. وإلقاء السلم: الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا وضل عنهم وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أن لله شركاء، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم.

[سورة النحل (16) : آية 88]
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)
الذين كفروا في أنفسهم، وحملوا غيرهم على الكفر: يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم. وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها «1» أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بما كانوا يفسدون بكونهم مفسدين الناس بصدهم عن سبيل الله.
__________
(1) . قوله «حمتها» حمة العقرب بالتخفيف، والهاء عوض عن اللام وهي سمها. واما حمة الحر، فبالتشديد، وهي معظمه، أفاده الصحاح. (ع)

(2/627)


ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)

[سورة النحل (16) : آية 89]
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)
شهيدا عليهم من أنفسهم يعنى نبيهم، لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء على أمتك تبيانا بيانا بليغا ونظير «تبيان» «تلقاء» في كسر أوله، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟
قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقيل: وما ينطق عن الهوى. وحثا على الإجماع في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقد رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه، والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» «1» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد، مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء.

[سورة النحل (16) : آية 90]
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)
العدل هو الواجب، «2» لأن الله تعالى عدل فيه على عباده «3» فجعل ما فرضه عليهم واقعا
__________
(1) . أخرجه الدارقطني في المؤتلف من رواية سلام بن سليم عن الحرث بن غصن عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر مرفوعا. وسلام ضعيف. وأخرجه في غرائب مالك من طريق حميد بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في أثناء حديث: وفيه «فبأى قول أصحابى أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابى مثل النجم من أخذ بنجم منها اهتدى» وقال: لا يثبت عن مالك. ورواته دون مالك مجهولون. ورواه عبد بن حميد والدارقطني في الفضائل من حديث حمزة الحريري عن نافع عن ابن عمر. وحمزة اتهموه بالوضع. ورواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبى هريرة وفيه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وقد كذبوه. ورواه ابن طاهر من رواية بشر بن الحسين عن الزبير بن عدى عن أنس. وبشر كان متهما أيضا. وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس وجويبر متروك. ومن رواية جويبر أيضا عن حواب بن عبد الله مرفوعا وهو مرسل، قال البيهقي هذا المتن مشهور وأسانيده كلها ضعيفة. وروى في المدخل أيضا عن عمر ورفعه «سألت ربى فيما يختلف فيه أصحابى من بعدي. فأوحي إلى: يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هو عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى» وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد السهمي، وهو متروك.
(2) . قال محمود: «العدل: الواجب. والإحسان: الندب» قال أحمد: وفي جمعهما تحت الأمر ما يدل لمن قال إن صيغة الأمر- أعنى هذه المبنية من الهمزة والميم والراء لا صيغة أفعل- تتناول القبيلين بطريق التواطؤ وموضعها القدر المشترك بينهما من الطلب والله أعلم.
(3) . عاد كلامه. قال: «وإنما كان الواجب عدلا لأن الله تعالى عدل فيه على عباده ... الخ» قال أحمد:
وهذه وليجة من الاعتزال. ومعتقد المعتزلة استحالة تكليف ما لا يطاق لأنه ظلم وجور، وذلك على الله محال.
والحق والسنة أن كل قضاء الله عدل، وأن تكليف ما لا يطاق جائز عليه وعدل منه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون بل التكاليف كلها على خلاف الاستطاعة، على مقتضى توحيد أهل السنة، المعتقدين أن كل موجود بقدرة الله تعالى حدث ووجد، لا شريك له في ملكه، وكيف يكون شريكه عبدا مسخرا في قبضة ملكه، هذا هو التوحيد المحض.
وإذا كان العبد مكلفا بما هو من فعل الله، فهذا عين التكليف بما لا يطاق، ولكن ذلك عدل من الله تعالى، وحجته البالغة قائمة على المكلف بما خلقه له من التأتى والتيسر في الأفعال الاختيارية التي هي محال التكاليف،

(2/628)


تحت طاقتهم والإحسان الندب، وإنما علق أمره بهما جميعا، لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط «1» فيجبره الندب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- لمن علمه الفرائض فقال: والله لا زدت فيها ولا نقصت-: «أفلح إن صدق» «2» فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى الله عليه وسلم «استقيموا ولن تحصوا» «3» فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط ممن النوافل. والفواحش: ما جاوز حدود الله والمنكر ما تنكره العقول «4» والبغي طلب التطاول بالظلم، «5» وحين أسقطت من الخطب «6» لعنة الملاعين على أمير المؤمنين على رضى الله عنه، أقيمت هذه الآية مقامها. ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكرا وبغيا، ضاعف الله لمن سنها غضبا ونكالا وخزيا، إجابة لدعوة نبيه:
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وإنما قرنهما في الأمر، لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب ...
الخ» قال أحمد: وهذه نكتة حسنة يجاب بها عن قول القائل: لم حكم عليه الصلاة والسلام بفلاح المصر على ترك السنن، فيقال: المحكوم بفلاحه لأجله إنما هو الصدق في سلامة الفرائض من خلل النقص والزيادة، والله أعلم. [.....]
(2) . متفق عليه من رواية طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضى الله عنهم.
(3) . أخرجه ابن ماجة والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي وأبو يعلى من رواية سالم بن أبى الجعد عن ثوبان. وهو منقطع. ورواه ابن حبان والطبراني من وجه آخر عن ثوبان. ورواه الحاكم من رواية الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. ورواه الطبراني والعقيلي من حديث سلمة بن الأكوع وفيه الواقدي. وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والبزار والطبراني عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، وليث ضعيف. وأشار البزار إلى أنه تفرد به.
(4) . عاد كلامه. قال: «والفواحش ما جاوز حدود الله، والمنكر ما تنكره العقول» قال أحمد: وهذه أيضا لفتة إلى الاعتزال، ولو قال: والمنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق، ولكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، والله الموفق.
(5) . عاد كلامه. قال: «والبغي طلب التطاول بالظلم» قال أحمد: وأصل موضوعه الطلب، ومنه ابتغاء وجه الله، ابتغاء مرضاة الله، ولكن صار مطلقه خاصا بطلب الظلم عرفا.
(6) . عاد كلامه. قال: «وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجه ... الخ» قال أحمد: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهناة، لاحظ التطبيق بين ذكر النهى عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد: في أن المناصب لعلى باغ، حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعمار وكان من حزب على:
تقتلك الفئة الباغية، والله أعلم، فقتل مع على يوم صفين.

(2/629)


وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92)

«وعاد من عاداه» «1» وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون.

[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 92]
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92)
عهد الله: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله. ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها أى بعد توثيقها باسم الله. وأكد ووكد: لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل كفيلا شاهدا ورقيبا، لأن الكفيل
__________
(1) . هذا طرف من حديث غدير خم الوارد في فضل على بن أبى طالب رضى الله عنه. وقد أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن الطفيل عن زيد بن أرقم. وفيه هذا اللفظ.
ورواه النسائي أيضا من رواية شريك: قلت لأبى إسحاق: أسمعت البراء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قال: نعم. وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من وجه آخر عن شريك عن إدريس بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبى هريرة وتابعه عكرمة بن إبراهيم عن إدريس عند الطبراني، ورواه الطبري أيضا من طريق سليمان بن قوم عن أبى إسحاق عن حبشي بن جنادة. وأخرجه النسائي أيضا من طريق مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم «أخذ بيد على يوم غدير خم فقال: من كنت وليه فهذا وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وأخرجه الحاكم من رواية مسلم الملائى عن حثمة بن عبد الرحمن عن سعد بن مالك نحوه وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني من طريق عطية عنه والبزار من طريق جميل بن عمارة عن سالم عن أبيه وعن أنس وغيره أخرجه الطبراني في الصغير من رواية طلحة بن مصرف عن عميرة بن سعد قال: شهدت عليا على المنبر ناشد الصحابة: من سمعه يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشرة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس» وعن جرير أخرجه الطبراني مطولا: وعن طلحة أخرجه الحاكم من رواية رفاعة بن إياس العمى عن أبيه عن جده قال «كنا مع على يوم الجمل فبعث إلى طلحة فقال له: نشدتك الله، ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- فذكره، فقال: نعم. قال:
فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكره وانصرف طلحة» وعن جابر أخرجه أبو يعلى، والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن قبيصة بن ذؤيب وأبى سلمة عن جابر، وعن حذيفة بن أسيد أخرجه الطبراني وجمع ابن عقدة طرف حديث غدير خم. فأخرجه من رواية جماعة آخرين من الصحابة مع هؤلاء: منهم عمار بن ياسر، والعباس وابنه، والحسن بن على والحسين بن على، وعبد الله بن جعفر، وسلمان الفارسي، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن حارثة. وأبو رافع، وزيد بن ثابت الأنصارى، ويعلى بن مرة وآخرون.

(2/630)


ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون (93)

مراع لحال المكفول به مهيمن عليه ولا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث فتله. قيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن تتخذون حال ودخلا أحد مفعولي اتخذ. يعنى: ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا بينكم أى مفسدة ودغلا «1» أن تكون أمة بسبب أن تكون أمة يعنى جماعة قريش هي أربى من أمة هي أزيد عددا وأوفر مالا. من أمة من جماعة المؤمنين إنما يبلوكم الله به الضمير لقوله: أن تكون أمة، لأنه في معنى المصدر، أى: إنما يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحيل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ وليبينن لكم إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.

[سورة النحل (16) : آية 93]
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون (93)
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، «2» وهو قادر على ذلك ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء وهو أن يخذل من علم أنه يختار «3» الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان.
يعنى: أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله ولتسئلن عما كنتم تعملون
__________
(1) . قوله «ودغلا» في الصحاح «الدغل» بالتحريك: الفساد، مثل الدخل (ع)
(2) . قال محمود: «معناه على طريقة الإلجاء والقسر» قال أحمد: وهذا تفسير اعتزالى قد قدم أمثاله في أخوات هذه الآية، وغرضه الفرار من الحق المستفاد من تعليق المشيئة بلو، الدالة على أن مشيئة الله تعالى لايمان الخلق كلهم ما وقعت، وأنه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فايمان وكفر، وتصدق وتكذيب كما وقع منهم، ولو شاء شمولهم بالايمان لوقع، فيصادم الزمخشري هذا النص ويقول: قد شاء جعلهم أمة واحدة حنيفة مسلمة، ولكن لم يقع مراده. فإذا قيل له: فعلام تحمل المشيئة في الآية؟ قال: على مشيئة إيمانهم قسرا لا اختيارا، وهذه المشيئة لم تقع اتفاقا.
(3) . قوله «وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة، فالاضلال:
خلق الضلال في القلب، لأنه يجوز على الله خلق الشر عندهم دون المعتزلة، كما بين في محله. (ع)

(2/631)


ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم (94) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96)

ولو كان هو المضطر إلى الضلال «1» والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه «2» .

[سورة النحل (16) : آية 94]
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم (94)
ثم كرر النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيدا عليهم وإظهارا لعظم ما يركب منه فتزل قدم بعد ثبوتها فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وتذوقوا السوء في الدنيا بصدودكم عن سبيل الله وخروجكم من الدين. أو بصدكم غيركم، لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها ولكم عذاب عظيم في الآخرة.

[سورة النحل (16) : آية 95]
ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون (95)
كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان- لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد- أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم الله، ولا تشتروا ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنا قليلا عرضا من الدنيا يسيرا، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا إنما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة خير لكم.

[سورة النحل (16) : آية 96]
ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96)
ما عندكم من أعراض الدنيا ينفد وما عند الله من خزائن رحمته باق لا ينفد.
وقرئ لنجزين بالنون والياء الذين صبروا على أذى المشركين ومشاق الإسلام. فإن
__________
(1) . قوله «ولو كان هو المضطر إلى الضلال» على معنى اسم الفاعل، أى الذي يضطر العباد ويلجئهم. وقوله «لما أثبت ... الخ» مسلم، ولكنه لم يضطرهم ولم يلجئهم ولو كان هو الخالق لأعمالهم في الحقيقة، لما لهم فيها من الكسب كما قرره أهل السنة في علم التوحيد، فلينظر. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال محمود: ومما يدل على أن الله لم يبن الأمر على الإجبار وإنما بناه على الاختيار قوله تعالى ولتسئلن عما كنتم تعملون ولو كان هو المضطر للهداية والضلال لما أثبت لهم ما يسألون عنه» قال أحمد:
أما أهل السنة الذين يسميهم المصنف مجبرة فهم من الإجبار بمعزل، لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا، وهم مع ذلك يوحدون الله حق توحيده، فيجعلون قدرته تعالى هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، تمييزا بين الاختياري والقسري وتقوم بها حجة الله على عبده، والله الموفق.

(2/632)


من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)

قلت: لم وحدت القدم ونكرت؟ «1» قلت: لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟

[سورة النحل (16) : آية 97]
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97)
فإن قلت: من متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين، ليعم الموعد النوعين جميعا حياة طيبة يعنى في الدنيا وهو الظاهر، لقوله ولنجزينهم وعده الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا إن كان موسرا، فلا مقال فيه. وإن كان معسرا، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله. وأما الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسرا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحياة الطيبة: الرزق الحلال.
وعن الحسن: القناعة. وعن قتادة: يعنى في الجنة. وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.

[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله إيذانا بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وكقولك: إذا أكلت فسم الله. فإن قلت: لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوى وملابسة ظاهرة. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم وحدت القدم ونكرت ... الخ» قال أحمد: ومن جنس إفادة التنكير هاهنا التقليل: إفادته له في قوله تعالى وتعيها أذن واعية وفي قوله عز وجل اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد فنكر الأذن والنفس تقليلا للواعى من الناس لما يقضى بسداده، وللناظر من الخلق في أمر معاده، والله الموفق.

(2/633)


وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)

فقال لي: «يا ابن أم عبد. قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ» «1» ليس له سلطان أى تسلط وولاية على أولياء الله، يعنى:
أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته إنما سلطانه على من يتولاه ويطيعه به مشركون الضمير يرجع إلى ربهم. ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى:
بسببه وغروره ووسوسته.

[سورة النحل (16) : آية 101]
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101)
تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته. وهذا معنى قوله والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأن الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟
قلت: فيه أن قرآنا ينسخ بمثله وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأما الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.

[سورة النحل (16) : آية 102]
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)
في ينزل ونزله وما فيهما من التنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. وروح القدس جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال:
حاتم الجود وزيد الخير، والمراد الروح المقدس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدس: المطهر
__________
(1) . رواه الثعلبي مسلسلا عن شيخه أبى الفضل محمد بن جعفر الخزاعي إلى ابن مسعود. ورواه الواحدي في الوسيط عن الثعلبي.

(2/634)


ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103) إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون (105)

من المآثم. وقرئ: بضم الدال وسكونها بالحق في موضع الحال، أى نزله ملتبسا بالحكمة، يعنى أن النسخ من جملة الحق ليثبت الذين آمنوا ليبلوهم بالنسخ، حتى إذا قالوا فيه: هو الحق من ربنا والحكمة، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت. والتقدير: تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. وقرئ: ليثبت، بالتخفيف.

[سورة النحل (16) : آية 103]
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)
أرادوا بالبشر: غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب. وقيل: هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل عبدان: جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال: بل هو يعلمني.
وقيل: هو سلمان الفارسي. واللسان: اللغة. ويقال: ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا:
ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه. ومنه الملحد، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ردا لقولهم وإبطالا لطعنهم. وقرئ يلحدون بفتح الياء والحاء. وفي قراءة الحسن: اللسان الذي يلحدون إليه بتعريف اللسان.
فإن قلت: الجملة التي هي قوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ما محلها؟ قلت: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم. ومثله قوله الله أعلم حيث يجعل رسالته بعد قوله وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله.

[سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 105]
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون (105)
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله أى يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون لا يهديهم الله لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب إنما يفتري الكذب رد لقولهم إنما أنت مفتر يعنى: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يترقب عقابا عليه وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون أى هم

(2/635)


من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون (109)

الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون. أى أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب: أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر.

[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون (109)
من كفر بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله، على أن يجعل وأولئك هم الكاذبون اعتراضا بين البدل والمبدل منه. والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه.
واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال ولكن من شرح بالكفر صدرا أى طاب به نفسا واعتقده فعليهم غضب من الله ويجوز أن يكون بدلا من المبتدإ الذي هو أولئك على: ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو الكاذبون، على: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه. ويجوز أن ينتصب على الذم. وقد جوزوا أن يكون من كفر بالله شرطا مبتدأ، ويحذف جوابه، لأن جواب من شرح دال عليه، كأنه قيل: من كفر بالله فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب. روى أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه- ياسر وسمية- وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم: عذبوا، فأما سمية فقد ربطت بين بعيرين وو جيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل يا رسول الله، إن عمارا كفر، فقال: «كلا، إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: «مالك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي، أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه

(2/636)


ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110) يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111)

وأسلم، وحسن إسلامهما، وهاجرا «1» . فإن قلت: أى الأمرين أفضل، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت: بل فعل أبويه، لأن في ترك التقية والصبر على القتل إعزازا للإسلام. وقد روى أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فى؟
قال أنت أيضا، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فى؟
قال أنا أصم. فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له «2» » ذلك إشارة إلى الوعيد، وأن الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم وأولئك هم الغافلون الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.

[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111]
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110) يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111)
ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى:
إن ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم، كما يكون الملك الرجل لا عليه، فيكون محميا منفوعا غير مضرور من بعد ما فتنوا بالعذاب والإكراه على
__________
(1) . هكذا أورده الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وروى الحاكم من حديث زر عن ابن مسعود قال: «أول من أظهر إسلامه سبعة: فذكرهم إلى أن قال: فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد- الحديث» ورواه ابن سعد من طريق منصور عن مجاهد قال «أول من أظهر فذكر مثله- وزاد فجاء أبو جهل يشتم سمية ويرفث ثم طعنها فقتلها. فهي أول شهيد في الإسلام. قلت قوله صلى الله عليه وسلم «إن عمارا مليء إيمانا» رواه [بياض في الأصلين] وقوله «اختلط الايمان بلحمه ودمه» رواه [بياض في الأصلين] وقوله «إن عادوا لك فعد لهم» رواه [بياض في الأصلين] [.....]
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن «أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه وقال: إنى أصم، فأعاد عليه، فقال مثله، فأمر بقتله. وقال للآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت.
فقال: وما شأنك؟ فأخبره بقصته وقصة صاحبه فقال أما صاحبك فمضى على إيمانه. وأما أنت فأخذت بالرخصة.
وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر قال: سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين فذكره بنحوه. وذكر الواحدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان في الساقة. وذكروا أنه قطعه عضوا عضوا وأحرقه بالنار.

(2/637)


وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون (113)

الكفر. وقرئ فتنوا على البناء للفاعل، أى: بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمى وأشباهه من بعدها من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر يوم تأتي منصوب برحيم. أو بإضمار اذكر. فإن قلت: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول:
نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها كقوله هؤلاء أضلونا، ما كنا مشركين ونحو ذلك.

[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون (113)
وضرب الله مثلا قرية أى جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها مطمئنة لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف رغدا واسعا. والأنعم: جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع.
أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث. نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى:
«إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا «1» » . فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه «2» ؟ قلت:
__________
(1) . لم أجده هكذا.
(2) . قال محمود: «إن قلت الاذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحة إيقاع الاذاقة على اللباس ... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر، وقد نظر إليهما جميعا في قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى، وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها، ثم جاء ملاحظا الشراء المستعار قوله فما ربحت تجارتهم فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء، ثم جاء ملاحظا الحقيقة الأصلية المستعار لها قوله وما كانوا مهتدين فانه مجرد عن الاستعارة، إذ لو قيل أولئك الذين ضلوا وما كانوا مهتدين، لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه، كترشيح المجاز في بابه. ومنه:
إذا الشيطان قصع في قفاها ... تنفقناه بالحبل التؤام
فجعل الشيطان في قفاها قاصعا ثم نافقا، ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره، والشوط في هذا الفن البديع فطين، والله الموفق.

(2/638)


أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب: شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع «1» . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس: ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما، أحدهما:
أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه هاهنا. ونحوه قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال «2»
استعارة الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف «3» والنوال، لا صفة الرداء، نظر إلى المستعار له. والثاني:
أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله:
ينازعنى ردائى عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لى الشطر الذى ملكت يمينى ... ودونك فاعتجر منه بشطر «4»
__________
(1) . قوله «بما يدرك من الطعم المر والبشع» عبارة غيره: طعم المر والبشع، ولعله المر البشع بدون واو. (ع)
(2) . لكثير. والغمر: الكثير. وشبه العطاء بالرداء، لأنه يصون عرض صاحبه أو يستر فقر السائل، فاستعاره له على سبيل التصريحية وإضافة الغمر إليه تجريد، لأنه يلائم المشبه. هذا وقد يقال الغمر، يطلق على الماء الذي يغمر قامة المنغمس فيه، فيجوز أنه يشبه العطاء من حيث صونه عرض صاحبه بالرداء، فيكون استعارة مصرحة، وتكون إضافة الغمر إليه من إضافة المشبه به للمشبه، يجامع عموم كل ونفعه، والقرينة على كل ذلك قوله: إذا تبسم. شارعا في الضحك: غلقت لضحكته رقاب المال: يقال: غلق الرجل إذا ضجر وغضب، وغلق الرهن إذا ملكه المرتهن ولم يقدر صاحبه على فكه، وكانت تلك عادتهم. فالمعنى: إذا ضحك غضبت الأموال لعلها أنها ستؤخذ ويملكها غيره، أو ثبتت في أيدى السائلين وملكوها. ورقاب المال: مجاز مرسل، أى أعيانه.
(3) . قوله «ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف» في الصحاح الغمر الماء الكثير. وفيه «الاعتجار» لف العمامة على الرأس، وفيه «الضافي» السابغ. (ع)
(4) . استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما، كالشىء يتجاذبه اثنان. واستعار الرداء السيف بجامع حفظ كل لصاحبه وعدم الاستغناء عنه. والاعتجار ترشيح، ومعناه: التعمم أو التلفع، فهو ملائم الرداء. ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو: فاعل. ورويدك: اسم فعل، بمعنى أمهل، والكاف حرف خطاب، قاله الجوهري. وبالنظر لأصله فهو مصدر، والكاف مضاف إليه، وفيه التفات. وبكر:
أبو قبيلة. والشطر الذي ملكته يمينه: هو مقبض السيف. ودونك: اسم فعل بمعنى خذ» أى خذه فتلفع منه بالشطر الآخر وهو صدره، والأمر للاباحة، وفيه نوع تهكم»

(2/639)


فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب أليم (117)

أراد بردائه سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافى الرداء إذا تبسم ضاحكا وهم ظالمون في حال التباسهم بالظلم، كقوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرئ والخوف عطفا على اللباس، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أصله: ولباس الخوف. وقرئ: لباس الخوف والجوع.

[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 115]
فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115)
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، وصل بذلك بالفاء في قوله فكلوا صدهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب، وشكر إنعامه بذلك، وقال إن كنتم إياه تعبدون يعنى تطيعون. أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة، لأنها شفعاؤكم عنده. ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.

[سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117]
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب أليم (117)
وانتصاب الكذب بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحى من الله أو إلى قياس مستند إليه. واللام مثلها في قولك:
ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أى: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم،

(2/640)


وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119) إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122)

فتقول هذا حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب الكذب بتصف، وتجعل «ما» مصدرية، وتعلق هذا حلال وهذا حرام بلا تقولوا، على: ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أى: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته، كقولهم: ووجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر، وقرئ «الكذب» بالجر صفة لما المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى بدم كذب والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرئ «الكذب» جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابا، ذكره ابن جنى.
واللام في لتفتروا من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض متاع قليل خبر مبتدأ محذوف، أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.

[سورة النحل (16) : آية 118]
وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118)
ما قصصنا عليك يعنى في سورة الأنعام.

[سورة النحل (16) : آية 119]
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119)
بجهالة في موضع الحال، أى: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم من بعدها من بعد التوبة.

[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 122]
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122)
كان أمة فيه وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمة من الأمم «1» لكماله في جميع صفات
__________
(1) . قال محمود: «في قوله أمة وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمة من الأمم ... الخ» قال أحمد: ويقوى هذا الثاني قوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا أى كان أمة تؤمه الناس ليقتبسوا منه الخيرات ويقتفوا بآثاره المباركات، حتى أنت على جلالة قدرك قد أوحينا إليك أن اتبع ملته ووافق سبرته، والله أعلم.

(2/641)


الخير، كقوله:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد «1»
وعن مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار. والثاني: أن يكون أمة بمعنى مأموم، أى: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة «2» والنخبة، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله قال إني جاعلك للناس إماما وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعى عن ابن مسعود أنه قال: إن معاذا كان أمة قانتا لله، فقلت: غلطت، إنما هو إبراهيم. فقال: الأمة: الذي يعلم الخير. والقانت المطيع لله ورسوله «3» ، وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال- حين قيل له: ألا تستخلف؟ -: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته. ولو كان سالم حيا لاستخلفته فإنى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ومعاذ أمة قانت لله، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون، وسالم شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله لم يعصه «4» . وهو ذلك المعنى، أى: كان إماما في الدين، لأن الأئمة معلمو الخير.
__________
(1) .
قولا لهارون إمام الهدى ... عند احتفال المجلس الحاشد
أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواحد
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
لأبى نواس يعطف هرون الرشيد على الفضل البرمكي حين توعده بالقتل، غيرة منه لما سمع من نهايته في الكرم، وخاطب الاثنين تأسيا بعادة العرب، والاحتفال: الاجتماع. والحاشد الجامع، وعلى بمعنى مع، أى: أنت مع كونك في غاية الاقتدار لست واجدا مثل الفضل في العالم كله، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما فيه خبره من رائحة الشرط، أى: وإن كنت قادرا، ودخلت الباء في خبر ليس لتوكيد النفي، واستدل على ذلك بقوله: ليس مستنكرا على الله جمعه خصال العالم كلها في رجل واحد كالفضل، هذا ما يتبادر منه ظاهر النظم، لكنه خلاف مقتضى مقام الاستعطاف، فالمعنى ولا يكن منك غيرة من الفضل، فان كرمه بعض صفاتك، فان الله قادر على جمع صفات العالم كلها فيك، وقد فعل. ويروى: من الله بدل على الله. ويروى: بمستبدع، بدل بمستنكر.
(2) . قوله «كالرحلة» في الصحاح «الرحلة» بالضم: الوجه الذي تريده، وبالكسر: الارتحال. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية. من رواية علية عن منصور عن عبد الرحمن عن الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعى قال قال ابن مسعود. فذكره. لكن ليس فيه: فقلت له «غلطت» بل فيه فقيل له: إن ابراهيم. وفيه «وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير. وكان مطيعا لله ورسوله» ورواه الحاكم أيضا من رواية شعبة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال «إن معاذا كان أمة قانتا لله» فقال رجل من أشجع يقال له: فروة ابن نوفل: إنما ذاك ابراهيم. فقال عبد الله: إنا كنا نشبهه بإبراهيم- الحديث» وأخرجه عبد الرزاق. ومن طريق الحاكم قال أخبرنا الثوري عن فراس نحوه.
(4) . لم أجده

(2/642)


ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (124)

والقانت: القائم بما أمره الله. والحنيف: المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم شاكرا لأنعمه روى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا، فأخر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاما؟ فقال: الآن وجبت مواكلتكم شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم اجتباه اختصه واصطفاه للنبوة وهداه إلى صراط مستقيم إلى ملة الإسلام حسنة عن قتادة: هي تنوبه الله بذكره، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: الأموال والأولاد، وقيل: قول المصلى منا: كما صليت على إبراهيم لمن الصالحين لمن أهل الجنة.

[سورة النحل (16) : آية 123]
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)
ثم أوحينا إليك في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله»
صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجل ما أولى من النعمة: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.

[سورة النحل (16) : آية 124]
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (124)
السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه.
والمعنى في ذكر ذلك، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا، وغير ما ذكر، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت:
ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعا محلين أو محرمين؟ قلت: معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: «وفي ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ... الخ» قال أحمد:
وإنما تفيد ذلك ثم لأنها في أصل وضعها لتراخى المعطوف عليه في الزمان، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا وأرفع رتبة وأبعد رفعة، وهو أن النبي الأمى الذي هو سيد البشر متبع لملة إبراهيم، مأمور باتباعه بالوحي، متلو أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا، لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه، والله الموفق للصواب.

(2/643)


ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)

فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى ووجه آخر: وهو أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شر ذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة، فكانوا لا يصيدون فيه، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك، وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازى كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت: فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه. وقرئ: إنما جعل السبت، على البناء للفاعل. وقرأ عبد الله: إنا أنزلنا السبت.

[سورة النحل (16) : آية 125]
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)
إلى سبيل ربك إلى الإسلام بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة والموعظة الحسنة وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوز أن يريد القرآن، أى: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بالتي هي أحسن بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف إن ربك هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.

[سورة النحل (16) : الآيات 126 الى 128]
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)
سمى الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة. والمعنى: إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرئ: وإن عقبتم فعقبوا، أى: وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم.
روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد: بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحدا غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به، وروى:

(2/644)


فرآه مبقور البطن فقال: «أما والذي أحلف به، لئن أظفرنى الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك «1» » فنزلت، فكفر عن يمينه وكف عما أراده، ولا خلاف في تحريم المثلة. وقد وردت الأخبار بالنهى عنها «2» حتى بالكلب العقور. إما أن رجع الضمير في لهو إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم. ويراد بالصابرين: المخاطبون، أى: ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة. وإما أن يرجع إلى جنس الصبر- وقد دل عليه صبرتم- ويراد بالصابرين جنسهم، كأنه قيل: وللصبر خير للصابرين. ونحوه قوله تعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله، وأن تعفوا أقرب للتقوى ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم واصبر أنت فعزم عليه بالصبر وما صبرك إلا بالله أى بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك ولا تحزن عليهم أى على الكافرين، كقوله فلا تأس على القوم الكافرين أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون ولا تك في ضيق وقرئ: ولا تكن في ضيق، أى: ولا يضيقن صدرك من مكرهم. والضيق: تخفيف الضيق، أى في أمر ضيق. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين، كالقيل والقول إن الله مع الذين اتقوا أى هو ولى الذين اجتنبوا المعاصي وولى الذين هم محسنون في أعمالهم. وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين احتضر: أوص.
فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» «3»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بغير سند. وقصة حمزة أخرجها البزار والطبراني من رواية سليمان التيمي عن ابن عثمان عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوم أحد إلى حمزة وقد قتل ومثل به. فرأى منظرا لم يرقط أوجع لقلبه منه. وذكر باقى الحديث أتم مما ذكره هنا ورواية صالح فهو عن سليمان. وصالح ضعيف. وله طريق أخرى أخرجها الدارقطني من رواية إسماعيل بن عباس قال «لما انصرف المشركون عن قتلى أحد فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه حمزة منظرا أساءه، وقد شق بطنه واصطلم أنفه- فذكر القصة «وفيها: لأمثلن مكانه بسبعين رجلا. وذكر الصلاة عليه وعلى القتلى. قال: فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الآية فصبر ولم يمثل بأحد» قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل وهو ضعيف عن غير الشاميين، قلت: وأما أول الكلام فذكره. [.....]
(2) . قلت روى ذلك عن جماعة من الصحابة.
(3) . رواه الثعلبي وابن مردويه. وقد تقدم سنده في آل عمران.

(2/645)


سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)

سورة الإسراء
(مكية [إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57، ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية] وآياتها 111 [نزلت بعد القصص] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الإسراء (17) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)
سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره:
أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله «1» . وأسرى وسرى لغتان. وليلا نصب على الظرف.
فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟ «2» قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير: تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله
__________
(1) . قوله «القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» يريد بهم أهل السنة القائلين بأنه تعالى هو الخالق لجميع الحوادث من أفعال العباد وغيرها، خيرا كانت أو شرا، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لفعل نفسه حتى يكون مقدورا له، فيصح تكليفه به، ولكن استند أهل السنة لمثل قوله تعالى الله خالق كل شيء والله خلقكم وما تعملون وهذا لا ينافي اختيار العباد في أفعالهم، لأنهم أثبتوا لهم الكسب فيها، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: الاسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل ... الخ» ؟ قال أحمد وقد قرن الاسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا، كقوله فأسر بأهلك بقطع من الليل وكقوله تعالى فأسر بعبادي ليلا فالظاهر- والله أعلم- أن الغرض من ذكر الليل وإن كان الاسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع، وكأن الاسراء لما دل على أمرين، أحدهما: السير، والآخر: كونه ليلا. أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب، وتنبيها على أنه مقصود بالذكر. ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموما لغيره قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد، فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إنما هو إله واحد ولو اقتصر على قوله إنما هو إله لأوهم أن المهم إثبات الالهية له، والغرض من الكلام ليس إلا الإثبات للوحدانية، والله أعلم.

(2/646)


وحذيفة: من الليل، أى: بعض الليل، كقوله ومن الليل فتهجد به نافلة يعنى الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل: هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل عليه السلام بالبراق «1» » وقيل: أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد. وروى أنه كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به «2» ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ، وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر بنى كعب بن لؤي، هلم فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا.
وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبى بكر رضى الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إنى لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمى الصديق.
وفيهم من سافر إلى ما ثم، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال:
تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشا أيضا بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقى الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» «3» وعن معاوية: إنما عرج بروحه. وعن الحسن، كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر
__________
(1) . متفق عليه من حديث مالك بن صعصعة مطولا.
(2) . ذكره الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وكأنه من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه، ثم رأيته من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. أخرجه الحاكم والبيهقي عنه. لكن لم يسبق لفظه، وقد رواه النسائي باختصار عن هذا من رواية عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس. وأورده ابن سعد وأبو يعلى والطبراني من حديث أم هانئ مطولا.
(3) . قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني بعض آل أبى بكر عن عائشة بهذا «لكن أسرى» بدل «عرج» قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة عن ابن معاوية قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

(2/647)


وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)

الأقاويل بخلاف ذلك. والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد باركنا حوله يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحى، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقرأ الحسن: ليريه بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم «فقيل: أسرى ثم باركنا ثم ليريه، على قراءة الحسن، ثم من آياتنا، ثم إنه هو، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة إنه هو السميع لأقوال محمد البصير بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)
ألا تتخذوا قرئ بالياء على: لئلا يتخذوا، وبالتاء على: أى لا تتخذوا، كقولك:
كتبت إليه أن أفعل كذا وكيلا ربا تكلون إليه أموركم ذرية من حملنا نصب على الاختصاص. وقيل: على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهى، يعنى: قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مع نوح وقد يجعل وكيلا ذرية من حملنا مفعولي تتخذوا، أى لا تجعلوهم أربابا كقوله ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام. وقرئ ذرية من حملنا بالرفع بدلا من واو تتخذوا وقرأ زيد بن ثابت: ذرية، بكسر الذال. وروى عنه أنه قد فسرها بولد الولد، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق إنه إن نوحا كان عبدا شكورا قيل: كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنى، ولو شاء أجاعنى. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأنى. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كسانى، ولو شاء أعرانى. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى، ولو شاء أحفانى. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى أذاه في عافية، ولو شاء حبسه. وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره به. فإن قلت: قوله إنه كان عبدا شكورا ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت: كأنه قيل: لا تتخذوا من دوني وكيلا، ولا تشركوا بى، لأن نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم.
ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد.

(2/648)


وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 6]
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6)
وقضينا إلى بني إسرائيل وأوحينا إليهم وحيا مقضيا، أى مقطوعا مبتوتا بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أى: يتعظمون ويبغون في الكتاب في التوراة، ولتفسدن جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجرى القضاء المبتوت مجرى القسم، فيكون لتفسدن جوابا له، كأنه قال: وأقسمنا لتفسدن. وقرئ: لتفسدن، على البناء للمفعول. ولتفسدن، بفتح التاء من فسد مرتين أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم عبادا لنا وقرئ عبيدا لنا. وأكثر ما يقال:
عباد الله وعبيد الناس: سنحاريب وجنوده «1» وقيل بخت نصر. وعن ابن عباس: جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفا. فإن قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة «2» على ذلك ويسلطهم عليه «3» . قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، على أن الله عز وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه، فهو كقوله تعالى وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء. وقرئ: فجوسوا. وخلل الديار. فإن قلت:
ما معنى وعد أولاهما؟ قلت: معناه وعد عقاب أولاهما وكان وعدا مفعولا يعنى:
وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل ثم رددنا لكم الكرة أى الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل: هي قتل بخت نصر واستنقاذ بنى إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وقيل: هي قتل داود جالوت أكثر نفيرا مما كنتم.
__________
(1) . قوله «سنحاريب وجنوده» كان ملك بابل، وبخت نصر هو ابن ابنه، وكان من كتابه. وكذا في الخازن. (ع)
(2) . قوله «فان قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك» مبنى على أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة كل كائن فهو فعله ومراده ولو شرا، فلا سؤال. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يبعث الله الكفرة ... الخ» قال أحمد: هذا السؤال إنما يتوجه على قدرى يوجب على الله تعالى بزعمه رعاية ما يتوهمه بعقله مصلحة، وأما السنى إذا سئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله لا يسئل عما يفعل والله الموفق.

(2/649)


إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8)

والنفير، من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نفر كالعبيد والمعيز.

[سورة الإسراء (17) : آية 7]
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7)
أى الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن على رضى الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها فإذا جاء وعد المرة الآخرة بعثناهم «1» ليسوؤا وجوهكم حذف لدلالة ذكره أولا عليه. ومعنى ليسوؤا وجوهكم ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله سيئت وجوه الذين كفروا وقرئ: ليسوء والضمير لله تعالى، أو للوعد، أو للبعث. ولنسوء: بالنون. وفي قراءة على: لنسوأن: وليسوأن وقرئ لنسوأن، بالنون الخفيفة. واللام في ليدخلوا على هذا متعلق بمحذوف وهو:
وبعثناهم ليدخلوا. ولنسوأن: جواب إذا جاء ما علوا مفعول ليتبروا، أى ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى: مدة علوهم.

[سورة الإسراء (17) : آية 8]
عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8)
عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي وإن عدتم مرة ثالثة عدنا إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن: عادوا فبعث الله محمدا، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحى من العرب، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة حصيرا محبسا يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن:
بساطا كما يبسط الحصير المرمول «2»
__________
(1) . قوله: فإذا جاء وعد المرة الآخرة بعثناهم: أى عبادنا وهم في هذه المرة، الفرس والروم، بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خروش. حتى دخل الشام بجنود فقتل وسبى، حتى كاد يفنى بنى إسرائيل، وبقي منهم بقايا حتى كثروا، وكانت لهم الرياسة في بيت المقدس إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس بن أسبيانوس الرومي فخرب بلادهم وطردهم عنها، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب، فعمره المسلمون بأمره. اه من الخازن. (ع)
(2) . قوله كما يبسط الحصير المرمول» أى المنسوج، أفاده الصحاح. (ع)

(2/650)


إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (11)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 10]
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10)
للتي هي أقوم للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرئ: ويبشر، بالتخفيف، فإن قلت: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقى، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة «1» بين المنزلتين بعد ذلك. فإن قلت: علام عطف وأن الذين لا يؤمنون؟ قلت:
على أن لهم أجرا كبيرا على معنى: أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابهم، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون.

[سورة الإسراء (17) : آية 11]
ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (11)
أى: ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، كما يدعوه لهم بالخير، كقوله ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير. وكان الإنسان عجولا يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا، فأقبل يئن بالليل، فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم «2» القد، فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلى رحمة لأنى بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها «3» » ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة. وكان
__________
(1) . قوله «وإنما حدث أصحاب المنزلة» يعنى الفسقة. وإثبات الواسطة مذهب المعتزلة دون أهل السنة، فان الفسق لا يزيل الايمان عندهم. (ع)
(2) . قوله «فشكا ألم القد» في الصحاح «القد» بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع) [.....]
(3) . لم أجده من هذه الجهة. وقد أخرجه الواقدي في المغازي من رواية ذكوان عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير، وقال لها: احتفظي به. قالت: فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر. فدخل يسأل عنه فقلت والله ما أدرى. فقال: قطع الله يدك، فذكر نحو ما تقدم. ورويناه في الجزء التاسع من حديث المخلص تخريج البقال. قال: حدثنا ابن أبى داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن ابن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان بهذا.

(2/651)


وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (12) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14)

الإنسان عجولا: يعنى أن العذاب آتيه لا محالة، فما هذا الاستعجال، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو النضر بن الحرث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية، فأجيب له، فضربت عنقه صبرا.

[سورة الإسراء (17) : آية 12]
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا (12)
فيه وجهان، أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر. فمحونا آية الليل: أى جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو، وجعلنا النهار مبصرا أى تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء لتبتغوا فضلا من ربكم لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم ولتعلموا باختلاف الجديدين عدد السنين وجنس الحساب وما تحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات، ولتعطلت الأمور وكل شيء مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فصلناه بيناه بيانا غير ملتبس، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 14]
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14)
طائره عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة: هو من قولك:
طار له سهم، إذا خرج، يعنى: ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه، ومنه مثل العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك: وقرئ في عنقه بسكون النون. وقرئ نخرج بالنون. ويخرج، بالياء، والضمير لله عز وجل.
ويخرج، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج، والضمير للطائر. أى: يخرج الطائر كتابا، وانتصاب كتابا على الحال. وقرئ: يلقاه، بالتشديد مبنيا للمفعول. ويلقاه منشورا

(2/652)


من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)

صفتان للكتاب. أو يلقاه صفة ومنشورا حال من يلقاه اقرأ على إرادة القول. وعن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وبنفسك فاعل كفى. وحسيبا تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه. وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا. ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدى بعلى لأن الشاهد يكفى المدعى ما أهمه. فإن قلت: لم ذكر حسيبا؟ قلت: لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا. ويجوز أن يتأول النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس. وكان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك.

[سورة الإسراء (17) : آية 15]
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)
أى: كل نفس حاملة وزرا، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى وما كنا معذبين وما صح منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب «1» قوما إلا بعد أن نبعث إليهم رسولا فتلزمهم الحجة. فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الايمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا:
كنا غافلين فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل.

[سورة الإسراء (17) : آية 16]
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)
__________
(1) . قال محمود: «معناه وما صح مناصحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوما حتى تلزمهم الحجة ببعث الرسول ...
الخ» قال أحمد: وهذا السؤال أيضا إنما يتوجه على قدرى يزعم أن العقل يرشد إلى وجوب النظر وإلى كثير من أحكام الله تعالى، وإن لم يبعث رسول فيكلف بعقله ويرتب على ترك امتثال التكليف استيجاب العذاب، إذ العقل كاف عندهم في إيجاب المعرفة بل في جميع الأحكام، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. وأما السنى فلا يتوجه عليه هذا السؤال، فان العقل عنده شرط في وجوب عموم الأحكام، ولا تكليف عنده قبل ورود الشرائع وبعث الأنبياء، وحينئذ يثبت الحكم وتقوم الحجة، كما أنبأت عنه هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نعم العقل عمدة في حصول المعرفة لا في وجوبها، وبين الحصول والوجوب بون بعيد، والله الموفق.

(2/653)


وإذا أردنا
وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم «1» ففسقوا
أى أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم:
افسقوا، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازا «2» ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض.
يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمرى. لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأمورا به، وكأنه يقول: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطى ويمنع، ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصح ذلك، لأن قوله ففسقوا
يدافعه، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعى إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه، ونظير «أمر» شاء: في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد: لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت- وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة- لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم أمرنا
بكثرنا، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته
__________
(1) . قوله «أمرناهم ففسقوا» في النسفي: أمرنا مترفيها: متنعميها وجبابرتها. (ع)
(2) . قال محمود: «حقيقة أمرهم أن يقول لهم: افسقوا. ولا يكون هذا، فقى أن يكون مجازا ... الخ» قال أحمد: نص حسن إلا قوله أنهم خولوا النعم ليشكروا، فانه فرعه، على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر، ففسقوا وكفروا على خلاف الأمر، والأمر غير الارادة على قاعدة أهل الحق، والله الموفق.

(2/654)


وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)

ففعل. كثبرته فثبر. وفي الحديث: «خير المالك سكة «1» مأبورة ومهرة مأمورة «2» » أى كثيرة النتاج. وروى أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أرى أمرك هذا حقيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيأمر «3» . أى سيكثر وسيكبر.

[سورة الإسراء (17) : آية 17]
وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17)
وقرئ: آمرنا من أمر وأمره غيره. وأمرنا بمعنى أمرنا، أو من أمر إمارة، وأمره الله.
أى: جعلناهم أمراء وسلطناهم كم مفعول أهلكنا ومن القرون بيان لكم وتمييز له، كما يميز العدد بالجنس، يعنى عاد وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا. ونبه بقوله وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 19]
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة «4» ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال: ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأما
__________
(1) . قوله «كثبرته فثبر، وفي الحديث خير المال سكة مأبورة» في الصحاح «ثبرته» أى حبسته. وفيه «السكة» الطريقة من النخل. وفيه «أبر نخله» أى لقحه وأصلحه. (ع)
(2) . أخرجه حميد وإسحاق وابن أبى شيبة والحرث والطبراني وأبو عبيد من رواية مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير مال المرء ميرة مأمورة أو سكة مأثورة. قال ابن إسحاق ومعه النضر بن شميل وغيره يرفعه.
(3) . لم أجده.
(4) . قال محمود: «أى من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ... الخ» قال أحمد: ومثل ذلك التقييد ورد في الآية الأخرى، وهو قوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب فأدخل «من» المبعضة على حرث الدنيا، ونحل الطالب حرث الآخرة مراده، وزاد عليه.

(2/655)


كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21)

المؤمن التقى فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالى: أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتى فيها وإلا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده. وقوله لمن نريد بدل من له، وهو بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة. وقرئ:
يشاء. وقيل: الضمير لله تعالى، فلا فرق إذا بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد، على أن للعبد ما يشاء من الدنيا، وأن ذلك لواحد من الدهماء «1» يريد به الله ذلك. وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة، كالمنافق، والمرائى، والمهاجر للدنيا، والمجاهد للغنيمة والذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه «2» » مدحورا مطرودا من رحمة الله سعيها حقها من السعى وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعى مشكورا: إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعى فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدمين: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله:
الثواب على الطاعة.

[سورة الإسراء (17) : آية 20]
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20)
كلا كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه نمد هم: نزيدهم من عطائنا، ونجعل الآنف منه مددا للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل وما كان عطاء ربك وفضله محظورا أى ممنوعا، لا يمنعه من عاص لعصيانه

[سورة الإسراء (17) : آية 21]
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21)
انظر بعين الاعتبار كيف جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروى أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضى الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق على أبى سفيان، فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر
__________
(1) . قوله «لواحد من الدهماء» في الصحاح «دهماء الناس» جماعتهم. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عمر.

(2/656)


لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)

لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ: وأكثر تفضيلا. وعن بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟

[سورة الإسراء (17) : آية 22]
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)
فتقعد من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت، كأنها حربة بمعنى صارت، يعنى: فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 24]
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)
وقضى ربك وأمر أمرا مقطوعا به ألا تعبدوا أن مفسرة ولا تعبدوا نهى. أو بأن لا تعبدوا وبالوالدين إحسانا وأحسنوا بالوالدين إحسانا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وقرئ: وأوصى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ووصى. وعن بعض ولد معاذ بن جبل:
وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته إما هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيدا يكرمك، ولكن إما تكرمنه.
وأحدهما فاعل يبلغن، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين.
وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان كلاهما، كان كلاهما توكيدا لا بد لا، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل:
كلاهما، فحسب، فلما قيل: أحدهما أو كلاهما، علم أن التوكيد غير مراد، فكان بدلا مثل الأول أف صوت يدل على تضجر. وقرئ: أف، بالحركات الثلاث منونا وغير منون: الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم، والضم إتباع كمنذ. فإن قلت: ما معنى عندك؟
قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلا عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية

(2/657)


بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة ولا تنهرهما ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهى والنهر والنهم: أخوات وقل لهما بدل التأفيف والنهر قولا كريما جميلا، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة. وقيل:
هو أن يقول: يا أبتاه، يا أماه، كما قال إبراهيم لأبيه: يا أبت، مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعار «1» . قالوا: ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضى الله عنها: نحلنى أبو بكر كذا «2» . وقرئ: جناح الذل، والذل: بالضم والكسر فإن قلت: ما معنى قوله جناح الذل؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك كما قال واخفض جناحك للمؤمنين فأضافه إلى الذل أو الذل، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحا خفيضا، كما جعل لبيد للشمال «3» يدا، وللقوة زماما، مبالغة في التذلل والتواضع لهما من الرحمة من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فان قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت: وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الايمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد، ومن الناس من قال: كان الدعاء للكفار جائزا ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار. ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبى صلى الله عليه وسلم «رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما «4» » وروى «يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل
__________
(1) . قوله «وسوء الأدب وعادة الدعار» من الدعارة وهي الفسق والخبث والفساد. كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه في الموطأ عن الزهري عن عائشة قالت «إن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا من ماله بالعالية.
فلما حضرته الوفاة. قال: ما من الناس أحب إلى منك» .
(3) . قوله «كما جعل لبيد الشمال يدا» في قوله:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (ع)
(4) . أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: روى موقوفا. ورواه البزار وقال: لا نعلم أحدا أسنده إلا خالد بن الحرث. وفيه نظر، لأن الحاكم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة مرفوعا وكذا أخرجه الطبراني والبيهقي من رواية القاسم بن سليم عن شعبة مرفوعا. وللبيهقي أيضا من رواية الحسين بن الوليد عن شعبة مرفوعا. قال: وروينا أيضا من رواية أبى إسحاق الفزاري وزيد بن أبى الرها وغيرهم مرفوعا. ورواية أبى إسحاق عند أبى يعلى. وقال البخاري. في الأدب المفرد: حدثنا آدم بن أبى إياس حدثنا شعبة فذكره موقوفا وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار وقال: تفرد به عصمة بن محمد الأنصارى عن يحيى بن سعيد. [.....]

(2/658)


العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة «1» » وروى سعيد بن المسيب: إن البار لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوى بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا منى في الصغر، فهل قضيتهما؟ قال: لا، فإنهما كان يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما»
. وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوى، وفقيرا وأنا غنى، فكنت لا أمنعه شيئا من مالى، واليوم أنا ضعيف وهو قوى، وأنا فقير وهو غنى، ويبخل على بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد:
أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك «3» . وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال «4» : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟
قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جزيتها ولو طلقة «5» وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمه ويقول:
إنى لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتنى أكثر ... الله ربى ذو الجلال الأكبر «6»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن السماك عن عابد بن شريح عن عطاء عن عائشة. وفيه أحمد بن محمد بن غالب غلام الخليل. وهو كذاب، لكن رواه أبو نعيم في الحلية من وجه آخر عن سحنون السماك بلفظ «فانى سأغفر لك» وبلفظ «فانى لا أغفر لك» .
(2) . لم أجده.
(3) . لم أجده. قلت أخرجه في معجم الصحابة من طريق.
(4) . لم أجده.
(5) . قوله «قال ما جزيتها ولو طلقة» في الصحاح الطلق وجع الولادة اه فالطلقة المرة منه. (ع)
(6) . أنشده ابن عمر عن رجل يحمل أمه في الحج: شبه نفسه بالمطية تشبيها بليغا، و «إذا الركاب نفرت» صفة لها، يعنى أنه خافض لها جناح الذل من الرحمة، ولا يسأم منها كغيره، فان حملها إياه وإرضاعها إياه أكثر من بره بها، وذعر يذعر كتعب يتعب: خاف وفزع، والمراد لازم الفزع والنفرة وهو الجزع والضجر وعدم إقراره على ظهره، ثم كبر لأنه شعار الحج من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.

(2/659)


ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا (25)

تظننى جازيتها يا ابن عمر «1» ؟ قال: لا ولو زفرة واحدة «2» . وعنه عليه الصلاة والسلام «إياكم وعقوق الوالدين، فإن الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام «3» ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين» وقال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة «4» ، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل، ولا يناوله الخمر. ويأخذ الإناء منه إذا شربها. وعن أبى يوسف: إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد.
وعن حذيفة أنه استأذن النبى صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال:
دعه يليه غيرك «5» . وسئل الفصيل بن عياض عن بر الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال: أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شررا إليهما «6» ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودائهما من بعدهما. فعن النبى صلى الله عليه وسلم: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه «7» » .

[سورة الإسراء (17) : آية 25]
ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا (25)
بما في نفوسكم بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير إن تكونوا صالحين قاصدين الصلاح والبر، ثم فرطت منكم- في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر، أو لحمية الإسلام- هنة تؤدى إلى أذاهما، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها، فإن الله غفور للأوابين للتوابين. وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب: الأواب الرجل
__________
(1) . قوله «تظننى جازيتها يا ابن عمر» لعله ثم قال تظننى. (ع)
(2) . أخرجه ابن المبارك في البر والصلة: أخبرنا سعيد بن سعيد بن أبى بردة عن أبيه قال كان ابن عمر يطوف بالبيت فرأى رجلا- فذكره. وهذا إسناد صحيح وأخرجه البيهقي في الشعب في الخامس والخمسين وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن آدم عن سعيد مختصرا.
(3) . أخرجه ابن عدى من رواية محمد بن الفرات عن أبى إسحاق عن الحرث عن على بهذا وأتم منه. وفيه مسيرة خمسمائة بدل ألف. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر بن عبد الله فذكره بلفظ «ألف عام» وجابر ومحمد بن الفرات متروكان.
(4) . قوله «لا يذهب بأبيه إلى البيعة» في الصحاح: البيعة بالكسر للنصارى. (ع)
(5) . لم أجده: ولا يصح عن والد حذيفة أنه كان في صف المشركين: فانه استشهد بأحد مع المسلمين بأبدى المسلمين خطأ. وهم يحسبونه من الكفار، كما في صحيح البخاري لكن نحو القصة المذكورة وردت لأبى عبيدة ابن الجراح.
(6) . قوله «ولا تنظر شررا إليهما» هو نظر الغضبان بمؤخر العين، كذا في الصحاح. (ع)
(7) . أخرجه مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا وفيه قصة.

(2/660)


وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا (27) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28)

كلما أذنب بادر بالتوبة. ويجوز أن يكون هذا عاما لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته، لوروده على أثره.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 27]
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا (27)
وآت ذا القربى حقه وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، وأن يؤتوا حقهم: وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد، وفقراء عاجزين عن الكسب، وكان الرجل موسرا: أن ينفق عليهم عند أبى حنيفة. والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب.
وإن كانوا مياسير، أو لم يكونوا محارم: كأبناء العم، فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك والمسكين وابن السبيل يعنى وآت هؤلاء حقهم من الزكاة. وهذا دليل على أن المراد بما يؤتى ذوى القرابة من الحق: هو تعهدهم بالمال. وقيل: أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التبذير. تفريق المال فيما لا ينبغي. وإنفاقه على وجه الإسراف. وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف. وعن عبد الله: هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد:
لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمرو: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو في الوضوء سرف؟ قال. نعم وإن كنت على نهر جار «1» إخوان الشياطين أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة، لأنه لا شر من الشيطان. أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف.
أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وكان الشيطان لربه كفورا فما ينبغي أن يطاع، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. وقرأ الحسن: إخوان الشيطان.

[سورة الإسراء (17) : آية 28]
وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28)
وإن أعرضت عن ذى القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد فقل لهم قولا ميسورا فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم «2» إذا سئل شيئا وليس عنده
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من حديثه. وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. [.....]
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم عن أنس: قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت وفيه قصة: وفي الطبراني الأوسط عن على رضى الله عنه «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئا فأراد أن يفعله قال: نعم. وإذا أراد أن لا يفعل سكت ولم يقل قط لشيء: لا. فذكر قصة. وإسناده ضعيف.

(2/661)


ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29)

أعرض عن السائل وسكت حياء. قوله ابتغاء رحمة من ربك إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه، أى: فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا، رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم، ابتغاء رحمة من ربك، أى: ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم. وإما أن يتعلق بالشرط، أى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فسمى الرزق رحمة، فردهم ردا جميلا، فوضع الابتغاء موضع الفقد، لأن فاقد الرزق مبتغ له، فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسببا عنه، فوضع المسبب موضع السبب. ويجوز أن يكون معنى وإما تعرضن عنهم وإن لم تنفعهم ولم ترفع خصاصتهم لعدم الاستطاعة، ولا يريد الإعراض بالوجه كناية بالإعراض عن ذلك، لأن من أبى أن يعطى: أعرض بوجهه. يقال: يسر الأمر وعسر، مثل سعد الرجل ونحس «1» فهو مفعول، وقيل معناه: فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، كأن معناه: قولا ذا ميسور، وهو اليسر «2» ، أى:
دعاء فيه يسر.

[سورة الإسراء (17) : آية 29]
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29)
هذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فتقعد ملوما فتصير ملوما عند الله، لأن المسرف غير مرضى عنده وعند الناس، يقول المحتاج: أعطى فلانا وحرمني. ويقول المستغنى: ما يحسن تدبير أمر المعيشة. وعند نفسك:
إذا احتجت فندمت على ما فعلت محسورا منقطعا بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة، وعن جابر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبى فقال: إن أمى تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا، فذهب إلى أمه فقالت له قل له: إن أمى تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة «3» . وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن «4» ، فجاء عباس بن مرداس، وأنشأ يقول:
__________
(1) . قوله «مثل سعد الرجل ونحس» في الصحاح: سعد الرجل بالكسر فهو سعيد: مثل سلم فهو سليم.
وسعد بالضم فهو مسعود. (ع)
(2) . قوله «قولا ذا ميسور وهو اليسر» في الصحاح: المعسور ضد الميسور. وهما مصدران. وقال سيبويه:
هما صفتان. (ع)
(3) . لم أجده
(4) . قوله «مائة من الإبل وعيينة بن حصن» لعل بعده سقطا تقديره: مائة.

(2/662)


إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31)

أتجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والأقرع ... وما كان حصن ولا حابس
يفوقان جدى فى مجمع ... وما كنت دون امرىء منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع «1»
فقال: يا أبا بكر، اقطع لسانه عنى، أعطه مائة من الإبل «2» فنزلت.

[سورة الإسراء (17) : آية 30]
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30)
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة، بأن ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك ولكن لأن مشيئته في بسط الأرزاق وقدرها «3» تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عز وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعى أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته.

[سورة الإسراء (17) : آية 31]
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا (31)
__________
(1) . للعباس بن مرداس رضى الله عنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، روى أنه أعطى كلا من الأقرع بن حابس رعيبنة بن حصن مائة من الإبل تأليفا لقلوبهما، فأنشأ العباس ذلك، فرفعه أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقطعوا عنى لسانه، ففزع وفزع أناس، وإنما أراد إعطاءه تأليفا لقلبه أيضا. والاستفهام للتعجب.
ويحتمل أنه للإنكار، لكنه بعيد من الصحابي، أى: أتقسم نهى ونهب العبيد فرسي بين هذين، والحال أن أبويهما ما كانا يفوقان أبى مرداس بمنع الصرف للضرورة. وقد يروى «العبيد» مصغرا. ويروى بدله «جدي» وبروى «شيخي في مجمع» من مجامع الحرب، وأنا لست أقل من واحد منهما، فنحن سواء أصلا وفرعا، فكيف تفاوت بيننا الآن؟ مع أن من تخفض قدره لا يرتفع عمره. وروى «منهمو» أى من الأربعة. وروى «ومن يخفض» مبنيا للمجهول. وفي ذكر حصن وحابس بعد عيينة والأقرع: لف ونشر مرتب.
(2) . أخرجه مسلم من رواية عتبة بن رفاعة بن رافع عن رافع بن خديج قال «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل.
وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك. فقال عباس- فذكر الشعر. قال: فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبى بكر بن حزم وغيره- فذكر القصة وقال في آخرها:
ارهبوا فاقطعوا لسانه. فزادوه حتى رضى» وكذا ذكره موسى بن عقبة والواقدي وابن سعد وليس في شيء من طرقهم أن المخاطب بذلك كان أبا بكر
(3) . قوله «في بسط الأرزاق وقدرها» أى تضييقها. أفاده الصحاح. (ع)

(2/663)


ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33)

قتلهم أولادهم: هو وأدهم بناتهم «1» ، كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الاملاق، فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم. وقرئ خشية بكسر الخاء. وقرئ خطأ وهو الإثم، يقال: خطئ خطأ، كاثم إثما، وخطأ وهو ضد الصواب، اسم من أخطأ. وقيل: هو والخطء كالحذر والحذر، وخطاء بالكسر والمد. وخطاء بالفتح والمد. وخطأ بالفتح والسكون. وعن الحسن: خطا بالفتح وحذف الهمزة كالخب. وعن أبى رجاء: بكسر الخاء غير مهموز.

[سورة الإسراء (17) : آية 32]
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)
فاحشة قبيحة زائدة على حد القبح وساء سبيلا وبئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله «2» .

[سورة الإسراء (17) : آية 33]
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33)
إلا بالحق إلا بإحدى ثلاث: إلا بأن تكفر، أو تقتل مؤمنا عمدا، أو تزنى بعد إحصان. مظلوما غير راكب واحدة منهن لوليه الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولى فالسلطان وليه سلطانا تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه فلا يسرف الضمير للولي. أى: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية: كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب «3» . وقال:
كل قتيل فى كليب غره ... حتي ينال القتل آل مره «4»
وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن بواء. وقيل: الإسراف المثلة. وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرف، بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر. وفيه مبالغة ليست في الأمر. وعن
__________
(1) . قوله «هو وأدهم بناتهم» وأد البنت: دفنها في القبر وهي حية، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وهو الصهر الذي شرعه الله» أى التزوج. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بؤ بشع نعل كليب» في الصحاح يقال بؤ به أى كن ممن يقتل به وفيه البواء: السواء. وفيه الشسع: واحد شسوع النعل التي تشد إلى زمامها. وفيه الغرة: العبد أو الأمة. (ع)
(4) . الغرة: الرقيق، يعنى: كل قتيل قتلناه في هذه القبيلة ليس كفؤا لمن قتلوه منا، حتى يصل قتلنا آل مرة فهم كفؤه.

(2/664)


ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (36)

مجاهد: أن الضمير للقاتل الأول. وقرئ: فلا تسرف، على خطاب الولي أو قاتل المظلوم.
وفي قراءة أبى: فلا تسرفوا، رده على: ولا تقتلوا إنه كان منصورا الضمير إما للولي، يعنى حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأن الله قد نصره «1» بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإما للمظلوم، لأن الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.

[سورة الإسراء (17) : آية 34]
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا (34)
بالتي هي أحسن بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره إن العهد كان مسؤلا أى مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به «2» . ويجوز أن يكون تخييلا، كأنه يقال للعهد: لم نكثت؟ وهلا وفي بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للموءودة: بأى ذنب قتلت؟ ويجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسئولا.

[سورة الإسراء (17) : آية 35]
وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35)
وقرئ بالقسطاس بالضم والكسر، وهو القرسطون «3» . وقيل: كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرهما وأحسن تأويلا وأحسن عاقبة، وهو تفعيل، من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه.

[سورة الإسراء (17) : آية 36]
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا (36)
__________
(1) . قوله «وبأن الله قد نصره» لعله أو أن. (ع)
(2) . قال محمود: «أى يطلب من المعاهد أن يفي به ولا ينكثه ... الخ» قال أحمد، كلام حسن إلا لفظة التخييل فقد تقدم إنكارها عليه، وينبغي أن يعوض بالتمثيل. والظاهر التأويل الأول، ويكون المجرور الذي هو «عنه» حذف تخفيفا، وقد ذكر في بقية الآي كل أولئك كان عنه مسؤلا والله أعلم. وبعضد تأويل سؤال العهد نفسه على وجه التمثيل وقوف الرحم بين يدي الله وسؤالها فيمن وصلها وقطعها. وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح، والله الموفق. [.....]
(3) . قوله «بالقسطاس بالضم والكسر وهو القرسطون» أى القبان، كذا في النسفي. (ع)

(2/665)


ولا تقف ولا تتبع. وقرئ: ولا تقف، يقال: قفا أثره وقافه، ومنه: القافة، يعنى: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد: النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهى عن التقليد دخولا ظاهرا. لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده. وعن ابن الحنفية: شهادة الزور وعن الحسن: لا تقف أخاك المسلم إذا مر بك، فتقول: هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل، وسمعته، ولم تر ولو تسمع. وقيل: القفو شبيه بالعضيهة «1» . ومنه الحديث «من قفى مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال «2» حتى يأتى بالمخرج «3» » وأنشد:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا «4»
أى التقاذف. وقال الكميت:
ولا أرمى البري بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا «5»
__________
(1) . قوله «وقيل القفو شبيه بالعضيهة» في الصحاح العضيهة البهيتة، وهي الافك والبهتان. (ع)
(2) . قوله «حبسه الله في ردغة الخبال» في الصحاح الردغة- بالتحريك-: الماء والطين والوحل الشديد وكذلك الردغة بالتسكين. وفيه الخبال: العناء والفساد وأما الذي في الحديث من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يجيء بالمخرج منه، فيقال: هو صديد أهل النار.
(3) . لم أره بهذا اللفظ مرفوعا. وإنما ذكره أبو عبيد في الغريب من قول حسان بن عطية. فقال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعى عنه بهذا. وروى أحمد والطبراني من رواية معاذ بن أنس- رفعه «من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وفي مسند الشاميين للطبراني من طريق مطر الوراق عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر «من قذف مؤمنا أو مؤمنة حبس في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج، وهو عند أبى داود من رواية يحيى بن راشد عن ابن عمر بلفظ «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج. وهو يخرج مما قال» وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه «من قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج» .
(4) . يصف نساء بأنهن جميلات مثل الدمى، جمع دمية بالضم، وهو الصنم والصورة من العاج المرصعة بالجواهر والشم، جمع شماء كحمر وحمراء، والعرانين: الأنوف، أى مرتفعات الأنوف كناية عن شرفهن وارتفاع قدرهن.
أو كناية عن كونهن كرائم حرائر، لأن انخفاض الأنف خاص بالعبيد والماء. وشبههن بالبيوت. وشبه الحياء بقوم يسكنونها على طريق المكنية والسكنى تخييل لذلك، وهو كناية ومبالغة في ملازمة الحياء لهن، لا يشعن: أى لا يظهرن التقافى، أى المتابعة بالقذف، من قفوته إذا أتبعته بالغيبة. وفي إشاعته: كناية عن نفيه، لأنها لازمة له، حيث أنه لا يكون إلا بين اثنين فأكثر.
(5) . يقال: حصنت المرأة بالضم حصانة، فهي حاصن وحصناء وحصان. والحواصن: جمع حاصن: أى عفت فهي عفيفة، يقول: لا أتهم البريء بشيء زور، بل بذنب محقق. والظاهر أن هذا في معنى الاستثناء المنقطع، لأن البريء ما دام بريئا لا ذنب له، ولا أتبع العفائف وأتكلم فيهن بفحش ما دمن عفائف إن قفاهن الناس، فتكلموا فيهن فكيف إذا لم يتكلم فيهن أحد؟.

(2/666)


ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (38)

وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح، لأن ذلك نوع من العلم، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم، وأمر بالعمل به أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، كقوله:
والعيش بعد أولئك الأيام «1»
وعنه في موضع الرفع بالفاعلية، أى: كل واحد منها كان مسئولا عنه، فمسئول: مسند إلى الجار والمجرور، كالمغضوب في قوله غير المغضوب عليهم يقال للإنسان: لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرئ والفؤاد بفتح الفاء والواو، قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 37 الى 38]
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (38)
مرحا حال، أى: ذا مرح. وقرئ مرحا وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد لن تخرق الأرض لن تجعل فيها خرقا «2» بدوسك لها وشدة وطأتك.
__________
(1) .
لولا مراقبة العيون أريننا ... مقل المها وسوالف الآرام
هل ينهينك أن قتلن مرقشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
لجرير بن عطية يخاطب نفسه على طريق التجريد، يقول: لولا مراقبة النساء للعيون، أى الرقباء المتطلعين علينا، لبرزن لنا وأريننا عيونهن التي هي كعيون بقر الوحش، فمقل المها: استعارة مصرحة، وكذلك سوالف الآرام.
والسالفة: مقدم العنق وصفحته. والآرام: جمع رئم بالكسر والهمز، وهو الغزال الأبيض، وأصله «أرآم» بهمز ممدود بعد الراء وزن أحمال، فقلب إلى ما قبلها. ويجوز أنه جمع ريم بالفتح وهو الغزال الأبيض، فهمز وقلب. وهل بمعنى قد. أو للتقرير. أى: أنه ينهاك عنهن مقتلهن مرقشا العاشق المشهور. أو فعلهن بعروة العاشق أيضا. وذم: فعل أمر، كأنه نذكر محبوبته في تلك الديار وتلك الأيام، فقال: ذم المنازل كلها حال كونها بعد، أى: غير منزلة اللوى. أو بعد مجاوزتك منزلة اللوى بلازم. واللوى: موضع بعينه من الرمل الملتوى، وذم الحياة كلها بعد حياتنا في تلك الأيام، أو ذم مدة الحياة كلها بعد تلك الأيام السابقة، وأشار لها بما للعقلاء لعظمتها عنده، ولأن تخصصه بالعقلاء طارئ في الاستعمال كما قيل ويجوز أن بعد ظرف المنازل والعيش وبعض النحاة جعل «ذم» مبنيا للمجهول، وما بعده مرفوع به على النيابة.
(2) . قال محمود: «معناه لن تجعل فيها خرقا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية كفاية في الانزجار عنها، ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا، بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدا طرفا من رياسة الدنيا، إذ هو يتبختر في مشيه ويترجع، ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل، والله ولى التوفيق.

(2/667)


ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39) أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40)

وقرئ. لن تخرق، بضم الراء ولن تبلغ الجبال طولا بتطاولك. وهو تهكم بالمختال. قرئ سيئة وسيئه، على إضافة سيئ إلى ضمير كل، وسيئا في بعض المصاحف. وسيئات. وفي قراءة أبى بكر الصديق رضى الله عنه: كان شأنه. فإن قلت: كيف قيل سيئه مع قوله مكروها؟ قلت:
السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه. ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئا. ألا تراك تقول: الزنا سيئة، كما تقول: السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. فإن قلت: فما ذكر من الخصال بعضها سيئ وبعضها حسن، ولذلك قرأ من قرأ سيئه بالإضافة، فما وجه من قرأ سيئة؟ قلت: كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.

[سورة الإسراء (17) : آية 39]
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39)
ذلك إشارة إلى ما تقدم من قوله لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هذه الغاية. وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى، أولها، لا تجعل مع الله إلها آخر، قال الله تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وهي عشر آيات في التوراة. ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهى عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء «1» وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم.

[سورة الإسراء (17) : آية 40]
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40)
أفأصفاكم خطاب للذين قالوا «الملائكة بنات الله» والهمزة للإنكار. يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم وهي البنات؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردأها وأدونها للسادات إنكم لتقولون قولا عظيما بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم «2» أدون
__________
(1) . قوله «وإن بذ فيها الحكماء» في الصحاح «بذه» غلبه وفاقه. (ع)
(2) . قوله «وهم أعلى خلق الله وأشرفهم» هذا على مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل من الملاك. (ع)

(2/668)


ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا (41) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)

خلق الله وهم الإناث.

[سورة الإسراء (17) : آية 41]
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا (41)
ولقد صرفنا في هذا القرآن يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات، لأنه مما صرفه وكرر ذكره، والمعنى: ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير. ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد. ولقد صرفناه، يعنى هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم. وقرئ: صرفنا بالتخفيف وكذلك ليذكروا قرئ مشددا ومخففا، أى: كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم وما يزيدهم إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه. وعن سفيان: كان إذا قرأها قال. زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 43]
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43)
قرئ: كما تقولون، بالتاء والياء. وإذا دالة على أن ما بعدها وهو لابتغوا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو» . ومعنى لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، كقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقيل: لتقربوا إليه، كقوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة. علوا في معنى تعاليا. والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة. ومعنى وصف العلو بالكبر: المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.

[سورة الإسراء (17) : آية 44]
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)
والمراد أنها تسبح له بلسان الحال «1» ، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها
__________
(1) . قال محمود: «المراد تسبيحها بلسان الحال من حيث تدل على الصانع ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن يقول: فما يصنع بقوله كان حليما غفورا وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وكفرهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين المؤمنون، والظاهر أن المخاطب المؤمنون. وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه- والله أعلم- من عدم العمل بمقتضى ذلك، فان الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون تسبح الله وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعمر خاطره بهذا الفهم، لكان ذلك يشغله عن القوت فضلا عن فضول الكلام والأفعال، والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا هذا، لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة وجوهر من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه، مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإرهاب جبروته، وتيقظ لذلك حق التيقظ، لكاد أن لا يتكلم بقية عمره، فالظاهر والله أعلم أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب في أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين، والله الموفق.
فالحمد لله الذي كان حليما غفورا.

(2/669)


وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48)

تنطلق بذلك، وكأنها تنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها. فإن قلت: فما تصنع بقوله ولكن لا تفقهون تسبيحهم وهذا التسبيح مفقوه معلوم؟ قلت: الخطاب للمشركين، وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا: الله، إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يقروا، لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق. فإن قلت: من فيهن يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة «1» والثقلان، وقد عطفوا على السموات والأرض، فما وجهه؟ قلت: التسبيح المجازى حاصل في الجميع فوجب الحمل عليه، وإلا كانت الكلمة الواحدة في حالة واحدة محمولة على الحقيقة والمجاز إنه كان حليما غفورا حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم بالتسبيح وشرككم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48]
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48)
حجابا مستورا ذا ستر كقولهم. سيل مفعهم ذو إفعام. وقيل: هو حجاب لا يرى فهو مستور. ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب، فهو مستور بغيره. أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: إن قلت «من فبهن يسبحون حقيقة وهم الملائكة ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم نقلى عنه أنه يأبى حمل اللفظ على حقيقته ومجازه دفعة واحدة عند آية السجدة في النحل، ولكن ظهر من كلامه ثم جعل السجود عبارة عن الانقياد وعدم الامتناع على القدرة، ليكون متناولا للمكلفين وغير المكلفين بطريق التواطؤ، وقد يكون أراد ثم المجاز، والله الموفق.

(2/670)


وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (51)

وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب كأنه قال: وإذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم أن يفقهوه كراهة أن يفقهوه. أو لأن قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة فيه معنى المنع من الفقه، فكأنه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه. يقال: وحد يحد وحدا وحدة، نحو وعد يعدو عدا وعدة، ووحده من باب رجع عوده على بدئه، وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسد الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا، وحده. والنفور: مصدر بمعنى التولية. أو جمع نافر كقاعد وقعود، أى: يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا بما يستمعون به من الهزؤ بك وبالقرآن، ومن اللغو: كان يقوم عن يمينه إذا قرأ رجلان من عبد الدار، ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وبه في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزؤ، أى هازئين. وإذ يستمعون نصب بأعلم، أى:
أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وإذ هم نجوى وبما يتناجون به، إذ هم ذو ونجوى إذ يقول يدل من إذ هم مسحورا سحر فجن. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، أى: هو يشر مثلكم ضربوا لك الأمثال مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره لا يدرى ما يصنع.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 51]
وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (51)
لما قالوا: أئذا كنا عظاما قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا فرد قوله: كونوا، على قولهم: كنا، كأنه قيل: كونوا حجارة أو حديدا ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحى وغضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحى ومن جنس ما ركب منه البشر- وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديدا مع أن طباعها الجسارة والصلابة- لكان قادرا على أن يردكم إلى حال الحياة أو خلقا مما يكبر في صدوركم يعنى أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه. وقيل: ما يكبر في صدورهم الموت. وقيل: السموات والأرض فسينغضون

(2/671)


يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (53) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا (54) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا (55)

فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء.

[سورة الإسراء (17) : آية 52]
يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52)
والدعاء والاستجابة كلامهما مجاز. والمعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله بحمده حال منهم، أى حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتفسير قسرا حتى أنك تلين لين المسمح «1» الراغب فيه الحامد عليه، وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وتظنون وترون الهول، فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا، وتحسبونها يوما أو بعض يوم. وعن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 54]
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (53) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا (54)
وقل لعبادي وقل للمؤمنين يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين ولا يخاشنوهم، كقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن. وفسر التي هي أحسن بقوله ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم يعنى يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله إن الشيطان ينزغ بينهم اعتراض، يعنى يلقى بينهم الفساد ويغرى بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة وما أرسلناك عليهم وكيلا أى ربا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة، وذلك قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر رضى الله عنه: شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: الكلمة التي هي أحسن: أن يقولوا يهديكم الله، يرحمكم الله. وقرأ طلحة:
ينزغ، بالكسر وهما لغتان، نحو يعرشون ويعرشون.

[سورة الإسراء (17) : آية 55]
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا (55)
__________
(1) . قوله «المسمح» في الصحاح «أسمحت قرونته» أى ذلت نفسه وتابعته على الأمر. (ع)

(2/672)


قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58)

هو رد على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبى طالب نبيا، وأن تكون العراة الجوع أصحابه، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم، يعنى: وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم. وقوله ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وآتينا داود زبورا دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم، لأن ذلك مكتوب في زبور داود. قال الله تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وهم محمد وأمته. فإن قلت: هلا عرف الزبور كما عرف في قوله ولقد كتبنا في الزبور؟ قلت: يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس، والفضل وفضل، وأن يريد: وآتينا داود بعض الزبر وهي الكتب، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور، فسمى ذلك زبورا، لأنه بعض الزبور، كما سمى بعض القرآن قرآنا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)
هم الملائكة. وقيل: عيسى ابن مريم، وعزير. وقيل نفر من الجن، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا، أى: ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه. وأولئك مبتدأ، والذين يدعون صفته، ويبتغون خبره، يعنى: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. وأيهم بدل من واو ببتغون، وأى موصولة، أى: يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إن عذاب ربك كان حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبى مرسل، فضلا عن غيرهم.

[سورة الإسراء (17) : آية 58]
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58)

(2/673)


وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60)

نحن مهلكوها بالموت والاستئصال أو معذبوها بالقتل وأنواع العذاب. وقيل:
الهلاك للصالحة، والعذاب للطالحة. وعن مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فيخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فعذابها ضروب، ثم ذكرها بلدا بلدا في الكتاب في اللوح المحفوظ.

[سورة الإسراء (17) : آية 59]
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)
استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و «أن» الأولى منصوبة والثانية مرفوعة، تقديره: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. والمراد: الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهبا ومن إحياء الموتى وغير ذلك: وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى: وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسالات لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل. وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. ثم ذكر من تلك الآيات- التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسالات فأهلكوا- واحدة: وهي ناقة صالح، لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم مبصرة بينة. وقرئ: مبصرة، بفتح الميم فظلموا بها فكفروا بها وما نرسل بالآيات إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها إلا تخويفا من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة.

[سورة الإسراء (17) : آية 60]
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60)
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش، يعنى: بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم. وذلك قوله سيهزم الجمع ويولون الدبر،

(2/674)


قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون وغير ذلك، فجعله كأن قد كان ووجد، فقال: أحاط بالناس على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبى بكر رضى الله عنه كان يدعو ويقول: «اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك» ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول «سيهزم الجمع ويولون الدبر» «1» ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه، فقد كان يقول حين ورد ماء بدر «والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» «2» وهو يومئ إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فتسامعت قريش بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر يوم بدر وما أرى في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاء وحين سمعوا بقوله: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم» «3» جعلوها سخرية وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر. وما قدر الله حق قدره من قال ذلك، وما أنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار! فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل، إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار. وترى النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد الحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها، فما أنكروا أن يخلق «4» في النار شجرة لا تحرقها. والمعنى: أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر. فما كان ما أريناك منه في منامك بعد الوحى إليك إلا فتنة لهم حيث اتخذوه سخريا وخوفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم، ثم قال فيهم ونخوفهم أى نخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا كبيرا فكيف يخاف قوم هذه خالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات. وقيل: الرؤيا هي الإسراء «5» ، وبه تعلق من يقول: كان الإسراء في
__________
(1) . لم أجده هكذا فأما أوله ففي البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبته يوم بدر: اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم. فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبه. فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» [.....]
(2) . أخرجه مسلم من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا مصرع فلان ويضع يده على الأرض هاهنا. قال: فما ماط أحد عن موضع يده،
(3) . قال محمود: «افتتانهم بالشجرة أنهم حين سمعوا بقوله، إن شجرة الزقوم ... الخ» قال أحمد: والعمدة في ذلك أن النار لا تؤثر إحراقا في شيء، ولكن الله تعالى أجرى العادة أنه يخلق الحرق عند ملاقاة جسم النار لبعض الأجسام، فإذا كان ذلك من فعل الله لا من فعل النار فلله تعالى أن لا يفعل الحرق في الشجرة التي في أصل الجحيم.
(4) . قوله «فما أنكروا أن يخلق» عبارة النسفي: فجاز أن يخلق. (ع)
(5) . عاد كلامه. قال: «وأما الرؤيا فقيل الاسراء، وتعلق من جعله مناما بهذه الآية. وقيل: إنما سماها رؤيا على زعم المكذبين ... الخ» قال أحمد: ويبعد ذلك قوله تعالى طلعها كأنه رؤس الشياطين وقوله فإنهم لآكلون منها والله أعلم.

(2/675)


وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا (62) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)

المنام، ومن قال: كان في اليقظة، فسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له: لعلها رؤيا، رأيتها، وخيال خيل إليك، استبعادا منهم، كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة، نحو قوله: فراغ إلى آلهتهم، أين شركائي، ذق إنك أنت العزيز الكريم وقيل: هي رؤياه أنه سيدخل مكة. وقيل: رأى في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة. فإن قلت: أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ قلت: لعنت حيث لعن طاعموها من الكفرة والظلمة، لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل: وصفها الله باللعن، لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة. وقيل: تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وسألت بعضهم فقال: نعم الطعام الملعون القشب الممحوق «1» . وعن ابن عباس: هي الكشوث التي تتلوى بالشجر يجعل في الشراب. وقيل: أبو جهل. وقرئ: والشجرة الملعونة بالرفع، على أنها مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا (62) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)
طينا حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على: أأسجد له وهو طين، أى أصله طين.
__________
(1) . قوله «الطعام الملعون القشب الممحوق» الخلط الضار يمزج بالطعام أو الشراب كالسم. والممحوق المذاب حتى يذهب عينه. أفاده الصحاح. وفيه «الكشوث» نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض، قال الشاعر:
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع)

(2/676)


أو من الراجع إليه من الصلة على: أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا أرأيتك الكاف للخطاب. وهذا مفعول به. والمعنى: أخبرنى عن هذا الذي كرمت علي أى فضلته، لم كرمته على وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال لئن أخرتن واللام موطئة للقسم المحذوف لأحتنكن ذريته لأستأصلتهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أى أكلهما. فإن قلت: من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت: إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهوانى. وقيل: قال ذلك لما علمت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة اذهب ليس من الذهاب للذي هو نقيض المجيء، إنما معناه:
امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم كما قال موسى عليه السلام للسامري فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس. فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب جزاء موفورا بما في فإن جهنم جزاؤكم من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال، لأن الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال: فر لصاحبك عرضه فرة.
استفزه: استخفه. والفز: الخفيف وأجلب من الجلبة وهي الصياح «1» . والخيل: الخيالة.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» «2» . والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره:
__________
(1) . قوله «من الجلبة وهي الصباح» في الصحاح: جلب على فرسه وأجلب عليه: صاح به من خلفه واستحثه السبق اه. (ع)
(2) . أخرجه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ من طريق أبى حمزة السكرى عن عبد الكريم: حدثني سعيد بن جير عن قصة المحاربين قال «كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: نبايعك على الإسلام- وذكر القصة وفيها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: يا حيل الله اركبي: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا. روى ابن عائد في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى يوم قريظة يوم الأحزاب مناديا ينادى: يا خيل الله اركبي» وعزا السهيلي في الروض في غزوة حنين هذه اللفظة في صحيح مسلم. فينظر فيه. وقال أبو داود في السنن: باب النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي وساق في الباب حديث سمرة بن جندب «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله» قلت أشكل هذا على المخرج فقال: فيه نظر لمن تأمله. فكأنه لم يتجه له مطابقة الحديث للترجمة. وهو ظاهرها لأن المراد صحة هذه الاضافة. وقد وردت عن على وخالد بن الوليد. ففي المستدرك للحاكم في قصة أويس من حديث أبى نضرة عن أسيد بن جابر فذكر القصة. فقال في آخرها فنادى على: يا خيل الله اركبي» وفي الردة للواقدي من رواية عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن خالد بن الوليد قال لأصحابه يوم اليمامة «يا خيل الله اركبي فركبوا وساروا إلى بنى حنيفة.

(2/677)


الركب والصحب. وقرئ: ورجلك، على أن فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب وتاعب. ومعناه: وجمعك الرجل، وتضم جيمه أيضا، فيكون مثل حدث وحدث، وندس وندس «1» ، وأخوات لهما.
يقال: رجل رجل. وقرئ: ورجالك ورجالك. فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر. وخيله ورجله:
كل راكب وماش من أهل العيث «2» . وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك وعدهم المواعيد الكاذبة «3» ، من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمما «4» ، وإيثار العاجل على الآجل إن عبادي يريد الصالحين ليس لك عليهم سلطان أى لا تقدر أن تغويهم وكفى بربك وكيلا لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله إلا عبادك منهم المخلصين فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغويا مضلا، داعيا إلى الشر، صادا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: اعملوا ما شئتم.
__________
(1) . قوله «مثل حدث وحدث، وندس وندس» في الصحاح: رجل حدث وحدث، بضم الدال وكسرها أى حسن الحديث. وفيه: رجل ندس وندس، أى: فهم. (ع)
(2) . قوله «العيث» في الصحاح «العيث» الإفساد. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد وعدهم المواعيد الكاذبة ... الخ» قال أحمد: وهذا من تجرى المصنف على السنة ومتبعيها، فانه جعل المغفرة المقرونة بالمشيئة وإن لم تكن توبة للمؤمنين من مواعيد الشيطان، مع العلم بأنها ثابتة بقواطع القرآن وعدا من الرحمن، وكذلك الشفاعة المتفق عليها بين أهل السنة والجماعة التي وعد بها الصادق المصدوق، وميزه الله تعالى بها على كل مخلوق، من مواعيد الشيطان الباطلة وأمانيه الماحلة. اللهم ارزقنا الشفاعة، واحشرنا في زمرة السنة والجماعة.
(4) . قوله «بعد أن يصيروا حمما» في الصحاح: الحمم: الرماد والفحم: الواحدة حممة، ثم ما أفاده من توقف المغفرة على التوبة وعدم الشفاعة في الكبائر، وعدم خروج أهلها من النار بعد احتراقهم هو مذهب المعتزلة. وأهل السنة على خلاف ذلك، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

(2/678)


ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 67]
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)
يزجي يجرى ويسبر. والضر: خوف الغرق ضل من تدعون إلا إياه ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أن غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوين. ويجوز أن يراد: ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكن الله وحده هو الذي ترجونه وحده «1» على الاستثناء المنقطع.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 68 الى 69]
أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69)
أفأمنتم الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض. فإن قلت: بم انتصب جانب البر؟ قلت: بيخسف مفعولا به، كالأرض في قوله فخسفنا به وبداره الأرض. وبكم حال. والمعنى: أن يخسف جانب البر، أى يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت. فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه أن الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء، فالبر والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان أو يرسل عليكم حاصبا وهي الريح التي تحصب أى ترمى بالحصباء، يعنى: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر وكيلا من يتوكل بصرف ذلك عنكم أم أمنتم أن يقوى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا
__________
(1) . قوله «ولكن الله وحده هو الذي ترجونه وحده» كأنه تكرار، وأسقطه الخازن في عبارته. (ع)

(2/679)


ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)

فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل عليكم قاصفا وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أى تتكسر. وقيل: التي لا تمر بشيء إلا قصفته فيغرقكم وقرئ بالتاء، أى الريح. وبالنون، وكذلك: نخسف، ونرسل، ونعيدكم.
قرئت بالياء والنون. التبيع: المطالب، من قوله فاتباع بالمعروف أى مطالبة. قال الشماخ:
كما لاذ الغريم من التبيع «1»
يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أى مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله ولا يخاف عقباها. بما كفرتم بكفرانكم النعمة، يريد: إعراضهم حين نجاهم.

[سورة الإسراء (17) : آية 70]
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)
قيل في تكرمة ابن آدم: كرمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم.
وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم. وعن الرشيد: أنه أحضر طعاما فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردها وأكل بأصابعه على كثير ممن خلقنا هو ما سوى الملائكة، «2» وحسب بنى آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم
__________
(1) .
يلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع
الشماخ، يصف عقابا تهرب منها ثعالب الشرقين، وهو اسم موضع، أو جهة الجنوب وجهة الشمال، كالمشرقين، كما لاذ: أى هرب والتجأ، الغريم: أى المدين، من التبيع: أى الدائن المطالب.
(2) . قال محمود: «المراد فضلناهم على ما سوى الملائكة ... الخ» قال أحمد: وقد بلغ إلى حد من السفه يوجب الحد، ولسنا لمساجلته إلا من حيث العلم، لا من حيث السفه. والقدر الذي تختص به هذه الآية أن حمل كثير على الجميع غير مستبعد ولا مستنكر. ألا ترى أنه ورد حمل القليل على العدم. والزمخشري يختار ذلك في قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون وأشباهه كثير. وقد لمح الشاعر ذلك في قوله.
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أى لا أصوات بها، ولنا أن نبقيه على ما هو عليه، ونقول: إن المخلوق قسمان: بنو آدم أحدهما وغيرهم من جميع المخلوقين القسم الآخر، ولا شك أن غيرهم أكثر منهم وإن لم يكونوا أكثر منهم كثيرا، فمعنى قوله وفضلناهم على كثير ممن خلقنا أى على غيرهم من جميع المخلوقين، وتلك الأغيار كثير بلا مراء، وذلك مرادف لقولك: وفضلناهم على جميع من عداهم ممن خلقنا، فظاهر الآية إذا مع الأشعرية الذين سماهم مجبرة، وتمشدق في سبهم وشقشق العبارات في ثلهم، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، والله ولى التوفيق والتسديد. [.....]

(2/680)


ومنزلتهم عند الله منزلتهم. والعجب من المجبرة كيف عكسوا «1» في كل شيء وكابروا، حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، وذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم وتكثيره مع التعظيم ذكرهم، وعلموا أين أسكنهم، وأنى قربهم، وكيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم، ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا وأخبارا منها: قالت الملائكة «2» : ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان «3» . ورووا عن أبى هريرة أنه قال: لمؤمن «4» أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. ومن ارتكابهم أنهم فسروا كثير بمعنى «جميع» في هذه الآية، وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: وفضلناهم على جميع ممن خلقنا، على أن معنى قولهم «على
__________
(1) . قوله «والعجب من المجبرة كيف عكسوا» يعنى أهل السنة. وقوله «تفضيل الإنسان» يعنون المؤمن.
ويدل لمذهبهم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية وأما الذين كفروا فهم شر البرية، ودعوى العكس من فرط التعصب للمعتزلة. (ع)
(2) . قوله «قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا» صدره كما في الخازن: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة، وقوله «خلقت بيدي» في الخازن: ونفخت فيه من روحي. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن ماهان حدثنا طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الملائكة قالت رب أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون: ونحن نسبح بحمدك لا نأكل ولا نشرب ولا نلهو. فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له. كن فكان» قال: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان تفرد به طلحة محمد بن ماهان. وعن أبى غسان حجاج الأعور أخرج طريق حجاج في المعجم الكبير ورجاله ثقات. وله شاهد عند عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن زيد بن أسلم قال قالت الملائكة فذكر نحوه موقوفا عليه. وقال الدارقطني في العلل: روى عبد المجيد بن أبى داود عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر. فذكر نحوه قال: ورواه شريح بن يونس عن عبد المجيد موقوفا. وهو أصح. وله شاهد آخر أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في الأسماء والصفات من رواية عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويح أنه سمعه يحدث عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان» ومنها ما رواه عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال «لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» البيهقي في الشعب من رواية حماد بن سلمة عن أبى المهزم عن أبى هريرة موقوفا. وأخرجه ابن ماجة من هذه الطريق موقوفا. وأبو المهزم متروك: وله شاهد أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من رواية عبيد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من بنى آدم. قيل:
ولا الملائكة. قال: ولا الملائكة. الملائكة مجبورون كالشمس والقمر» قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن تمام يروى أحاديث معاوية وهو ضعيف.
(4) . قوله «قال لمؤمن أكرم على من الملائكة» في الخازن: المؤمن. (ع)

(2/681)


يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71)

جميع ممن خلقنا» أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم، ولكنهم لا يشعرون. فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى، كأن جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط، فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم «1»

[سورة الإسراء (17) : آية 71]
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71)
قرئ: يدعو، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: يدعوا كل أناس، على قلب الألف واوا في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر.
ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في وأسروا النجوى الذين ظلموا والرفع مقدر كما في:
يدعى، ولم يؤت بالنون، قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة بإمامهم بمن ائتموا به من نبى أو مقدم في الدين، أو كتاب، أو دين «2» ، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر. وفي قراءة الحسن: بكتابهم. ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ فمن أوتي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع.
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت:
بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أما التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤم اقرؤا كتابيه
__________
(1) . قوله «فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم» في الصحاح «السخيمة» الضغينة والموجدة في النفس. (ع)
(2) . قال محمود: «بإمامهم معناه بمن ائتموا به من نبى أو كتاب أو دين ... الخ» قال أحمد: ولقد استبدع بدعا لفظا ومعنى، فان جمع الأم المعروف أمهات، أما رعاية عيسى عليه السلام بذكر أمهات الخلائق ليذكر بأمه، فيستدعى أن خلق عيسى من غير أب غميزة في منصبه، وذلك عكس الحقيقة، فان خلقه من غير أب كان آية له، وشرفا في حقه، والله أعلم.

(2/682)


ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72) وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)

ولا يظلمون فتيلا ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، كقوله ولا يظلمون شيئا، فلا يخاف ظلما ولا هضما.

[سورة الإسراء (17) : آية 72]
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72)
معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك وأضل سبيلا من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدى إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل «1» . ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول مما لا، والثاني مفخما «2» ، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام «3» ، كقولك: أعمالكم وأما الأول فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 75]
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)
روى أن ثقيفا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا نجبى «4» في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وج فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرنى
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل ... الخ» قال أحمد: أى لأنه من عمى القلب لا من عمي البصر، فجاز أن ينبنى منه أفعل.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومن ثم أمال أبو عمرو الأولى وفخم الثانية ... الخ» قال أحمد: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى، أى: فمن أوتى كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه، ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين، والله أعلم.
(3) . قوله «الواقعة في وسط الكلام» لعله الكلمة، كعبارة النسفي. (ع)
(4) . قوله «لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى» في الصحاح «التجبية» أن يقوم الإنسان قيام الراكع. وقال أبو عبيدة: تكون في حالين، أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه، والآخر ينكب على وجهه باركا وهو السجود، وفيه «وج» بلد الطائف: وفيه أيضا: عضدت الشجر، أى قطعته. (ع)

(2/683)


به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف:
لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمدا «1» . فنزلت. وروى أن قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت وإن كادوا ليفتنونك إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أى يخدعوك فاتنين عن الذي أوحينا إليك من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا لتفتري علينا لتقول علينا ما لم نقل، يعنى ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه وإذا لاتخذوك أى ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلا ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتى ولولا أن ثبتناك ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لقد كدت تركن إليهم لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إذا لو قاربت تركن اليهم أدنى ركنة لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله فآتهم عذابا ضعفا من النار بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات «2» . ثم حذف الموصوف
__________
(1) . لم أجده. وذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند.
(2) . قال محمود: «المراد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ... الخ» قال أحمد: أما تقليل الكيدودة فالذي ينبغي أن يحمل عليه كونه الواقع في علم الله تعالى، لأن الله عز وجل يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فعلم تعالى أن الركون الذي كاد يحصل منه عليه السلام وإن كان ما حصل أمر قليل وخطب يسير، فذلك إخبار من الله تعالى عن الواقع في علمه تقديرا، فلا يليق أن يحمل على المبالغة والتنبيه. فان ذلك لا يكون في الاخبار.
ألا ترى أنه لو كان الواقع كيدودة ركون كثير، لكان تقليله خلفا في الخبر، ولا ينكر أن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأما نقل الزمخشري عن مشايخه استعظام نسبة الفواحش والقبائح إلى الله عز وجل، فلقد استعظموا عظيما حق على كل مسلم أن يستفظعه، ولكنهم جهلوا باعتقاد القبح وصفا ذاتيا للقبيح، فلزمهم على ذلك أن كل فعل استقبح من العبد استقبح من الله تعالى، وهم غالطون في ذلك، فمعنى كون الفعل قبحا أن الله تعالى نهى عنه عبده، وإن كان لله تعالى أن يفعله، وهو حسن بالنسبة إليه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ألا ترى أن الملك يصح منه أن يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك، ونهاه عن ذلك، ولا يستقبح ذلك من نفسه، بل هو منه حسن جميل. ولقد كان لمشايخه شغل باستعظام ما لزمهم من الاشراك، عن استعظام غيره مما هو توحيد محض وإيمان صرف، ولكنهم زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسنا، والله الموفق.

(2/684)


وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)

وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف. ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل: ضعف الحياة وضعف الممات، كما لو قيل: لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. ويجوز أن يراد بضعف الحياة:
عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار. والمعنى:
لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين- دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد «1» رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» «2»

[سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77]
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)
وإن كادوا وإن كاد أهل مكة ليستفزونك ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض من أرض مكة وإذا لا يلبثون لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. وقيل: معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه. وقيل: من أرض العرب. وقيل: من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فاجتمعوا إليه وقالوا: يا أبا القاسم، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة، حتى يجتمع إليه
__________
(1) . قوله «ومن ثم استعظم مشايخ العدل» يعنى المعتزلة. ويريد بالمجبرة: أهل السنة، حيث قالوا: إن الخير والشر كلاهما من عند الله بخلقه وإرادته، ولو كان من فعل العبد ظاهرا. (ع)
(2) . لم أجده، وذكره الثعلبي عن قتادة مرسلا [.....]

(2/685)


أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78) ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)

أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين «1» الله، فنزلت، فرجع. وقرئ: لا يلبثون. وفي قراءة أبى: لا يلبثوا على إعمال «إذا» . فإن قلت:
ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبى ففيها الجملة برأسها التي هي إذا لا يلبثوا، عطف على جملة قوله وإن كادوا ليستفزونك. وقرئ: خلافك «2» . قال:
عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا «3»
أى بعدهم سنة من قد أرسلنا يعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ونصبت نصب المصدر المؤكد، أى: سن الله ذلك سنة.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 79]
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78) ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)
دلكت الشمس: غربت. وقيل: زالت. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «4» : أتانى جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بى الظهر. واشتقاقه من الدلك، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء وقرآن الفجر صلاة الفجر، سميت قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعا وسجودا
__________
(1) . لم أجده. وذكره السهيلي في الروض عن عبد المجيد بن بهرام بن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقا أنك نبى فالحق بالشام- فذكر نحوه، لكن قال: فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى- فذكره- وزاد: وأمره بالرجوع «وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث» .
(2) . قوله «وقرئ خلافك» كانت القراءة التي سبق تفسيرها: خلفك. (ع)
(3) . عفت: درست وهلكت، خلافهم: أى بعدهم. والشواطب: النساء يشققن شطب النخل: أى سعفه الأخضر، يعملنه حصيرا: بصف ديارهم بعدهم بدروسها وكثرة قمامتها لعدم كنسها.
(4) . أخرجه البيهقي من طريق أيوب بن عتبة عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة عن ابن مسعود قال «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين دلكت الشمس- يعنى حين زالت- فقال: قم فصل: فقام فصلى الظهر» قال إسحاق في مسنده: حدثنا بشر بن عمر حدثنا سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد حدثني أبو بكر بن حزم عن ابن مسعود قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قم فصل. وذلك لدلوك الشمس حين مالت. فقام فصلى الظهر أربعا ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه. وهذا منقطع.

(2/686)


وقنوتا. وهي حجة على ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن مشهودا يشهده ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء، ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة. أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. ويجوز أن يكون وقرآن الفجر حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مكثورا عليها، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة ومن الليل وعليك بعض الليل فتهجد به والتهجد ترك الهجود للصلاة، ونحوه التأثم والتحرج. ويقال أيضا في النوم: تهجد نافلة لك عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، وضع نافلة موضع تهجدا، لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم مقاما محمودا نصب على الظرف، أى: عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا. أو ضمن يبعثك معنى يقيمك. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود. ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده القائم فيه، وكل من رآه وعرفه وهو مطلق في كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات. وقيل: المراد الشفاعة، وهي نوع واحد مما يتناوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق:
تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتى «1» . وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم نفس، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدى من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا «2» .
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة والترمذي من طريق داود بن يزيد الأودى عن أبيه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وسئل عنه فقال: هي الشفاعة» وفي الباب عن أنس عند البخاري في التوحيد وعن ابن عمر عنده في الزكاة. وعن ابن مسعود عند النسائي والحاكم وله طريق آخر عند أحمد والحاكم مطولا. وعن كعب بن مالك عند الحاكم. وأصله عند مسلم وعن جابر عند أحمد والحاكم واختلف في وصله وإرساله على الزهري. عن على بن الحسين. وعن أبى سعيد عند الترمذي وابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن مردويه مطولا. وعن سعد بن أبى وقاص عند ابن مردويه من رواية محمد بن الحسن عن أبى حنيفة عن عبد العزيز بن ربيع عن مصعب بن سعد عن أبيه قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة»
(2) . أخرجه النسائي والحاكم وابن أبى شيبة والطبري وأبو يعلى والبزار وأبو نعيم في ترجمة حذيفة في الحلية كلهم من طريق شعبة وإسرائيل كلاهما عن أبى إسحاق سمعت عتبة بن زفر يقول سمعت حذيفة يقول «يجمع الناس» فذكره.

(2/687)


وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80) وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)

[سورة الإسراء (17) : آية 80]
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80)
قرئ: مدخل ومخرج بالضم والفتح: بمعنى المصدر. ومعنى الفتح: أدخلنى فأدخل مدخل صدق، أى: أدخلنى القبر مدخل صدق: إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجنى منه عند البعث إخراجا مرضيا، ملقى بالكرامة، آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث.
وقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر- وهو النبوة- وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: الطاعة. وقيل: هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان سلطانا حجة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر مظهرا له عليه، فأجيبت دعوته بقوله والله يعصمك من الناس، فإن حزب الله هم الغالبون، ليظهره على الدين كله، ليستخلفنهم في الأرض ووعده لينزعن ملك فارس والروم، فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديدا على المريب، لينا على المؤمن وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنى رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب «1» فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير» .

[سورة الإسراء (17) : آية 81]
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)
كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما صنم كل قوم بحيالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله عز وجل فقال:
أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك، فأوحى الله إلى البيت: إنى سأحدث لك
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بإسناده عن الكلبي. قال سلطانا نصيرا عتاب بن أسيد. استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، فذكره سواء. وأخرجه ابن مردويه من طريق إسماعيل بن خليفة الكلبي عن أبى صالح. عن ابن عباس. دون الحديث الذي في آخره.

(2/688)


وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا (83) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84)

نوبة جديدة، فأملأك خدودا سجدا، يدفون إليك دفيف النسور «1» ، يحنون إليك حنين الطير إلى بيضها. لهم عجيج حولك بالتلبية. ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال: يا على، ارم به، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون:
ما رأينا رجلا أسحر من محمد «2» صلى الله عليه وسلم. وشكاية البيت والوحى إليه: تمثيل وتخييل وزهق الباطل ذهب وهلك، من قولهم: زهقت نفسه، إذا خرجت. والحق: الإسلام.
والباطل: الشرك كان زهوقا كان مضمحلا غير ثابت في كل وقت.

[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82)
وننزل قرئ بالتخفيف والتشديد من القرآن من للتبيين، كقوله: من الأوثان.
أو للتبعيض، أى: كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله «3» » ولا يزداد به الكافرون إلا خسارا أى نقصانا لتكذيبهم به وكفرهم، كقوله تعالى: فزادتهم رجسا إلى رجسهم.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 84]
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا (83) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84)
وإذا أنعمنا على الإنسان بالصحة والسعة أعرض عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه
__________
(1) . قوله «يدفون إليك دفيف النسور» في الصحاح «الدفيف» الدبيب. وهو السير اللين، وفيه «العج» رفع الصوت، وقد عج يعج عجيجا. (ع)
(2) . قال: لم أجده. وروى النسائي والحاكم من طريق ابن أبى مريم عن على. قال «انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة فقال لي اجلس فجلست. وصعد على منكبى فنهضت به. فذكر الحديث» وليس فيه أن ذلك كان في فتح مكة. ولا تلاوة الآية. وروى النسائي [كذا بالأصلين اه مصححه]
(3) . أخرجه الثعلبي من طريق أحمد بن الحرث الغساني. حدثنا ساكنة بنت الجعد، قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.

(2/689)


ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)

مستبد بنفسه ونأى بجانبه تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأى بالجانب: أن يلوى عنه عطفه ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين وإذا مسه الشر من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤسا شديد اليأس من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقرئ: وناء بجانبه، بتقديم اللام على العين، كقولهم «راء» في «رأى» ويجوز أن يكون من «ناء» بمعنى «نهض» قل كل أحد يعمل على شاكلته أى على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه، والدليل عليه قوله فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا أى أسد مذهبا وطريقة.

[سورة الإسراء (17) : آية 85]
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)
الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أى مما استأثر بعلمه. وعن ابن أبى بريدة. لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح «1» .
وقيل: هو خلق عظيم روحانى أعظم من الملك. وقيل: جبريل عليه السلام. وقيل: القرآن.
ومن أمر ربي أى من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر، بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبى، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبى، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم «2» وما أوتيتم الخطاب أم أنت معناه فيه؟ فقال:
بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك: ساعة تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وساعة تقول هذا «3» ، فنزلت: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام
__________
(1) . ذكره الواحدي في الوسيط عن عبد الله بن بريدة بهذا في حديث لم يسبق إسناده
(2) . لم أجده هكذا. وذكره ابن هشام في السيرة عن زياد عن أبى إسحاق. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه «أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم سلوه عن ثلاث، فإذا عرفها فهو نبى: سلوه عن أقوام ذهبوا في الأرض فلم يدر ما صنعوا ... القصة بطولها»
(3) . ذكره الثعلبي في تفسير لقمان بغير سند ولا راو. وروى ابن مردويه من طريق على بن عاصم عن داود ابن أبى هند عن عكرمة. لا أعلمه إلا عن ابن عباس. قال «لما نزلت هذه الآية وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا. أوتينا التوراة ومن يؤت التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا. فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر.

(2/690)


ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)

وليس ما قالوه بلازم، لأن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: هو خطاب لليهود خاصة، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة، وقد تلوت ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 87]
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87)
لنذهبن جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط. واللام الداخلة على إن موطئة للقسم. والمعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدرى ما الكتاب ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مستورا إلا رحمة من ربك إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه، فعلى كل ذى علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ. وعن ابن مسعود:
إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء. فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب «1» .

[سورة الإسراء (17) : آية 88]
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)
لا يأتون جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة، لجاز أن يكون جوابا للشرط، كقوله:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني، وأخرجه ابن أبى شيبة وابن مردويه كلهم من طريق شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود وزاد في آخره ثم قرأ عبد الله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك. [.....]

(2/691)


ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)

يقول لا غائب مالى ولا حرم «1»
لأن الشرط وقع ماضيا، أى: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله، والعجب من النوابت «2» ومن زعمهم أن القرآن قديم «3» مع اعترافهم بأنه معجز «4» ، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة، فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه. وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه كثانى القديم، فلا يقال للفاعل: قد عجز عنه، ولا هو معجز. ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال، فإن رأس ما لهم «5» المكابرة وقلب الحقائق.

[سورة الإسراء (17) : آية 89]
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89)
ولقد صرفنا رددنا وكررنا من كل مثل من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه.
والكفور: الجحود. فإن قلت: كيف جاز فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولم يجوز ضربت إلا زيدا؟ قلت: لأن أبى متأول بالنفي، كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 537 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «النوابت» في الصحاح «النوابت من الأحداث» الأغمار. وفيه: رجل غمر: لم يجرب. (ع)
(3) . قال محمود: «والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ... الخ» قال أحمد:
ومما يدلك على حيد المصنف عن سنن المنصف أنه تدلس على الضعفة في مثل هذه المسألة التي طبقت طبق الأرض ظهورا وشيوعا، ومع ذلك يرضى لنفسه أن يتجاهل فيها عن معتقد القوم، وذلك أن عقيدة أهل السنة أن مدلول العبارات صفة قديمة قائمة بذات الباري تعالى، يطلق عليها قرآن، ويطلق أيضا على أدلتها وهي هذه الكلمات الفصيحة والآي الكريمة قرآن، وأن المعجز عندهم الدليل لا المدلول، لكنهم يتحرزون من إطلاق القول بأنه مخلوق لوجهين. أحدهما: أنه إطلاق موهم. والثاني: أن السلف الصالح كفوا عنه فاقتفوا آثارهم واقتبسوا أنوارهم.
وكم من معتقد لا يطلق القول به خشية إيهام غيره مما لا يجوز اعتقاده، فلا ربط بين الاعتقاد والإطلاق، ولا كرامة لمعتقد ذلك والمتعنت بالزامه، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(4) . قوله «ومن زعمهم أن القرآن قديم» يريد بهم أهل السنة حيث يقولون: إن القرآن قديم، لكن لا بمعنى اللفظ الذي يسمعه بعضنا من بعض، فان هذا حادث بل بمعنى كلام الله الذي هو صفة له قائمة بذاته تعالى، فهذا هو القديم، كعلمه تعالى وإرادته. (ع)
(5) . قوله «فان رأس ما لهم المكابرة» ليس كما قال غفر الله له، بل رأس ما لهم التمسك بالكتاب والسنة، وتحرى الحقائق. (ع)

(2/692)


لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات: فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لك حتى ... وحتى تفجر تفتح. وقرئ: تفجر، بالتخفيف من الأرض يعنون أرض مكة ينبوعا عينا غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع: «يفعول» من نبع الماء، كيعبوب من عب الماء كما زعمت يعنون قول الله تعالى إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء. قرئ: كسفا، بسكون السين جمع كسفة، كسدرة وسدر. وبفتحه قبيلا كفيلا بما تقول شاهدا بصحته. والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا، وبالملائكة قبيلا، كقوله:
... كنت منه ووالدي ... بريا «1» ...
فإنى وقيار بها لغريب «2»
أو مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر، ونحوه لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا أو جماعة حالا من الملائكة من زخرف من ذهب في السماء في معارج السماء، فحذف المضاف.
يقال: رقى في السلم وفي الدرجة ولن نؤمن لرقيك ولن نؤمن لأجل رقيك حتى تنزل علينا كتابا
__________
(1) .
رمانى بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن جول الطوى رمانى
للفرزدق. يقول: قذفني بأمر أنا بريء منه ووالدي، فكان: مجردة عن المضي، وحذف خبر الوالد للدلالة عليه، والعطف من عطف الجمل. وبريا: في نية التقديم، فلم يلزم تقدم شيء من المعطوف عليه على المعطوف: هذا رأى الجمهور. وأجاز بعضهم أن «والدي» عطف على اسم كان، فيكون «بريا» خبره، وخبر اسمها محذوفا أو بالعكس، والعطف من عطف المفردات. ويجوز أن «بريا» خبر عنهما، لأن فعيلا يقال للواحد والمتعدد، لموازنته المصدر:
كصهيل وضجيج ونحيب ونسيب، وإن كان استعماله كذلك بمعنى فاعل قليلا. وجول الطوى- بالضم-: جانب البئر المطوى. والمعنى: أنه رمانى بأمر يرجع عليه هو، كأنه رمانى وهو في أسفل البئر بحجر فيرجع عليه، كناية عن مكافأته بأمر أعظم مما رماه به. ويجوز أن الأمر الذي رماه به متصف به الرامي، وهو أنسب بالتشبيه.
ويروى ومن أجل الطوى. فليحرر.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 629 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/693)


وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95) قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96)

من السماء فيه تصديقك. عن ابن عباس رضى الله عنهما: قال عبد الله بن أبى أمية:
لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما. ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتى معك بصك منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا: هذا سحر، كما قال عز وجل ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه- بل هي أعظم- لم يكن إلى تبصرتهم سبيل قل سبحان ربي وقرئ: قال سبحان ربى، أى قال الرسول. وسبحان ربي تعجب من اقتراحاتهم عليه هل كنت إلا رسولا كسائر الرسل بشرا مثلهم، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إلى، وإنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها على.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 95]
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)
أن الأولى نصب مفعول ثان لمنع. والثانية رفع فاعل له. والهدى الوحى، أى:
وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في أبعث الله للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء، ثم قرر ذلك بأنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشى الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء «1» فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مطمئنين ساكنين في الأرض قارين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يعلمهم الخير ويهديهم المراشد. فأما الإنس فما هم بهذه المثابة، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون بشرا وملكا، منصوبين على الحال من رسولا؟ قلت: وجه حسن، والمعنى له أجوب.

[سورة الإسراء (17) : آية 96]
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96)
__________
(1) . قال محمود: «معناه لو كانوا يمشون مشى الانس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء ... الخ» قال أحمد:
وقد اشتمل كلامه هذا على جواب حسن عن سؤال مقدر، وهو قول القائل: إن مجرد وجود الملائكة في الأرض يناسب إرسال الملك إليهم، فما فائدة هذه الزيادة؟ فيكون جوابه ما تقدم، والله الموفق.

(2/694)


ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98)

شهيدا بيني وبينكم على أنى بلغت ما أرسالات به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إنه كان بعباده المنذرين والمنذرين خبيرا عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة. وشهيدا: تمييز أو حال.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 98]
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98)
ومن يهد الله ومن يوفقه ويلطف به فهو المهتدي لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه ومن يضلل ومن يخذل فلن تجد لهم أولياء أنصارا. على وجوههم كقوله: يوم يسحبون في النار على وجوههم وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
» عميا وبكما وصما كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم «2» ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤفى الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون كلما خبت كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله ذلك جزاؤهم إلى قوله أإنا لمبعوثون خلقا جديدا.
__________
(1) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق والبزار من حديث أبى هريرة بهذا في حديث. وفيه على بن مرثد وهو ضعيف. قال البزار لا نعلمه من حديث أبى هريرة إلا بهذا الاسناد. ورواه ابن مردويه من رواية أبى داود نفيع عن أنس مثله. وأصله في الصحيحين عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟
قال: «أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ؟.
(2) . قوله «ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم» الذي في الصحاح: لذذت الشيء- بالكسر-: وجدته لذيذا. (ع)

(2/695)


أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا (100)

[سورة الإسراء (17) : آية 99]
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99)
فإن قلت: علام عطف قوله وجعل لهم أجلا؟ قلت: على قوله أولم يروا لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن كما قال: أأنتم أشد خلقا أم السماء وجعل لهم أجلا لا ريب فيه وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحودا.

[سورة الإسراء (17) : آية 100]
قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا (100)
لو حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلا بد من فعل بعدها في لو أنتم تملكون وتقديره لو تملكون، فأضمر تملك إضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو أنتم، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، وتملكون: تفسيره! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأما ما يقتضيه علم البيان، فهو: أن أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم:
لو ذات سوار لطمتنى
وقول المتلمس:
ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى «1»
وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، وبرز الكلام في صورة المبتدإ والخبر. ورحمة الله: رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم.
وقيل: هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها قتورا ضيقا بخيلا. فإن قلت: هل يقدر لأمسكتم مفعول؟
قلت: لا، لأن معناه: لبخلتم، من قولك للبخيل: ممسك.
__________
(1) .
ولو غير إخوانى أرادوا نقيصتى ... جعفت لهم فوق العرانين ميسما
وهل كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى عليه تقدما
للمتلمس خال طرفة بن العبد، و «لو» من حروف الشرط، فمتى كان في حيزها فعل فهي أحق به، فغير إخوانى فاعل لمحذوف يفسره المذكور، أى: ولو أراد غير إخوانى. ويروى: أخوالى، نقيصتى: أى ظلمى، لوسمتهم بالذل وسما ظاهرا، كأنه فوق الأنوف، وخصها لأنها لا تخفى. والميسم: آلة الوسم بالنار، والمراد أثره وهو السمة.
وهل: استفهام إنكارى، أى: لو كافأت إخوانى لا أكون إلا مثل من قطع كفه بكفه الأخرى، والكف يذكر ويؤنث، فلذلك وصفه بأنه تقدم على الكف الآخر واعتدى عليه ووصفه بأخرى. والمقابلة بين الكفين تؤيد رواية إخوانى بالنون.

(2/696)


ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك ياموسى مسحورا (101)

[سورة الإسراء (17) : آية 101]
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)
عن ابن عباس رضى الله عنهما: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات: مكان الحجر، والبحر، والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس «1» ، فقال له عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا، أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم «2» وحمص وعدس، كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أن بعض اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أوحى الله إلى موسى: أن قل لبنى إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت «3» فسئل بني إسرائيل فقلنا له: سل بنى إسرائيل، أى: سلهم من فرعون «4» وقل له: أرسل معى بنى إسرائيل. أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم. أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدل عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسال بنى إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش. وقيل:
فسل يا رسول الله المؤمنين من بنى إسرائيل، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقينا وطمأنينة قلب، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي. فإن قلت: بم تعلق إذ جاءهم؟ قلت: أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف، أى فقلنا لهم سلهم حين جاءهم، أو بسأل في القراءة الثانية. وأما على الأخير فبآتينا. أو بإضمار
__________
(1) . قوله «فذكر اللسان والطمس» لعله العقدة التي كانت بلسانه فحلها كما عده الخازن. وأما الطمس: فهو إجابة دعائه في قوله ربنا اطمس على أموالهم ويشير إلى ذلك ذكر ما في الجواب. (ع)
(2) . قوله «وفوم» في الصحاح «الفوم» الثوم. ويقال له: الحنطة. (ع)
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبراني: كلهم من رواية عبد الله بن سلام عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله: فقال لا تقل له نبى فان سمعك صارت له أربعة أعين. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه. فذكر الحديث. ولم يقل أحد منهم «أوحى إلى موسى أن قل لبنى إسرائيل» والباقي سواء، عبد الله بن سلام كبر فساء حفظه وكان المسئول عنه العشر كلمات، لأن عددها عشرة لا التسع آيات. لأن العشر وصايا كهذه، والتسع حجج على فرعون وقومه. [.....]
(4) . قوله «سلهم من فرعون» يعنى اطلبهم منه. (ع)

(2/697)


قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا (102) فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (104) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106)

اذكر، أو يخبروك. ومعنى إذ جاءهم إذ جاء آباءهم مسحورا سحرت فخولط عقلك.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 102 الى 104]
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا (102) فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (104)
لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات إلا الله عز وجل بصائر بينات مكشوفات، ولكنك معاند مكابر: ونحوه: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقرئ «علمت» بالضم، على معنى: إنى لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر.
وأن هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك مثبورا هالكا، وظنى أصح من ظنك، لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها. وأما ظنك فكذب بحت، لأن قولك مع علمك بصحة أمرى، إنى لأظنك مسحورا قول كذاب. وقال الفراء: مثبورا مصروفا عن الخير مطبوعا على قلبك، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أى: ما منعك وصرفك؟
وقرأ أبى بن كعب: وإن إخالك يا فرعون لمثبورا، على: إن المخففة واللام الفارقة فأراد فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يستفزكم منها فإذا جاء وعد الآخرة يعنى قيام الساعة جئنا بكم لفيفا جمعا مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم: واللفيف: الجماعات من قبائل شتى.

[سورة الإسراء (17) : آية 105]
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105)
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير. أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين وما أرسلناك إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك.

[سورة الإسراء (17) : آية 106]
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106)

(2/698)


قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)

وقرآنا منصوب بفعل يفسره فرقناه وقرأه أبى: فرقناه، بالتشديد، أى: جعلنا نزوله مفرقا منجما. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قرأ مشددا وقال: لم ينزل في يومين أو ثلاثة، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة، يعنى: أن فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب «على مكت» بالفتح والضم: على مهل وتؤدة وتثبت ونزلناه تنزيلا على حسب الحوادث

[سورة الإسراء (17) : الآيات 107 الى 109]
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل- وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحى وما الشرائع- قد آمنوا به وصدقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربى الموعود في كتبهم، فإذا تلى عليهم خروا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشربه من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله إن كان وعد ربنا لمفعولا...... ويزيدهم خشوعا أى يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين- فإن قلت: إن الذين أوتوا العلم من قبله تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله آمنوا به أو لا تؤمنوا وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه، كأنه قيل: تسل عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأول: إن لم تؤمنوا به لقد آمن «1» به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خر لذقنه ولوجهه؟ قال:
فخر صريعا لليدين وللفم «2»
__________
(1) . قوله «لقد آمن» لعله «فقد» . (ع)
(2) .
فيوم الكلاب قد أزالت رماحنا ... شرحبيل إذ آلى آلية مقسم
لينتزعن أرماحنا فأزاله ... أبو حنش عن ظهر شنقاء صلدم
تناوله بالرمح ثم انثنى له ... فخر صريعا لليدين وللفم
لجابر الثعلبي. وقيل: البيت الثالث لشريح العبسي. وقيل: لزهير. والكلاب بالضم اسم موضع الواقعة. وآلي:
أى حلف. والشنقاء: الطويلة من الخيل، والصلدم- بكسر المهملتين-: القوية. ويروى: ثم اثنى له. وأصله:
انثنى، فأدغمت النون بعد قلبها ثاء في الثاء. ولو قرئ: ثم ائتني، من أتانى وتمهل لجاز. ويروى: دلفت له بالرمح من تحت بزه. ويروى: شقفت له بالرمح جيب قميصه. ولعل اختلاف الروايات لاختلاف القائل. والتناول:
الأخذ، فالمعنى: لحقه فطعنه بالرمح، كأنه أخذه، ثم انثنى له: أى طعنه مرة أخرى، فسقط مطروحا، وجعل ذلك ليديه وفمه، لأنها التي يستقبل بها الأرض أولا حين سقوطه على وجهه، واللام هنا بمعنى على كما ذكره النحاة، وإن أنكره النحاس. ودلف دلفا كتعب تعبا: إذا تقدم بسرعة وقارب بين خطاه. وجيب قميصه: كناية عن صدره، لأنه إذا شق طوق القميص بالرمح فقد شق الصدر.

(2/699)


قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110)

قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به، لأن اللام للاختصاص. فإن قلت: لم كرر يخرون للأذقان؟ قلت: لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين.

[سورة الإسراء (17) : آية 110]
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110)
عن ابن عباس رضى الله عنهما سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيدا. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى ادعوا الله أو ادعوا الرحمن سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في أيا عوض من المضاف إليه. وما صلة للإبهام المؤكد لما في أى، أى: أى هذين الاسمين سميتم وذكرتم فله الأسماء الحسنى والضمير في فله ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى، لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله فله الأسماء الحسنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء. أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم بصلاتك بقراءة صلاتك على حذف المضاف، لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين ولا تخافت حتى لا تسمع من خلفك وابتغ بين الجهر المخافتة سبيلا وسطا. وروى أن أبا بكر رضى الله عنه كان يخفى صوته بالقراءة في صلاته ويقول:

(2/700)


وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111)

أناجى ربى وقد علم حاجتي، وكان عمر رضى الله عنه يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض «1» قليلا. وقيل: معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار. وقيل بصلاتك بدعائك. وذهب قوم إلى أن الآية منسوخة بقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية وابتغاء السبيل: مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة ولي من الذل ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.

[سورة الإسراء (17) : آية 111]
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111)
فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد «2» ؟ قلت: لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس الحمد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية «3» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة بنى إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» . رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم.
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من رواية يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبى قتادة بمعناه. وليس فيه قوله «قد علم حاجتي» وفيه أن كلام كل منهما كان لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال الترمذي. رواه أكثر الناس فلم يذكروا أبا قتادة. وقال ابن أبى حاتم عن أبه لفظا فيه يحيى بن إسحاق والصواب مرسلا، وفي الباب عن على أخرجه البيهقي في الشعب. وعن أبى هريرة أخرجه أبو داود من رواية محمد بن عمر. وعن أبى سلمة عنه مختصرا. وأخرجه الطبري من رواية محمد بن سيرين قال «نبئت أن أبا بكر فذكره» وقال فيه: أناجى ربى وقد علم حاجتي»
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك ... الخ» قال أحمد: وقد لاحظ الزمخشري هاهنا ما أغفله عند قوله تعالى الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وقد رددت هذا الوجه فيما تقدم، بأن هذه الجملة لا يليق اقترانها بكلمة التحميد ولا تناسبها، فإنك لو قلت ابتداء: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، لم يكن مناسبا، والله أعلم.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق. قالا أخبرنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(2/701)


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)

سورة الكهف
(مكية [إلا آية 38 ومن آية 83 إلى غاية آية 101 فمدنية] وآياتها 110 [نزلت بعد الغاشية] ) بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4)
ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)
لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم ولم يجعل له عوجا ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن معانيه، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه. فإن قلت: بم انتصب قيما؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب، لأن قوله ولم يجعل معطوف على أنزل، فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذى الحال ببعض الصلة، وتقديره: ولم يجعل له عوضا جعله قيما، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الاخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السير والتصفح. وقيل: قيما على سائر الكتب مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. وقرئ قيما.
«أنذر» متعد إلى مفعولين، كقوله نا أنذرناكم عذابا قريبا
فاقتصر على أحدهما، وأصله

(2/702)


فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)

لينذر الذين كفروا بأسا شديدا والبأس من قوله بعذاب بئيس وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة من لدنه صادرا من عنده. وقرئ: من لدنه، بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون ويبشر بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت: لم اقتصر على أحد مفعولي أنذر؟ قلت: قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه، فوجب الاقتصار عليه.
والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا متعلقا بالمنذرين من غير ذكر المنذر به، كما ذكر المبشر به في قوله أن لهم أجرا حسنا استغناء بتقدم ذكره.
والأجر الحسن: الجنة ما لهم به من علم أى بالولد أو باتخاذه، يعنى أن قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء، وقد اشتملته «1» آباؤهم من الشيطان وتسويله.
فإن قلت: اتخاذ الله ولدا في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم به من علم «2» ؟ قلت: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. قرئ: كبرت كلمة، وكلمة: بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية، والنصب أقوى وأبلغ. وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أكبرها كلمة.
وتخرج من أفواههم صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشورا «3» من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ كبرت بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت: إلى قولهم اتخذ الله ولدا وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها.

[سورة الكهف (18) : آية 6]
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا
__________
(1) . قوله «وقد اشتملته» لعله: استملته، بإهمال السين وسكون الميم. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل لهم ... الخ» قال أحمد: قد مضى له في قوله تعالى وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا أن ذلك وارد على سبيل التهكم، وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل. ونظيره:
ولا يرى الضب بها ينجحر
وقد قدمت حينئذ أن الكلام وارد على سبيل الحقيقة والأصل، وأن نفى إنزال السلطان تارة يكون لاستحالة إنزاله ووجوده، وتارة يكون، لأنه لم يقع وإن كان ممكنا، والله أعلم.
(3) . قوله «تشورا من إظهاره» أى تباعدا من إظهاره، كأنه عورة. وفي الصحاح «الشوار» الفرج.
ومنه قيل: شور به، كأنه أبدى عورته. (ع)

(2/703)


إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11)

على فراقهم. وقرئ: باخع نفسك، على الأصل، وعلى الإضافة: أى قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ: إن لم يؤمنوا. وللمضى فيمن قرأ: أن لم يؤمنوا، بمعنى: لأن لم يؤمنوا بهذا الحديث بالقرآن أسفا مفعول له، أى: لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالا.
والأسف: المبالغة في الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف.

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 الى 11]
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا (11)
ما على الأرض يعنى ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وحسن العمل: الزهد فيها وترك الاغترار بها، ثم زهد في الميل إليها بقوله وإنا لجاعلون ما عليها من هذه الزينة صعيدا جرزا يعنى مثل أرض بيضاء لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة: من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق «1» فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن، ثم قال أم حسبت يعنى أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة. والكهف: الغار الواسع في الجبل والرقيم اسم كلهم. قال أمية ابن أبى الصلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهم والقوم في الكهف همد «2»
وقيل: هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. وقيل: إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل: الجبل. وقيل:
__________
(1) . قوله «مما خلق» لعله بما «خلق» . (ع)
(2) . لأمية بن أبى الصلت، والرقيم: كلب أصحاب الكهف. والوصيد: فناء البيت وبابه وعتبته، والبيت يحتملها. والهمد: جمع هامد، أى: راقد. والقوم: عطف على الرقيم. ويقول: ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حال كونه مجاورا لفناء غارهم، وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف: أى الغار.

(2/704)


ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)

قريتهم. وقيل: مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين كانوا آية عجبا من آياتنا وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب من لدنك رحمة أى رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء وهيئ لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار رشدا حتى تكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله، كقولك: رأيت منك أسدا فضربنا على آذانهم أى ضربنا عليها حجابا من أن تسمع، يعنى: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته، يريدون: بنى عليها القبة سنين عددا ذوات عدد، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة، لأن الكثير قليل عنده، كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. وقال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد

[سورة الكهف (18) : آية 12]
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)
أي يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه لنعلم فلم يعمل فيه. وقرئ، ليعلم، وهو معلق عنه أيضا، لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد «يعلم» إليه، وفاعل «يعلم» مضمون الجملة، كما أنه مفعول «نعلم» أي الحزبين المختلفين منهم في مدة لبثهم، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو أى الحزبين المختلفين من غيرهم، وأحصى فعل ماض أى أيهم ضبط «1» أمدا لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو «أعدى من الجرب» ، و «أفلس من ابن المذلق» شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن أمدا لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل «2» فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا، فلا يسد عليه المعنى. فإن زعمت أنى
__________
(1) . قال محمود «أحصى فعل ماض، أى: لنعلم أيهم ضبط أمدا ... الخ» قال أحمد: وقد جعل بعض النحاة بناء افعل من المزيد فيه الهمز قياسا، وادعى ذلك مذهبا لسيبويه، وعلله يأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة، وإنما هو تعويض همزة بهمزة.
(2) . عاد كلامه. قال: وأيضا فلو كان للتفضيل لم يخل انتصاب أمدا إما بأفعل ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن ينصبه على التمييز، كانتصاب العدد تمييزا في قوله تعالى أحصى كل شيء عددا ويعضد حمله على أفعل التفضيل وروده في نظير الواقعة واختلاف الأحزاب في مقدار اللبث، وذلك في قوله تعالى إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما فأمثلهم طريقة: هو أحصاهم لما لبثوا عددا. وكلا الوجهين جائز، والله أعلم.

(2/705)


نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15)

أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى، كما أضمر في قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا «1»
على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت: كيف جعل الله تعالى العلم بإحصائهم المدة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت: الله عز وجل لم يزل عالما بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيمانا واعتبارا، ويكون لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15]
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15)
__________
(1) .
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمي للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرماح المداعسا
إذا الخيل حالت عن صريع نكرها ... عليهم فما يرجعن إلا عوابسا
للعباس بن مرداس السلمى، والحي بنو زبيد من اليمن. وأكر: أشد كرا. وأحمى: أشد حماية. والحقيقة:
ما يستحق الذب عنه من عرض ومال. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى بيضة الفارس وأعلى رأس الفرس.
والمذاكي: الخيل العناق العتاق التي أتى عليها بعد قروحها سنة، جمع المذاكي اسم مفعول. والمداعس: الرماح الصم التي يطعن بها. والدعس بالتحريك الأثر، والمداعسة المطاعنة. والمدعس: الرمح الأصم الذي يطعن به.
ويروى: جالت، بدل حالت أى: مالت إلى جول بالجيم أى ناحية. وأما الحول بالحاء فهو التحول. والصريع:
الطريح على الأرض، ونكرها: نرجعها، والعوابس: كالحات الوجوه من الجري في الغبار. وحيا مصبحا، أى:
مأتيا في الصباح مفعول. ومثل الحي: حال، على أن رأى بصرية. أو مفعول ثان، على أنها علمية، وأكر: بدل من حيا، ولا يصح جعله صفة أو مفعول ثان، لأنك لو قلت: ما رأيت مثل زيد رجلا أفضل منه لم يستقم المعنى إلا على البدلية، لأن المماثلة تنافى المفاضلة، إلا أن تكون المماثلة في صفة والمفاضلة في أخرى، فلا مانع منه حينئذ. وأضرب: أفعل تفضيل، بدل من فوارس على ما تقدم، فهو لف ونشر مرتب. وأفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، بل حكى الإجماع على ذلك، فالقوانس نصب بمحذوف، أى: يضرب القوانس أى الرؤوس، لكن قال محمد بن مسعود في كتابه البديع: غلط من قال: إن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، واستشهد بهذا البيت وغيره. وبين مدح الفريقين بقوله: إذا شددنا عليهم مرة قابلونا بالخيل العتاق والرماح الجيدة، فهم شجعان.
وبقوله: إذا مالت خيلنا أو تحولت عن قتيل منا، نرجعها عليهم لأجل الثأر، فما ترجع إلا كوالح، فنحن أشجع منهم. [.....]

(2/706)


وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا (16) وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17)

وزدناهم هدى بالتوفيق والتثبيت وربطنا على قلوبهم وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام إذ قاموا بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم فقالوا ربنا رب السماوات والأرض ... شططا قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه، من شط: إذا بعد. ومنه: أشط. في السوم وفي غيره هؤلاء مبتدأ، وقومنا عطف بيان واتخذوا خبر وهو إخبار في معنى إنكار لولا يأتون عليهم هلا يأتون على عبادتهم، فحذف المضاف بسلطان بين وهو تبكيت، لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت افترى على الله كذبا بنسبة الشريك إليه.

[سورة الكهف (18) : آية 16]
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا (16)
وإذ اعتزلتموهم خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم وما يعبدون نصب، عطف على الضمير، يعنى: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم إلا الله يجوز أن يكون استثناء متصلا، على ما روى: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل: هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله مرفقا قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به: أى ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبى في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا.

[سورة الكهف (18) : آية 17]
وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17)
تتزاور أى تمايل، أصله: تتزاور، فخفف بإدغام التاء في الزاى أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ: تزور. وتزوار: بوزن تحمر وتحمار، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق ذات اليمين جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين تقرضهم تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة:

(2/707)


وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس «1»
وهم في فجوة منه وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم. وقيل: في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسبون كرب الغار ذلك من آيات الله أى ما صنعه الله بهم- من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة- آية من آياته، يعنى: أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم، اختصاصا لهم بالكرامة. وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش، فهم في مقنأة «2» أبدا. ومعنى ذلك من آيات الله أن شأنهم وحديثهم من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله.

[سورة الكهف (18) : آية 18]
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)
وتحسبهم بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد. والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل: لكثرة تقلبهم
__________
(1) .
نظرت بجرعاء السبية نظرة ... ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
لذي الرمة. وجرعاء السبية: اسم موضع، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الفاعل. وضحى: ظرف، وسواد العين ... الخ. جملة حالية، في الماء، أى: الدمع شامس، أى كثير الحركة والاضطراب. يقال: شمس الفرس والرجل شموسا، إذا ساء خلقه، والظعينة: المرأة في الهودج أو المطية عليها امرأة أولا، أو الهودج فيه امرأة أولا. والجمع ظعن وظعن وأظعان وظعانى ويقرضن أى يقطعن. وأقواز مشرف: أعالى جبل مشرف. ويروى أجواز جمع جوز بمعنى المجاز والطريق، أى: يفصلناه عنهن، وشمالا: جهة الشمال، والفوارس: اسم موضع، وجعله جمع فارس، كما قيل: تبعده المقابلة.
(2) . قوله «فهم في مقنأة» في الصحاح: قال أبو عمرو «المقنأة، والمقنؤة» الذي لا تطلع عليه الشمس.
وقال: غير مقناة. ومقنوة. بغير همز: نقيض المضحاة. (ع)

(2/708)


وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19) إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)

وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وقرئ: ويقلبهم. بالياء والضمير لله تعالى. وقرئ: وتقلبهم، على المصدر منصوبا، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه وتحسبهم أيقاظا كأنه قيل: وترى وتشاهد تقلبهم. وقرأ جعفر الصادق: وكالبهم أى وصاحب كلبهم باسط ذراعيه حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة، كغلام زيد، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد: الفناء، وقيل: العتبة. وقيل: الباب. وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... على ومعروفى بها غير منكر «1»
وقرئ: ولملئت، بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ بتخفيف الهمزة وقلبها ياء. ورعبا بالتخفيف والتثقيل، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أى يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل:
لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم. وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضى الله عنه:
ليس لك ذلك، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا فقال معاوية، لا أنتهى حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم «2» . وقرئ: لو اطلعت، بضم الواو.

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وكذلك بعثناهم ليتسائلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19) إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)
وكذلك بعثناهم وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إذكارا بقدرته على الإنامة والبعث
__________
(1) . لزهير. والوصيد: الفناء والباب والعتبة. يقول: نزلت في أرض خالية من البناء، تصلني فيها الضيفان والقفاة، ليس فيها بناء له وصيد. فيسد على فتنحجب عنى الضيفان كأهل الحضر، فنفى السد كناية عن نفى الوصيد من أصله، وإحسانى بها معروف لا ينكره أحد من الناس.
(2) . أخرجه ابن أبى حاتم وعبيد بن محمد وأبو بكر بن أبى شيبة من رواية يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده صحيح.

(2/709)


جميعا، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم جواب مبنى على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ قالوا ربكم أعلم بما لبثتم إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم، كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله. وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب «1» فاتخذ أنفا من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب «2» . وقرئ:
بورقكم، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير: بورقكم، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف. وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزودهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أن حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضى الله عنها- لمن سألها عن محرم يشد عليه هميانه-: أوثق عليك نفقتك «3» . وما حكى عن بعض صعاليك العلماء»
أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شد الهميان، والتوكل على الرحمن أيها أى أهلها، فحذف الأهل كما في قوله وسئل القرية، أزكى طعاما أحل وأطيب وأكثر وأرخص وليتلطف وليتكلف اللطف والنيقة «5» فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف ولا يشعرن بكم أحدا
__________
(1) . قوله «يوم الكلاب» في وقعة الكلاب، وهو بالضم: اسم ماء كانت عنده الوقعة، أفاده الصحاح، (ع)
(2) . أخرجه أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن طرفة. عن عرفجة. وفي رواية بعضهم «أن عرفجة» .
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عنها بذلك.
(4) . قوله «عن بعض صعاليك العلماء» أى فقرائهم. (ع)
(5) . قوله «والنيقة» أى: الإتقان. (ع)

(2/710)


وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21)

يعنى: ولا يفعلن ما يؤدى من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعارا منه بهم، لأنه سبب فيه الضمير في إنهم راجع إلى الأهل المقدر في أيها. يرجموكم يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم، وكانت عادتهم أو يعيدوكم أو يدخلوكم في ملتهم بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم، يقولون: ما عدت أفعل كذا. يريدون ابتداء الفعل ولن تفلحوا إذا أبدا إن دخلتم في دينهم.

[سورة الكهف (18) : آية 21]
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21)
وكذلك أعثرنا عليهم وكما أنمناهم وبعثناهم، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم أن وعد الله حق وهو البعث، لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. وإذ يتنازعون متعلق بأعثرنا. أى: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث، فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح، ليرتفع الخلاف، وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت فقالوا حين توفى الله أصحاب الكهف ابنوا عليهم بنيانا أى على يأب كهفهم. لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة قال الذين غلبوا على أمرهم من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم أى: يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدون الطريق إليهم، فقالوا: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. روى أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها، وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله فقال:
ما تريدون منى، أنا أحب أحباء الله، فناموا وأنا أحرسكم. وقيل: مروا براع معه كلب فتبعهم «1»
__________
(1) . قوله «وقيل: مروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم» لعل بعده سقطا تقديره: وتبعهم الكلب، كما في الخازن. (ع)

(2/711)


سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22)

على دينهم، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه، ثم ضرب الله على آذانهم، وقيل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن. وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس:
اتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث، ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدا. ربهم أعلم بهم من كلام المتنازعين، كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل رد لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.

[سورة الكهف (18) : آية 22]
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22)
سيقولون الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارا بما سيجرى بينهم من اختلافهم في عددهم، وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عباس رضى الله عنه: أنا من أولئك القليل. وروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب وكان نسطوريا:
كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين.
وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبريل عليه السلام. وعن على رضى الله عنه: هم سبعة نفر أسماؤهم: يمليخا، ومكشليتيا، ومشلينيا: هؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش، ودبرنوش، وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره.

(2/712)


والسابع: الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس. واسم مدينتهم: أفسوس.
واسم كلبهم: قطمير. فإن قلت: لم جاء بسين الاستقبال في الأول دون الآخرين؟ قلت: فيه وجهان: أن تدخل الآخرين في حكم السين، كما تقول: قد أكرم وأنعم، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له رجما بالغيب رميا بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله ويقذفون بالغيب أى يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظن، فكأنه قيل: ظنا بالغيب، لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجم «1»
أى المظنون. وقرئ: ثلات رابعهم، بإدغام الثاء في تاء التأنيث. وثلاثة خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلاثة. وكذلك خمسة وسبعة ورابعهم كلبهم جملة من مبتدإ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم، وثامنهم كلبهم. فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأولين «2» ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حال عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر. ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت
__________
(1) .
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
لزهير من معلقته، ينهى عبسا وذبيان عن القتال. يقول: ليست الحرب إلا التي علمتموها وجربتموها، وشبهها بمطعوم مكروه على طريق الكناية والذوق تخييل، وما هو: أى الحديث عن الحرب، ولما كان الضمير عائدا على المصدر في المعنى صح تعلق المجرور به، ويبعد تعلقه بما بعده. والترجيم: الرمي بالرجام وهي الحجارة الصغار، استعير لالقاء الكلام بلا روية ولا فكر على طريق التصريحية.
(2) . قال محمود: إن قلت «لم دخلت الواو في الجملة الأخيرة ... الخ» ؟ قال أحمد: وهو الصواب، لا كمن يقول: إنها واو الثمانية فان ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة وفتحت أبوابها بخلاف أبواب النار، فانه قال فيها فتحت أبوابها قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة.
وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو، وربما عدوا من ذلك والناهون عن المنكر وهو الثامن من قوله التائبون وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة، لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف، لما بينهما من التناسب والربط.
ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما، كقوله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وربما عد بعضهم من ذلك الواو في قوله ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن، وهذا غلط فاحش، فان هذه واو التقسيم، ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا، لم يسند الكلام، فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق.

(2/713)


ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24)

مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم. والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله رجما بالغيب وأتبع القول الثالث قوله ما يعلمهم إلا قليل وقال ابن عباس رضى الله عنه: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أى: لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها. وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. وقيل: إلا قليل من أهل الكتاب. والضمير في سيقولون على هذا لأهل الكتاب خاصة، أى: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم، وأكثرهم على ظن وتخمين فلا تمار فيهم فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الرد عليهم، كما قال وجادلهم بالتي هي أحسن. ولا تستفت ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له، حتى يقول شيئا فترده عليه وتزيف ما عنده، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد، لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24)
ولا تقولن لشيء ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعل ذلك الشيء غدا أى فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد الغد خاصة إلا أن يشاء الله متعلق بالنهى لا بقوله: إنى فاعل، لأنه لو قال: إنى فاعل كذا إلا أن يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون «1» فعله، وذلك مما لا مدخل فيه للنهى، وتعلقه بالنهى على وجهين، أحدهما: ولا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه. والثاني: ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله، أى: إلا بمشيئة الله، وهو في موضع الحال، يعنى: إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا:
__________
(1) . قال محمود: «كان معناه إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ... الخ» قال أحمد: ولا بد من حمل الكلام على أحد الوجهين المذكورين، ولولا ذلك لكان المعنى على الظاهر ببادئ الرأى: ولا تقولون لشيء إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول، وليس الغرض ذلك، وإنما الغرض النهى عن هذا القول إلا مقرونا بقول المشيئة، وليت شعري ما معنى قول الزمخشري في تفسير الآية، كأن المعنى: إلا أن تعترض المشيئة دونه، معتقدا أن مشيئة الله تعالى لا تعترض على فعل أحد، فكم شاء من الأفعال فتركت، وكم شاء من التروك ففعلت على زعم القدرية، فلا معنى على أصلهم الفاسد لتعليق الفعل بالمشيئة قولا وهو غير متعلق بها وقوعا، حتى أن قول القائل: لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أن أفعله: كذب وخلف بتقدير فعله إذا كان من قبيل المباح، لأن الله تعالى لا يشاؤه على زعمهم الفاسد، فما أبعد عقدهم من قواعد الشرع: فسحقا سحقا.

(2/714)


إن شاء الله وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون أن يشاء الله «1» في معنى كلمة تأبيد، كأنه قيل ولا تقولنه أبدا. ونحوه قوله وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله.
وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وذى القرنين. فسألوه فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش واذكر ربك أى مشيئة ربك وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك. والمعنى:
إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنه:
ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة. وعن طاوس: هو على ثنياه «3» ما دام في مجلسه. وعن الحسن نحوه. وعن عطاء: يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضى الله عنه في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه: فقال أبو حنيفة: هذا يرجع عليك، إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضى عنه. ويجوز أن يكون المعنى:
واذكر «4» ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل: واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل: واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسى، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وهذا إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف. ومعناه: لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبى صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدل، والظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربك.
وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربى أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسى أقرب منه رشدا وأدنى خيرا ومنفعة. ولعل النسيان كان خيرة، كقوله أو ننسها نأت بخير منها.
__________
(1) . قوله «إن شاء الله» لعله أن يشاء الله. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «وقوله واذكر ربك إذا نسيت أى كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها، فتداركها بالذكر.
وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم تحنث إلى قوله: وعند عامة الفقهاء ... الخ» قال أحمد: أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها، والله أعلم
(3) . قوله «هو على ثنياه» في الصحاح «الثنيا» بالضم: الاسم من الاستثناء. (ع)
(4) . قال محمود: «ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح ... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا التأويل بقوله تعالى أول القصة أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا فافتتح ذكر القصة بتقليل شأنها وإنكار عده من عجائب آيات الله، ثم ختمها بأمره عليه الصلاة والسلام بطلب ما هو أرشد وأدخل في الآية والله أعلم.

(2/715)


ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26) واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)

[سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26]
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26)
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين يريد لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدة، وهو بيان لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ومعنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم، والحق ما أخبرك الله به. وعن قتادة: أنه حكاية لكلام أهل الكتاب. وقل الله أعلم رد عليهم. وقال في حرف عبد الله:
وقالوا لبثوا. وسنين: عطف بيان لثلثمائة. وقرئ: ثلاثمائة سنين، بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله بالأخسرين أعمالا وفي قراءة أبى: ثلاثمائة سنة. تسعا تسع سنين، لأن ما قبله يدل عليه. وقرأ الحسن: تسعا بالفتح، ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفى فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به. وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يذرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر ما لهم الضمير لأهل السموات والأرض من ولي من متول لأمورهم ولا يشرك في حكمه في قضائه أحدا منهم. وقرأ الحسن: ولا تشرك، بالتاء والجزم على النهى.

[سورة الكهف (18) : آية 27]
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27)
كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فقيل له واتل ما أوحي إليك من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكلمات ربك، أى: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، إنما يقدر على ذلك هو وحده وإذا بدلنا آية مكان آية. ولن تجد من دونه ملتحدا ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.

[سورة الكهف (18) : آية 28]
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)

(2/716)


وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نح هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن، وهم: صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين، حتى نجالسك كما قال قوم نوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فنزلت: واصبر نفسك واحبسها معهم وثبتها. قال أبو ذؤيب:
فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع «1»
بالغداة والعشي دائبين على الدعاء في كل وقت. وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر. وقرئ:
بالغدوة، وبالغداة أجود، لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال، وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال:
...... والزيد زيد المعارك «2»
ونحوه قليل في كلامهم. يقال: عداه إذا جاوزه ومنه قولهم. عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيدا. وإنما عدى بعن، لتضمين عدا معنى نبا وعلا، في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه:
إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت: أى غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ.
ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أى ولا تضموها إليها أكلين لها. وقرئ: ولا تعد عينيك، ولا تعد عينيك، من أعداه وعداه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو. ومنه قوله:
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له «3»
__________
(1) . لأبى ذؤيب في مرثية بنيه، وصبرت: أى حبست نفسا عارفة لذلك البلاء، وضمن عارفة معنى صابرة فعداه باللام، جسرة: أى قوية صلبة. ويروى: حرة، بضم الحاء، أى جيدة. ترسو: تطمئن وتسكن، إذا تطلع نفس الجيان وتجزع كأنها تريد الفرار وأصله تتطلع، حذف منه إحدى التاءين تخفيفا.
(2) .
وقد كان منهم حاجب وابن أمه ... أبو جندل والزيد زيد المعارك
دخلت «أل» المعرفة على «زيد» وهو علم لتأويله بالمسمى بزيد، ولذلك أضافه للمعارك، أى أمكنة الحروب.
يقول: وقد كان من هؤلاء القوم حاجب بن لقيط بن زرارة وابن أمه، أى أخوه أبو جندل والمسمى يزيد، المعد للحروب. وفيه إشارة إلى أنه يعرف بذلك فيما بين الناس.
(3) .
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وأتم القتود على عيرانة أحد
للنابغة الذبياني. ونما ينمى نميا: زاد وارتفع. ونماه ينميه نميا: رفعه وزاده. ونما ينمو نموا من باب دخل.
ونماه ينموه نموا أيضا، لكن الواوي قليل. والقتود: جمع أقتاد، جمع قتد: وهي عيدان الرحل بلا أداة.
والعيرانة: الشبيهة بالعير في سرعة السير. والأجد: الصلبة الموثقة الخلق. يقول: انصرف عما ترى من آثار الديار، أو عما تظن رجوعه، لأنه لا تدارك له أو لا رجوع له، وارفع عيدان الرحل على ناقة سريعة صلبة، كناية عن أمره بالسفر، لأن شد الرحال لا يكون إلا له.

(2/717)


وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)

لأن معناه: فعد همك عما ترى. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى زى الأغنياء وحسن شارتهم «1» تريد زينة الحياة الدنيا في مرضع الحال من أغفلنا قلبه من جعلنا قلبه غافلا «2» عن الذكر بالخذلان «3» .
أو وجدناه غافلا عنه، كقولك: أجبنته وأفحمته «4» وأبخلته، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها «5» بغير سمة، أى: لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة «6» بقوله واتبع هواه وقرئ: أغفلنا قلبه، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين، من أغفلته إذا وجدته غافلا فرطا متقدما للحق والصواب «7» نابذا له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدم للخيل.

[سورة الكهف (18) : آية 29]
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)
__________
(1) . قوله «وحسن شارتهم» في الصحاح: الشوار والشارة: اللباس والهيئة. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه جعلنا قلبه غافلا عن الذكر ... الخ» قال أحمد: هو يشمر للهرب من الحق، وهو أن المراد خلقنا له، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه، فان حمل «أغفل» على بابه صرفه إلى الخذلان، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة، ولا يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم.
(3) . قوله «غافلا عن الذكر بالخذلان» يتحاشى بذلك عن خلق الغفلة في قلبه، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، وأهل السنة على خلاف ذلك كما أشار إليه بقوله: توهم المجبرة. ثم إن اتباعه هواه لا ينافي خلق الله الغفلة في قلبه، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن الغفلة. (ع)
(4) . قوله «كقولك أجبنته وأفحمته» في الصحاح «أفحمته» وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(5) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا ... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى، وغرضه منه الخلاص مما قدمناه، لأنه وإن أبى خلق الله الغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الايمان، وإنما غرضنا التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر وهو عندنا ممكن، فوجب الاعتصام به، والله الموفق.
(6) . عاد كلامه. قال: «وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: واتبع هواه» قال أحمد: قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له، وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره، ولا تنافى بين الاضافتين، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية توجه، فلا محيص له عنها بوجه.
(7) . قوله «متقدما للحق والصواب» أى سابق له ومجاوز له، وفي الصحاح: أمر فرط، أى مجاوز فيه الحد.
ومنه قوله تعالى وكان أمره فرطا.

(2/718)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (31)

وقل الحق من ربكم الحق خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: جاء الحق وزاحت العلل «1» فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين. شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط، وبيت مسردق: ذو سرادق وقيل: هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار. وقيل: حائط من نار يطيف بهم «2» يغاثوا بماء كالمهل كقوله:
...... فأعتبوا بالصيلم «3»
وفيه تهكم. والمهل: ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل: دردى الزيت يشوي الوجوه إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو كعكر الزيت «4» ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه بئس الشراب ذلك وساءت النار مرتفقا متكا من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء، إلا أن يكون من قوله:
إنى أرقت فبت الليل مرتفقا ... كأن عينى فيها الصاب مذبوح «5»

[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (31)
__________
(1) . قوله «والمعنى جاء الحق وزاحت العلل» في الصحاح «زاح الشيء» بعد وذهب. وأزحت علته فزاحت. (ع) [.....]
(2) . قوله «يطيف بهم» الذي يفيده الصحاح: طاف يطوف حول الشيء: دار حوله، وطاف يطيف بالشيء:
جاءه وأ لم به، فتدبر. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد. عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد.
واستغربه. وقال: لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد وتعقب قوله: بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث.
(5) . لأبى ذؤيب الهذلي. ويروى بدل الشطر الأول: مقام الخلى وبت الليل مشتجرا. والارتفاق: الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد. والاشتجار: وضع اليد تحت الشجر وهو ما بين اللحيين والاتكاء عليها، وهي هيئة المتحزن المتحسر. والأرق، السهر. والصاب: نبت مر كالحنظل. والمذبوح: المشقوق. وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع.

(2/719)


واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34)

أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض، ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معا. أو تجعل أولئك كلاما مستأنفا بيانا للأجر المبهم. فإن قلت: إذا جعلت إنا لا نضيع خبرا، فأين الضمير الراجع منه إلى المبتدأ؟ قلت: من أحسن عملا والذين آمنوا وعملوا الصالحات ينتظمهما معنى واحد، فقام من أحسن مقام الضمير. أو أردت: من أحسن عملا منهم، فكان كقولك: السمن منوان بدرهم. من الأولى للابتداء، والثانية للتبيين.
وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن. وجمع بين السندس: وهو ما رق من الديباج، وبين الإستبرق: وهو الغليظ منه، جمعا بين النوعين. وخص الاتكاء، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 34]
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34)
واضرب لهم مثلا رجلين أى ومثل حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين وكانا أخوين في بنى إسرائيل: أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل:
هما المذكوران في سورة والصافات في قوله قال قائل منهم إني كان لي قرين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف، فقال المؤمن: اللهم إن أخى اشترى أرضا بألف دينار، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف، فتصدق به. ثم بنى أخوه دارا بألف، فقال: اللهم إنى أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف، فقال: اللهم إنى جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إنى اشتريت منك الولدان المخلدين بألف، فتصدق به ثم أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه، فتعرض له، فطرده ووبخه على التصدق بماله. وقيل:
هما مثل لأخوين من بنى مخزوم: مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد، وكان زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد جنتين من

(2/720)


ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا (36)

أعناب
بستانين من كروم وحففناهما بنخل وجعلنا النخل محيطا بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين «1» في كرومهم: أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة. يقال: حفوه، إذا أطافوا به: وحففته بهم. أى جعلتهم حافين حوله، وهو متعد إلى مفعول واحد «فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه، وغشيته به وجعلنا بينهما زرعا جعلناها أرضا جامعة للأقوات والفواكه. ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص، ثم بما وهو أصل الخير ومادته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به، وهو السيح بالنهر الجاري فيها.
والأكل: الثمر. وقرئ بضم الكاف ولم تظلم ولم تنقص. وآتت: حمل على اللفظ، لأن كلتا لفظه لفظ مفرد، ولو قيل: آتتا على المعنى، لجاز. وقرئ: وفجرنا، على التخفيف. وقرأ عبد الله: كل الجنتين آتى أكله برد الضمير على كل وكان له ثمر أى أنواع من المال، من ثمر ماله «2» إذا كثر. وعن مجاهد: الذهب والفضة، أى: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة «3» من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه، متمكنا من عمارة الأرض كيف شاء وأعز نفرا يعنى أنصارا وحشما. وقيل: أولادا ذكورا، لأنهم ينفرون معه دون الإناث. يحاوره: يراجعه الكلام، من حار يحور إذا رجع، وسألته فما أحار كلمة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 35 الى 36]
ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا (36)
يعنى قطروس أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويعجبه منهما ويفاخره بما ملك من المال دونه. فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعنى أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما وهو ظالم لنفسه وهو معجب بما أوتى مفتخر به كافر لنعمة ربه، معرض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. إخباره عن نفسه
__________
(1) . قوله «الدهاقين» واحدة دهقان. (ع)
(2) . قوله «من تمر ماله» الذي في الصحاح: أن الثمر جمع ثمار، ككتب وكتاب. وأن الثمر أيضا: المال المثمر، ويخقف ويثقل. وأثمر الرجل: إذا كثر ماله، وثمر الله ماله، أى: كثره. وعبارة الخازن: وكان له ثمر. قرئ بالفتح جمع ثمرة، وقرئ بالضم وهو الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف من الذهب والفضة وغيرهما. وفي النسفي: له ثمر، وأحيط بثمره بفتح الميم والثاء وبضم الثاء وسكون الميم، وبضمهما. (ع)
(3) . قوله «الأموال الدثرة» الكثيرة. أفاده الصحاح. (ع)

(2/721)


قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا (38)

بالشك في بيدودة جنته: لطول أمله واستيلا الحرص عليه وتمادى غفلته واغتراره بالمهلة وإطراحه النظر في عواقب أمثاله. وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه ولئن رددت إلى ربي إقسام منه على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وكما يزعم صاحبه، ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله، وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه، كقوله إن لي عنده للحسنى، لأوتين مالا وولدا. وقرئ: خيرا منهما، ردا على الجنتين منقلبا مرجعا وعاقبة.
وانتصابه على التمييز، أى: منقلب تلك، خير من منقلب هذه، لأنها فانية وتلك باقية.

[سورة الكهف (18) : آية 37]
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37)
خلقك من تراب أى خلق أصلك، لأن خلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له سواك عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث، كما يكون المكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم كافرا

[سورة الكهف (18) : آية 38]
لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا (38)
لكنا هو الله ربي أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإدغام. ونحوه قول القائل:
وترميننى بالطرف أى أنت مذنب ... وتقليننى لكن إياك لا أقلى «1»
أى: لكن أنا لا أقليك وهو ضمير الشأن، والشأن الله ربى، والجملة خبر أنا، والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرأ ابن عامر بإثبات ألف أنا في الوصل والوقف جميعا، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة. وغيره لا يثبتها إلا في الوقف. وعن أبى عمرو أنه وقف بالهاء:
__________
(1) . يقول: وترميننى يا محبوبة بطرفك، أى: تشيرين إلى به. فالرمى: استعارة مصرحة، لأنه شبه إطلاق البصر بإطلاق الحجر. ويجوز أن الباء للالة، فالمرمى محذوف فسره بقوله: أى أنت مذنب، فأى تفسيرية، يعنى أن ما رمته به هو ادعاؤها أنه مذنب. وقلاه يقليه، وقليه يقلاه. وقد يقال: قلاه يقلاه بمعنى بغضه أشد البغض، ولكن أصله: ولكن أنا، فنقلت حركة الهمزة إلى النون ثم حذفت، ثم أدغمت النون في النون بعدها، وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ. ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت، وقدم المفعول وهو «إياك» للاهتمام ببراءتها من فلاء وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء.

(2/722)


ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41)

لكنه. وقرئ: لكن هو الله ربى، بسكون النون وطرح أنا. وقرأ أبى بن كعب: لكن أنا على الأصل. وفي قراءة عبد الله: لكن أنا لا إله إلا هو ربى. فإن قلت: هو استدراك لماذا؟
قلت: لقوله أكفرت قال لأخيه: أنت كافر بالله، لكنى مؤمن موحد، كما تقول: زيد غائب، لكن عمرا حاضر.

[سورة الكهف (18) : الآيات 39 الى 41]
ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41)
ما شاء الله يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدإ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله. أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، بمعنى: أى شيء شاء الله كان. ونظيرها في حذف الجواب لو في قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال والمعنى:
هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده: إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها، وقلت لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى. وعن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب، فيدخل من شاء. وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلا، ومن رفع جعله مبتدأ وأقل خبره، والجملة مفعولا.
ثانيا لترنى. وفي قوله وولدا نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله وأعز نفرا والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بى وما بك من الفقر والغنى، فيرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أى: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسبانا مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق صعيدا زلقا أرضا بيضاء يزلق عليها لملامتها زلقا.
وغورا كلاهما وصف بالمصدر.

(2/723)


وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا (42) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43) هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44)

[سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 43]
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا (42) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43)
وأحيط به عبارة عن إهلاكه. وأصله من أحاط به العدو، لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. ومنه قوله تعالى إلا أن يحاط بكم ومثله قولهم:
أتى عليه، إذا أهلكه، من أتى عليهم العدو: إذا جاءهم مستعليا عليهم. وتقليب الكفين: كناية عن الندم والتحسر، لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن، كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد، ولأنه في معنى الندم عدى تعديته بعلى، كأنه قيل: فأصبح يندم على ما أنفق فيها أى أنفق في عمارتها وهي خاوية على عروشها يعنى أن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم. قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها يا ليتني تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان. وقرئ: ولم تكن بالياء والتاء، وحمل ينصرونه على المعنى دون اللفظ، كقوله فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم. فإن قلت: ما معنى قوله ينصرونه من دون الله؟ قلت: معناه يقدرون على نصرته من دون الله، أى: هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لصارف وهو استيجابه أن يخذل وما كان منتصرا وما كان ممتنعا بقوته عن انتقام الله.

[سورة الكهف (18) : آية 44]
هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44)
الولاية بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما. والمعنى هنالك، أى: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه، تقريرا لقوله ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله أو: هنالك السلطان والملك لله لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعنى أن قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا كلمة ألجئ إليها فقالها جزعا مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها. ويجوز أن يكون المعنى: هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم، ويشفى صدورهم من أعدائهم، يعنى: أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وصدق قوله فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء ويعضده قوله خير ثوابا وخير عقبا أى لأوليائه. وقيل هنالك إشارة إلى الآخرة أى في تلك الدار

(2/724)


واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا (45) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا (46)

الولاية لله، كقوله لمن الملك اليوم. وقرئ «الحق» بالرفع والجر صفة للولاية والله «1» .
وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. وقرئ عقبا بضم القاف وسكونها، وعقبى على فعلى، وكلها بمعنى العاقبة.

[سورة الكهف (18) : آية 45]
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا (45)
فاختلط به نبات الأرض فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا. وقيل: نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روى ورف «2» رفيفا، وكان حق اللفظ على هذا التفسير:
فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه.
والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة. وقرئ: تذروه الريح. وعن ابن عباس: تذريه الرياح، من أذرى: شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفا «3» ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن وكان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء مقتدرا.

[سورة الكهف (18) : آية 46]
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا (46)
الباقيات الصالحات أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا. وقيل هي الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وعن قتادة: كل ما أريد به وجه الله خير ثوابا أى ما يتعلق بها من
__________
(1) . قال محمود: «قرئ بالرفع والجر صفة الولاية والله تعالى ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم الإنكار عليه في مثل هذا القول فانه يوهم أن القراآت موكولة إلى رأى الفصحاء واجتهاد البلغاء، فتتفاوت في الفصاحة لتفاوتهم فيها، وهذا منكر شنيع. والحق: أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه فوعاه متصلا بفلق إليه صلى الله عليه وسلم منزلا كذلك من السماء، فلا وقع لفصاحة الفصيح، وإنما هو ناقل كغيره، ولكن الزمخشري لا يفوته الثناء على رأس البدعة ومعدن الفتنة، فان عمرو بن عبيد أول مصمم على إنكار القدر وهلم جرا إلى سائر البدع الاعتزالية، فمن ثم أثنى عليه.
(2) . قوله «ورف رفيفا «في الصحاح: رف لونه رفا ورفيفا: برق وتلألأ. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه. (ع)
(3) . قوله «بحال النبات يكون أخضر وارفا» في الصحاح: ورف النبت، أى: اهتز من نضارته، فهو وارف، أى: ناضر رفاف شديد الخضرة. (ع)

(2/725)


ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49)

الثواب وما يتعلق بها من الأمل، لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله، ويصيبه في الآخرة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 48]
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48)
قرئ: تسير، من سيرت- ونسير، من سيرنا. وتسير، من سارت، أى: تسير في الجو. أو يذهب بها، بأن تجعل هباء منبثا. وقرئ: وترى الأرض على البناء للمفعول بارزة ليس عليها ما يسترها مما كان عليها وحشرناهم وجمعناهم إلى الموقف. وقرئ: فلم نغادر، بالنون والياء، يقال:
غادره وأغدره إذا تركه. ومنه الغدر. ترك الوفاء. والغدير: ما غادره السيل. وشبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان فا
مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداقد جئتمونا
أى قلنا لهم: لقد جئتمونا. وهذا المضمر هو عامل النصب في يوم نسير. ويجوز أن ينصب بإضمار اذكر. والمعنى لقد بعثناكم كما أنشأناكم ول مرة
وقيل جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولا، كقوله ولقد جئتمونا فرادى. فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى؟ قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك وعدا
وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور.

[سورة الكهف (18) : آية 49]
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49)
الكتاب للجنس وهو صحف الأعمال يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات صغيرة ولا كبيرة هنة صغيرة ولا كبيرة، وهي عبارة عن الإحاطة، يعنى: لا يترك شيئا من المعاصي إلا أحصاه، أى: أحصاها كلها كما تقول: ما أعطانى قليلا ولا كثيرا، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار. ويجوز أن يريد: وإما كان عندهم صغائر وكبائر. وقيل: لم يجتنبوا الكبائر فكتبت عليهم الصغائر وهي المناقشة. وعن ابن عباس:
الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس، والكبيرة الزنا.
وعن الفضيل: كان إذا قرأها قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر إلا أحصاها

(2/726)


وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50) ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51)

إلا ضبطها وحصرها ووجدوا ما عملوا حاضرا في الصحف عتيدا. أو جزاء ما عملوا ولا يظلم ربك أحدا فيكتب عليه ما لم يعمل. أو يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم، كما يزعم من ظلم الله «1» في تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 51]
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50) ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51)
كان من الجن كلام مستأنف «2» جار مجرى التقليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن ففسق عن أمر ربه والفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه، لأنه لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله، لأن الملائكة معصومون البتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس، كما قال لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وهذا الكلام المعترض تعمد من الله تعالى لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم. فما أبعد البون بين ما تعمده الله، وبين قول من ضاده وزعم أنه كان ملكا ورئيسا على الملائكة، فعصى، فلعن ومسخ شيطانا، ثم وركه «3» على ابن عباس. ومعنى ففسق عن أمر ربه خرج عما أمره به ربه من السجود. قال:
فواسقا عن قصدها جوائرا «4»
أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر ربه الذي هو قوله اسجدوا لآدم. أفتتخذونه الهمزة للإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته أولياء من دوني وتستبدلونهم بى، بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته ما أشهدتهم وقرئ: ما أشهدناهم، يعنى: أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما كانوا يكونون شركاء
__________
(1) . قوله «كما يزعم من ظلم الله» لعله بالتشديد، أى: نسب إليه الظلم. (ع)
(2) . قال محمود: «قوله تعالى كان من الجن مستأنف تعليل لفسوقه ... الخ» قال أحمد: والحق معه في هذا الفعل غير أن قوله «تعمده الله تعالى» لفظة لا تروق ولا تليق، فان التعمد إنما يوصف به عرفا من يفعل في بعض الأحيان خطأ وفي بعضها تعمدا، فاجتنابها في حق الله تعالى واجب، والله الموفق.
(3) . قوله «ثم وركه» أى اتهمه به. (ع) [.....]
(4) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 119 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(2/727)


ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53)

فيها لو كانوا شركاء في الإلهية، فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض لأعتضد بهم في خلقها «1» ولا خلق أنفسهم أى ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله ولا تقتلوا أنفسكم. وما كنت متخذ المضلين بمعنى وما كنت متخذهم عضدا أى أعوانا، فوضع المضلين موضع الضمير ذما لهم بالإضلال، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟ وقرئ: وما كنت، بالفتح: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ على رضى الله عنه: وما كنت متخذا المضلين، بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن: عضدا، بسكون الضاد، ونقل ضمتها إلى العين. وقرئ: عضدا، بالفتح وسكون الضاد. وعضدا، بضمتين وعضدا بفتحتين: جمع عاضد، كخادم وخدم، وراصد ورصد، من عضده: إذا قواه وأعانه،

[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 53]
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53)
يقول بالياء والنون. وإضافة الشركاء إليه على زعمهم: توبيخا لهم وأراد الجن.
والموبق: المهلك، من وبق يبق وبوقا، ووبق يوبق وبقا: إذا هلك. وأو بقه غيره. ويجوز أن يكون مصدرا كالمورد والموعد، يعنى: وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنم هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا. وعن الحسن موبقا عداوة. والمعنى: عداوة هي في شدتها هلاك، كقوله: لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا. وقال الفراء: البين الوصل أى:
وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. ويجوز أن يريد الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم، وبالموبق: البرزخ البعيد، أى: وجعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان فظنوا فأيقنوا مواقعوها مخالطوها واقعون فيها مصرفا معدلا. قال.
أزهير هل عن شيبة من مصرف «2»
__________
(1) . قوله «لأعتضد بهم في خلقها» أى لأستعين بهم. (ع)
(2) .
أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف
لأبى كبير الهذلي. والهمزة للنداء. وزهير ترخيم زهيرة اسم امرأة. والاستفهام إنكارى، أى: لا انصراف عن الشيب أولا مهرب ولا مفر منه. وأم للاضراب الانتقالى والاستفهام الإنكاري، أى: بل لا ينتفي خلود الكريم الباذل لما عنده المتكلف غير طاقته في قرى الضيفان، لأن البذل لا يمنع الخلود كأنها كانت لامته على البذل مع الشيب والعقر، فأجابها بذلك. وفيه دلالة على غاية الكرم.

(2/728)


ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (54) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (56) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57)

[سورة الكهف (18) : آية 54]
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (54)
أكثر شيء جدلا أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحدا بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل. وانتصاب جدلا على التمييز، يعنى: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء. ونحوه فإذا هو خصيم مبين

[سورة الكهف (18) : آية 55]
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55)
أن الأولى نصب. والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف تقديره وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك أو انتظار أن يأتيهم العذاب يعنى عذاب الآخرة قبلا عيانا. وقرئ «قبلا» أنواعا: «1» جمع قبيل. و «قبلا» بفتحين: مستقبلا.

[سورة الكهف (18) : آية 56]
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (56)
ليدحضوا ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن، موطئها وما أنذروا يجوز أن تكون ما موصولة، ويكون الراجع من الصلة محذوفا، أى:
وما أنذروه من العذاب. أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم. وقرئ: هزأ، بالسكون، أى: اتخذوها موضع استهزاء. وجدالهم: قولهم للرسل ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك.

[سورة الكهف (18) : آية 57]
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57)
بآيات ربه بالقرآن، ولذلك رجع إليها الضمير مذكرا في قوله أن يفقهوه.
__________
(1) . قوله «قبلا عيانا. وقرئ قبلا أنواعا» هذه القراءة بكسر ففتح. والثانية بضمتين، كما يفيده الصحاح. (ع)

(2/729)


وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59) وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا (60) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61) فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64) فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65)

فأعرض عنها فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي، غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء. ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، وجمع بعد الافراد حملا على لفظ من ومعناه فلن يهتدوا فلا يكون منهم اهتداء البتة، كأنه محال منهم لشدة تصميمهم أبدا مدة التكليف كلها. وإذا جزاء وجواب، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله: مالى لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.

[سورة الكهف (18) : آية 58]
وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58)
الغفور البليغ المغفرة ذو الرحمة الموصوف بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لهم موعد وهو يوم بدر لن يجدوا من دونه موئلا منجى ولا ملجأ. يقال:
«وأل» إذا نجا، و «وأل إليه» إذا لجأ إليه.

[سورة الكهف (18) : آية 59]
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59)
وتلك القرى يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم: أشار لهم إليها ليعتبروا.
تلك مبتدأ، والقرى صفة، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، وأهلكناهم خبر. ويجوز أن يكون تلك القرى نصبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. والمعنى:
وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة وجعلنا لمهلكهم موعدا وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر. والمهلك:
الإهلاك ووقته. وقرئ لمهلكهم بفتح الميم، واللام مفتوحة أو مكسورة، أى: لهلاكهم أو وقت هلاكهم. والموعد: وقت، أو مصدر.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 65]
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا (60) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61) فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64)
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65)

(2/730)


لفتاه لعبده. وفي الحديث: ليقل أحدكم فتاي وفتأتي، ولا يقل: عبدى «1» وأمتى.
وقيل: هو يوشع ابن نون. وإنما قيل: فتاه، لأنه كان يخدمه ويتبعه. وقيل: كان يأخذ منه العلم. فإن قلت: لا أبرح إن كان بمعنى لا أزول- من برح المكان- فقد دل على الإقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى: لا أزال، فلا بد من الخبر. قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر، لأن الحال والكلام معا يدلان عليه. أما الحال فلأنها كانت حال سفر. وأما الكلام فلأن قوله حتى أبلغ مجمع البحرين غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ، على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم، وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون.
المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ، كما تقول: لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام، وهو ملتقى بحرى فارس والروم مما يلي المشرق. وقيل: طنجة. وقيل: إفريقية. ومن بدع التفاسير: أن البحرين موسى والخضر، لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ مجمع بكسر الميم، وهي في الشذوذ من يفعل، كالمشرق والمطلع من يفعل أو أمضي حقبا أو أسير زمانا طويلا.
والحقب ثمانون سنة. وروى أنه لما ظهر موسى على مصر مع بنى إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه. فقالوا له: قد علمنا هذا، فأى الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذى القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى. وقيل: إن موسى سأل ربه: أى عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأى عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأى عبادك
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه به وأتم منه.

(2/731)


أعلم؟ قال: الذي يبتغى علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال:
أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب، كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرنى، فذهبا يمشيان، فرقد موسى، فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت، فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوبه، فسلم عليه موسى، فقال:
وأنى بأرضنا السلام، فعرفه نفسه، فقال: يا موسى، أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمى وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر نسيا حوتهما أى نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على الظفر بالطلبة. وقيل:
نسى يوشع أن يقدمه، ونسى موسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل:
إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة، ونام موسى، فلما أصاب السمكة برد الماء وروحه عاشت. وروى: أنهما أكلا منها. وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء سربا أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق، وحصل منه في مثل السرب «1» معجزة لموسى أو للخضر فلما جاوزا الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقد أمر الحوت وما كان منه.
ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وقيل: سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر، وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوز الموعد، ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك، فتذكر الحوت وطلبه. وقوله من سفرنا هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة. فإن قلت: كيف نسى يوشع ذلك، ومثله لا ينسى «2» لكونه أمارة لهما على الطلبة التي
__________
(1) . قوله «في مثل السرب» في الصحاح «السرب» بيت في الأرض. تقول منه. انسرب الوحش في سربه.
وانسرب الثعلب في جحره. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف نسى يوشع ذلك ومثله لا ينسى ... الخ» ؟ قال أحمد: وقد ورد في الحديث:
أن موسى عليه السلام لم ينصب ولم يقل لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له، فلعل الحكمة في إنساء الله تعالى ليوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات: أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة، وموقع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته بونابينا، والله أعلم. وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إذا قص عليهم القصة، فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلا وآجلا، والله أعلم.

(2/732)


قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66)

تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين ثنتين: وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها- وقيل:
ما كانت إلا شق سمكة- وقياء الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه؟ ثم كيف استمر به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت؟ قلت: قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب، حتى اعتراه النسيان وانضم إلى ذلك أنه ضرى بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، واستأنسا بإخوانه فأعان الإلف «1» على قلة الاهتمام أرأيت بمعنى أخبرنى. فإن قلت:
ما وجه التئام هذا الكلام؟ فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له؟ قلت: لما طلب موسى عليه السلام الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش وطفق يسأل موسى عليه السلام عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؟ فإنى نسيت الحوت، فحذف ذلك. وقيل:
هي الصخرة التي دون نهر الزيت. وأن أذكره بدل من الهاء في أنسانيه أى: وما أنسانى ذكره إلا الشيطان. وفي قراءة عبد الله: أن أذكركه. وعجبا ثانى مفعولي اتخذ، مثل سربا يعنى: واتخذ سبيله سبيلا عجبا، وهو كونه شبيه السرب. أو قال: عجبا في آخر كلامه، تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها أو مما رأى من المعجزتين، وقوله وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقيل: إن عجبا حكاية لتعجب موسى عليه السلام، وليس بذاك ذلك إشارة إلى اتخاذه سبيلا، أى: ذلك الذي كنا نطلب، لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء الخضر عليه السلام. وقرئ نبغ بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبى عمرو، وأما الوقف، فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لخط المصحف فارتدا فرجعا في أدراجهما «2» قصصا يقصان قصصا، أى: يتبعان آثارهما اتباعا. أو فارتدا مقتصين رحمة من عندنا هي الوحى والنبوة من لدنا مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب.

[سورة الكهف (18) : آية 66]
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66)
رشدا قرئ بفتحتين، وبضمة وسكون، أى: علما ذا رشد، أرشد به في دينى. فإن قلت:
أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه- كما قيل- موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران
__________
(1) . قوله «فأعان الالف على قلة الاهتمام» لعل المراد إلف يوشع، لرؤيته العجائب عند موسى. (ع)
(2) . قوله «فرجعا في أدراجهما» الدرج: الطريق، والجمع الأدراج. ومنه قولهم: رجعت أدراجى، أى:
رجعت في الطريق الذي جئت منه، كذا في الصحاح. (ع)

(2/733)


قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (70)

لأن النبى يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟ قلت:
لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبى مثله: وإنما بغض منه أن يأخذه ممن دونه. وعن سعيد ابن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، وأن موسى هو موسى بن ميشا، فقال: كذب عدو الله «1» .

[سورة الكهف (18) : الآيات 67 الى 68]
قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68)
نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، «2» كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكير. والرجل الصالح- فكيف إذا كان نبيا- لا يتمالك أن يشمئز ويمتعض ويجزع إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار. وخبرا تمييز، أى: لم يحط به خبرك بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر.

[سورة الكهف (18) : آية 69]
قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا (69)
ولا أعصي في محل النصب، عطف على صابرا أى: ستجدني صابرا وغير عاص.
أولا في محل، عطفا على ستجدني. رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله، علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، برى من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لا بد لما يستسمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم.

[سورة الكهف (18) : آية 70]
قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (70)
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي عن الحسن بن عمارة عن الحاكم عن سعيد بن جبير بهذا. وساق القصة كلها في الصحيحين بغير هذا اللفظ من رواية عمرو بن دينار عن سعيد.
(2) . قال محمود: «نفى الاستطاعة على وجه التأكيد ... الخ» قال أحمد: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق: أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها، ولم يقل لتغرقنا، فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول نفسي نفسي، لا يلوى على مال ولا ولد، وتلك حالة الغرق، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(2/734)


فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا (72) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا (73)

قرئ فلا تسئلني بالنون الثقيلة، يعنى: فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت منى شيئا- وقد علمت أنه صحيح إلا أنه غبي عليك وجه صحته فحميت «1» وأنكرت في نفسك- أن لا تفاتحنى بالسؤال ولا تراجعني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك. وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمتبوع مع التابع.

[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 72]
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا (72)
فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فلما ركبا قال أهلها: هما من اللصوص، وأمروهما بالخروج، فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول أخرقتها لتغرق أهلها وقرئ: لتغرق، بالتشديد. وليغرق أهلها.
من غرق وأهلها مرفوع جئت شيئا إمرا أتيت شيئا عظيما، من أمر الأمر: إذا عظم، قال:
داهية دهياء إدا إمرا «2»

[سورة الكهف (18) : آية 73]
قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا (73)
بما نسيت بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني: أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسي. أو أخرج الكلام في معرض النهى عن المؤاخذة بالنسيان، يوهمه أنه قد نسى ليبسط عذره في الإنكار، وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذب، مع التوصل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختى، وإنى سقيم. أو أراد بالنسيان: الترك، أى: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. يقال: رهقه إذا غشيه، وأرهقه إياه. أى: ولا تغشني عسرا من أمرى، وهو اتباعه إياه، يعنى: ولا تعسر على متابعتك، ويسرها على بالإغضاء وترك المناقشة. وقرئ: عسرا، بضمتين.
__________
(1) . قوله «فحميت» في الصحاح «حميت عليه» بالكسر. غضبت. (ع)
(2) .
لقد لقى الأقوام منى نكرا ... داهية دهياء إدا إمرا
النكر: المنكر. والداهية: الحادثة المكروهة من شدائد الدهر. والدهياء: مبالغة في شدتها. والاد: المنكر كل الإنكار. والامر: الشيء العظيم. يقال: أمر الشيء- بالكسر-: عظم، يصف نفسه بشدة النكاية للأعداء.
ويجوز أن الكلام من قبيل التجريد.

(2/735)


فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75) قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا (76)

[سورة الكهف (18) : الآيات 74 الى 75]
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75)
فقتله قيل: كان قتله قتل عنقه. قيل: ضرب برأسه الحائط، وعن سعيد بن جبير:
أضجعه ثم ذبحه بالسكين. فإن قلت: لم قيل حتى إذا ركبا في السفينة خرقها بغير فاء؟ وحتى إذا لقيا غلاما فقتله بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفا عليه، والجزاء قال أقتلت. فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لقاء الغلام. وقرئ: زاكية، وزكية، وهي الطاهرة من الذنوب، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت، وإما لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث بغير نفس يعنى لم تقتل نفسا فيقتص منها. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه: كيف جاز قتله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل «1» نكرا وقرئ بضمتين وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة. وقيل:
معناه جئت شيئا أنكر من الأول، لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه. فإن قلت: ما معنى زيادة لك؟ قلت: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية.

[سورة الكهف (18) : آية 76]
قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا (76)
بعدها بعد هذه الكرة أو المسألة فلا تصاحبني فلا تقاربنى، وإن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وقرى «فلا تصحبنى» فلا تكن صاحبي. وقرئ «فلا تصحبنى» أى فلا تصحبنى إياك ولا تجعلني صاحبك من لدني عذرا قد أعذرت. وقرئ: لدنى، بتخفيف النون. ولدني، بسكون الدال وكسر النون، كقولهم في عضد: عضد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رحم الله أخى موسى استحيا فقال «2» ذلك، وقال: رحمة الله علينا وعلى أخى موسى، لو لبث
__________
(1) . أخرج ابو يعلى نحوه وقال في آخره «وكان لك ذلك» وفي رواية له «فقلت ولكنك لا تعلم» فاجتنبهم وأصله في مسلم بغير هذا السياق. وأوله: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس يسأله عن قتل الولدان- الحديث» وفيه «وسألتنى عن قتل الوالدان، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم إلا أن يعلم منهم ما علم صاحب موسى من الغلام الذي قتله. [.....]
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية داود بن أبى هند عن عبد الله بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر القصة. وفيها «رحمة الله علينا وعلى موسى استحيا عند ذلك. فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني- الآية» .

(2/736)


فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا (77)

مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب «1» .

[سورة الكهف (18) : آية 77]
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا (77)
أهل قرية هي أنطاكية. وقيل: الأبلة، وهي أبعد أرض الله من السماء أن يضيفوهما وقرئ: يضيفوهما. يقال: ضافه إذا كان له ضيفا. وحقيقته: مال إليه، من ضاف السهم عن الغرض، ونظيره: زاره، من الازورار. وأضافه وضيفه: أنزله وجعله ضيفه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما «2» . وقيل شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه يريد أن ينقض استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك. قال الراعي:
في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردن نصولا «3»
وقال:
يريد الرمح صدر أبى براء ... ويعدل عن دماء بنى عقيل «4»
وقال حسان:
إن دهرا يلف شملى بجمل ... لزمان يهم بالإحسان «5»
__________
(1) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان. من رواية حمزة الزيات. عن أبى إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبى. في أثناء حديث. وأصله في مسلم.
(2) . أخرجه النسائي من رواية إسرائيل عن ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبى عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله فأبوا أن يضيفوهما. قال «كانوا أهل قرية لئاما» وهو في مسلم بلفظ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما.
(3) . للراعي يصف الإبل بأنها في مهمه: أى مفازة، قلقت: أى تحركت فيه هاماتها: أى رءوسها. قلق الفئوس: أى كتحرك الفئوس جمع فأس وهي آلة الحفر، إذا أردن: أى الفئوس، نصولا: أى قربن منه، فالارل مجاز مرسل، ونصولها: خروج الحديدة من المقبض. والنصول في كل شيء: الخروج، والانصال: الإخراج، ولقد شبه رءوس الإبل مع أعناقها بالفئوس.
(4) . الارادة هنا مجاز عن التوجه. ويجوز أن الاسناد مجاز، لأن المريد صاحب الرمح. والأوجه أنه شبه الرمح بإنسان على طريق المكنية، وإسناد الارادة والعدول إليه تخييل، أى: يريد أن يشرب من صدر أبى براء، لا من دماء هؤلاء.
(5) . لحسان بن ثابت، ولففت الشيء: طويته وأدرجته، من باب رد. والشمل. المتفرق، ويطلق على المجتمع من الأمور. وجمل: اسم محبوبته. ويروى: بسعدى. يقول: إن الدهر الذي يجمع شملى بمحبوبتى لدهريهم بالإحسان ويريده، وهم من باب رد أيضا، أى: دهر يريد الإحسان لا الاساءة كعادة الدهر، فشبه الزمان بإنسان يصح منه إرادة الإحسان على طريق المكنية، والهم تخييل. ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلى كاسناد اللف، وهما في الحقيقة لله.

(2/737)


وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعارة للجماد ولما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ قال:
إذا قالت الأنساع للبطن الحق «1»
تقول سنى للنواة طنى
لا ينطق اللهو حتي ينطق العود «2»
وشكا إلى بعبرة وتحمحم «3»
فإن يك ظنى صادقا وهو صادقي «4»
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 181 من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
لأبى نواس، شبه صوت العود على وجه الاستقامة والحسن بالنطق بالغناء على طريق التصريحية. أو شبه العود بإنسان على طريق المكنية والنطق تخييل، والسين والتاء للطلب، والسكوت ترشيح لذلك، لأنه ضد التكلف. والمراد بنطق اللهو زيادته وحسنه، فهو من باب المشاكلة، وهل هي حقيقة أو مجاز أو كناية أو قسم رابع؟ خلاف بين القوم بين في البيان.
(3) .
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعبرة وتحمحم
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
لعنترة بن شداد من معلقته، يصف فرسه بأنه ازور أى مال من وقوع الرماح بلبانه، وهو موضع اللبب من صدره، وشبهه بالعاقل على طريق المكنية والشكاية تخييل، والعبرة: البكاء. والحمحمة: صوت الصهيل يشبه الحنين، لو كان يعلم ما هي المحاورة والمخاطبة لاشتكى إلى وخاطبني حقيقة، وإنما يشكو إلى بالعبرة والتحمحم فقط.
وفسره بقوله: ولكان مكلما لي لو علم الكلام، وذلك مبالغة في شدة الحرب.
(4) .
لهفي على القوم الذين تجمعوا ... بذي السيد لم يلقوا عليا ولا عمرا
فان يك ظنى صادقا وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبسا وعرا
لكنز أم شملة بن برد المنقري، وذو السيد- بالكسر-: موضع المعركة، والسيد: الذئب. وقولها «وهو صادقي» اعتراض. وبشملة: متعلق بظنى. تقول: يا تلهفى على القوم الذين اجتمعوا في ذلك الموضع ولم يلاقهم أحد هذين الفارسين، فقتلوا بردا أبا شملة. فان يك ظنى به صادقا مع أن عادته يصدقني، يحبسهم شملة في تلك المعركة حبسا صعبا فيأخذ ثأر أبيه. ويجوز أن محبسا ظرف يدل من بها. وشبهت الظن بمن يصح منه الصدق في الخبر على طريق الكناية، والصدق تخييل لذلك. أو المعنى: فان يك ظنى مطابقا للواقع.

(2/738)


ولما سكت عن موسى الغضب
تمرد مارد وعز الأبلق «1»
ولبعضهم:
يأبى على أجفانه إغفاءه ... هم إذا انقاد الهموم تمردا»
أبت الروادف والثدى لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا «3»
قالتا أتينا طائعين ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم، كان يجعل الضمير للخضر، لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتحمل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز.
وانقض: إذا أسرع سقوطه، من انقضاض الطائر وهو يفعل، مطاوع قضضته. وقيل: افعل
__________
(1) .
وقد قالت الزبا لحصن سموأل ... تمرد مارد وعز الأبلق
مارد: هو حصن دومة الجندل. والأبلق: حصن سموأل، قصدتهما الزبا ملكة الجزيرة فاستصعبا عليها، فقالت ذلك، وصار يضرب مثلا. وقوله: لحصن سموأل، أى: ولحصن دومة الجندل. تمرد: صار أملس ناعما، ومرد مردا ومرودة، إذا كان أملس لا شعر فيه والمكان لا نبات فيه، أو تمرد بمعنى تشيطن، وفعل أهله فعل المردة من الجن، فهو لا يستطيع أحد طلوعه. وعز إن كان مضارعه بضم العين كان متعديا بمعنى غالب، وإن كان بكسرها كان لازما بمعنى امتنع. والمعنى: أنها لم تقدر على بلوغ مرادها منهما لشجاعة أهلهما.
(2) . للزمخشري. والهم: ما يهتم به، وهو فاعل. والاغفاء. النوم الخفيف، وهو مفعول، وذلك مجاز عن تسبب الهم في منع النوم. وانقياد الهموم: مجاز عن سكونها، وتمرد الهم مجاز عن تزايده وكثرة خطوره بالبال.
أو شبه الهموم بحيوانات يصح منها الانقياد والتمرد على طريق المكنية، والتمرد ضد الانقياد، وهما تخييل.
(3) .
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشى تناوحت ... نيهن حاسدة وهجن غيورا
الاباء: المنع الاختياري فشبه الروادف والثدي لكبرها بمن يصح منه ذلك على طريق المكنية والاباء تخييل.
والأقرب أنه مجاز مرسل، والمراد به مطلق المنع، والكلام بعد ذلك كناية عن نهود ثدييها وكبر رد فيها وضمور خصريها. وفيه لف ونشر غير مرتب، لأن مس البطون يرجع للثدي، ومس الظهور يرجع للروادف. وعبر بالجمع عن غيره مجازا. أو اعتبر الأجزاء، فالتجوز في مفرد الجمع. والثدي بالتشديد: جمع ثدي بالتخفيف.
والقمص: جمع قميص. وتناوح الجبلان. تقابلا، فالمراد بالتناوح: التقابل، بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها، فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره، فتنبه الحاسدة لها، ويهيج الغيور لكراهة ذلك من الرياح. وهاج الشيء: هام، وهاجه: هيمه، وهيجه: هيمه. وما هنا من الوسط. ويجوز أنه شبه على طريق المكنية. أو شبه أصواتها اللينة بالتناوح على طريق التصريحية، ثم جعل ذلك كناية عن تقابلها لأنها إنما يكون لها أصوات إذا تقابلت فاضطربت، ومع: بمعنى في.

(2/739)


قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78) أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79)

من النقض، كاحمر من الحمرة. وقرئ: أن ينقض من النقض، وأن ينقاص، من انقاصت السن إذا انشقت طولا. قال ذو الرمة:
......... منقاص ومنكثب «1»
بالصاد غير معجمة فأقامه قيل: أقامه بيده. وقيل: مسحه بيده فقام واستوى. وقيل:
أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وقيل كان طول الجدار في السماء مائة ذراع، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا وطلبت على عملك جعلا حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرئ: لتخذت، والتاء في تخذ، أصل كما في تبع، واتخذ افتعل منه، كاتبع من تبع، وليس من الأخذ في شيء.

[سورة الكهف (18) : آية 78]
قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78)
فإن قلت: هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة إلى غير الأخ ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث، أى: هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل: هذا فراق بيني وبينك. وقد قرأ به ابن أبى عبلة، فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به.

[سورة الكهف (18) : آية 79]
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79)
لمساكين قيل كانت لعشرة إخوة، خمسة منهم زمنى، وخمسة يعملون في البحر وراءهم أمامهم، كقوله تعالى ومن ورائهم برزخ وقيل: خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره، فأعلم الله به الخضر وهو «جلندى» «2» . فإن قلت: قوله فأردت أن أعيبها
__________
(1) .
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه ... من هائل الرمل منقاص ومنكثب
لذي الرمة يصف ثورا وحشيا. والكناس: بيت الوحش. وروقاه: قرناه. والمنقاص- كالمختار-: المتساقط من جانب طول الكناس. والمنكثب- بالمثلاثة-: المجتمع. وروى: منقاض، بالمعجمة. والمعنى واحد، أى:
يحفر الكناس بقرينه، ليستتر من المطر، ويهدمه المتساقط المجتمع من الرمل الرخو الهايل. [.....]
(2) . قوله «وهو جلندى» : في الخازن: وكان اسمه الجلندى الأزدى، وكان كافرا. وقيل: كان اسمه حرد ابن برد. (ع)

(2/740)


وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما (81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)

مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب «1» ، فلم قدم عليه؟ قلت:
النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظنى مقيم. وقيل في قراءة أبى وعبد الله: كل سفينة صالحة.

[سورة الكهف (18) : الآيات 80 الى 82]
وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما (81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)
وقرأ الجحدري: وكان أبواه مؤمنان، على أن «كان» فيه ضمير الشأن فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغيانا عليهما، وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شرا وبلاء، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أيعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان وإنما خشي الخضر منه ذلك، لأن الله تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره. وأمره إياه بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته. وفي قراءة أبى: فخاف ربك. والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله فخشينا حكاية لقول الله تعالى، بمعنى: فكرهنا، كقوله لأهب لك
. وقرئ: يبدلهما، بالتشديد. والزكاة: الطهارة والنقاء من الذنوب. والرحم: الرحمة والعطف. وروى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبى، فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. وقيل: ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما. قيل:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قوله فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها ... الخ» قال أحمد: وكأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدما والنية تأخيره، والله أعلم. ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله فأردت أن أعيبها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله فأردنا أن يبدلهما ربهما وفخشينا أن يرهقهما ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد ثم عيب، فتأدب ثم نسب الاعابة إلى نفسه. وإما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور، فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، أو دبرنا كذا، وإنما يعنون أمر الملك ودبر، ويدل على ذلك قوله في الثالثة فأراد ربك أن يبلغا أشدهما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير.

(2/741)


ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا (84) فأتبع سببا (85) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88)

اسما الغلامين: أصرم، وصريم. والغلام المقتول: اسمه الحسين. واختلف في الكنز، فقيل:
مال مدفون من ذهب وفضة «1» . وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله «2» . وقيل: صحف فيها علم. والظاهر لإطلاقه: أنه مال.
وعن قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا، وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا: أراد قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة. وكان أبوهما صالحا اعتداد بصلاح أبيهما وحفظ لحقه فيهما. وعن جعفر بن محمد الصادق: كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء. وعن الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله الغلامين؟ قال: بصلاح أبيهما. قال: فأبى وجدى خير منه: فقال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون رحمة مفعول له. أو مصدر منصوب بأراد ربك، لأنه في معنى رحمهما وما فعلته وما فعلت ما رأيت عن أمري عن اجتهادي ورأيى، وإنما فعلته بأمر الله.

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88]
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا (84) فأتبع سببا (85) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87)
وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والحاكم والبزار والطبراني وابن عدى من طريق مكحول. عن أم الدرداء عن أبى الدرداء وفيه يزيد بن الصنعاني وهو ضعيف.
(2) . أخرجه البزار من رواية ابن حجيرة عن أبى ذر مرفوعا بهذا، وأتم منه. وقال لا نعلمه عن أبى ذر إلا بهذا الاسناد. وروى الدارقطني في غرائب مالك من طريق محمد بن صالح بن فيروز عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال «سئل ابن عباس عن الكنز. فذكره- وقال: هذا باطل عن مالك. وروى ابن عدى. ومن رواية أبين ابن سفيان والطبراني في الدعاء. من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن أبى حازم عن ابن عباس نحوه وعن على مثل لفظ المصنف أخرجه البيهقي في الشعب من رواية جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عنه. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن على مرفوعا. ورواه ابن شاهين في الجنائز. والواحدي من رواية محمد بن مروان السدى الصغير:
عن أيان عن أنس مرفوعا أيضا. وأبان والسدى الصغير متروكان.

(2/742)


ذو القرنين: هو الإسكندر الذي ملك الدنيا. قيل: ملكها مؤمنان: ذو القرنين، وسليمان وكافران: نمروذ، وبخت نصر «1» ، وكان بعد نمروذ. واختلف فيه فقيل: كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل: نبيا. وقيل: ملكا من الملائكة. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفرا ما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. وعن على رضى الله عنه. سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له النور وسئل عنه فقال، أحبه الله فأحبه. وسأله ابن الكوا: ما ذو القرنين؟ أملك أم نبى فقال:
ليس بملك ولا نبى، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمى ذا القرنين وفيكم مثله. قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: سمى ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا «2» يعنى جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان، أى ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب: لأنه ملك الروم وفارس. وروى: الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين.
ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره. والسائلون: هم اليهود سألوه على جهة الامتحان. وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه، والخطاب في عليكم لأحد الفريقين من كل شيء أى من أسباب كل شيء، أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه سببا طريقا موصلا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق، فأتبع سببا، وأراد بلوغ السدين فاتبع سببا. وقرئ: فأتبع. قرئ: حمئة، من حمئت البئر إذا صار فيها الحمأة. وحامية بمعنى حارة. وعن أبى ذر: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل، فرأى الشمس حين غابت فقال. «يا أبا ذر، أتدري أين تغرب هذه؟
فقلت: الله ورسوله أعلم «3» . قال: فإنها تغرب في عين حامية، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق مجاهد. قال «لم يملك الأرض كلها إلا أربعة: مؤمنان، وكافران فذكره» .
(2) . لم أجده مرفوعا وإنما رواه الدارقطني في المؤتلف. من رواية عبد العزيز بن عمران. عن سليمان بن أسيد عن الزهري قال: إنما سمى ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها.
(3) . كذا في نسخ الكشاف على جمل. والذي في كتب الحديث «على حمار» ولم يصرح فيه بالارداف. عن أبى داود والحاكم من طريق الحكم بن عيينة عن إبراهيم التيمي عن أبيه. عن أبى ذر رضى الله عنه قال «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار. والشمس عند غروبها فقال: هل تدرى أين تغرب هذه؟ قلت:
الله ورسوله أعلم. قال فإنها تغرب في عين حامية» زاد الحاكم غير مهموزة. ورواه ابن أبى شيبة. وأحمد وأبو يعلى والبزار وزاد «وتنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش، فإذا كان خروجها أذن الله لها وإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها، فيقول. اطلعى من حيث غربت. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها» وقال تفرد به سفيان بن حسين عن الحاكم. ورواه الجماعة عن إبراهيم التيمي. وهو في الصحيحين دون قوله «تغرب في عين حامية» وأوله «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا» الحديث.

(2/743)


وابن عمر وابن عمرو والحسن. وقرأ ابن عباس: حمئة. وكان ابن عباس عند معاوية، فقرأ معاوية: حامية فقال ابن عباس: حمئة. فقال معاوية لعبد الله بن عمرو: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار. كيف تجد الشمس تغرب؟ قال. في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة. وروى: في ثأط، فوافق قول ابن عباس، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع.
فرأى مغيب الشمس عند مآبها ... في عين ذى خلب وثاط حرمد «1»
أى في عين ماء ذى طين وحمإ أسود، ولا تنافى بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا. كانوا كفرة فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإسلام، فاختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم فقال: أما من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم الذي هو الشرك: فذلك هو المعذب في الدارين وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى وقيل: خيره بين القتل والأسر، وسماه إحسانا في مقابلة القتل فله جزاء الحسنى فله أن يجازى المثوبة الحسنى. أو فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة. وقرئ: فله جزاء الحسنى، أى: فله الفعلة الحسنى جزاء. وعن قتادة: كان يطبخ من كفر في القدور،
__________
(1) .
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغى ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغار الشمس عند مآبها ... في عين ذى خلب وثأط حرمد
لتبع الأكبر اليماني المذكور في القرآن، يفتخر بجده إسكندر ذى القرنين ابن فيلسوف اليونانى. ويروى: مر، بدل جدي. وتدين أى تنقاد. وروى بدله: «علا في الأرض غير مفند» أى غير مكذب، فلا عيب في القافية والخلب- بضمتين-: الحمأة وهي الطين. والثأط: الحمأة المختلطة بالماء، فتزيد رطوبة وتفسد. والحرمد: الطين الأسود. مدح ذا القرنين ثم قال: إنه بلغ مواضع غروب الشمس ومواضع شروقها، يبتغى من الله أسبابا توصله لمقصده، فرأى محلى غيار الشمس عند مآبها، أى رجوعها إليه. ويروى مآب الشمس عند مغيبها: أى غيبوبتها.
وفي عين: متعلق بغار. أو بمحذوف، أى: رآها تغرب في عين. ويجوز أنه حال من المغار، لأن العين أوسع منه، أى في عين ماء ذى طين أسود مختلط بماء، وهذا موافق لظاهر الآية. وأولها أبو على الجبائي بأن ذلك على سبيل التخييل، كما أن من لم ير الشاطئ الغربي من البحر المتسع يرى الشمس تغرب فيه، وفي الحقيقة تغرب في ظلمة وراء الأبيض، لأن الأرض كروية.

(2/744)


ثم أتبع سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا (91)

وهو العذاب النكر. ومن آمن أعطاه وكساه من أمرنا يسرا أى لا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك، وتقديره: ذا يسر، كقوله قولا ميسورا وقرئ: يسرا، بضمتين.

[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 91]
ثم أتبع سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا (91)
وقرئ: مطلع، بفتح اللام وهو مصدر. والمعنى: بلغ مكان مطلع الشمس، كقوله:
كأن مجر الرامسات ذيولها «1»
يريد: كأن آثار مجر الرامسات على قوم قيل: هم الزنج. والستر: الأبنية، وعن كعب:
أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوها. فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. وعن بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى، ومعى صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة «2» فغشى على، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وقيل: الستر اللباس. وعن مجاهد:
من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض كذلك أى أمر ذى القرنين كذلك، أى كما وصفناه تعظيما لأمره وقد أحطنا بما لديه من الجنود والآلات وأسباب الملك خبرا تكثيرا لذلك. وقيل: لم نجعل لهم من دونها سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من
__________
(1) .
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع
للنابغة، والمجر ليس مكان الجر، وإنما هو مصدر بمعنى الجر، لأنه لو كان اسم مكان لما عمل النصب، ثم يجب تقدير مضاف ليصح الاخبار عنه بأنه قضيم أى موضع مجر، أى كان المحل الذي تجر الرياح الرامسات ذيولها عليه قضيم، أى جلد أبيض نمقته وحسنته الصوانع للكتابة. وسميت الرياح رامسات من الرمس أى التغييب، لأنها تحمل التراب وتلقيه على الآثار فيدفنها. واستعار الذيول لما يلي الأرض من الرياح على طريق التصريح. ويجوز أن تشبه الرياح بنساء لثيابهن ذيول طويلة يجررنها على الأرض، والذيول تخييل.
(2) . قوله «إذ سمعنا كهيئة الصلصلة» في الصحاح «الصلة» واحدة الصلال، وهي القطع من الأمطار المتفرقة يقع منها الشيء بعد الشيء، وصلصلة اللجام: صوته إذا ضوعف. (ع)

(2/745)


ثم أتبع سببا (92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94)

كل صنف. وقيل: بلغ مطلع الشمس مثل ذلك، أى: كما بلغ مغربها. وقيل: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، يعنى أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر، وإحسانه إلى من آمن منهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 93]
ثم أتبع سببا (92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93)
بين السدين بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما. قرئ: بالضم والفتح.
وقيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح، لأن السد بالضم فعل بمعنى مفعول، أى: هو مما فعله الله تعالى وخلقه. والسد- بالفتح-: مصدر حدث يحدثه الناس. وانتصب بين على أنه مفعول به مبلوغ، كما انجر على الإضافة في قوله هذا فراق بيني وبينك وكما ارتفع في قوله لقد تقطع بينكم لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا، وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق من دونهما قوما هم الترك لا يكادون يفقهون قولا لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم البكم. وقرئ: يفقهون، أى: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لأن لغتهم غريبة مجهولة.

[سورة الكهف (18) : آية 94]
قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94)
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقرئا: مهموزين. وقرأ رؤبة: آجوج ومأجوج، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم «1» مفسدون في الأرض قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يلقون منهم قتلا وأذى شديدا. وعن النبى صلى الله عليه وسلم في صفتهم: لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح «2» . وقيل: هم على صنفين، طوال مفرط والطول،
__________
(1) . قوله «من الجيل والديلم» كذا عبارة النسفي أيضا، ولعله «من جيل الديلم» وفي الصحاح: جيل من الناس، أى: صنف، الترك جيل، والروم جيل. وفيه: الديلم جيل من الناس. (ع)
(2) . أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط وابن مردويه. والثعلبي وغيرهم من رواية يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، عن شقيق. عن حذيفة قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج أمة. ومأجوج أمة. كل أمة أربعة آلاف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح» قال ابن عدى: هذا موضوع. ومحمد بن إسحاق هذا ليس هو صاحب المغازي. وإنما هو العكاش وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه فلم يصب فان له طريقا أخرى ففي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود مرفوعا «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفا» وفي النسائي عن عمرو بن أوس عن أبيه رفعه «أن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا. ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا. وفي المستدرك عن عبد الله ابن عمرو رفعه «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولن يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا»

(2/746)


قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)

وقصار مفرطو القصر. قرئ: خرجا وخراجا، أى جعلا نخرجه من أموالنا: ونظيرهما:
النول والنوال. وقرئ: سدا، وسدا بالفتح والضم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 95 الى 97]
قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)
ما مكني فيه ربي خير ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار، خير مما تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة بى إليه، كما قال سليمان صلوات الله عليه فما آتاني الله خير مما آتاكم قرئ بالإدغام وبفكه فأعينوني بقوة بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل، وبالآلات ردما حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السد، من قولهم: ثوب مردم، رقاع فوق رقاع. قيل: حفر الأساس «1» حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد، بينهما الحطب «2» والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وقرئ: سوى، وسووى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا أخبره به فقال: كيف رأيته؟ قال كالبرد «3» المحبر
__________
(1) . قوله «قيل حفر الأساس» لعله: للأساس. (ع)
(2) . قوله «بينهما الحطب» لعله: بينها. (ع) [.....]
(3) . أخرجه الطبري من رواية سعيد بن أبى عروبة عن قتادة. قال «ذكر لنا أن رجلا قال: يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال انعته لي قال، كالبرد المحبر. طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته» ورواه ابن أبى عمر عن سفيان بن عيينة عن سعيد عن قتادة عن رجل من أهل المدينة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم» رأيت الردم فذكر نحوه، ورواه الطبراني في مسند الشاميين. وابن مردويه عنه من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبى بكرة الثقفي «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، لكن قال. طريقة حمراء من نحاس: وطريقة سوداء من حديد» وأخرج البزار من وجه آخر عن يوسف بن أبى مريم الحنفي. قال «بينما أنا قاعد مع أبى بكرة إذ جاء رجل فسلم عليه. فقال له أبو بكرة من أنت «قال تعلم رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الردم. فقال له أبو بكرة: وأنت هو؟ قال: نعم. قال: اجلس حدثنا. قال: انطلقت حتى أتيت أرضا ليس لهم إلا الحديد يعلمونه. فذكر القصة والحديث. وقال: لا نعلم له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبى بكرة.

(2/747)


قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا (98) وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا (101)

طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال «قد رأيته» والصدفان- بفتحتين-: جانبا الجبلين، لأنهما يتصادفان أى يتقابلان، وقرئ: الصدفين، بضمتين. والصدفين، بضمة وسكون. والصدفين، بفتحة وضمة. والقطر: النحاس المذاب لأنه يقطر وقطرا منصوب بأفرغ. وتقديره.
آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وقرئ: قال ائتوني، أى جيئوني فما اسطاعوا بحذف التاء للخفة، لأن التاء قريبة المخرج من الطاء. وقرئ: فما اصطاعوا بقلب السين صادا. وأما من قرأ بإدغام التاء في الطاء، فملاق بين ساكنين على غير الحد أن يظهروه أن يعلوه، أى: لا حيلة لهم فيه من صعود، لارتفاعه وانملاسه، ولا نقب لصلابته وثخانته.

[سورة الكهف (18) : آية 98]
قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا (98)
هذا إشارة إلى السد، أى: هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده. أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته فإذا جاء وعد ربي يعنى فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتى جعل السد دكاء أى مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك. ومنه: الجمل الأدك: المنبسط السنام. وقرئ: دكاء، بالمد: أى أرضا مستوية وكان وعد ربي حقا آخر حكاية قول ذى القرنين.

[سورة الكهف (18) : آية 99]
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99)
وتركنا وجعلنا بعضهم بعض الخلق يموج في بعض أى يضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى. ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج، وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. وروى: يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر، ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم «1» فيدخل في آذانهم فيموتون.

[سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 101]
وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا (101)
__________
(1) . قوله «ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم» أى دودا، أفاده الصحاح. (ع)

(2/748)


أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102) قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106)

وعرضنا جهنم وبرزناها لهم فرأوها وشاهدوها عن ذكري عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم. أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها، ونحوه صم بكم عمي. وكانوا لا يستطيعون سمعا يعنى وكانوا سمعا عنه، إلا أنه أبلغ، لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم «1» فلا استطاعة بهم للسمع.

[سورة الكهف (18) : آية 102]
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102)
عبادي من دوني أولياء هو الملائكة، يعنى: أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكى عنهم سبحانك أنت ولينا من دونهم. وقرأ ابن مسعود: أفظن الذين كفروا. وقراءة على رضى الله عنه أفحسب الذين كفروا، أى: أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر. أو على الفعل والفاعل، لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل، كقولك: أقائم الزيدان. والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
وهي قراءة محكمة جيدة. النزل: ما يقام للنزيل وهو الضيف، ونحوه فبشرهم بعذاب أليم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106]
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106)
ضل سعيهم ضاع وبطل وهم الرهبان. عن على رضى الله عنه، كقوله عاملة ناصبة وعن مجاهد: أهل الكتاب. وعن على رضى الله عنه: أن ابن الكوا سأله عنهم؟ فقال: منهم أهل حروراء. وعن أبى سعيد الخدري: يأتى ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان، لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين. وقرئ: فلا يقيم، بالياء. فإن قلت: الذين ضل سعيهم في أى محل هو؟ قلت:
__________
(1) . قوله «كأنهم أصميت أسماعهم» في الصحاح في مادة صمم: أصمه الله فصم. وفي مادة صما بالألف:
أصميت الصيد إذا رميته فقتلته، فقوله: أصميت، لعله بمعنى أهلكت بالمرة بحيث لا يمكن أن تسمع. (ع)

(2/749)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا (108) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)

الأوجه أن يكون في محل الرفع، على: هم الذين ضل سعيهم، لأنه جواب عن السؤال. ويجوز أن يكون نصبا على الذم، أو جرا على البدل جهنم عطف بيان لقوله جزاؤهم «1» .

[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا (108)
الحول: التحول. يقال: حال من مكانه حولا، كقولك: عادني حبها عودا، يعنى:
لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم. وهذه غاية الوصف، لأن الإنسان في الدنيا في أى نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه. ويجوز أن يراد نفى التحول وتأكيد الخلود.

[سورة الكهف (18) : آية 109]
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109)
المداد: اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مدادا لها، والمراد بالبحر الجنس لنفد البحر قبل أن تنفد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا.
والكلمات غير نافدة. ومددا تمييز، كقولك: لي مثله رجلا. والمدد مثل المداد، وهو ما يمد به. وعن ابن عباس رضى الله عنه: بمثله مدادا. وقرأ الأعرج: مددا، بكسر الميم جمع مدة، وهي ما يستمده الكاتب فيكتب به. وقرئ: ينفد بالياء. وقيل: قال حيى بن أخطب:
في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم تقرءون وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فنزلت، يعنى: أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.

[سورة الكهف (18) : آية 110]
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)
فمن كان يرجوا لقاء ربه فمن كان يؤمل حسن لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول.
وقد فسرنا اللقاء. أو: أفمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهى عن الإشراك بالعبادة:
__________
(1) . قوله «عطف بيان لقوله جزاؤهم الحول» كذا في النسفي أيضا، لكن المتجه أنه بيان لقوله «ذلك» الذي هو إشارة لما مر في قوله إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا. (ع)

(2/750)


أن لا يرائى بعمله، وأن لا يبتغى به إلا وجه ربه خالصا لا يخلط به غيره. وقيل: نزلت في جندب ابن زهير، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنى أعمل العمل لله، فإذا اطلع عليه سرني، فقال:
«إن الله لا يقبل ما شورك «1» فيه» وروى أنه قال: «لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية» «2» وذلك إذا قصد أن يقتدى به. وعنه صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال «الرياء» «3» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء «4» » وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عند مضجعه قل إنما أنا بشر مثلكم كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ» «5» والله أعلم.
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن عباس ولم يسق سنده.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان- وأبو يعلى. والبزار عن أبى هريرة. قال قال رجل «يا رسول الله، إنى أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني. قال لك أجران. أجر السر. وأجر العلانية» أخرجوه كلهم من حديث ابن سنان سعيد بن سنان عن حرب بن أبى ثابت عن أبى صالح عنه. قال الترمذي رواه الأعمش عن حبيب عن أبى صالح مرسلا. وقال ابن أبى حاتم قال أبى الصحيح عندي مرسل، رواه يوسف بن أسباط عن الثوري عن حبيب.
عن أبى صالح عن أبى ذر وأخرجه أبو نعيم في الحلية. وقال: لم يقل أحد عن أبى ذر إلا ابن أسباط. ورواه يحيى بن يمان عن الثوري فقال عن ابن مسعود. أخرجه الطبراني، قال أبو نعيم. ورواه قبيصة عن الثوري فقال عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه.
(3) . أخرجه ابن مردويه من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بهذا ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي. وأبو قاسم الطلحي في الترغيب. وفي الباب عن محمود بن لبيد. ورفعه «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء» أخرجه أحمد والدارقطني. في غرائب مالك والبيهقي. في الشعب من رواية عمرو بن أبى عمرو بن قتادة عنه. وعن شداد بن أوس قال «كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر» أخرجه الطبراني وابن مردويه. وفي إسناده ابن لهيعة.
(4) . أخرجه أحمد والنسائي من حديث معاذ بن أنس. وفي إسناده ابن لهيعة. أخرجه الطبراني من رواية رشدين بن سعد كلاهما عن زياد بن فايد وهم من الضعفاء.
(5) . أخرجه إسحاق والبزار من رواية النضر بن شميل. حدثنا أبو فررة الأسدى رجل من أهل البادية. سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن عمر رفعه «من قرأ في ليلته فمن كان يرجوا لقاء ربه. الآية كان له نور من عدن إلى مكة حشوه الملائكة» ورواه الثعلبي من هذا الوجه. «وزاد يصلون عليه ويستغفرون له» ورواه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب باللفظ الأول وقد سبق سنده في آل عمران.

(2/751)


كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداء خفيا (3)

الجزء الثالث

سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم مكية [إلا آيتي 58 و 71 فمدنيتان] وآياتها 98 [نزلت بعد سورة فاطر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداء خفيا (3)
كهيعص قرأ بفتح الهاء «1» وكسر الياء حمزة، وبكسرهما عاصم، وبضمهما الحسن.
وقرأ الحسن ذكر رحمت ربك أى: هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ: ذكر، على الأمر «2» . راعى سنة الله في إخفاء دعوته، لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان، فكان الإخفاء أولى، لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن: نداء لا رياء فيه، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة «3» . أو أسره من مواليه الذين خافهم. أو خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ: صوته خفات، وسمعه تارات.
__________
(1) . قوله «كهيعص قرأ بفتح الهاء» عبارة النسفي. قرأ على ويحيى بكسر الهاء والياء، ونافع بين الفتح والكسر، وإلى الفتح أقرب. وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء. وحمزة بعكسه. وغيرهم بفتحهما. (ع)
(2) . قوله «وقرأ الحسن ذكر رحمت ربك أى هذا الخ» يحتاج إلى تحرير، فان الرفع قراءة الجمهور. وقوله «ذكر على الأمر» أى ورحمة ربك بالنصب. (ع)
(3) . قوله «في إبان الكبرة والشيخوخة» في الصحاح: الكبر في السن، والاسم الكبرة بالفتح. وفيه أيضا:
شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك: جاء على أصله، وشيخوخة اه وليس فيه شيوخة. وفيه أيضا: إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته وأوانه. (ع)

(3/3)


قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)

واختلف في سن زكريا عليه السلام، فقيل: ستون، وخمس وستون، وسبعون، وخمس وسبعون، وخمس وثمانون.

[سورة مريم (19) : آية 4]
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4)
قرئ وهن بالحركات الثلاث، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبى عمرو. شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس: اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته.

[سورة مريم (19) : الآيات 5 الى 6]
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)
كان مواليه- وهم عصبته إخوته وبنو عمه- شرار بنى إسرائيل، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدلوه، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه من ورائي بعد موتى. وقرأ ابن كثير: من وراي، بالقصر، وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لفساد المعنى، ولكن بمحذوف. أو بمعنى الولاية في الموالي: أى خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي.
وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضى الله عنهم. خفت الموالي من ورائي، وهذا على معنيين، أحدهما: أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي، فيتعلق الظرف بالموالي: أى قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولى يرزقه. والثاني: أن يكون

(3/4)


يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7)

بمعنى قدامى، فيتعلق بخفت، ويريد أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد من لدنك تأكيد لكونه وليا مرضيا، بكونه مضافا إلى الله تعالى وصادرا من عنده، وإلا- فهب لي وليا يرثني- كاف، أو أراد اختراعا منك بلا سبب لأنى وامرأتى لا نصلح للولادة يرثني ويرث الجزم جواب الدعاء، والرفع صفة. ونحوه ردءا يصدقني وعن ابن عباس والجحدري: يرثنى وارث آل يعقوب، نصب على الحال. وعن الجحدري: أو يرث، على تصغير وارث، وقال: غليم صغير. وعن على رضى الله عنه وجماعة: وارث من آل يعقوب:
أى يرثني به وارث، ويسمى التجريد في علم البيان، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم، لأن الأنبياء لا تورث المال. وقيل يرثني الحبورة وكان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال:
ورثته وورثت منه لغتان. وقيل «من» للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل: هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل: يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود.

[سورة مريم (19) : آية 7]
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7)
سميا لم يسم أحد بيحيى قبله، وهذا شاهد على أن الأسامى السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، حتى قال القائل في مدح قوم:
سنع الأسامى مسبلى أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب «1»
وقال رؤبة للنسابة البكري- وقد سأله عن نسبه-: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت.
وقيل: مثلا وشبيها عن مجاهد، كقوله هل تعلم له سميا وإنما قيل للمثل «سمى» لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير، فكل واحد منهما سمى لصاحبه، ونحو «يحيى» في أسمائهم «يعمر، ويعيش» إن كانت التسمية عربية، وقد سموا بيموت أيضا، وهو يموت ابن المزرع، قالوا: لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر، وأنه كان حصورا.
__________
(1) . يقال سنع الرجل كظرف، فهو سنيع أى جميل، وأسنع، والمرأة سنعاء، وسنع جمع أسنع: أى أسماؤهم حسنة، فهي أنبه وأنوه وأنزه عن النبز، والحمر: صفة الأزر، وتمس: صفة أخرى لها. وهدب الشيء: طرفه، والمناسب للمعنى أن المراد به الجمع، ويمكن أن يكون ضمنه مفردا كقفل، وجمعا كفلك. ويجوز أنه اسم جمع، ولذلك جاء في واحده هدية. ومس الأرض بالأطراف: كناية عن طولها، بل عن غناهم وثروتهم اللازم له ذلك.

(3/5)


قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9)

[سورة مريم (19) : آية 8]
قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8)
أى كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السبيان جميعا أرزقه؟ فإن قلت: لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتى والعقر «1» ، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد: في أن الله غنى عن الأسباب، أى بلغت عتيا: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل «2» .
يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا. وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين، وكذلك صليا، وابن مسعود بفتحهما «3» فيهما. وقرأ أبى ومجاهد: عسيا «4» .

[سورة مريم (19) : آية 9]
قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9)
كذلك الكاف رفع، أى الأمر كذلك تصديق له، ثم ابتدأ قال ربك أو نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره هو علي هين ونحوه وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وقرأ الحسن: وهو على هين، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول:
أى الأمر كما قلت، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر: وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله، لا إلى قول زكريا. و «قال» محذوف في كلتا القراءتين: أى قال هو على هين قال وهو على هين، وإن شئت لم تنوه، لأن الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك ووعده
__________
(1) . قال محمود: «ان قلت لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتي ... الخ» قال أحمد: وفيما أجاب به نظر، لأنه التزم أن زكريا استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه، ولا يجوز للنبي النطق بما لا يسوغ، لمثل هذه الفائدة التي عينها الزمخشري ويمكن حصولها بدونه، فالظاهر في الجواب- والله أعلم- أن طلبة زكريا إنما كانت ولدا من حيث الجملة، وبحسب ذلك أجيب، وليس في الاجابة ما يدل على أنه يولد له وهو هرم، ولا أنه من زوجته وهي عاقر، فاحتمل عنده أن يكون الموعود وهما بهذه الحالة، واحتمل أن تعاد لهما قوتهما وشبابهما، كما فعل الله ذلك لغيرهما.
أو أن يكون الولد من غير زوجته العاقر، فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما، فاستخبر أيكون وهما كذلك، فقيل:
كذلك، أى: يكون الولد وأنتما كذلك، فقد انصرف الإيعاد إلى عين الموعود فزال الاشكال، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «كالعود القاحل» أى اليابس، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «بفتحهما» لعله بفتحها. (ع)
(4) . قوله «عسيا» في الصحاح: عسى الشيخ يعسو عسيا: ولى وكبر، مثل عتا. (ع)

(3/6)


قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11) يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12)

وقوله الحق شيئا لأن المعدوم ليس بشيء. أو شيئا يعتد به «1» ، كقولهم: عجبت من لا شيء، وقوله:
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا «2»
وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب: خلقناك.

[سورة مريم (19) : آية 10]
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10)
أى اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال: علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح سوى الخلق، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا، والأيام في آل عمران، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن.

[سورة مريم (19) : آية 11]
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11)
أوحى: أشار عن مجاهد، ويشهد له إلا رمزا. وعن ابن عباس: كتب لهم على الأرض سبحوا صلوا، أو على الظاهر، وأن: هي المفسرة.

[سورة مريم (19) : آية 12]
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12)
أى خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد الحكم الحكمة. ومنه:
واحكم كحكم فتاة الحي «3»
__________
(1) . قال محمود: «إنما قيل ذلك لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به ... الخ» قال أحمد: قسر أولا على ظاهر النفي الصرف وهو الحق، لأن المعدوم ليس شيئا قطعا، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم الممكن شيء.
ومن ثم كافح الزمخشري عن البقاء على التفسير الأول إلى الثاني بوجه من التأويل يلائم معتقد المعتزلة. فجعل المنفي الشيئية المعتد بها، وإن كانت الشيئية المطلقة ثابتة عنده للمعدوم، والحق بقاء الظاهر في نصابه.
(2) .
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
يقول: وضاقت الأرض على أعدائنا، لأن كل مسلك يريدونه يظنون أحدا منا فيه فيرجعون، فاستعير الضيق الحسى لذلك على طريق التصريح، حتى كان الهارب منهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا منا، فيرجع خوفا، والشيء هو الموجود وغيره هو المعدوم، ولكن استعير للشيء الحقير التافه لعدم الاعتداد بكل على طريق التصريح، وذلك ليصح وقوع الرؤية عليه.
(3) .
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحبسوه فألفوه كما وجدت ... ستا وستين لم تنقص ولم تزد
للنابغة واسمه زياد، يخاطب النعمان بن المنذر، والفتاة: زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في حدة البصر، نظرت إلى حمام مسرع إلى الماء فقالت: ليت الحمام ليه. إلى حمامتيه. ونصفه قديه. ثم الحمام مية. فوقع في شبكة صياد، فوجدوه ستا وستين حمامة، ونصفه ثلاثة وثلاثون، فإذا ضم الكل إلى حمامتها صار مائة، والحمام: كل ذى طوق من الطيور. وسراع: جمع سريع، وصفه به لأنه جمع في المعنى، وبوارد لأنه مفرد في اللفظ. ويروى «شراع» بالشين المشالة جمع شارع. والثمد: الماء القليل. وروى الحمام ونصفه بالرفع، على إهمال ليتما. وبالنصب على إعمالها، لأن «ما» زائدة لا كافة، وإلا وجب الإهمال. وروى «أو نصفه» فأو بمعنى الواو، والكلام على تقدير مضاف، لأنها تمنت أن يكون هذا الحمام ومقدار نصفه لها. وإلى حمامتنا: متعلق بمحذوف، أى: منضما إليها. وقد: اسم بمعنى حسب، أضيفت إلى ياء المتكلم بغير نون الوقاية، كما يقال: حسبي: ويحتمل أن الياء حرف إطلاق، فلا إضافة ولكنها متعينة في كلام زرقاء، والهاء فيه للسكت، وهو يرجح الاضافة في كلام النابغة، والفاء فيه زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط، وكلاهما بمعنى انته، وكأنها فاء الجواب، أى: إذا بلغت هذا الحد فانته كما أفاده السعد في مطوله، وحبسوه ينبغي تشديده ليسلم الشعر من الخبل، وهو نوع من الزحاف يقبح دخوله هنا.
ويروى «حسبوه» بتقديم السين على الباء.

(3/7)


وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15)

يقال حكم حكما كحلم، وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس. وقيل: دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبى فقال: ما للعب خلقنا، عن الضحاك. وعن معمر: العقل، وقيل النبوة، لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه.

[سورة مريم (19) : الآيات 13 الى 14]
وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14)
حنانا رحمة لأبويه وغيرهما، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف «1»
وقيل: حنانا من الله عليه. وحن: في معنى ارتاح واشتاق، ثم استعمل في العطف والرأفة، وقيل لله «حنان» كما قيل «رحيم» على سبيل الاستعارة. والزكاة: الطهارة، وقيل الصدقة، أى:
يتعطف على الناس ويتصدق عليهم:

[سورة مريم (19) : آية 15]
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15)
__________
(1) .
وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
لمنذر بن درهم الكلبي، يقول: وأقرب عهد: أى لقاء ورؤية لأمينة محبوبتى تصغير آمنة، هو نظرة منى لها بجانب تلك البقعة، إذ أنا واقف هناك: أى حين وقوفي بها. وفيه إشعار بأنه كان واقفا يترقب رؤيتها، فلما رأته هي قالت له: حنان أى أمرى حنان ورحمة لك، وهو من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لنيابة الخبر عن الفعل، لأنه مصدر محول عن النصب. وقولها «ما أتى بك هاهنا» استفهام تعجبي. أذو نسب: أى أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي؟ ويجوز أن «أذو نسب» بدل من ما الاستقامية: أى الذي حملك على المجيء هنا أو الذي ذلك عليه صاحب قرابة من الحي أى معرفتك به؟ ويجوز أن الاستفهام حقيقى حكته على لسان غيرها، لتلقنه الجواب بقولها:
أذو نسب ...
الخ، مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها، ربما يسأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين.

(3/8)


واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20)

سلم الله عليه في هذه الأحوال، قال ابن عيينة: إنها أوحش المواطن.

[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 17]
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)
إذ
بدل من مريم
بدل الاشتمال، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقى بيت المقدس، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل:
قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها، وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوى الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك.
وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل: إن النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح: جبريل، لأن الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقرأ أبو حيوة: روحنا، بالفتح، لأنه سبب لما فيه روح العباد، وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله فأما إن كان من المقربين فروح وريحان أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح، أى: مقربنا وذا روحنا.

[سورة مريم (19) : آية 18]
قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18)
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به، فإنى عائدة به منك كقوله تعالى بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين.

[سورة مريم (19) : الآيات 19 الى 20]
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20)

(3/9)


قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22)

أى إنما أنا رسول من استعذت به لأهب لك
لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع «1» . وفي بعض المصاحف: إنما أنا رسول ربك أمرنى أن أهب لك. أو هي حكاية لقول الله تعالى.

[سورة مريم (19) : آية 21]
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)
جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه، كقوله تعالى من قبل أن تمسوهن أو لامستم النساء والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغى: الفاجرة التي تبغى الرجال، وهي فعول عند المبرد «بغوى» فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل «بغو» كما قيل: فلان نهو عن المنكر ولنجعله آية تعليل معلله محذوف أى: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر، أى لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه: وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وقوله وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه. مقضيا مقدرا مسطورا في اللوح لا بد لك من جريه عليك. أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية: العبرة والبرهان على قدرة الله، وبالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح. فهو جدير بالتكوين.

[سورة مريم (19) : آية 22]
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22)
عن ابن عباس: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل: كانت مدة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك: سبعة أشهر. وقيل: ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل: ثلاث ساعات. وقيل:
حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس: كانت مدة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. وقيل: حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل: بنت عشر، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا: ما من
__________
(1) . قوله «في الدرع» في الصحاح «درع المرأة» قميصها. (ع)

(3/10)


فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23)

مولود إلا يستهل غيره «1» فانتبذت به أى اعتزلت وهو في بطنها، كقوله:
تدوس بنا الجماحم والتريبا «2»
أى تدوس الجماجم ونحن على ظهورها، ونحوه قوله تعالى تنبت بالدهن أى تنبت ودهنها فيها: الجار والمجرور في موضع الحال قصيا بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل: أقصى الدار. وقيل: كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف، فلما قيل: حملت من الزنا، خاف عليها قتل الملك، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها، فأتاه جبريل فقال: إنه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها.

[سورة مريم (19) : آية 23]
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23)
فأجاءها أجاء: منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد، كما تقول: بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر. يقال: مخضت الحامل مخاضا ومخاضا، وهو تمخض الولد في بطنها «3» .
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف لا يخلو: إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإما أن يكون تعريف الجنس، أى: جذع هذه الشجرة خاصة، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد، وثمارها إنما هي من جمارها، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. قرئ مت بالضم والكسر. يقال: مات يموت ومات يمات. النسى: ما من حقه أن يطرح وينسى، كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح: اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم وعن
__________
(1) . قوله «ما من مولود إلا يستهل غيره» في الصحاح «استهل الصبى» أى صاح عند الولادة. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 138 من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «وهو تمخض الولد في بطنها» في الصحاح «تمخض اللبن واستمخض» أى تحرك في الممخضة، وكذلك الولد إذا تحرك في بطن الحامل. (ع)

(3/11)


فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24)

يونس: العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا: انظروا أنساءكم، أى: الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ «1» . تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشور «2» من الناس على حكم العادة البشرية، لا كراهة لحكم الله، أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها «3» وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص نسيا بالفتح. قال الفراء: هما لغتان كالوتر والوتر، والجسر والجسر. ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر. كالحمل. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء، ينسؤه أهله لقلته ونزارته. وقرأ الأعمش منسيا بالكسر على الإتباع، كالمغيرة والمنخر.

[سورة مريم (19) : آية 24]
فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24)
من تحتها هو جبريل عليه السلام. قيل: كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل: هو عيسى، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل تحتها أسفل من مكانها، كقوله تجري من تحتها الأنهار وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة، فصاح بها ألا تحزني وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص من تحتها وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة: الضمير في تحتها للنخلة. وقرأ زر وعلقمة: فخاطبها من تحتها.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السرى فقال: «هو الجدول «4» » . قال لبيد:
__________
(1) . قوله «والشظاظ» في الصحاح «الشظاظ» العود الذي يدخل في عروة الجوالق. وفيه «الجوالق» وعاء: (ع)
(2) . قوله «من فرط الحيا والتشور من الناس» خوف إظهار العورة. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «إذا بهتوها وهي عارفة ... الخ» اتهموها بما ليس فيها. وقرفت: اتهمت. (ع) [.....]
(4) . أخرجه الطبراني في الصغير وابن عدى من رواية أبى سنان سعيد بن سنان عن أبى إسحاق عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم. في قوله تعالى قد جعل ربك تحتك سريا قال: السرى النهر. قال الطبراني لم يرفعه عن أبى إسحاق إلا أبو سنان رواه عنه معاوية بن يحيى وهو ضعيف وأخرجه عند الرزاق عن الثوري عن أبى إسحاق عن البراء موقوفا، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع عن إسرائيل عن أبى إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل كذلك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبى إسحاق موقوفا. وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «إن السرى الذي قال الله تعالى لمريم: نهر أخرجه الله لتشرب منه، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر. ورواية عن أيوب بن نهيك، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.

(3/12)


وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)

فتوسطا عرض السري فصدعا ... مسجورة متجاورا قلامها «1»
وقيل: هو من السرو «2» . والمراد: عيسى. وعن الحسن: كان والله عبدا سريا. فإن قلت.
ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب؟ قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.

[سورة مريم (19) : الآيات 25 الى 26]
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)
تساقط فيه تسع قراآت: تساقط، بإدغام التاء. وتتساقط، بإظهار التاءين. وتساقط، بطرح الثانية. ويساقط، بالياء وإدغام التاء. وتساقط، وتسقط، ويسقط، وتسقط، ويسقط: التاء للنخلة، والياء للجذع. ورطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد:
جواز انتصابه بهزى وليس بذاك. والباء في بجذع النخلة صلة للتأكيد، كقوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو على معنى: افعلي الهز به، كقوله:
يجرح في عراقيبها نصلى «3»
قالوا: التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت، وكذلك التحنيك، وقالوا: كان من العجوة.
وقيل: ما للنفساء خير من الرطب، ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم
__________
(1) .
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها
فتوسطا عرض السرى فصدعا ... مسجورة متجاورا قلامها
للبيد من معلقته، يصف حمارا وحشيا بأنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه. وأقدامها: اسم كان، وألحقه التاء لاكتساب الأقدام التأنيث من الضمير المضاف إليه. وقيل: لأنه بمعنى التقدمة التي هي مصدر قدمها المضاعف كالتقديم. وعادة خبر كان. و «إذا هي عردت» بالتضعيف أى تأخرت وجبنت، فتوسطا: أى الحمار والأتان، عرض السرى: أى ناحية النهر الصغير وجانبه، فصدعا: أى شقا عينا مسجورة مملوءة، وكان المقام للاضمار، فأظهر ليتأتى الوصف. أو للتجربة، أو العين من النهر، وليست هي هو وهذا أوجه. والقلام- كرمان-:
القاقلى، وقيل مطلق النبات، وتجاوزه: كناية عن كثرته.
(2) . قوله «وقيل هو من السرو» في الصحاح «السرو» سخاء في مروءة. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 578 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/13)


فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا (27) ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28)

يكن لها خير من الرطب. عن طلحة بن سليمان جنيا بكسر الجيم للإتباع، أى جمعنا لك في السرى والرطب فائدتين، إحداهما: الأكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين، وهو معنى قوله فكلي واشربي وقري عينا أى وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك. وقرئ: وقري بالكسر لغة نجد فإما ترين بالهمز: ابن الرومي. عن أبى عمرو: وهذا من لغة من يقول: لبأت بالحج، وحلأت السويق «1» ، وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال صوما صمتا. وفي مصحف عبد الله: صمتا. وعن أنس بن مالك مثله. وقيل: صياما، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت «2» ، لأنه نسخ في أمته، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المنهمين لها في الكلام لمعنيين، أحدهما: أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني: كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس: سفيه لم يجد مسافها. قيل: أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة.
وقيل: سوغ لها ذلك بالنطق إنسيا أى أكلم الملائكة دون الإنس

[سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 28]
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28)
الفرى: البديع، وهو من فرى الجلد يا أخت هارون كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل: هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما عنوا هرون النبى «3» » وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة، بينها وبينه ألف سنة وأكثر. وعن السدى: كانت من أولاده، وإنما قيل: يا أخت هرون، كما يقال يا أخا همدان، أى: يا واحدا منهم. وقيل: رجل صالح أو طالح في زمانها، شبهوها به، أى: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، ولم ترد إخوة النسب، ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى
__________
(1) . قوله «يقول لبأت بالحج وحلأت السويق» والكثير: لبيت بالحج، وحليت السويق، أى: جعلته حلوا. (ع)
(2) . لم أره هكذا وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ «لا صمت يوم إلى الليل» وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ولأبى داود من حديث على مثله. وقد تقدم في تفسير النساء.
(3) . لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ورواه الطبري عن السدى. قوله وليس بصحيح. فان عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة. قال «بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي: أرأيتم شيئا يقرءونه يا أخت هارون وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين فلم أدر ما أجيبهم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم» وروى الطبري من طريق ابن سيرين «نبئت أن كعبا قال إن قوله تعالى يا أخت هارون ليس بهارون أخى موسى فقالت له عائشة «كذبت. فقال لها يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم وإلا فأنا أجد بينهما ستمائة سنة» .

(3/14)


فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)

هرون تبركا به وباسمه، فقالوا: كنا نشبهك بهرون هذا. وقرأ عمر بن لجاء التيمي ما كان أبوك امرأ سوء وقيل احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار، فلبثوا فيه أربعين يوما حتى تعلت من نفاسها «1» ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل:
هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها.

[سورة مريم (19) : آية 29]
فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29)
فأشارت إليه أى هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشد علينا من زناها. وروى أنه كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده، وهو هاهنا لقريبه خاصة، والدال عليه مبنى الكلام، وأنه مسوق للتعجب. ووجه آخر: أن يكون نكلم حكاية حال ماضية، أى: كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا.

[سورة مريم (19) : الآيات 30 الى 33]
قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)
أنطقه الله أولا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى الكتاب هو الإنجيل. واختلفوا في نبوته، فقيل: أعطيها في طفوليته: أكمل الله عقله، واستنبأه طفلا نظرا في ظاهر الآية.
وقيل: معناه إن ذلك سبق في قضائه. أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد مباركا أين ما كنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفاعا حيث كنت «2» » وقيل: معلما للخير.
__________
(1) . قوله «حتى تعلت من نفاسها» في الصحاح «تعلى» أى علا في مهلة. وتعلت المرأة من نفاسها: أى سلمت، وتعلى الرجل من علته. (ع)
(2) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبى هريرة بهذا وأتم منه. وقال تفرد به هشيم عن يونس وعنه شعيب بن محمد الكوفي ورواه ابن مردويه من هذا الوجه.

(3/15)


ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35)

وقرئ وبرا عن أبى نهيك، جعل ذاته برا لفرط بره. أو نصبه بفعل في معنى أوصانى وهو كلفنى، لأن أوصانى بالصلاة وكلفنيها واحد والسلام علي قيل: أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى: ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى. والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متهمى مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود. وتحقيقه أن اللام للجنس، فإذا قال:
وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم. ونظيره قوله تعالى والسلام على من اتبع الهدى يعنى أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام منا كرة وعناد، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.

[سورة مريم (19) : آية 34]
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34)
قرأ عاصم وابن عامر قول الحق بالنصب. وعن ابن مسعود: قال الحق، وقال الله- وعن الحسن: قول الحق، بضم القاف، وكذلك في الأنعام قوله الحق والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق، كقولك: هو عبد الله حقا. والحق لا الباطل، وإنما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله كن من غير واسطة أب، تسمية للسبب باسم السبب، كما سمى العشب بالسماء، والشحم بالنداء ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون الحق اسم الله عز وجل، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده قوله الذي فيه يمترون أى أمره حق يقين وهم فيه شاكون يمترون يشكون. والمرية: الشك. أو يتمارون: يتلاحون «1» ، قالت اليهود: ساحر كذاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه:
تمترون، على الخطاب. وعن أبى بن كعب: قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون.

[سورة مريم (19) : آية 35]
ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35)
كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه، وأنه مما لا يتأتى ولا يتصور في العقول وليس بمقدور عليه، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه
__________
(1) . قوله «يتلاحون» التلاحي بمعنى التنازع كما في الصحاح. وعبارة النسفي: أو يختلفون، من المراء، فقالت اليهود ... الخ. (ع)

(3/16)


وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)

الولد، ثم بين إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده بكن، كان منزها من شبه الحيوان الوالد. والقول هاهنا مجاز، ومعناه: أن إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.

[سورة مريم (19) : آية 36]
وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36)
قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن. ومعناه: ولأنه ربى وربكم فاعبدوه، كقوله وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا والأستار وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبى: إن الله، بالكسر بغير واو، وبأن الله، أى: بسبب ذلك «1» فاعبدوه.

[سورة مريم (19) : آية 37]
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37)
الأحزاب اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس من مشهد يوم عظيم أى من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل: هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه.

[سورة مريم (19) : الآيات 38 الى 40]
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)
لا يوصف الله تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا. وقيل: معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعنى الظالمين موقع الضمير: إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين: إغفال النظر والاستماع قضي الأمر فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى
__________
(1) . قوله «وبأن الله أى بسبب ذلك» لعله: أى بأن الله. ويمكن أنه عطف على أن الله، ويكون في حرف أبى القراءتان. (ع) (2- كشاف- 3)

(3/17)


واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)

الله عليه وسلم أنه سئل عنه أى عن قضاء الأمر فقال: «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» «1» وإذ بدل من يوم الحسرة. أو منصوب بالحسرة وهم في غفلة متعلق بقوله في ضلال مبين عن الحسن. وأنذرهم: اعتراض. أو هو متعلق بأنذرهم، أى: وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها.

[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 45]
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)
الصديق: من أبنية المبالغة. ونظيره الضحيك والنطيق. والمراد، فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أى: كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه، كقوله تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين أو كان بليغا في الصدق، لأن ملاك أمر النبوة الصدق، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حرى أن يكون كذلك، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله، أعنى إبراهيم. وإذ قال
نحو قولك: رأيت زيدا، ونعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا، أى: كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات.
والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم، كقوله واتل عليهم نبأ إبراهيم وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله. التاء في يا أبت عوض من ياء الإضافة، ولا يقال يا أبتى، لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل: يا أبتا، لكون الألف بدلا من الياء، وشبه ذلك سيبويه بأينق، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة.
انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح- الحديث» وفيه وكلهم قد رآه فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر الآية وأخرجاه عن ابن عمر نحوه دون قراءة الآية. وفي الباب عن أبى هريرة عند ابن حبان والحاكم والنسائي. وأخرجه البخاري دون ذكر الذبح. وأخرجه أبو يعلى والبزار من حديث أنس.
وفي آخره «فيأمن هؤلاء. وينقطع رجاء هؤلاء» .

(3/18)


الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة: كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق «1» ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام:
إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار»
، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظله تحت عرشي، وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وذلك أنه طلب منه أو لا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق: لاستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغى المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره- وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره- لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه: بأن الشيطان- الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم- هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان
__________
(1) . قوله «في أحسن اتساق وساقه أرشق» في الصحاح «الاتساق» الانتظام. وفيه أيضا «رجل رشيق» أى حسن القد لطيفه. (ع)
(2) . أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدى، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبى هريرة وفيه مؤمل ابن عبد الرحمن الثقفي عن أبى أمية بن يعلى الثقفي وهما ضعيفان [.....]

(3/19)


قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46)

إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره «1» ما هو فيه من التبعة والوبال، ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لا صق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه، وسماه الله تعالى المشهود له «2» بالفوز العظيم حيث قال ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله، أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا أبت توسلا إليه واستعطافا. ف ما
في ما لا يسمع
وما لم يأتك يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في لا يسمع ولا يبصر
منسى غير منوي، كقولك: ليس به استماع ولا إبصار شيئا
يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون في موضع المصدر، أى: شيئا من الغناء، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني: أن يكون مفعولا به من قولهم: أغن عنى وجهك إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فيه تجدد العلم عنده.

[سورة مريم (19) : آية 46]
قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46)
لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل يا أبت بيا بنى، وقدم الخبر على المبتدأ في قوله أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه لأرجمنك لأرمينك بلساني، يريد الشتم والذم، ومنه الرجيم المرمى باللعن. أو لأقتلنك، من رجم الزاني. أو لأطردنك رميا بالحجارة.
وأصل الرجم: الرمي بالرجام «3» مليا زمانا طويلا من الملاوة: أو مليا بالذهاب عنى
__________
(1) . قوله «وبما يجره» لعله وما يجره، فيكون عطفا على سوء العاقبة. (ع)
(2) . قوله «وسماه الله تعالى المشهود له» لعله «مشهود له بأن رضوانه أكبر من الثواب» فليحرر. (ع)
(3) . قوله «وأصل الرجم الرمي بالرجام» أى الحجارة الضخام، كذا في الصحاح. (ع)

(3/20)


قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48)

والهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتى لا تقدر أن تبرح. يقال: فلان ملى بكذا، إذا كان مطيقا له مضطلعا به. فإن قلت: علام عطف واهجرني؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أى فاحذرنى واهجرني، لأن لأرجمنك تهديد وتقريع.

[سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 48]
قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48)
قال سلام عليك سلام توديع ومتاركة، كقوله تعالى لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح والحال هذه. ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له. ألا ترى أنه وعده الاستغفار. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر للكافر وأن يعده «1» ذلك؟ قلت:
قالوا أراد اشتراط التوبة عن الكفر، كما ترد الأوامر والنواهي الشرعية على الكفار والمراد اشتراط الإيمان، وكما يؤمر المحدث والفقير بالصلاة والزكاة ويراد اشتراط الوضوء والنصاب.
وقالوا: إنما استغفر له بقوله واغفر لأبي إنه كان من الضالين لأنه وعده أن يؤمن.
واستشهدوا عليه بقوله تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ولقائل أن يقول: إن الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع، بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فلو كان شارطا للإيمان لم يكن مستنكرا ومستثنى عما وجبت فيه الأسوة. وأما عن موعدة وعدها إياه فالواعد هو إبراهيم لا آزر، أى: ما قال واغفر لأبي إلا عن قوله لأستغفرن لك وتشهد له قراءة حماد الرواية: وعدها أباه. والله أعلم حفيا الحفى: البليغ في البر والإلطاف، حفى به وتحفى به وأعتزلكم أراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام. المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة «2» » ويدل
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم استغفر لأبيه وهو كافر ... الخ» قال أحمد: وهذه لمظ من الاعتزال، مستطيرة من شرر شر قاعدة التحسين والتقبيح. والحق أن العقل لا مدخل له في أن يحكم بحكم الله تعالى قبل ورود الشرع به، ثم لم يوف الزمخشري بها، فانه جعل العقل يسوغ الاستغفار، وجعل الشرع مانعا منه، ولا يتصور هذا على قاعدتهم المهدمة، كما لا يتصور ورود الشرع بما يخالف العقل في الإلهيات، نعم قد يحكم الشرع بما لا يظهر العقل عندهم خلافه. وأما ما يظهر العقل خلافه. فلا.
(2) . أخرجه أبو داود وبقية أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني وابن ابى حاتم والطبري من حديثه وأخرجه ابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما.

(3/21)


فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50) واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52)

عليه قوله تعالى فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء. عرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا مع التواضع لله بكلمة عسى وما فيه من هضم النفس.

[سورة مريم (19) : الآيات 49 الى 50]
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50)
ما خسر على الله أحد ترك الكفار الفسقة لوجهه، فعوضه أولادا مؤمنين أنبياء من رحمتنا هي النبوة عن الحسن. وعن الكلبي: المال والولد، وتكون عامة في كل خير دينى ودنيوى أوتوه. لسان الصدق: الثناء الحسن. وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. قال:
إنى أتتنى لسان لا أسر بها «1»
يريد الرسالة. ولسان العرب: لغتهم وكلامهم. استجاب الله دعوته واجعل لي لسان صدق في الآخرين فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم. وقال عز وجل ملة أبيكم إبراهيم وملة إبراهيم حنيفا، ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم، كما أعلى ذكره وأثنى عليه.

[سورة مريم (19) : آية 51]
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51)
المخلص- بالكسر-: الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء. أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله. وبالفتح: الذي أخلصه الله. الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء: والنبى:
الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع.

[سورة مريم (19) : آية 52]
وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52)
__________
(1) .
إنى أتتنى لسان لا أسر به ... من علو لا كذب فيه ولا سحر
فجاشت النفس لما جاء فلهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر
للأعشى الباهلي، لما جاء الناعي بقتل المنتشر أخيه. عبر باللسان عن الكلام مجازا، لأنه آلته. وأنث الفعل لتأويل الفاعل بالكلمة أو الرسالة، وذكر فيما بعد نظرا للظاهر، من علو بالبناء على الفتح، أى: من أعلى نجد، والسخر: مصدر سخر كتعب. وجاشت القدر: غلت وارتفع ما فيها. والتجوز بالجيشان عن حرارة القلب مشهور والفل: الفئة. وتثليث: اسم موضع ممنوع من الصرف. وراكب: عطف على «فلهم» ، و «معتمر» نعته، وجاء الثاني بدل.

(3/22)


ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55) واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57)

الأيمن من اليمين: أى من ناحيته اليمنى. أو من اليمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك. وعن أبى العالية قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة.

[سورة مريم (19) : آية 53]
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53)
من رحمتنا من أجل رحمتنا له وترأفنا عليه: وهبنا له هرون. أو بعض رحمتنا، كما في قوله ووهبنا لهم من رحمتنا. وأخاه على هذا الوجه بدل. وهارون عطف بيان، كقولك: رأيت رجلا أخاك زيدا. وكان هرون أكبر من موسى، فوقعت الهبة على معاضدته وموازرته كذا عن ابن عباس رضى الله عنه.

[سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55)
ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان ذلك موجودا في غيره من الأنبياء، تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو: الحليم، والأواه، والصديق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله. عن ابن عباس رضى الله عنه: أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان، فانتظره سنة. وناهيك أنه وعد في نفسه الصبر على الذبح فوفى، حيث قال ستجدني إن شاء الله من الصابرين كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنهم أولى من سائر الناس وأنذر عشيرتك الأقربين، وأمر أهلك بالصلاة، قوا أنفسكم وأهليكم نارا ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم، فالإحسان الديني أولى. وقيل أهله أمته كلهم من القرابة وغيرهم، لأن أمم النبيين في عداد أهاليهم. وفيه أن من حق الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب فضلا عن الأقارب والمتصلين به، وأن يحظيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في شيء من ذلك.

[سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57)
قيل: سمى إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل، وكان اسمه أخنوخ، وهو غير صحيح، لأنه لو كان أفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، فكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل العجمة. وكذلك إبليس أعجمى، وليس من الإبلاس كما يزعمون،

(3/23)


ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات. ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبا من ذلك، فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. المكان العلى: شرف النبوة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب ولبسها، وكانوا يلبسون الجلود. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه إنه رفع إلى السماء الرابعة «1» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إلى السماء السادسة «2» . وعن الحسن رضى الله عنه. إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة. وعن النابغة الجعدي: أنه لما أنشد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر الذي آخره:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا «3»
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى أين يا أبا ليلى» قال: إلى الجنة «4» .
__________
(1) . أخرجه الترمذي من رواية شيبان عن قتادة عن أنس بهذا. وقال هو عندي مختصر من حديث الاسراء الذي رواه سعيد وهمام عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة.
(2) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عطية عنه.
(3) .
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بواد وتحمى صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
للنابغة الجعدي، أنشده أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة بك يا رسول الله، فقال: لا يفضض الله فاك. فعمر فوق مائتي عام، وكان إذا سقطت له سن نبت بدلها. والحلم: الأناة والعقل. والبادرة: الكلمة تصدر حال الغضب. وشبه الحلم بالماء على طريق المكنية. والصفاء والتكدير:
تخييل، والمراد بالجهل: عجلة الاقدام على عظائم الأمور. والإيراد جعل الشيء واردا. والإصدار: جعله صادرا. والمراد تسبب في وجوده وإعظامه وفي تحقيره وإعدامه. ويحتمل أنه شبه الأمر المعضل بحيوان يورده صاحبه إلى الماء تارة ويرجعه أخرى، على طريق المكنية، والإيراد والإصدار تخييل. ويجوز أن فاعل أورد ضمير الجهل، وفاعل أصدر ضمير الحليم، أى: إذا تسبب الجهل والشجاعة في أمر خطاء أرجعه الحليم وأبطله، فلا بد من اجتماع الحلم والجرأة معا حتى يكمل الرجل. ومجدنا وسناؤنا بالرفع بدلا من فاعل بلغنا. وقيل: هما مفعولان فهما بالنصب. وانظر ما وجهه، ولعله أنهما ظرفان اعتباريان، أى: بلغنا السماء في المجد والسناء. أو بدلان من السماء، بأن شبههما بها، ثم أطلقها عليهما وأبدلهما منها، وهو أوجه من الظرفية. ولو قيل على النصب: أنهما تمييزان، كان وجيها، لكنه على رأى الكوفيين القائلين بجوازه معرفة، ولما ادعى بلوغ السماء بنى عليه ما يبنى على المحسوس فقال: وإنا لنرجو مظهرا فوق ذلك.
(4) . أخرجه البزار وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لها من طريق يعلى بن الأشرف عنه وله طريق أخرى عند البيهقي وذكر القصيدة.

(3/24)


أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58) فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59)

[سورة مريم (19) : آية 58]
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)
أولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و «من» في من النبيين للبيان مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة لأن جميع الأنبياء منعم عليهم. ومن الثانية للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبى نوح. وإبراهيم عليه السلام من ذرية من حمل مع نوح:
لأنه من ذرية سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم. وموسى وهرون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل. وكذلك عيسى: لأن مريم من ذريته وممن هدينا يحتمل العطف على من الأولى والثانية. إن جعلت الذين خبرا لأولئك كان إذا تتلى كلاما مستأنفا. وإن جعلته صفة له كان خبرا. قرأ شبل بن عباد المكي: يتلى، بالتذكير، لأن التأنيث غير حقيقى مع وجود الفاصل. البكى: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا «1» » وعن صالح المري رضى الله عنه: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: «هذه القراءة يا صالح، فأين البكاء» ؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن القرآن أنزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا «2» » وقالوا: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها، فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.

[سورة مريم (19) : آية 59]
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59)
__________
(1) . أخرجه إسحاق والبزار من طريق عبد الرحمن بن أبى مليكة عن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن بن السائب عن سعيد بلفظ «إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فان لم تبكوا فتباكوا- الحديث» ومن هذا الوجه أخرجه أو يعلى والحارث. والبيهقي في الشعب. وإسماعيل أيضا لين.
(2) . أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بلفظ «فاقرؤه بحزن» وإسناده ضعيف. ورواه أبو يعلى والعقيلي. وأبو نعيم في ترجمة رباح بن عمرو العبسي من حديث أبى بريدة عن أبيه بلفظ «اقرءوا القرآن بحزن فانه نزل بحزن» .

(3/25)


إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61)

خلفه: إذا عقبه، ثم قيل في عقب الخير «خلف» بالفتح، وفي عقب السوء: خلف، بالسكون، كما قالوا «وعد» في ضمان الخير، و «وعيد» في ضمان الشر. عن ابن عباس رضى الله عنه: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب.
وعن إبراهيم ومجاهد رضى الله عنهما: أضاعوها بالتأخير. وينصر الأول قوله إلا من تاب وآمن يعنى الكفار. وعن على رضى الله عنه في قوله واتبعوا الشهوات من بنى الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور. وعن قتادة رضى الله عنه: هو في هذه الأمة. وقرأ ابن مسعود والحسن والضحاك رضى الله عنهم: الصلوات، بالجمع.
كل شر عند العرب: غى، وكل خير: رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا تحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما «1»
وعن الزجاج: جزاء غى، كقوله تعالى يلق أثاما أى مجازاة أثام. أو غيا عن طريق الجنة.
وقيل «غى» واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها. وقرأ الأخفش يلقون.

[سورة مريم (19) : آية 60]
إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60)
قرئ: يدخلون، ويدخلون: أى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه، بل يضاعف لهم، بيانا لأن تقدم الكفر لا يضرهم إذا تابوا من ذلك، من قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا، بمعنى: ما منعك. أو لا يظلمون البتة، أى شيئا من الظلم.

[سورة مريم (19) : آية 61]
جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61)
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت مها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و «عدن» معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا. فينة، وسحر، وأمس
__________
(1) .
أمن حلم أصبحت تنكت واجما ... وقد تعترى الأحلام من كان تائما
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما
للمرقش الأصغر صاحب فاطمة بنت المنذر، والأكبر عم الأصغر وعم طرفة، وهو صاحب أسماء، والاستفهام للتوبيخ، والحلم- بضمتين-: ما يراه النائم. والنكت: التخطيط والنقر في الأرض بإصبع، أو عود، كما يفعل المهموم المتفكر. والواجم: الحزين، والواو للحال، أى: والحال أن أضغاث الأحلام قد تعترى النائم، فكان مجردة عن المعنى، فمن يلق: أى يصادف خيرا في أفعاله، يحمد الناس فعله، أو شأنه. وإيقاع الحمد عليه لأنه سببه، ومن يفعل غيا لا يعدم لائما يلومه على غيه. وقيل: أراد بالخير الغنى، الفقر، ويبعده مقام اللوم وعدم مناسبته لما قبله. وغوى يغوى: من باب ضرب: انهمك في الجهل، وعدم يعدم- من باب علم-: فقده.

(3/26)


لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62)

- فيمن لم يصرفه- أعلاما لمعانى: الفينة، «1» والسحر، والأمس، فجرى مجرى العدن لذلك.
أو هو علم لأرض الجنة، لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي. وقرئ: جنات عدن. وجنة عدن بالرفع على الابتداء. أى: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. قيل في مأتيا مفعول بمعنى فاعل.
والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، أى: كان وعده مفعولا منجزا.

[سورة مريم (19) : آية 62]
لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62)
اللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه وإذا مروا باللغو مروا كراما وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا. أى: إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادى قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب «2»
أو لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع «3» .
أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة «4» . ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
__________
(1) . قوله «لمعانى الفينة» في الصحاح «لقيته الفينة بعد الفينة» أى الحين بعد الحين. وإن شئت حذفت الألف واللام فقلت: لقيته فينة، كما قالوا لقيته الندرى: وفي ندرى. (ع) [.....]
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة 142 من الجزء الثاني فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قال محمود: «يجوز أن يكون من قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وأن يكون استثناء منقطعا» قال أحمد: والفرق بين الوجهين أنه جعل الفلول عيبا على سبيل التجوز، بتا لنفى العيب بالكلية، كأنه يقول: إن كان فلول السيوف من القراع عيبا فإنهم ذوو عيب، معناه: وإن لم يكن عيبا فليس فيهم عيب البتة، لأنه لا شيء سوى هذا، فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل.
(4) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يكون متصلا على أن يكون السلام هو الدعاء بالسلامة ... الخ» قال أحمد:
وهذا يجعله من المتصل على أصل الحقيقة. لا كالأول الناشئ عن المجاز. وفي هذا الباب بعد، لأنه يقتضى البت بأن الجنة يسمع فيها لغو وفضول، وحاش لله، فلا غول فيها ولا لغو.

(3/27)


تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64)

من الناس من يأكل الوجبة «1» . ومنهم من يأكل متى وجد- وهي عادة المنهومين.
ومنهم من يتغدى ويتعشى- وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا نهار، ولكن على التقدير، ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، يريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.

[سورة مريم (19) : آية 63]
تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63)
نورث وقرئ: نورث، استعارة، أى: نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.

[سورة مريم (19) : آية 64]
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64)
وما نتنزل حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما. وقيل: خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك. قال: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى «2» . والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
__________
(1) . قوله «من الناس من يأكل الوجبة» أى يأكل كل يوم وليلة مرة، وقد وجب نفسه توجيبا إذا عودها ذلك، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل والكلبي. فقالوا، احتبس، فذكره سواء، وكأنه ملفق عندهم، فقد ذكره ابن إسحاق في السيرة. قال حدثني شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس «أن قريشا جاءوا فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول- فذكر القصة- وفيها «فمكث فيما يذكرون خمسة عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وصار لا يأتيه جبريل. فذكره بتغير وزيادة ونقص. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريقه ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس نحوه. وقال أبطأ عنه خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء.

(3/28)


فلست لإنسى ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب «1»
لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صوابا وحكمة، وله ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن وما بين ذلك وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل:
الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى:
أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل معنى وما كان ربك نسيا وما كان تاركا لك، كقوله تعالى ما ودعك ربك وما قلى أى: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحى فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أى: وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة
__________
(1) .
تعاليت أن تعزى إلى الانس جلة ... وللانس من يعزوك فهو كذوب
فلست باء نسى ولكن ملأكا ... تنزل من جو السماء يصوب
لرجل من عبد القيس، يمدح النعمان بن المنذر. وقيل لأبى وجرة يمدح عبد الله بن الزبير. وتعزى: أى تنسب، والجلة- بالضم وعاء التمر، وبالكسر: الجماعة العظيمة، جمع جليل، وبالفتح: البعرة، وهو تمييز محول من نائب عن الفاعل، أى: تعاليت عن أن ينسب وعاءك أى: أصلك إلى الانس. وقوله: وللانس من يعزوك، فيه تقديم معمول الصلة على الموصول. والمشهور منعه: لأنهم يتوسعون في الظروف، وزيدت الفاء في خبر الموصول لأنه يشبه الشرط، ولو جعل شرطا لكان فيه إثبات حرف العلة بعد الجازم للضرورة. والملأك معفل، بتقديم العين من الألوكة بالفتح وهي الرسالة، وقال أبو عبيدة: هو مفعل على اسم المكان، من لأك إذ أرسل، ولعله جاء على مفعل لتصوير أن الرسول مكان الرسالة. وقال ابن كيسان: هو فعأل من الملك، فالهمزة زائدة، وعلى كل يخفف بالنقل فيقال فيه تلك. والصوب: القصد أو الميل عند النزول، ونصب ملأكا لأنه اسم لكن، وما بعده صفته، أى: ولكن ملأكا نازلا من السماء أنت. وفيه: أن المحدث عنه الممدوح لا الملك، ويمكن أنه قلب للمبالغة كما قالوه في التشبيه المقلوب. ويحتمل أن تقديره: ولكنك كنت ملأكا، وفيه بعد. والأوجه رواية الصحاح:
فلست لانسى ولكن لملأك
أى: فلست منسوبا لانسى ولكن لملك، وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء، يصوب: أى يقصد إلى جهة.

(3/29)


رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65)

والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال الله تعالى- تقريرا لقولهم-: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذى ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضى الله عنه: وما يتنزل، بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إلا بقول ربك. يجب أن يكون الخلاف في النسى مثله في البغي.

[سورة مريم (19) : آية 65]
رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65)
رب السماوات والأرض بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أى هو رب السموات والأرض فاعبده كقوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم «1»
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون وما كان ربك نسيا من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة. فإن قلت: هلا عدى اصطبر بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى واصطبر عليها؟
قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أى اثبت له فيما يورد عليك من شدائد أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولا تهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحى عليك مدة وشماتة المشركين بك. أى: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم: آلهة، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه.
__________
(1) .
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا
شاعره مجهول. أى: ورب قائلة. وخولان بالفتح اسم قبيلة باليمن، وهو مبتدأ خبره ما بعده، والفاء زائدة فيه على رأى الأخفش والفراء، ومنع سيبويه زيادتها هنا، لأن المبتدأ لم يشبه الشرط، فخبره محذوف، أى: خولان كرام فانكح أى تزوج فتاتهم، أو هو خبر لمحذوف، أى: هؤلاء خولان المعروفون بالكرم، فتزوج بفتاتهم.
وبنى «أكرومة» من الكرم للدلالة على كثرة السكرم، كما أن أعجوبة من التعجب للدلالة على كثرته، والجملة حالية، فيحتمل أنها مانعة من نكاح الفتاة، أى قالت لي ذلك، والحال أن أكرومة الحيين أى كريمة حى أبى وحى أمى خلو بالضم: خالية من الأرواح كما كانت، فهي أولى من الفتاة بالزواج لقرابتها منى. ويحتمل أنها داعية إليه، فالمعنى: قالت لي ذلك والحال أن الفتاة التي هي أكرومة الحيين، أى حى أبيها وحى أمها من خولان، على ما هي عليه من البكارة، أو من الخلو من الأزواج لم تتزوج أحدا قبلي، فهي حقيقة بأن أتزوجها لكرم طرفيها، فعلم أن الكاف بمعنى على. ويجوز أن يشبه حالها الآن بحالها فيما مضى، فالكاف على أصلها. ويحتمل أن الواو للعطف، أى: قالت ذلك، وقالت: إنها خالية لم يطمثها أحد قبلك، فهي حقيقة بالزواج لذلك، لكنه بعيد.

(3/30)


ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67)

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية. وقيل:
مثلا وشبيها، أى: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.

[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 67]
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67)
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة. فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق:
فسيف بنى عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد «1»
فقد أسند الضرب إلى بنى عبس مع قوله «نبا بيدي ورقاء» وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي.
فإن قلت: بم انتصب إذا وانتصابه بأخرج ممتنع لأجل اللام، لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت:
بفعل مضمر يدل عليه المذكور. فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ «2» قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف. و «ما» في إذا ما للتوكيد أيضا، فكأنهم قالوا:
أحقا أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد.
والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالما، وخرج
__________
(1) . للفرزدق وهذا لقبه، واسمه همام أو هميم، يريد: ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، أمره سليمان بن عبد الملك بضرب أعناق بعض أسرى الروم، وأعطاه سيفا لا يقطع فقال: بل أضربهم بسيف أبى رغوان مجاشع، يعنى نفسه، فضرب عنق خالد فانحرف السيف وارتفع عن المضرب، فضحكوا منه. ونسب السيف والضرب إلى بنى عبس مع أنهما لواحد منهم، تعظيما لهما وتفخيما. وجعله في اليدين إشارة إلى أنه كان مجمعا أمره وحازما عزمه غير متهاون..
والمعنى: أن الحذر لا ينفع من القدر كما وقع لورقاء، مع أنه في غاية الحرص، لا سيما أمام الملك. ويجوز أنه يريد ذم بنى عبس.
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف اجتمعت اللام وهي للحال مع حرف الاستقبال ... الخ» قال أحمد:
ولاعتقاد تناقض الحرفين: منع الكوفيين اجتماعهما، وإنما جردت اللام من معناها لتلائم «سوف» دون أن تجرد سوف لتلائم اللام، لأنه لو عكس هذا للغت سوف، إذ لا معنى لها سوى الاستقبال. وأما اللام إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد، فلم تلغ، فتعين، والله أعلم.

(3/31)


شجاعا: إذا كان نادرا في ذلك، يريد: سأخرج حيا نادرا على سبيل الهزؤ. وقرأ الحسن وأبو حيوة:
لسوف أخرج. وعن طلحة بن مصرف رضى الله عنه: لسأخرج، كقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: ولسيعطيك، وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسىء إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه: الواو عطفت لا يذكر على يقول ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى «1» فإن تلك أعجب وأغرب وأدل على قدرة الخالق، حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه. وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، وردها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى ولم يك شيئا دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى وهو أهون عليه على أن رب العزة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، وكشفا عن صفحة جهله. القراء كلهم على لا يذكر بالتشديد إلا نافعا وابن عامر
__________
(1) . قال محمود: «ذكر الله الإنسان النشأة الأولى ليعترف بالأخرى ... الخ» قال أحمد: مذهب أهل السنة أن إعادة المعدوم جائزة عقلا، ثم واقعة نقلا، والمعتزلة وإن وافقت على ذلك، إلا أنها تزعم أن المعدوم له ذات ثابتة في العدم، يقضى عليها بأنها شيء فليس عندهم عدم صرف ونفى محض قبل الوجود ولا بعده، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة الذين هم مختصرهم، ولأنكروا إعادة المعدوم كما أنكره القدماء. وعقيدة أهل السنة هي المطابقة للآية، لأن النشأة الأولى لم يتقدمها وجود، ولأن المنشأ ابتداء لم يكن شيئا قبل ذلك. وأما النشأة الثانية فقد تقدمها وجود، وكان المنشأ قبلها شيئا في زمان وجوده، ثم عدم وبطلت شيئيته، فظهر فرق ما بين النشأتين كما نطق به القرآن، وأما المعتزلة فان قالوا: إن الأجسام يعدمها الله ثم يوجدها، فقد قالوا الحق، لكن لا يتم على أصلهم فرق بين النشأتين، لأن المعدوم فيهما كان شيئا قبل النشأة، فان قالوا لا تنعدم الأجسام، وإنما تتفرق ثم تجمع كما صرح به الزمخشري، لأنه تفطن لأن القول بأن الأجسام تنعدم ثم يوجدها الله تعالى مع القول بأن المعدوم شيء- يبطل الفرق بين النشأتين ولم يطق ذلك، وقد نطق به القرآن فالتزم أن الأجسام لا تنعدم ليتم له الفرق بين النشأة الثانية- وإنما هي على هذا التقرير جمع وتأليف لموجود- وبين النشأة الأولى التي هي إيجاد معدوم، فتنبه لبعد غوره، ولكن هرب من القطر فوقع تحت الميزاب، فهو والحالة هذه كالمستغيث من الرمضاء بالنار، والله ولى التوفيق. ومعنى تفريق الله تعالى بين النشأتين: أن الجاحد متهافت لأنه اعترف بالأولى وهي أصعب بالنسبة إلى قياس العقل، وأنكر الثانية وهي أسهل وأهون، لأن ذلك راجع إلى قدرته تعالى. فان الكل لدى قدرة الله تعالى هين على سواه.

(3/32)


فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70)

وعاصما رضى الله عنهم، فقد خففوا. وفي حرف أبى: يتذكر من قبل من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه.

[سورة مريم (19) : الآيات 68 الى 70]
فو ربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70)
في إقسام الله تعالى باسمه تقدست أسماؤه مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى فو رب السماء والأرض إنه لحق والواو في والشياطين يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى مع، وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت:
هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسى على العموم «1» فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين.
فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسرورا إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم. فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يقبلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا «2» على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو. قال الله تعالى وترى كل أمة جاثية على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، من تجاثى أهلها على الركب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «والإنسان يحتمل أن يراد به العموم ... الخ» قال أحمد: التبست عليه إرادة العموم بتناول العموم وبينهما بون، ومن ثم خلت عبارته هذه عن التحرز والصون، فصرح بأن الله تعالى أراد بالإنسان العموم، ومعنى إرادة العموم: أن يريد الله تعالى نسبة كلمة الشك والكفر إلى كل فرد من أفراد الإنسان، ومعاذ الله. وقد صرح الزمخشري بأن الناطق بكلمة الشك بعض الجنس، ففي العبارة خلل كما ترى. والعبارة الصحيحة أن يقال: يحتمل أن يكون التعريف جنسيا، فيكون عهديا، فيكون اللفظ من أول وهلة خاصا، والله أعلم.
(2) . قوله «عتلا» العتل: الجذب العنيف. أفاده الصحاح- (ع)

(3/33)


وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)

لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، فيحبون على ركبهم حبوا. وإن فسر بالعموم، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم، على أن جثيا حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين، لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب. والمراد بالشيعة- وهي «فعلة» كفرقة وفتية- الطائفة التي شاعت «1» ، أى تبعت غاويا من الغواة. قال الله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يريد: نمتاز من كل طائفة من طوائف الغى والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم.
أو أراد بالذين هم أولى به صليا: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصلى من بين سائر الصالين، ودركاتهم أسفل، وعذابهم أشد. ويجوز أن يريد بأشدهم عتيا: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا ومضلين. قال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون، وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم واختلف في إعراب أيهم أشد فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لتنزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبنى على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعا على من كل شيعة، كقوله سبحانه ووهبنا لهم من رحمتنا أى لننزعن بعض كل شيعة، فكأن قائلا قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتيا. وأيهم أشد: بالنصب عن طلحة ابن مصرف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء. فإن قلت: بم يتعلق على والباء، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا الصلة. أو يتعلقان بأفعل، أى: عتوهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.

[سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72]
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)
وإن منكم التفات إلى الإنسان، يعضده قراءة ابن عباس وعكرمة رضى الله عنهما:
وإن منهم. أو خطاب للناس «2» من غير التفات إلى المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود دخولهم فيها وهي جامدة، فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم. عن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . قوله «شاعت» في الصحاح: شاعه شياعا: تبعه. (ع)
(2) . قال محمود: «يحتمل أن يكون استئنافا خطابا للناس، ويحتمل أن يكون التفاتا» قال أحمد: احتمال الالتفات مفرع على إرادة العموم من الأول، فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا، إلا أن الخطاب الأول بلفظ الغيبة، والثاني بلفظ الحضور. وأما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا، فالثاني ليس التفاتا، وإنما هو عدول إلى خطاب العامة عن خطاب خاص لقوم معينين، والله أعلم. [.....]

(3/34)


عنه: يردونها كأنها إهالة. وروى دواية»
. وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار، فيقال لهم: قد وردتموها وهي جامدة «2» . وعنه رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجا من بردها» «3» وأما قوله تعالى أولئك عنها مبعدون فالمراد عن عذابها. وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: هو الجواز على الصراط، لأن الصراط ممدود عليها. وعن ابن عباس: قد يرد الشيء الشيء ولا يدخله، كقوله تعالى ولما ورد ماء مدين ووردت القافلة البلد، وإن لم تدخله ولكن قربت منه. وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا، لقوله عليه السلام «الحمى من فيح جهنم» «4» وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار» «5» ويجوز أن يراد بالورود: جثوهم حولها. وإن أريد الكفار خاصة، فالمعنى بين.
الحتم: مصدر حتم الأمر إذا أوجبه، فسمى به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير، أى: كان ورودهم واجبا على الله، أوجبه على نفسه وقضى به، وعزم على أن لا يكون غيره. قرئ ننجي وننجي، وينجى وينجى، على ما لم يسم فاعله. إن أريد الجنس بأسره فهو
__________
(1) . قوله «كأنها إهالة وروى دواية» في الصحاح «الاهالة» الودك. وفيه أيضا «الدواية» الجليدة التي يوضع فيها اللبن والمرق. (ع)
(2) . روى عن جابر هكذا. قلت المحفوظ عن جابر ما سيأتى بعد. وروى ابن إسحاق وأبو عبيد في الغريب وابن المبارك في الزهد من طريق ومعه خالد بن معدان. قال «إذا جاز المؤمنون الصراط نادى بعضهم بعضا: ألم يعدنا ربنا» فذكره، ولم يذكره الواحدي والبغوي إلا من هذا الوجه.
(3) . رواه أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد. قالوا حدثنا سليمان بن حرب وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكيم في النوادر. السادس عشر، كلهم من طريق سليمان. قال حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبى سمية قال «اختلفنا في الورود، فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم منه» وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الاسناد فقال: عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة بدل أبى سمية- عن جابر.
(4) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(5) . أخرجه البزار عن عائشة بهذا. وقال: تفرد برفعه عثمان بن مخلد عن هشيم بن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عنها. وقال الدارقطني: عثمان لا بأس به، لكن خولف في رفع هذا الحديث فرواه ببدل عن هشيم موقوفا. قلت: وقد روى مرفوعا من وجه آخر. أخرجه القضاعي من مسند الشهاب من طريق أحمد بن رشد الهلالي عن حميد بن عبد الرحمن الروالى عن الحسن بن صالح عن الحسن بن عمرو عن إبراهيم به. وزاد «وحمى ليلة تكفر خطايا سنة» في الباب عن أبى هريرة عن ابن ماجة والحاكم، وعن أبى ريحانة عند الطبراني، وعن أبى أمامة عند أحمد. وعن عثمان عند القتيلى وعن سعد بن معاذ عند ابن سعد في الطبقات وعن أنس عند الطبراني بالأوسط. وكلها ضعيفة وهي بمعناه لا بلفظه.

(3/35)


وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا (74)

ظاهر، وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى ثم ننجي الذين اتقوا أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس والجحدري وابن أبى ليلى: ثم ننجي، بفتح الثاء، أى هناك. وقوله ونذر الظالمين فيها جثيا دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد تجاثيهم، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.

[سورة مريم (19) : آية 73]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73)
بينات مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى وهو الحق مصدقا لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججا للذين آمنوا يحتمل أنهم يناطقون المؤمنون بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه. قرأ ابن كثير مقاما بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد المكان والموضع.
والندى: المجلس ومجتمع القوم، وحيث ينتدون «1» . والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أى الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص، والرفعة والضعة. ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم.

[سورة مريم (19) : آية 74]
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74)
كم مفعول أهلكنا ومن تبيين لإبهامها، أى: كثيرا من القرون أهلكنا.
وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم. وهم أحسن في محل النصب صفة لكم.
ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية.
الأثاث: متاع البيت. وقيل: هو ماجد من الفرش. والخرثي: ما ليس منها. وأنشد الحسن بن على الطوسي:
__________
(1) . قوله «حيث ينتدون» في الصحاح «ندوت» أى حضرت الندى. وانتديت: مثله. (ع)

(3/36)


قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (75)

تقادم العهد من أم الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثيا «1»
قرئ على خمسة أوجه رءيا وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول، من رأيت. وريئا، على القلب كقولهم راء في رأى. وريا، على قلب الهمزة ياء والإدغام، أو من الرى الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم. وريا، على حذف الهمزة رأسا، ووجهه أن يخفف المقلوب وهو «رينا» بحذف همزته وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها. وزيا، واشتقاقه من الزى وهو الجمع: لأن الزى محاسن مجموعة، والمعنى: أحسن من هؤلاء.

[سورة مريم (19) : آية 75]
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (75)
أى مد له الرحمن، يعنى: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر أو كقوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما أو من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته. في هذه الآية وجهان. أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أى قالوا: أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا حتى إذا رأوا ما يوعدون أى لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم. وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم شر مكانا وأضعف جندا، لا خير مقاما وأحسن نديا، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لا صق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها. فإن قلت: حتى هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة
__________
(1) . أثاث البيت: أمتعته ولوازمه: والخرئى كالكرسى: العتيق من ذلك، يقول: تقادم وتطاول بنا اللقاء من أم الوليد، أى: تباعد زمنه. فدهرا: تمييز. ويجوز أنه ظرف، أى: تباعد عهد اللفاء من محبوبتى زمنا طويلا وصار متاع البيت عتيقا قديما. وفيه تحسر على عدم اللقاء.

(3/37)


ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (76)

الشرطية واقعة بعدها وهي قوله إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا في مقابلة خير مقاما وأحسن نديا لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم. والندى:
المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم. والجند: هم الأنصار والأعوان.

[سورة مريم (19) : آية 76]
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (76)
ويزيد معطوف على موضع فليمدد، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مد أو يمد له الرحمن. ويزيد: أى يزيد في ضلال الضال بخذلانه، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه والباقيات الصالحات أعمال الآخرة كلها. وقيل: الصلوات. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أى هي خير ثوابا من مفاخرات الكفار وخير مردا أى مرجعا وعاقبة، أو منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مرد:
وهل يرد بكاى زندا «1»
فإن قلت: كيف قيل خير ثوابا كأن لمفاخراتهم ثوابا، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت:
كأنه قيل:
ثوابهم النار. على طريقة قوله: ... فأعتبوا بالصيلم «2»
وقوله:
شجعاء جرتها الذميل تلوكه ... أصلا إذا راح المطي غراثا «3»
وقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع «4»
ثم بنى عليه خير ثوابا. وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار. فإن قلت: فما وجه التفضيل في الخير كأن لمفاخرهم شركا فيه؟ قلت: هذا من وجيز كلامهم، يقولون: الصيف أحر من الشتاء، أى: أبلغ من الشتاء في برده.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 525 فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه
(3) . الشجع: سرعة نقل القوائم. والشجعاء: السريعة السير. والجرة- بالكسر-، ما يجتره البعير من كرشه يمضغه. والذميل: نوع من السير. واللوك: المضغ. والأصل: جمع أصيل، وهو من العصر للغروب. والرواح:
من الظهر إليه. والغراث: الجياع. يصف ناقته بسرعة السير، وشبه السير عندها بجرتها، يجامع سرعة الحركة وانطباع الناقة واستلذاذها لكل. وجعلها تبرزه شيئا فشيئا كالجرة للمبالغة. وفيه دلالة على خلو بطنها من العلف إذا راح، أى: إذا كان غيرها لا يجد قوة على السير، فالغرث: استعارة. ويجوز أن المعنى أنها سريعة في السير ولو كانت جائعة كغيرها من المطايا، فالغرث حقيقته.
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 60 فراجعه إن شئت اه مصححه

(3/38)


أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80)

[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80]
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80)
لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها، استعملوا «أرأيت» في معنى «أخبر» والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب، كأنه قال: أخبر أيضا بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك أطلع الغيب من قولهم:
أطلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع «1» الثنية. قال جرير:
لاقيت مطلع الجبال وعورا «2»
ويقولون: مر مطلعا لذلك الأمر، أى عاليا له مالكا له، ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول:
أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار. والمعنى: أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ قرأ حمزة والكسائي: ولدا، وهو جمع ولد، كأسد في أسد. أو بمعنى الولد كالعرب في العرب. وعن يحيى بن يعمر: ولدا، بالكسر. وقيل في العهد:
كلمة الشهادة. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ وعن الكلبي: هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك؟ عن الحسن رحمه الله: نزلت في الوليد بن المغيرة، والمشهور أنها في العاصي بن وائل. قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فافتضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد. قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث. قال: فإنى إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك «3» . وقيل:
__________
(1) . قوله «وطلع الثنية» في الصحاح «طلعت الجبل» بالكسر: علوته. (ع)
(2) .
إنى إذا مضر على تحدثت ... لاقيت مطلع الجبال وعورا
لجرير. ومضر: اسم قبيلة صرف للضرورة. ومطلع- بتشديد الطاء-: اسم مكان على صورة المفعول، من اطلع المشدد، وأصله: اطتلع، بتاء الافتعال، قلبت طاء وأدغمت فيها ما قبلها، وهو نصب على الظرفية. والوعور:
جمع وعر، أى: صعب مفعول لاقيت، أو المفعول هو مطلع. ووعورا: حال، لا سيما على رواية فتح واوه على أنه صيغة مبالغة، يقول: إذا تقولت على مضر ما لا أرتضيه، أو تكلمت في قتلى، وجدت في مطالع الجبال أشياء صعابا فأعجز عن الهرب. أو المعنى: أنه يقتحم الصعاب ولا يبالى بها ويهرب منهم. وعلى الحالية: لاقيت مطلع الجبال حال كونه أماكن صعبة، والمطلع متعدد لإضافته لمتعدد، وعلى فتح الواو فظاهر.
(3) . متفق عليه من طريق مسروق عن خباب أتم منه. [.....]

(3/39)


صاغ له خباب حليا فاقتضاه الأجر، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، فأنا أقضيك ثم، فإنى أوتى مالا وولدا حينئذ كلا ردع وتنبيه على الخطأ أى: هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه. فإن قلت: كيف قيل سنكتب بسين التسويف، وهو كما قاله كتب من غير تأخير، قال الله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله، على طريقة قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «1»
أى تبين وعلم بالانتساب أنى لست بابن لئيمة. والثاني: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد ونمد له من العذاب مدا أى نطول له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزءون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد. يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة على بن أبى طالب: ونمد له بالضم. وأكد ذلك بالمصدر، وذلك من فرط غضب الله، نعوذ به من التعرض لما نستوجب به غضبه ونرثه ما يقول أى نزوى عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه. والمعنى مسمى ما يقول. ومعنى ما يقول وهو المال والولد. يقول الرجل: أنا أملك كذا، فتقول له: ولى فوق ما تقول، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا، وبلغت به أشعبيته «2» أن تألى على ذلك في قوله لأوتين لأنه جواب قسم مضمر، ومن يتأل على الله يكذبه، فيقول الله عز وجل هب أنا أعطيناه ما اشتهاه، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد، كقوله عز وجل ولقد جئتمونا فرادى ... الآية فما يجدى عليه تمنيه وتأليه. ويحتمل أن هذا القول
__________
(1) .
رمتني عن قوس العدو وباعدت ... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدى من أن تقرى بها بدا
لزائد بن صعصعة النقعسى، كانت له امرأة اسمها عبيدة فطمحت عليه وكانت أمها سرية، فعرض لها بذلك، يقول:
رمتني بأمر قبيح كأنه نبلة صادرة عن قوس العدو، أو أبعدتنى عنها بعد النبلة عن القوس: أى تسببت في ذلك وبالغت في بعد الرمي، و «زاد الله» جملة دعائية، ثم قال: إذا أظهرنا نسبنا يتبين أنى لم تلدني لئيمة بخلافك، ولم تجدى مفرا ولا غنى من إقرارك بتلك القضية. ويجوز أن المعنى: أنه لا بد من إقرارك بأمك اللئيمة، وعلم مرجع الضمير من ذكر المقابلة وهو أمه، وهذا أدق في التبكيت. ويروى: به، أى: بذلك النسب. وفي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب نوع من التشنيع والتوبيخ، كأنه عجب الناس أولا من حالها، ثم التفت يبكتها بلؤم أمها وأنها رقيقة.
(2) . قوله «أشعبيته» في الصحاح «أشعب» اسم رجل كان طماعا. وفي المثل: أطمع من أشعب اه. ومنه:
أخذت الأشعبية، بمعنى: خصلة أشعب، وهي الطمع. (ع)

(3/40)


واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82)

إنما يقوله ما دام حيا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه، فيجتمع عليه الخطبان: تبعة قوله ووباله، وفقد المطموع فيه. فردا على الوجه الأول: حال مقدرة نحو فادخلوها خالدين لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتى، ثم يتفاوتون بعد ذلك.

[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 82]
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82)
أى ليتعززوا بآلهتهم حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب كلا ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة. وقرأ ابن نهيك كلا سيكفرون بعبادتهم أى سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيدا مررت بغلامه. وفي محتسب ابن جنى: كلا بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأى والاعتقاد كلا. ولقائل أن يقول: إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نونا كما في قواريرا. والضمير في سيكفرون للآلهة، أى: سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون. قال الله تعالى وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون أو للمشركين: أى ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا قد عبدوها. قال الله تعالى: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين عليهم ضدا في مقابلة لهم عزا والمراد ضد العز وهو الذل والهوان، أى:
يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وأرادوه، كأنه قيل: ويكونون عليهم ذلا، لا لهم عزا أو يكونون عليهم عونا، والضد: العون. يقال من أضدادكم: أى أعوانكم وكأن العون سمى ضدا لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه. فإن قلت: لم وحد؟ قلت: وحد توحيده قوله عليه السلام: «وهم يد على من سواهم «1» » لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عونا عليهم: أنهم وقود النار وحصب جهنم، ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها
__________
(1) . هذا طرف من حديث لعلى رضى الله عنه، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق والحاكم من طريق قيس بن عباد عن على رضى الله عنه «أنه أخرج من قراب سيفه كتابا عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه- وذكره. وفيه هذا» وروى ابن ماجة من حديث ابن عباس رفعه قال «المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهم يد على من سواهم- الحديث» وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبزار والطبراني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه، وعن عبد الله بن عمر، أخرجه ابن حبان. وعن معقل ابن يسار أخرجه ابن ماجة.

(3/41)


ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85)

وإن رجعت الواو في سيكفرون ويكونون إلى المشركين، فإن المعنى: ويكونون عليهم- أى أعداءهم- ضدا، أى: كفرة بهم، بعد أن كانوا يعبدونها.

[سورة مريم (19) : آية 83]
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83)
الأز، والهز، والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أى: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم «1» ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم قسرا. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم، وملاحتهم، ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم بالدين:
من تماديهم في الغى وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وإنهما كهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسول لهم،

[سورة مريم (19) : آية 84]
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84)
عجلت عليه بكذا: إذا استعجلته منه، أى: لا تعجل عليهم بأن يهلكوا ويبيدوا، حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم، وتطهر الأرض بقطع دابرهم، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لو عدت. ونحوه قوله تعالى ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك. وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.

[سورة مريم (19) : آية 85]
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85)
نصب يوم بمضمر، أى يوم نحشر ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر. ويجوز أن ينتصب بلا يملكون. ذكر المتقون بلفظ التبجيل، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم. وعن على رضى الله عنه: ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكنهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت «2» .
__________
(1) . قوله «والمعنى خلينا بينهم وبينهم» هذا هو الموافق لمذهب المعتزلة، من أنه تعالى لا يفعل الشر. أما على مذهب أهل السنة من أنه تعالى يفعل الشر كالخير، فالمناسب: سلطناهم عليهم. (ع)
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبري وابن أبى حاتم من رواية عبد الرحمن ابن إسحاق بن النعمان بن سعد بن على نحوه، وأخرجه ابن أبى داود في كتاب البعث من هذا الوجه مرفوعا. ورواه ابن عدى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا أيضا.

(3/42)


ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (87)

[سورة مريم (19) : آية 86]
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86)
وذكر الكافرون بأنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورود: العطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، قال:
ردى ردى ورد قطاة صما ... كدرية أعجبها برد الما «1»
فسمى به الواردون. وقرأ الحسن: يحشر المتقون، ويساق المجرمون.

[سورة مريم (19) : آية 87]
لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (87)
الواو في لا يملكون إن جعل ضميرا «2» فهو للعباد، ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة. ويجوز أن تكون علامة للجمع، كالتي في «أكلونى البراغيث» والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع، ومحل من اتخذ رفع على البدل، أو على الفاعلية. ويجوز أن ينتصب على تقدير حذف المضاف، أى: إلا شفاعة من اتخذ. والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد: الاستظهار بالإيمان والعمل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنى أعهد إليك بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا
__________
(1) . يخاطب ناقته. وردى: أمر من الورود، وتكريره للتوكيد. والورد: اسم مصدر منه أيضا، أو اسم للماء المورود، أى: ردى الماء كورود قطاء صماء لا تسمع صوت القانص فلا تنفر عن الماء: والكدر- بالضم- نوع من القطار مادى اللون، والكدرية: نسبة إليه، من نسبة الجزئى إلى كليه، وهذه الياء هي الفارقة بين اسم الجنس وواحده، كروم ورومي. وفيه تشبيه ناقته ضمنا بالقطاة في الخفة والسرعة. وصما والما: بالقصر، فان رويا بالمد والسكون على أن الشعر من مشطور المنسرح الموقوف، فمحله حرف الألف.
(2) . قال محمود: «يحتمل أن تكون الواو في لا يملكون ضميرا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه تعسف من حيث أنه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناها وأفصح بأنها متناولة جمعا، ثم أعاد على لفظها بالافراد ضمير اتخذ، ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك، وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح، وذلك تعكيس في طريق البلاغة، وإنما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال. والواو على إعرابه، وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد له، فتنبه لهذا العقد، فانه أروج من النقد:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد

(3/43)


وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91)

عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة، «1» وقيل: كلمة الشهادة. أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به، أى لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا.

[سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 91]
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91)
قرئ إدا بالكسر والفتح. قال ابن خالويه: الإد والأد: العجب. وقيل: العظيم المنكر. والإدة: الشدة. وأدنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم على إدا تكاد قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ «ينفطرن» «2» الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود: ينصدعن، أى تهد هدا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى: لأنها تهد. فإن قلت: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟
ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن الله سبحانه يقول:
كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض «3» والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من
__________
(1) . أخرجه الثعلبي قال: روى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود- فذكره بتمامه، وروى ابن مردويه في تفسير الأحزاب من طريق عوف بن عبد الله عن رجل من بنى سليم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العهد أن تقول: اللهم فاطر السموات والأرض- الحديث أصغر مما ذكر» ورواه الحاكم من وجه آخر عن عون عن ابن ماجة عن الأسود عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا قال الله تعالى يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، قال فقلنا: فعلمنا يا أبا عبد الرحمن قال: فاقرؤا:
اللهم فاطر السموات والأرض- فذكره مختصرا، وفي الباب عن أبى بكر رضى الله عنه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والسبعين بعد المائة.
(2) . قوله «وقرئ ينفطرن» يفيد أن القراءة المشهورة «يتفطرن» بالتاء. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه: كدت أهد السموات وأفطر الأرض ... الخ» قال أحمد: ويظهر لي وراءها معنى آخر والله أعلم، وذلك أن الله تعالى قد استعار لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له، أن جعلها تسبح بحمده. قال تعالى تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها: أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إلى الله تعالى قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله وتقديسه، فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها، إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق «فسبحان من قسم عباده، فجعل العباد، تستلذ فتسبح بتسبيح داود، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود.

(3/44)


تفوه بها، لولا حلى ووقارى، وأنى لا أعجل بالعقوبة كما قال إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا. والثاني: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات: أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر. وفي قوله لقد جئتم وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة، وهو الذي يسمى الالتفات في علم البلاغة زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله، والتعرض لسخطه، وتنبيه على عظم ما قالوا. في أن دعوا ثلاثة أوجه: أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه، كقوله:
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم «1»
ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل، أى: هذا لأن دعوا، علل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد للرحمن. ومرفوعا بأنه فاعل هذا، أى هدها دعاء الولد للرحمن. وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات من الفائدة أنه هو الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره، من قبل أن أصول النعم وفروعها منه: خلق العالمين، وخلق لهم جميع ما معهم، كما قال بعضهم: فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه. فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني، طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدا. أو من دعا بمعنى نسب، الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام «من ادعى إلى غير مواليه «2» » وقول الشاعر:
إنا بنى نهشل لا ندعى لأب «3»
أى لا ننتسب إليه.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 438 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . لم أره بلفظ «من ادعي» وإنما هو عند مسلم بلفظ «انتمى» أخرجه من حديث على بن أبى طالب رفعه «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه- الحديث»
(3) .
إنا بنى نهشل لا ندعى لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
يكفيه إن نحن متنا أن يسر بنا ... وهو إذا ذكر الآباء يكفينا
لبشامة بن حزن النهشلي، ويقال: ادعى فلان في بنى هاشم ولهم وإليهم، أى: انتسب إليهم وادعى عنهم إذا انتسب لغيرهم. وعدل عنهم يقول: إنا لا ننتسب لأب غير نهشل، وبنى نهشل: نصب على الاختصاص يفيد المدح ولا هو يشرينا، أى يبيعنا ويستبدلنا بأبناء غيرنا، ثم قال: يكفيه منا سروره بنا إن متنا ولحقناه، حيث أوجبنا له ولنا الثناء الجميل من شجاعتنا وحسن خصالنا. و «إن» بمعنى «إذا» لأن الموت لا شك فيه. ويروى «أن يسب» بباء، ولعل معناه: لا مسبة له غير موتنا في القتال، يعنى: إن كان ذلك مسبة وليس كذلك، ويمكن أن تعبيره بالكفاية ليفيد أنه مستغن عن المدح من جهة أبنائه عند التفاخر. وعند عد مآثر الآباء لا نحتاج لغيره، فننتسب له لنشرف بشرفه.

(3/45)


وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)

[سورة مريم (19) : آية 92]
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92)
انبغى: مطاوع «بغى» إذا طلب، أى: ما يتأتى له اتخاذ الولد وما ينطلب لو طلب مثلا، لأنه محال غير داخل تحت الصحة. أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأما التبني فلا يكون إلا فيما هو من جنس المتبنى، وليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

[سورة مريم (19) : الآيات 93 الى 95]
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)
من موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة، وقوعها بعد رب في قوله:
رب من أنضجت غيظا صدره «1»
وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة آتي الرحمن على أصله قبل الإضافة. الإحصاء الحصر والضبط يعنى: حصرهم بعلمه وأحاط بهم وعدهم عدا الذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزير
__________
(1) .
رب من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع
ويرانى كالشجا في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع
ويحيينى إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمى رتع
لسويد بن أبى كاهل اليشكري، ويتعين أن «من» نكرة موصوفة، لأن رب لا تجر إلا النكرة، ونضج اللحم والعنب ونحوهما نضجا فهو نضيج وناضج: أدرك وبلغ أوانه واستوى، أى: رب شخص طبخت قلبه من حر غيظه منى ولم يطع، أى لا يستطاع تحمل سببه. والشجا: ما نشب في الحلق من عظم ونحوه. وعسرا الخ: حال منه. ومخرجه أى خروجه مرفوع بالوصف، لم يضرني شيئا من الضرر غير الحسد، من ضاره يضيره ضيرا إذا ضره، فهو يزقو أى يصيح مثل صياح الضوع: وهو ذكر اليوم، وكثر تشبيه العرض المطعون فيه باللحم المأكول على طريق التصريحية، ثم شبهه الشاعر بالمرعى المخصب ترتع فيه البهائم. أو شبه المغتاب بهيمة في المرعي على طريق المكنية والرتع تخبيل. ويحتمل استعارته للأكل الملائم للحم، ثم للطعن الملائم للعرض على طريق التصريح، أى: إذا يخلو له عرضي اغتاب كما يريد. [.....]

(3/46)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)

أنهم أولاد الله، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأن الرحمن يصح أن يكون والدا. والثاني:
إشراك الذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم، فهدم الله الكفر الأول فيما تقدم من الآيات، ثم عقبه بهدم الكفر الآخر. والمعنى: ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتى الرحمن، أى: يأوى إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد وكما يجب عليهم، لا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضلال. ونحوه قوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه وكلهم متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره وهو مهيمن عليهم محيط بهم وبحمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم.

[سورة مريم (19) : آية 96]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)
قرأ جناح بن حبيش ودا بالكسر: والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا دجا الإسلام. وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه: «يا على قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة «1» » فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى يحبهم الله ويحبهم إلى خلقه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له المحبة في أهل الأرض»
» وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والطبراني في مسند حمزة الزيات، وابن مردويه من حديث البراء بن عازب رضى الله عنهما وفيه إسحاق بن بشر عن خالد بن زيد، وهما متروكان.
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة بمعناه.

(3/47)


فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (98)

[سورة مريم (19) : الآيات 97 الى 98]
فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (98)
هذه خاتمة السورة ومقطعها، فكأنه قال: بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه بلسانك أى بلغتك وهو اللسان العربي المبين، وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر.
واللد: الشداد الخصومة بالباطل، الآخذون في كل لديد، أى في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم، يريد أهل مكة.
وقوله وكم أهلكنا تخويف لهم وإنذار. وقرئ تحس من حسه إذا شعر به. ومنه الحواس والمحسوسات. وقرأ حنظلة تسمع مضارع أسمعت. والركز: الصوت الخفي.
ومنه: ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهرون وإسماعيل وإدريس، وعشر حسنات بعدد من دعا الله في الدنيا وبعدد من لم يدع الله» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.

(3/48)


طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى (4)

سورة طه
مكية [إلا آيتي 130 و 131 فمدنيتان] وهي 135 آية [نزلت بعد مريم] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى (4)
طه أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضى الله عنه: طه، وفسر بأنه أمر بالوطء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه «1» معا، وأن الأصل طأ، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في يطأ فيمن قال:
لا هناك المرتع «2»
ثم بنى عليه الأمر، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما
__________
(1) . أخرجه عبد بن حميد في تفسيره قال: حدثنا هاشم بن القاسم بن أبى جعفر عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله طه يعنى طأ الأرض» وروى ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن قطر بن خليفة عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية عن على «لما نزل يا أيها المزمل قام الليل كله حتى ورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع الأخرى فهبط عليه جبريل، فقال «طه طأ الأرض بقدميك يا محمد» وأخرجه البزار من وجه آخر عن على «كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» ومن طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى طه قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله طأها برجليك» وأخرجه البيهقي في الشعب الرابع عشر من وجه آخر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه الوحى كان يقوم على صدور قدميه إذا صلى. فأنزل الله طه.
(2) .
نزع ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
للفرزدق، يهجو عمرو بن زهرة الفزاري، وقد ولى العراق بعد عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان على البصرة ومحمد ابن عمرو بن الوليد بن عقبة، وكان على الكوفة. يقول: ذهب ابن بشر وابن عمرو، وأخو هراة أى صاحبها وواليها. وهراة من بلاد العراق أيضا. يتوقع: أى يترقب وينتظر مثل حاله من قبله. راحت، وروى: مضت، أى ذهبت البغال بمسلمة بن عبد الملك كما يفيد شرح المراح، وكان يمنع بنى فزارة من الرعي في أرض العراق، ففر إلى الشام وترك الملك، فارعى يا فزارة ما شئت يخاطب القبيلة بذلك، وإشارة إلى أنه كان محرما عليهم، فأبيح بعد مسلمة. وأرعى: بفتح العين وسكون الياء لأن مضارعه مفتوح العين. ولا هناك المرتع: دعا عليهم. يقال:
هناك الطعام ومراك، بتخفيف الهمز: انهضم في بطنك وأراحك ونفعك، فإذا انفرد الثاني قلت: أمراك الطعام، وتخفيف الهمزة بقبلها ألفا: صرفه كما هنا شاذ، وقياس تخفيفها في مثل هذا جعلها بين بين لعدم سكون ما قبلها.

(3/49)


على المسميين، والله أعلم بصحة ما يقال: إن «طاها» في لغة عك «1» في معنى يا رجل، ولعل عكا تصرفوا في «يا هذا» كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في «يا» : «طا» ، واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:
إن السفاهة طاها في خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين «2»
والأقوال الثلاثة في الفواتح: أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل، هي التي يعول عليها الألباء المتقنون ما أنزلنا إن جعلت طه تعديدا لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ، والقرآن ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ: ما نزل عليك القرآن لتشقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى فلعلك باخع نفسك والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل:
أشقى من رائض مهر، أى ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إنك شقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمعدت «3» قدماه، فقال له جبريل عليه السلام: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا «4» . أى: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة للفعل، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى، كقوله تعالى أن تحبط أعمالكم؟ قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة،
__________
(1) . قوله «في لغة عك» في الصحاح عك بن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. (ع)
(2) . السفاهة: الجهل والحمق والخفة. و «طه» في لغة عك، معناه يا هذا، فكأنهم قلبوا الياء طاء وحذفوا ذا. قال الزمخشري: ولا يخفى التصنع في البيت. والخلائق: الطبائع، ودعا عليهم بأن الله لا يطهر أرواحهم، ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة الذم والتشنيع. وقيل: للدلالة على سبب الدعاء، أى: فإنهم ملعونون، ولعل معناه: فإنهم مستحقين للعن وفاعلون سببه.
(3) . قوله «حتى اسمغدت» بالغين المعجمة، أى: تورمت. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . لم أره هكذا. وفي الدعوات الكبير للبيهقي عن عائشة قالت «لما كانت ليلة النصف من شعبان- فذكر حديثا طويلا- وفيه: فما زال يصلى قائما وقاعدا حتى أصبح وحتى اسمغدت قدماه. فقمت أغمزها- الحديث- وليس فيه كلام جبريل.

(3/50)


الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6)

كالنصبة في واختار موسى قومه وأما النصبة في تذكره فهي كالتي في ضربت زيدا، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون تذكرة بدلا من محل لتشقى؟ قلت: لا، لاختلاف الجنسين، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي «إلا» فيه بمعنى «لكن» ويحتمل أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل «1» متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له لمن يخشى لمن يؤول أمره إلى الخشية، ولمن يعلم الله منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب تنزيلا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا، لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمرا، وأن ينصب بأنزلنا، لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بيخشى مفعولا به، أى: أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرى: تنزيل، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد تنزيلا إلى قوله له الأسماء الحسنى تعظيم وتفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته. ولا يخلو من أن يكون متعلقه إما تنزيلا نفسه فيقع صلة له، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أن هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين: ويجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه.
وصف السموات بالعلى: دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها.

[سورة طه (20) : الآيات 5 الى 6]
الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6)
قرئ الرحمن مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير: هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. فإن قلت: الجملة التي هي
__________
(1) . قال محمود: «ويحتمل أن يكون المعنى إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الوجه الثاني بعد، فان فيه إثبات كون الشقاء سببا في نزوله عكس الأول وإن لم تكن اللام سببية فكانت للصيرورة مثلا ولم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن الشقاء والحزن عليهم وضيق الصدر بهم، وكان مضمون هذه الآية متباينا عن قوله تعالى فلا يكن في صدرك حرج، فلعلك باخع نفسك على آثارهم ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر وأمثاله كثيرة فالظاهر والله أعلم هو التأويل الأول

(3/51)


وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)

على العرش استوى ما محلها- إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلت: إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع الرحمن خبرين للمبتدإ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر.
ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: هو جواد. ومنه قول الله عز وجل وقالت اليهود يد الله مغلولة أى هو بخيل، بل يداه مبسوطتان أى هو جواد، من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام وما تحت الثرى ما تحت سبع الأرضين: عن محمد بن كعب وعن السدى: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.

[سورة طه (20) : الآيات 7 الى 8]
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)
أى يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما أسررته في نفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم: أن أخفى فعل «1» يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه، هو كقوله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه وإن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك، فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول وإما تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر الحسنى تأنيث الأحسن، وصفت بها الأسماء لأن حكمها حكم المؤنث
__________
(1) . قال محمود: «هو أفعل التفضيل، ومنهم من قال إن أخفى فعل ماض ... الخ» قال أحمد: لا يخفى أن جعله فعلا قاصر لفظا ومعنى: أما لفظا فانه يلزم منه عطف الجملة الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه الجملة الكبرى، أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الصغرى، وكلاهما دون الأحسن. وأما معنى، فان المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث أن الله تعالى يعلم السر وما هو أخفى منه، فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر. وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق وإن اشتمل على فائدة أخرى، وليس هذا كقوله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما لأن بين السياقين اختلافا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/52)


وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10)

كقولك: الجماعة الحسنى، ومثلها مآرب أخرى، ومن آياتنا الكبرى. والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.

[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 10]
وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10)
قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند الله الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب إذ ظرفا للحديث، لأنه حدث. أو لمضمر، أى: حين رأى نارا كان كيت وكيت. أو مفعولا لا ذكر استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده «1» فرأى النار عند ذلك. قيل: كانت ليلة جمعة. امكثوا أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة «إن» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال لعلي ولم يقطع فيقول: إنى آتيكم لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس: النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل: المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها هدى أى قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: أنه لصوق بمكان يقرب من زيد. أو لأن المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق «2»
__________
(1) . قوله «فصلد زنده» في الصحاح «صلد الزند» إذا صوت ولم يخرج نارا. (ع)
(2) .
لعمري لقد لا حت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع يخرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا تتفرق
للأعشى يمدح المحلق- بكسر اللام- سمى بذلك لأن بعيره عضه في وجهه فبقى أثر العضة مثل الحلقة، وهو من نبى عكاظ، كان فقيرا وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن، فانعزل بهن إلى بعض المهامة فنزل به الأعشى فنحر له ناقته ولم يكن عنده غيرها وأحسن قراه. فعظم عند الأعشى، فلما أصبح واستوى على راحلته قال له: ألك حاجة؟
قال: نعم، أن تسير بذكرى في بنى عكاظ، لعل أحدا يرغب في بناتي فقد مسهن العنس. فمدحه في عكاظ فلم يلبث حتى خطبت بناته. ولاحت: لمحت وتشوفت، واليفاع: المشرف من الأرض. يخرق: أى يخترق ذلك الضوء وينتشر في الأرض. ويروى: تحرق، بالحاء المهملة، والضمير للنار. وتشب. منى للمجهول، يقال: شبيت النار أشبها شبا وشبوبا: أو قدتها. والمقروران: اللذان أصابهما القر أي البرد، وأراد بهما الندى والمحلق، يعنى أنه هو وكرمه ملازمان لنار القرى ملازمة المقرور لنار التدفؤ، وبين ذلك بقوله: وبات على النار الندى والمحلق.
ويجوز أن الأعشى أراد نفسه والمحلق، لكل الأول أوقع في المدح. ومعنى كونهما عليها: أنهما على جانبيها ولأن المتدفئ يكون أعلى منها بحيث يمد يده فوقها. وعطف المحلق على الندى دلالة على أنهما متلازمان متقارنان، وبين ذلك بقوله: رضيعي لبان، وهو حال منهما، شبههما بالتوأمين دلالة على غاية التلازم حتى في الرحم بل وقبله.
واللبان: لبن المرأة خاصة، وهو مضاف إلى ثدي أم، وتنوينها للافراد وإضافته له لأنه منه. ويجوز تنوينه.
فثدى: بدل منه. والأسحم: الأسود الداجي المظلم، أى تحالفا كما هو رواية أيضا في ليل مظلم. أو في الرحم المظلم.
وعوض: ظرف مستقبل، نصب بما بعده. لا نتفرق: جواب التحالف، وكى بذلك كله عن شدة التلازم بينه وبين الكرم.

(3/53)


فلما أتاها نودي ياموسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14)

[سورة طه (20) : الآيات 11 الى 14]
فلما أتاها نودي يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14)
قرأ أبو عمرو وابن كثير إني بالفتح، أى: نودي بأنى أنا ربك وكسر الباقون، أى:
نودي فقيل يا موسى. أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته. تكرير الضمير في إني أنا ربك لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. روى أنه لما نودي يا موسى قال:
من المتكلم؟ فقال له الله عز وجل: إني أنا ربك، وأن إبليس وسوس إليه فقال: لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأنى أسمعه من جميع جهاتى الست، وأسمعه بجميع أعضائى. وروى أنه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد «1» ، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وبهت، فألقيت عليه السكينة ثم نودي، وكانت الشجرة عوسجة. وروى: كلما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت.
وعن ابن إسحاق: لما دنا استأخرت عنه، فلما رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم. قيل: أمر بخلع النعلين لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير
__________
(1) . قوله «كأنها نار بيضاء تتقد ... الخ» عبارة الخازن «أطافت بها نار ... الخ» وعبارة النسفي بدل قوله «رأى شجرة ... الخ» : «وجد نارا بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها وكانت شجرة العناب أو العوسج» (ع) [.....]

(3/54)


إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15)

مدبوغ «1» عن السدى وقتادة. وقيل: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل: لأن الحفوة تواضع لله، ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه، وكان إذا ندر منه الدخول منتعلا تصدق، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها وتشريف لقدسها. وروى أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي طوى بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة. وقيل: مرتين، نحو ثنى «2» ، أى نودي نداءين أو قدس الوادي كرة بعد كرة وأنا اخترتك اصطفيتك للنبوة. وقرأ حمزة: وإنا اخترناك.
لما يوحى للذي يوحى. أو للوحى. تعلق اللام باستمع، أو باخترتك لذكري لتذكرني فإن ذكرى أن أعبد ويصلى لي. أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. أو:
لأنى ذكرتها في الكتب وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق.
أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وطلب وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، كما قال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. أو لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة، كقوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا واللام مثلها في قولك: جئتك لوقت كذا، وكان ذلك لست ليال خلون. وقوله تعالى يا ليتني قدمت لحياتي وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه السلام «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها «3» » وكان حق العبارة أن يقال: لذكرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذكرها» ومن يتمحل له يقول: إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله. أو بتقدير حذف المضاف، أى: لذكر صلاتي. أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذكرى.

[سورة طه (20) : آية 15]
إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15)
__________
(1) . لم أره هكذا وفي الترمذي والحاكم عن عبد الله بن مسعود رفعه «يوم كلم الله موسى كان عليه جبة صوف ونعلان من جلد حمار ميت غير ذكى» .
(2) . قوله «وقيل مرتين نحو ثنى» في الصحاح: وقال يعنى بعضهم في قوله تعالى بالواد المقدس طوى طوى مرتين، أى قدس. وفيه أيضا «الثني» مقصور: الأمر يعاد مرتين اه، فلعل أصل عبارته أيضا: وقيل طوى مرتين يعنى قدس وطهر مرتين. وظاهر العبارة أن طوى مثل ثنى بمعنى مرتين، أى: نودي موسى مرتين، أو قدس الوادي مرتين فهو منصوب بنودى أو بالمقدس. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة النوم عن الصلاة. وفي آخره: من نسى صلاة فليصلها إذا اذكرها فان الله تعالى قال أقم الصلاة لذكري وفي رواية «لذكرى» وهو أيضا متفق عليه من حديث أنس مرفوعا بلفظ «من نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» زاد البخاري في رواية «أقم الصلاة لذكرى» .

(3/55)


فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16)

أى أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية «1» لفرط إرادتى إخفاءها ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وقيل: معناه أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح. والذي غرهم منه أن في مصحف أبى: أكاد أخفيها من نفسي. وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها وعن أبى الدرداء وسعيد بن جبير: أخفيها بالفتح، من خفاه إذا أظهره، أى: قرب إظهارها كقوله تعالى اقتربت الساعة وقد جاء في بعض اللغات: أخفاه بمعنى خفاه. وبه فسر بيت امرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد «2»
فأكاد أخفيها محتمل للمعنيين لتجزى متعلق بآية بما تسعى بسعيها.

[سورة طه (20) : آية 16]
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16)
أى: لا يصدنك عن تصديقها والضمير للقيامة. ويجوز أن يكون للصلاة. فإن قلت: العبارة لنهى من لا يؤمن عن صد موسى، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب، كقولهم: لا أرينك هاهنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب، كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم «3» ، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، يعنى: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير
__________
(1) . قال محمود: «معناه قاربت أن لا أقول هي آتية ... الخ» قال أحمد: ولا يقنع في رد هذا التأويل بالهوينا، فانه بين الفساد، وذلك أن خفاءها عن الله تعالى محال عقلا، فكيف يوصف المحال العقلي بقرب الوقوع.
وأحسن ما في محامل الآية ما ذكره الأستاذ أبو على حيث قال: المراد أكاد أزيل خفاءها، أى: أظهرها، إذ الخفاء الغطاء، وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق ثيابها يسترها، ثم تقول العرب: أخفيته، إذا أزلت خفاءه، كما تقول أشكيته وأعتبته، إذا أزلت شكايته وعتبه، وحينئذ يلتئم القراءتان: أعنى فتح الهمزة وضمها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . يقال: خفاه، إذا كتمه. وخفاه أيضا: أظهره، وماهنا منه. والمعنى: إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها. شبه الضغينة والعداوة بالداء بجامع نشأة الضرر عن كل على طريق التصريحية.
وشبه الحرب بحيوان على طريق المكنية، والبعث تخييل. أو استعمل البعث في التسبب مجازا مرسلا أو استعارة تصريحية. والمعنى: وإن تظهروا البغضاء وتوقدوا الهيجاء نغلبكم كما تعلمون منا.
(3) . قوله «صليب المعجم» في الصحاح عجمت العود: إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره. ورجل صلب المعجم:
إذا كان عزيز النفس. (ع)

(3/56)


وما تلك بيمينك ياموسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18)

إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه، لا البرهان وتدبره. وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله.

[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 18]
وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18)
وما تلك بيمينك يا موسى كقوله تعالى وهذا بعلي شيخا في انتصاب الحال بمعنى الإشارة: ويجوز أن تكون تلك اسما موصولا صلته بيمينك إنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة «1» وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك: ما هي؟ فتقول: زبرة حديد، ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد. قرأ ابن أبى إسحاق: عصى، على لغة هذيل.
ومثله يا بشرى أرادوا كسر ما قبل ياء المتكلم فلم يقدروا عليه، فقلبوا الألف إلى أخت الكسرة وقرأ الحسن عصاي بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وهو مثل قراءة حمزة بمصرخي وعن ابن أبى إسحاق: سكون الياء أتوكؤا عليها أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة «2» . هش الورق: خبطه، أى: أخبطه على رؤس غنمي تأكله. وعن لقمان ابن عاد: أكلت حقا وابن لبون وجذع. وهشة نخب وسيلا دفع، والحمد لله من غير شبع، سمعته من غير واحد من العرب. ونخب: واد قريب من الطائف كثير السدر. وفي قراءة النخعي: أهش، وكلاهما من هش الخبز يهش: إذا كان ينكسر لهشاشته. وعن عكرمة: أهس بالسين، أى: أنحى عليها زاجرا لها. والهس: زجر الغنم. ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا، كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال: ما هي إلا عصا لا تنفع إلا منافع بنات جنسها وكما تنفع العيدان، ليكون جوابه مطابقا للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه. ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها، ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة، كأنه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل
__________
(1) . قوله «حية نضناضة» أى تحرك لسانها في فمها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «الطفرة» أى الوثبة. (ع)

(3/57)


قال ألقها ياموسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21)

بشأنها، وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته. وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه، وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل، وقالوا: اسم العصا نبعة. وقيل في المآرب: كانت ذات شعبتين ومحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين «1» على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقى بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا، وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه، ويركزها فينبع الماء، فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام.

[سورة طه (20) : الآيات 19 الى 20]
قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20)
السعى: المشي بسرعة وخفة حركة. فإن قلت: كيف ذكرت بألفاظ مختلفة: بالحية، والجان، والثعبان؟ قلت: أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير. وأما الثعبان والجان فبينهما تناف، لأن الثعبان العظيم من الحيات، والجان الدقيق. وفي ذلك وجهان:
أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حيه تنقلب حية صفراء دقيقة، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا، فأريد يا لجان أول حالها، وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان. والدليل عليه قوله تعالى: فلما رآها تهتر كأنها جان. وقيل كان لها عرف كعرف الفرس. وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعا.

[سورة طه (20) : آية 21]
قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21)
لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر. وعن بعضهم: إنما خافها لأنه عرف ما لفي آدم منها. وقيل: لما قال له ربه لا تخف بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها. السيرة من السير: كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة، ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. وقيل: سير الأولين، فيجوز أن ينتصب على الظرف، أى: سنعيدها في طريقتها الأولى، أى: في حال ما كانت عصا، وأن يكون. أعاد» منقولا من «عاده» بمعنى عاد
__________
(1) . قوله «عرض الزندين» في الصحاح «الزند» العود الذي بقدح به النار وهو الأعلى والزند السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعا قيل زندان ولم يقل زندتان، والجمع زناد وأزند وأزناد. ح

(3/58)


واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23)

إليه. ومنه بيت زهير:
وعادك أن تلاقيها عداء «1»
فيتعدى إلى مفعولين. ووجه ثالث حسن: وهو أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا. ونصب سيرتها بفعل مضمر، أى: تسير سيرتها الأولى: يعنى سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.

[سورة طه (20) : الآيات 22 الى 23]
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23)
قيل لكل ناحيتين: جناحان، كجناحى العسكر لمجنبتيه، وجناحا الإنسان: جنباه، والأصل المستعار منه جناحا الطائر. سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران. والمراد إلى جنبك تحت العضد، دل على ذلك قوله تخرج. السوء: الرداءة والقبح في كل شيء، فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة، وكان جذيمة صاحب الزباء «2» أبرص فكنوا عنه بالأبرش «3» والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مجاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.
يروى أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشى البصر.
بيضاء وآية حالان معا. ومن غير سوء من صلة لبيضاء، كما تقول ابيضت من غير سوء، وفي نصب آية وجه آخر، وهو أن يكون بإضمار نحو: خذ، ودونك، وما أشبه
__________
(1) .
فصرم حبلها إذ صرمته ... وعادك أن تلاقيها عداء
لزهير. أى: اقطع مودتها حيث قطعت مودتك، شبه المودة بالحبل على طريق الاستعارة التصريحية، والتصريم ترشيح وتقوية للتشبيه. وعادك: يحتمل أنه من عاد إذا رجع، فالمعنى: رجعك وردك، يحتمل أنه مقلوب من عداه إذا صرفه، كما في «ناء» مقلوب «نأى» فالمعنى صرفك. قال أبو عمير: وعادك بمعنى شغلك. وقال الأصمعى:
بمعنى: عاد إليك، وبمعنى صرفك. ومن المعلوم أن الفعل إذا كان لازما تعدى بالهمزة إلى المفعول قياسا، وإذا تعدى بنفسه إلى مفعول واحد تعدى بدخول الهمزة عليه إلى مفعولين. واختلف هل هو قياس أو سماعي؟
وأعاد منه، فيجري فيه ما ذكر. وأما تعديته إلى أن تلاقيها أيضا فهو بإسقاط الخافض توسعا. والعداء: الشغل أو البعد: ويطلق على الجور، من عدا عليه. قال الجوهري: العداء- بالفتح- الظلم، ويجوز كسره بمعنى المانع، لأن العداء هو ما يعدى به أى يصرف به. كاللواذ لما يلاذ به. والرباط لما يربط به. والمعنى: اقطع مودتها حيث قطعت مودتك. وصرفك عن ملاقاتها صارف عظيم، ونسبة الصرف إليه مجاز عقلى من قبيل الاسناد إلى السبب أو الآلة.
ويحتمل أن أصله «عدا» بالكسر والقصر جمع عدو. فمد للضرورة، أى: منعك الأعداء عن لقائها فالاسناد حقيقى
(2) . قوله «وكان جذيمة صاحب الزباء» جذيمة ملك الحيرة والزباء ملكة الجزيرة كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فكنوا عنه بالأبرش» في الصحاح البرش في الفرس نقط صغار تخالف سائر لونه والفرس أبرش. (ع)

(3/59)


اذهب إلى فرعون إنه طغى (24) قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35)

ذلك، حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أى خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصاحية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا.
أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك.

[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذهب إلى فرعون إنه طغى (24) قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28)
واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33)
ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35)
لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش «1» رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت: لي في قوله اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه «2» والكلام بدونه مستتب «3» ؟ قلت:
قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمرى على الإيضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال
__________
(1) . قوله «ذو جأش» في الصحاح يقال فلان رابط الجأش أى يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة لي والكلام مستتب بدونها.. الخ، قال أحمد: ويحتمل عندي والله أعلم أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر راجعة إليه وعائدة عليه، فان الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره، تعالى وتقدس، على خلاف رسول الملك إذا طلب منه أن يريح عليه فإنما يطلب منه ما يعود نفعه على مرسله، ويحصل له غرضه من رسالته، والله أعلم. [.....]
(3) . قوله «مستتب» في الصحاح: استتب الأمر تهيأ واستقام. (ع)

(3/60)


والتفصيل. عن ابن عباس: كان في لسانه رتة «1» لما روى من حديث الجمرة «2» . ويروى أن يده احترقت، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ، ولما دعاه قال: إلى أى رب تدعوني؟ قال:
إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة. واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل: ذهب بعضها وبقي بعضها، لقوله تعالى وأخي هارون هو أفصح مني لسانا وقوله تعالى ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن على رضى الله عنهما رتة «3» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ورثها من عمه موسى. وقيل: زالت بكمالها لقوله تعالى قد أوتيت سؤلك يا موسى وفي تنكير العقدة- وإن لم يقل عقدة لساني-: أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا، ولم يطلب الفصاحة الكاملة. ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني.
الوزير من الوزر، لأنه يتحمل عن الملك أو زاره ومؤنة. أو من الوزر «4» ، لأن الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره. أو من المؤازرة وهي المعاونة. عن الأصمعى قال: وكان القياس أزيرا، فقلبت الهمزة إلى الواو، ووجه قلبها أن فعيلا جاء في معنى مفاعل مجيئا صالحا، كقولهم: عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظرا إلى يوازر وأخواته، وإلى الموازرة. وزيرا وهارون مفعولا قوله اجعل قدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة. أو لي وزيرا مفعولاه، وهرون عطف بيان للوزير. وأخي في الوجهين بدل من هرون، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن.
قرءوا جميعا اشدد وأشركه على الدعاء. وابن عامر وحده: اشدد. وأشركه، على الجواب.
__________
(1) . قوله «كان في لسانه رتة» في الصحاح «الرتة» بالضم: العجمة في الكلام. وحديث الجمرة: أن موسى كان يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب، فضرب به رأسه، فغضب وهم بقتله، فقالت له امرأته. إنه صبى لا يعقل وجربه إن شئت، فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر، فمد موسى يده إلى الجوهر، فحولها جبريل إلى الجمر فوضع جمرة في فمه فاحترق لسانه. (ع)
(2) . لم أره هكذا، وإنما وقع في حديث القنوت الطويل الذي أخرجه النسائي وغيره من طريق القاسم بن أبى أيوب عن سعيد بن جبير «سألت ابن عباس رضى الله عنهما عن قوله تعالى وفتناك فتونا- فذكره بطوله في أربع ورقات- فذكر فيه قصة آسية وفرعون. وقولها: قرب إليه جمرتين ولؤلؤتين وأنه أخذ الجمرتين فانتزعتهما منه مخافة أن يحرقا يده. وهذا يدل على أنه لم يرفعهما إلى فيه. وهو أصح ما ورد في ذلك. وروى الحاكم من طريق وهب بن منبه فذكر قصة وفيها قالت: جربه. إن شئت اجعل في هذا جمرة وذهبا فانظر أيهما يقبض. قال: فأخذ الجمرة وألقاها في فيه ثم قذفها حين وجد حرارتها» ويقال: إن العقدة التي كانت في لسان موسى من أثر تلك الجمرة التي التقمها.
(3) . لم أجده.
(4) . قوله «الوزير من الوزر» أى الثقل. وقوله «أو من الوزر» أى الملجأ. أفاده الصحاح. (ع)

(3/61)


قال قد أوتيت سؤلك ياموسى (36) ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)

وفي مصحف ابن مسعود: أخى واشدد. وعن أبى بن كعب: أشركه في أمرى، واشدد به أزرى.
ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر: أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء: واشدد به خبره، ويوقف على هارون. الأزر: القوة. وأزره: قواه، أى: اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك، فإن التعاون- لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر إنك كنت بنا بصيرا أى عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا، وأن هرون نعم المعين والشاد لعضدى، بأنه أكبر منى سنا وأفصح لسانا.

[سورة طه (20) : آية 36]
قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36)
السؤل: الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك: خبز، بمعنى مخبوز. وأكل، بمعنى مأكول.

[سورة طه (20) : الآيات 37 الى 39]
ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)
الوحى إلى أم موسى: إما أن يكون على لسان نبى في وقتها، كقوله تعالى وإذ أوحيت إلى الحواريين أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة، كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه. أو يلهمها كقوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل أى أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحى ولا يخل به، أى: هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم، مثله يحق بأن يوحى «أن» هي المفسرة لأن الوحى بمعنى القول. القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع. ومنه قوله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب وكذلك الرمي قال:
غلام رماه الله بالحسن يافعا «1»
__________
(1) .
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالى فواسى وما هجر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردى رداء سابغ الذيل واتزر
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر
كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرا وفي خده القمر
لأسيد بن عنقاء الفزاري، كان من أكبر أهل زمانه وأعلمهم بالأدب، فطال به عمره ونكبه دهره، فلقيه عميلة الفزاري فسلم عليه وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: يخل مثلك بماله، وصون وجهى عن مسألة الناس.
فقال: لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما بك، فلما كان وقت السحر سمع رغاء الإبل وصهيل الخيل تحت الأموال. فقال:
ما هذا؟ قالوا عميلة شطر ماله بينك وبينه، فأنشأ يقول ذلك، وشبه ماله بعاقر على طريق المكنية. والشكوى إليه تخييل. وضمير: واسى، بمعنى أعطى لعميلة. ويجوز أنه للمال، بناء على التشبيه السابق. وثياب المجد مجاز عن المكارم والإحسان على طريق التصريح، واستعارتها ترشيح. ومعناه أخذها من أربابها وذهابها من أصحابها، وذلك كله كناية عن يخل ذوى الأموال. وسابغ الذيل: طويله. واتزر: لبس الإزار. ويقرأ بتشديد التاء. ويجوز فتحها مع همرة ساكنة قبلها على الأصل والمجاز كما تقدم. وذلك كناية عن كثرة جوده. ويجوز أن المعنى لما رأى الناس تفتخر بمفاخر غيرهم فقط صنع هو المكارم بنفسه لنفسه، ورماه الله بالحسن: وضعه فيه بكثرة، كأنه قذفه فيه بغير حساب. واليافع: الشاب وهو حال. والسيمياء: العلامة لا تشق على البصر كناية عن ظهورها فلا تحتاج إلى تأمل، كظهور الكواكب. والنحر: أعلى الصدر وأسفل العنق. والشعرا: نجم كثير الضوء. والبيت الثاني بيان للأول. وروى «حباء الله» وروى «علقت في جبينه» وروى: «وفي جيده القمر» وحباه: أعطاه. والجيد:
العنق، وهذه الرواية أقعد.

(3/62)


أى حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى. ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت: فيه هجنة، لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت، وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت: المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن. والقانون الذي وقع عليه التحدى، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل فليلقه اليم بالساحل روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وجصصته وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون تهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح، فإذا صبى أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، لأن الماء يسحله أى يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة مني لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت، فيكون المعنى على: أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أى: محبة حاصلة أو واقعة منى، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.
روى أنه كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصير عنه من رآه على عيني لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع: اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتي. ولتصنع:
معطوف على علة مضمرة، مثل: ليتعطف عليك وترأم «1» ونحوه. أو حذف معلله، أى:
__________
(1) . قوله «وترأم» أى تحب وتؤلف. أفاده الصحاح. (ع)

(3/63)


إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى (40) واصطنعتك لنفسي (41)

ولتصنع فعلت ذلك. وقرئ: ولتصنع ولتصنع، بكسر اللام وسكونها. والجزم على أنه أمر.
وقرئ: ولتصنع، بفتح التاء والنصب، أى: وليكون عملك وتصرفك على عين منى.

[سورة طه (20) : الآيات 40 الى 41]
إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40) واصطنعتك لنفسي (41)
العامل في إذ تمشي «1» ألقيت أو لتصنع ويجوز أن يكون بدلا من إذ أوحينا.
فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح- وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه- أن يقول لك الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أو لها وأنت في آخرها. يروى أن أخته واسمها مريم جاءت متعرفه خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت: هل أدلكم فجاءت بالأم فقبل ثديها.
ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته، وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
هي نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلى. قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة: اغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ونجاه من فرعون أن ينشب فيه أظفاره حين هاجر به إلى مدين فتونا يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدى، كالثبور والشكور والكفور.
وجمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة: أى فتناك ضروبا من الفتن. سأل سعيد بن جبير ابن عباس رضى الله عنه، فقال: خلصناك من محنة بعد محنة: ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير. وألقته أمه في البحر. وهم فرعون بقتله. وقتل قبطيا. وأجر نفسه عشر سنين. وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان. وكل ما يبتلى الله به عباده: فتنة. قال ونبلوكم بالشر والخير فتنة. مدين على
__________
(1) . قال محمود: «العامل في إذ تمشي ألقيت أو تصنع ... الخ» قال أحمد: والمعنى يوجب عمل ولتصنع فيه لأن معنى صنيعه على عين الله عز وجل: تربيته مكلوءا بكلاءته مصونا بحفظه، وزمان تربيته على هذه الحالة: هو زمان رده إلى أمه المشفقة الحنانة. وأما إلقاه المحبة عليه، فقيل: ذلك أول ما أخذه فرعون وأحبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/64)


اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)

ثماني مراحل من مصر. وعن وهب: أنه لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة، منها مهر ابنته، وقضى أو في الأجلين. أى سبق في قضائي وقدرى أن أكلمك وأستنبئك، وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر. وقيل: على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم. مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص، أهلا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، ولا ألطف محلا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه.
ولا يبصر ولا يسمع إلا بعينه وأذنه، ولا يأتمن على مكنون سره إلا سواء ضميره «1» .

[سورة طه (20) : الآيات 42 الى 44]
اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)
الونى. الفتور والتقصير. وقرئ: تنيا، بكسر حرف المضارعة للإتباع، أى: لا تنسيانى ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكرى جناحا تصير ان به مستمدين بذلك العون والتأييد منى، معتقدين أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكرى. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر. روى أن الله تعالى أوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل: سمع بمقبله. وقيل: ألهم ذلك. قرئ لينا بالتخفيف والقول اللين. نحو قوله تعالى هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى لأن ظاهره الاستفهام والمشورة، وعرض ما فيه من الفوز العظيم. وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وقيل: لا تجبهاه بما يكره، والطفا له في القول «2» ، لما له من حق تربية موسى، ولما ثبت له من مثل حق الأبوة. وقيل:
كنياه وهو من ذوى الكنى الثلاث: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. والترجي لهما، أى: اذهبا على رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد بطوقه، ويحتشد «3» بأقصى وسعه. وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك
__________
(1) . قوله «سواء ضميره» في الصحاح «سواء الشيء» : وسطه. (ع)
(2) . قوله «وقيل: لا تجبهاه بما يكره» في الصحاح «جبهته بالمكروه» إذا استقبلته به، وفيه «الطف في العمل» الرفق به. (ع)
(3) . قوله «ويحتشد بأقصى وسعه» أى يستعد ويتأهب. أفاده الصحاح. (ع)

(3/65)


قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48)

أى: يتذكر ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق أو يخشى أن يكون الأمر كما تصفان، فيجره إنكاره إلى الهلكة.

[سورة طه (20) : آية 45]
قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45)
فرط: سبق وتقدم. ومنه الفارط: الذي يتقدم الواردة. وفرس فرط: يسبق الخيل، أى: نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. وقرئ يفرط من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة. خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب «1» من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية. أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمردين الذين حكى عنهم رب العزة قال الملأ من قومه وقرئ: يفرط، من الإفراط في الأذية، أى: نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة. أو يجاوز الحد في معاقبتنا إن لم يعاجل، بناء على ما عرفا وجربا من شرارته وعتوه أو أن يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته عليك وقسوة قلبه. وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز: باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوه بالعظيمة.

[سورة طه (20) : الآيات 46 الى 48]
قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48)
معكما أى حافظكما وناصركما أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما، فجائز أن يقدر أقوالكم وأفعالكم، وجائز أن لا يقدر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر. وإذا كان الحافظ والناصر كذلك، تم الحفظ وصحت النصرة، وذهبت المبالاة بالعدو. كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط، يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة: من الحفر والبناء ونقل الحجارة، والسخرة في كل شيء، مع قتل الولدان، واستخدام النساء قد جئناك بآية من ربك جملة جارية من الجملة الأولى
__________
(1) . قال محمود: «معنى يفرط علينا يعجل بعقوبتنا ... الخ» قال أحمد: وإذا روعي في الأدب إطلاق هذه اللفظة عن مجروريها، فلا يبعد أن يراعى في الأدب بالاعتراف بتقلد منة الله عز وجل زيادة المجرور في قوله اشرح لي صدري كما قدمته آنفا، والله أعلم.

(3/66)


قال فمن ربكما ياموسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50) قال فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (52) الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (54)

وهي إنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، إنما وحد قوله بآية ولم يثن ومعه آيتان، لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة، وكذلك قد جئتكم ببينة من ربكم، فأت بآية إن كنت من الصادقين، أولو جئتك بشيء مبين يريد: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين.

[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 50]
قال فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)
خاطب الاثنين، ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى، لأنه الأصل في النبوة، وهرون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته «1» على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة هرون والرتة في لسان موسى. ويدل عليه قوله أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. خلقه أول مفعولي أعطى، أى: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. أو ثانيهما، أى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان: كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة، غير ناب عنه. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة، حيث جعل الحصان والحجر «2» زوجين، والبعير والناقة، والرجل والمرأة، فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه. وقرئ: خلقه، صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أى: كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه ثم هدى أى عرف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.

[سورة طه (20) : الآيات 51 الى 54]
قال فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (52) الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (54)
__________
(1) . قوله «يحمله خبثه ودعارته» أى فساده وفسقه. (ع)
(2) . قوله «والحجر» بكسر الحاء وسكون الجيم: الأنثى من الخيلى: اه مصححه. [.....]

(3/67)


سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، لا يجوز على الله أن يخطئ شيئا أو ينساه. يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له، كقولك: ضللت الطريق والمنزل. وقرئ: يضل، من أضله إذا ضيعه. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم، فتعنت وقال: ما تقول في سوالف القرون، وتمادى كثرتهم، وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟
فأجاب بأن كل كائن محبط به علمه، وهو مثبت عنده في كتاب، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان، كما يجوز ان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أى: لا يضل كما تضل أنت، ولا ينسى كما تنسى يا مدعى الربوبية بالجهل والوقاحة الذي جعل مرفوع صفة لربي. أو خبر مبتدإ محذوف أو منصوب على المدح، وهذا من مظانه ومجازه مهدا قراءة أهل الكوفة، أى: مهدها مهدا.
أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي وسلك من قوله تعالى ما سلككم في سقر، سلكناه، نسلكه في قلوب المجرمين أى حصل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري فأخرجنا انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان «1» والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئة، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء، ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها
، أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة وفيه تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا،
__________
(1) . قال محمود «هذا من باب الالتفات ... الخ» قال أحمد: الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس من ذلك، فان الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا إلى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى إما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهي عند قوله ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات العامة على خلقه، فليس التفاتا أيضا، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله ولا ينسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر: وهو أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عند أسند الضمير إلى ذاته، لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن دقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، والله أعلم.

(3/68)


منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (55) ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56)

ولا يدخل تحت قدرة أحد أزواجا أصنافا، سميت بذلك لأنها مزدوجة ومقترنة بعضها مع بعض شتى صفة للأزواج، جمع شتيت، كمريض ومرضى. ويجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سمى به النابت كما سمى بالنبت، فاستوى فيه الواحد والجمع، يعنى أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. قالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله، أى قائلين كلوا وارعوا حال من الضمير في فأخرجنا المعنى: أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.

[سورة طه (20) : آية 55]
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (55)
أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم هو آدم عليه السلام منها. وقيل إن الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معا. وأراد بإخراجهم منها أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردهم كما كانوا أحياء، ويخرجهم إلى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعا عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي كفاتهم إذا ماتوا «1» . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة» «2» .

[سورة طه (20) : آية 56]
ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56)
أريناه بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها. وإنما كذب لظلمه، كقوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقوله تعالى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وفي قوله تعالى آياتنا كلها وجهان، أحدهما: أن يحذى بهذا التعريف الإضافى حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها، أعنى أنها كانت لا تعطى إلا تعريف العهد، والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل. والثاني: أن يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبى صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به، فكذبها جميعا وأبى أن يقبل شيئا منها. وقيل:
__________
(1) . قوله «ثم هي كفاتهم إذا ماتوا» أى موضعهم الذي يضمون فيه. أقاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة عن علية عن عوف عن ابن عثمان به مرسلا. وأخرجه الطبرانى في الصغير من رواية الفرياني عن الثوري عن عوف. وصله بذكر سليمان قال ابن طاهر: المرسل أولى بالصواب.

(3/69)


قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى (57) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60)

فكذب الآيات وأبى قبول الحق.

[سورة طه (20) : آية 57]
قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57)
يلوح من جيب قوله أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك أن فرائصه كانت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، لعلمه وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره، وأنه غالبه على ملكه لا محالة. وقوله بسحرك تعلل وتحير وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر.

[سورة طه (20) : الآيات 58 الى 60]
فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60)
لا يخلو الموعد في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا. فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله تعالى موعدكم يوم الزينة مطابق له، لزمك شيئان أن تجعل الزمان مخلفا، وأن يعضل عليك ناصب مكانا: وإن جعلته مكانا لقوله تعالى مكانا سوى لزمك «1» . أيضا أن توقع الإخلاف على المكان، وأن لا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة
__________
(1) . قال محمود: «إن جعلت موعدا الأول اسم مكان ليطابق قوله مكانا سوى لزمك ... الخ» قال أحمد:
وفي إعماله وقد وصف بقوله لا نخلفه بعد، إلا أن تجعل الجملة معترضة، فهو مع ذلك لا يخلو من بعد، من حيث أن وقوع الجملة عقيب النكرة بحيزها، الشأن أن تكون صفة، والله أعلم. ويحتمل عندي وجه آخر أخصر وأسلم، وهو أن يجعل موعدا اسم مكان فيطابق مكانا، ويكون بدلا منه، ويطابق الجواب بالزمان بالتقرير الذي ذكره، ويبقى عود الضمير، فنقول: هو والحالة هذه عائد على المصدر المفهوم من اسم المكان، لأن حروفه فيه. والموعد إذا كان اسم مكان فحاصله مكان وعد، كما إذا كان اسم زمان فحاصله زمان وعد. وإذا جاز رجوع الضمير إلى ما دلت قوة الكلام عليه وإن لم يكن منطوقا به بوجه، فرجوعه إلى ما هو كالمنطوق به أولى. ومما يحقق ذلك أنهم قالوا: من صدق كان خيرا له. يعنون: كان الصدق خيرا له، فأعادوا الضمير على المصدر وقدروه منطوقا به للنطق بالفعل الذي هو مشتق منه. وإذا أوضح ذلك فاسم المكان مشتق من المصدر اشتقاق الفعل منه، فالنطق به كاف في إعادة الضمير على مصدره والله أعلم. وعلى هذين التأويلين يكون جواب موسى عليه السلام من جوامع كلم الأنبياء لأنه سئل أن يواعدهم مكانا فعلم أنهم لا بد أن يسألوه مواعدة على زمان أيضا، فأسلف الجواب عنه وضمنها جوابا مفردا، ولقائل أن يقول: إن كان المسئول منه المواعدة على المكان فلم أجاب بالزمان الذي لم يسئل عنه صريحا، وجعل جواب ما سئل عنه مضمنا. وجوابه- والله أعلم- أن يقال اكتفى بقرينة السؤال عن صريح الجواب. وأما ما لم يسئل عنه فلو ضمنه لم يفهم قصده إليه، إذ لا قرينة تدل عليه والله أعلم.

(3/70)


قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى (61)

وقراءة الحسن غير مطابقة له مكانا وزمانا جميعا، لأنه قرأ يوم الزينة بالنصب، فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف، أى: مكان موعد، ويجعل الضمير في نخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف. فإن قلت. فكيف طابقه قوله موعدكم يوم الزينة ولا بد من أن تجعله زمانا، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت:
هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا، لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه، مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير. والمعنى: إنجاز وعدكم يوم الزينة. وطباق هذا أيضا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف، ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه. فإن قلت:
فبم ينتصب مكانا؟ قلت: بالمصدر. أو بفعل يدل عليه المصدر. فإن قلت: فكيف يطابقه الجواب؟
قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر. وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: وعدكم وعد يوم الزينة.
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون موعدكم مبتدأ، بمعنى الوقت. وضحى خبره، على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه. وقيل في يوم الزينة: يوم عاشوراء، ويوم النيروذ «1» ، ويوم عيد كان لهم في كل عام، ويوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم. قرئ نخلفه بالرفع على الوصف للموعد. وبالجزم على جواب الأمر. وقرئ سوى وسوى، بالكسر والضم، ومنونا وغير منون. ومعناه: منصفا بيننا «2» وبينك عن مجاهد، وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها. ومن لم ينون فوجهه أن يجرى الوصل مجرى الوقف. قرئ وأن يحشر الناس بالتاء والياء. يريد: وأن تحشر يا فرعون. وأن يحشر اليوم. ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي يخاطب بها الملوك، أو خاطب القوم بقوله موعدكم وجعل يحشر لفرعون. ومحل أن يحشر الرفع أو الجر، عطفا على اليوم أو الزينة: وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر «3» وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.

[سورة طه (20) : آية 61]
قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى (61)
__________
(1) . قوله «ويوم النيروذ» لعله النيروز بالزاي كعبارة غيره. (ع)
(2) . قوله «منصفا بيننا» أى وسطا، كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وكبت الكافر» أى إذلاله. أقاده الصحاح. (ع)

(3/71)


فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64)

لا تفتروا على الله كذبا أى لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا. قرئ فيسحتكم والسحت لغة أهل الحجاز. والإسحات: لغة أهل نجد وبنى تميم. ومنه قول الفرزدق:
...... إلا مسحتا أو مجلف
في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه «1» :

[سورة طه (20) : الآيات 62 الى 64]
فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64)
عن ابن عباس: إن نجواهم: إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب لما قال ويلكم ... الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر.
والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم قالوا: إن هذان لساحران. فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره، خوفا من غلبتهما. وتثبيطا للناس عن اتباعهما. قرأ أبو عمرو إن هذان لساحران على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: إن هذان لساحران، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة.
وقرأ أبى: إن ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود: أن هذان ساحران: بفتح أن وبغير لام، بدل من النجوى. وقيل في القراءة المشهورة إن هذان لساحران هي لغة بلحرث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقال بعضهم: إن بمعنى نعم. ولساحران خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران. وقد أعجب به أبو إسحاق. سموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى، وكل حزب بما لديهم فرحون. وقيل: أرادوا أهل طريقتهم المثلى، وهم بنو إسرائيل، لقول موسى فأرسل معنا بني إسرائيل وقيل «الطريقة» اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. يقال: هم طريقة قومهم. ويقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه فأجمعوا كيدكم يعضده قوله فجمع كيده وقرئ فأجمعوا كيدكم أى أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه، حتى لا تختلفوا ولا يخلف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها. أمروا بأن يأتوا
__________
(1) . قوله «في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه» هو قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
والمسحت: المهلك. والمجلف: الذي أخذ من جوانبه، كما في الصحاح. (ع)

(3/72)


قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66)

صفا لأنه أهيب في صدور الرائين. وروى أنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة. وعن أبى عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى، لأن الناس يجتمعون فيه لعيدهم وصلاتهم مصطفين. ووجه صحته أن يقع علما لمصلى بعينه، فأمروا بأن يأتوه. أو يراد.
ائتوا مصلى من المصليات وقد أفلح اليوم من استعلى اعتراض. يعنى: وقد فاز من غلب.

[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 66]
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66)
أن مع ما بعده إما منصوب بفعل مضمر. أو مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف. معناه:
اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم «1» ، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم أو لا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر. ويستنفدوا أقصى طوقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا: أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين. يقال في «إذا» هذه: إذا المفاجأة. والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت، الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة الجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله تعالى فإذا حبالهم وعصيهم ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم. وهذا تمثيل. والمعنى:
على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعى. وقرئ عصيهم بالضم وهو الأصل، والكسر إتباع، ونحوه: دلى ودلى، وقسى وقسى. وقرئ «تخيل» على إسناده إلى ضمير الحبال والعصى وإبدال قوله أنها تسعى من الضمير بدل الاشتمال، كقولك: أعجبنى زيد كرمه، وتخيل على كون الحبال والعصى مخيلة سعيها. وتخيل. بمعنى تتخيل. وطريقه طريق تخيل. ونخيل: على أن الله تعالى هو المخيل للمحنة والابتلاء. يروى أنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت، فخيلت ذلك.
__________
(1) . قال محمود: «لقد ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى عليه السلام في تخييره وإعطاء النصفة من أنفسهم» قال أحمد: وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى هاهنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤس الأشهاد، فيكون أفصح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم، والله أعلم

(3/73)


فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)

[سورة طه (20) : الآيات 67 الى 69]
فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)
إيجاس الخوف: إضمار شيء منه، وكذلك توجس الصوت: تسمع نبأة يسيرة «1» منه، وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية، وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله. وقيل: خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه إنك أنت الأعلى فيه تقرير لغلبته وقهره، وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التشديد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وبالتفضيل. وقوله ما في يمينك ولم يقل عصاك «2» : جائز أن يكون تصغيرا لها، أى: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها «3» أى: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة، فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وقرئ تلقف بالرفع على الاستئناف. أو على الحال، أى:
ألقها متلقفة. وقرئ: تلقف، بالتخفيف «4» . صنعوا هاهنا بمعنى زوروا وافتعلوا، كقوله
__________
(1) . قوله «نبأة يسيرة» في الصحاح «النبأة» : الصوت الخفي. (ع)
(2) . قال محمود: «وقال ما في يمينك ولم يقل عصاك ... الخ» قال أحمد: وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت أعظم منه وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه، فصغر الله أمر العصا ليلزم منه تصغير كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.
(3) . عاد كلامه. قال محمود: «ويجوز أن يكون تعظيما لأمرها إذ فيه تثبيت لقلب موسى على النصر» قال أحمد:
وهاهنا لطيفة: وهو أنه تلقى من هذا النظم أو لا قصد التحقير، وثانيا قصد التعظيم، فلا بد من نكتة تناسب الأمرين وتلك- والله أعلم- هي إرادة المذكور مبهما، لأن ما في يمينك أبهم من عصاك. وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان يعنى فيه الرمز والاشارة، فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.
وعندي في الآية وجه سوى قصد لتعظيم والتحقير والله أعلم، وهو أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله عنها بقوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها قال تعالى وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له وما تلك بيمينك وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى فأوجس في نفسه خيفة موسى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(4) . قوله «وقرئ تلقف بالتخفيف» عبارة النسفي: تلقف بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف: حفص.
وتلقف: ابن ذكوان. الباقون تلقف، فليحرر. (ع)

(3/74)


فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)

تعالى تلقف ما يأفكون قرئ كيد ساحر بالرفع والنصب. فمن رفع فعلى أن ما موصولة. ومن نصب فعلى أنها كافة. وقرئ: كيد سحر، بمعنى: ذى سحر: أو ذوى سحر. أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته. أو بين الكيد «1» ، لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما تبين المائة بدرهم. ونحوه: علم فقه، وعلم نحو. فإن قلت: لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع، لخيل أن المقصود هو العدد.
ألا ترى إلى قوله ولا يفلح الساحر أى هذا الجنس. فإن قلت: فلم نكر أولا وعرف ثانيا؟
قلت: إنما نكر من أجل تنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج:
في سعى دنيا طالما قد مدت «2»
وفي حديث عمر رضى الله عنه «لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة» »
المراد تنكير الأمر، كأنه قيل: إن ما صنعوا كيد سحري. وفي سعى دنيوى. وأمر دنيوى وآخري حيث أتى كقولهم:
حيث سير، وأية سلك، وأينما كان.

[سورة طه (20) : آية 70]
فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)
سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! «4» وروى أنهم لم يرفعوا رؤسهم
__________
(1) . قوله «أو بين الكيد» لعله بعده سقطا تقديره «بالسحر» . (ع) [.....]
(2) .
الحمد لله الذي استقلت ... باذنه السماء واطمأنت
باذنه الأرض وما تعنت ... أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت ... والجاعل الغيث غياث الأمت
والجامع الناس ليوم البعثت ... بعد الممات وهو محيى الموت
يوم ترى النفوس ما أعدت ... من نزل إذا الأمور غبت
في سعى دنيا طالما تعنت
استقلت: ارتفعت. واطمأنت: انخفضت. وفي الشعر التضمين. والتعنت: الاتعاب أو التأخر والتثاقل، من العنا وهو التعب. وأوحى لها: ألهمها. واثبت: جمع ثابت، والوقف على هاء التأنيث، كالأمت بالتاء قليل.
والموت: جمع مائت. والنزل: ما يعد للضيف، استعارة لما يقدمه الإنسان من الأعمال. وغبت: بلغت غبها وغايتها. وفي سعى: متعلق به، أو بتعنت بعده، أى: تعبت أو أتعبت. وضمن على المعنى الأول للنفوس، وعلى الثاني للدنيا، ونكرها لتنكير السعى دلالة على التقليل، أى: في سعي دنيوى قليل.
(3) . ذكره صاحب النهاية بغير إسناد. وفي الباب عن ابن مسعود. وسيأتى في ألم نشرح أتم من هذا.
(4) . قال محمود: «سبحان من فرق بين الالقاءين إلقائهم حبالهم وعصيهم ... الخ» قال أحمد: وفي تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن مثل: فسجد السحرة، إيقاظ السامع لألطاف الله تعالى في نقله عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الايمان والسداد، وهذا الإيقاظ لا يحصل على الوجه إلى هذا القصد إلا بتكرير لفظ واحد على معنيين متناقضين، وهو يناسب ما قدمته آنفا في إيجاز الخطاب في قوله وألق ما في يمينك، وما تلك بيمينك فتأمله فان الحق حسن متناسب، والله الموفق.

(3/75)


قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76)

حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة.

[سورة طه (20) : آية 71]
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71)
لكبيركم لعظيمكم، يريد: أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم. أو لمعلمكم، من قول أهل مكة للمعلم: أمرنى كبيرى، وقال لي كبيرى: كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء. قرئ فلأقطعن ولأصلبن. بالتخفيف. والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين خالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال. و «من» لابتداء الغاية: لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه. ومحل الجار والمجرور النصب على الحال، أى: لأقطعنها مختلفات، لأنها إذا خالف بعضها بعضا فقد اتصفت بالاختلاف. شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه، فلذلك قيل في جذوع النخل. أينا يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله آمنتم له واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله تعالى يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وفيه نفاجة «1» باقتداره وقهره، وما ألفه وضرى به: من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به: لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.

[سورة طه (20) : الآيات 72 الى 76]
قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76)
__________
(1) . قوله «وفيه نفاجة» في الصحاح «رجل نفاج» إذا كان صاحب فخر وكبر. (ع)

(3/76)


ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى (79)

والذي فطرنا عطف على ما جاءنا أو قسم. قرئ تقضي هذه الحياة الدنيا ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف، قاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك في «صمت يوم الجمعة» : «صيم يوم الجمعة» وروى أن السحرة- يعنى رؤسهم- كانوا اثنين وسبعين: الاثنان من القبط، والسائر من بنى إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر. وروى أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا:
ما هذا بسحر الساحر، لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه تزكى تطهر من أدناس الذنوب. وعن ابن عباس: قال لا إله إلا الله. قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قولهم. وقيل: خبر من الله، لا على وجه الحكاية.

[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 79]
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى (79)
فاضرب لهم طريقا فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. وضرب اللبن: عمله.
اليبس: مصدر وصف به. يقال: يبس يبسا ويبسا «1» . ونحوهما: العدم والعدم. ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبنها. وقرئ: يبسا، ويابسا.
ولا يخلو اليبس من أن يكون مخففا عن اليبس. أو صفة على فعل. أو جمع يابس، كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدا، كقوله:
...... ومعى جياعا «2»
__________
(1) . قال محمود: «قرئ بسكون الباء وبفتحها ... الخ» قال أحمد: ووجه آخر وهو أن قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا، وقد كانت بهذه المثابة لأنها كانت اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق، والله أعلم.
(2) .
كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غرزا ومعى جياعا
على وحشية خذلت حلوج ... وكان لها طلا طفل فضاعا
فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا
للقطامى في مدح زفر بن الحرث الكلابي. والقتود: عيدان الرحل: جمع أقتاد: جمع قتد. والحالبان. عرقان يكتنفان السرة. والغرز: جمع غارز- بتقديم الراء- قليلات اللبن، ضد الغزر بتقديم الزاى. والمعي: مجرى الطعام في البطن من الحوايا. وصفه بصورة الجمع- وهو جياعا- مبالغة. والمعنى: جائعا. وهذا كناية عن هزال الناقة من شدة السير. وفيه إيماء لفقره وفاقته. و «على وحشية» خبر كان. والوحشية: الظبية. وخذلت: صفتها، أى: تركها سرب الظباء. وخلوج: صفة أخرى. وخلج واختلج: اضطرب وذهب. وخلجه واختلجه: انتزعه واجتذبه. والخلوج: التي اختلج ولدها من الظباء أو الإبل. أو التي اختلج قلها لعدم رؤبته. والطلاء: ولد الظبية ونحوها من ذوات الظلف، طفل: أى صغير، فكرت: رجعت بسرعة تطلبه. والسباع: بدل إضرابى انتقالي من ضمير صادفته. أو نصب بمضمر دل عليه صادفته، أى: صادفت السباع واقفة على دمه ومصرعه، أى:
محل طرحه على الأرض. شبه النافة بها في تلك الحال لسرعتها ويقظتها.

(3/77)


يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81)

جعله لفرط جوعه كجماعة جياع لا تخاف حال من الضمير في فاضرب وقرئ: لا تخف، على الجواب. وقرأ أبو حيوة دركا بالسكون. والدرك والدرك: اسمان من الإدراك، أى: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. في ولا تخشى إذا قرئ: لا تخف، ثلاثة أوجه: أن يستأنف، كأنه قيل وأنت لا تخشى، أى: ومن شأنك أنك آمن لا تخشى، وأن لا تكون الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة، كقوله فأضلونا السبيلا، وتظنون بالله الظنونا وأن يكون مثله قوله:
كأن لم ترى قبلي أسيرا بمانيا «1»
ما غشيهم من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أى: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. وقرئ: فغشاهم من اليم ما غشاهم. والتغشية: التغطية.
وفاعل غشاهم: إما الله سبحانه. أو ما غشاهم. أو فرعون، لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم. وقوله وما هدى تهكم به «2» في قوله وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

[سورة طه (20) : الآيات 80 الى 81]
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81)
__________
(1) .
وتضحك منى شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وظل نساء الحي حولي ركدا ... يراودن منى ما تريد نسائيا
لعبد يغوث بن وقاص الحارثي، أسر يوم الكلاب في بنى تميم، فقال قصيدة يذكر فيها حاله منها ذلك. والشيخة:
العجوز. والعبشمية: المنسوبة لعبد شمس. وهو باب من النحت. وأثبت الألف في «ترى» مع أنه مجزوم لضرورة الوزن، أو للاتساع. وقيل إنها عين الفعل. وأصله تراى حذفت لامه للجزم. ونقلت حركة الهمزة للراء، وأبدلت الفاء. وحكى إعمال «لم» للنصب. وحكى أيضا إهمالها. وقياس النسبة إلى «يمن» : «يمنى» لكنهم حذفوا إحدى ياءى النسب هـ وعوضوا عنها الألف، وكان الذي يقوده صبيا، فسألته: من أنت؟ فقال: سيد القوم، فضحكت منه. والركد- كركع-: جمع راكدة، أى مقيمة لا تذهب من عنده. والمراودة: مفاعلة من راد يرود إذا تعرف حال المكان متطلبا للخصب، وهو قريب من معنى أراد يريد، أى: يتطلبن منى بلطف واختبار:
هل أرضى أولا؟ الشيء الذي تريده نسائي منى، وهو الجماع.
(2) . قال محمود: «إنما قيل وما هدى تهكما به» قال أحمد: فان قلت: التهكم أن يأتى بعبارة والمقصود عكس مقتضاها، كقولهم: إنك لأنت الحليم الرشيد، وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين. وأما قوله تعالى وما هدى فمضمونه هو الواقع، فهو حينئذ مجرد إخبار عن عدم هدايته لقومه. قلت: هو كذلك، ولكن العرف مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية، مهتديا في نفسه، ولكنه لم يهد عمرا. وفرعون أضل الضالين في نفسه، فكيف يتوهم أنه يهدى غيره. وتحقيق ذلك: أن قوله تعالى وأضل فرعون قومه كاف في الاخبار بعدم هدايته لهم مع مزيد إضلاله إياهم، فان من لا يهدى قد لا يضل، فيكون كفافا. وإذا تحقق غناء الأول في الاخبار، تعين كون الثاني لمعنى سواه، وهو التهكم. والله أعلم.

(3/78)


يا بني إسرائيل خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك آل فرعون. وقيل: هو للذين كانوا منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله عليهم بما فعل بآبائهم والوجه هو الأول، أى: قلنا يا بنى إسرائيل، وحذف القول كثير في القرآن. وقرئ «أنجيتكم» إلى «رزقتكم» ، وعلى لفظ الوعد والمواعدة. وقرئ الأيمن بالجر على الجوار، نحو «جحر ضب خرب» . ذكرهم النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم، وفيما واعد موسى صلوات الله عليه من المناجاة بجانب الطور، وكتب التوراة في الألواح. وإنما عدى المواعدة إليهم لأنها لا بستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. طغيانهم في النعمة: أن يتعدوا حدود الله فيها بأن يكفروها ويشغلهم اللهو والتنعم عن القيام بشكرها، وأن ينفقوها في المعاصي: وأن يزووا حقوق الفقراء فيها، وأن يسرفوا في إنفاقها، وأن يبطروا فيها ويأشروا ويتكبروا. قرئ فيحل وعن عبد الله: لا يحلن «1» ومن يحلل المكسور في معنى الوجوب، من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه. ومنه قوله تعالى حتى يبلغ الهدي محله والمضموم في معنى النزول.
وغضب الله عقوباته «2» ولذلك وصف بالنزول هوى هلك. وأصله أن يسقط من جبل فيهلك.
قالت:
هوى من رأس مرقبة ... ففتت تحتها كبده «3»
__________
(1) . قوله «قرئ فيحل وعن عبد الله ... الخ» يفيد أن القراءة المشهورة: فيحل. ومن يحلل- بالكسر.
ولتحرر قراءة «لا يحلن» هل هي بالكسر أو بالضم. (ع)
(2) . قال محمود: «الغضب عقوبة الله تعالى لهم ... الخ» قال أحمد: لا يسعه أن يحمل الغضب إلا على العقوبة لأنه ينفى صفة الارادة في جملة ما ينفونه من صفات الكمال. وأما على قاعدة السنة فيجوز أن يكون المراد من الغضب إرادة العقوبة، فيكون من أوصاف الذات. ويحتمل أن يراد به معاملتهم بما يعامل به من غضب عليه شاهدا، فيكون من صفات الأفعال. وأما وصفه بالحلول فلا يتأتى حمله على الارادة، ويكون بمنزلة قوله عليه الصلاة والسلام «تنزل ربنا إلى سماء الدنيا» على التأويل المعروف. أو عبر عن حلول أثر الارادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر، كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله يعنى أثر القدرة لا نفسها، والله أعلم.
(3) .
هوى ابني من على شرف ... يهول عقابه صعده
هوى من رأس مرقبة ... ففتت تحتها كبده
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزون ... كسير فاته ولده
لأعرابى» يقول: سقط ابني من فوق جبل عال. فعلى بمعنى فوق، ولو قرئ: على، بالضم- جمع علية- لجاز، أى: سقط عن ذرى جبل عال، فالشرف: مصدر مستعمل في الوصف مجاز، يهول: أى يخيف، عقابه: ارتفاعه.
وصعد- بالكسر- صعدا- بفتحتين وضمتين- صعودا: ارتفع، والضمير للعقاب أو للشرف، فهو من إضافة المصدر لفاعله. ويجوز أنه من اضافته لمفعوله، أى: صعوده عليه. وخص العقاب، لأنه أشد الطير صعودا، لا سيما عقاب ذلك الجبل العارف به. وكرر «هوى» لإظهار التحزن، أى: سقط من رأس ثنية عالية يرقب فيها الرقيب، فمزقت كبده تحتها، أى: بجانبها، فكيف ببقية جسمه. ويروى: ففزت. بتشديد الزاى بمعنى فزعت.
وروى «ففرت» بتشديد الراء، وأصله: فريت. وهذه لغة طيئ. يقولون: المرأة دعت في دعيت. والدار بنت في بنيت، ثم قال: يلومني الناس على البكاء مع أننى ألمسه، من بابى قتل وضرب، أى: أريد لمسه فلا أجده، وكيف يلام حزين هرم يئس من رجوع ولده إليه، أو من أوان التوالد. وقيل: إن القائل أم القتيل، لكن يروى يعد البيت الأول:
فلا أم فتبكيه ... ولا أخت فتفتقده
هوى عن صخرة صلد ... ففرت تحتها كبده
إلى آخره.

(3/79)


وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82) وما أعجلك عن قومك ياموسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84)

ويقولون: هوت أمه. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده.

[سورة طه (20) : آية 82]
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82)
الاهتداء: هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وكلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في «جاءني زيد ثم عمرو» أعنى أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنها أعلى منها وأفضل.

[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 84]
وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84)
وما أعجلك أى شيء عجل بك عنهم على سبيل الإنكار، وكان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب. ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به، بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى، وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظرا إلى دواعي الحكمة، وعلما بالمصالح المتعلقة بكل وقت، فالمراد بالقوم: النقباء. وليس لقول من جوز أن يراد جميع قومه وأن يكون قد فارقهم قبل الميعاد وجه صحيح، يأباه قوله هم أولاء على أثري وعن أبى عمرو ويعقوب: إثرى، بالكسر وعن عيسى بن عمر: أثرى بالضم.
وعنه أيضا: أولى بالقصر. والإثر أفصح من الأثر. وأما الأثر فمسموع في فرند السيف «1» مدون في الأصول. يقال: إثر السيف وآثره، وهو بمعنى الأثر غريب. فإن قلت: ما أعجلك
__________
(1) . قوله «فرند السيف» أى ربده ووشيه، كذا في الصحاح. (ع)

(3/80)


قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي (88)

سؤال عن سبب العجلة «1» فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله هم أولاء على أثري كما ترى غير منطبق عليه.
قلت: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين، أحدهما: إنكار العجلة في نفسها. والثاني:
السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدم يسير، مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال وعجلت إليك رب لترضى ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.

[سورة طه (20) : آية 85]
قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85)
أراد بالقوم المفتونين: الذين خلفهم مع هرون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. فإن قلت: في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين مع أيامها، وقالوا: قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك، فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى عند مقدمه فإنا قد فتنا قومك؟ قلت: قد أخبر الله تعالى عن الفتنة المترقبة، بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. أو افترص السامري غيبته فعزم على إضلالهم غب انطلاقه، وأخذ في تدبير ذلك. فكان بدء الفتنة موجودا. قرئ وأضلهم السامري أى وهو أشدهم ضلالا: لأنه ضال مضل، وهو منسوب إلى قبيلة من بنى إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم: وقيل: كان من أهل باجرما.
وقيل: كان علجا من كرمان، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر.

[سورة طه (20) : الآيات 86 الى 88]
فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي (88)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: سئل عن سبب العجلة ... الخ» قال أحمد: وإنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة وهو أعلم: أن يعلم موسى أدب السفر، وهو أنه ينبغي تأخير رئيس القوم عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بطائفته ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا فقال: واتبع أدبارهم فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله عز وجل، ومسارعة إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير، ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.

(3/81)


الأسف: الشديد الغضب. ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة «رحمة المؤمن وأخذة أسف للكافر «1» » وقيل: الحزين. فإن قلت. متى رجع إلى قومه؟ قلت: بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة وعشر ذى الحجة. وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل، حكى لنا أنها كانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا العهد الزمان، يريد: مدة مفارقته لهم. يقال: طال عهدى بك، أى: طال زماني بسبب مفارقتك. وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل بملكنا قرئ بالحركات الثلاث، أى: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، لو ملكنا أمرنا وخلينا وراءنا لما أخلفناه، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده. أى: حملنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم. أو أرادوا بالأوزار: أنها آثام وتبعات، لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب. وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي، على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فقذفناها في نار السامري، التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلى. وقرئ حملنا فكذلك ألقى السامري أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل. أوحى إليه وليه الشيطان أنها إذا خالطت مواتا صار حيوانا فأخرج لهم السامري من الحفرة عجلا خلقه الله من الحلى التي سبكتها النار يخور كما تخور العجاجيل.
فإن قلت: كيف أثرت تلك التربة في إحياء الموات؟ قلت: أما يصح أن يؤثر الله سبحانه روح القدس بهذه الكرامة الخاصة كما آثره بغيرها من الكرامات، وهي أن يباشر فرسه بحافره تربة إذا لاقت تلك التربة جمادا أنشأه الله إن شاء عند مباشرته حيوانا. ألا ترى كيف أنشأ المسيح
__________
(1) . أخرجه أحمد من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة- فذكره وله طريق أخرى عند عبد الرازق مرفوعة. وفيها يحيى بن العلاء الرازي وهو ضعيف. ورواه هو وابن أبى شيبة والطبراني من حديثهما موقوفا. وعن ابن مسعود أيضا موقوفا، وفي الباب عن أنس في الجنائز لابن شاهين وعن عبيد بن خالد عند أبى داود بلفظ «موت الفجأة أخذة أسف» . [.....]

(3/82)


أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89) ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)

من غير أب عند نفخه في الدرع. فإن قلت: فلم خلق الله العجل من الحلى حتى صار فتنة لبنى إسرائيل «1» وضلالا؟ قلت: ليس بأول محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين. ومن عجب من خلق العجل، فليكن من خلق إبليس أعجب. والمراد بقوله فإنا قد فتنا قومك هو خلق العجل للامتحان، أى: امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري على الضلال، وأوقعهم فيه حين قال لهم هذا إلهكم وإله موسى فنسي أى: فنسي موسى أن يطلبه هاهنا، وذهب يطلبه عند الطور. أو فنسي السامري: أى ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.

[سورة طه (20) : الآيات 89 الى 91]
أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89) ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91)
يرجع من رفعه فعلى أن أن مخففة من الثقيلة. ومن نصب فعلى أنها الناصبة للأفعال من قبل من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هرون عليه السلام بقوله إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن.

[سورة طه (20) : الآيات 92 الى 93]
قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93)
لا مزيدة. والمعنى ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر والمعاصي؟
وهلا قاتلت من كفر بمن آمن؟ ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أبا شره أنا لو كنت شاهدا؟
أو مالك لم تلحقني.

[سورة طه (20) : آية 94]
قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم خلق الله العجل فتنة لهم» قال أحمد: هذا السؤال وجوابه تقدما له في أول سورة الأعراف. وقد أوضحنا أن الله تعالى إنما تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه لا علل أفعاله. وجواب هذا السؤال في قوله تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فهذا الامر جائز. وقد أخبر الله تعالى بوقوعه فلا نبتغى وراء ذلك سبيلا، لكن الزمخشري تقتضي قاعدته في وجوب رعاية المصالح على الله تعالى وتحتم هداية الخلق عليه: أن يؤول ذلك ويحرفه، فذرهم وما يفترون.

(3/83)


قال فما خطبك ياسامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97)

قرئ لحيتي
بفتح اللام «1» وهي لغة أهل الحجاز، كان موسى صلوات الله عليه رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحمية، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف قابضا على شعر رأسه- وكان أفرع «2» - وعلى شعر وجهه يجره إليه. أى: لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فاستأنيتك أن تكون أنت المتدارك بنفسك، المتلافى برأيك وخشيت عتابك على إطراح ما وصيتنى به من ضم النشر وحفظ الدهماء «3» ، ولم يكن لي بد من رقبة وصيتك والعمل على موجبها.

[سورة طه (20) : الآيات 95 الى 96]
قال فما خطبك يا سامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96)
الخطب: مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه:
ما طلبك له؟ قرئ بصرت بما لم يبصروا به بالكسر «4» ، والمعنى: علمت ما لم تعلموه، وفطنت ما لم تفطنوا له. قرأ الحسن قبضة بضم القاف وهي اسم المقبوض، كالغرفة والمضغة.
وأما القبضة فالمرة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. وقرأ أيضا: فقبصت قبصة، بالصاد المهملة. الضاد: بجميع الكف. والصاد: بأطراف الأصابع. ونحوهما: الخضم، والقضم: الخاء بجميع الفم، والقاف بمقدمه: قرأ ابن مسعود:
من أثر فرس الرسول. فإن قلت: لم سماه الرسول دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إن لهذا شأنا، فقبض قبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل.

[سورة طه (20) : آية 97]
قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97)
__________
(1) . قوله «قرئ بلحيتي بفتح اللام» والقراءة المشهورة: بالكسر. (ع)
(2) . قوله «وكان أفرع» أى تام الشعر. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وحفظ الدهماء» أى الجماعة، أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «وقرئ بصرت بما لم يبصروا به بالكسر» والقراءة المشهورة بالضم. وقرئ: تبصروا به.
بالتاء: وعبارة النسفي: وبالتاء حمزة وعلى، ولعلها سقطت هنا سهوا من الناسخ، فليحرر. (ع)

(3/84)


عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة، حم الماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحشي النافر في البرية. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم. وقرئ لا مساس بوزن فجار.
ونحوه قولهم في الظباء. إذا وردت الماء فلا عباب، وإن فقدته فلا أباب: وهي أعلام للمسة والعبة والأبة، وهي المرة من الأب وهو الطلب لن تخلفه أى لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقرئ لن تخلفه. وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. قال الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزودا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا «1»
وعن ابن مسعود: نخلفه، بالنون، أى: لن يخلفه الله، كأنه حكى قوله عز وجل كما مر في لأهب لك
. ظلت وظلت، وظلت والأصل ظلت، فحذفوا اللام الأولى ونقلوا حركتها إلى الظاء، ومنهم من لم ينقل لنحرقنه ولنحرقنه ولنحرقنه. وفي حرف ابن مسعود: لنذبحنه، ولنحرقنه، ولنحرقنه: القراءتان من الإحراق. وذكر أبو على الفارسي في لنحرقنه انه يجوز أن يكون حرق مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وعليه القراءة الثالثة، وهي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه لننسفنه بكسر السين وضمها، وهذه عقوبة ثالثة وهي إبطال ما افتتن
__________
(1) .
أثوى وأقصر ليله ليزودا ... فمضت وأخلف من قتيلة موعدا
ومضى لحاجته وأصبح حبله ... خلقا وكان بحالة لن ينكدا
للأعشى. وأقصر عن الشيء: أقلع عنه وامتنع منه. وأقصره: وجده قصيرا. وروى «قصر» بالتشديد. وروى «ليله» بالاضافة إلى الضمير، لكن الذي في ديوان الأعشى «ليلة» بالتاء. وثوى بالمكان: أقام به، وأثوى به: لغة فيه، ويستعمل متعديا أيضا. يقول: إنه قطع السفر، وأقام بربع قتيلة، ووجد ليله قصيرا لتزوره بالوصال، أو امتنع من السفر لذلك، فمضى الليل على الأول، أو مضت الليلة على الثاني. وجزالة المعنى تشهد له.
وأخلف الموعد من قتيلة، أى: وجده خلفا، فسافر كما كان إلى حاجته، واستعار الحبل للوداد أو للطمع فيه على طريق التصريحية والخلق ترشيح، أى: يئس من مودته، وكان الحبل أو العاشق بحالة حسنة، هي أنه لن ينكدا، أى لن يتنغص، ولن يتكدر، ولن يتعسر شأنه، وزوال النعمة بعد نوالها يشق على النفس، وخلق- بالضم- فهو خلق، كحسن، وهو في الأصل مصدر. وينكد كيتعب.

(3/85)


إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا (100) خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا (101)

به وفتن، وإهدار سعيه، وهدم مكره ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

[سورة طه (20) : آية 98]
إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98)
قرأ طلحة: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن رب العرش وسع كل شيء علما وعن مجاهد وقتادة: وسع، ووجهه أن وسع متعد إلى مفعول واحد، وهو كل شيء. وأما علما فانتصابه على التمييز، وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين، فنصبهما معا على المفعولية لأن المميز فاعل في المعنى، كما تقول في «خاف زيد عمرا» خوفت زيدا عمرا، فترد بالنقل ما كان فاعلا مفعولا.

[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 101]
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا (100) خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا (101)
الكاف في كذلك منصوب المحل، وهذا موعد من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، أى: مثل ذلك الاقتصاص ونحو ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون، نقص عليك من سائر أخبار الأمم وقصصهم وأحوالهم، تكثيرا لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر، وأن هذا الذكر الذي آتيناك يعنى القرآن مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار، لذكر عظيم وقرآن كريم، فيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه، ومن أعرض عنه فقد هلك وشقى. يريد بالوزر: العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح «1» لحامل، وبنقض ظهره، ويلقى عليه بهره «2» : أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. وقرئ: يحمل. جمع خالدين على المعنى، لأن من معلق متناول لغير معرض واحد. وتوحيد الضمير في أعرض وما بعده للحمل على اللفظ. ونحوه قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها. فيه أى في ذلك الوزر. أو في احتماله ساء في حكم بئس. والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهما يفسره حملا والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى
__________
(1) . قوله «يفدح الحامل» أى يثقله. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «بهره» أى غلبته. أفاده الصحاح. (ع)

(3/86)


يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (103) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104)

نعم العبد إنه أواب أيوب هو المخصوص بالمدح. ومنه قوله تعالى وساءت مصيرا أى وساءت مصيرا جهنم. فإن قلت: اللام في لهم ما هي؟ وبم تتعلق؟ قلت: هي للبيان، كما في هيت لك. فإن قلت. ما أنكرت «1» أن يكون في ساء ضمير الوزر؟ قلت: لا يصح أن يكون في ساء وحكمه حكم بئس ضمير شيء بعينه غير مبهم فإن قلت: فلا يكن ساء الذي حكمه حكم بئس، وليكن ساء الذي منه قوله تعالى سيئت وجوه الذين كفروا بمعنى أهم وأحزن؟ قلت: كفاك صادا عنه أن يؤول كلام الله إلى قولك:
وأحزن الوزر لهم يوم القيامة حملا، وذلك بعد أن تخرج عن عهدة هذا اللام وعهدة هذا المنصوب.

[سورة طه (20) : الآيات 102 الى 104]
يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (103) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104)
أسند النفخ إلى الآمريه فيمن قرأ: ننفخ، بالنون. أو لأن الملائكة المقربين وإسرافيل منهم بالمنزلة التي هم بها من رب العزة، فصح لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولونه إلى ذاته تعالى. وقرئ: ينفخ، بلفظ ما لم يسم فاعله. وينفخ. ويحشر، بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام. وأما يحشر المجرمون فلم يقرأ به إلا الحسن.
وقرئ في الصور بفتح الواو جمع صورة، وفي الصور: قولان، أحدهما: أنه بمعنى الصور وهذه القراءة تدل عليه. والثاني: أنه القرن. قيل في الزرق قولان، أحدهما: أن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون ولذلك قالوا في صفة العدو:
أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. والثاني: أن المراد العمى، لأن حدقة من يذهب نور بصره تزراق. تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت «أطال الله بقاءك» : «كفى بالانتهاء قصرا» وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقاولا منهم في قوله تعالى إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ونحوه قوله تعالى قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين وقيل: المراد لبثهم في القبور. ويعضده
__________
(1) . قوله «ما أنكرت» لعله «لم أنكرت» . غ

(3/87)


ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109)

قوله عز وجل ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث.

[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 107]
ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107)
ينسفها يجعلها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذرى الطعام فيذرها «1» أى فيذر مقارها ومراكزها. أو يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة. فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج، فقالوا: العوج بالكسر في المعاني. والعوج بالفتح في الأعيان، والأرض عين، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفى الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأى المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية، لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله عز وعلا ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني، فقيل فيه: عوج بالكسر. الأمت: النتو اليسير، يقال: مد حبله حتى ما فيه أمت.

[سورة طه (20) : الآيات 108 الى 109]
يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109)
أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله يومئذ أى يوم إذ نسفت، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يوم القيامة. والمراد: الداعي إلى المحشر. قالوا: هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس يدعو الناس، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون لا عوج له أى لا يعوج له مدعو، بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته. أى: خفضت
__________
(1) . قوله تعالى فيذرها قاعا صفصفا في الصحاح: أن كلا من القاع والصفصف بمعنى المستوى من الأرض، فكأن الصفصف تأكيد. (ع)

(3/88)


يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110) وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112) وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113)

الأصوات من شدة الفزع وخفتت «1» فلا تسمع إلا همسا وهو الركز الخفي. ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت، أى: لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر من يصلح أن يكون مرفوعا ومنصوبا، فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف، أى: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية. ومعنى أذن له ورضي له لأجله. أى: أذن للشافع ورضى قوله لأجله. ونحو هذه اللام اللام في قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه.

[سورة طه (20) : آية 110]
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110)
أى يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه، ولا يحيطون بمعلوماته علما.

[سورة طه (20) : آية 111]
وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111)
المراد بالوجوه وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا- يوم القيامة- الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوههم عانية، أى ذليلة خاشعة، مثل وجوه العناة وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا، ووجوه يومئذ باسرة. وقوله تعالى وقد خاب وما بعده اعتراض، كقولك: خابوا وخسروا. وكل من ظلم فهو خائب خاسر.

[سورة طه (20) : آية 112]
ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)
الظلم: أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم: أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أى: فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ: فلا يخف، على النهى.

[سورة طه (20) : آية 113]
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113)
وكذلك عطف على كذلك نقص أى: ومثل ذلك الإنزال، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد «2» أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة، مكررين فيه آيات الوعيد،
__________
(1) . قوله «وخفتت» في الصحاح «خفت الصوت» سكن. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه وكما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة للوعيد ... الخ» قال أحمد: الصواب في تفسيرها:
ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر، وإلا فلو أراد لله من جميعهم التقوى لوقعت. وقد تقدمت أمثالها. والعجب أنه نقل عن سيبويه في تفسير لعل أول هذه السورة عند قوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى أن معناه: كونا على رجائكما، ثم رجع عن ذلك هاهنا لأن المعتقد الفاسد يحذوه إلى هذا التأويل الباطل، والله الموفق.

(3/89)


فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115)

ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر- كما ذكرنا- يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ: نحدث وتحدث، بالنون والتاء، أى: تحدث أنت. وسكن بعضهم الثاء للتخفيف، كما في:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «1»

[سورة طه (20) : آية 114]
فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114)
فتعالى الله الملك الحق استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأن عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به
وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ: حتى تقضى إليك وحيه. وقوله تعالى رب زدني علما متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أى علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم، فإن لك في كل شيء حكمة وعلما.
وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

[سورة طه (20) : آية 115]
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115)
يقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدم الملك إلى فلان وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد
__________
(1) .
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
لامرئ القيس، كان حلف لا يشرب الخمر حتى يقتل بنى أسد الذين قتلوا أباه حجرا، فلما قتل جماعة منهم قال:
حلت لي الخمر بعد أن كانت حراما على وكنت في شغل شاغل لي عن شربها، فاليوم حين أخذت الثأر أشرب، وكان حقه الرفع لعدم الجازم، فسكن تخفيفا للوزن. والمستحقب للشيء: الحامل له على ظهره. ومنه الحقيبة، فشبه الإثم بالشيء المحمول لمشقته على النفس، والاستحقاب تخييل، والواغل: الداخل على الشاربين من غير أن يدعوه، أى: فاليوم أشرب ما شئت حال كوني غير متحمل ذنبا من الله. حيث بررت في قسمي، ولا متطفل على الشاربين.

(3/90)


وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى (116) فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117)

إليه. عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون والمعنى:
وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إن أساس أمر بنى آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ: فنسي، أى: نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضى على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود:
يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه له عزما وأن يكون نقيض العدم كأنه قال:
وعدمنا له عزما.

[سورة طه (20) : آية 116]
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى (116)
إذ منصوب بمضمر، أى: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى كان من الجن ففسق عن أمر ربه فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب، حتى إن لم يقم عنف. وقيل له: قد قام فلان وفلان، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت: فكيف صح استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال أبى جملة مستأنفة، كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله فسجدوا وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط

[سورة طه (20) : آية 117]
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117)
فلا يخرجنكما فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون

(3/91)


إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119) فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120)

حواء بعد إشراكهما في الخروج، لأن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة.
أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه. قرئ: وأنك بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على ألا تجوع. فإن قلت: إن لا تدخل على أن، فلا يقال:
إن أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن إن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إن، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة- كإن- لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن.

[سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119]
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى (119)
الشبع والرى والكسوة والكن: هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، «1» فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو «2» ، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.

[سورة طه (20) : آية 120]
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120)
__________
(1) . قال محمود: «ذكر تعالى الأصناف التي بها قوام الإنسان ... الخ» قال أحمد: تنبيه حسن، وفي الآية سر بديع من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير، وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي الأول:
كأنى لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أرشف الرزق الروى ولم أقل ... لخيلى كرى كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله «لخيلى كرى كرة» وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب، وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي الآخر فقال:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاعترضه سيف الدولة بأنه ليس فيه قطع الشيء عن نظيره، ولكنه على فطنته قصر قهمه عما طالت إليه يد أبى الطيب من هذا المعنى الطائل البديع، على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر، وهو أن قصد تناسب الفواصل، ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤس الآي، وأحسن به منتظما، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «والضحو» الذي في الصحاح: ضحيت للشمس ضحا- ممدود- إذا برزت الشمس لها، وضحيت- بالفتح- مثله. (ع)

(3/92)


فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121)

فإن قلت: كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان وأخرى بإلى؟
قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى «1» ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه: وسوس المبرسم، وهو موسوس بالكسر.
والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق «2»
فإذا قلت: وسوس له، فمعناه لأجله، كقوله:
أجرس لها يا ابن أبى كباش «3»
ومعنى «وسوس إليه» أنهى إليه الوسوسة، كقولك. حدث إليه. وأسر إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه، كما قيل لحيزوم: فرس الحياة، لأن من باشر أثره حيي وملك لا يبلى دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضى الله عنهم:
إلا أن تكونا ملكين بالكسر.

[سورة طه (20) : آية 121]
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121)
__________
(1) . قوله «كولولة الثكلى» أى الحزينة. (ع)
(2) .
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... سرا وقد أون تأوين العقق
في الزرب لو يمضغ شربا ما بصق
لرؤبة، يصف قانصا. وسوس: تكلم في نفسه، يدعو لله مخلصا أنه يظفره بالصيد، وقوله «سرا» ساقه مساق الظرف للتوكيد، أى تعلق بوسوس، وللتأسيس إن تعلق بيدعو، وتكون الجملة حالية مبينة للوسوسة. وقد أون أى: الحمير الوحشية، والجملة أيضا حالية، والتأوين: امتلاء الجنبين من الأون، وهو جانب الخرج الممتلئ. والأوثان الجانبان الممتلئان. والعقق: الحوامل، واحده عقوق كعروس، وقيل: هو العقوق، أى امتلأت بطونهن ماء لكثرة شربهن كامتلاء بطون الحوامل في الزرب، حال من ضمير القانص. والزرب والزربة: قترته التي يكمن فيها وانزرب القانص: دخل الزرب. وقوله «لو يمضغ» في معنى الحال أيضا، أى: ساكنا بحيث لو يمضغ شربا، أى:
لو يلوك بفمه مقدارا من مائه وهو الريق، لم يبصق لئلا يسمع الصيد صوته. وأصل الشرب: النصيب من الماء، استعاره لما يجتمع بفمه من الريق، وبين الزرب والشرب الجناس المضارع.
(3) .
أجرس لها يا ابن أبى كباش ... فما لها الليلة من أنفاش
غير السرى وسائق نجاش
«أجرس» بقطع الهمزة وبالسين المهملة، أى: صوت واحد للإبل في السير، فما لها في هذه الليلة انفاش، أى:
إطلاق في المرعى. والسرى: سير الليل. ونجشت الإبل: جمعتها بعد تفرق. ونجاش: صيغة مبالغة، أى: ليس لها رعى، بل سير شديد. وروى «اجرش» بوصل الهمزة والشين المشالة، وهو بمعناه هنا. والجرس- بالمهملة-:
الصوت الخفي، وبالمشالة: صوت المشط في الشعر. وما شابه ذلك.

(3/93)


ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123)

«طفق يفعل كذا» مثل: جعل يفعل، وأخذ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أول الأمر. وكاد لمشارفته والدنو منه. قرئ يخصفان للتكثير والتكرير، من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف، أى: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس: لا شبهة في أن آدم لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، فكان غيا لا محالة، لأن الغى خلاف الرشد، ولكن قوله وعصى آدم ربه فغوى بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات: فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن تجسروا على التورط في الكبائر. وعن بعضهم فغوى فبشم «1» من كثرة الأكل، وهذا- وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في «فنى، وبقي» : «فنا، وبقا» وهم بنو طى- تفسير خبيث.

[سورة طه (20) : آية 122]
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122)
فإن قلت: ما معنى ثم اجتباه ربه؟ قلت: ثم قبله بعد التوبة وقربه إليه، من جبى إلى كذا فاجتبيته. ونظيره: جليت على العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها أى هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون: اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. وهدى أى وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى.

[سورة طه (20) : آية 123]
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123)
لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا:
جعلا كأنهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل فإما يأتينكم على لفظ الجماعة.
__________
(1) . قوله «فبشم من كثرة الأكل» في الصحاح «البشم» التخمة، (ع)

(3/94)


ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (127)

ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب هدى كتاب وشريعة. وعن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.

[سورة طه (20) : الآيات 124 الى 126]
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126)
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ ضنكا على فعلى. ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافغا كما قال عز وجل فلنحيينه حياة طيبة والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره: قال الله تعالى وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤ بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله وقال ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقال ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض وقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وعن الحسن: هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري: عذاب القبر. وقرئ ونحشره بالجزم عطفا على محل فإن له معيشة ضنكا لأنه جواب الشرط. وقرئ: ونحشره، بسكون الهاء على لفظ الوقف، وهذا مثل قوله ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وكما فسر الزرق بالعمى كذلك أى مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر، وتركتها وعميت عنها، فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.

[سورة طه (20) : آية 127]
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (127)

(3/95)


أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (128) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130)

لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة- ختم آيات الوعيد بقوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى كأنه قال: وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشد من ضيق العيش المنقضى. أو أراد: ولتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا.

[سورة طه (20) : آية 128]
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (128)
فاعل فلم يهد الجملة بعده يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين أى تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون. وقرئ يمشون يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم.

[سورة طه (20) : آية 129]
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129)
الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر لازم وصف به، وإما فعال بمعنى مفعل، أى ملزم، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه، كما قالوا: لزاز خصم وأجل مسمى لا يخلو من أن يكون معطوفا على كلمة أو على الضمير في لكان أى لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل

[سورة طه (20) : آية 130]
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130)
بحمد ربك في موضع الحال، أى: وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أولا، والأوقات على الفعل آخرا، فكأنه قال: صل لله قبل طلوع الشمس يعنى الفجر، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال الله عز وجل إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا وقال أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا

(3/96)


ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131)

صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند الله. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار، إرادة الاختصاص، كما اختصت في قوله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى عند بعض المفسرين. فإن قلت: ما وجه قوله وأطراف النهار على الجمع، وإنما هما طرفان كما قال أقم الصلاة طرفي النهار؟ قلت: الوجه أمن الإلباس، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين: مجيئهما في قوله:
ظهراهما مثل ظهور الترسين «1»
وقرئ: وأطراف النهار، عطفا على آناء الليل، ولعل للمخاطب، أى: اذكر الله في هذه الأوقات، طمعا ورجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ: ترضى، أى يرضيك ربك.

[سورة طه (20) : آية 131]
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131)
ولا تمدن عينيك أى نظر عينيك، ومد النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، وتمنيا أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم حتى واجههم أو لو العلم والإيمان ب ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا
__________
(1) .
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
جبتهما بالنعت لا بالنعتين
لخطام المجاشعي. وقيل: لهميان بن قحافة. والمهمه: المفازة. والقذف- بالتحريك-: الذي يقذف سالكه فلا يمكث فيه أحد. وقيل: البعيد. والمرت- بالسكون-: القفر لا ماء فيه ولا نبات. والترس: حيوان ناتئ الظهر. وثنى ظهراهما على الأصل، وجمع فيما بعد لأمن اللبس، ولأنه ربما كره اجتماع تثنيتين، لا سيما عند تتابع التثنية كما هنا. وقال النحاة: كل مثنى في المعنى مضاف إلى متضمنه، يختار في لفظه الجمع لتعدد معناه وكراهة اجتماع تثنيتين في اللفظ. ويجوز مجيئه على الأصل كما هنا. ويجوز إفراده كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي
والجواب: القطع. والنعت: الوصف، ويروى: «بالسمت لا بالسمتين» والسمت: الهيئة والقصد والجهة والطريق والمراد أنهما وصفا، أو ذكرت هيأتهما له مرة واحدة. يقول: رب موضعين قفرين لا أنيس فيهما، لهما ظهران مرتفعان، كظهرى الترسين، قطعتهما بالسير بنعت واحد، لا بوصفهما لي مرتين أو ثلاثة كغيرى. ويجوز أن المعنى بذكر نعت واحد من نعوتها، لا بذكر نعتين، فالنعت بمعنى الصفة القائمة بالشيء. وفي الكلام دلالة على شجاعته وحذقه.

(3/97)


وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأن من أبصر منها شيئا أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه: قيل ولا تمدن عينيك أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه، ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها أزواجا منهم أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على منهم كأنه قال: إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناسا منهم. فإن قلت: علام انتصب زهرة؟ قلت: على أحد أربعة أوجه: على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين متعنا معنى أعطينا وخولنا، وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من أزواجا، على تقدير ذوى زهرة.
فإن قلت: ما معنى الزهرة فيمن حرك «1» ؟ قلت: معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ: أرنا الله جهرة. وأن تكون جمع زاهر، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون، وتهلل وجوههم «2» وبهاء زيهم وشارتهم «3» ، بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء: من شحوب الألوان والتقشف في الثياب لنفتنهم لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه ورزق ربك هو ما ادخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة «4» من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى لأن الله لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى رزقا أصلا «5» . وعن عبد الله بن قسيط عن رافع قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) . قوله «حرك» أى حرك الهاء بالفتح. (ع)
(2) . قوله «وتهلل وجوههم» الذي في الصحاح: تهلل وجه الرجل من فرحه، وهلهل النساج الثوب. أرق نسجه وخففه. (ع)
(3) . قوله «وبهاء زيهم وشارتهم» في الصحاح: الزي والشارة: اللباس والهيئة. (ع)
(4) . قال محمود: «معناه أن رزق هؤلاء المتمتعين في الدنيا أكثره مكتسب من الحرام ... الخ» قال أحمد:
لولا أن غرض القدرية من هذا إثبات رازق غير الله تعالى كما أثبتوا خالقا سوى الله تعالى لكان البحث لفظيا.
فالحق والسنة أن كل ما تقوم به البنية رزق من الله تعالى، سواء كان حلالا أو غيره، لا يلزم من كون الله تعالى رزقه أن يكون حلالا، فكما يخلق الله تعالى على يدي العبد ما نهاه عنه، كذلك يرزقه ما أباح له تناوله وما لا لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون والله الموفق الصواب.
(5) . قوله «والحرام لا يسمي رزقا أصلا» هذا عند المعتزلة، ويسمى رزقا عند أهل السنة. (ع)

(3/98)


وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى (133) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134)

وسلم إلى يهودى وقال: «قل له يقول لك رسول الله أقرضنى إلى رجب» فقال: والله لا أقرضته إلا برهن، فقال رسول الله «إنى لأمين في السماء وإنى لأمين في الأرض، احمل إليه درعي «1» الحديد» فنزلت: ولا تمدن عينيك.

[سورة طه (20) : آية 132]
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132)
وأمر أهلك بالصلاة أى وأقبل أنت مع أهلك على عبادة الله والصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفى من عندنا، ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ففرغ بالك لأمر الآخرة. وفي معناه قول الناس: من دان في عمل الله كان الله في «2» عمله. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ ولا تمدن عينيك ... الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله. وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية.

[سورة طه (20) : آية 133]
وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى (133)
اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة، فقيل لهم: أو لم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعنى القرآن، من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. وقرئ: الصحف. بالتخفيف. ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل.

[سورة طه (20) : آية 134]
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134)
__________
(1) . قلت وقع فيه تحريف في الراويين. وإنما هو عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبى رافع. ولعل ذلك من النساخ. والحديث أخرجه إسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار والطبري والطبراني من هذا الوجه مطولا.
وفيه موسى بن عبيدة الزبيري وهو متروك. واستدل على بطلان ما رواه أنه وقع فيه «أن قوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية نزلت في هذه القصة وسورة طه مكية- وهذه القصة إنما كانت في المدينة كما في الصحيح. وهذا يمكن الجواب عنه إذ لا مانع أن تكون الآية وحدها مدنية. وبقية السورة مكي. وأما حمله على تعدد القصة فلم يصب.
(2) . قوله «من دان في عمل الله كان الله في عمله» دان: ذل، ودانه: أذله، كذا في الصحاح. (ع)

(3/99)


اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1)

قرئ نذل ونخزى على لفظ ما لم يسم فاعله.

[سورة طه (20) : آية 135]
قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى (135)
كل أى كل واحد منا ومنكم متربص للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم.
وقرئ: السواء، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى والسوي تصغير السوء.
وقرئ: فتمتعوا فسوف تعلمون. قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار «1» » وقال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا طه ويس «2» »

سورة الأنبياء
مكية وآياتها 112 [نزلت بعد سورة إبراهيم] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنبياء (21) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1)
هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: «أزف للحى رحيلهم» الأصل: أزف رحيل الحى، ثم أزف للحى الرحيل، ثم أزف للحى رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقر توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبالك: لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأول. والمراد اقتراب الساعة. وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه واقترب الوعد الحق.
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية زياد عن الحسن مرسلا. [.....]
(2) . أخرجه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب.

(3/100)


ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3)

فإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟
قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عز وجل ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ولأن كل آت- وإن طالت أوقات استقباله وترقبه- قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأن ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «1» «بعثت في نسم الساعة «2» » وفي خطبة بعض المتقدمين: ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء. وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أن المراد بالناس: المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 2 الى 3]
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3)
قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر- التي هي أحق الحق وأجد الجد- إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن.
وقرأ ابن أبى عبلة محدث بالرفع صفة على المحل. قوله وهم يلعبون لاهية قلوبهم
__________
(1) . أخرجه البزار بإسناد حسن، من حديث أبى جبير بن الضحاك الأنصارى وأخرجه الحسن بن سفيان.
ومن طريقه أبو نعيم في الحلية. وفي الباب عن المستورد بن شداد رفعه «بعثت في نفس الساعة- الحديث» أخرجه الترمذي. وقوله: وفي خطب بعض المتقدمين «ولت الدنيا حذاء لم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء» هو عبد الله بن غزوان. أخرجه مسلم من حديثه مطولا.
(2) . قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» أو لها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسيم أيضا: جمع نسمة وهي النفس. (ع)

(3/101)


قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم (4)

حالان مترادفتان أو متداخلتان. ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة، لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر، لقوله وهم واللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعنى أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا، وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأمل والتبصر بقلوبهم. فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله وأسروا؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون، أبدل الذين ظلموا من واو وأسروا، إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به. أو جاء على لغة من قال «أكلونى البراغيث» أو هو منصوب المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره وأسروا النجوى قدم عليه: والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى.
فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا: اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت:
لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه «1» . وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طى سرهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» .
ويجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررنا.

[سورة الأنبياء (21) : آية 4]
قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم (4)
__________
(1) . قوله «وعمل المنصوبة في التثبيط عنه» كأن فيه سقطا. وفي الصحاح: نصبت لفلان نصبا: إذا عاديته. (ع)
(2) . روى موقوفا. قال: ويرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب الثالث والأربعين وابن عدى من رواية سعيد بن سلام العطار عن ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وسعيد. قال البخاري: يذكر بالوضع، وتابعه حسين بن علوان عن ثور. وكان أيضا يضع الحديث. قاله ابن عدى وابن حبان وقال هاهنا عن أحمد وابن معين: هو حديث موضوع. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: منكر لا يعرف له أصل. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وفيه شميل بن عبد الرحمن الجرجاني رواه محمد بن مطرف وعند الهيثم بن أيوب الطالقاني، وعن ابن عباس أخرجه ابن حبان في الضعفاء. وفيه طاهر بن الفضل الحلبي. وهو متهم بالوضع. وله طريق أخرى من رواية الخلفاء للحسن بن على صاحب السلعة عن إبراهيم بن على ابن مالونة البلخي عن الطالبي عن إبراهيم بن معقل بسنده. وليس فيه غير الطالبي.

(3/102)


بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (5)

فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله وأسروا النجوى «1» ؟ قلت: القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر، كما أن قوله: يعلم السر، آكد من أن يقول: يعلم سرهم. ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية. فإن قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا، وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول:
إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله علام الغيوب عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة. وقرئ قال ربي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 5]
بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (5)
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج «2» ، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد.
ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث. صحة التشبيه في قوله كما أرسل الأولون
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم عدل عن قوله يعلم السر مع أن المتقدم وأسروا النجوى ... الخ» قال أحمد:
وهذا من إتباع القرآن للرأى، نعوذ بالله من ذلك لا سيما رأى ينفى صفات الكمال عن الله تعالى وما الذي دل عليه السميع العليم من نفى صفتي السمع والعلم في تفسيرهما بذلك، مع أنه لا يفهم في اللغة سميع إلا بسمع، ولا عليم إلا بعلم، فإنها صفات مشتقات من مصادر لا بد من فهمها وثبوتها أولا، ثم ثبوت ما اشتقت منه. ومن أنكر السمع والعلم فقد سارع إلى إنكار السميع العليم وهو لا يشعر. وليس غرضنا في هذا المصنف سوى الإيقاظ لما الطوى عليه الكشاف من غوائل البدع ليتجنبها الناظر. وأما الأدلة الكلامية فمن فنها تتلقى. وحاله فيما يورده من أمثال هذه النزغات مختلف: فمرة يوردها عند كلام يتخيل في ظاهره إشعارا بغرضه، فوظيفتنا معه حينئذ أن ننازع في الظهور، ثم قد نترقى إلى بيان ظهوره في عكس مراده أو نصوصيته، حتى لا يحتمل ما يدعيه بوجه ما، وقد يلجئنا الانصاف إلى تسليم الظهور له فنذكر وجه التأويل الذي يرشد إليه دليل العقل. ومرة يورد نبذا من هذا الرأى عند كلام لا يحتمله ولا يشعر به بوجه، وغرضه التعف حتى لا يخلى شيئا من كلامه من تعصب وإصرار على باطل، فننبه على ذلك أيضا. وما ذكره عند هذه الآية من قبيل ما يدل النص على عكس مراده فيه، وقد أوضحناه.
(2) . قوله «الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفد. (ع)

(3/103)


ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6) وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10)

من حيث أنه في معنى: كما أتى الأولون بالآيات، لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ألا ترى أنه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وبين قولك: أتى محمد بالمعجزة.

[سورة الأنبياء (21) : آية 6]
ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6)
أفهم يؤمنون فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا أو خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث.

[سورة الأنبياء (21) : آية 7]
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7)
أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 8]
وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)
لا يأكلون الطعام صفة لجسدا، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوى جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوى ضرب من الأجساد. وهذا رد لقولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام. فإن قلت: نعم قد رد إنكارهم أن يكون الرسول بشرا يأكل ويشرب بما ذكرت. فماذا رد من قولهم بقوله وما كانوا خالدين؟ قلت:
يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا: هلا كان ملكا لا يطعم ويخلد: إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتد خلودا.

[سورة الأنبياء (21) : آية 9]
ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين (9)
صدقناهم الوعد مثل واختار موسى قومه. والأصل في الوعد: ومن قومه. ومنه:
صدقوهم القتال. وصدقنى سن بكره ومن نشاء هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة.

[سورة الأنبياء (21) : آية 10]
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10)

(3/104)


وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون (13) قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15)

ذكركم شرفكم وصيتكم، كما قال وإنه لذكر لك ولقومك أو موعظتكم. أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر «1» ، كحسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء، وما أشبه ذلك،

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15]
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون (13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15)
وكم قصمنا من قرية واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم، لأن القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية: أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال قوما آخرين لأن المعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين. وعن ابن عباس: أنها «حضور» وهي و «سحول» قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين «2» » وروى «حضوريين «3» » بعث الله إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم. وروى: أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء، ندموا واعترفوا بالخطإ، وذلك حين لم ينفعهم الندم. وظاهر الاية على الكثرة. ولعل ابن عباس ذكر «حضور» بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. فلما علموا شدة عذابنا وبطشتنا علم حس ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل. ومنه قوله تعالى اركض برجلك فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب.
ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم، فقيل لهم.
لا تركضوا والقول محذوف. فإن قلت: من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة
__________
(1) . قوله «تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر» لعله «وحسن الذكر» بالواو فقط. (ع)
(2) . متفق عليه عن عائشة بلفظ «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية» .
(3) . أخرجه الدارقطني في العلل من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، بلفظ «ثلاثة أثواب: ثوبين حضوريين وثوب حبرة» وقال: تفرد به محمد بن إسحاق الصاغاني عن ابن الحوأب عن الثوري عن عاصم بن عبد الله عن سالم عن أبيه بهذا.
«فائدة» «حضور» بفتح المهملة وضم المعجمة: قرية بصنعاء قريبة من قرية عبد الرزاق.

(3/105)


وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17)

أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلفاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل. أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم. أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم وارجعوا إلى ما أترفتم فيه من العيش الرأفة والحال الناعمة. والإتراف: إبطار النعمة وهي الترفة لعلكم تسئلون تهكم بهم وتوبيخ، أى: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسئلون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم. وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدمين؟
أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم، ويمترون أخلاف «1» معروفكم وأياديكم: إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ تلك إشارة إلى يا ويلنا، لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم والدعوى بمعنى الدعوة. قال تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت:
لأن المولول كأنه يدعو الويل، فيقول تعالى: يا ويل فهذا وقتك. وتلك مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم. الحصيد: الزرع المحصود، أى: جعلناهم مثل الحصيد، شبههم به في استنصالهم واصطلامهم «2» كما تقول: جعلناهم رمادا، أى مثل الرماد. والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية. فإن قلت كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد، لأن معنى قولك «جعلته حلوا حامضا» جعلته جامعا للطعمين. وكذلك معنى ذلك: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 17]
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17)
أى: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم،
__________
(1) . قوله «ويمترون أخلاف معروفكم» في الصحاح: الريح تمرى السحاب وتمتريه، أى تستدره. وفيه أيضا:
الخلف- بالكسر- حلية ضرع الناقة. (ع)
(2) . قوله «واصطلامهم» في الصحاح «الاصطلام» الاستئصال. (ع)

(3/106)


بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18)

للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. ثم بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالى: هو أن الحكمة صارفة عنه، وإلا فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلا لأنى على كل شيء قدير. وقوله لاتخذناه من لدنا كقوله رزقا من لدنا أى من جهة قدرتنا. وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن. وقيل المرأة. وقيل من لدنا، أى من الملائكة لا من الإنس، ردا لولادة المسيح وعزير.

[سورة الأنبياء (21) : آية 18]
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18)
بل إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب «1» ، بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف «2» والدمغ، تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه «3» ، ثم قال ولكم الويل مما تصفون به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته. وقرئ: فيدمغه بالنصب، وهو في ضعف قوله:
__________
(1) . قال محمود: «معناه سبحاننا أن نتخذ لهوا ولعبا ... الخ» قال أحمد: وله تحت قوله واستغنائنا عن القبيح دفين من البدعة والضلالة، ولكنه من الكنوز التي يحمى عليها في نار جهنم، وذلك أن القدرية يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح وفعل ما يتوهمونه حسنا بعقولهم، ويظنون أن الحكمة تقتضي ذلك، فلا يستغنى الحكيم على زعمهم عن خلق الحسن على وفق الحكمة بخلاف القبيح، فان الحكمة تقتضي الاستغناء عنه، فالى ذلك يلوح الزمخشري وما هي إلا نزعة سبق إليها ضلال الفلاسفة. ومن ثم يقولون: ليس في الإمكان أكمل من هذا العالم، لأنه لو كان في القدرة أكمل منه وأحسن، ثم لم يخلقه الله تعالى: لكان بخلا ينافي الجود، أو عجزا ينافي القدرة، حتى انبعهم في ذلك من لا نسميه من أهل الملة- عفا الله عنه- إن كان هذا مما يدخل تحت ذيل العفو. فالحق أن الله تعالى مستغن عن جميع الأفعال حسنة كانت أو غيرها، مصلحة كانت أو مفسدة. وأن له أن لا يخلق ما يتوهمه القدرية حسنا، وله أن يفعل ما يتوهمونه في الشاهد قبيحا، وأن كل موجود من فاعل وفعل على الإطلاق فبقدرته وجد، فليس في الوجود إلا الله وصفاته وأفعاله، وهو مستغن عن العالم بأسره، وحسنه وقبحه، فلو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أتقى قلب رجل منكم لم يزد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أفجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا. اللهم ألهمنا الحق واستعملنا به.
(2) . عاد كلامه. قال: «وفي قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل استعارة حسنة: استعار القذف ... الخ» قال أحمد: ومثل هذا التنبيه من حسناته، ولولا أن السيئة التي قبلها تتعلق بالعقيدة لتلوت: إن الحسنات يذهبن السيئات، والله أعلم. [.....]
(3) . قوله «فدمغه» في الصحاح: أى شجه حتى بلغت الشجة الدماغ. (ع)

(3/107)


وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21)

سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا «1»
وقرئ فيدمغه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 20]
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20)
ومن عنده هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون- لكرامتهم عليه- منزلة المقربين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه «2» . فإن قلت:
الاستحسار مبالغة في الحسور «3» ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفى عنهم أدنى الحسور. قلت في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور «4» وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. أى، تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر.

[سورة الأنبياء (21) : آية 21]
أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21)
هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم آلهة من الأرض هم ينشرون الموتى «5» ، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات. فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر «6» وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا- مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى- منكرين البعث ويقولون: من يحيى العظام وهي رميم، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثانى القديم، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟ قلت: الأمر
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 557 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت لم استعمل الاستحسار هاهنا في النفي ... الخ» قال أحمد: وبمثله أجيب عن قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد فانظره.
(4) . قوله «يوجب غاية الحسور» أى الكلال. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . قوله «هم ينشرون الموتى» الأبشار: الأحياء بعد الموت. أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قال محمود: «إن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ... الخ» قال أحمد: فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها وهو أبلغ في الإنكار، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/108)


كما ذكرت، ولكنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار، لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشار من جملة المقدورات. وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. ونحو قوله من الأرض قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد: مكي أو مدنى. ومعنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض: لأن الآلهة على ضربين: أرضية وسماوية. ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين ربك» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال إنها مؤمنة «1» لأنه فهم منها أن مرادها نفى الآلهة الأرضية التي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا لله عز وجل. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض. فإن قلت: لا بد من نكتة في قوله هم «2» قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية، كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم. وقرأ الحسن ينشرون وهما لغتان: أنشر الله الموتى، ونشرها. وصفت آلهة بإلا كما توصف بغير، لو قيل آلهة غير الله.
__________
(1) . أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «إن قلت لا بد لقوله هم من فائدة، وإلا فالكلام مستقل بدونها ... الخ» قال أحمد: وفي هذه النكتة نظر، لأن آلات الحصر مفقودة، وليس ذلك من قبيل: صديقي زيد، فان المبتدأ في الآية أخص شيء لأنه ضمير. وأيضا فلا ينبغي على ذلك إلزامهم حصر الألوهية فيهم، وتخصيص الانشار بهم، ونفيه عن الله تعالى، إذ هذا لا يناسب السياق، فانه قال عقبها: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. ومعناه: لو كان فيهما إله غير الله شريكا لله لفسدتا، وكان مقتضى ما قال الزمخشري أن يقال: لو لم يكن فيهما آلهة إلا الأصنام لفسدتا. وأما والمتلو على خلاف ذلك، فلا وجه لما قال الزمخشري. وعندي أنه يحتمل والله أعلم أن تكون فائدة قوله هم الإيذان بأنهم لم يدعوا لها الانشار، وأن قوله هم ينشرون استئناف إلزام لهم، وكأنه قال: اتخذوا آلهة مع الله عز وجل فهم إذن يحيون الموتى ضرورة كونهم آلهة، ثم لما انتظم من دعواهم الألوهية للأصنام وإلزامهم على ذلك أن يصفوهم بالقدرة الكاملة على إحياء الموتى، نظم في إبطال هذه الدعوى وما ألزمهم عليها دليل قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأزيد هذا التقرير وضوحا فأقول: إن دليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية، المقتبس من نورها، يورده المتكلمون على صورة التقسيم، فيقولون: لو وجد مع الله إله آخر، وربما قالوا: لو فرضنا وجود إلهين، فاما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على إحياء الموتى وإنشارهم وغير ذلك من الممكنات، أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر، ثم يحيلون جميع الأقسام وهو المسمى برهان الخلف. وأدق الأقسام إبطالا قسم اتصافهما جميعا بصفات الكمال، وما عداه فببادئ الرأى يبطل. فانظر كيف اختار له تعالى إبطال هذا القسم الخفي البطلان، فأوضح فساده في أخصر أسلوب وأوجزه، وأبلغ بديع الكلام ومعجزه. وإنما ينتظم هذا على أن يكون المقصد من قوله هم ينشرون إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم، حتى يتحرى أنهم اختاروا القسم الذي أبطله الله تعالى، ووكل إبطال ما عداه من الأقسام إلى ما ركبه في عباده من العقول، وكل خطب بعد بطلان هذا القسم جلل، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل بعين الانصاف. تجده أنفس الانصاف، والله المستعان.

(3/109)


لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)

[سورة الأنبياء (21) : آية 22]
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)
فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معه موجب، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه. والمعنى: لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين، أحدهما:
وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا. والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله إلا الله. فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو ابن سعيد الأشدق: كان والله أعز على من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول «1» وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد، ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقر.

[سورة الأنبياء (21) : آية 23]
لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23)
إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطإ والزلل وأنواع الفساد عليهم- كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ «2» ولا فعل القبائح «3»
__________
(1) . قوله «لا يجتمع فحلان في شول» في الصحاح «الشول» النوق التي خف لبنها وارتفع ضرعها. (ع)
(2) . قال محمود: «لما بين تعالى أنه رب الأرباب وخالقهم ومالكهم، ناسب هذا التنبيه على ما يجب له تعالى علي خلقه من الإجلال والإعظام، فان آحاد الملوك تمنع مهابته أن يسئل عن فعل فعله، فما ظنك بخالق الملوك وربهم. ثم إن آحاد الملوك يجوز عليهم الخطأ والزلل وقد استقر في العقول أن أفعال الله تعالى كلها مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» قال أحمد: سحقا لها من لفظة ما أسوأ أدبها مع الله تعالى، أعنى قوله:
دواعي الحكمة، فان الدواعي والصوارف إنما تستعمل في حق المحدثين، كقولك: هو مما توفر دواعي الناس إليه أو صوارفهم عنه. وقوله «لا يجوز عليه فعل القبائح» قلت: وهذا من الطراز الأول، ولو أنه في الذيل:
فقد نسيت وما بالعهد من قدم
وبعد ما انقضى دليل التوحيد وإبطال الشرك من سمعك أيها الزمخشري، وقلمك رطب بتقريره، فلم نكصت وانتكست؟ أتقول إن أحدا شريك لله في ملكه يفعل ما يشاء من الأفعال التي تسميها قبائح فتنفيها عن قدرة الله تعالى وإرادته. وما الفرق بين من يشرك لله ملكا من الملائكة، وبين من يشرك نفسه بربه حتى يقول: إنه يفعل ويخلق لنفسه شاء الله أو لم يشأ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. والقدرية ارتضوا لأنفسهم شر شرك، لأن غيرهم أشرك بالملائكة، وهم أشركوا بنفوسهم وبالشياطين والجن وجميع الحيوانات، نعوذ بمالك الملك من مسالك الهلك.
(3) . قوله «ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فهو الفاعل للخير والشر، كما بين في علم التوحيد. (ع)

(3/110)


أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29)

وهم يسئلون أى هم مملوكون مستعبدون خطاءون، فما خلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 24]
أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24)
كرر أم اتخذوا من دونه آلهة استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إما من جهة العقل، وإما من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعو إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه. أى هذا الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد على فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ ذكر من معي وذكر من قبلي بالتنوين. ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون وقرئ من معي ومن قبلي على من الإضافية في هذه القراءة.
وإدخال الجار على «مع» غريب، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف، نحو: قبل، وبعد، وعند، ولدن، وما أشبه ذلك، فدخل عليه «من» كما يدخل على أخواته. وقرئ: ذكر معى وذكر قبلي. كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار. وقرئ «الحق» بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب. والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على هذا المعنى، كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل.

[سورة الأنبياء (21) : آية 25]
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)
يوحى ونوحي: مشهورتان. وهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29]
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29)

(3/111)


نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافى الولادة، إلا أنهم مكرمون مقربون عندي مفضلون «1» على سائر العباد، «2» لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غر منهم من زعم أنهم أولادى، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا. وقرئ مكرمون. ولا يسبقونه بالضم، من: سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى: أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله. والمراد:
بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدمون قوله بقولهم، كما تقول: سبقت بفرسي فرسه، وكما أن قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره: لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم أنهم مع هذا كله من خشية الله مشفقون أى متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة «3» لا يأمنون مكر الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس «4» من خشية «5» الله، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى
__________
(1) . قال محمود: «معناه مكرمون مفضلون على سائر عباد الله» قال أحمد: وهذا التفسير من جعل القرآن تبعا للرأى، فانه لما كان يعتقد تفضيل الملائكة على الرسل نزل الآية على معتقده، وليس غرضنا إلا بيان أنه حمل الآية ما لا تحتمله، وتناول منها ما لا تعطيه، لأنه ادعى أنهم مكرمون على سائر الخلق لا على بعضهم، فدعواه شاملة ودليله مطلق، والله الموفق.
(2) . قوله «مفضلون على سائر العباد» هذا عند المعتزلة، وبعض البشر أفضل منهم عند أهل السنة. (ع) [.....]
(3) . قوله «ورقبة» بالكسر، أى: انتظار. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «كالحلس» بكسر فسكون. أو بفتحتين: كساء رقيق يكون تحت البرذعة أو تحت الرحل. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه ابن خزيمة من رواية مرة عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى- الحديث» قال فوقع جبريل فصار كالحلس الملقى» إسناده قوى. وغلط ابن الجوزي في تضعيفه لمحمد بن ميمون شيخ ابن خزيمة، فانه ثقة- وفي الطبراني الأوسط وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه «مررت في السماء الرابعة بجبريل، وهو كالحلس البالي من خشية الله» إسناده قوى. وروى ابن خزيمة في التوحيد وابن سعد وسعيد بن منصور والبزار والبيهقي في الشعب والدلائل والطبراني في الأوسط، كلهم من رواية أبى قلابة الحارث بن أبى عمران الحوفى عن أنس رفعه «بينما أنا قاعد إذ جاء جبريل. فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطائر فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت بنا فارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفى. ولو شئت أن أمسس لمسست. فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاطئ. فعرفت فضل علمه بالله على. وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم- الحديث» قال البزار: لا نعلم رواه عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد بن سلمة عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد ابن سلمة عن أبى عمران. فقال: عن محمد بن عمير بن عطاء مرسلا كذلك أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حماد.
وفي رواية «فعرفت فضل خشيته على خشيتي» وزاد فيه فأوحى الله إليه أنبيا عبدا أم نبيا ملكا. فاومأ إلى جبريل عليه السلام: بل نبيا عبدا.

(3/112)


أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)

عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية.
فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان «1» ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون، كما قال ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.

[سورة الأنبياء (21) : آية 30]
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)
قرئ «الم تر» بغير واو. ورتقا بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول، كالخلق والنقض، أى: كانتا مرتوقتين. فإن قلت: الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر،؟؟؟
بال الرتق؟ قلت: هو على تقرير موصوف، أى: كانتا شيئا رتقا. ومعنى ذلك: أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرج بينها. وقيل: ففتقناهما بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة، وإنما قيل: كانتا دون كن، لأن المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان، أى: جماعتان، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر. فإن قلت: متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئى المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه وجعلنا لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدى إلى واحد، فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله والله خلق كل دابة من ماء أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى خلق الإنسان من عجل وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى: صيرنا كل شيء حى بسبب من الماء لا بد له منه. و «من» هذا «2» نحو «من» في قوله عليه السلام «3» «ما أنا من
__________
(1) . قوله «إن كان» لعله: إذ كان. (ع)
(2) . قوله «ومن هذا» لعله «ومن هنا» . (ع)
(3) . أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبزار والطبراني من رواية يحيى بن محمد بن قيس عن عمرو بن أبى عمرو عن أنس. زاد البزار قال يحيى: يقول: «لست من الباطل ولا الباطل منى» قال: لا نعلمه إلا عن أنس من هذا الوجه. واستنكره ابن عدى ليحيى بن محمد بن قيس. وقال ابن أبى حاتم: رواه الدراوردي عن عمرو عن المطلب عن معاوية نحوه مرفوعا ونقل عن أبيه وأبى زرعة أن رواية الدراوردي أشبه بالصواب.

(3/113)


وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32)

دد ولا الدد منى» «1» وقرئ: حيا، وهو المفعول الثاني. والظرف لغو.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 31 الى 32]
وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32)
أى كراهة أن تميد بهم وتضطرب. أو لئلا تميد بهم، فحذف «لا» واللام. وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس «2» ، كما تزاد لذلك في نحو قوله لئلا يعلم وهذا مذهب الكوفيين.
الفج: الطريق الواسع. فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى لتسلكوا منها سبلا فجاجا؟ قلت: لم تقدم وهي صفة، ولكن جعلت حالا كقوله:
لعزة موحشا طلل قديم «3»
إن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة.
والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك
__________
(1) . قوله عليه السلام: «ما أنا من دد» في الصحاح: الدد: اللهو واللعب. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه كراهة أن تميد بهم، أو تكون لا محذوفة لأمن الإلباس» قال أحمد: وأولى من هذين الوجهين أن يكون من قولهم: أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه. قال سيبويه: ومعناه أن أدعم الحائط إذا مال. وإنما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه، ولأنه أيضا هو السبب في الادعام، والادعام سبب في إعداد الخشبة، فعامل سبب السبب معاملة السبب. وعليه حمل قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى كذلك ما نحن فيه يكون الأصل: وجعلنا في الأرض رواسى لأجل أن تثبتها إذا مادت بهم «فجعل الميد هو السبب» كما جعل الميل في المثل المذكور سببا، وصار الكلام: وجعلنا في الأرض رواسى أن تميد فنثبتها، ثم حذف قوله «فنثبتها» لأمن الإلباس إيجازا واختصارا، وهذا التقرير أقرب إلى الواقع مما أول الزمخشري الآية عليه، فان مقتضى تأويله أن لا تميد الأرض بأهلها، لأن الله كره ذلك، ومكروه الله تعالى محال أن يقع، كما أن مراده واجب أن يقع، والمشاهد خلاف ذلك، فكم من زلزلة مادت لها الأرض وكادت تقلب عاليها سافلها. وأما على تقريرنا فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد، كما أن قوله أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى لا يأبى وقوع الضلال والنسيان من إحداهما، لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلازل إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى.
(3) .
لعزة موحشا طلل قديم ... عفاه كل أسحم مستديم
لكثير. والطلل: ما شخص من آثار الدار، والصفة إذا تقدمت على موصوفها كانت حالا منه كما هنا، لأن مذهب الكوفيين والأخفش أن «طلل» فاعل الظرف قبله وأن يعتمد. و «موحشا» حال منه مقدمة عليه. ويجوز أنه مبتدأ. وموحشا حال من الضمير المستتر في الظرف. وأجاز سيبويه أنه حال من المبتدإ المؤخر. وعاملها الاستقرار المحذوف، ولا يمتنع عنده اختلاف عامل الحال وعامل صاحبها، خلافا للجمهور. والموحش: الموقع في الوحشة، ضد المؤنس: الموقع في الأنس. ويجوز أن معناه كثير الوحوش. وعفاه: أهلكه. والاسم: صفة السحاب، أى: كل أسود دائم الأمطار. ويروى هكذا
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل
وهي بالكسر:
جمع خلة، وهي بطانة مخططة تغشى بها جفان السيوف، وسيور تلبس ظهور القسي.

(3/114)


وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33) وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35)

بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل «1» ، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة عن آياتها أى عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس «2» والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، وأى جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها، والاعتبار بها، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو عزت قدرته ولطف علمه. وقرئ عن آيتها، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس أى: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية، كالاستضاءة بقمريها، والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها، وهم عن كونها آية بينة على الخالق معرضون.

[سورة الأنبياء (21) : آية 33]
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33)
كل التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أى: كلهم في فلك يسبحون والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة. فإن قلت: الجملة ما محلها؟ قلت: محلها النصب على الحال من الشمس والقمر. فإن قلت: كيف استبد بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت: كما تقول: رأيت زيدا وهندا متبرجة ونحو ذلك، إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل. ومنه قوله تعالى في هذه السورة ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة أو لا محل لها لاستئنافها. فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة، فكيف قيل:
جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم «كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا» أى كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأن الغرض الدلالة على الجنس.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 35]
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35)
كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أى: قضى الله
__________
(1) . قوله «ويتزلزل» لعله: أو يتزلزل. (ع)
(2) . قوله «والعبر بالشمس» لعله «كالشمس ... الخ» كعبارة النسفي. (ع)

(3/115)


وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36)

أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت. فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا «1»
أى نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وإنما سمى ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار. وفتنة مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 36]
وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36)
الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك للرجل:
سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوا فذم «2» . ومنه قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم وقوله أهذا الذي يذكر آلهتكم والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، فهم به كافرون لا يصدقون به أصلا فهم
__________
(1) .
وما أن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
لذي الأصبع العدواني. وقيل: لفروة بن مسبك المرادي. وقيل للفرزدق. والطب- بالكسر-: العادة والعاهة.
وأن زائدة، ويمكن أنها لتوكيد النفي، أى: ليست عادتنا أو علتنا الجبن، ولكن تلك المصيبات منايانا المقدرة لنا أو لكن علتنا منايانا. والدولة: النوبة من النصر، لأنه يتداول بين الجيشين. والشامت: المتشفى من غيظه بما أصاب عدوه. وشبههم بالسكارى على سبيل المكنية لعدم تيقظهم للعواقب، وأمرهم بالافاقة تخبيل، وبين ذلك بقوله: سيلقون من الهزيمة مثل ما لقينا، وتكون الدولة لنا عليهم فليفيقوا من سكرتهم.
(2) . قال محمود: «الذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد بقيد القرينة، فان كان الذاكر صديقا فهم منه الخير، وإن كان عدوا فهم منه الذم» قال أحمد: وكذلك القول. ومنه قول موسى عليه السلام:
أتقولون للحق لما جاءكم معناه أتعيبون الحق لما جاءكم، ثم ابتدأ فقال أسحر هذا وإنما لم يجعله معمولا للقول ومحكيا به، لأنهم قفوا القول بأنه سحر فقالوا إن هذا لسحر مبين ولم يشككوا أنفسهم، ولا استفهموا، وقد مضى فيه غير هذا، وإنما أطلقوا في قولهم أهذا الذي يذكر آلهتكم ولم يقولوا: هذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء، لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم، رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وحاشوها من نقل ذمها مفصلا، فأوموا إليه بالاشارة المذكورة، كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر، فيومى إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض. فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان، وأساؤا الأدب على الرحمن.

(3/116)


خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)

أحق بأن يتخذوا هزؤا منك، فإنك محق وهم مبطلون. وقيل معنى بذكر الرحمن قولهم:
ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقولهم وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وقيل بذكر الرحمن بما أنزل عليك من القرآن. والجملة في موضع الحال، أى: يتخذونك هزؤا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 38]
خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38)
كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار ويقولون متى هذا الوعد فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أو لا ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم. وروى أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام. وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه النضر بن الحرث. والظاهر أن المراد الجنس. وقيل «العجل» : الطين، بلغة حمير. وقال شاعرهم:
والنخل ينبت بين الماء والعجل «1»
والله أعلم بصحته. فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله خلق الإنسان من عجل وقوله وكان الإنسان عجولا أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وقرئ: خلق الإنسان.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 الى 40]
لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)
__________
(1) .
النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
يقول: النبع وهو شجر تتخذ منه القسي، في الصخرة الصماء الصلبة لا في غيرها، منبته أى نباته، والنخل ينبت في الأرض اللينة الريانة، فهو بين الماء والعجل، أى: الطين. وهذه لغة حمير كما قيل. والظاهر أن الشطر الأول التمثيل للصعب البخيل. والثاني للسهل الجواد. ويجوز أن الأول للشجاع. والثاني للجبان لشدة الأول ورخاوة الثاني. [.....]

(3/117)


ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون (41) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43)

جواب لو محذوف. وحين مفعول به ليعلم، أى: لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم متى هذا الوعد وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم. ويجوز أن يكون يعلم متروكا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين.
وحين: منصوب بمضمر، أى حين لا يكفون عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم، أى: لا يكفونها، بل تفجؤهم فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجة: مبهوت. ومنه: فبهت الذي كفر، أى: غلب إبراهيم عليه السلام الكافر. وقرأ الأعمش: يأتيهم. فيبهتهم، على التذكير. والضمير للوعد أو للحين. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت: إلى النار أو إلى الوعد، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة. أو إلى الحين، لأنه في معنى الساعة. أو إلى البغتة. وقيل في القراءة الأولى: الضمير للساعة. وقرأ الأعمش: بغتة، بفتح الغين ولا هم ينظرون تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله، وتفسيح وقت التذكر عليهم، أى: لا يمهلون بعد طول الإمهال.

[سورة الأنبياء (21) : آية 41]
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (41)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.

[سورة الأنبياء (21) : آية 42]
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42)
من الرحمن أى من بأسه وعذابه بل هم معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه.
والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم

[سورة الأنبياء (21) : آية 43]
أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43)
ثم أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» وقال أم لهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز

(3/118)


بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (44) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين (46)

منعنا وحفظنا. ثم استأنف فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد، كيف يمنع غيره وينصره؟

[سورة الأنبياء (21) : آية 44]
بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (44)
ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمد كاذب أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام. فإن قلت: أى فائدة في قوله نأتي الأرض؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 45 الى 46]
قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46)
قرئ ولا يسمع الصم ولا تسمع الصم، بالتاء والياء، أى: لا تسمع أنت الصم، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يسمع الصم، من أسمع. فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل إذا ما ينذرون؟ قلت: اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين، كائنة للعهد لا للجنس. والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا. أى: هم على هذه الصفة من الجرأة والجسارة على التصام من آيات الإنذار ولئن مستهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء، لأذعنوا وذلوا، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا.
وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأن النفح في معنى القلة والنزارة. يقال: نفحته الدابة وهو رمح يسير «1» ، ونفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة.
__________
(1) . قوله «وهو رمح يسير» في الصحاح: رمجه الفرس والبغل والحمار: إذا ضربه برجله. (ع)

(3/119)


ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)

[سورة الأنبياء (21) : آية 47]
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)
وصفت الموازين بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط. أو على حذف المضاف، أى: ذوات القسط. واللام في ليوم القيامة مثلها في قولك: جئته لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
ترسمت آيات لها فعرفتها ... لسنة أعوام وذا العام سابع «1»
وقيل: لأهل يوم القيامة، أى لأجلهم. فإن قلت: ما المراد بوضع الموازين؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: إرصاد الحساب السوى، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرة، فمثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. والثاني: أنه يضع الموازين الحقيقية ويزن بها الأعمال. عن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان. ويروى: أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشى عليه، ثم أفاق فقال: يا إلهى من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود، إنى إذا رضيت عن عبدى ملأتها بتمرة.
فإن قلت: كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: توزن صحائف الأعمال. والثاني: تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وقرئ مثقال حبة على «كان» التامة، كقوله تعالى وإن كان ذو عسرة.
وقرأ ابن عباس ومجاهد: أتينا بها وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء. وقرأ حميد: أثبنا بها، من الثواب. وفي حرف أبى: جئنا بها.
وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، أى: آتيناهما.
__________
(1) .
عفا قسم من فرتنا فالفوارع ... فجنبا أريك فالتلاع الدواقع
توسمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
للنابغة. وعفا: بلى وخلا. وفرتنا اسم محبوبته. وقسم، والفوارع، وأريك: أسماء مواضع. والتلاع: المواضع المرتفعة. والدواقع- بالقاف-: المقفرة كثيرة التراب. ودقع الرجل دقعا، كتعب، إذا التصق بالدقعاء وهي الأرض الكثيرة التراب من شدة فقره. وأما بالفاء فهي التي يدفع فيها السيل بكثرة. وتوسمت بالواو تتبعت سمانها وعلاماتها فعرفتها بها. ويروى بالراء، أى: تتبعت رسومها وآثارها فعرفتها، أى: تلك المواضع السابقة.
وقوله «لستة أعوام» أى مستقبلا تمام ستة أعوام مضت من عهدها، وهذا العام الحاضر الذي نحن فيه هو السابع.
ولو قال: لسبعة أعوام، لأفاد أن السبعة كلها مضت وليس مرادا. فقول بعضهم: إنه كان يكفيه أن يقول:
لسبعة أعوام، فعجز عن إتمامه، وكمله بما لا معنى له، لا وجه له إلا عدم التبصر.

(3/120)


ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50) ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)

[سورة الأنبياء (21) : آية 48]
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48)
الفرقان وهو التوراة وأتينا به ضياء وذكرا للمتقين والمعنى: أنه في نفسه ضياء وذكر. أو وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الفرقان: الفتح، كقوله يوم الفرقان وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد ابن كعب: المخرج من الشبهات. وقرأ ابن عباس: ضياء، بغير واو: وهو حال عن الفرقان.
والذكر: الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم. أو الشرف.

[سورة الأنبياء (21) : آية 49]
الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49)
محل الذين جر على الوصفية. أو نصب على المدح. أو رفع عليه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 50]
وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50)
وهذا ذكر مبارك هو القرآن. وبركته: كثرة منافعه، وغزارة خيره.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 54]
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)
الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح. قال الله تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وقرئ: رشده. والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله.
وأنه رشد له شأن من قبل أى من قبل موسى وهرون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل إذ إما أن يتعلق بآتينا، أو برشده، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. قوله ما هذه التماثيل تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: عليها عاكفون، كقوله تعالى يعكفون على أصنام لهم؟ قلت: لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي «على» .
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن

(3/121)


قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58)

قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأصنام منهم أنتم من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه: اسكن أنت وزوجك الجنة، أراد أن المقلدين والمقلدين جميعا، منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لاستناد الفريقين إلى غير دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، لاستبعادهم أن يكون ما هم عليه ضلالا.

[سورة الأنبياء (21) : آية 55]
قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55)
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجد، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جد وحق، أم لعب وهزل؟

[سورة الأنبياء (21) : آية 56]
قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56)
الضمير في فطرهن للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 57 الى 58]
وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58)
قرأ معاذ بن جبل: بالله. وقرئ: تولوا، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله فتولوا عنه مدبرين.
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: أن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه

(3/122)


قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61)

ولكن:
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا «1»
روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد جذاذا قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: جذذا. جمع جذيذ، وجذذا جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم وعن الكلبي إليه إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها.
أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 59]
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59)
أى أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إما لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإما لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 60 الى 61]
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61)
__________
(1) .
وأعلم علما ليس بالظن أنه ... إذا الله سنى عقد شيء تيسرا
ذكر المصدر توكيدا دافعا للتجوز في الفعل، ثم بين المراد بقوله «ليس بالظن» ويجوز أنه ذكره توطئة لوصفه بأنه غير ظن. وسنيت الشيء: فككته وسهلته. والعقد: مستعار للصعوبة تصريحا، أى: إذا سهل الله صعوبة شيء وأزالها، سهل تحصيله أو دفعه إن كان محبوبا أو مكروها.

(3/123)


قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون (63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64)

فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد سمعنا فتى وأى فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى، إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع، لأنك لا تقول: سمعت زيدا وتسكت، حتى تذكر شيئا مما يسمع. وأما الثاني فليس كذلك. فإن قلت: إبراهيم ما هو؟ قلت: قيل هو خبر مبتدإ محذوف، أو منادى. والصحيح أنه فاعل يقال، لأن المراد الاسم لا المسمى على أعين الناس في محل الحال، بمعنى معاينا مشاهدا، أى: بمرأى منهم ومنظر. فإن قلت: فما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل، أى: يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن فيها ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه لعلهم يشهدون عليه بما سمع منه. وبما فعله أو يحضرون عقوبتنا له. روى أن الخبر بلغ نمروذ وأشراف قومه، فأمروا بإحضاره.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 الى 63]
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (63)
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمى لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة «1» فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمى أو المخرمش، لأن إثباته- والأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشد منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميقع: فعله كبيرهم، يعنى: فلعله، أى فلعل الفاعل كبيرهم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 64]
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64)
__________
(1) . قوله «خرمشة فاسدة» الموجود في الصحاح: الخرش: مثل الخدش. والخراش: سمته. والمخرشة:
خشبة يخط بها الخراز. ولم يوجد فيه «خرمشة» بزيادة الميم. (ع)

(3/124)


ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70)

فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.

[سورة الأنبياء (21) : آية 65]
ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65)
نكسته: قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأن هؤلاء- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة، مضارة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ: نكسوا، بالتشديد.
ونكسوا، على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 67]
قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67)
أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به.
أى: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 68 الى 70]
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (70)
أجمعوا رأيهم- لما غلبوا- بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل

(3/125)


ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71)

عليه السلام يا نار كوني بردا وسلاما ويحكى. ما أحرقت منه إلا وثاقه. وقال له جبريل عليه السلام حين رمى به: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالى علمه بحالي. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنما نجا بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل، وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة، فقال: إنى مقرب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: «لا يعذب بالنار إلا خالقها» «1» ومن ثم قالوا إن كنتم فاعلين أى إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا، فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار، وإلا فرطتم في نصرتها. ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها، ولم يألوا جهدا في ذلك. جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله. والمعنى: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك. كأن ذاتها برد وسلام. والمراد: ابردى فيسلم منك إبراهيم.
أو ابردى بردا غير ضار. وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله على إبراهيم وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوة والجبروت، فنصره وقواه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 71]
ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71)
نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنى والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس «2» . وروى أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة
__________
(1) . وفي أبى داود: «إلا رب النار» .
(2) . قلت: جاء مرفوعا عن أبى بن كعب. أخرجه الطبري عن الحسين عن الفضيل بن موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى بن كعب في قوله «ونجيناه ولوطا- الآية» قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس وأخرجه ابن أبى حاتم عن على بن الحسين بن الجنيد عن أبى عمار أخرجه أيضا من رواية محمد بن سعد بن سابق عن أبى جعفر الرازي عن الربيع عن أبى العالية مقطوعا لم يذكر أبى بن كعب، بلفظ «هي الأرض المقدسة بارك الله فيها للعالمين» ولم يذكر الصخرة. وأخرجه عبد بن حميد عن أبى النضر عن أبى جعفر كذلك. وزاد «لأن كل ماء عذب في الأرض منها يخرج من أصل صخرة بيت المقدس، يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرق في الأرض» وأخرجه أبو سعيد النقاش في فوائده من وجه آخر عن الربيع عن أبى العالية. وأخرجه أبو سعيد عبد بن حميد عن أبى النضر نحوه بتمامه وأخرجه الخطيب أبو بكر محمد بن أحمد ابن محمد المقدسي المعروف بابن الواسطي في كتاب فضل بيت المقدس من طريق آدم ابن أبى إياس عن أبى جعفر الرازي، بلفظ في قوله تعالى إلى الأرض التي باركنا فيها قال: من بركتها أن كل ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس. وأخرج الخطيب المذكور من طريق غالب بن عبد الله عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رفعه «الأنهار كلها والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» وغالب متروك.

(3/126)


ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75) ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)

وبينهما مسيرة يوم وليلة.

[سورة الأنبياء (21) : آية 72]
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72)
النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطى يعقوب نافلة، أى: زيادة وفضلا من غير سؤال.

[سورة الأنبياء (21) : آية 73]
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73)
يهدون بأمرنا فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأول ذلك أن يهتدى بنفسه، لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل فعل الخيرات أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75)
حكما حكمة وهو ما يجب فعله. أو فصلا بين الخصوم. وقيل: هو النبوة. والقرية:
سذوم، أى: في أهل رحمتنا. أو في الجنة. ومنه الحديث «هذه رحمتي أرحم بها من أشاء «1» »

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77]
ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رفعه «تحاجت النار والجنة- الحديث» وفيه فقال للجنة أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي» ولمسلم من حديث أبى سعيد نحوه.

(3/127)


وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)

من قبل من قبل هؤلاء المذكورين.
هو «نصر» الذي مطاوعه «انتصر» وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أى: اجعلهم منتصرين منه. والكرب: الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 80]
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)
أى: واذكرهما. وإذ: بدل منهما. والنفش: الانتشار بالليل. وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. وقرئ: لحكمهما. والضمير في ففهمناها للحكومة أو الفتوى. وقرئ:
فأفهمناها. حكم داود بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة: غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمن، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادان. فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان. وقيل:
اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب. فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت: أما وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجنى عليه، كما قال أبو حنيفة رضى الله عنه في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه. وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع

(3/128)


العبد، فإذا ظهر ترادا، فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد والشافعي رضى الله عنه يوجب الضمان بالليل. وفي قوله ففهمناها سليمان دليل على أن الأصوب كان مع سليمان عليه السلام. وفي قوله وكلا آتينا حكما وعلما دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب يسبحن حال بمعنى مسبحات. أو استئناف، كأن قائلا قال: كيف سخرهن؟
فقال: يسبحن والطير إما معطوف على الجبال، أو مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق. روى أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت. بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى «1» . وجواب آخر: وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله، فلما حملت على التسبيح وصفت به وكنا فاعلين أى قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.
اللبوس: اللباس. قال:
البس لكل حالة لبوسها «2»
والمراد الدرع. قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين لتحصنكم قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس.
__________
(1) . قوله «كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى» هذا عند المعتزلة، بناء على أن كلام الله حادث فلا يقوم بذاته تعالى: أما عند أهل السنة فكلامه تعالى قديم قائم بذاته، ويسمعه موسى عليه السلام بكشف الحجاب عنه. (ع)
(2) .
البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
لبيهس الملقب بنعامة: قتل له سبعة إخوة، فجعل يلبس القميص مكان السراويل وعكسه. وإذا سئل عن ذلك قال:
هذا البيت، حتى إذا أخذت دماء السبعة. واللبوس- بالفتح-: اللباس. وقسمه في الابدال منه إلى النعيم والبؤس لعلاقة السببية. ويجوز أنه على حذف المضاف، أى: لبوس نعيمها أو لبوس بؤسها. ووسط إما للتنويع، ولكن القصة تدل على أن ذات اللباس لم تتغير، فيجوز أن اللبوس اسم مصدر وإن كان استعمال فعول بالفتح في المصدر قليلا. ويجوز أن يروى بالضم، فيكون بمعنى المصدر على الكثير، أى: البس لكل حالة ما يناسبها من اللبس.
إما اللبس المستقيم أو المنعكس. والمأمور باللبس ليس معنا. والبؤس بالهمز: الشدة، قلبت همزته هنا واوا لتناسب القافية. وبين لبوس وبوس: الجناس الناقص.

(3/129)


ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82) وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 81 الى 82]
ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82)
قرئ: الريح. والرياح، بالرفع والنصب فيهما، فالرفع على الابتداء، والنصب على العطف على الجبال. فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ «1» قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال غدوها شهر ورواحها شهر فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم: آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. وقيل كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفا، لهبوبها على حكم إرادته، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا.
أى: يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة، كما قال يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)
أى: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: إنى، بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه والضر- بالفتح-: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت:
يا أمير المؤمنين، مشت جرذان «2» بيتي على العصى! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد وصفت هذه الريح بأنها رخاء وبأنها عاصف فما وجه ذلك؟ قلت: ما هي إلا جمعتهما وكانت في نفسها رخاء طيبة وفي سرعة حركتها كالعاصف» قال أحمد: وهذا كما ورد وصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان، والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين، فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا على هذا التقرير معجزتان والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . قوله «جرذان بيتي» في الصحاح «الجرذ» ضرب من الفأر. والجمع جرذان. (ع)

(3/130)


وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86) وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87)

لأردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. كان أيوب عليه السلام روميا من ولد إسحاق بن يعقوب عليهم السلام، وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله: كان له سبعة بنين وسبع بنات، وله أصناف البهائم، وخمسمائة فدان «1» يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ونخيل، فابتلاه الله بذهاب ولده- انهدم عليهم البيت فهلكوا- وبذهاب ماله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. وعن قتادة: ثلاث عشرة سنة. وعن مقاتل: سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات، وقالت له امرأته يوما:
لو دعوت الله، فقال لها: كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة، فقال: أنا أستحى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا. أى: لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86)
قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود «2» على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

[سورة الأنبياء (21) : آية 87]
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87)
النون الحوت، فأضيف إليه. برم «3» بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت.
ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: مغضبا. قرئ: نقدر. ونقدر، مخففا ومثقلا. ويقدر، بالياء بالتخفيف. ويقدر.
__________
(1) . قوله «وخمسمائة فدان» في الصحاح «الفدن» القصر. والفدان: آلته الثورين للحرث. (ع)
(2) . قوله «والمجدود» في الصحاح «الجد» الحظ والبخت. تقول: جددت يا فلان، أى: صرت ذا جد، فأنت جديد حظيظ، ومجدود محظوظ. (ع)
(3) . قوله «برم بقومه» سئمهم وتبرم بهم. أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(3/131)


فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88) وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)

ويقدر، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا. وفسرت بالتضييق عليه، وبتقدير الله عليه عقوبة.
وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبى الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى وتظنون بالله الظنونا والخطاب للمؤمنين في الظلمات أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات وقوله يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه لا إله إلا أنت أو بمعنى «أى» . عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له «1» » وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 88]
فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88)
ننجي وننجي. ونجى. والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء- فمتعسف بارد التعسف

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90]
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في السبعين من رواية إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده سعد بن أبى وقاص رفعه «دعوة ذى النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فانه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» قال الترمذي، رواه بعضهم عن إبراهيم عن جده، لم يقل عن أبيه اه وله منابع أخرجه الحاكم من رواية كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب عن مصعب بن سعد عن أبيه، بلفظ «ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحدكم كرب أو بلاء فدعا به إلا فرج عنه. قالوا: بلى يا رسول الله.
قال دعوة ذى النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وأخرجه الحاكم أيضا من رواية معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري عن أبى أمامة بن سهيل بن حنيف عن سعد.

(3/132)


والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91) إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)

سأل ربه أن يرزقه ولدا يرثه ولا يدعه وحيدا بلا وارث، ثم رد أمره إلى الله مستسلما فقال وأنت خير الوارثين أى إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالى، فإنك خير وارث. إصلاح زوجه: أن جعلها صالحة للولادة بعد عقرها. وقيل: تحسين خلقها وكانت سيئة الخلق.
الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون. وقرئ رغبا ورهبا بالإسكان، وهو كقوله تعالى يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه. خاشعين قال الحسن: ذللا لأمر الله. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين.
وسئل الأعمش فقال: أما إنى سألت إبراهيم فقال: ألا تدرى؟ قلت: أفدنى. قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه، فلير الله منه خيرا، لعلك ترى أنه أن يأكل خشنا ويلبس خشنا ويطأطئ رأسه.

[سورة الأنبياء (21) : آية 91]
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91)
أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. قال الله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي أى أحييته. وإذا ثبت ذلك كان قوله فنفخنا فيها من روحنا ظاهر الإشكال، لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أى: أحييناه في جوفها «1» . ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان، أى: نفخت في المزمار في بيته. ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. فإن قلت: هلا قيل آيتين كما قال وجعلنا الليل والنهار آيتين؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل.

[سورة الأنبياء (21) : آية 92]
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه وحينئذ يكون معناه فأحيينا مريم ويشكل إذ ذاك. قلت: معناه فنفخنا الروح في عيسى في مريم أى أحييناه في جوفها انتهى كلامه» قال أحمد: وقد اختار الزمخشري في قوله عز وجل إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل أن تكون الضمائر كلها راجعة إلى موسى. أما الأول فلا إشكال فيه، وأما التابوت إذا قذف في اليم وموسى فيه، فقد قذف موسى في اليم. وكذلك الثالث. واختار غيره عود الضميرين الأخيرين إلى التابوت، لأنه فهم من قوله فاقذفيه في اليم أن المراد التابوت. وأما موسى فلم يقذف في اليم. والزمخشري نزل قذف التابوت في اليم وموسى فيه منزلة قذفه في اليم. وفي هذه الآية مصداق لما اختاره، فان الله تعالى نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم منزلة نفخ الروح في مريم، فعبر بما يفهم ظاهر هذا.

(3/133)


وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96)

الأمة: الملة، وهذه إشارة إلى ملة الإسلام، أى: إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها، يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون ونصب الحسن أمتكم على البدل من هذه، ورفع أمة خبرا. وعنه رفعهما جميعا خبرين لهذه. أو نوى للثاني مبتدأ، والخطاب للناس كافة.

[سورة الأنبياء (21) : آية 93]
وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93)
والأصل: وتقطعتم، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 94]
فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94)
الكفران: مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: شكور.
وقد نفى نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه وإنا له كاتبون أى نحن كاتبو ذلك السعى ومثبتوه في صحيفة عمله، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 96]
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96)
استعير الحرام للممتنع وجوده. ومنه قوله عز وجل إن الله حرمهما على الكافرين أى منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم. وقرئ: حرم وحرم، بالفتح والكسر. وحرم وحرم.
ومعنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها. أو قدرنا إهلاكها. ومعنى الرجوع: الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة. ومجاز الآية: أن قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصور أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين يعنى: أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب. وقرئ: إنهم، بالكسر. وحق هذا أن يتم الكلام قبله، فلا بد من تقدير محذوف، كأنه قيل: وحرام على قرية أهلكناها ذاك. وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعى المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك. والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أى: لأنهم لا يرجعون ولا صلة على

(3/134)


واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون (99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100)

الوجه الأول. فإن قلت: بم تعلقت حتى واقعة غاية له، وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام، والكلام المحكى: الجملة من الشرط والجزاء، أعنى: «إذا» وما في حيزها.
حذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج وهو سدهما، كما حذف المضاف إلى القرية وهو أهلها.
وقيل: فتحت كما قيل أهلكناها وقرئ: آجوج. وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال:
الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج وهم راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. الحدب: النشز «1» من الأرض. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: من كل جدث، وهو القبر، الثاء: حجازية، والفاء: تميمية. وقرئ ينسلون بضم السين. ونسل وعسل: أسرع.

[سورة الأنبياء (21) : آية 97]
واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97)
وفإذا هي إذا المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء، كقوله تعالى إذا هم يقنطون فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد. ولو قيل: إذا هي شاخصة.
أو فهي شاخصة، كان سديدا هي ضمير مبهم «2» توضحه الأبصار وتفسره، كما فسر الذين ظلموا وأسروا يا ويلنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا. ويقولون: في موضع الحال من الذين كفروا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون (99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100)
ما تعبدون من دون الله يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدقه ما روى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم
__________
(1) . قوله «النشز من الأرض» في الصحاح «النشز» المكان المرتفع. (ع)
(2) . قوله «هي ضمير مبهم ... الخ» لعله ضمير وأسروا أو لعله واو وأسروا. (ع)

(3/135)


إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101)

إنكم وما تعبدون من دون الله ... الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوه. فقال ابن الزبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم. قال: قد خصمتك ورب الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك «1» . فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ... الآية يعنى عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام. فإن قلت:
لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم. والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب، ولأنهم قدروا، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قلت: إذا عنيت بما تعبدون الأصنام، فما معنى لهم فيها زفير؟ قلت: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن «2» واحد، جاز أن يقال: لهم زفير، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس. والحصب: المحصوب به، أى: يحصب بهم في النار. والحصب: الرمي.
وقرئ بسكون الصاد، وصفا بالمصدر. وقرئ حطب، وحضب، بالضاد متحركا وساكنا.
وعن ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون. ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 101]
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101)
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد. لم أجده هكذا إلا ملفقا فأما صدره ففي الطبراني الصغير في أواخره من حديث ابن عباس قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما قد شدت أقدامها برصاص- الحديث» وأما قوله «وكانت صناديد قريش فقصة أخرى ذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه قال «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في المسجد مع رجال من قريش فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه- فذكر نحو المذكور هنا إلى آخره وفيه «إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين» وروى ابن مردويه والواحدي من طريق أبى رزين عن أبى يحيى عن ابن عباس قال «لما نزلت إنكم وما تعبدون من دون الله ... الآية شق ذلك على قريش وقالوا: يشتم آلهتنا. فجاء ابن الزبعرى. وقال: يا محمد هذا شتم لآلهتنا خاصة، أم لكل من عبد من دون الله؟
قال: لكل من عبد من دون الله. قال. خصمتك ورب الكعبة- فذكر نحوه.
«تنبيهان» أحدهما: اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه القصة لابن الزبعرى «ما أجهلك بلغة قومك. فانى قلت: وما تعبدون. وهي لما لا يعقل. ولم أقل: ومن تعبدون اه.
وهو شيء لا أصل له. ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسند. الثاني قال السهيلي اعتراض ابن الزبعرى غير لازم، لأن الخطاب مخصوص بقريش وما يعبدون من الأصنام. ولذلك أتى بما الواقعة على ما لا يعقل اه. وحديث ابن عباس الذي تقدم ينقض عليه هذا التأويل. فانه صرح بأن المراد كل ما يعبد من دون الله
(2) . قوله «في قرن هو حبل يقرن به البعيران. أفاده الصحاح. (ع)

(3/136)


[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103]
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (102) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (103)
الحسنى الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إما السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة. يروى أن عليا رضى الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه وهو يقول لا يسمعون حسيسها «1» والحسيس: الصوت يحس، والشهوة: طلب النفس اللذة. وقرئ لا يحزنهم من أحزن. والفزع الأكبر قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض وعن الحسن: الانصراف إلى النار.
وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أى تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حل.

[سورة الأنبياء (21) : آية 104]
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104)
العامل في يوم نطوي لا يحزنهم. أو الفزع. أو تتلقاهم. وقرئ: تطوى السماء، على البناء للمفعول السجل بوزن العتل «2» والسجل بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. وقيل السجل ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب- على هذا- اسم الصحيفة المكتوب فيها أول خلق مفعول نعيد الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما. والمعنى: نعيد أول الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء، فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم «3» . فإن قلت: ما بال خلق
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم وابن عدى وابن مردويه والثعلبي من رواية ليث بن أبى سليم عن ابن عم النعمان بن بشير. وكان من سمار على قال: تلا على هذه الآية- فذكره
(2) . قوله «بوزن العتل» العتل: الغليظ الجافي. وقال تعالى عتل بعد ذلك زنيم والعتل أيضا: الرمح الغليظ.
ورجل عتل- بالكسر-: بين العتل، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أول الخلق إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم» قلت: هذا الذي ذكره هاهنا في المعاد قد عاد به إلى الحق ورجع عما قاله في سورة مريم، حيث فسر الاعادة بجمع المتفرق خاصة، إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله إنا كنا فاعلين بالقدرة على الفعل، ولا يلزم على هذا من القدرة على الفعل حصوله، تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك، ولكن إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل بالقدرة: أن الله ذكر ماضيا والاعادة وقوعها مستقبل، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب، ومع ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها، كالماضية في التحقيق، فمن ثم عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه، والله أعلم.

(3/137)


ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)

منكرا؟ قلت: هو كقولك: هو أول رجل جاءني، تريد أول الرجال، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى أول خلق: أول الخلق، بمعنى: أول الخلائق، لأن الخلق مصدر لا يجمع. ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة، أى: نعيد مثل الذي بدأناه نعيده. وأول خلق: ظرف لبدأناه، أى: أول ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى وعدا مصدر مؤكد، لأن قوله نعيده عدة للإعادة إنا كنا فاعلين أى قادرين على أن نفعل ذلك.

[سورة الأنبياء (21) : آية 105]
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105)
عن الشعبي رحمة الله عليه: زبور داود عليه السلام، والذكر: التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والذكر: أم الكتاب، يعنى اللوح، أى: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار، كقوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدسة، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

[سورة الأنبياء (21) : آية 106]
إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106)
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. والبلاغ:
الكفاية وما تبلغ به البغية.

[سورة الأنبياء (21) : آية 107]
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)
أرسل صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينا غديقة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين

(3/138)


قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108) فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون (109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111)

المفجرة في نفسها، نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه، حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث أن عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال.

[سورة الأنبياء (21) : آية 108]
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108)
إنما لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن إنما يوحى إلي مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. وأنما إلهكم إله واحد بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية: وفي قوله فهل أنتم مسلمون أن الوحى الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن تكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى:
أن الذي يوحى إلى، فتكون «ما» موصولة.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 109 الى 111]
فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون (109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111)
آذن: منقول من أذن إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وقول ابن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء «1»
والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك على سواء أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن
__________
(1) .
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
للحارث بن حلزة مطلع معلقته. وأذن الشيء: علمه بحاسة الأذن، وتوسع فيه حتى صار بمعنى مطلق العلم. وآذنه- بالمد-: أعلمه. والبين: مصدر بمعنى البعد والفراق. وتقدم أن «أسماء» من الوسامة أى الحسن. والثاوي: المقيم.
والملل: السآمة. والثواء: الاقامة. يقول: أعلمتتا لفراقها. ورب سقيم يسأم الناس من إقامته، وهي ليست كذلك. وحذف هذا للعلم به من المقام.

(3/139)


قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112)

أحد منهم وكاشف كلهم، وقشر العصا عن لحائها «1» . وما توعدون من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولا بد من أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدرى متى يكون ذلك لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، وما تكتمون في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه.
وما أدرى لعل تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

[سورة الأنبياء (21) : آية 112]
قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112)
قرئ قل وقال، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورب احكم على الاكتفاء بالكسرة. ورب احكم، على الضم. وربى أحكم، على أفعل التفضيل. وربى أحكم:
من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم، كما قال «اشدد وطأتك على مضر» «2» قرئ تصفون بالتاء والياء.
كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وخذلهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ اقترب للناس حسابهم حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبى ذكر اسمه في القرآن» «3» .
__________
(1) . قوله «لحائها» في الصحاح: اللحاء- ممدود- فشر الشجر. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة القنوت في صلاة الصبح.
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب

(3/140)


ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (1)

سورة الحج
مكية، غيرست آيات، وهي: هذان خصمان ... إلى قوله ... إلى صراط الحميد وهي ثمان وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الحج (22) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (1)
الزلزلة: شدة التحريك والإزعاج، وأن يضاعف زليل الأشياء «1» عن مقارها ومراكزها ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله. أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى بل مكر الليل والنهار وهي الزلزلة المذكورة في قوله إذا زلزلت الأرض زلزالها واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن علقمة والشعبي: عند طلوع الشمس من مغربها. أمر بنى آدم بالتقوى، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى، الذي لا يؤمنهم من تلك الأفزاع إلا أن يتردوا به. وروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر «2»
__________
(1) . قوله «وأن يضاعف زليل الأشياء» أى يكرر انحراف الأشياء وتزحزحها عن مواضعها. وفي الصحاح:
تقول زللت يا فلان- بالفتح- تزل زليلا: إذا زل في طين أو منطق. (ع) [.....]
(2) . هكذا ذكره الثعلبي والبغوي. قالا: روى عن عمران بن حصين وأبى سعيد الخدري وغيرهما أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بنى المصطلق إلى آخره» قلت: وهو ملفق من حديثيه المذكورين. وثالثهما ابن عباس فيما رواه ابن إسحاق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في غزوة بنى المصطلق إذ نزل عليه يا أيها الناس اتقوا ربكم- إلى- شديد
فوقف على ناقته، ورفع صوته- الحديث، ورواه الترمذي والنسائي والحاكم من طريق الحسن عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أسفاره وقد تقارب من أصحابه السير ورفع بهاتين صوته يا أيها الناس اتقوا ربكم- إلى قوله: ولكن عذاب الله شديد
فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطى وعرفوا أنه عنده قول يقوله، فلما التفوا حوله قال: أتدرون أى يوم ذلك؟ يوم ينادى آدم- الحديث. وفيه: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: اعلموا وأبشروا- الحديث» وأما آخره فلم أره.

(3/141)


يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (2)

[سورة الحج (22) : آية 2]
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (2)
يوم ترونها
منصوب بتذهل. والضمير للزلزلة. وقرئ: تذهل كل مرضعة، على البناء للمفعول: وتذهل كل مرضعة أى: تذهلها الزلزلة. والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. فإن قلت: لم قيل مرضعة
دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى. والمرضع: التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به «1» فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة عما أرضعت
عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وعن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. قرئ وترى
بالضم من أريتك قائما. أو رؤيتك قائما»
. والناس
منصوب ومرفوع، والنصب ظاهر. ومن رفع جعل الناس اسم ترى، وأنثه على تأويل الجماعة. وقرئ: سكرى.
وبسكرى، وهو نظير: جوعى وعطشى، في جوعان وعطشان. وسكارى وبسكارى، نحو كسالى وعجالى. وعن الأعمش: سكرى، وبسكرى، بالضم، وهو غريب. والمعنى: وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق «3» ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب
__________
(1) . قال محمود: «يقال مرضع على النسب ومرضعة على أصل اسم الفاعل» قال أحمد: والفرق بينهما أن وروده على النسب لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها، ولكن مقتضاه أنه موصوف بها، وعلى غير النسب يلاحظ حدوث الفعل وخروج الصفة عليه، وكذلك هو في الآية لقوله عما أرضعت فأخرج الصفة على الفعل، وألحقه التاء.
(2) . قوله «أو رؤيتك قائما» لعله: أو رؤيت قائما. (ع)
(3) . قال محمود: «وقوله وترى الناس سكارى وما هم بسكارى: أثبت لهم أولا السكر المجازى، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي» قال أحمد: والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء. والسر في تأكيده: التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، والاستدراك بقوله ولكن عذاب الله شديد راجع إلى قوله وما هم بسكارى
وكأنه تعليل لاثبات السكر المجازى، كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى، ونقل عن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه أنه قال: هو الوقت الذي يقول كل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيه «نفسي نفسي» .

(3/142)


ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير (4)

عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وقيل وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. فإن قلت: لم قيل أولا: ترون، ثم قيل: ترى، على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.

[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4]
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير (4)
قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا. وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم ولا يعض فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل ويتبع في ذلك خطوات كل شيطان عات، علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له لم تثمر له ولايته إلا الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء «1» والبدع والحشوية المتلقبين بالإمامة في دين الله إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا، بل هم أشد الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق، حيث دونوا الضلال تدوينا ولقنوه أشياعهم تلقينا، وكأنهم ساطوه بلحومهم «2» ودمائهم، وإياهم عنى من قال:
ويا رب مقفو الخطا بين قومه ... طريق نجاة عندهم مستو نهج
ولو قرءوا في اللوح ما خط فيه من ... بيان اعوجاج في طريقته عجوا «3»
اللهم ثبتنا على المعتقد الصحيح الذي رضيته لملائكتك في سمواتك، وأنبيائك في أرضك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. والكتبة عليه مثل، أى: كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله. وقرئ: أنه، فأنه بالفتح والكسر، فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب، والثاني
__________
(1) . قوله «رؤساء أهل الأهواء» إن كان مراده أهل السنة كما هو عادته في الكتابة من التشنيع عليهم، فينبغي مطالبته بالفرق بينهم وبين المعتزلة، حتى استحقوا التشنيع دونهم. (ع)
(2) . قوله «وكأنهم ساطوه بلحومهم» أى خلطوه. (ع)
(3) . يا: للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف. والمقفو: المتبوع. والخطا: جمع خطوة، مستعارة للأفعال يجامع التبعية في كل، وكذلك الطريق مستعار للقفو من حيث اتباعه فيها ودوامه عليها. مستو: مستقيم. والنهج والمنهج والمنهاج: الطريق الواضح. والاعوجاج مستعار للبس وللكذب. وعجوا: ضجوا وصاحوا.

(3/143)


ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)

عطف عليه. ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو، كأنما «1» كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتبت: إن الله هو الغنى الحميد. أو على تقدير: قيل. أو على أن كتب فيه معنى القول.

[سورة الحج (22) : آية 5]
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)
قرأ الحسن من البعث بالتحريك. ونظيره: الجلب والطرد، في الجلب والطرد، كأنه قيل: إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. والعلقة: قطعة الدم الجامدة.
والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. والمخلقة: المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال:
خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، وإذا كانت ملساة، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم.
وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا ولا تناسب بين الماء والتراب وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاما: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس. وورود الفعل غير معدى إلى المبين: إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ولا يحيط به الوصف وقرأ ابن أبى عبلة: ليبين لكم. ويقر، بالياء. وقرئ: ونقر. ونخرجكم، بالنون والنصب. ويقر، ويخرجكم، ويقر، ويخرجكم: بالنصب والرفع. وعن يعقوب: نقر، بالنون وضم القاف، من قر الماء إذا صبه، فالقراءة بالرفع إخبار بأنه يقر في الأرحام ما نشاء أن يقره من ذلك إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو سنتين، أو أربع، أو كما شاء وقدر.
وما لم يشأ إقراره محته الأرحام أو أسقطته. والقراءة بالنصب: تعليل معطوف على تعليل.
__________
(1) . قوله «هو كأنما» لعله: أى كأنما. (ع)

(3/144)


ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (10)

ومعناه: خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين، أحدهما: أن نبين قدرتنا. والثاني: أن نقر في الأرحام من نقر، حتى يولدوا وينشؤا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم. ويعضد هذه القراءة قوله ثم لتبلغوا أشدكم وحده لأن الغرض الدلالة على الجنس. ويحتمل: نخرج كل واحد منكم طفلا. الأشد: كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدة «1» والقتود والأباطيل وغير ذلك، وكأنها شدة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع. وقرئ: ومنكم من يتوفى، أى يتوفاه الله أرذل العمر الهرم والخرف، حتى يعود كهيئته الأولى في أوان طفولته: ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. بين أنه كما قدر على أن يرقيه في درجات الزيادة حتى يبلغه حد التمام، فهو قادر على أن يحطه حتى ينتهى به إلى الحالة السفلى لكيلا يعلم من بعد علم شيئا أى: ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك: من هذا؟ فتقول:
فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه. وقرأ أبو عمرو: العمر، بسكون الميم. الهامدة: الميتة اليابسة. وهذه دلالة ثانية على البعث، ولظهورها وكونها مشاهدة معاينة، كررها الله في كتابه اهتزت وربت تحركت بالنبات وانتفخت، وقرئ: ربأت، أى ارتفعت. البهيج:
الحسن السار للناظر إليه.

[سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 7]
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7)
أى: ذلك الذي ذكرنا من خلق بنى آدم وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم واللطائف، حاصل بهذا وهو السبب في حصوله، ولولاه لم يتصور كونه، وهو بأن الله هو الحق أى الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد.

[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (10)
__________
(1) . قوله «من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسدة والقتود والأباطيل» الذي في الصحاح «السد» بالفتح: واحد الأسدة وهي العيوب اه وهي مثل العمى والصمم والبكم على غير قياس، وكان قياسه: سدود.
والقتد: خشب الرحل، وجمعه: قتود وأقتاد. والباطل: ضد الحق، والجمع أباطيل على غير قياس كأنهم جمعوا إبطيلا. وفيه أيضا قوله تعالى حتى يبلغ أشده أى قوته وهو واحد جاء على بناء الجمع، مثل «آنك» وهو الأسرب، ولا نظير لهما، ويقال له: جمع لا واحد له من لفظه، مثل: أبابيل، وعباديد، ومذاكير. (ع)

(3/145)


ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11) يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد (12) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13)

عن ابن عباس أنه أبو جهل بن هشام. وقيل: كرر كما كررت سائر الأقاصيص. وقيل:
الأول في المقلدين، وهذا في المقلدين. والمراد بالعلم: العلم الضروري. وبالهدى: الاستدلال والنظر، لأنه يهدى إلى المعرفة. وبالكتاب المنير: الوحى، أى يجادل بظن وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة. وثنى العطف: عبارة عن الكبر والخيلاء، كتصعير الخد ولى الجيد. وقيل: عن الإعراض عن الذكر. وعن الحسن: ثانى عطفه، بفتح العين، أى: مانع تعطفه ليضل تعليل للمجادلة. قرئ بضم الياء وفتحها. فإن قلت: ما كان غرضه من جداله الضلال عن سبيل الله فكيف علل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلت: لما أدى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. وخزيه:
ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل، والسبب فيما منى به من خزى الدنيا وعذاب الآخرة: هو ما قدمت يداه، وعدل الله في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين.

[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11) يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد (12) يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13)
على حرف على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمه قر واطمأن، وإلا فر وطار على وجهه. قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا، وولدت امرأته غلاما سويا، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في دينى هذا إلا خيرا، واطمأن. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا، وانقلب. وعن أبى سعيد الخدري أن رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلنى، فقال «إن الإسلام لا يقال» «1» فنزلت. المصاب بالمحنة بترك التسليم لقضاء الله والخروج إلى ما يسخط الله:
__________
(1) . هكذا ذكره الواحدي في الأسباب، لكن بغير إسناد. فقال: روى عطية عن أبى سعيد، فذكره سواه وأخرجه ابن مردويه من رواية عطية عن أبى سعيد قال «أسلم رجل من اليهود فذهب ماله وولده، وتشاءم بالإسلام- الحديث نحوه» وإسناده ضعيف وأخرج العقيلي من رواية عنبسة بن سعيد عن أبى الزبير عن جابر قال:
«أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهودى فأسلم على يديه، ثم رجع إلى منزله فأصيب في عينه وفي ولده فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أقلنى- الحديث» ولم يذكر فيه نزول الآية. وعنبسة ضعيف جدا.

(3/146)


إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد (14) من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15)

جامع على نفسه محنتين، إحداهما: ذهاب ما أصيب به. والثانية: ذهاب ثواب الصابرين، فهو خسران الدارين. وقرئ: خاسر الدنيا والآخرة بالنصب والرفع، فالنصب على الحال، والرفع على الفاعلية. ووضع الظاهر موضع الضمير، وهو وجه حسن. أو على أنه خبر مبتدإ محذوف. استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا، فطالت وبعدت مسافة ضلالته. فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض.
قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ، حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير أو كرر يدعو، كأنه قال: يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى. وفي حرف عبد الله: من ضره، بغير لام. المولى: الناصر. والعشير: الصاحب، كقوله فبئس القرين.

[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 15]
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد (14) من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ (15)
هذا كلام قد دخله اختصار. والمعنى. إن الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة، فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
ومنه قيل للبهر: القطع «1» . وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على
__________
(1) . قوله «ومنه قيل للبهر القطع» أى تتابع النفس. أفاده الصحاح. (ع)

(3/147)


وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد (16) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد (17) ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)

غيره. أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه. وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء المظلة. وليصعد عليه فليقطع الوحى أو ينزل عليه. وقيل: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره. فنزلت. وقد فسر النصر: بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا.

[سورة الحج (22) : آية 16]
وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد (16)
أى: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات ول أن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون. أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، أنزله كذلك مبينا

[سورة الحج (22) : آية 17]
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد (17)
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد. وقيل: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم. وقيل يفصل بينهم يقضى بينهم، أى بين المؤمنين والكافرين. وأدخلت إن على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التوكيد.
ونحوه قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم «1»

[سورة الحج (22) : آية 18]
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)
__________
(1) . لجرير. وقوله «إن الله سربله» خير إن الأولى، وكررها لتوكيد التوكيد. وسربله: كساه بالملك الشبيه بالسربال. ويروى: سربال ملك به، أى: بذلك اللباس أو الملك، تزجى: أى تساق الخواتيم: جمع خاتم- بالفتح والكسر- والأصل: خواتم، فزيدت الياء. والمراد بها: عواقب الأمور الحميدة. وقال أبو حيان: يحتمل أن خبر إن قوله «به تزجى» وجملة «إن الله سربله» اعتراضية. ويروى: «به ترجى» بالراء، وليحرر.

(3/148)


هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديد (21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22)

سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الذي كل خضوع دونه، فإن قلت: فما تصنع بقوله وكثير من الناس وبما فيه من الاعتراضين، أحدهما:
أن السجود على المعنى الذي فسرته به، لا يسجده بعض الناس دون بعض. والثاني: أن السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة؟ قلت: لا أنظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله يسجد أى ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة.
ولم أقل: أفسر يسجد الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء، لأن اللفظ الواحد لا يصح استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو مثاب، لأن خبر مقابله يدل عليه، وهو قوله حق عليه العذاب ويجوز أن يجعل من الناس خبرا له، أى: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف كثير على كثير، ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب، كأنه قيل: وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وقرئ: حق، بالضم. وقرئ: حقا، أى حق عليهم العذاب حقا. ومن أهانه الله- بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه- فقد بقي مهانا «1» ، لن تجد له مكرما. وقرئ: مكرم، بفتح الراء بمعنى الإكرام.
إنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين.

[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 22]
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديد (21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22)
الخصم: صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان وقوله هذان للفظ. واختصموا للمعنى، كقوله ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا
__________
(1) . قوله «من كفره أو فسقه فقد بقي مهانا» مبنى على أن الفاسق واسطة بين المؤمن والكافر، وأنه يخلد في النار كالكافر، وهو مذهب المعتزلة. والحق عند أهل السنة أنه مؤمن، وإن دخل النار مخرج منها بالشفاعة أو بمجرد فضله تعالى. (ع)

(3/149)


إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)

ولو قيل: هؤلاء خصمان. أو اختصما: جاز. يراد المؤمنون والكافرون. قال ابن عباس:
رجع إلى أهل الأديان الستة في ربهم أى في دينه وصفاته. وروى أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم فالذين كفروا هو فصل الخصومة المعنى بقوله تعالى إن الله يفصل بينهم يوم القيامة وفي رواية عن الكسائي: خصمان، بالكسر، وقرئ:
قطعت بالتخفيف، كأن الله تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كل واحد منهم تلك النيران كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. ونحوه سرابيلهم من قطران. الحميم الماء الحار. عن ابن عباس رضى الله عنه: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها يصهر يذاب. وعن الحسن بتشديد الهاء للمبالغة، أى: إذا صب الحميم على رؤسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر، فيذيب أحشاءهم وأمعاءهم كما يذيب جلودهم، وهو أبلغ من قوله وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم والمقامع: السياط. في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها «1» » ، وقرأ الأعمش: ردوا فيها. والإعادة والرد لا يكون إلا بعد الخروج، فالمعنى:
كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج: ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق والحريق: الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك.

[سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 25]
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)
يحلون عن ابن عباس: من حليت المرأة فهي حال «2» ولؤلؤا بالنصب على:
__________
(1) . وهو عند أحمد وأبى يعلى من رواية ابن لهيعة عن دراج. لفظه في قوله ولهم مقامع من حديد:
لو وضع مقمع منها في الأرض ... الحديث. [.....]
(2) . قوله «من حليت المرأة فهي حال» الذي في الصحاح: حليت المرأة، أى: صارت ذات حلى، فهي حلية وحالية. (ع)

(3/150)


ويؤتون لؤلؤا، كقوله: وحورا عينا. ولؤلوا بقلب الهمزة الثانية واوا. ولوليا، بقلبهما واوين، ثم بقلب الثانية ياء كأدل. ولول كأدل فيمن جر. ولولؤ. وليليا، بقلبهما ياءين، عن ابن عباس: وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهداهم إلى طريق الجنة. يقال: فلان يحسن إلى الفقراء وينعش المضطهدين، لا يراد حال ولا استقبال، وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه والنعشة في جميع أزمنته وأوقاته. ومنه قوله تعالى ويصدون عن سبيل الله أى الصدود منهم مستمر دائم للناس أى الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وتانئ «1» وطارئ ومكي وآفاقى. وقد استشهد به أصحاب أبى حنيفة قائلين: إن المراد بالمسجد الحرام: مكة، على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها.
وعند الشافعي: لا يمتنع ذلك. وقد حاور إسحاق بن راهويه فاحتج بقوله الذين أخرجوا من ديارهم وقال أنسب الديار إلى مالكيها، أو غير مالكيها؟ واشترى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه دار السجن من مالكيه أو غير مالكيه؟ سواء بالنصب: قراءة حفص. والباقون على الرفع. ووجه النصب أنه ثانى مفعولي جعلناه، أى: جعلناه مستويا العاكف فيه والباد وفي القراءة بالرفع. الجملة مفعول ثان. الإلحاد: العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. وقوله بإلحاد بظلم حالان مترادفتان. ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول، كأنه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب أليم يعنى أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده. وقيل: الإلحاد في الحرم:
منع الناس عن عمارته وعن سعيد بن جبير: الاحتكار. وعن عطاء: قول الرجل في المبايعة «لا والله، وبلى والله» وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان، أحدهما: في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، «2» فقيل له، فقال، كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا والله، وبلى والله. وقرئ: يرد، بفتح الياء من الورود. ومعناه:
من أتى فيه بإلحاد ظالما. وعن الحسن: ومن يرد إلحاده بظلم، أراد: إلحادا فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف، كمكر الليل. ومعناه: من يرد أن يلحد فيه ظالما. وخبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك. عن ابن مسعود: الهمة في الحرم تكتب ذنبا.
__________
(1) . قوله «وتانئ» في الصحاح: تنأت بالبلد تنوءا: قطنته. والناتئ من ذلك. (ع)
(2) . أخرجه الطبري والأزرقى في تاريخ مكة من رواية شعبة عن منصور عن مجاهد قال «كان لعبد الله بن عمرو ابن العاص ... فذكره» .
«تنبيه» ما في نسخ الكشاف «ابن عمر» تصحيف، وإنما هو «ابن عمرو» .

(3/151)


وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28)

[سورة الحج (22) : آية 26]
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26)
واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أى: مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة.
رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج: كنست ما حوله، فبناه على أسه القديم. وأن هي المفسرة. فإن قلت: كيف يكون النهى عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم قلنا له: لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي من الأصنام والأوثان «1» والأقذار أن تطرح حوله. وقرئ: يشرك، بالياء على الغيبة.

[سورة الحج (22) : آية 27]
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27)
وأذن في الناس ناد فيهم. وقرأ ابن محيصن: وآذن. والنداء بالحج: أن يقول: حجوا، أو عليكم بالحج. وروى أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت «2» ربكم. وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع «3» رجالا مشاة جمع راجل، كقائم وقيام. وقرئ: رجالا، بضم الراء مخفف الجيم ومثقله، ورجالي كعجالى عن ابن عباس وعلى كل ضامر حال معطوفة على حال، كأنه قال: رجالا وركبانا يأتين صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع. وقرئ: يأتون، صفة للرجال والركبان.
والعميق: البعيد، وقرأ ابن مسعود: معيق. يقال: بئر بعيدة العمق والمعق «4» .

[سورة الحج (22) : آية 28]
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28)
نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. وعن أبى حنيفة رحمه الله: أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضل
__________
(1) . قوله «والأوثان» في الصحاح «الوثن» : الصنم. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الحسن فذكره. وسنده إليه في أول الكتاب.
(3) . أخرجه الطبري عن ابن عباس، بلفظ «قام عند الحجر» وفي رواية «عند مقامه. وقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابوه لبيك اللهم لبيك»
(4) . قوله «بعيدة العمق والمعق» في الصحاح «المعق» : قلب العمق، والامعاق: مثل الاعماق، وهو ما بعد من أطراف المفاوز. (ع)

(3/152)


ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)

الحج على العبادات كلها، لما شاهد من تلك الخصائص. وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله، لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسينا بينا: أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله، وقوله: على ما رزقهم ولو قيل: لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام، لم تر شيئا من ذلك الحسن والروعة. الأيام المعلومات: أيام العشر عند أبى حنيفة، وهو قول الحسن وقتادة. وعند صاحبيه: أيام النحر. البهيمة: مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام: وهي الإبل والبقر والضأن والمعز. الأمر بالأكل منها أمر إباحة، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم ومن استعمال التواضع. ومن ثمة استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث. وعن ابن مسعود أنه بعث بهدى وقال فيه: إذا نحرته فكل وتصدق وابعث منه إلى عتبة، يعنى ابنه «1» . وفي الحديث «2» : «كلوا وادخروا وائتجروا» «3» البائس الذي أصابه بؤس أى شدة: والفقير الذي أضعفه الإعسار.

[سورة الحج (22) : آية 29]
ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)
قضاء التفث: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، والتفث: الوسخ، فالمراد قضاء إزالة التفث. وقرئ: وليوفوا، بتشديد الفاء نذورهم مواجب حجهم، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم وليطوفوا طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج، ويقع به تمام التحلل. وقيل: طواف الصدر، وهو طواف الوداع العتيق القديم، لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وعن قتادة: أعتق من الجبابرة، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله. وعن مجاهد: لم يملك قط. وعنه: أعتق من الغرق. وقيل:
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية حبيب بن أبى ثابت عن إبراهيم عن علقمة- أن عبد الله بعث معه بهدى. فقال:
كل أنت وأصحابك ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أخى عتبة بثلث «تنبيه» وقع في نسخ الكشاف يعنى ابنه وهو تحريف وإنما هو أخوه.
(2) . أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وإسحاق من رواية خالد الحذاء عن أبى المليح عن عتبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا كنا نهيناكم عن لحوم الأضاحى ألا تأكلوها فوق ثلاث لكي يسعكم.
وقد جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا وائتجروا: لفظ أبى داود. وليس عند مسلم والنسائي وابن ماجة «وائتجروا» والنسائي في رواية «وتصدقوا» وله شاهد عن أبى سعيد الخدري عن أحمد «فائدة» قال في النهاية: ائتجروا أى تصدقوا طالبين للأجر. وليس هو اتجر بالإدغام من التجارة وأجاز الهروي الإدغام واستدل عليه بقوله «من يتجر مع هذا فيصلى معه» ولا دلالة فيه لأنه يحتمل أن يكون من التجارة.
(3) . قوله «وائتجروا» الظاهر أن المراد: اطلبوا الأجر بالصدقة. (ع)

(3/153)


ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31)

بيت كريم، من قولهم: عتاق الخيل والطير. فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع. قلت:
ما قصد التسلط على البيت، وإنما تحصن به ابن الزبير، فاحتال لإخراجه ثم بناه. ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل.

[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31]
ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31)
ذلك خبر مبتدإ محذوف، أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا. والحرمة: ما لا يحل هتكه. وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل فهو خير له أى فالتعظيم خير له. ومعنى التعظيم: العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها. المتلو لا يستثنى من الأنعام، ولكن المعنى إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه، وذلك قوله في سورة المائدة حرمت عليكم الميتة والدم والمعنى: أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده، وإياكم أن تحرموا مما أحل شيئا، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك، وأن تحلوا مما حرم الله، كاحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
لما حث على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها «1» أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله ونفى الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وأسبقها خطوا. وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد، وذلك أن الشرك من باب الزور لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة، فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئا منه لتماديه في القبح والسماجة. وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعنى: أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب من الأوثان
__________
(1) . قوله «وأحمد من يعظمها» في الصحاح «أحمدته» : وجدته محمودا موافقا مرضيا. (ع)

(3/154)


بيان للرجس وتمييز له، كقولك: عندي عشرون من الدراهم، لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء، كأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والزور من الزور والازورار وهو الانحراف، كما أن الإفك من أفكه إذا صرفه. وقيل قول الزور قولهم: هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل: شهادة الزور. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1» وتلا هذه الاية.
وقيل: الكذب والبهتان. وقيل: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعا «2» في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح «3» البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادى الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة «4» .
__________
(1) . أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من رواية سفيان بن زياد العصفري عن أبيه عن حبيب ابن النعمان عن حريم بن فاتك. وأخرجه الترمذي من رواية العصفري عن فاتك بن فضالة عن أنس بن حريم كذا قال.
(2) . قوله «مزعا» مفرده «مزعة» بالضم. أى: قطعة لحم كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «والمطاوح» أى المقاذف. وطاح يطوح ويطيح: هلك وسقط. وطوحته الطوائح: قذفته القواذف، كذا في الصحاح أيضا. (ع) [.....]
(4) . قال محمود: «ويجوز في هذا التشبيه أن يكون مركبا ومفرقا، فان كان مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء والذي ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادى الضلالة بالريح تهوى بما عصفت به في بعض المهاوى المتلفة» قال أحمد: أما على تقدير أن يكون مفرقا، فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوى من السماء إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الاشراك المراد ردته، فانه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده. وإما أن يكون الاشراك أصليا، فيكون قد عد تمكن المشرك من الايمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولكن كانوا متمكنين منه. وقد مضى تقرير هذا المعنى بأبسط من هذا. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوى مع الريح في مكان سحيق: نظر، لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار. والثاني مثلا لنزغ الشيطان: فقد جعلهما شيئا واحدا، لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك، فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادى على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمباشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج لضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه. ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الأخباء عن السماء: وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى أولئك في ضلال بعيد ضلوا ضلالا بعيدا أى صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق، فهذا تحقيق القسمين، والله أعلم.

(3/155)


ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33)

وقرئ: فتخطفه. بكسر الخاء والطاء. وبكسر التاء مع كسرهما، وهي قراءة الحسن. وأصلها:
تختطفه. وقرئ: الرياح.

[سورة الحج (22) : الآيات 32 الى 33]
ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33)
تعظيم الشعائر- وهي الهدايا، لأنها من معالم الحج-: أن يختارها عظام الأجرام حسانا سماتا غالية الأتمان، ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يغالون في ثلاث- ويكرهون المكاس فيهن-: الهدى، والأضحية، والرقبة. وروى ابن عمر عن أبيه رضى الله عنهما أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا.
فنهاه عن ذلك وقال: «بل أهدها «1» » وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فيها جمل لأبى جهل في أنفه برة من ذهب «2» . وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطى «3» فيتصدق بلحومها وبجلالها «4» ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه فإنها من تقوى القلوب أى فإن تعظيمها من أفعال ذوى تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء
__________
(1) . تقدم الكلام عليه في أثناء سورة البقرة.
(2) . أخرجه إسحاق والبزار من حديث على. وفي الباب عن جابر قال كان جميع ما جاء به مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من فضة أخرجه الحاكم والطبراني من رواية زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه قال البخاري هذا خطأ من زيد. وإنما هو عن الثوري عن أبى إسحاق عن مجاهد مرسلا. وقد جاء عن مجاهد عن ابن عباس قال «أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هداياه جملا كان لأبى جهل في رأسه برة من ذهب ليغيظ به المشركين» أخرجه أبو داود والحاكم وأبو يعلى والطبراني.
(3) . قوله «مجللة بالقباطى» في الصحاح: القبط أهل مصر. والقبطية: ثياب بيض رقاق من كنان تتخذ بمصر والجمع قباطي. (ع)
(4) . أخرجه مالك في الموطأ عن نافع عنه بهذا وأتم منه. ورواه ابن أبى شيبة من طريق فليح عن نافع نحوه.

(3/156)


ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35) والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36)

إلى من ليرتبط به، وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت، ظهر أثرها في سائر الأعضاء. إلى أجل مسمى إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
وثم للتراخي في الوقت، فاستعيرت للتراخي في الأحوال. والمعنى: أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وإنما يعتد الله بالمنافع الدينية، قال سبحانه تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع: محلها إلى البيت أى وجوب نحرها. أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهية إلى البيت، كقوله هديا بالغ الكعبة والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت، لأن الحرم هو حريم البيت. ومثل هذا في الاتساع قولك: بلغنا البلد، وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده. وقيل: المراد بالشعائر: المناسك كلها، ومحلها إلى البيت العتيق يأباه.

[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35]
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35)
شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له: أى يذبحوا لوجهه على وجه التقرب، وجعل العلة في ذلك أيذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك: وقرئ منسكا بفتح السين وكسرها، وهو مصدر بمعنى النسك، والمكسور يكون بمعنى الموضع فله أسلموا أى أخلصوا له الذكر خاصة، واجعلوه لوجهه سالما، أى: خالصا لا تشوبوه بإشراك.
المخبتون: المتواضعون الخاشعون، من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقرأ الحسن والمقيمي الصلاة بالنصب على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود: والمقيمين الصلاة، على الأصل.

[سورة الحج (22) : آية 36]
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36)
البدن جمع بدنة، سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3/157)


ألحق البقر بالإبل حين قال: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» «1» ، فجعل البقر في حكم الإبل، صارت البدنة في الشريعة متناولة للجنسين عند أبى حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل وعليه تدل الآية، وقرأ الحسن: والبدن، بضمتين، كثمر في جمع ثمرة. وابن أبى إسحاق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف. وقرئ بالنصب والرفع كقوله والقمر قدرناه.
من شعائر الله أى من أعلام الشريعة التي شرعها الله. وإضافتها إلى اسمه: تعظيم لها لكم فيها خير كقوله لكم فيها منافع ومن شأن الحاج أن يحرص على شيء فيه خير ومنافع بشهادة الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير، فاشترى بها بدنة، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت ربى يقول لكم فيها خير وعن ابن عباس: دنيا وآخرة. وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. وذكر اسم الله: أن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك صواف قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. وقرئ: صوافن، من صفون الفرس، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه، لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. وقرئ: صوافي، أى:
خوالص لوجه الله. وعن عمرو بن عبيد: صوافنا، بالتنوين عوضا من حرف الإطلاق عند الوقف. وعن بعضهم: صواف «2» نحو مثل العرب. أعط القوس باريها، بسكون الياء.
وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض، من وجب الحائط وجبة إذا سقط. ووجبت الشمس جبة: غربت. والمعنى: فإذا وجبت جنوبها وسكنت نسائسها «3» حل لكم الأكل منها والإطعام القانع السائل، من قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا والمعتر المعترض بغير سؤال، أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال، من قنعت قنعا وقناعة.
والمعتر: المعترض بسؤال. وقرأ الحسن: والمعترى. وعره وعراه واعتراه واعتره: بمعنى.
وقرأ أبو رجاء: القنع، وهو الراضي لا غير. يقال: قنع فهو قنع وقانع.
من الله على عباده واستحمد إليهم بأن سخر لهم البدن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا، يأخذونها منقادة للأخذ طيعة فيعقلونها ويحبسونها صافة قوائمها، ثم يطعنون في لبانها. ولولا تسخير الله لم
__________
(1) . لم أره مرفوعا من لفظه. نعم أخرجه أبو داود بلفظ «الجزور عن سبعة» وأخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية مالك عن أبى الزبير عن جابر قال «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وفي الباب عن ابن مسعود عند الطبراني.
(2) . قوله «صواف» لعله: صوافي، بالسكون. (ع)
(3) . قوله «وسكنت نسائسها» في الصحاح «النسيسة، والنسيس» الإيكال بين الناس. والنسائس: النمائم.
والنسيس: بقية الروح. وفيه أيضا «الإيكال بين الناس» السعى بينهم. (ع)

(3/158)


لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين (37) إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور (38) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)

تطق، ولم نكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة.

[سورة الحج (22) : آية 37]
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين (37)
أى: لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى: لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص والاحتفاظ بشروط التقوى في حل ما قرب به، وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع. فإذا لم يراعوا ذلك، لم تغن عنهم التضحية والتقريب وإن كثر ذلك منهم. وقرئ:
لن تنال الله. ولكن تناله: بالتاء والياء. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت.
كرر تذكير النعمة بالتسخير ثم قال: لتشكروا الله على هدايته إياكم لأعلام دينه ومناسك حجه، بأن تكبروا وتهللوا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر، وعدى تعديته.

[سورة الحج (22) : آية 38]
إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور (38)
خص المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا وقال إنهم لهم المنصورون وقال وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها «1» . ومن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه، لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.

[سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 41]
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)
__________
(1) . قوله «ويغمطونها» أى: يحقرونها. (ع)

(3/159)


أذن ويقاتلون قرئا على لفظ المبنى للفاعل والمفعول جميعا: والمعنى: أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه بأنهم ظلموا أى بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم:
اصبروا فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين «1» آية. وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. والأخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر واردة على سنن كلام الجبابرة، وما مر من دفعه عن الذين آمنوا مؤذن بمثل هذه العدة أيضا أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق أى بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله.
دفع الله بعض الناس ببعض: إظهاره وتسليطه المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين. وقرئ: دفاع. ولهدمت: بالتخفيف. وسميت الكنيسة «صلاة» لأنه يصلى فيها. وقيل: هي كلمة معربة، أصلها بالعبرانية: صلوثا من ينصره أى ينصر دينه وأولياءه: هو إخبار من الله عز وجل بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضى الله عنهم إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين. وعن عثمان رضى الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء. يريد: أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا.
وقالوا: فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين، لأن الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة
__________
(1) . لم أجده هكذا. وعزاه الواحدي في الوسيط للمفسرين. قلت: هو منتزع من أحاديث: أقربها ما أخرجه ابن أبى حاتم من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وذلك أن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم بمكة. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنزل الله عليه أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وذكر الطبري أن الصحابة رضى الله عنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذا رأوهم وسطوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة وسرا:
فأنزل الله إن الله لا يحب كل خوان كفور فلما هاجروهم أحلوهم مالهم وقتالهم فقال أذن للذين يقاتلون- الآية.

(3/160)


وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود (42) وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44) فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45)

العادلة غيرهم من المهاجرين، لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء. وعن الحسن: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل الذين منصوب بدل من قوله من ينصره. والظاهر أنه مجرور، تابع للذين أخرجوا ولله عاقبة الأمور أى مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.

[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 44]
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود (42) وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44)
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له: لست بأوحدى في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة. فإن قلت: لم قيل وكذب موسى ولم يقل: وقوم موسى؟ قلت: لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر، كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته «1» وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره.
النكير: بمعنى الإنكار والتغيير، حيث أبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا.

[سورة الحج (22) : آية 45]
فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45)
كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو «عرش» والخاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من خوى المنزل إذا خلا من أهله. وخوى بطن الحامل وقوله على عروشها لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أى خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها. وإما أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل: هي خالية، وهي على عروشها
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم قيل وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى بدون تكرير التكذيب؟ قلت: لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل ولم يكذبوه، وإنما كذبه القبط. أو لأن آيات موسى كانت باهرة ظاهرة فكأنه قال:
وكذب موسى أيضا على ظهور آياته» قال أحمد: ويحتمل عندي- والله أعلم- أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام، حسن تكريره ليلى قوله فأمليت للكافرين فيتصل المسبب بالسبب، كما قال في آية ق بعد تعديدهم كل كذب الرسل فحق وعيد فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب، بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.

(3/161)


أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)

أى قائمة مطلة على عروشها، على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان ماثلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب أعنى وهي ظالمة، فهي خاوية؟ قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن: معطلة، من أعطله بمعنى عطله. ومعنى المعطلة: أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أى: تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان. والمعنى: كم قرية أهلكنا؟ وكم بئر عطلنا عن سقاتها؟ وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وفي هذا دليل على أن على عروشها بمعنى «مع» أوجه. روى أن هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به. ونجاهم الله من العذاب، وهي بحضر موت. وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها «حاضوراء» بناها قوم صالح، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله إليهم حنظلة ابن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم.

[سورة الحج (22) : آية 46]
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)
يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا. وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ فتكون لهم قلوب بالياء، أى: يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحى فإنها الضمير ضمير الشأن والقصة، يجيء مذكرا ومؤنثا وفي قراءة ابن مسعود: فإنه. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الأبصار وفي تعمى ضمير راجع إليه. والمعنى: أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وإنما العمى بقلوبهم. أولا يعتد بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت: أى فائدة في ذكر الصدور؟
قلت: الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك «الذي بين فكيك» تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة

(3/162)


ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (47) وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (48) قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين (49) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم (51)

ولا سهوا منى، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.

[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 48]
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (47) وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (48)
أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل أو الآجل، كأنه قال: ولم يستعجلون به؟ كأنهم يجوزون الفوت، وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف، والله عز وعلا لا يخلف الميعاد وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين، وهو سبحانه حليم لا يعجل، ومن حلمه ووقاره واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة «1» عندكم. وقيل: معناه كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم، لأن أيام الشدائد مستطالة. أو كأن ذلك اليوم الواحد لشدة عذابه كألف سنة من سنى العذاب. وقيل: ولن يخلف الله وعده في النظرة والإمهال. وقرئ: تعدون، بالتاء والياء، ثم قال: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع إلى وإلى حكمى. فإن قلت: لم كانت الأولى معطوفة بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت: الأولى وقعت بدلا عن قوله فكيف كان نكير وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعنى قوله ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة.

[سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين (49) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم (51)
يقال: سعيت في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه. وعاجزه: سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها، حيث سموها: سحرا وشعرا وأساطير، ومن تثبيط الناس
__________
(1) . قال محمود: «فيه إيذان بحلم الله تعالى ووقاره واستقصاره الأمد الطويل حتى إن يوما واحدا عنده كألف سنة» قال أحمد: الوقار المقرون بالحلم يفهم لغة: السكون وطمأنينة الأعضاء عند المزعجات والأناة والتؤدة، ونحو ذلك مما لا يطلق على الله تعالى إلا بتوقيف. وأما الوقار في قوله تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا فقد فسر بالعظمة فليس من هذا، وعلى الجملة فهو موقوف على ثبت في النقل.

(3/163)


وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)

عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. فإن قلت: كأن القياس أن يقال: إنما أنا لكم بشير ونذير، لذكر الفريقين بعده. قلت: الحديث مسوق إلى المشركين. ويا أيها الناس: نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم أفلم يسيروا في الأرض ووصفوا بالاستعجال. وإنما أفحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا.

[سورة الحج (22) : آية 52]
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (52)
من رسول ولا نبي دليل بين على تغاير الرسول والنبي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قيل فكم الرسول منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» «1» . والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء: من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه. والنبى غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعرض عنه قومه وشاقوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به: تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «والنجم» وهو في نادى قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله ومناة الثالثة الأخرى
: ألقى الشيطان في أمنيته التي تمناها، أى: وسوس إليه بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال:
تلك الغرانيق «2» العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وروى: الغرانقة، ولم يفطن له حتى أدركته
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق من رواية معاذ بن رفاعة عن على بن زيد عن القاسم عن أبى أمامة «أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم الأنبياء؟ فقال: مثله. وعلى ضعيف. ورواه ابن حبان من طريق إبراهيم بن هشام الغساني حدثنا أبى عن حذيفة. يعنى يحيى الغساني عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذر- فذكره في حديث طويل جدا.
وأفرط ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام المذكور. ولم يصب في ذلك: فإنها طريقا أخرجها الحاكم وغيره من رواية يحيى بن سعيد السعيدي عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبى ذر بطوله. ويحيى السعيدي ضعيف. ولكن لا يأتى الحكم بالوضع مع هذه المتابعة.
(2) . أخرجه البزار والطبري والطبراني وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد ابن جبير قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فجرى على لسانه: تلك الغرانيق العلا، الشفاعة منها ترتجى، قال: فسمع بذلك مشركو مكة، فسروا بذلك. فاشتبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى- الآية» زاد في رواية ابن مردويه: فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون» ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه ابن مردويه من طريق أبى عاصم النبيل عن عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه. ولم يشك في وصله، وهذا أصح طرف هذا الحديث. قال البزار: تفرد بوصله أمية بن خالد عن شعبة، وغيره يرويه عنه مرسلا. وأخرجه الطبري وابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وهو من طريق العوفى عن جده عطية عنه، وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي، ومن طريق قتادة، ومن طريق أبى العالية. فهذه مراسيل يقوى بعضها بعضا. وأصل القصة في الصحيح بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة- فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس» قال البزار:
المعروف في هذا رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجها ابن مردويه من طريقه. وأخرجه الواقدي من طريق أخرى. قلت: وفي مجموع ذلك رد على عياض حيث قال: إن من ذكر من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب إلا رواية البزار. وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى ما ذكره وفيه ما فيه مع وقوع الشك. قلت: أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلا. فان الجميع ثقات وأما الشك فيه فقد يجيء تأثيره ولو فردا غريبا لكن غايته أنه يصير مرسلا، إنما هو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، أما هو حجة إذا اعتضد عند من يرد المرسل إنما يعتضد بكثرة المتابعات. تبع ثقة رجالها. وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الضعيفة الواهية في الرواية القوية. فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة أى يعتمد على الرواية المتابعة وليس فيها ولا فيما تابعها اضطراب والاضطراب في غيرها. فيكفى لأنه ضعيف برواية الكلبي، ويكفى ما عداها، وأما طعنه فيه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين. [.....]

(3/164)


ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)

العصمة فتنبه عليه. وقيل: نبهه جبريل عليه السلام. أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء، زاد المنافقون به شكا وظلمة، والمؤمنون نورا وإيقانا. والمعنى: أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت، مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى في أمنيتك، إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن، ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. وقيل تمنى: قرأ. وأنشد:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل «1»
وأمنيته: قراءته. وقيل: تلك الغرانيق: إشارة إلى الملائكة، أى: هم الشفعاء لا الأصنام فينسخ الله ما يلقي الشيطان أى يذهب به ويبطله ثم يحكم الله آياته أى يثبتها.

[سورة الحج (22) : الآيات 53 الى 54]
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد (53) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 157 فراجعه إن شئت اه مصححه،

(3/165)


ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55) الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين (57) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم (59)

والذين في قلوبهم مرض المنافقون والشاكون والقاسية قلوبهم المشركون المكذبون وإن الظالمين يريد: وإن هؤلاء المنافقين والمشركين. وأصله: وإنهم، فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم أنه الحق من ربك أى ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء: هو الحق من ربك والحكمة وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة والقوانين الممهدة، حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ولا تزل أقدامهم. وقرئ: لهاد الذين آمنوا، بالتنوين.

[سورة الحج (22) : آية 55]
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55)
الضمير في مرية منه للقرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. اليوم العقيم: يوم بدر، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز. وقيل:
هو الذي لا خير فيه. يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا. وقيل: لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة عليهم السلام فيه. وعن الضحاك أنه يوم القيامة، وأن المراد بالساعة مقدماته. ويجوز أن يراد بالساعة وبيوم عقيم: يوم القيامة، وكأنه قيل: حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها، فوضع يوم عقيم موضع الضمير.

[سورة الحج (22) : الآيات 56 الى 57]
الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين (57)
فإن قلت: التنوين في يومئذ عن أى جملة ينوب؟ قلت: تقديره: الملك يوم يؤمنون.
أو يوم تزول مريتهم، لقوله ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة.

[سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 59]
والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم (59)

(3/166)


ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور (60) ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير (61)

لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوى بينهم في الموعد، وأن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل تفضلا منه وإحسانا. والله عليهم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم قالوا: يا نبى الله، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

[سورة الحج (22) : آية 60]
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور (60)
تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذاك مسبب عنه كما يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة. فإن قلت: كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع؟ قلت: المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب، والعفو عن الجاني- على طريق التنزيه لا التحريم- ومندوب إليه، ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وملك سبيل التنزيه، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب، ولم ينظر في قوله تعالى فمن عفا وأصلح فأجره على الله، وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور: فإن الله لعفو غفور، أى: لا يلومه على ترك ما بعثه عليه، وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه. ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي، ويعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو، ويلوح به بذكر هاتين الصفتين. أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة. لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

[سورة الحج (22) : آية 61]
ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير (61)
ذلك أى ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجرى فيهما على أيدى عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون بصير بما يفعلون. فإن قلت: ما معنى إيلاج أحد الملوين في الآخر؟ قلت: تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بغيبوبة الشمس. وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء السرب «1»
__________
(1) . قوله «كما يضيء السرب» السرب- بالفتح-: الطريق. والسرب- بالتحريك-: بيت في الأرض.
أفاده الصحاح. (ع)

(3/167)


ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير (62) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63) له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد (64) ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم (65) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور (66)

بالسراج ويظلم بفقده. وقيل: هو زيادته في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.

[سورة الحج (22) : آية 62]
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير (62)
وقرئ يدعون بالتاء والياء. وقرأ اليماني. وأن ما يدعون، بلفظ المبنى للمفعول، والواو راجعة إلى «ما» لأنه في معنى الآلهة، أى: ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجرى فيهما وإدراك كل قول وفعل، بسبب أنه الله الحق الثابت إلهيته، وأن كل ما يدعى إلها دونه باطل الدعوة، وأنه لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.

[سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 64]
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63) له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد (64)
قرئ مخضرة أى ذات خضر، على مفعلة، كمقبلة ومسبعة. فإن قلت: هلا قيل:
فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم على فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت، لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر: إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله لطيف واصل علمه أو فضله إلى كل شيء خبير بمصالح الخلق ومنافعهم.

[سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 66]
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤف رحيم (65) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور (66)
ما في الأرض من البهائم مذللة للركوب في البر، ومن المراكب جارية في البحر، وغير

(3/168)


لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير (70)

ذلك من سائر المسخرات. وقرئ والفلك بالرفع على الابتداء أن تقع كراهة أن تقع إلا بمشيئته أحياكم بعد أن كنتم جمادا ترابا، ونطفة، وعلقة، ومضغة لكفور لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم.

[سورة الحج (22) : آية 67]
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67)
هو نهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك. أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في الدين وهم جهال لا علم عندهم وهم كفار خزاعة. روى أن بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله! يعنون الميتة. وقال الزجاج: هو نهى له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم، كما تقول: لا يضار بنك فلان، أى:
لا تضاربه. وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين في الأمر في أمر الدين. وقيل:
في أمر النسائك، وقرئ: فلا ينزعنك، أى اثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه. والمراد: زيادة التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله ولدينه.
ومنه قوله ولا يصدنك عن آيات الله، ولا تكونن من المشركين، فلا تكونن ظهيرا للكافرين. وهيهات أن ترتع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ذلك الحمى، ولكنه وارد على ما قلت لك من إرادة التهييج والإلهاب. وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه، أى: غلبته، أى: لا يغلبنك في المنازعة. فإن قلت: لم جاءت نظيرة هذه الآية «1» معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ قلت: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الاى الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها. وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا.

[سورة الحج (22) : آية 68]
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68)
أى: وإن أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع، فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين.

[سورة الحج (22) : الآيات 69 الى 70]
الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير (70)
__________
(1) . قوله «نظيرة هذه الآية» هي قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله الخ. (ع)

(3/169)


ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير (71) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (72)

الله يحكم بينكم خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، أى: يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وكيف يخفى عليه ما يعملون، ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض، وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه.
والإحاطة بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم «1» .

[سورة الحج (22) : آية 71]
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير (71)
ويعبدون ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحى والسمع، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلى وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم.

[سورة الحج (22) : آية 72]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (72)
المنكر الفظيع من التجهم والبسور «2» . أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام. وقرئ يعرف. والمنكر. والسطو: الوثب والبطش. قرئ النار بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، كأن قائلا قال: ما هو؟ فقيل: النار، أى: هو النار. وبالنصب على الاختصاص.
وبالجر على البدل من بشر من ذلكم من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم. أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم وعدها الله استئناف كلام. ويحتمل أن تكون النار مبتدأ ووعدها خبرا، وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار «قد» .
__________
(1) . قال محمود: «معناه أن الله عالم بالذات لا يتعذر عليه تعلق بمعلوم» قال أحمد: وقد تقدم مثله وأنكرنا عليه تحميله القرآن ما لا يحتمله، فان الأعلم في اللغة: ذو العلم الزائد المفضل على علم غيره، فكيف يفسر بما ينفى صفة العلم البتة؟ هب أن الأدلة العقلية لا وجود لها، والله الموفق للصواب.
(2) . قوله «التجهم والبسور» كل منهما: كلوح الوجه. أفاده الصحاح. (ع)

(3/170)


ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74) الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76)

[سورة الحج (22) : آية 73]
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)
فإن قلت: الذي جاء به ليس بمثل، فكيف سماه مثلا؟ قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستحسان والاستغراب: مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. قرئ تدعون بالتاء والياء، ويدعون: مبنيا للمفعول لن أخت «لا» في نفى المستقبل، إلا أن «لن» تنفيه نفيا مؤكدا، وتأكيده هاهنا الدلالة «1» على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم، كأنه قال: محال أن يخلقوا. فإن قلت: ما محل ولو اجتمعوا له؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قال: مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه «2» حيث وصفوا بالإلهية- التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها- صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. وقوله ضعف الطالب والمطلوب كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، لأن الذباب حيوان، وهو جماد، وهو غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.

[سورة الحج (22) : آية 74]
ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74)
ما قدروا الله حق قدره أى ما عرفوه حق معرفته، حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها، ولا يؤهلوه للعبادة، ولا يتخذوه شريكا له: إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به؟

[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76)
__________
(1) . قوله «الدلالة» لعله «للدلالة» كعبارة النسفي، (ع)
(2) . قوله «إن الشيطان قد خزمهم بخزائمه» في الصحاح، خزمت البعير بالخزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنفه، يشد فيها الزمام. (ع)

(3/171)


ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78)

هذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين:
ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه تعالى دراك للمدركات، عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات، لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله.

[سورة الحج (22) : آية 77]
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77)
للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات. وفي هذه السورة دلالات على ذلك، فمن ثمة دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو، ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل: معنى واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله. وعن ابن عباس في قوله وافعلوا الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق لعلكم تفلحون أى افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه، غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم، وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: «نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما «1» » وعن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما فضلت سورة الحج بسجدتين. وبذلك احتج الشافعي رضى الله عنه، فرأى سجدتين في سورة الحج. وأبو حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة، لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.

[سورة الحج (22) : آية 78]
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78)
__________
(1) . لم أره بصيغة المواجهة. وإنما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني والطبراني والحاكم. كلهم من رواية ابن لهيعة عن فرج بن ماهان عن عقبة بلفظ «ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» قال الترمذي: إسناده ليس بالقوى.

(3/172)


وجاهدوا أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع من بعض غزواته فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر «1» » في الله أى في ذات الله ومن أجله. يقال: هو حق عالم، وجد عالم، أى: عالم حقا وجدا.
ومنه حق جهاده. فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حق الجهاد فيه. أو حق جهادكم فيه، كما قال وجاهدوا في الله؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله، صحت إضافته إليه. ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا «2»
اجتباكم اختاركم لدينه ولنصرته وما جعل عليكم في الدين من حرج فتح باب التوبة للمجرمين، وفسح بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. ونحوه قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة المرحومة الموسومة بذلك في الكتب المتقدمة.
نصب الملة بمضمون ما تقدمها. كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أو على الاختصاص، أى: أعنى بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد. فإن قلت: لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها. قلت: هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته، لأن أمة الرسول في حكم أولاده هو يرجع إلى الله تعالى: وقيل:
إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأول قراءة أبى بن كعب: الله سماكم من قبل وفي هذا أى من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن، أى: فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم ليكون الرسول شهيدا عليكم أنه قد بلغكم وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغتهم. وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي «3» » .
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر، قال «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة. فقال: قدمتم بخير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» قال: فيه ضعف، قلت: هو من رواية عيسى بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث ابن أبى سليم، والثلاثة ضعفاء، وأورده النسائي في الكنى من قول إبراهيم بن أبى عبلة، أحد التابعين من أهل الشام.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب بالإسناد المذكور في سورة آل عمران.

(3/173)


قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2)

سورة المؤمنون
مكية، وهي مائة وتسع عشرة آية. وثماني عشرة عند الكوفيين [نزلت بعد سورة الأنبياء] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2)
قد نقيضة «لما» هي تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والفلاح:
الظفر بالمراد. وقيل: البقاء في الخير. وأفلح دخل في الفلاح، كأبشر: دخل في البشارة.
ويقال: أفلحه: أصاره إلى الفلاح. وعليه قراءة طلحة بن مصرف: أفلح، على البناء للمفعول.
وعنه: أفلحوا، على: أكلونى البراغيث. أو على الإبهام والتفسير. وعنه: أفلح، بضمة بغير واو، اجتزاء بها عنها، كقوله:
فلو أن الاطبا كان حولي «1»
فإن قلت: ما المؤمن؟ قلت: هو في اللغة المصدق. وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين، أحدهما: أن كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن. والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقى دون الفاسق الشقى «2»
__________
(1) .
فلو أن الأطباء كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة
الأصل: كانوا حولي، فقصره وقصر «الأطباء» لضرورة الوزن وهم علماء الطب. والأساة: جمع آس، كالسعاة:
جمع ساع، وهم المباشرون للعلاج من الأطباء، من الأسى كالفتى، بمعنى المداواة. والاساء- بالكسر-: الدواء، ولعله أصل الرواية، كما روى الشفاء، فحقه حرف الألف.
(2) . قال محمود: «اختلف في الايمان على قولين، أحدهما: أن كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فقد اتصف بالايمان. والآخر: أنه صفة مدح لا يستحقها الا البر التقى دون الفاسق الشقي» قال أحمد: والأول مذهب الأشعرية، والثاني مذهب المعتزلة. والموحد الفاسق عندهم لا مؤمن ولا كافر. ولو لم يبن المعتزلة على هذا المعتقد تحريم الجنة على الموحد الفاسق بناء على أنه لا يندرج في وعد المؤمنين، لكان البحث معهم لفظيا، ولكن رتبوا على ذلك أمرا عظيما من أصول الدين وقواعده. وقد نقل القاضي عنهم في رسالة الايمان خبطا طويلا، فنقل عن قدمائهم كعمرو بن عبيد وطبقته أن الايمان هو التصديق بالقلب وجميع فرائض الدين فعلا وتركا. ونقل عن أبى الهذيل العلاف أن الايمان هو جميع فرائض الدين ونوافله. ومختصر دليل القاضي لأهل السنة أن الايمان لغة هو مجرد التصديق اتفاقا، فوجب أن يكون كذلك شرعا، عملا بقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه مع سلامته عن معارضة النقل، فانه لو كان لنبيه عليه الصلاة والسلام ولو بينه لنقل لأنه مما يبتنى عليه قاعدة الوعد والوعيد، ولم ينقل، لأن النقل إما آحاد أو تواتر إلى آخر مادته.

(3/174)


والذين هم عن اللغو معرضون (3)

الخشوع في الصلاة: خشية القلب وإلباد البصر- عن قتادة: وهو إلزامه موضع السجود.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده «1» ، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو يحدث نفسه بشأن من شأن الدنيا. وقيل: هو جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها. ومن الخشوع: أن يستعمل الآداب، فيتوقى كف الثوب، والعبث بجسده وثيابه، والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض، وتغطية الفم، والسدل، والفرقعة، والتشبيك، والاختصار، وتقليب الحصا. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال «لو خشع قلبه خشعت جوارحه «2» » ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصا وهو يقول: اللهم زوجني الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث. فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأن الصلاة دائرة بين المصلى والمصلى له، فالمصلى هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته: وأما المصلى له، فغنى متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

[سورة المؤمنون (23) : آية 3]
والذين هم عن اللغو معرضون (3)
اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه وإطراحه، يعنى أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل.
لما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.
__________
(1) . أخرجه الحاكم من رواية ابن سيرين عن أبى هريرة، لكن قال «فطأطأ رأسه وقال صحيح، إلا أنه روى مرسلا اه والمرسل أخرجه أبو داود والطبري عن ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: فيه نظر هكذا، وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق ابن علية، عن أيوب. عن ابن سيرين موصولا. [.....]
(2) . أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والأربعين بعد المائة من حديث أبى هريرة وفيه سليمان ابن عمرو وهو أبو داود والنخعي أحد من اتهم بوضع الحديث وفي شرح البخاري لزين الدين ابن المنير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» .

(3/175)


والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7)

[سورة المؤمنون (23) : آية 4]
والذين هم للزكاة فاعلون (4)
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين: القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير والمعنى: فعل المزكى الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله، فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل، تقول للضارب:
فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل: وللمزكى: فاعل التزكية. وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق «1» . ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها فاعلون، لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها. وقد أنشد لأمية ابن أبى الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأزمة والفاعلون للزكوات «2» ويجوز أن يراد بالزكاة: العين، ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وحمل البيت على هذا أصح، لأنها فيه مجموعة.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 7]
والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7)
على أزواجهم في موضع الحال، أى الأوالين على أزواجهم. أو قوامين عليهن، من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان. ونظيره: كان زياد على البصرة، أى:
واليا عليها. ومنه قولهم: فلانة تحت فلان. ومن ثمة سميت المرأة فراشا. والمعنى: أنهم لفروجهم
__________
(1) . قال محمود: «الزكاة تطلق ويراد بها العين المخرجة، وتطلق ويراد بها فعل المزكى الذي هو التزكية ويتعين هاهنا أن يكون المراد التزكية لقوله فاعلون إذ العين المخرجة لم يفعلها المزكى، ثم ضبط المصدر على الإطلاق بأنه الذي يصدق عليه أنه فعل الفاعل فعلى هذا تكون العين المخرجة مصدرا بالنسبة إلى الله تعالى، وكذلك السماوات والأرض وكل مخلوق من جوهر وعرض، قال: فجميع الحوادث إذا قيل من فاعلها؟ فيقال: الله أو بعض الخلق» قال أحمد: ويقول السنى: فاعل جميعها هو الله وحده لا شريك له، ولكن إذا سئل بصيغة مشتقة من الفعل على طريقة اسم الفاعل، مثل أن يقال له: من القائم؟ من القاعد؟ أجاب بمن خلق الله الفعل على يديه، وجعله محلا له، كزيد وعمرو.
(2) . لأمية بن أبى الصلت. والأزم: الجدب. والأزمة: الشديدة المجدبة. والزكوات: جمع زكاة، تطلق على القدر المخرج من المال وعلى الإخراج، فالمعنى على الأول: المؤدون للزكوات. وعلى الثاني: الفاعلون لذلك الإخراج، والأول أوجه، لأن المصدر لا يجمع إلا بتأويل الأنواع أو المرات.

(3/176)


والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (11)

حافظون في كافة الأحوال، إلا في حال تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم، أى: يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه. أو تجعله صلة لحافظين، من قولك: احفظ على عنان فرسي، على تضمينه معنى النفي، كما ضمن قولهم: نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك. فإن قلت هلا قيل: من ملكت؟ قلت: لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده، ثم قال: فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحد مع فسحته واتساعه، وهو إباحة أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شئت فأولئك هم الكاملون في العدوان المتناهون فيه. فإن قلت: هل فيه دليل على تحريم المتعة؟ قلت: لا، لأن المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صح النكاح.

[سورة المؤمنون (23) : آية 8]
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)
وقرئ: لأمانتهم. سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا. ومنه قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقال وتخونوا أماناتكم وإنما تؤدى العيون لا المعاني، ويخان المؤتمن عليه، لا الأمانة في نفسها. والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعى الغنم وراعى الرعية. ويقال: من راعى هذا الشيء؟ أى متوليه وصاحبه: ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق، والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم.

[سورة المؤمنون (23) : آية 9]
والذين هم على صلواتهم يحافظون (9)
وقرئ على صلواتهم. فإن قلت: كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا؟ قلت: هما ذكران مختلفان فليس بتكرير. وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم، وآخرا بالمحافظة عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها، ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وأيضا فقد وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أى صلاة كانت، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها: وهي الصلوات الخمس، والوتر، والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، وصلاة الضحى، والتهجد وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 الى 11]
أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (11)
أى أولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الوارثون الأحقاء بأن يسموا وراثا

(3/177)


ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)

دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله الذين يرثون الفردوس فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مر في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روى أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الأذفر. وفي رواية: ولبنة من مسك مذرى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 14]
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)
السلالة: الخلاصة، لأنها تسل من بين الكدر، و «فعالة» بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين من ومن؟ قلت: الأول للابتداء، والثاني للبيان، كقوله من الأوثان. فإن قلت: ما معنى: جعلناه الإنسان نطفة؟ قلت:
معناه أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة. القرار: المستقر، والمراد الرحم. وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها، كقولك. طريق سائر. أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. قرئ: عظما فكسونا العظم. وعظاما فكسونا العظام وعظما فكسونا العظام. وعظاما فكسونا العظم: وضع الواحد مكان الجمع لزوال اللبس، لأن الإنسان ذو عظام كثيرة خلقا آخر أى خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره- بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه- عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح: وقد احتج به أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده قال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ، لأنه خلق آخر سوى البيضة فتبارك الله فتعالى أمره في قدرته وعلمه أحسن الخالقين أى: أحسن المقدرين تقديرا، فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه. ونحوه: طرح المأذون فيه في قوله أذن للذين يقاتلون لدلالة الصلة.
وروى عن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله خلقا آخر، قال:
فتبارك الله أحسن الخالقين «1» . وروى أن عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبي صلى الله
__________
(1) . وفي الباب عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربى في أربع فذكر الحديث- وفيه: فنزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، إلى قوله خلقا آخر. فقلت فتبارك الله أحسن الخالقين. فنزلت»

(3/178)


ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون (16) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18)

عليه وسلم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت» فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبى يوحى إلى، فلحق بمكة كافرا، ثم أسلم يوم الفتح «1» .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 الى 16]
ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون (16)
قرأ ابن أبى عبلة وابن محيصن: لمائتون. والفرق بين الميت والمائت: أن الميت كالحي صفة ثابتة. وأما المائت، فيدل على الحدوث. تقول: زيد مائت الآن، ومائت غدا، كقولك يموت. ونحوهما:
ضيق وضائق، في قوله تعالى وضائق به صدرك جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع. فإن قلت: فإذا لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت: ليس في ذكر الحياتين نفى الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلا على أن الثلث ليس عندك. وأيضا فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوى ذكرها من جنس الإعادة.

[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17)
الطرائق: السموات، لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة: أو لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم: وقيل: الأفلاك، لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها: أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناها فوقهم وما كنا عنها غافلين وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا: أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلا عنهم وما يصلحهم.

[سورة المؤمنون (23) : آية 18]
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18)
بقدر بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم. فأسكناه في الأرض كقوله فسلكه ينابيع في الأرض وقيل:
جعلناه ثابتا في الأرض. وقيل: إنها خمسة أنهار: سيحون نهر الهند. وجيحون: نهر بلخ.
ودجلة والفرات: نهرا العراق. والنيل: نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة،
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي عن ابن عباس رضى الله عنهما وعزاه الواحدي إلى الكلبي. عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(3/179)


فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (20)

فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم. وكما قدر على إنزاله فهو قادر على رفعه وإزالته. وقوله على ذهاب به من أوقع النكرات وأحزها للمفصل. والمعنى: على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان باقتدار المذهب، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد، من قوله: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 19 الى 20]
فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (20)
خص هذه الأنواع الثلاثة، لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع. ووصف النخل والعنب بأن ثمرهما جامع بين أمرين: بأنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، رطبا وعنبا، وتمرا وزبيبا. والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. ويجوز أن يكون قوله ومنها تأكلون من قولهم: يأكل فلان من حرفة يحترفها، ومن ضيعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها: يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم، منها ترتزقون وتتعيشون وشجرة عطف على جنات. وقرئت مرفوعة على الابتداء، أى: ومما أنشئ لكم شجرة طور سيناء وطور سينين، لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه، كإمرئ القيس، وكبعلبك، فيمن أضاف. فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث، لأنها بقعة، وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء.
ومن فتح فلم يصرف، لأن الألف للتأنيث كصحراء. وقيل: هو جبل فلسطين. وقيل: بين مصر وأيلة. ومنه نودي موسى عليه السلام. وقرأ الأعمش: سينا على القصر بالدهن في موضع الحال، أى: تنبت وفيها الدهن. وقرئ: تنبت. وفيه وجهان، أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت. وأنشد لزهير:
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتي إذا أنبت البقل «1»
__________
(1) .
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام الناس في الجحرة الأكل
رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن سئلوا يعطوا وإن يسروا يغلوا
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
لزهير بن أبى سلمي يمدح سنان بن أبى حارثة، والشهباء: الفرس يخالط سوادها بياض، شبه بها السنة المجدبة لكثرة بياض أرضها وخلوها عن سواد النبات والأمطار. أو لاختلاط نور الغنى فيها بظلمة الفقر. أجحفت بالناس:
أى ذهبت بهم ومحقت عنهم آثار الغنى، والاسناد مجاز عقلى. والجحرة- بتقديم الجيم المفتوحة-: السنة المجدبة وروى: في الحجرة. وأصلها بالتحريك، فسكونها لغة أو ضرورة وهي شدة الشقاء. ويجوز أن تقرأ بالضم بمعنى البيت، أى: ونال الأكل كرام الناس. ووصلهم داخل بيوتهم لبخلهم تلك السنة. ويروى: كرام المال. والمعنى أن كرائم الأموال نالها التأكل والتنقص في تلك السنة لجديها. ورأيت: جواب إذا. وذوى الحاجات: كناية عن الفقراء. حول بيوتهم: أى سنان وقومه. قطينا: أى مقيمين، فهو يطلق على الواحد والمتعدد. وقيل أنه جمع. ويروى قطينا لهم: أى مساكنين لهم عند البيوت، وذلك كناية عن كرمهم، حتى إذا أنبت البقل: أى نبت النبات الرطب وظهر الخصب، فهنالك: أى في ذلك الزمان إن يسألهم أحد أن يخولوه مالا كثيرا يخولوه: أى يولوه عليه. وإن سئلوا مالا قليلا يعطوا السائل. ويروى: إن يستخبلوا المال يخبلوا، بالموحدة، يستعر: أى منهم أحد إبلهم للانتفاع بألبانها وأوبارها زمن الجدب ثم يردها: أعاروه، وإن سألهم الإعطاء من غير رد أعطوه فلا يردون سائلا. وإن يسروا: أى لعبوا الميسر، يغلوا: أى يجعلوا الخطر غاليا كثيرا لعدم خوفهم على الفقراء لأن المال كثير بخلاف زمن الجدب. ويجوز أن يقرأ: وإن يسروا أى أعطوا بلا سؤال، يفلوا بالفاء. أى يتفقدوا الفقراء ويعطوهم، يقال: يسر كوعد: لعب الميسر، ويسر كترب وتعب: لأن ورق ورفق. وروى:
يسألوا وييسروا بالمضارع. والمقامات: المجامع من الناس. وروى: وجوهها. وعلى كل فالضمير للمقامات.
والأندية- جمع الندى- بمعنى الكرم، على غير قياس، ينتابها: أى يحرى عليها نوبة بعد نوبة قولهم وفعلهم.
أو يتداولها قول الناس وفعلهم. ويحتمل أنها جمع ناد بمعنى متحدث القوم. أو ندى على فعيل كذلك، ينتابها:
أى يجيئها نوبة بعد نوبة القول والفعل، أى: الصالحات.

(3/180)


وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها وعلى الفلك تحملون (22)

والثاني: أن مفعوله محذوف، أى: تنبت زيتونها وفيه الزيت. وقرئ: تنبت، بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تنبت. وقرأ ابن مسعود: تخرج الدهن وصبغ الآكلين. وغيره:
تخرج بالدهن: وفي حرف أبى: تثمر بالدهن. وعن بعضهم: تنبت بالدهان. وقرأ الأعمش:
وصبغا وقرئ وصباغ. ونحوهما: دبغ ودباغ. والصبغ: الغمس للائتدام. وقيل: هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان، ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله يوقد من شجرة مباركة.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون (21) وعليها وعلى الفلك تحملون (22)
قرئ: تسقيكم، بتاء مفتوحة، أى: تسقيكم الأنعام ومنها تأكلون أى تتعلق بها منافع من الركوب والحمل وغير ذلك، كما تتعلق بما لا يؤكل لحمه من الخيل والبغال والحمير. وفيها منفعة زائدة، وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها، والقصد بالأنعام إلى الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة، وقرنها بالفلك- التي هي السفائن- لأنها سفائن البر. قال ذو الرمة:

(3/181)


ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25)

سفينة بر تحت خدى زمامها «1»
يريد صيدحه «2»

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 25]
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25)
غيره بالرفع على المحل، وبالجر على اللفظ، والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للأمر بالعبادة أفلا تتقون أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم، وشكر نعمته التي لا تحصونها واجب عليكم، ثم تذهبوا فتعبدوا غيره مما ليس من استحقاق
__________
(1) .
ألا خيلت مى وقد نام صحبتي ... فما نفر التهويم إلا سلامها
طروقا وجلب الرحل مشدودة به ... سفينة بر تحت خدي زمامها
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليلا بها الأصوات إلا بغامها
لذي الرمة، يقول: خيلت مى، أى: بعثت خيالها وأرتنى إياه، وسلمت على في منامي. والحال أنه قد نام أصحابى، والصحبة كالعصبة والرفقة، ونسب النوم إليهم دونه، لأن نومه تهويم أى فتور وغفلة أول النوم فقط. والتهويم أيضا: تمايل الرأس من النعاس، أو لأنه يتذكرها فكأنه لم ينم. ويروى: ذو الكرى بدل صحبتي، فما نفر التهويم وطرده عنى إلا سلامها على. ويروى:
ألا طرقتنا مية بنت منذر ... فما أرق النيام إلا سلامها
وأرق: أسهر، والنيام: جمع نائم، وقياسه نوام، فقلب ياء شذوذا، والطروق: الإتيان ليلا، وهو نصب على المصدر من خيلت، لتلاقيهما معنى. وقيل: الطروق- بالفتح-: الناقة التي بلغت أن يطرقها الفحل، وهو مفعول خيلت. والأوجه أنه حال من فاعله هذا، ولعله على التشبيه. وجلب الرحل- بالضم، وبالكسر-:
عيدانه، أى: والحال أن عيدان الرحل مشدودة بها ناقة عظيمة كالسفينة. فاستعارها لها على طريق التصريح، وإضافتها للبر قرينة للاستعارة. وفيه أنها في البر تقوم مقام السفينة في البحر، وأنها تقابلها، والزمام تجريد، أى: زمامها تحت خدي وأنا نائم. والبلدة من الناقة: ما لاقى الأرض عند الاناخة، وتطلق على الصدر. والبلدة الأرض الصلبة. والبغام: صوت الظبى، أى: أنختها فألقت عظاما صلبة كالأرض، فاستعارها لها على طريق التصريح، فوق أرض صلبة حال كون تلك الأرض قليلا فيها الأصوات إلا نعام الناقة، أى: صوتها الشبيه بصوت الظبى، لأنه كان حنينا. ومجيء الحال من النكرة بلا تأخير ولا نفى ولا تخصيص شاذ. ويروى. قليل- بالجر- على الصفة. وعلى كل فالأصوات فاعل له، ورفع المستثنى على الاتباع، لأن قليلا في معنى النفي، أى: ليس فيها صوت إلا البغام. وقيل «إلا» هنا بمعنى غير، فهي صفة للأصوات لأنه يشبه النكرة، ولما تعذر ظهور الاعراب عليها ظهر على ما بعدها.
(2) . قوله «يريد صيدحه» أى: ناقته المسماة بصيدح. (ع)

(3/182)


قال رب انصرني بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (27) فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين (28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (29) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30)

العبادة في شيء أن يتفضل عليكم أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى وتكون لكما الكبرياء في الأرض. بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلهم به من الحث على عبادة الله، أى: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله، وما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر: وقولهم ما سمعنا بهذا يدل على أنهم وآباؤهم كانوا في فترة متطاولة. أو تكذبوا في ذلك لانهماكهم في الغى، وتشمرهم لأن يدفعوا الحق بما أمكنهم وبما عن لهم، من غير تمييز منهم بين صدق وكذب. ألا تراهم: كيف جننوه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا. والجنة:
الجنون أو الجن، أى: به جن يخبلونه حتى حين أى احتملوه واصبروا عليه إلى زمان، حتى ينجلي أمره عن عاقبة، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 الى 30]
قال رب انصرني بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (27) فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين (28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين (29) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30)
في نصرته إهلاكهم، فكأنه قال: أهلكهم بسبب تكذيبهم إياى، أو انصرني بدل ما كذبوني، كما تقول: هذا بذاك، أى بدل ذاك ومكانه. والمعنى: أبدلنى من غم تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. بأعيننا بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظا يكلئونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة ووحينا أى نأمرك كيف تصنع ونعلمك. روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر. روى أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب. وقيل: كان تنور آدم عليه السلام، وكان من حجارة، فصار إلى نوح. واختلف في مكانه، فعن الشعبي: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد. وقيل:

(3/183)


بالشام بموضع يقال له عين وردة. وقيل بالهند. وعن ابن عباس رضى الله عنه: التنور وجه الأرض. وعن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أى أعلاه. وعن على رضى الله عنه: فار التنور: طلع الفجر. وقيل: معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر. وقيل: هو مثل، كقولهم: حمى الوطيس. والقول هو الأول. يقال: سلك فيه: دخله. وسلك غيره، وأسلكه. قال:
حتى إذا أسلكوهم في قتائده «1»
من كل زوجين من كل أمتى زوجين، وهما أمة الذكر وأمة الأنثى، كالجمال والنوق، والحصن والرماك اثنين واحدين مزدوجين، كالجمل والناقة، والحصان والرمكة: روى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض. وقرئ: من كل، بالتنوين، أى: من كل أمة زوجين. واثنين:
تأكيد وزيادة بيان.
جيء بعلى مع سبق الضار، كما جيء باللام مع سبق النافع. قال الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ونحوه قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقول عمر رضى الله عنه: ليتها كانت كفافا، لا على ولا لي. فإن قلت:
لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالا، ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين. ولقد بالغ في ذلك حيث أتبع النهى عنه، الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم، كقوله فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أهم وأنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها، منزلا يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله وأنت خير المنزلين. فإن قلت: هلا قيل: فقولوا، لقوله فإذا استويت أنت ومن معك
__________
(1) .
حتى إذا أسلكوهم في قتائده ... شلا كما تطرد الجمالة الشرد
لعبد مناف بن ربع الهذلي، يصف قوما أغير عليهم فدفعوا العدو حتى أدخلوه في قتائده، وهي ثنية بعينها، أو عقبه بعينها، أى: في طرائقها. وسلكه في كذا وأسلكه أيضا كما هنا: أدخله فيه. وروى: سلكوهم أيضا. وشلا:
أى طردا نصب بسلوكهم، لأن فيه معنى طردوهم: وإذا: حرف زائد لا جواب له، لأن البيت آخر القصيد كما في الصحاح. وقيل «شلا» هو جوابه، فهو نصب بمحذوف، أى: حبسوا بها حبسا، لكن لا يلائم التشبيه في قوله «كما تطرد» إلا أن يرجع لسلوكهم. والجمالة: جمع جمال وهو صاحب الجمل. والشرد- بفتحتين-: الإبل المنتشرة، أو بضمتين: جمع شرود كعروس.

(3/184)


ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32) وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34)

لأنه في معنى: فإذا استويتم؟ قلت: لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبى. وقرئ: منزلا، بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله:
ليدخلنهم مدخلا يرضونه. إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة كنا لمبتلين أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد.
أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى: ولقد تركناها آية فهل من مدكر.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 32]
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32)
قرنا آخرين هم عاد قوم هود: عن ابن عباس رضى الله عنهما. وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. فإن قلت: حق أرسل أن يعدى بإلى، كأخواته التي هي: وجه، وأنفذ، وبعث. فما باله عدى في القرآن بإلى تارة، وبقي أخرى، كقوله:
كذلك أرسلناك في أمة، وما أرسلنا في قرية من نذير. فأرسلنا فيهم رسولا أى في عاد. وفي موضع آخر وإلى عاد أخاهم هودا؟ قلت: لم يعد بفي كما عدى بإلى، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعا للإرسال، كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام «1»
وقد جاء «بعث» على ذلك في قوله ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا. أن مفسرة لأرسلنا، أى: قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 33 الى 34]
وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34)
__________
(1) .
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام ... طبا فقيها بذوات الابلام
لعطاه السندي. ويقال: أصعب الجمل فهو مصعب، إذا صار صعبا لا يركب. والاقحام: الدخول في الشيء بلا تمهل ولا روية. ويروى: أرسلت فيها مقرما ذا تشمام. وأقرمته: شوقته إلى الضراب. ونحوه: ذا تشمام، أى:
يتشمم رائحة الناقة التائقة للضراب فيعرفها. والطب- مثلث-: الطبيب الحاذق. وأبلمت الناقة إبلاما: إذا ورم فرجها من شدة الشهوة إلى الضراب. والبلم- كسبب-: اسم منه. ويجوز أن ما هنا أبلام كأسباب، فالمعنى: أنه أرسل في الإبل فحلا كريما يقدم عليها من غير تلبث. أو يتشممها ويتعرفها حاذقا عارفا بالنوق التائقة إليه. ويجوز أن المعنى: أرسلت في تلك القضية رجلا كالجمل الشديد، ذا إقدام على الأمر بجراءة، فقيها عارفا بمعالجة الأشياء الصعبة ذوات الأعضال، وبحل مشكلاتها، فهو في غاية المعرفة والتجربة.

(3/185)


أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون (35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين (37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين (38)

فإن قلت: ذكر مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو: قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة، قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وهاهنا مع الواو، فأى فرق بينهما؟ قلت: الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا كيت وكيت. وأما الذي مع الواو، فعطف لما قالوه على ما قاله. ومعناه: أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل، وشتان ما هما بلقاء الآخرة بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، كقولك: يا حبذا جوار مكة: أى جوار الله في مكة.
حذف الضمير، والمعنى: من مشروبكم، أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه إذا واقع في جزاء الشرط، وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أى: تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 35 الى 38]
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون (35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين (37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين (38)
ثنى أنكم للتوكيد، وحسن ذلك لفصل ما بين الأول والثاني بالظرف. ومخرجون:
خبر عن الأول. أو جعل أنكم مخرجون مبتدأ، وإذا متم خبرا، على معنى: إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن إنكم، أو رفع أنكم مخرجون بفعل هو جزاء للشرط، كأنه قيل:
إذا متم وقع إخراجكم، ثم أوقعت الجملة الشرطية خبرا عن إنكم. وفي قراءة ابن مسعود:
أيعدكم إذا متم.
قرئ هيهات بالفتح والكسر والضم، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف فإن قلت: ما توعدون هو المستبعد، ومن حقه أن يرتفع بهيهات، كما ارتفع في قوله:
فهيهات هيهات العقيق وأهله «1»
__________
(1) .
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خل بالعقيق نواصله
لجرير، يتحسر على بعد خليله. وهيهات: اسم فعل بمعنى «بعد» وفتح تائه: لغة الحجاز. وكسرها: لغة تميم.
وضمها: لغة بعضهم. وكرره للتوكيد وزيادة التحزن. والعقيق: الوادي الذي شقه السيل، وهو هنا واد بظاهر المدينة المشرفة. مرفوع على الفاعلية بالأول، والثاني لا فاعل له. وأجاز أبو على الفارسي أنه من باب التنازع، فهو مرفوع بأحدهما، وضميره مستتر في الآخر، فهو توكيد مفرد على الأول، وجملة على الثاني. وأجاز ابن مالك أنه فاعل لهما لاتحادهما لفظا ومعنى. وانظر كيف ذكر أولا مكان الأحبة، ثم ذكر من فيه على العموم، ثم ذكر خله على الخصوص، وتدرج في ذلك حتى توصل إلى ذكر الوصال، وهو مقصوده الذاتي، فلله در العرب ما ألطفها صنيعا، وأدقها عبارة، والخل- بالكسر-: الخليل، كالحب بمعنى الحبيب. ويروى: العقيق وأهله

(3/186)


قال رب انصرني بما كذبون (39) قال عما قليل ليصبحن نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين (41)

فما هذه اللام: قلت قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون فيمن نون، فنزله منزلة المصدر. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به.
هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه. وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع هي موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت. والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت «لا» التي نفت ما بعدها نفى الجنس نموت ونحيا أى يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن ويأتى قرن آخر، ثم قالوا: ما هود إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له، وفيما يعدنا من البعث، وما نحن بمصدقين.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 39 الى 41]
قال رب انصرني بما كذبون (39) قال عما قليل ليصبحن نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين (41)
قليل صفة للزمان، كقديم وحديث، في قولك: ما رأيته قديما ولا حديثا. وفي معناه:
عن قريب. و «ما» توكيد قلة المدة وقصرها الصيحة صيحة جبريل عليه السلام: صاح عليهم فدمرهم بالحق بالوجوب، لأنهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من الله، من قولك: فلان يقضى بالحق إذا كان عادلا في قضاياه: شبههم في دمارهم بالغثاء: وهو حميل السيل مما يلي واسود من العيدان والورق. ومنه قوله تعالى فجعله غثاء أحوى وقد جاء مشددا في قول امرئ القيس:
من السيل والغثاء فلكة مغزل «1»
__________
(1) .
كأن ذرى رأس المخيم غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل
لامرئ القيس من معلقته. وذرى الجبل: أعاليه. والمخيم: أكمة بعينها. ويروى: المخيمر. والغثاء- بالضم مشددا ومخففا-: حميل السيل مما يلي واسود من العيدان والورق. والفلكة: بالفتح. والمغزل: مثلث. يقول:
كأن أعالى تلك الأكمة من إحاطة السيل بها واجتماع الغثاء حولها: فلكة مغزل في الاستدارة والارتفاع.

(3/187)


ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (43) ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون (44) ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين (45) إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46)

بعدا، وسحقا، ودفرا «1» ، ونحوها، مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها. ومعنى فبعدا: بعدوا، أى: هلكوا يقال: بعد بعدا وبعدا، نحو رشد رشدا ورشدا. وللقوم الظالمين بيان لمن دعى عليه بالبعد، نحو: هيت لك. ولما توعدون.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 43]
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (43)
قرونا قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بنى إسرائيل أجلها الوقت الذي حد لهلاكها وكتب.

[سورة المؤمنون (23) : آية 44]
ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون (44)
تترا فعلى: الألف للتأنيث، لأن الرسل جماعة. وقرئ: تترى، بالتنوين، والتاء بدل من الواو، كما في: تولج، وتيقور «2» ، أى: متواترين واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد: أضاف الرسل إليه تعالى وإلى أممهم ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول ملابس المرسل والمرسل إليه جميعا فأتبعنا الأمم أو القرون بعضهم بعضا في الإهلاك وجعلناهم أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. الأحاديث: تكون اسم جمع للحديث. ومنه: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكون جمعا للأحدوثة: التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة. وهي: مما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا، وهو المراد هاهنا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 46]
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين (45) إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46)
فإن قلت: ما المراد بالسلطان المبين؟ قلت: يجوز أن تراد العصا، لأنها كانت أم آيات
__________
(1) . قوله «دفرا» في الصحاح «دفرا له» أى: نتنا. (ع)
(2) . قوله «كما في تولج وتيقور» التولج: كناس الوحش الذي يلج فيه. قال سيبويه: التاء مبدلة من الواو، وهو فوعل، كذا في الصحاح. وفيه أيضا: التيقور، والوقار. وأصله: ويقور، قلبت الواو تاءا اه، فوزنه «فيعول» . (ع) [.....]

(3/188)


فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (47) فكذبوهما فكانوا من المهلكين (48) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون (49) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)

موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى: من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا ورشاء. جعلت كأنها ليست بعضها لما استبدت به من الفضل، فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى وجبريل وميكال ويجوز أن تراد الآيات أنفسها، أى: هي آيات وحجة بينة عالين متكبرين إن فرعون علا في الأرض، لا يريدون علوا في الأرض أو متطاولين على الناس قاهرين بالبغي والظلم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 47 الى 48]
فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (47) فكذبوهما فكانوا من المهلكين (48)
البشر يكون واحدا وجمعا: بشرا سويا
، لبشرين، فإما ترين من البشر و «مثل» و «غير» يوصف بهما: الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث: إنكم إذا مثلهم، ومن الأرض مثلهن ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. وقومهما يعنى بنى إسرائيل، كأنهم يعبدوننا خضوعا وتذللا. أو لأنه كان يدعى الإلهية فادعى للناس العبادة، وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة.

[سورة المؤمنون (23) : آية 49]
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون (49)
موسى الكتاب أى قوم موسى التوراة لعلهم يعملون بشرائعها ومواعظها، كما قال: على خوف من فرعون وملائهم يريد آل فرعون، وكما يقولون: هاشم، وثقيف، وتميم، ويراد قومهم. ولا يجوز أن يرجع الضمير في لعلهم إلى فرعون وملئه، لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى.

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)
فإن قلت: لو قيل آيتين هل كان يكون له وجه؟ قلت: نعم، لأن مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها، وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر، فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية على تقدير وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. الربوة والرباوة في رائهما الحركات. وقرئ: ربوة ورباوة، بالضم. ورباوة بالكسر وهي الأرض المرتفعة. قيل: هي إيليا أرض بيت المقدس، وأنها

(3/189)


ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم (51) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون (52)

كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا: عن كعب. وقيل: دمشق وغوطتها.
وعن الحسن: فلسطين والرملة، وعن أبى هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقيل: مصر. والقرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وعن قتادة:
ذات ثمار وماء. يعنى أنه لأجل الثمار: يستقر فيها ساكنوها. والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، نحو: ركبه، إذا ضربه بركبته. ووجه من جعله فعيلا:
أنه نفاع بظهوره وجريه، من الماعون: وهو المنفعة،

[سورة المؤمنون (23) : آية 51]
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم (51)
هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما، وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة. وإنما المعنى: الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي لذلك «1» ووصى به، ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه. والمراد بالطيبات: ما حل وطاب. وقيل: طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال: الذي لا يعصى الله فيه، والصافي: الذي لا ينسى الله فيه، والقوام: ما يمسك النفس ويحفظ العقل.
أو أريد ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه على عقب قوله وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر على سبيل الحكاية، أى: آويناهما وقلنا لهما هذا، أى: أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكلا مما رزقنا كما واعملا صالحا اقتداء بالرسل.

[سورة المؤمنون (23) : آية 52]
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون (52)
قرئ: وإن، بالكسر على الاستئناف. وأن بمعنى ولأن، وأن مخففة من الثقيلة، وأمتكم مرفوعة معها.
__________
(1) . قال محمود: «هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة وإنما المعنى الاعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك» قال أحمد: هذه نفحة اعتزالية، فان مذهب أهل السنة أن الله تعالى متكلم آمر ناه أزلا، ولا يشترط في تحقق الأمر وجود المخاطب، فعلى هذا قوله كلوا من الطيبات واعملوا صالحا على ظاهره وحقيقته عند أهل الحق، وهو ثابت أزلا على تقدير وجود المخاطبين فيما لا يزال، متفرقين كما في هذا الخطاب، أو مجتمعين كما في زعمه، والمعتزلة لما أبت اعتقاد قدم الكلام زلت بهم القدم، حتى حملوا هذه الآية وأمثالها على المجاز وخلاف الظاهر. وما بال الزمخشري خص هذه الآية بأنها على خلاف الظاهر، ومعتقده يوجب حمل مثل قوله تعالى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وجميع الأوامر العامة في الأمة على خلاف الظاهر.

(3/190)


فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53) فذرهم في غمرتهم حتى حين (54) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)

[سورة المؤمنون (23) : آية 53]
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53)
وقرئ زبرا جمع زبور، أى: كتبا مختلفة، يعنى: جعلوا دينهم أديانا، وزبرا قطعا:
استعيرت من زبر الفضة والحديد، وزبرا: مخففة الباء، كرسل في رسل، أى: كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئن النفس، معتقد أنه على الحق.

[سورة المؤمنون (23) : آية 54]
فذرهم في غمرتهم حتى حين (54)
الغمرة. الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم. أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قال:
كأننى ضارب في غمرة لعب «1»
وعن على رضى الله عنه: في غمراتهم حتى حين إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56]
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)
سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره. وقرئ: يمدهم. ويسارع، ويسرع، بالياء، والفاعل الله سبحانه وتعالى. ويجوز في:
يسارع، ويسرع: أن يتضمن ضمير الممد به. ويسارع، مبنيا للمفعول. والمعنى: أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، وفيما لهم فيه نفع وإكرام، ومعاجلة بالثواب قبل وقته. ويجوز أن يراد في جزاء الخيرات كما يفعل بأهل الخير من المسلمين. وبل استدراك لقوله أيحسبون يعنى:
بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور، حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك: أهو استدراج، أم مسارعة في الخير؟ فإن قلت: أين الراجع من خبر أن إلى اسمها إذا لم يستكن فيه ضميره؟
قلت: هو محذوف تقديره: نسارع به، ويسارع به، ويسارع الله به، كقوله إن ذلك لمن عزم الأمور أى إن ذلك منه، وذلك لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس.
__________
(1) .
ليالي اللهو يطبينى فأتبعه ... كأننى ضارب في غمرة لعب
لذي الرمة. وليالي: منصوب على الظرفية، واللهو: مبتدأ. وطباه يطبوه ويطيبه: إذا دعاه وجذبه. وطبي الناقة ثديها لجذبه عند الحلب. أى اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه، كأنى سابح في لجة من الماء تغمر القامة، لعب فيها فهو خبر ثان. ويروى: لغب. بالمعجمة من اللغوب وهو المشقة. وقيل «ليالي» مضاف للجملة بعده، فهو ظرف لما قبله. وروى: اللهو بالجر. وتطبينى بالتاء، فالفاعل ضمير الليالي.

(3/191)


إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون (61)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون (61)
يؤتون ما آتوا يعطون ما أعطوا، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة:
يأتون ما أتوا، أى يفعلون ما فعلوا. وعنها أنها قالت: قلت يا رسول الله، هو الذي يزنى ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الذي يصلى ويصوم ويتصدق، وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه «1» يسارعون في الخيرات يحتمل معنيين، أحدهما: أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام، كما قال فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين لأنهم إذا سورع بها لهم، فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقرئ: يسرعون في الخيرات لها سابقون أى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها. أو إياها سابقون، أى: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا. ويجوز أن يكون لها سابقون خبرا بعد خبر. ومعنى وهم لها كمعنى قوله:
أنت لها أحمد من بين البشر «2»
__________
(1) . أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وإسحاق، وابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي في الشعب. من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمذاني عن عائشة قالت: سألت فذكره. قال الترمذي وقد روى عن عبد الرحمن ابن سعيد عن أبى حازم عن أبى هريرة رضى الله عنه. اه وهذه الطريق أخرجها الطبري بهذا الاسناد. أن عائشة قالت: فذكره وله عنده طريق أخرى. عن عائشة فيها ليث بن أبى سليم. وهو ضعيف. وقوله وهو في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة يؤتون ما آتوا: كأنه يشير إلى هذا الحديث. وأخرج منه ما أخرجه الحاكم.
من طريق عبد الله بن عمير عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله تعالى الذين يؤتون ما آتوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها يؤتون: يأتون أو يؤتون؟ قالت أيهما أحب إليك؟ قال: الذين يأتون ما أتوا. قالت. أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها. وكذلك أنزلت» وفي إسناده يحيى بن راشد وهو ضعيف. وله طريق أخرى، عند أحمد من طريق أبى خلف الجمحي: أن عبيد بن عمير سأل عائشة نحوه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي.
وهو ضعيف.
(2) .
قصيدة رائقة صوغتها ... أنت لها أحمد من بين البشر
رائقة: محالية من الحشو والتعقيد. وصوغتها- بالتشديد- للمبالغة. وأنت لها: أى أهل وكفؤ لها. وأحمد: منادى.
ومن بين البشر: متعلق بمحذوف حال، أى: منتخبا من بينهم. ويجوز أن أحمد أفعل تفضيل، كذا قيل.
ويروى:
أنت لها منذر من بين البشر ... داهية الدهر وصماء الغير
للأعشى الحرمازي، وضمير لها مبهم يفسره قوله «داهية الدهر» أى الشديدة المهمة من شدائده. والصماء الصلبة، والغير- كسبب- بمعنى البقية، من غبر إذا بقي، أو من الغبار، أو من الظلمة. وأصل «صماء الغبر» : الحية تسكن في منقع قرب مويهة فلا تقرب. ويضرب بها المثل. والمعنى: أنها تغشى فلا يهتدى إلى التخلص منها. ومنذر:
منادى. وروى بدله: أحمد. وقيل: ضمير لها للنبوة.

(3/192)


ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون (62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون (64) لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون (65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين به سامرا تهجرون (67)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 63]
ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون (62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون (63)
يعنى أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من حد الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وما عملوه من الأعمال فغير ضائع عنده، بل هو مثبت لديه في كتاب، يريد اللوح، أو صحيفة الأعمال ناطق بالحق لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد. أو أراد: إن الله لا يكلف إلا الوسع، فإن لم يبلغ المكلف أن يكون على صفة هؤلاء السابقين بعد أن يستفرغ وسعه ويبذل طاقته فلا عليه، ولدينا كتاب فيه عمل السابق والمقتصد، ولا نظلم أحدا من حقه ولا نحطه دون درجته. بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها من هذا أى مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين ولهم أعمال متجاوزة متخطية لذلك، أى: لما وصف به المؤمنون هم لها معتادون وبها ضارون، لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 الى 67]
حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون (64) لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون (65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين به سامرا تهجرون (67)
وحتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام: الجملة الشرطية، والعذاب: قتلهم يوم بدر. أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف «1» » فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد «2» والأولاد. الجؤار: الصراخ باستغاثة قال:
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود وسيأتى تاما في تفسير الدخان.
(2) . قوله «والقد» في الصحاح «القد» بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع)

(3/193)


أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70)

جئار ساعات النيام لربه
أى يقال لهم حينئذ لا تجأروا فإن الجؤار غير نافع لكم منا لا تنصرون لا تغاثون ولا تمنعون منا أو من جهتنا، لا يلحقكم نصر ومغوثة. قالوا: الضمير في به للبيت العتيق أو للحرم، كانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، وأنه لم تكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به. ويجوز أن يرجع إلى آياتي، إلا أنه ذكر لأنها في معنى كتابي. ومعنى استكبارهم بالقرآن: تكذيبهم به استكبارا.
ضمن مستكبرين معنى مكذبين، فعدى تعديته. أو يحدث لكم استماعه استكبارا وعتوا، فأنتم مستكبرون بسببه. أو تتعلق الباء بسامرا، أى: تستمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو يتهجرون. والسامر: نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع. وقرئ: سمرا وسمارا. وتهجرون وتهجرون، من أهجر في منطقه إذا أفحش. والهجر- بالضم-: الفحش، ومن هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى. والهجر-: بالفتح الهذيان.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 68 الى 70]
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70)
القول القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به، بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون أو ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما، ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم ابن مر. فإنهم كانوا على الإسلام، وما شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما «1» »
__________
(1) . قلت اقتصر المخرج في عزو الجملة الأولى إلى السهيلي عن الزبير، وتتضمن الباقي. وقد أخرجه ابن سعد والبلاذري من طريق سعد ابن أبى أيوب عن عبد الله بن خالد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تسبوا مضر فانه كان مسلما. وأما تبع فروى الفاكهي من طريق عمر بن جابر عن سهل بن سعد رفعه، لا تسبوا تبعا فانه قد أسلم. وأخرجه الحاكم من طريق ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «كان تبع رجلا صالحا. الحديث» موقوف. وقوله: والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد رضى الله عنها كفى برغائها مناديا: قلت نص له أيضا.

(3/194)


وروى في أن ضبة كان مسلما، وكان على شرطة سليمان بن داود أم لم يعرفوا محمدا وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله، واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها مناديا.
الجنة: الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم «1» ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردا ولا مدفعا لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأخلدوا إلى البهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر. فإن قلت: قوله وأكثرهم فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق. قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبى طالب «2» . فإن قلت:
يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه. قلت: يا سبحان الله، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضى الله عنهما، ويخفى إسلام أبى طالب.
__________
(1) . قوله «وسيط بلحومهم» أى: وخلط. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت أكثرهم يعطى أن أقلهم لا يكره الحق، وكيف ذلك والكل كفرة؟ قلت: فيهم من أبى الإسلام حذرا من مخالفة آبائه ومن أن يقال صبأ كأبى طالب، لا كراهة للحق» قال أحمد: وأحسن من هذا أن يكون الضمير في قوله: وأكثرهم على الجنس للناس كافة، ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بقي الكلام في قوله وأكثرهم على الجنس بجملته، كقوله إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وكقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ويدل على ذلك قوله تعالى بل جاءهم بالحق والنبي صلى الله عليه وسلم جاء الناس كلهم وبعث إلى الكافة. ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي والله أعلم. وأما قول الزمخشري-: إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه «ليس كارها للحق- فمردود، فان من أحب شيئا كره ضده، فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه إلى الايمان ضرورة، والله أعلم، ثم انجر الكلام إلى استبعاد إيمان أبى طالب. وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر، ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه، كما اشتهر إسلام العباس وحمزة وأجدر لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار، فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما ظهر لغيره من عمومته عليه الصلاة والسلام. هذا والظاهر أنه لم يسلم. وحسبك دليلا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: سألت الله تعالى فيه، وأنه بعد ذلك لفي ضحضاح من نار يغلى رأسه من قدميه. فان قيل: لا يلزم من ذلك موته على الكفر، لأن كثيرا من عصاة الموحدين يعذب بأكثر من ذلك. قلنا: من أثبت إسلامه ادعى أن ذلك كان قبيل الاحتضار، فالإسلام جب ما قبله، وتلك الدقيقة التي صار فيها من المسلمين لا تحتمل من المعاصي ما يوجب ذلك، والله أعلم.

(3/195)


ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين (72) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم (73) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74)

[سورة المؤمنون (23) : آية 71]
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71)
دل بهذا على عظم شأن الحق، وأن السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام. أو أراد أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا، لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: أن الحق هو الله. ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها ولكان شيطانا، ولما قدر أن يمسك السماوات والأرض بذكرهم أى بالكتاب الذي هو ذكرهم، أى: وعظهم أو وصيتهم وفخرهم: أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين. وقرئ: بذكراهم.

[سورة المؤمنون (23) : آية 72]
أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين (72)
قرئ: خراجا فخراج. وخرجا فخرج. وخرجا فخراج: وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك، وإلى كل عامل من أجرته وجعله. وقيل: الخرج: ما تبرعت به. والخراج: ما لزمك أداؤه.
والوجه أن الخرج أخص من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ: خرجا فخراج ربك، يعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 73 الى 74]
وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم (73) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74)
قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له «1» حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم «2» بدين الآباء الضلال من
__________
(1) . قوله «لم يعرض» لعله: لم يعرض له جنون. (ع)
(2) . قوله «واستهتارهم بدين الآباء الضلال» في الصحاح: فلان مستهتر بالشراب، أى: مولع به لا يبالى ما قبل فيه. (ع)

(3/196)


ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون (75) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون (77)

غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر، يحتمل أن هؤلاء وصفتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة لناكبون أى عادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو قوله إلى صراط مستقيم وأن كل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب. لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز «1» ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى. فقال قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون (75) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون (77)
والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه، واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولا بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل وهو أطم العذاب، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد يستعطفك. أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رئي فيهم لين مقادة وهم كذلك، حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون، لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. والإبلاس: اليأس من كل خير. وقيل: السكوت مع التحير. فإن قلت: ما وزن استكان؟ قلت: استفعل من الكون «2» ، أى: انتقل من كون
__________
(1) . قوله «حتى أكلوا العلهز» في الصحاح «الملهز» بالكسر: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سنى المجاعة. (ع)
(2) . قال محمود: «استكان استفعل من الكون، أى: انتقل من كون إلى كون، كما يقال: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال» قال أحمد: هذا التأويل أسلم وأحق من تأويل من اشتقه من السكون وجعله افتعل، ثم أشبعت الفتحة فتولدت الألف كتولدها في قوله
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
فان هذا الاشباع ليس بفصيح، وهو من ضرورات الشعر، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه، لكن تنظير الزمخشري له باستحال: وهم، فان استكان على تأويله أحد أقسام استفعل، الذي معناه التحول، كقولهم: استحجر الطين، واستنوق الجمل. وأما استحال فثلاثيه حال يحول، إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد معنى التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر، فليس استحال من استفعل للتحول. ولكنه من استفعل بمعنى فعل، وهو أحد أقسامه، إذ لم يزد السداسى فيه على الثلاثي معنى، والله أعلم. ثم نعود إلى تأويله فنقول: المعنى عليه: فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى الله تعالى. ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون إلى كون، فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر إلى الخضوع بأولى من العكس. وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا. والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق، ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها، والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير رحمه الله يذكر لي أنه لما دخل بغداد زمن الامام الناصر رضى الله عنه، أظهر من جملة كراماته له: أن جمع له الوزير جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة، وكان يذكر لي أن مما انجر الكلام إليه حينئذ هذه الآية، وأن أحدهم وكان يعرف بالأجل اللغوي خصه الوزير بالسؤال عنها فقال: وهو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن منه ذلك. قال أحمد: وقد وقفت عليها بعد ذلك في غريب أبى عبيد المروي وهو أحسن محامل الآية وأسلمها، والله أعلم. وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل، كقولهم: استقر واستعلى، وحال واستحال على ما مر.
وقد قال لي بعضهم يوما: لم لا تجعله على هذا التأويل من استفعل المبنى للمبالغة. مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم، فقلت: لا يسعني ذلك: لأن المعنى يأباه، وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع، مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو ذهبت إلى جعلها للمبالغة أفادت نقص المبالغة، لأن نفى الأبلغ أدنى من نفى الأدنى. وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير، وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها، وليس الواقع، فإنهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلظة منها، فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية، والله أعلم.

(3/197)


وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (78) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (79) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون (80)

إلى كون، كما قيل: استحال، إذا انتقل من حال إلى حال. ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، كما جاء: بمنتزاح «1» . فإن قلت: هلا قيل: وما تضرعوا. أو: فما يستكينون؟
قلت: لأن المعنى: محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة. وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد. وقرئ: فتحنا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (78) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (79) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون (80)
إنما خص السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا
__________
(1) . قوله «كما جاء بمنتزاح» أى في قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... وعن ذم الرجال بمنتزاح
اه عليان قلت: وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 464 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]

(3/198)


بل قالوا مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (83) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89)

ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ند ولا شريك، أى: تشكرون شكرا قليلا، وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقا ذرأكم خلقكم وبثكم بالتناسل وإليه تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم وله اختلاف الليل والنهار أى هو مختص به وهو متوليه، ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: يعقلون، بالياء عن أبى عمرو.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بل قالوا مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (83)
أى: قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم. الأساطير: جمع أسطار: جمع سطر.
قال رؤبة:
إنى وأسطار سطرن سطرا «1»
وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له. وجمع أسطورة أوفق.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 89]
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88)
سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89)
__________
(1) .
إنى واسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصر نصرا
لرؤبة بن العجاج. والمراد بالأسطار: الكتابة، وهي جمع سطر بالتحريك، وأصله مصدر كالساكن الوسط.
وسطرن: مبنى للمجهول. وسطرا: مصدر. ولقائل: خبر «إنى» وما بينهما جملة قسمية اعتراضية. ونصر: مبنى على الضم، وهو ابن سيار ملك خراسان. ونصر الثاني توكيد لفظي، مرفوع على اللفظ. والثالث كذلك نصب على المحل لأنه كان مفردا معرفة لأنه تابع. أو هو مصدر نائب عن فعله. أى انصرني نصرا. وقيل «نضر» الثاني بالضاد المعجمة على أنه علم لصاحب نصر الأول، فهو على حذف العاطف. عن أبى عبيدة: والمنقول أن الذي بالضاد المعجمة هو الثالث، كان حاجبا لنصر، واشتكاه له الشاعر فنصبه على الإغراء. والمعنى على الأول:
وحق الكتاب المسطور إنى لمستغيث به لا بغيره.

(3/199)


بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون (90) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (92) قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين (94) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95)

أى أجيبونى عما استعلمتكم منه «1» إن كان عندكم فيه علم، وفيه استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات: أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين. وقرئ: تذكرون، بحذف التاء الثانية «2» ومعناه: أفلا تتذكرون فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها اختراعا، كان قادرا على إعادة الخلق، وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية. قرئ: الأول، باللام لا غير.
والأخيران باللام، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة، فباللام على المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ. ويجوز قراءة الأول بغير لام، ولكنها لم تثبت في الرواية أفلا تتقون أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله. أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعنى: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا تسحرون تخدعون عن توحيده وطاعته. والخادع: هو الشيطان والهوى.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 92]
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون (90) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (92)
وقرئ: أتيتهم وأتيتهم، بالفتح والضم بالحق بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل وإنهم لكاذبون حيث يدعون له ولدا ومعه شريكا لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة. وإنما حذف لدلالة قوله: وما كان معه من إله عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين عما يصفون من الأنداد والأولاد عالم الغيب بالجر صفة لله. وبالرفع: خبر مبتدإ محذوف.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 95]
قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين (94) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95)
__________
(1) . قوله «عما استعلمتكم منه» لعله «عنه» . (ع)
(2) . قوله «وقرئ «تذكرون» بحذف التاء الثانية» يفيد أن القراءة المشهورة «تذكرون» بالتشديد. (ع)

(3/200)


ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96)

ما والنون: مؤكدتان، أى: إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن: أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضى الله عنهما «وليتكم ولست بخيركم: كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقرئ: إما ترئنهم، بالهمز «1» مكان تريني، كما قرئ:
فإما ترئن، ولترؤن الجحيم. وهي ضعيفة. وقوله رب مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم، فما وجه هذا الإنكار؟

[سورة المؤمنون (23) : آية 96]
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96)
هو أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة.
والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه: كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله بالتي هي أحسن «2» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي شهادة أن لا إله إلا الله. والسيئة: الشرك.
__________
(1) . قوله «وقرئ إما ترئنهم بالهمزة» في نسخة أخرى: إما ترئنى بالهمز، كما قرئ..، الخ، (ع)
(2) . قال محمود: «هذا أبلغ من أن يقال: ادفع بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة، والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه، كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، وهذه قضية قوله: بالتي هي أحسن» قال أحمد: ما ذكره تقريرا للمفاضلة عبارة عن الاشتراك في أمر والتميز بغيره، ولا اشتراك بين الحسنة والسيئة، فإنهما ضدان متقابلان، فكيف تتحقق المفاضلة؟ قلت: المراد أن الحسنة من باب الحسنات، أزيد من السيئة من باب السيئات، فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سيئة. وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين، كقولهم: العسل أحلى من الخل، يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة. وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال. نشأت أنا والأعمش في حجر فلان، فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا، بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة. والأعمش: بلغ الغاية على العلية، هذا تفسير كلامه عن نفسه، ونعود إلى الآية فنقول: هي تحتمل وجها آخر من التفضيل أقرب متناولا:
وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة، فإنها قد تدفع بالصفح والاغضاء، ويقنع في دفعها بذلك، وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة، فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة، ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة، لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة. فعلى هذا تجرى المفاضلة على حقيقتها من غير حاجة إلى تأويل، والله أعلم.
فتأمله فانه حسن جدا.

(3/201)


وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون (98) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)

وعن مجاهد: السلام: يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن: الإغضاء والصفح. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة بما يصفون بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم، والله أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 98]
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون (98)
الهمز: النخس. والهمزات: جمع المرة منه. ومنه: مهماز الرائض. والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأز في قوله تعالى تؤزهم أزا أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، المكرر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما:
عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة: عند النزع.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 100]
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)
حتى يتعلق بيصفون، أى: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله: وإنهم لكاذبون «1» . خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم «2»
وقوله:
ألا فارحمونى يا إله محمد «3»
__________
(1) . قوله «أو على قوله: وإنهم لكاذبون» لعله عطف على المعنى، فكأنه قال فيما مر: حتى رد على قوله يصفون. فقال هنا: أو على قوله وإنهم لكاذبون. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 383 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
ألا فارحمونى يا إله محمد ... فان لم أكن أهلا فأنت له أهل
«ألا» استفتاحية دالة على الاهتمام بما يعقبها من الكلام، وخاطب الاله الواحد الأحد بخطاب الجمع جريا على عادة العرب من خطاب السادة والملوك بذلك تعظما. وقيل: هو إشارة إلى تكرار الفعل للتوكيد، كأنه قيل:
ارحمني ارحمني ارحمني، وإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم للتوسل به إلى الله عز وجل، فان لم أكن أهلا لهذا الطلب أو المطلوب من الرحمة والرفق» فأنت يا الله أهل له.

(3/202)


فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (101)

إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال لعلي أعمل صالحا في الإيمان الذي تركته، والمعنى:
لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد:
أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: فيما تركت من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون» كلا ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله: لعلي أعمل صالحا فيما تركت. هو قائلها لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه ومن ورائهم برزخ والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث، وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.

[سورة المؤمنون (23) : آية 101]
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (101)
الصور- بفتح الواو- عن الحسن. والصور- بالكسر والفتح- عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أن التقاطع يقع بينهم حيث يتفرقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتد بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: ولا يساءلون، بإدغام التاء في السين. فإن قلت:
قد ناقض هذا ونحو قوله ولا يسئل حميم حميما قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون «1» وقوله يتعارفون بينهم فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ناقض هذا قوله: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» قال أحمد: يجب أن لا يسلك هذا المسلك في إيراد الأسئلة عن فوائد الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وسؤال الأدب أن يقال: قصر فهمي عن الجمع بين هاتين الآيتين، فما وجهه؟ ولو سأل سائل عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن شيء من كتاب الله تعالى بهذه الصيغة لأوجع ظهره بالدرة.

(3/203)


فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (102) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون (103) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون (104) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (106) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107) قال اخسئوا فيها ولا تكلمون (108)

بعضها لا يفطنون لذلك لشدة الهول والفزع «1» . والثاني: أن التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 102 الى 104]
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (102) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون (103) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون (104)
عن ابن عباس: الموازين: جمع موزون؟ وهي الموزونات من الأعمال: أى الصالحات، التي لها وزن وقدر عند الله، من قوله تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. في جهنم خالدون
بدل من خسروا أنفسهم، ولا محل للبدل والمبدل منه، لأن الصلة لا محل لها. أو خبر بعد خبر لأولئك.
أو خبر مبتدإ محذوف تلفح تسفع. وقال الزجاج: اللفح والنفح واحد، إلا أن اللفح أشد تأثيرا. والكلوح: أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان، كما ترى الرءوس المشوية. وعن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشى عليه ثلاثة أيام ولياليهن. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته «2» وقرئ: كلحون.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 108]
ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (106) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107) قال اخسؤا فيها ولا تكلمون (108)
غلبت علينا ملكتنا، من قولك: غلبني فلان على كذا، إذا أخذه منك وامتلكه. والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم. قرئ شقوتنا وشقاوتنا بفتح الشين وكسرها فيهما اخسؤا فيها ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه «3» . ولا تكلمون في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل: هو
__________
(1) . عاد كلامه إلى جواب السؤال. قال: «وجه الجمع بينهما أن يحمل ذلك على اختلاف موقف القيامة» قال أحمد: وكثيرا ما ينتهز الزمخشري الفرصة في إنكار الشفاعة ويشمر ذيله للرد على القائلين بها إذا انتهى إلى مثل قوله ولا تنفعها شفاعة، لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة. ويتغافل حينئذ عن طريق الجمع بين ما ظاهره نفى الشفاعة وبين ما ظاهره ثبوتها، بحمل الأمر على اختلاف الأحوال في القيامة، والله الموفق.
(2) . أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي في الشعب من رواية أبى السمح عن الهيثم بن أبى سعيد.
(3) . قوله «يقال خسأ الكلب ... الخ» في الصحاح خسأت الكلب وخسأ بنفسه: يتعدى ولا يتعدى. (ع)

(3/204)


إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (111) قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين (113) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون (114)

آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس: إن لهم ست دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا فيجابون: حق القول مني، فينادون ألفا ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، فينادون ألفا: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون: إنكم ماكثون:
فينادون ألفا: ربنا أخرنا، فيجابون: أولم تكونوا، فينادون ألفا: ربنا أخرجنا نعمل صالحا، فيجابون: أولم نعمركم، فينادون ألفا: رب ارجعون، فيجابون: اخسؤا فيها.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 111]
إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (111)
في حرف أبى: أنه كان فريق، بالفتح، بمعنى: لأنه.
السخرى- بالضم والكسر-: مصدر سخر كالسخر، إلا أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل، كما قيل الخصوصية في الخصوص. وعن الكسائي والفراء: أن المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية، أى: تسخروهم واستعبدوهم، والأول مذهب الخليل وسيبويه. قيل: هم الصحابة وقيل أهل الصفة خاصة. ومعناه: اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكري فتركتموه، أى: تركتم أن تذكرونى فتخافونى في أوليائى. وقرئ أنهم بالفتح، فالكسر استئناف، أى: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء. وبالفتح على أنه مفعول جزيتهم، كقولك: جزيتهم فوزهم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 114]
قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين (113) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون (114)
قال في مصاحف أهل الكوفة. وقل: في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام، ففي قال ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، وفي «قل» ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور، وأيام السرور قصار، أو لأن المنقضى في حكم ما لم يكن، وصدقهم الله في مقالهم لسنى لبثهم في الدنيا ووبخهم

(3/205)


أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون (117) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (118)

على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ فسئل العادين والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم، لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدها، فسل من فيه أن يعد، ومن يقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. وقرئ: العادين، بالتخفيف، أى: الظلمة، فإنهم يقولون كما نقول. وقرئ:
العاديين، أى: القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها، فكيف بمن دونهم؟ وعن ابن عباس:
أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون (117) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (118)
عبثا حال، أى: عابثين، كقوله لاعبين أو مفعول له، أى: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي: أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي، ثم نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء وأنكم إلينا لا ترجعون معطوف على أنما خلقناكم ويجوز أن يكون معطوفا على عبثا أى: للعبث، ولترككم غير مرجوعين. وقرئ ترجعون بفتح التاء «1» الحق الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه. وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، كما يقال: بيت كريم، إذا كان ساكنوه كراما. وقرئ. الكريم، بالرفع. ونحوه: ذو العرش المجيد. لا برهان له به كقوله ما لم ينزل به سلطانا وهي صفة لازمة، نحو قوله يطير بجناحيه جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان «2» . ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط
__________
(1) . قوله «وقرئ ترجعون بفتح التاء» عبارة النسفي: بفتح التاء وكسر الجيم. (ع)
(2) . قال محمود: «لا برهان له به: إما صفة لازمة، أو كلام معترض لأن في الصفة إفهاما لأن إلها سوى الله يمكن أن يكون به برهان» قال أحمد: إن كان صفة فالمقصود بها التهكم بمدعى إله مع الله، كقوله بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ولا غير منزل، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها: ما قدمه عند قوله تعالى فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت حيث أعرب الزمخشري موعدا مصدرا ناصبا لمكانا سوى، واعترضه بأن المصدر الموصوف لا يعمل إلا على كره، واعتذرت عنه بصرف الجملة عن أن تكون صفة وجعلها معترضة مؤكدة لمعنى الكلام، والله أعلم. [.....]

(3/206)


والجزاء، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه، فالله مثيبه. وقرئ: أنه لا يفلح بفتح الهمزة. ومعناه: حسابه عدم الفلاح، والأصل: حسابه أنه لا يفلح هو، فوضع الكافرون موضع الضمير، لأن من يدع في معنى الجمع، وكذلك حسابه ... إنه لا يفلح في معنى «حسابهم أنهم لا يفلحون» .
جعل فاتحة السورة قد أفلح المؤمنون وأورد في خاتمتها إنه لا يفلح الكافرون فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت «1» .
وروى: أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش، من عمل بثلاث آيات من أولها، واتعظ بأربع آيات من آخرها: فقد نجا وأفلح «2» وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوى كدوى النحل، فمكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يده وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا» ثم قال «لقد أنزلت على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر «3» .
__________
(1) . تقدمت أسانيده.
(2) . لم أجده.
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي، وعبد الرزاق، والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة، وعبد. كلهم من رواية يونس بن سليم الصنعاني عن يونس عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد عن عمر. قال النسائي: هذا حديث منكر. تفرد به يونس بن سليم ولا أعرفه. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه لا أعرفه ولا أعرف هذا الحديث عن الزهري وقال الترمذي [كذا بياض بالأصل] : وقال العقيلي لا يتابع عليه يونس بن سليم ولا يعرف إلا به، وبنحوه قال ابن عدى. وسئل عبد الرزاق عن شيخه يونس بن سليم هذا فقال: أظنه لا شيء

(3/207)


سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون (1) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)

سورة النور
مدنية، وهي اثنتان وستون آية. وقيل: أربع وستون [نزلت بعد الحشر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النور (24) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون (1)
سورة خبر مبتدإ محذوف. وأنزلناها صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أى: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيدا ضربته، ولا محل لأنزلناها، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة أو اتل سورة. وأنزلناها:
صفة. ومعنى فرضناها فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أى: جعلناها واجبة مقطوعا بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأن فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم تذكرون بتشديد الذال وتخفيفها، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.

[سورة النور (24) : آية 2]
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)
الزانية والزاني أى جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: فاجلدوا، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط «1» ، تقديره: التي زنت، والذي زنى
__________
(1) . قال محمود: «في الرفع وجهين، أحدهما: الابتداء والخبر محذوف، وهو إعراب الخليل وسيبويه.
والتقدير: وفيما فرض عليكم الزانية والزاني، أى: جلدهما. الثاني: أن يكون الخبر فاجلدوا، ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وقد ضمن معنى الشرط» قال أحمد: وإنما عدل سيبويه إلى هذا الذي نقله عنه لوجهين:
لفظي ومعنوي. أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب، ومع ذلك قراءة العامة، فلو جعل فعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء، فالتجأ إلى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر، فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في كتابه بقوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار ... الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله مثل الجنة ولا يستقيم جزما أن يكون قوله فيها أنهار خبره، فتعين تقدير خبره محذوفا. وأصله: فيما نقص عليكم مثل الجنة، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل بقوله فيها أنهار إلى آخرها، فكذلك هاهنا، كأنه قال: وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكر من أحكام الجلد، ويناسب هذا ترجمة الفقهاء في كتبهم حيث يقولون مثلا: الصلاة، الزكاة، السرقة.
ثم يذكرون في كل باب أحكامه، يريدون مما يصنف فيه ويبوب عليه: الصلاة، وكذلك غيرها، فهذا بيان المقتضى عند سيبويه، لاختيار حذف الخبر من حيث الصناعة اللفظية. وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر، لأن يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا، فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة، والله أعلم.

(3/208)


فاجلدوهما، كما تقول: من زنى فاجلدوه، وكقوله والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر. وقرئ: والزان، بلا ياء. والجلد: ضرب الجلد، يقال: جلده، كقولك: ظهره وبطنه ورأسه. فإن قلت: أهذا حكم جميع الزناة والزواني، أم حكم بعضهم؟
قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإن المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبى حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول.
إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا «1» . وحجة أبى حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن «2» » فإن قلت: اللفظ يقتضى تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لأن قوله الزانية والزاني عام في الجميع، يتناول المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافيين لجنسى العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ: ولا يأخذكم، بالياء. ورأفة، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك حيث قال «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها «3» » وقوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضربا. وفي الحديث «يؤتى بوال
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما
(2) . أخرجه إسحاق والدارقطني تفرد برفعه إسحاق. قلت: قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا.
(3) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.

(3/209)


نقص من الحد سوطا، فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أأنت أرحم بهم منى، فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار «1» » وعن أبى هريرة: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة «2» . وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. والرجل يجلد قائما على مجرده «3» ليس عليه إلا إزاره، ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا، مفرقا على الأعضاء كلها لا يستثنى منها إلا ثلاثة: الوجه، والرأس، والفرج. وفي لفظ الجلد: إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة، ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة على أن الجلد حد غير المحصن بلا تغريب. وما احتج به الشافعي على وجوب التغريب من قوله صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام «4» » وما يروى عن الصحابة: أنهم جلدوا ونفوا «5» :
منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية. أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحر واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنة كالحر، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس الأذى في قوله تعالى: فأمسكوهن في البيوت، وقوله تعالى فآذوهما. قيل: تسميته عذابا دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذابا، لأنه يمنع من المعاودة كما سمى نكالا.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدا. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ وعند أبى يعلى من رواية عمرو بن ضرار عن حذيفة مرفوعا «يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول له الله تعالى: عبدى، لم ضربته فوق الحد؟ فيقول غضبا لك. فيقول: أكان غضبك أشد من غضبي. ويؤتى بالذي قصر فيقول عبدى لم قصرت؟ فيقول: رحمته. فيقول أكانت رحمتك أشد من رحمتي. ثم يؤمر بهما جميعا إلى النار»
(2) . أخرجه النسائي من طريق أبى زرعة عنه موقوفا وأخرجه النسائي أيضا وابن حبان وأحمد وابن ماجة والطبرانى من هذا الوجه مرفوعا. وقال «أربعين صباحا» ولأحمد «ثلاثين أو أربعين صباحا» وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه ابن ماجة بلفظ «إقامة حد من حدود الله تعالى خير من مطر أربعين ليلة»
(3) . قوله «على مجرده» في الصحاح: فلان حسن المجرد، أى: المعرى اه، أى: المكشوف عن الثياب. (ع)
(4) . أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت في أثناء حديث
(5) . أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.

(3/210)


الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)

ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، وقال: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما اللاتي في الدنيا: فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فيوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار» «1» ولذلك وفي الله فيه عقد المائة بكماله، بخلاف حد القذف وشرب الخمر. وشرع فيه القتلة الهولة وهي الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة على المجلود فيه، وأمر بشهادة الطائفة للتشهير، فوجب أن تكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل. ويشهد له قول ابن عباس رضى الله عنهما:
إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله.

[سورة النور (24) : آية 3]
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء واللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة. كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى: محرم عليه محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد. ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب، وقد نبه على ذلك بقوله وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة، ليس له أن يتزوجها
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الشعب في السابع والثلاثين وابن مردويه وابن أبى حاتم وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبى وائل عن حذيفة، بلفظ «يا معشر الناس» وفي آخره: ثم تلا أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون قال أبو نعيم: تفرد به مسلمة بن على الحسنى عن أبى عبد الرحمن الكوفي عن الأعمش وهو ضعيف، وقال البيهقي: مسلمة متروك. وعبد الرحمن مجهول، وأخرجه الثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن الأعمش فيحتمل أن يكون هو أبو عبد الرحمن المذكور. وفي الباب عن أنس أخرجه الخطيب وابن الجوزي من طريقه وفي إسناده كعب بن عمرو بن جعفر وهو غير ثقة. ورواه الواحدي في الوسيط غالبا من طريق أبى الدنيا الأشج عن على مرفوعا والأشج ادعى أنه سمع من على بعد الثلاثمائة فسمع منه أبو بكر المفيد وغيره وأخباره معروفة.

(3/211)


لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانيا. وقد أجازه ابن عباس رضى الله عنهما وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؟ فقال: أوله سفاح وآخره نكاح. والحرام لا يحرم الحلال. وقيل: المراد بالنكاح الوطء، وليس بقول لأمرين، أحدهما: أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم ترد إلا في معنى العقد. والثاني: فساد المعنى وأداؤه إلى قولك: الزاني لا يزنى إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان. وقيل: كان نكاح الزانية محرما في أول الإسلام ثم نسخ، والناسخ قوله: وأنكحوا الأيامى منكم. وقيل الإجماع، وروى ذلك عن سعيد بن المسيب رضى الله عنه. فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة، وهما معنيان مختلفان «1» . فإن قلت: كيف قدمت الزانية على الزاني أولا، ثم قدم عليها ثانيا؟ قلت:
سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أى فرق بين الجملتين في المعنى؟ قلت: معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان» قال أحمد: وليس فيما ذكره إيضاح إطباق الجملتين. ونحن نوضحه فنقول: الأقسام أربعة: الزاني لا يرغب إلا في زانية. الزانية لا ترغب إلا في زان. العفيف لا يرغب إلا في عفيفة. العفيفة لا ترغب إلا في عفيف. وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني، وحاصرة للقسمة فنقول: اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين، واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما، فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول صريح في القسم الأول ويفهم الثالث، والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع، والقسم الثالث والرابع متلازمان، من حيث أن المقتضى لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في العفة، وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والأعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا، فان معنى الأول الزانية لا ينكحها عفيف، ومعنى الثاني:
العفيفة لا ينكحها زان. والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم، حتى لا يخرج بالكلام عما هو المقصود منه، ثم بينه في إسناد النكاح في هذين القسمين المذكور دون الإناث، بخلاف قوله الزانية والزاني فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا، وقدم الزانية على الزاني. والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنا، والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الايماض والاطماع، والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة، والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم لهذا- وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا، زجرا لهم عن الفاحشة- ولذلك قرن الزنا والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل بعض أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب، فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى فاستعظمه وتلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. [.....]

(3/212)


والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)

ومنه يبدأ الطلب. وعن عمرو بن عبيد رضى الله عنه: لا ينكح، بالجزم على النهى. والمرفوع فيه أيضا معنى النهى، ولكن أبلغ وآكد، كما أن «رحمك الله، ويرحمك» أبلغ من «ليرحمك» ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى: أن عادتهم جارية على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها. وقرئ: وحرم، بفتح الحاء «1» .

[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)
القذف يكون بالزنى وبغيره، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان، أحدهما: ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني: اشتراط أربعة شهداء، لأن القذف بغير الزنى يكفى فيه شاهدان، والقذف بالزنى أن يقول الحر العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زانى، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنا، لست لأبيك، لست لرشدة. والقذف بغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودى، يا مجوسي، يا فاسق، يا خبيث، يا ماص بظر أمه: فعليه التعزير، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد وهو أربعون، بل ينقص منه. وقال أبو يوسف: يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون. وقال: للإمام أن يعزر إلى المائة. وشروط إحصان القذف خمسة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة. وقرئ: بأربعة شهداء، بالتنوين. وشهداء: صفة. فإن قلت: كيف يشهدون مجتمعين أو متفرقين؟ قلت:
الواجب عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة. وعند الشافعي رضى الله عنه: يجوز أن يحضروا متفرقين. فإن قلت: هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم؟ قلت: يجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعي. فإن قلت:
كيف يجلد القاذف؟ قلت: كما جلد الزاني، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضا كالزانية، وأشد الضرب ضرب التعزير، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. قالوا: لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وردعا عن هتكها. فإن قلت: فإذا لم يكن المقذوف محصنا؟ قلت:
يعزر القاذف ولا يحد، إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حد ولا تعزير. رد شهادة القاذف معلق عند أبى حنيفة رضى الله عنه باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل
__________
(1) . قوله «بفتح الحاء» لعله: بفتح الحاء والراء. (ع)

(3/213)


تمام استيفائه قبلت شهادته، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي رضى الله عنه: يتعلق رد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه، عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسك بالآية، فأبو حنيفة رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي: الجلد، ورد الشهادة عقيب الجلد على التأييد، فكانوا مردودى الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم، وجعل قوله وأولئك هم الفاسقون كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية.
وإلا الذين تابوا استثناء من الفاسقين. ويدل عليه قوله فإن الله غفور رحيم والشافعي رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا. غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» وحقه عند أبى حنيفة رضى الله عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم أى: فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينفلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت. الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبى حنيفة رضى الله عنه، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت: المسلمون لا يعبئون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله، فشدد على القاذف من المسلمين ردعا وكفا عن إلحاق الشنار «1» . فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حد القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحد، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحد. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له: أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحد: فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت: هل يورث الحد؟ قلت: عند أبى حنيفة رضى الله عنه لا يورث، لقوله صلى الله عليه وسلم «الحد لا يورث» وعند الشافعي رضى الله عنه يورث، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحد سقط. وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضى الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضى الله عنها.
__________
(1) . قوله «الشنار» في الصحاح «الشنار» العيب والعار. (ع)

(3/214)


والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)

[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 9]
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)
قاذف امرأته إذا كان مسلما حرا بالغا عاقلا، غير محدود في القذف، والمرأة بهذه الصفة مع العفة: صح اللعان بينهما، إذا قذفها بصريح الزنى. وهو أن يقول لها: يا زانية، أو: زنيت، أو رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبدا، أو محدودا في قذف، والمرأة محصنة: حد كما في قذف الأجنبيات، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان: أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، ويقول في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رمانى به من الزنى. وعند الشافعي رضى الله عنه: يقام الرجل قائما حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له: إنى أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، وقال: اللعان بمكة بين المقام والبيت، وبالمدينة على المنبر، وبيت المقدس في مسجده، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام، لقوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ثم يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم، إلا عند زفر، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتى: لا فرقة أصلا. وعند الشافعي رضى الله عنه تقع بلمان الزوج، وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبى حنيفة ومحمد رضى الله عنهما ولا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد جاز أن يتزوجها. وعند أبى يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رضى الله عنهم: هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه.
وروى أن آية القذف لما نزلت «1» قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام
__________
(1) . وفي الخازن: سبب نزول هذه الآية ما روى عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم ابن عدى فقال لعاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أيضا عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك فنزل جبريل بقوله تعالى والذين يرمون أزواجهم- الآية.

(3/215)


عاصم بن عدى الأنصارى رضى الله عنه فقال: جعلني الله فداك، إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبدا وفسق، وإن ضربه بالسيف قتل، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى: اللهم افتح. وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال: ما وراءك؟ قال شر: وجدت على بطن امرأتى خولة- وهي بنت عاصم- شريك بن سحماء، فقال: هذا والله سؤالى، ما أسرع ما ابتليت به! فرجعا، فأخبر عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة فقالت: لا أدرى، ألغيرة أدركته؟
أم بخلا على الطعام- وكان شريك نزيلهم- وقال هلال: لقد رأيته على بطنها. فنزلت، ولا عن بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قوله وقولها: أن لعنة الله عليه، إن غضب الله عليها: آمين، وقال القوم: آمين، وقال لها: إن كنت ألممت بذنب فاعترفى به، فالرجم أهون عليك من غضب الله، إن غضبه هو النار. وقال: تحينوا بها الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج «1» يضرب إلى السواد فهو لشريك، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس رضى الله عنهما: فجاءت بأشبه خلق الله لشريك. فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . وقرئ: ولم تكن، بالتاء، لأن الشهداء جماعة. أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ أربع أن ينتصب، لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو فشهادة أحدهم وهي مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات بالله. وقرئ أن لعنة الله، وأن غضب الله:
على تخفيف أن ورفع ما بعدها. وقرئ: أن غضب الله، على فعل الغضب. وقرئ: بنصب الخامستين «2» ، على معنى: وتشهد الخامسة. فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظا عليها، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها «3» وإطماعها،
__________
(1) . قوله «فان جاءت به أصيهب أثيبج» في الصحاح «الصهبة» الشقرة في شعر الرأس والرجل أصهب. وفيه: ثبج كل شيء وسطه. والأثبج: العريض الثبج ويقال الناتئ الثبج اه وما في الحديث تصغيرهما. وفيه أيضا «الخدلجة» بتشديد اللام المرأة الممتلئة الذراعين والساقين. (ع)
(2) . قوله «وقرئ بنصب الخامستين» في النسفي: أنه لا خلاف في رفع الخامسة الأولى على المشهور. (ع)
(3) . قوله «بخلابتها» في الصحاح «الخلابة» الخديعة باللسان. (ع)

(3/216)


ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10) إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)

ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخولة «فالرجم أهون عليك من غضب الله» .

[سورة النور (24) : آية 10]
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)
الفضل: التفضل، وجواب «لولا» متروك، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.

[سورة النور (24) : آية 11]
إن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)
الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك.
وأصله: الأفك، وهو القلب، لأنه قول مأفوك عن وجهه. والمراد: ما أفك به على عائشة رضى الله عنها. والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة. واعصوصبوا:
اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبى رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقرئ: كبره بالضم والكسر، وهو عظمه «1» . والذي تولاه عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلا إلى الغميزة.
أى يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه. والعذاب العظيم لعبد الله، لأن معظم الشر كان منه. يحكى أن صفوان رضى الله عنه مر بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضى الله عنها، فقال:
والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها.
والخطاب في قوله هو خير لكم لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل رضى الله عنهم. ومعنى كونه خيرا لهم:
أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو
__________
(1) . قوله «وهو عظمه» في الصحاح: عظم الشيء: أكثره ومعظمه. (ع)

(3/217)


لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)

سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها.

[سورة النور (24) : آية 12]
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12)
بأنفسهم أى بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله ولا تلمزوا أنفسكم «1» وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصارى قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت:
لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا. قالت:
ولو كنت أنا بدل عائشة رضى الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير منى، وصفوان خير منك «2» . فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم؟
ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبنى الأمر فيها على الظن لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إفك مبين هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته. كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات.

[سورة النور (24) : آية 13]
لولا جاؤ عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)
__________
(1) . قال محمود: «معناه ظنوا بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم» قال أحمد:
والسر في هذا التعبير: تعطيف المؤمن على أخيه وتوبيخه على أن يذكره بسوء، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة، ولا شيء أشنع من ذلك، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: ونقل أن أبا أيوب الأنصارى قال لامرأته: ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته، وصفوان خير منك وعائشة خير منى» قال أحمد: ولقد ألهمت بنور الايمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان، ونفسها منزلة عائشة، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بطريق الأولى رضى الله عنها. ويحتمل والله أعلم خلاف ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة، والمقصود إلزام سيئ الظن بنفسه، لأنه لم يعتد بوازع الايمان في حق غيره، وألغاه واعتبره في حق نفسه، وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى، والله أعلم.

(3/218)


ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (15)

جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب: ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضى الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة وكانوا عند الله أى في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع: من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟

[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 15]
ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (15)
لولا الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى: ولولا أنى قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض إذ ظرف لمسكم، أو لأفضتم تلقونه يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه. ومنه قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات وقرئ على الأصل: تتلقونه. وإذ تلقونه، بإدغام الذال في التاء «1» . وتلقونه، من لقيه بمعنى لقفه. وتلقونه، من إلقائه بعضهم على بعض. وتلقونه وتألقونه، من الولق والألق: وهو الكذب. وتلقونه: محكية عن عائشة رضى الله عنها، وعن سفيان: سمعت أمى تقرأ: إذ تثقفونه «2» ، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. فإن قلت: ما معنى قوله بأفواهكم والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان «3» . وهذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم،
__________
(1) . قوله «وإذ تلقونه» لعل رسمه هكذا «واتلقونه» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)
(2) . قوله «سمعت أمى تقرأ إذا تثقفونه» وفي نسخة تنقفونه، بمعنى تتبعونه، وكلا النسختين قراءة. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت القول لا يكون إلا بالأفواه، فما فائدة ذكرها؟ قلت: المراد أن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب، وإنما هو مجرد قول اللسان» قال أحمد: ويحتمل أن يكون المراد المبالغة، أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم، وهذا أشد وأقطع، وهو السر الذي أنبا عنه قوله تعالى قد بدت البغضاء من أفواههم والله أعلم.

(3/219)


ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16)

أى: تحسبونه صغيرة وهو عند الله كبيرة موجبة «1» . وعن بعضهم أنه جزع عند الموت، فقيل له، فقال: أخاف ذنبا لم يكن منى على بال وهو عند الله عظيم. وفي كلام بعضهم: لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير، فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها، أحدها: تلقى الإفك بألسنتهم، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه. والثاني: التكلم مما لا علم لهم به. والثالث: استصغارهم لذلك و «وعظيمة من العظائم.

[سورة النور (24) : آية 16]
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16)
فإن قلت: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قلت: فأى فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: فما معنى يكون، والكلام بدونه متلئب «2» لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟
قلت: معناه معنى: ينبغي، ويصح أى: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا. وما يصح لنا. ونحوه:
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. وسبحانك للتعجب من عظم الأمر «3» . فإن قلت:
ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة. فإن قلت: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم،
__________
(1) . قوله «وهو عند الله كبيرة موجبة» لعله موجبة للعقاب. (ع)
(2) . قوله «والكلام بدونه متلئب» لعله: محرف، وأصله مستتب. وفي الصحاح: استتب الأمر: تهيأ واستقام. (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «معناه التعجب من عظم الأمر، وأصله أن الإنسان إذا رأى عجيبا من صنائع الله تعالى سبحه، ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه، ثم أوردها هنا سؤالا على توبيخهم على ترك التعجب فقال:
إن قلت: لم جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة، ولم يكن كفرها متعجبا منه وفجورها متعجب منه؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويتزلفوا إليهم، وكفر الزوجة غير مانع ولا منفر بخلاف الكشخنة» قال أحمد: وما أورد عليه أبرد من هذا السؤال، كأن أحدا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة، مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كل لبيب، والله الموفق،

(3/220)


يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم (20) ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم (21)

فيجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم، ولم يكن الكفر عندهم مما ينفر. وأما الكشخنة «1» فمن أعظم المنفرات.

[سورة النور (24) : الآيات 17 الى 18]
يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18)
أى كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا، من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه.
وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين. وإن كنتم مؤمنين فيه تهييج لهم ليتعظوا، وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصاد عن كل مقبح، ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع، ويعلمكم من الآداب الجميلة، ويعظكم به من المواعظ الشافية، والله عالم بكل شيء، فاعل لما يفعله بدواعى الحكمة.

[سورة النور (24) : آية 19]
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)
المعنى: يشيعون الفاحشة عن قصد إلى الإشاعة، وإرادة ومحبة لها، وعذاب الدنيا الحد، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبى وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف، وكف بصره. وقيل: هو المراد بقوله والذي تولى كبره منهم والله يعلم ما في القلوب من الأسرار والضمائر وأنتم لا تعلمون يعنى أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبة عليها.

[سورة النور (24) : آية 20]
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤف رحيم (20)
وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفا جواب لولا كما حذفه ثمة. وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغة عظيمة، وكذلك في التواب والرءوف والرحيم.

[سورة النور (24) : آية 21]
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم (21)
الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب:
__________
(1) . قوله «الكشخنة» كأنها الدياثة. (ع)

(3/221)


ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22) إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)

ضرائر حرمى تفاحش غارها «1»
أى: أفرطت غيرتها. والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: خطوات، بفتح الطاء وسكونها. وزكى بالتشديد، والضمير لله تعالى، ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك، ولكن الله يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو سميع لقولهم عليم بضمائرهم وإخلاصهم.

[سورة النور (24) : آية 22]
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22)
وهو من ائتلى إذا حلف: افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهدا، إذا لم تدخر منه شيئا. ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتأل. والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبى بكر الصديق رضى الله عنهما، وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط:
آلى أن لا ينفق عليه، وكفى به داعيا إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسىء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على أبى بكر، فقال: بلى أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: أن تؤتوا، بالتاء على الالتفات. ويعضده قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم.

[سورة النور (24) : آية 23]
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)
الغافلات السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر،
__________
(1) .
لهن نشيج بالنشيل كأنها ... ضرائر حرمي تفاحش غارها
الضمير للقدور. والنشيج: الصوت، كالنئيج. يقال: نشجت القدر ونشج الباكي، وطعنة ناشجة: تبك دما. والباء للملابسة. والنشيل: اللحم المطبوخ: ينشل من القدر. والضرائر: نسوة الرجل، لأن كلا منهن تريد ضر الأخرى والحرمي: نسبة إلى الحرم، كالجسم لغة في حرم مكة. والتفاحش: الافراط في القبح. والغار، الغيرة، أو الوجيب والصياح، وهو أنسب بالتشبيه.

(3/222)


يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25)

لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال:
ولقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها «1»
وكذلك البله من الرجال في قوله عليه الصلاة والسلام «أكثر أهل الجنة البله» .

[سورة النور (24) : الآيات 24 الى 25]
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25)
وقرئ: يشهد، بالياء. والحق: بالنصب صفة للدين وهو الجزاء، وبالرفع صفة لله، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف. واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك.
ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وشهد شاهد من أهلها. وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: إنى عبد الله. وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إناقة محل سيد ولد آدم، وخيرة الأولين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف
__________
(1) . لهوت: تلاهيت ولعبت، بطفلة- بالفتح- أى: امرأة ناعمة لينة، يقال: امرأة طفلة الأنامل، أى:
رخصتها لينتها، ميالة: مختالة، بلهاء: غافلة لا مكر عندها ولا دهاء، فلذلك تطلعني على ضمائرها.

(3/223)


غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفى التهمة عن حجابه. فإن قلت: إن كانت عائشة هي المرادة فكيف قيل المحصنات «1» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يخصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لا حق به، وإذا أردن وعائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت المرادة أولا.
والثاني: أنها أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال:
قدنى من نصر الخبيبين قدى «2»
أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه، وكان مضعوفا «3» ، وكنيته المشهورة أبو بكر، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة. فإن قلت: ما معنى قوله هو الحق المبين؟ قلت: معناه ذو الحق البين، أى: العادل الظاهر العدل، الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه.
__________
(1) . قال محمود: «إن كانت عائشة هي المرادة، فلم جمع؟ قلت: المراد إما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون هذا الوعيد لاحقا بقاذفهن، وإما عائشة وجمعت إرادة لها ولبناتها، كما قال:
قدنى من نصر الخبيبين قدى
يعنى عبد الله بن الزبير وأشياعه وكان يكنى أبا خبيب» قال أحمد: والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، على أن تعميم الوعيد أبلغ وأقطع من تخصيصه وهذا معنى قول زليخا ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فعممت وأرادت يوسف، تهويلا عليه وإرجافا، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
(2) .
قدنى من نصر الخبيبين قد ... ليس الامام بالشحيح الملحد
ولا يوتن بالحجاز مفرد ... إن ير يوما بالقضاء يصطد
أو ينجحر فالجحر شر محكد
لحميد الأرقط. وقيل: لأبى بحدلة يخاطب عبد الملك بن مروان. وقدنى: بمعنى حسبي. وكرر للتوكيد. والخبيبين يروى بصيغة التثنية، يعنى عبد الله بن الزبير وابنه خبيب، وكانوا إذا ذموه كنوه بأبى خبيب بالتصغير. ويروى بصيغة الجمع، يعنى: عبد الله وشيعته، كان ادعى الخلافة فقال الشاعر: لا يكون الامام شحيحا أى بخيلا، ولا ملحدا أى محتكرا أو محاربا في الحرم. والإلحاد: الميل. والوتن بالسكون، والواتن بالمثناة، وبالمثلثة: الثابت الدائم، يوصف به الماء ونحوه. ويروى: يوبر، والوبر حيوان صغير ذليل لا ذنب له يحبس ويعلف، ومفرد: يروى بالفاء وبالقاف. وقرد الرجل: سكت من عي. وأفرد: سكن وتماوت. وأقردت الشيء: جمعته وصممته وهو منه. ويصطد: مبنى للمجهول، وهو يناسب رواية وبر. والانجحار: دخول الجحر. والمحكد. الملجأ والمهرب. وحاشا لابن الزبير أن يكون ملحدا.
(3) . قوله «وكان مضعوفا» في الصحاح: أضعفت الشيء فهو مضعوف، على غير قياس. (ع)

(3/224)


يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25) الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم (26) ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)

[سورة النور (24) : الآيات 24 الى 26]
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين (25) الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم (26)
أى الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء والخبيثون منهم يتعرضون للخبيثات من القول، وكذلك الطيبات والطيبون. وأولئك إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم «1» ، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى أهل البيت، وأنهم مبرءون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أى: الخبائث يتزوجن الخباث، والخباث الخبائث، وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله وأعتدنا لها رزقا كريما وعن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: «2» لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجنى، ولقد تزوجنى بكرا وما تزوج بكرا غيرى، ولقد توفى وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي. وإن الوحى لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنى لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.

[سورة النور (24) : آية 27]
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)
تستأنسوا فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش
__________
(1) . قال محمود: تحتمل الآية أمرين، أحدهما: أن يكون المراد الكلمات الخبيثة للخبيثين، والمراد: الافك ومن أفاض فيه، وعكسه في الطيبات والطيبين. الثاني: أن يكون المراد بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال» قال أحمد: إن كان الأمر على التأويل الثاني، فهذه الآية تفصيل لما أجمله قوله تعالى الزانية لا ينكحها إلا زان وقد بينا أنها مشتملة على هذه الأقسام الأربعة تصريحا وتضمينا، فجاءت هذه الآية مصرحة بالجميع. وقد اشتملت على فائدة أخرى وهي الاستشهاد على براءة أم المؤمنين بأنها زوجة أطيب الطيبين، فلا بد وأن تكون طاهرة طيبة مبرأة مما أفكت به، وهذا التأويل الثاني هو الظاهر، فان بعد الآية لهم مغفرة ورزق كريم وبهذا وعد أزواجه عليه السلام في قوله تعالى نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: ونقل عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة، فذكرت منهن أنها خلقت طيبة عند طيب» قال أحمد: وهذا أيضا يحقق ما ذكرته من أن المراد بالطيبات والطيبين: النساء والرجال، وأن المراد بذلك: إظهار براءة عائشة بأنها زوج أطيب الطيبين، فيلزم أن تكون طيبة، وفاء بقوله والطيبون للطيبات والله أعلم.

(3/225)


لأن الذي يطرق باب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم كقوله: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم وهذا من باب الكناية والإرداف، «1» لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن. فوضع موضع الإذن. والثاني أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف: استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا. ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحدا، واستأنست فلم أر أحدا، أى: تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة:
على مستأنس وحد «2»
ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه: قلنا يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح: يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع. وعن أبى موسى الأشعرى أنه أتى باب عمر رضى الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاثا واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعليه، فإنه لا يحسن أن يستأذن. قولي له يقول: السلام عليكم أأدخل
__________
(1) . قال محمود: «فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش، أى: حتى يؤذن لكم فتستأنسوا، عبر بالشيء عما هو رادف له. الثاني: أن يكون من الاستعلام من آنس إذا أبصر. والمعنى:
حتى تستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا؟ وذكر أيضا وجها بعيدا، وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا؟» قال أحمد: فيكون على هذا الأخير بنى من الانس استفعل، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة: ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة ذكر فان له فائدة وثمرة تميل النفوس اليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقدير عدم الاستئذان ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) .
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد
للنابغة، يصف جمله بأنه كحمار الوحش المسرع خوفا مما رآه. وقال الأصمعى: زال النهار: انتصف، ولعله لزوال الشمس فيه عن وسط السماء. ويجوز أن المعنى: مضى ولم يبق منه إلا قليل، كما هو متبادر إسناد الزوال إلى النهار. وبنا: أى علينا. ويجوز أن الباء للملابسة. والجليل. شجر له خوص كخوص النخل. وذو الجليل:
موضعه. والمستأنس: الذي يرفع رأسه، هل يرى شخصا؟ وقيل: الذي يخاف الأنيس. واستأنست بالشيء: سكن إليه قلبي. واستأنست: استعلت واستبصرت وخفت من الأنيس. والوحد. المنفرد: ووحد كظرف، فهو وحيد. ووحد كسبب، ووحد كحذر: انفرد، أى كان الرجل فوق ذلك الحمار لا فوق الجمل، لسرعة سيره كالحمار.

(3/226)


فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم (28)

فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل «1» . وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا، وحييتم مساء، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصد الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل. وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك: بينا أنت في بيتك، إذا رعف عليك الباب «2» . بواحد، من غير استئذان ولا تحية من تحايى إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟ وفي قراءة عبد الله: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو حتى تستأذنوا، فأخطأ الكاتب. ولا يعول على هذه الرواية. وفي قراءة أبى: حتى تستأذنوا ذلكم الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور- وهو الدخول بغير إذن- واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك، كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب. وفي الحديث «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» «3» وروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمى؟ قال:
نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيرى، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة قال الرجل: لا. قال: فاستأذن «4» لعلكم تذكرون أى أنزل عليكم. أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.

[سورة النور (24) : آية 28]
فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم (28)
يحتمل فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين فلا تدخلوها واصبروا حتى تجدوا من
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية سفيان السمان: سمعت سعيد بن جبير ولم يسم روضة، قال فيه: «وقال لخادمه» .
(2) . قوله «إذا رعف عليك الباب» في الصحاح: رعف الرجل، إذا خرج الدم من أنفه. ورعف الفرس، إذا سبق وتقدم، فكان ما هنا مجاز على وجه التشبيه. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني من طريق أبى السفر عن يزيد بن شريح عن أبى أمامة بلفظ «من أدخل عينه في بيت من غير إذن أهله فقد دمره ولإبراهيم الحربي في الغريب من حديث ثور بن يزيد عن يزيد بن شريح عن أبى حى المؤذن عن أبى هريرة بلفظ «لا يحل لمسلم أن ينظر في بيت حتى يستأذن فان فمل فقد دمر» قال أبو عبيدة في غريب الحديث: حدثنا هشيم عن منصور بن الحسن بلفظه مرسلا قال قال الكسائي «دمر» بالتخفيف أى دخل بغير إذن. [.....]
(4) . أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عطاء بن يسار «أن رجلا سأل» فذكره مرسلا، وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء. وأورده الطبري من طريق زياد بن سعد عن عطاء مرسلا أيضا وقال ابن أبى شيبة في النكاح: حدثنا ابن عيينة عن زيد بن أسلم فذكره مرسلا

(3/227)


ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (29)

يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها، وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب فارجعوا أى لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين، لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصا إذا كانوا ذوى مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدى إليها: من قرع الباب بعنف، والتصبيح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس. وعن أبى عبيد: ما قرعت بابا على عالم قط. وكفى بقصة بنى أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. فإن قلت: هل يصح أن يكون المعنى: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا، ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت: بعد أن جزم النهى عن الدخول مع فقد الإذن وحده من أهل الدار حاضرين وغائبين، لم تبق شبهة في كونه منهيا عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن. فإن قلت: فإذا عرض أمر في دار: من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت: ذلك مستثنى بالدليل، أى: الرجوع أطيب لكم وأطهر، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة. أو أنفع وأنمى خيرا. ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.

[سورة النور (24) : آية 29]
ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (29)
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكون منها، وذلك نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى أن أبا بكر رضى الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن «1» ؟ فنزلت. وقيل. الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز والله يعلم ما تبدون وما تكتمون وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
__________
(1) . لم أجده

(3/228)


قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون (31)

[سورة النور (24) : آية 30]
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30)
من للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل. وجوز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه. فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفروج؟
قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع. ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وأسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين. وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثنى منه. ويجوز أن يراد- مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل- حفظها عن الإبداء. وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا، إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه خبير بأفعالهم وأحوالهم، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم- إذ عرفوا ذلك- أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.

[سورة النور (24) : آية 31]
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (31)
النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبى إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأسا، ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك.
وغضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم- وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله،

(3/229)


أليس أعمى لا يبصر؟ قال: أفعميا وان أنتما؟ «1» ألستما تبصرانه؟ فإن قلت: لم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. الزينة: ما تزينت به المرأة من حلى أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة «2» والكحل والخضاب. فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر، لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن، فنهى عن إبداء الزين نفسها. ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع- بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مفال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها «3» فإن قلت. ما تقول في القراميل «4» ، هل يحل نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم. فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها، وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذى ما تحت السرة؟ قلت: الأمر كما قلت، ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلا فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلا عن هؤلاء، إلا إذا كان يصف لرقته فلا يحل النظر إليه، فلا يحل النظر إلى القراميل واقعة عليه. فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة؟
ذلك العضو كله، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني كلهم من رواية بنهان كاتب أم سلمة عنها. قال النسائي: لا نعلم رواه عن بنهان إلا الزهري وقال إسحاق في مسنده: أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا مغول عن يونس عن الزهري عن نهان عن أم سلمة قالت «استأذن ابن أم مكتوم وأنا وزينب عنده- الحديث. ومندل ضعيف خالف في ذكر زينب بدل ميمونة.
(2) . قوله «والفتخة ... الخ» في الصحاح: الفتخة- بالتحريك- حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها. وفيه «الإكليل» شبه عصابة تزين بالجوهر، ويسمي التاج:
إكليلا. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد النهي عن إبداء مواضع الزينة، فليس النهى عن إظهار الزينة مقصودا لعينه، ولكن جعل نفسها كناية عن إبداء مواقعها بطريق الأولى» قال أحمد: وقوله تعالى عقيب ذلك ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن محقق أن إبداء الزينة بعينه مقصودا بالنهى، لأنه قد نهى عما هو ذريعة إليه خاصة، إذ الضرب بالأرجل لم يعلل النهى عنه إلا بعلم أن المرأة ذات زينة وإن لم تظهر، فضلا عن مواضعها، والله أعلم.
(4) . قوله «القراميل» في الصحاح: القراميل، ما تشده المرأة في شعرها. (ع)

(3/230)


بالوسمة «1» في حاجبيه وشاربيه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء. فإن قلت: لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن، وهذا معنى قوله إلا ما ظهر منها يعنى إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما سومح في الزينة الخفية. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها، ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسمية بما يليها ويلابسها. ومنه قولهم: ناصح الجيب. وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه. وعن عائشة رضى الله عنها: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها «2» المرحل فصدعت منه صدعة، فاختمرن، فأصبحن كأن على رءوسهن الغربان»
. وقرئ: جيوبهن، بكسر الجيم لأجل الياء. وكذلك بيوتا غير بيوتكم قيل في نسائهن: هن المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. عن ابن عباس رضى الله عنهما. والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهن من الحرائر والإماء والنساء، كلهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: ما ملكت أيمانهن هم الذكور والإناث جميعا. وعن عائشة رضى الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت
__________
(1) . قوله «والخضاب بالوسمة» في الصحاح: الوسمة- بكسر السين- العظلم يختضب به، وتسكينها لغة. وفيه «العظلم» نبت يصبغ به. وفيه أيضا «الغمرة» طلاء يتخذ من الورس. (ع)
(2) . قوله «قامت كل واحدة منهن إلى مرطها» في الصحاح «المرط» كساء من صوف أو خز كان يؤتزر به.
وفيه أيضا «مرط مرحل» إزار خز فيه علم. (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق مسلم بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية عنها وأتم منه.
وأخرجه ابن مردويه من طريق داود بن عبد الرحمن ومن طريق روح بن القاسم. كلاهما عن ابن خثيم. وأخرجه أبو داود مختصرا من وجه آخر عن قرة عن الزهري عن عروة عن عائشة. ونقله البخاري قال قال أحمد بن شبيب: حدثنا أبى عن يونس عن الزهري به: قلت ووصله ابن مردويه من طريق أحمد بن شبيب.

(3/231)


فأنت حر «1» . وعن سعيد بن المسيب مثله «2» ، ثم رجع وقال: لا تغرنكم آية النور، فإن المراد بها الإماء «3» . وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبى منها، خصيا كان أو فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصى، فتقنعت منه، فقال: هو خصى فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله «4» ؟ وعند أبى حنيفة: لا يحل استخدام الخصيان وإمساكهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم. فإن قلت:
روى أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصى فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه «5» ، أو لسبب من الأسباب. الإربة الحاجة، قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن. أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة. وقرئ غير بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجر على الوصفية. وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس. ويبين ما بعده أن المراد به الجمع. ونحوه نخرجكم طفلا. لم يظهروا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أى: لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من ظهر على فلان إذا قوى عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أى: لم يبلغوا أو ان القدرة على الوطء. وقرئ: عورات، وهي لغة هذيل. فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال؟
قلت: سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن
__________
(1) . هذا ملفق من أثرين، الأول: أخرجه البيهقي من طريق عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال استأذنت على عائشة فقالت: سليمان؟ ادخل. فإنك عبد ما بقي عليك درهم وعلقه البخاري عن سليمان والثاني أخرجه ابن سعد من رواية محمد بن على بن الحسين «أن عائشة رضى الله عنها قالت: إذا كفنت ودفنت وحنطت ودلانى ذكوان في حفرتي فهو حر» وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج. أخبرنى ابن أبى مليكة أن عائشة رضى الله عنها قالت «إذا غيبنى أبو عمرو ودلانى في حفرتي فهو حر» .
(2) . لم أره
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية طارق عن سعيد بن المسيب «لا تغرنكم الآية: إلا ما ملكت أيمانكم إنما عنى الإماء دون العبيد»
(4) . لم أجده قلت: ذكره المسعودي في مروج الذهب بغير إسناد.
تنبيه: وقع في الكشاف الكلابية. والصواب الكلبية بسكون اللام. والقصة ذكرها غيره ببنت قرظة.
(5) . أخرجه ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا يعقوب بن أبى صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة قال «أهدى المقوقس صاحب الاسكندرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة. مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهب وعشرين ثوبا وبغلة. وحماره عفيرا وخصيا يقال له ما يود. فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها ثم أسلم الخصى بعد» وقع ذكر الخصى هذا في عدة أحاديث منها حديث على رضى الله عنه.
وقوله «هذا ضعيف، ولا يقبل فيما تعم به البلوى، إلا حديث مكشوف إن صح. ولعله قبله ليعتقه» اه. وليس هذا فيما تعم به البلوى في شيء. [.....]

(3/232)


وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (32)

سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية «1» إلا العم والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم، فيدانى تصوره لها بالوصف نظره إليها، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهى عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها. وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. وقرئ: أيه المؤمنون، بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.

[سورة النور (24) : آية 32]
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (32)
الأيامى واليتامى: أصلهما أيائم ويتائم، فقلبا. والأيم: للرجل والمرأة. وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال:
فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى ... وإن كنت أفتي منكم أتأيم «2»
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم «4» ، والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من
__________
(1) . قوله «يشترك الأب والابن في المحرمية» الرابط محذوف، أى: يشترك بها الأب ... الخ. (ع)
(2) . آم الرجل- بالمد- والمرأة. وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، يقول لمحبوبته، إن تتزوجي أتزوج وإن لم تتزوجي لم أتزوج. وجملة «وإن كنت أفتى منكم» اعتراضية. والأفتى الأكثر فتية وشبابا. وعبر بضمير جمع الذكور للتعظيم، ورفع المضارع في جواب الشرط كما هنا قليل، ولعله ارتكبه لأجل القافية.
(3) . لم أجده
(4) . قوله «من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم» في الصحاح «العيمة» شهوة اللبن. وفيه: «الغيم» العطش وحر الجوف اه وهو يفيد أن «الغيمة» المرة من ذلك. وفيه «الأيامى» الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. وآمت المرأة من زوجها تئيم أيمة. وفيه: كزم الشيء بمقدم فيه، أى: كسره واستخرج ما فيه. وفيه:
قرم الصبى والبهم قرما، وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. والقرم- بالتحريك-: شدة شهوة اللحم اه. ويروى في الحديث «القذم» بالذال بدل الراء. وفي الصحاح: القذم على وزن الهجف: الشديد. وفيه أيضا: الهجف من النعام ومن الناس. الجافي الثقيل. قال الكميت:
هو الأضبط الهواس فينا شجاعة ... وفيمن يعاديه الهجف المثقل
ولا يستقيم الوزن إلا بتشديد الفاء. وفيه «الهواس» : الأسد (ع)

(3/233)


غلمانكم وجواريكم. وقرئ: من عبيدكم. وهذا الأمر للندب لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه «1» ، وقد يكون الوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك، وعند أصحاب الظواهر: النكاح واجب. ومما يدل على كونه مندوبا إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي وهي النكاح» «2» وعنه عليه الصلاة والسلام «من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا» «3» . وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا تزوج أحدكم عج «4» شيطانه:
يا ويله، عصم ابن آدم منى ثلثي «5» دينه» وعنه عليه الصلاة والسلام: «يا عياض لا تزوجن عجوزا ولا عاقرا، فإنى مكاثر «6» » والأحاديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا
__________
(1) . قال محمود: «هذا أمر والمراد به الندب، ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك، وأدرج فيها قوله عليه الصلاة والسلام: من وجد نكاحا فلم ينكح فليس منا» قال أحمد: وهذا بأن يدل على الوجوب أولى، ولكن قد ورد مثله في ترك السنن كثيرا، وكأن المراد: من لم يستن بسنتنا، على أنه قد ورد في الواجب كقوله «من غشنا فليس منا» ومجانبة الغش واجبة «ومن شهر السلاح في فتنة فليس منا» ومثله كثير
(2) . أخرجه عبد الرزاق من رواية عبيد بن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره مرسلا وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه فكأنه ظن أن عبيد بن سعيد له صحبة. ولابن عدى من رواية أبى حرة واصل ابن عبد الرحمن عن الحسن عن أبى هريرة بلفظ «من أحب فطرتي فليتبعن سنتي وإن من سنتي النكاح»
(3) . أخرجه أبو داود في المراسيل وأحمد وإسحاق والدارمي والطبراني وعبد الرزاق وابن أبى شيبة كلهم من رواية أبى المفلس عن أبى نجيح رفعه «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منا» وأخرجه الثعلبي من هذا الوجه، بلفظ المصنف، قال ابن راهويه: رواه بعضهم عن ابن جريج عن أبى المفلس عن أبى نجيح عمرو بن عبسة قال.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو غلظ. وليس أبو نجيح هذا عمرو بن عبسة. وقد رواه الحارث بن أبى أسامه في مسنده عن الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج حدثني أبو المفلس سمعت أبا نجيح السلمي يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكر نحوه.
(4) . قوله «عج شيطانه» أى: صاح. (ع)
(5) . أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط. والثعلبي من رواية صالح مولى التوأمة عن جابر. وعن بعضهم عن أبى هريرة بدل جابر وفي إسناده خالد بن إسماعيل المخزومي وهو متروك
(6) . أخرجه الحاكم والثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن يحيى بن جابر عن جبير بن معمر عن عياض بن غنم الأشعرى ومعاوية ضعيف، وقوله: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار كثيرة اه. فمنها حديث أنس رضى الله عنه في الصحيحين «أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء ... الحديث» وفيه «لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى» ومنها حديث ابن مسعود رضى الله عنه «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» متفق عليه وقد تقدم في المائدة. وحديث أنس رضى الله عنه: «كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل» وأخرجه ابن حبان وحديث «تزوجوا توالدوا وتناسلوا فانى مباه بكم الأمم» له طرق في السنن وغيرها. وحديث عطية بن بشر في قصة عكاف بن وداعة الهلالي في الحض على التزويج. وفيه «إن شراركم عزابكم» رواه إسحاق في مسنده أخبرنا نضية عن معاوية بن يحيى الصدفي أنه حدثه عن سليمان بن موسى عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن عطية بن بشر بطوله. رواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية ابن عتبة عن برد بن سنان عن مكحول عن عطية بن بشر لم يذكر غضيف وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن مكحول عن أبى ذر فذكر نحوه ومنها حديث أنس رضى الله عنه «من تزوج فقد استكمل نصف الايمان فليتق الله في النصف الثاني» أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف جدا وسيأتى باقيها بعد.

(3/234)


أتى على أمتى مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤس الجبال «1» » وفي الحديث «يأتى على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة «2» » فإن قلت: لم خص الصالحين؟ قلت: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم. وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك. أو أريد بالصلاح: القيام بحقوق النكاح. ينبغي أن تكون شريطة الله غير منسية في هذا الموعد ونظائره وهي مشيئته «3» ، ولا يشاء الحكيم
__________
(1) . أخرجه البيهقي والثعلبي من حديث ابن مسعود. وفي إسناده سليمان بن عيسى الخراساني وهو كذاب.
ومن طريقه رواه ابن الجوزي في الموضوعات، لكن له طريق أخرى. أخرجه على بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية عن الحسن بن واقد الحنفي. قال: أظنه من حديث بهز بن حكيم فذكره وهو متصل.
(2) . أخرجه على بن معبد في الطاعة والمعصية حدثنا عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتى على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق، ومن حجر إلى حجر، فإذا كان ذلك حلت العزوبة. قيل كيف تحل العزوبة- فذكر حديثا طويلا» وصله الخطابي في العزلة من طريق السعرى بن يحيى عن الحسن عن أبى الأحوص عن عبد الله. وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف.
(3) . عاد كلامه. قال: «ينبغي أن تكون شريطة الحكمة والمصلحة غير منسية: واستشهد على ذلك بقوله وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء قال أحمد: جنوحه للمعتقد الفاسد يمنع عليه الصواب، فان معتقده وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، فمن ثم شرط الحكمة والمصلحة محجرا واسعا من فضل الله تعالى، ثم استشهد على ذلك بما يشهد عليه لا له، فان قوله تعالى في الآية الأخرى إن شاء يقتضى أن وقوع الغنى مشروط بالمشيئة خاصة، وهذا معتقد أهل الحق، فطاح اشتراط الحكمة عن محل الاستدلال، تعالى عن الإيجاب رب الأرباب، لكن ينبغي التنبه لنكتة تدعو الحاجة إلى التنبيه عليها، ليعم نفعها ويعظم وقعها إن شاء الله. وذلك أنا إذا بنينا على أن ثم شرطا محذوفا، لا بد من تقديره ضرورة صدق الخبر، إذ لو اعتقدنا أن الله تعالى يغنى كل متزوج على الإطلاق مع أنا نشاهد كثيرا ممن استمر به الفقر بعد النكاح بل زاد، للزم خلف الوعد- تقدس الله وتعالى عن ذلك- فقد ثبت الاضطرار إلى تقدير شرط للجمع بين الوعد والواقع، فالقدرية يقولون: المراد إن اقتضت الحكمة ذلك، فكل من لم يغنه الله بأثر التزوج فهو ممن لم تقتض الحكمة إغناءه. وقد أبطلنا أن يكون هذا الشرط هو المقدر، وحتمنا أن المقدر شرط المشيئة كما ظهر في الآية الأخرى، وحينئذ فكل من يستغن بالنكاح فذلك لأن الله تعالى لم يشأ غناه. فلقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة، فمن مستغن به، ومن فقير كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم، وليس هذا كاقرار شرط المشيئة في الغفران للموحد العاصي، فان الوعد ثم له ارتباط بالتوحيد. وإن ارتبط بالمشيئة أيضا، من حيث أن غير الموحد لا يغفر الله له حتما، ولا تستطيع أن تقول: وغير الناكح لا يغنيه الله حتما، لأن الواقع يأباه. فالجواب- وبالله التوفيق-: أن فائدة ربطه الغنى بالنكاح: أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبب جل وعلا، حتى غلب الوهم على العقل، فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما، وإن كان واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع بالايذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام لنفاد المال، وقد يقدر الاملاق مع عدمه الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام والواقع يشهد بذلك فلا مراء، فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر مرتبطات بمسبباتها ارتباطا لا ينفك ليست على ما يزعمونه، وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب، غير موقوف، تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة، وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح، لأنه استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار، وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه، وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس، فمعنى قوله حينئذ إن يكونوا فقراء.... الآية أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله، فعبر عن نفى كونه مانعا من الغنى بوجوده معه، ولا تبطل المانعية، لا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك، فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض فان ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة، ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت فلا مانع، فعبر عن نفى المانع بالانتشار بما يفهم تقاضى الانتشار، مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع والله أعلم، فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه.

(3/235)


إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة «1» ، ونحوه: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضا بعزب كان غنيا فأفقره النكاح، وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففنى وأصبح مسكينا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح «2» »
__________
(1) . قوله «إلا ما اقتضته الحكمة وما كان مصلحة» كأنه مبنى على أنه تعالى يجب عليه فعل الصلاح، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: لا يجب على الله شيء. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية مسلم بن خالد وابن مردويه من رواية أبى السائب سلام بن جنادة عن أبى أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعا «تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال» قال الحاكم تفرد به سلام وهو ثقة: وقال البزاز والدارقطني وغير سلام يرويه مرسلا اه. وهو كما قال. وقد أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى أسامة- فلم يذكر عائشة. وكذلك أخرجه أبو داود في المراسيل عن ابن التوأمة عن أبى أسامة وأخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف في تاريخ جرجان من رواية الحسين بن علوان عن هشام موصولا. والحسين متهم بالكذب «تنبيه» ظن المخرج أن هذا يرد على كلام البزار والدارقطني. وليس كما ظن لأنه قال قد تابعه عبد المؤمن العطار وقال أيضا تابعه عبد الله بن ناجية فأما الأول فالمتابع إنما هو الحسين شيخ عبد المؤمن وقد قلنا إنه لا يسوى شيئا. وأما الثاني فإنما رواه ابن ناجية عن أبى السائب نفسه فظهر تفرد أبى السائب بوصله من بين الثقات. وأما الحسين بن علوان فلا تفيد متابعته شيئا لوهنه.

(3/236)


وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)

وشكا إليه رجل الحاجة فقال «1» : «عليك بالباءة «2» » وعن عمر رضى الله عنه: عجبت لمن لا يطلب الغنى بالباءة «3» . ولقد كان عندنا رجل رازح الحال، ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته؟ فقال: كنت في أول أمرى على ما علمت، وذلك قبل أن أرزق ولدا، فلما رزقت بكر ولدى تراخيت عن الفقر، فلما ولد لى الثاني زدت خيرا، فلما تتاموا ثلاثة صب الله على الخير صبا، فأصبحت إلى ما ترى والله واسع أى غنى ذو سعة لا يرزؤه «4» إغناء الخلائق، ولكنه عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

[سورة النور (24) : آية 33]
وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (33)
وليستعفف وليجتهد في العفة وظلف النفس «5» ، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه لا يجدون نكاحا أى استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح:
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية الدارقطني عن أبى عجلان «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الحاجة. الحديث» .
(2) . قوله «فقال عليك بالباءة» في الصحاح سمى النكاح باء وباءة، لأن الرجل يتبوأ من أهله، أى: يستمكن منها كما يتبوأ من داره، وفيه أيضا «الرازح من الإبل» الهالك هزالا اه، فان كان مختصا بالإبل فقد يتوسع فيه إلى غيرها. (ع)
(3) . رواه هشام بن حسان عن الحسن عن عمر نحوه.
(4) . قوله «لا يرزؤه» أى: لا ينقصه. (ع)
(5) . قوله «وظلف النفس» في الصحاح: ظلف نفسه عن الشيء، أى: منعها. وظلفت نفسي عن كذا بالكسر-: أى كفت. (ع)

(3/237)


ما ينكح به من المال حتى يغنيهم الله ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها «1» عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه والذين يبتغون مرفوع على الابتداء. أو منصوب بفعل مضمر يفسره فكاتبوهم كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة: وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق. ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق. ويجوز عند أبى حنيفة رضى الله عنه حالا ومؤجلا. ومنجما وغير منجم لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياسا على سائر العقود. وعند الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز إلا مؤجلا منجما. ولا يجوز عنده بنجم واحد لأن العبد لا يملك شيئا، فعقده حالا منع من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلا. ويجوز عقده على مال قليل وكثير، وعلى خدمة في مدة معلومة، وعلى عمل معلوم مؤقت: مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض وبناء دار قد أراه آجرها وجصها وما يبنى به. وإن كاتبه على قيمته لم يجز. فإن أداها عتق.
وإن كاتبه على وصيف «2» ، جاز، لقلة الجهالة ووجب الوسط، وليس له أن يطأ المكاتبة، وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن رضى الله عنه: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر رضى الله عنه: هي عزمة من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله وهو مذهب داود خيرا قدرة على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانة وتكسبا. وعن سلمان رضى الله عنه أن مملوكا له ابتغى أن يكاتبه فقال: أعندك مال؟ قال: لا، قال: أفتأمرنى أن آكل غسالة أيدى الناس وآتوهم أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله تعالى وفي الرقاب عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم. فإن قلت: هل يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق
__________
(1) . قوله «وعزفها عن الطموح إلى الشهوة» في الصحاح: عزفت نفسي عن الشيء: زهدت فيه وانصرفت عنه. (ع)
(2) . قوله «على وصيف» الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية، كذا في الصحاح. (ع)

(3/238)


به عليه؟ قلت. نعم. وكذلك إذا لم تف الصدقة بجميع البدل وعجز عن أداء الباقي طاب للمولى ما أخذه، لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد المكاتبة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها أو وهبت له، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» «1» وعند الشافعي رضى الله عنه: هو إيجاب على الموالي أن يحطوا لهم من مال الكتابة. وإن لم يفعلوا أجبروا. وعن على رضى الله عنه: يحط له الربع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يرضخ له من كتابته شيئا. وعن عمر رضى الله عنه أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية، وهو أول عبد كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمر رضى الله عنه وقال:
استعن به على مكاتبتك فقال: لو أخرته إلى آخر نجم؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك «2» . وهذا عند أبى حنيفة رضى الله عنه على وجه الندب وقال: إنه عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع. وقيل: معنى وآتوهم: أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا.
وهذا كله مستحب. وروى أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح: سأل مولاه أن يكاتبه فأبى، فنزلت. كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبى رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة: يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
. فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة: عن العبد والأمة. وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتأتي، ولا يقل عبدى وأمتى» «4» والبغاء: مصدر البغي. فإن قلت: لم أقحم قوله إن أردن تحصنا قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة الموانية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها «5» .
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها في أثناء حديث في قصة بريرة وعتقها.
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس إلا قوله «وهو أول عبد كوتب في الإسلام» ذكره في آخره من قول عكرمة. وزاد ثم قرأ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ورواه ابن أبى حاتم من طريق وكيع شيخ ابن أبى شيبة كذلك.
(3) . أخرجه الثعلبي من طريق مقاتل بهذا وسنده إلى مقاتل في أول الكتاب وهو عند مسلم والبزار مختصر من طريق الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. قال «كان لعبد الله بن أبى جارية يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة وكان يريدهما على الزنى ... الحديث»
(4) . تقدم في الكهف.
(5) . قال محمود: «إن قلت: لم أقحم قوله إن أردن تحصنا؟ قلت: لأن الإكراه لا يكون إلا إذا أردن تحصنا ولا يتصور إلا كذلك، إذ لولا ذلك لكن مطاوعات» ولم يجب بما بشفى العليل. وعند العبد الفقير إلى الله تعالى أن فائدة ذلك- والله أعلم: أن يبشع عند المخاطب الوقوع فيه، لكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي. ووجه التبشيع عليها: أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه، لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها عليها. ولو أبرز مكنون هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه، وعسى هذه الآية تأخذ بالنفوس الدنية، فكيف بالنفوس العربية، والله الموفق.

(3/239)


ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين (34) الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)

وكلمة إن وإيثارها على «إذا» إيذان بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حين الشاذ النادر غفور رحيم لهم أو لهن. أو لهم ولهن إن تابوا وأصلحوا. وفي قراءة ابن عباس: لهن غفور رحيم. فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن، لأن المكرهة على الزنى بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة. قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو، من ضرب عنيف أو غيره حتى تسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة

[سورة النور (24) : آية 34]
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين (34)
مبينات هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود. ويجوز أن يكون الأصل مبينا فيها فاتسع في الظرف. وقرئ بالكسر، أى:
بينت هي الأحكام والحدود، جعل الفعل لها على المجاز. أو من «بين» بمعنى تبين. ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين. ومثلا من أمثال من قبلكم أى قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم، يعنى قصة عائشة رضى الله عنها وموعظة ما وعظ به في الآيات والمثل، من نحو قوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، لولا إذ سمعتموه، ولولا إذ سمعتموه:
يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا

[سورة النور (24) : آية 35]
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)
نظير قوله الله نور السماوات والأرض مع قوله مثل نوره، ويهدي الله لنوره:
قولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده. والمعنى: ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات، ونور السماوات والأرض الحق، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور: أى من الباطل إلى الحق.

(3/240)


وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض. وإما أن يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به مثل نوره أى صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كمشكاة كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة فيها مصباح سراج ضخم ثاقب في زجاجة أراد قنديلا من زجاج شامي «1» أزهر. شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب وهي المشاهير، كالمشترى والزهرة والمريخ وسهيل ونحوها يوقد هذا المصباح من شجرة أى ابتدأ ثقوبه من شجرة الزيتون، يعنى: زويت ذبالته «2» بزيتها مباركة كثيرة المنافع. أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها سبعون نبيا، منهم إبراهيم عليه السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به، فإنه مصحة من الباسور «3» » لا شرقية ولا غربية أى منبتها الشام. وأجود الزيتون: زيتون الشام. وقيل: لا في مضحى ولا مقنأة، «4» ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في شجرة في مقنأة، ولا نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى» «5» وقيل: ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشى جميعا، فهي شرقية وغربية، ثم وصف الزيت بالصفاء والوبيص، «6» وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار نور على نور
أى هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم تبق مما يقوى النور ويزيده إشراقا ويمده بإضاءة: بقية، وذلك أن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه يهدي الله لهذا النور الثاقب من يشاء من عباده، أى: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله
__________
(1) . قوله «شامي» نعت لزجاج، ويوضحه قوله «أزهر» وعبارة النسفي: شامي بكسر الزاى، أى قرأ الشامي:
زجاجة، بكسر الزاى. (ع) [.....]
(2) . قوله «يعنى زويت ذبالته بزيتها» في الصحاح: زويت الشيء: جمعته وقبضته. وانزوت الجلدة في النار، أى: اجتمعت وتقبضت. وفيه «الذبالة» الفتيلة، ولعله «رويت» بالراء» كما في عبارة النسفي.
(3) . أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم في العلل وأبو نعيم في الطب والثعلبي كلهم من طريق عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبى الخير عن عتبة بن عامر بهذا
(4) . قوله «ولا مقنأة» في الصحاح «المقأة» المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.
(5) . لم أجده
(6) . قوله «والوبيص» البريق واللمعان، أفاده الصحاح. (ع)

(3/241)


في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار (37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38)

والإنصاف من نفسه، ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يمينا وشمالا. ومن لم يتدبر فهو كالأعمى الذي سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس. وعن على رضى الله عنه:
«الله نور السماوات والأرض» أى نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره. أو نور قلوب أهلها به، وعن أبى بن كعب رضى الله عنه: مثل نور من آمن به. وقرئ: زجاجة الزجاجة، بالفتح والكسر:
ودرى: منسوب إلى الدر أى، أبيض متلألأ. ودرىء: بوزن سكيت: يدرأ الظلام بضوئه.
ودريء كمريق. ودرى كالسكينة، عن أبى زيد. وتوقد: بمعنى تتوقد. والفعل للزجاجة. ويوقد، وتوقد، بالتخفيف. ويوقد، بالتشديد. ويوقد بحذف التاء وفتح الياء، لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب. ويمسه بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقى، والضمير فاصل.

[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار (37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38)
في بيوت يتعلق بما قبله، أى، كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل:
مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت. أو بما بعده، وهو يسبح، أى: يسبح له رجال في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيد في الدار جالس فيها. أو بمحذوف، كقوله في تسع آيات أى سبحوا في بيوت. والمراد بالإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله بناها. رفع سمكها فسواها، وإذ يرفع إبراهيم القواعد وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي المساجد، أمر الله أن تبنى. أو تعظيمها والرفع من قدرها. وعن الحسن رضى الله عنه: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم ويذكر فيها اسمه أوفق له، وهو عام في كل ذكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وأن يتلى فيها كتابه. وقرئ: يسبح، على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعنى: له فيها بالغدو، ورجال مرفوع بما دل عليه يسبح وهو يسبح له. وتسبح، بالتاء وكسر الباء. وعن أبى جعفر رضى الله عنه بالتاء وفتح الباء. ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربها، كصيد عليه يومان. والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل وهو العشى.
والمعنى: بأوقات الغدو، أى: بالغدوات. وقرئ: والإيصال، وهو الدخول في الأصيل.
يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح، فإما

(3/242)


والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (39)

أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خص البيع لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته: ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الريح في الوقت الثاني، لأن هذا يقين وذاك مظنون. وإما أن يسمى الشراء تجارة، إطلاقا لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلان تجارة رابحة إذا اتجه له بيع صالح أو شراء. وقيل:
التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه. التاء في إقامة، عوض من العين الساقطة للإعلال. والأصل: إقوام» فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت. ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الذى وعدوا «1»
وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها: وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا لا تبصر أحسن ما عملوا أى أحسن جزاء أعمالهم، كقوله للذين أحسنوا الحسنى والمعنى يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفا ويزيدهم على الثواب تفضلا. وكذلك معنى قوله الحسنى وزيادة المثوبة الحسنى وزيادة عليها من التفضل. وعطاء الله تعالى: إما تفضل، وإما ثواب، وإما عوض والله يرزق ما يتفضل به بغير حساب فأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.

[سورة النور (24) : آية 39]
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (39)
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة. يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجرى. والقيعة: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوى من الأرض، كجيرة في جار. وقرئ: بقيعات: بتاء ممطوطة، كديمات وقيمات، في ديمة وقيمة. وقد جعل بعضهم بقيعاة بتاء مدورة، كرجل عزهاة، شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم عاملة ناصبة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 323 فراجعه إن شئت اه مصححه

(3/243)


أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40) ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (41) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42)

وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام.

[سورة النور (24) : آية 40]
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40)
اللجى: العميق الكثير الماء، منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وفي أخرج ضمير الواقع فيه لم يكد يراها مبالغة في لم يرها أى: لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها. ومثله قول ذى الرمة:
إذا غير النأى المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح «1»
أى لم يقرب من البراح فما باله يبرح؟ شبه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجده من خدعه من بعيد شيئا، ولم يكفه خيبة وكمدا أن لم يجد شيئا كغيره من السراب، حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار، ولا يقتل ظمأه بالماء. وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، ثم قال: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه، فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل. أو كونهما مترقبين. ألا ترى إلى قوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقوله ويضل الله الظالمين وقرئ: سحاب ظلمات، على الإضافة. وسحاب ظلمات، برفع سحاب وتنوينه وجر كظلمات بدلا من ظلمات الأولى.

[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (41) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42)
__________
(1) .
إذا غير النأى المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
فلا القرب يدنو من هواها ملالة ... ولا حبها أن تنزح الدار ينزح
لذي الرمة. والنأى: البعد. ويقال: رس وأرس، إذا لزم. والرسيس: بقية المرض اللازمة داخل البدن.
ويبرح: يذهب، أى: لم يقرب من البراح. وروى أنه لما قدم ذو الرمة الكوفة اعترض عليه ابن شبرمة في ذلك بأنه يدل على زوال رسيس الهوى، فغيره ذو الرمة بقوله: لم أجد، وقال ابن عتبة: حدثت أبى بذلك فقال:
أخطأ ابن شبرمة، وأخطأ ذو الرمة في تغييره، وإنما هو كقوله تعالى لم يكد يراها والملالة: السآمة. وتنزح:
تبعد. وينزح: يزول.

(3/244)


ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (44)

صافات يصففن أجنحتهن في الهواء. والضمير في علم لكل أو لله. وكذلك في صلاته وتسبيحه والصلاة: الدعاء. ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.

[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (44)
يزجي يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحد لا يرضاها. والسحاب يكون واحدا كالعماء، وجمعا كالرباب «1» . ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعا «2» فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحد، لأن المعنى بين أجزائه، كما قيل في قوله:
... بين الدخول فحومل «3»
والركام: المتراكم بعضه فوق بعض. والودق: المطر من خلاله من فتوقه ومخارجه: جمع خلل، كجبال في جبل. وقرئ: من خلله وينزل بالتشديد. ويكاد سنا: على الإدغام «4» .
__________
(1) . قوله «كالرباب» في الصحاح: الرباب- بالفتح- سحاب أبيض. (ع)
(2) . قوله «أن يكون قزعا» القزع: قطع من السحاب رقيقة، الواحدة: قزعة. (ع)
(3) .
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لامرئ القيس مطلع معلقته، وروى أنه راهق ولم يقل شعرا، فقال أبوه: إنه ليس أبيض. وأمر اثنين من خاصته أن يخرجا به إلى مكان بعيد فيذبحاه هناك، فلما أرادا ذبحه بكى وأنشأ البيت إلى آخر القصدة، فرجعا به.
وقالا: هذا أشعر من على وجه الأرض: لقد وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر واستذكر وهي الحبيب والدار في نصف بيت. والسقط- مثلث-: طرف اللوى، أى: المكان الملتوى المعوج. وهو هنا اسم مكان بعينه. وبين لا يضاف إلا لمتعدد المعنى، أو معطوف عليه بالواو خاصة، فالمعنى: بين أجزاء الدخول فحومل. أى فأجزاء حومل كلاهما اسم موضع، ولعل «سقط اللوى» ممتد بينهما. ويجوز أن الفاء بمعنى الواو، فيكون «سقط اللوى» بين هذين الموضعين، وتكون استعارة الفاء هنا للدلالة على قرب ما بين الدخول وحومل.
(4) . قوله «ويكاد سنا على الإدغام» لعل رسمه هكذا «يكاسنا» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)

(3/245)


والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)

وبرقه: جمع برقة، وهي المقدار من البرق، كالغرفة واللقمة. وبرقه: بضمتين للإتباع. كما قيل في جمع فعلة: فعلات كظلمات. وسناء برقه: على المد المقصور، بمعنى الضوء. والممدود:
بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سنى، المرتفع. ويذهب بالأبصار على زيادة الباء، كقوله ولا تلقوا بأيديكم عن أبى جعفر المدني. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض ودعاؤهم له وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا. ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر. وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته. ودلائل منادية على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر. فإن قلت: متى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح من في السماوات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال برد في السماء، حتى قيل له: ألم تر؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحى.
فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة في قوله من السماء من جبال، من برد؟
قلت: الأولى لابتداء الغاية. والثانية للتبعيض. والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء، والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأول مفعول «ينزل» :
«من جبال» . فإن قلت: ما معنى من جبال فيها من برد؟ قلت: فيه معنيان. أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب.

[سورة النور (24) : آية 45]
والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)
وقرئ: خالق كل دابة. ولما كان اسم الدابة موقعا على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون. فمن ثمة قيل: فمنهم، وقيل: من يمشى في الماشي على بطن والماشي على أربع قوائم. فإن قلت: لم نكر الماء في قوله من ماء؟
قلت: لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة. أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام ومنها بهائم ومنها ناس.

(3/246)


لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (46) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47)

ونحوه قوله تعالى يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. فإن قلت: فما باله معرفا في قوله وجعلنا من الماء كل شيء حي؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس «1» الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط. قالوا: خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه. وآدم من تراب خلقه منه. فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت:
قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشى من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر. ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.
ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة «2» ، والمشفر مكان الشفة. ونحو ذلك. أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.

[سورة النور (24) : الآيات 46 الى 47]
لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (46) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47)
وما أولئك بالمؤمنين إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولى، فمعناه على الأول: إعلام من الله بأن جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولى وحده. وعلى الثاني:
إعلام بأن الفريق المتولى لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيمانا، إنما كان ادعاء باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادرا عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض.
والتعريف في قوله بالمؤمنين دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت: وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم نكر ماء هاهنا وعرفه في قوله وجعلنا من الماء كل شيء حي؟ قلت:
الغرض فيما نحن فيه أنه تعالى خلق كل دابة من نوع من الماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها، فمنها كذا ومنها كذا. ونحوه قوله يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل وأما آية «اقترب» فالغرض فيها أن أجناس الحيوانات كلها مخلوقة من هذا الجنس» قال أحمد: وتحرير الفرق أن المقصد في الأولى إظهار الآية بأن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة، ذكر تفصيلها في آية النور والرعد:
والمقصد في آية اقترب: أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع، فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة، فالآية في الأول لإخراج المختلف من المتفق، والله أعلم.
(2) . قوله «مكان الجحفلة» في الصحاح: الجحفلة للحافر، كالشفة للإنسان، اه أى لذي الحافر. (ع)

(3/247)


وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50)

[سورة النور (24) : الآيات 48 الى 49]
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49)
معنى إلى الله ورسوله إلى رسول الله كقولك: أعجبنى زيد وكرمه، تريد: كرم زيد.
ومنه قوله:
غلسنه قبل القطا وفرطه «1»
أراد: قبل فرط القطا. روى: أنها نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودى يجره إلى رسول الله، والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وروى أن المغيرة بن وائل كان بينه وبين على بن أبى طالب رضى الله عنه خصومة في ماء وأرض، فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف على إليه صلة يأتوا، لأن «أتى و «جاء» قد جاءا معديين بإلى، أو يتصل بمذعنين لأنه في معنى مسرعين في الطاعة. وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. والمعنى:
أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحت. يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم «2» .

[سورة النور (24) : آية 50]
أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50)
__________
(1) .
ومنهل من الفيافي أوسطه ... غلسنه قبل القطا وفرطه
في ظل أجاج المقيظ مغبطه
المنهل: الوادي ومسيل الماء. والفيافي: الصحارى، جمع فيفاء. والظاهر أن أوسطه صفة منهل المجرور برب المحذوفة، وهاؤه للسكت، ولو جعلته بدل بعض والهاء ضمير المنهل: لزم جر المعرفة برب، مع إمكان التخلص عنه إلا عند من جعل ضمير النكرة نكرة فلا محذور. ويروى: من الفلا في أوسطه. والفلا واحده فلاة، أى: مفازة.
والرواية: غلسنه بالتشديد، أى سرنه في وقت الغلس وهو ظلمة الفجر، أو وردنه فيه. والفرط من القطا:
المتقدمات السابقات لغيرها، جمع فارط، كركع وراكع. وخصها لأنها أسرع الطير خروجا من أوكارها.
وأجاج المقيظ: شعاع الشمس يرى في شدة القيظ أى الحر كأنه يسير. وأجت النار: اشتعلت، والحر: اشتد، والظليم: أسرع وله حفيف، والأمر: اختلط. وأجاج: صفة مبالغة منه. وأغبط الشيء فهو مغبط: دام واستمر فمغبطه الدائم الكثير منه. والمعنى: أنه يبتدئ السير قبل السابقات من القطا، ويستمر عليه مع اشتداد الحر في ظل شعاع الشمس، لا يظله إلا هو إن كان له ظل، وهذا من المبالغة في النفي. ويجوز أنه اعتاده فصار عنده كالظل.
ويجوز أن المعنى: تحت كنفه وسترته وجاهه الشبيه بالظل. [.....]
(2) . قوله «ما ذاب لهم في ذمة الخصم» في الصحاح: ذاب لي عليه من الحق كذا: إذا وجب وثبت. (ع)

(3/248)


إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52)

ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه. ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله بل أولئك هم الظالمون أى لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثمة يأبون المحاكمة إليه.

[سورة النور (24) : آية 51]
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)
وعن الحسن: قول المؤمنين، بالرفع والنصب أقوى، لأن أولى الاسمين بكونه اسما لكان.
أوغلهما في التعريف، وأن يقولوا: أوغل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف قول المؤمنين، وكان هذا من قبيل كان في قوله ما كان لله أن يتخذ من ولد، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا وقرئ، ليحكم، على البناء للمفعول. فإن قلت: إلام أسند يحكم؟ ولا بد له من فاعل. قلت:
هو مسند إلى مصدره، لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، ومثله: جمع بينهما، وألف بينهما.
ومثله لقد تقطع بينكم فيمن قرأ بينكم منصوبا: أى وقع التقطع بينكم. وهذه القراءة مجاوبة لقوله دعوا.

[سورة النور (24) : آية 52]
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52)
قرئ: ويتقه، بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل. وبسكون الهاء. وبسكون القاف وكسر الهاء: شبه تقه بكتف فخفف، كقوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا «1»
ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز. وعن ابن عباس في تفسيرها ومن يطع الله في
__________
(1) .
قالت سليمى اشتر لنا سويقا ... وهات خبز البر أو دقيقا
للعذافر الكندي. يقال: شار العسل ونحوه، واشتاره: إذا اجتناه وأخذه من مكانه، فقوله «اشتر» أمر من الاشتيار. ويحتمل أنه من الاشتراء، وسكنت راؤه للضرورة، أى: اطلب لنا سويقا. وهو ما تعمله العرب من الحنطة والشعير. وهات: بكسر التاء أمر للمذكر، طلبت منه السويق للأدم، وخيرته بين أن يأتى بخبز وبين أن يأتى بدقيق وهي تخبزه. ويروى: «وهات بر البخس أو دقيقا» والبخس: الأرض التي تنبت من غير سقى، وفي بقية الرجز أنها طلبت منه لحما وخادما وصبغا لثيابها بالعصفر، فقال:
يا سلم لو كنت لذا مطيقا ... ما كان عيشى عندكم ترنيقا
أى: مدة ترنيق الطائر، أى: صف جناحيه في الهواء.

(3/249)


وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين (54) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)

فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل.
وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية.

[سورة النور (24) : آية 53]
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53)
جهد يمينه: مستعار من جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها. وعن ابن عباس رضى الله عنه: من قال بالله، جهد يمينه. وأصل: أقسم جهد اليمين: أقسم يجهد اليمين جهدا، فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول كقوله: فضرب الرقاب وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم.
وطاعة معروفة
خبر مبتدإ محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أى: أمركم والذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها. أو طاعتكم طاعة معروفة، بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
وقرأ اليزيدي: طاعة معروفة، بالنصب على معنى: أطيعوا طاعة إن الله خبير
يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم، وأنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.

[سورة النور (24) : آية 54]
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين (54)
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم. يريد:
فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه. وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلا ناصح وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفع في قبولكم «1» ، ولا عليه ضرر في توليكم:
والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى المبين: كونه مقرونا بالآيات والمعجزات.

[سورة النور (24) : آية 55]
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)
__________
(1) . قوله «في قبولكم» عبارة النسفي: في قلوبكم: (ع)

(3/250)


الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه. ومنكم: للبيان، كالتي في آخر سورة الفتح: وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض، ويجعلهم فيها خلفاء، كما فعل ببني إسرائيل، حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكينه: تثبيته وتوطيده، وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه، حتى قال رجل: ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون «1» إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة «2» ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكا، ثم تصير بزيزى «3» :
قطع سبيل، وسفك دماء، وأخذ أموال بغير حقها «4» » وقرئ: كما استخلف، على البناء للمفعول وليبدلنهم: بالتشديد. فإن قلت: أين القسم الملتقى باللام والنون في ليستخلفنهم؟ قلت:
هو محذوف تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم. أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم،
__________
(1) . قوله: «لا تغيرون إلا يسيرا» أى لا تبقون، أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وعلانية. ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها هو وأصحابه- إلى آخره» وصله الحاكم وابن مردويه دون أوله بذكر أبى بن كعب فيه. وأوله «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار.
رمتهم العرب عن قوس واحدة لا يبيتون إلا بالسلاح ... الحديث» .
(3) . قوله «تصير بزيزى» في الصحاح: بزه ينزه بزا: سلبه. والاسم البزيزى مثل الخصيصى. (ع)
(4) . لم أجده. وأوله في السنن وابن ماجة والحاكم وأحمد والطبراني والبيهقي والثعلبي كلهم من حديث سفينة «الخلافة في أمتى ثلاثون سنة ثم ملك بعد ملك» وفي لفظ «ثم يملك الله من يشاء» وروى أحمد وابن أبى شيبة والطبراني من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبى ثعلبة عن أبى عبيدة ومعاذ بن جبل مرفوعا. «إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ثم يصير خلافة ... الحديث» .

(3/251)


وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير (57) ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58)

فتلقى بما يتلقى به القسم، كأنه قيل: أقسم الله ليستخلفنهم. فإن قلت: ما محل يعبدونني؟
قلت: إن جعلته استئنافا لم يكن له محل، كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال:
يعبدونني. وإن جعلته حالا عن وعدهم، أى وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم، فمحله النصب ومن كفر يريد كفران النعمة: كقوله فكفرت بأنعم الله. فأولئك هم الفاسقون أى: هم الكاملون في فسقهم. حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها «1» . فإن قلت: هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.

[سورة النور (24) : آية 56]
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56)
وأقيموا الصلاة معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال: لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكررت طاعة الرسول: تأكيدا لوجوبها.

[سورة النور (24) : آية 57]
لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير (57)
وقرئ: لا يحسبن، بالياء. وفيه أوجه: أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان.
والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنى قوى جيد. وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وعطف قوله ومأواهم النار على لا يحسبن الذين كفروا معجزين، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم.

[سورة النور (24) : آية 58]
يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58)
__________
(1) . قوله «على غمطها» أى: احتقارها. (ع)

(3/252)


وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59)

أمر بأن يستأذن العبيد. وقيل: العبيد والإماء والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ثلاث مرات في اليوم والليلة: قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة. وبالظهيرة، لأنها وقت وضع الثياب للقائلة. وبعد صلاة العشاء لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. وسمى كل واحدة من هذه الأحوال عورة، لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل. ومنها:
أعور الفارس، «1» وأعور المكان، والأعور: المختل العين. ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبين وجه العذر في قوله طوافون عليكم يعنى أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة: يطوفون عليكم للخدمة، وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت، لأدى إلى الحرج. وروى أن مدلج بن عمرو: وكان غلاما أنصاريا: أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهر إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية «2» : وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر رضى الله تعالى عنه. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبى مرشد «3» ، قالت: إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد «4» .
وقيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. وعن أبى عمرو: الحلم بالسكون.
وقرئ ثلاث عورات بالنصب بدلا عن ثلاث مرات، أى: أوقات ثلاث عورات. وعن الأعمش: عورات على لغة هذيل. فإن قلت ما محل ليس عليكم؟ قلت: إذا رفعت ثلاث عورات كان ذلك في محل الرفع على الوصف. والمعنى: هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت: لم يكن له محل وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة: فإن قلت:
بم ارتفع بعضكم؟ قلت: بالابتداء وخبره على بعض على معنى: طائف على بعض، وحذف لأن طوافون يدل عليه. ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمرا لتلك الدلالة.

[سورة النور (24) : آية 59]
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59)
__________
(1) . قوله «ومنها أعور الفارس» في الصحاح أعور الفارس، إذا بدا فيه موضع خلل للضرب. (ع)
(2) . هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي وابن عباس رضى الله عنهما بغير سند.
(3) . قوله «وقيل نزلت في أسماء بنت أبى مرشد» لعله مرثد، كما في عبارة النسفي. (ع)
(4) . هكذا نقله الثعلبي والواحدي عن مقاتل.

(3/253)


الأطفال منكم أى من الأحرار دون المماليك الذين من قبلهم يريد: الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال. أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية: والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حد الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن: وهذا مما الناس منه في غفلة، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإنى لآمر جارتى أن تستأذن على. وسأل عطاء: أأستأذن على أختى؟
قال. نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الاية. وعنه، ثلاث آيات جحدهن الناس:
الإذن كله. وقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم فقال ناس: أعظمكم بيتا. وقوله وإذا حضر القسمة. وعن ابن مسعود. عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم. وعن الشعبي:
ليست منسوخة، فقيل له، إن الناس لا يعملون بها، فقال، الله المستعان. وعن سعيد بن جبير يقولون هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها: فإن قلت ما السن التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام. وسبع عشرة في الجارية.
وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما. وعن على رضى الله عنه أنه كان يعتبر القامة ويقدره بخمسة أشبار. وبه أخذ الفرزدق في قوله:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما فأدرك خمسة الأشبار «1»
__________
(1) .
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار
يدنى خوافق من خوافق تلتقي ... في ظل معتبط الغبار مثار
للفرزدق: يرث ى يزيد بن المهلب. يقول: لا زال يحارب من حين عقدت يداه إزاره على نفسه كناية عن تمييزه فيتولى أمور نفسه، فمذ: ظرف زمان لاضافتها إلى الجملة، ولكنها تفيد معنى من الابتدائية أيضا، لأن المعنى:
ما زال يقتحم الحروب من حين بلغ أشده إلى أن مات. وإسناد العقد إلى اليد من باب الاسناد للآلة، لأنه عاقد بها. وسما: ارتفع فبلغت قامته مقدار خمسة الأشبار. قيل: المراد بها مقدار السيف، وذلك كناية عن بلوغه أشده. وقيل: المراد بها مقدار القبر، وإدراكها: كناية عن موته. أى: من حين تمييزه إلى حين موته يهيج الحروب وهو أبلغ في المعنى. وعطف «أدرك» بالفاء دلالة على قصر مدته وقرب موته. ويروى: فسما، بالفاء.
ويجوز أن يكون معناه: ارتفع قدره، فيكون قد حكى جميع حالاته. وقوله «يدنى» خبر ما زال، أى: يقرب رايات مضطربات إلى أخرى في الحرب. أو خيلا مضطربة إلى مثلها. والمراد أنه يقرب الكتائب بعضها إلى بعض حتى تلتقي كلها في ظل معتبط من الغبار، والمعتبط- بالعين المهملة-: اسم مفعول، أى: لم يقاتل فيه غيره قبله فيثيره من موضعه، بل هو الذي أثاره منه. أو أنه هو الذي أخرجه من الأرض الصلبة فلم يكن موجودا قبل.
ويروى بالغين المعجمة. أى: مكثر: والمعنى: أنه كان يزاد منه ويكثره. ويجوز أنه اسم مكان. ويروى:
معترك العجاج، وهو موضع المعركة. والعجاج: الغبار. ومثار: صفة معتبط إن لم يتعرف بالاضافة، ويجوز أن أصله: مثاره، بالاضافة للضمير، فحذف للضرورة. وفي إثبات الظل للغبار المعتبط المثار: دلالة على أنه متراكم حاجب ضوء الشمس عن المحاربين.

(3/254)


والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم (60) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون (61)

واعتبر غيره الإنبات. وعن عثمان رضى الله عنه. أنه سئل عن غلام، فقال: هل اخضر إزاره؟

[سورة النور (24) : آية 60]
والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم (60)
القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها لا يرجون نكاحا لا يطمعن فيه: والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار غير متبرجات بزينة غير مظهرات زينة «1» ، يريد: الزينة الخفيفة التي أرادها في قوله ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو غير قاصدات بالوضع التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه. والاستعفاف من الوضع خير لهن لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب، بعثا منه عن اختيار أفضل الأعمال وأحسنها، كقوله وأن تعفوا أقرب للتقوى، وأن تصدقوا خير لكم. فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت:
تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم: سفينة بارج، لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. وبدأ، وبرز، بمعنى: ظهر، من أخوات: تبرج وتبلج، كذلك.

[سورة النور (24) : آية 61]
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون (61)
__________
(1) . قال أحمد: قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها، ويظهر لي والله أعلم أن قوله تعالى غير متبرجات بزينة من باب
على لاحب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك، المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها، لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهم عن وضع الثياب خير لهن، فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد، فكيف بالكواعب؟ والله أعلم. [.....]

(3/255)


كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوى العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج، وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق، لقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فقيل لهم: ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم، يعنى: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة «1» . فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم لما عسى يؤدى إلى الكراهة من قبلهم، ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة تؤذى أو جرح يبض أو أنف يذن «2» ونحو ذلك. وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون. حكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، ولم يحل لي أن آكل «من مالك، فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت، وهذا كلام صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. ومثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان. وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر، ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر، فإن قلت: هلا ذكر الأولاد، قلت: دخل ذكرهم تحت قوله من بيوتكم لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء
__________
(1) . قوله «في أنفسها قزازة» في الصحاح «القزازة» التنطس والتباعد عن الدنس. وفيه «التنطس» المبالغة في التطهر. (ع)
(2) . قوله «أو جرح يبض أو أنف يذن» يبض أى يسيل قليلا قليلا. ويذن: أى يسيل مخاطه. أفاده الصحاح. (ع)

(3/256)


من كسبه، وإن ولده من كسبه «1» » ومعنى من بيوتكم من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ولأن الولد أقرب ممن عدد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى. فإن قلت: ما معنى أو ما ملكتم مفاتحه؟ قلت: أموال الرجل إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له: أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح:
كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ: مفتاحه:
فإن قلت: فما معنى أو صديقكم؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا «2» ، وكذلك الخليط والقطين والعدو. يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم.
يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضى الله عنهم. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك. وعن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهما: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثفة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات. فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه جميعا أو أشتاتا أى مجتمعين أو متفرقين. نزلت في بنى ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل لرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فان لم يجد من يواكله أكل ضرورة. وقيل في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى كلهم من حديث عائشة بهذا. قال ابن القطان: يرويه عمارة بن عمير فقال إبراهيم عنه. عن عمته عن عائشة. وقال الحاكم: عن عمارة عن أمه عن عائشة وذكره الدارقطني في العلل والاختلاف فيه وأطال. وفي الباب عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال «أتى أعرابى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبى يريد أن يحتاج مالى. قال: أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوا هنيئا، رواه ابو داود وابن ماجة من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو وحجاج مدلس وفيه ضعف.
(2) . قال محمود: «الصديق يكون واحدا وجمعا والمراد هنا الجمع» قال أحمد: وقد قال الزمخشري: إن سر إفراده في قوله تعالى فما لنا من شافعين ولا صديق حميم دون الشافعين التنبيه على قلة الأصدقاء، ولا كذلك الشافعون، فان الإنسان قد يحمى له ويشفع في حقه من لا يعرفه فضلا عن أن يكون صديقا، ويحتمل في الآيتين- والله أعلم- أن يكون المراد به الجمع فلا كلام، ويحتمل أن يراد الافراد، فيكون سره ذلك، والله أعلم.

(3/257)


إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62)

لا يأكلون إلا مع ضيفهم وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض فإذا دخلتم بيوتا من هذه البيوت لتأكلوا فبدئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة «1» تحية من عند الله أى ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه.
أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله. ووصفها بالبركة والطيب: لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق. وعن أنس رضى الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين- وروى: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال ننتفع بها؟ قلت: بلى بأبى وأمى يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمتى أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين «2» » . وقالوا:
إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله، وانتصب تحية بسلموا، لأنها في معنى تسليما، كقولك: قعدت جلوسا.

[سورة النور (24) : آية 62]
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62)
__________
(1) . قال محمود: «معناه: فسلموا على الجنس الذي هو منكم دينا وقرابة» قال أحمد: وفي التعبير عنهم بالأنفس تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة، وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه لاتحاد القرابة، فليطب نفسا بالبساط فيها، والله أعلم.
(2) . أخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان. والبيهقي في الشعب في الحادي والستين.
والثعلبي من طريق اليسع بن زيد بن سهل عن ابن عتبة عن حميد وعن أنس بتمامه واليسع آخر من زعم أنه سمع من ابن عتبة. مات بعد الثمانين والمائتين وهو واهى الحديث وأصل الحديث دون القصة التي فيه، في الصحيح من حديث أنس رضى الله عنه. وباقيه مروى عن أنس من أوجه. منها ما رواه البزار من طريق عويد بن عمران الجونى عن أبيه قال: «أوصانى النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال: أسغ الوضوء يزد في عمرك: وسلم على من لقيت من أمتى تكثر حسناتك. وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى.
فإنها صلاة الأوابين، وارحم الصغير ووقر الكبير، تكن من رفاقى» وعويد. قال ابن حبان: يروى عن أبيه ما ليس من حديثه. ورواه أبو يعلى من رواية عمرو بن أبى خليفة عن ضرار بن عمرو عن أنس وإسناده ضعيف جدا وكذا رواه الطبراني في الصغير من رواية عمرو بن دينار عن أنس والراوي عنه ساقط ورواه العقيلي من رواية الفضل بن العباس عن ثابت عن أنس والفضل مجهول. قال العقيلي: لم يتابعه عليه إلا من هو دونه أو قبله ورواه ابن عدى من طريق أزور بن غالب عن سليمان التيمي عن أنس. قال ابن طاهر: أزور منكر الحديث. وله طريق أخرى عن أنس أشد ضعفا من هذه.

(3/258)


[سورة النور (24) : آية 62]
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم (62)
أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له «1» والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) وضمنه شيأ آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرض بحال المنافقين وتسللهم لو إذا. ومعنى قوله (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم. ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له. والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدو، أو تشاور في خطب مهم، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ: أمر جميع. وفي قوله (إذا كانوا معه على أمر جامع) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوى رأى وقوة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله لبعض شأنهم. وذكر الاستغفار للمستأذنين:
دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر لخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه.

[سورة النور (24) : آية 63]
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)
__________
(1) قوله «وجعلهما كالتشبيب له» في الصحاح التشبيب النسيب يقال هو يشبب بفلانة أى ينسب بها (ع)

(3/259)


ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم (64)

إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمى بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبى الله، ويا رسول الله، مع التوقير التعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، فإن دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة مستجابة يتسللون ينسلون قليلا قليلا. ونظير «تسلل» : «تدرج وتدخل» : واللواذ:
الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعنى: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. ولواذا حال، أى: ملاوذين. وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه. وقرئ: لو إذا، بالفتح. يقال.
خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه. ومنه قوله تعالى وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وخالفه عن الأمر: إذا صدعنه دونه. ومعنى الذين يخالفون عن أمره الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون، فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه.
الضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: عن طاعته ودينه فتنة محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: فتنة قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطان جائر.

[سورة النور (24) : آية 64]
ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم (64)
أدخل (قد) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فان تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود «1»
__________
(1)
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك يجارى دمعها لجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدى مأتم وخدود
فان تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
لابن عطاء السندي: يرث ى ابن هبيرة لما قتله المنصور. وواسط: موضع الواقعة. وأتم بالمكان: أقام به.
والمأتم: مكان الاقامة: استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا مشهورا، وجمعه: مآتم بمد الهمزة. يقول:
إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم لشديدة الجمود. وعشية: بدل من يوم. وجيب القميص. مخرج الرأس منه، أى: مزقت الجيوب والخدود بأيدى النساء، ثم التفت إلى الخطاب، وصبر وتصبر بقوله: فان تمس مهجور الفناء، كناية عن الموت، فربما: أى كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع، يستمنحونك، أى: فان يهجر فناؤك الآن فلا حزن، لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا.

(3/260)


ونحوه قول زهير:
أخى ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله «1»
والمعنى. أن جميع ما في السموات والأرض مختصة به خلقا وملكا وعلما، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها. وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم وسيجازيهم حق جزائهم. والخطاب والغيبة في قوله قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه يجوز أن يكونا جميعا المنافقين على طريق الالتفات. ويجوز أن يكون (ما أنتم عليه) عاما، و (يرجعون) للمنافقين، والله أعلم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي «2» » .
__________
(1) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 17 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسناديهما إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

(3/261)


تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1) الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)

سورة الفرقان
مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 [نزلت بعد يس] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1) الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)
البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها (تبارك الله) وفيه معنيان: تزايد خيره، وتكاثر.
أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. والفرقان: مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما وسمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا، مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال «1» . ألا ترى إلى قوله (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) وقد جاء الفرق بمعناه «2» . قال:
ومشركى كافر بالفرق
وعن ابن الزبير رضى الله عنه: على عباده، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، كما قال (لقد أنزلنا إليكم) ، (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) . والضمير في ليكون لعبده أو للفرقان.
ويعضد رجوعه إلى الفرقان قراءة ابن الزبير للعالمين للجن والإنس نذيرا منذرا أى مخوفا أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار. ومنه قوله تعالى (فكيف كان عذابى ونذر) ، الذي له رفع على الإبدال من الذي نزل أو رفع على المدح. أو نصب عليه. فإن قلت:
__________
(1) قال محمود: «يجوز أن يراد بوصفه بالفرقان تفريقه بين الحق والباطل، ويجوز أن يراد نزوله مفرقا شيئا فشيئا كما قال. وقرآنا فرقناه» قال أحمد: والأظهر هنا هو المعنى الثاني، لأن في أثناء السورة بعد آيات (وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) قال الله تعالى (كذلك) أى أنزلناه مفرقا كذلك (لنثبت به فؤادك) فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم- كالمقدمة والتوطئة لما يأتى بعد.
(2) قوله «وقد جاء الفرق بمعناه» في الصحاح: والفرق أيضا: الفرقان. ونظيره: الخسر والخسران. قال الراجز: ومشركي ... الخ. (ع)

(3/262)


واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3) وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا (4)

كيف جاز الفصل بين البدل والمبدل منه؟ قلت: ما فصل بينهما بشيء، لأن المبدل منه صلته نزل. و (ليكون) تعليل له، فكأن المبدل منه لم يتم إلا به. فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا كأنه قال: وقدر كل شيء فقدره؟ قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقا لما قدر له غير متجاف عنه. أو سمى إحداث الله خلقا لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا. وقيل، فجعل له غاية ومنتهى. ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم.

[سورة الفرقان (25) : آية 3]
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا (3)
الخلق بمعنى الافتعال، كما في قوله تعالى (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) والمعنى: أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة آلهة لا عجز أبين من عجزهم، لا يقدرون على شيء من أفعال الله ولا من أفعال العباد، حيث لا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون، لأن عبدتهم يصنعونهم بالنحت والتصوير ولا يملكون أى: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها أو جلب نفع إليها وهم يستطيعون، وإذا عجزوا عن الافتعال ودفع الضرر وجلب النفع التي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله أعجز.

[سورة الفرقان (25) : آية 4]
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤ ظلما وزورا (4)
قوم آخرون قيل: هم اليهود. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكية الرومي: قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار. «جاء» «وأتى» يستعملان في معنى فعل، فيعديان تعديته، وقد يكون على معنى: وردوا ظلما، كما تقول: جئت المكان. ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل. وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن

(3/263)


وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)

من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو برى منه إليه.

[سورة الفرقان (25) : آية 5]
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)
أساطير الأولين ما سطره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وإسفنديار، جمع: أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكتتبها كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبه:
إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ: أكتتبها. على البناء للمفعول. والمعنى: اكتتبها كاتب له. لأنه كان أميا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب، كقوله (واختار موسى قومه) ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار (اكتتبها) كما ترى. فإن قلت: كيف قيل: اكتتبها فهي تملى عليه وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه. أو كتبت له وهو أمى فهي تملى عليه: أى تلقى عليه من كتابه يتحفظها: لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. وعن الحسن: أنه قول الله سبحانه يكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار. ووجهه أن يكون نحو قوله:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا «1»
وحق الحسن أن يقف على الأولين. بكرة وأصيلا أى دائما، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
__________
(1)
إن كنت أزننتني بها كذبا ... جزء فلاقيت بعدها عجلا
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا
لحضرمى بن عامر، يخاطب جزء بن سنان بن مؤلة حين اتهمه بسروره بأخذ دية أخيه القتيل، وقيل: لجرير، وليس بذاك. وجزء- بفتح فسكون- وإن هنا للشرط مجردا عن السك، أو بمعنى إذ. وأزننتنى: أى تهمتنى بها:
أى بتلك الفعلة الرذيلة كذبا منك يا جزء، فهو منادى، فلاقيت أنت بعدها عجلا: دعاء عليه بأن ينال مثلها سريعا، وينظر هل يفرح أو يحزن؟ وروى: فلاقيت مثلها عجلا. أفرح، أى: أأفرح بأن أرزأ الكرام وأصاب فيهم، فحذفت همزة الاستفهام الإنكاري أو التعجبي على فرض الوقوع لدلالة المقام عليها، وليصور الكلام بصورة الاخبار والإثبات، فيظهر للخصم قبح دعواه. وأرزأ: مبنى للمجهول، وكذلك أورث، أى: أعطى ذودا: أى قطيعا من الإبل بعد موتهم. والذود: ما بين الثلاثة إلى العشرة، مؤنث لا واحد له من لفظه، عبر به عن الدية كلها استقلالا وتحقيرا لها. ولذلك وصفه بشصائصا: جمع شصوص، وهي النافة القليلة اللبن. وصرفه للوزن. والنبل- كسبب-: جمع نبيل. ويروى بالضم، فهو جمع نبيل أيضا، ككرم وكريم. أو جمع نبلة، كغرف وغرفة:
أي الصغار؟؟؟ أو النجائب فهو من الأضداد، لكن الأول أوفق بالمقام. ويجوز أن الدية كانت عشرة.

(3/264)


قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6) وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)

[سورة الفرقان (25) : آية 6]
قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6)
أى يعلم كل سر خفى في السموات والأرض. ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت:
كيف طابق قوله إنه كان غفورا رحيما هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة. أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم إنه غفور رحيم: يمهل ولا يعاجل.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 8]
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)
وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي. وخط المصحف سنة لا تغير. وفي هذا استهانة وتصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز «1» ، كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول. ونحوه قول فرعون (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) أى: إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى. اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف. ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير. أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم. وأراد بالظالمين: إياهم بأعيانهم: وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا. وقرئ: فيكون، بالرفع. أو يكون له جنة، بالياء، ونأكل، بالنون. فإن قلت: ما وجها الرفع والنصب في فيكون؟ قلت: النصب لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام. والرفع على أنه معطوف على أنزل، ومحله الرفع. ألا تراك
__________
(1) قوله «وطنز» في الصحاح «الطنز» : السخرية. (ع) [.....]

(3/265)


انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا (10) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14)

تقول: لولا ينزل بالرفع، وقد عطف عليه: يلقى، وتكون مرفوعين، ولا يجوز النصب فيهما لأنهما في حكم الواقع بعد لولا، ولا يكون إلا مرفوعا. والقائلون هم كفار قريش النضر بن الحرث، وعبد الله بن أبى أمية، ونوفل بن خويلد ومن ضامهم مسحورا سحر فغلب على عقله. أو ذا سحر، وهو الرئة: عنوا أنه بشر لا ملك.

[سورة الفرقان (25) : آية 9]
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9)
ضربوا لك الأمثال أى: قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك. وإلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالا، لا يجدون قولا يستقرون عليه. أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.

[سورة الفرقان (25) : آية 10]
تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا (10)
تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. وقرئ: ويجعل، بالرفع عطفا على جعل: لأن الشرط إذا وقع ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرفع، كقوله:
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم «1»
ويجوز في (ويجعل لك) إذا أدغمت: أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا. وقرئ بالنصب، على أنه جواب الشرط بالواو.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 14]
بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا (14)
بل كذبوا عطف على ما حكى عنهم. يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم
__________
(1) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 537 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/266)


قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا (16)

بالساعة. ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة. السعير:
النار الشديدة الاستعار. وعن الحسن رضى الله عنه: أنه اسم من أسماء جهنم رأتهم من قولهم: دورهم تترا «1» ، أى: وتتناظر. ومن قوله صلى الله عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» «2» كأن بعضها يرى بعضها على سبيل المجاز. والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها. وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وجاء في الأحاديث: أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل:
قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور: الهلاك. ودعاؤه أن يقال: وا ثبوراه، أى: تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك لا تدعوا أى يقال لهم ذلك: أو هم أحقاء بأن يقال لهم، وإن لم يكن ثمة قول ومعنى وادعوا ثبورا كثيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته. أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم

[سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16]
قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها ما يشاؤن خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا (16)
الراجع إلى الموصولين محذوف، يعنى: وعدها المتقون وما يشاءونه. وإنما قيل: كانت، لأن ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان. أو كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة
__________
(1) . قال محمود: «هو من قولهم: دور بنى فلان تترا، أى على المجاز» قال أحمد: لا حاجة إلى حمله على المجاز فان رؤية جهنم جائزة، وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظافرت الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا. ألا ترى إلى قوله سمعوا لها تغيظا وإلى محاجتها مع الجنة، وإلى قولها هل من مزيد وإلى اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها، إذ لا محوج إليه. ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد، لتطوح الذي يسلك ذلك إلى وادى الضلالة والتحير إلى فرق الفلاسفة، فالحق أنا متعبدون بالظاهر ما لم يمنع مانع، والله أعلم.
(2) . تقدم في المائدة.

(3/267)


ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18)

متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله كانت لهم جزاء ومصيرا؟
قلت: هو كقوله: نعم الثواب وحسنت مرتفقا فمدح الثواب ومكانه، كما قال: بئس الشراب وساءت مرتفقا فذم العقاب ومكانه لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وأن لا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع «1» وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في كان لما يشاءون. والوعد: الموعود، أى: كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه، حقيقا أن يسئل ويطلب، لأنه جزاء وأجر مستحق وقيل: قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم:
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 18]
ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18)
يحشرهم. فيقول. كلاهما بالنون والياء، وقرئ: يحشرهم، بكسر الشين وما يعبدون يريد: المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صح استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم، بدليل قولك- إذا رأيت شبحا من بعيد-: ما هو؟ فإذا قيل لك: إنسان، قلت حينئذ: من هو؟ ويدلك قولهم «من» لما يعقل. أو أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبوديهم.
ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم «2» ضلوا السبيل؟
قلت. ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه، فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتى يعلم أنه المسئول عنه. فإن قلت:
فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته أن يجيبوا بما
__________
(1) . قوله «بغثاثة الموضع» أى فساده ورداءته. والاجتواء: كراهة المقام بالمكان. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أم هم ضلوا» لعله أم ضلوا، كعبارة النسفي. (ع)

(3/268)


أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا «1» وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم «2» أن الله يضل عباده على الحقيقة «3» ، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون
__________
(1) . قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)
(2) . قوله «لقول من يزعم أن الله ... الخ» يريد أهل السنة القائلين: إضلال الله لعباده خلق الضلال في قلوبهم، خلافا للمعتزلة القائلين: أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)
(3) . قال محمود: «في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن الله تعالى يضل عباده حقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم، ويقولون: بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم لله أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى الله تعالى، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله يضل من يشاء ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم» قال أحمد: قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق الله تعالى: التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى الله خالق كل شيء والضلال شيء، فوجب كونه خالقه: هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص، فأمثال قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فلو كان الإضلال مستحيلا على الله تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة، فيقال لهم:
من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم: أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا: أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن الله تعالى هو المضل حقيقة، لكان قولهم في جواب هذا السؤال: بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم: من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري، بتقدير أن يكون معتقدهم أن الله تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه، ولكن لأنه لا يطابق، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها الله فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع: أن كل فعل اختيارى له نسبتان: إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم: بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر، فنسبوا نسيان الذكر إليهم، أى: الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان، لأنهم اختاروه لأنفسهم، فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى الله تعالى: وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم، فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد، والله أعلم.

(3/269)


فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19)

سبب الشكر، سبب الكفر ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه، فهم لربهم الغنى العدل أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة. فشرحوا الإضلال المجازى الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله يضل من يشاء ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وضل: مطاوع «أضله» وكان القياس: ضل عن السبيل، إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق. والأصل: إلى الطريق، وللطريق. وقولهم: أضل البعير، في معنى: جعله ضالا، أى: ضائعا، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه، قيل: أضله، سواء كان منه فعل أو لم يكن سبحانك تعجب منهم، قد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه.
أو نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المتقدسون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، وأن يكون له نبى أو ملك أو غيرهما ندا، ثم قالوا: ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك. فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك. أو ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال الله تعالى فقاتلوا أولياء الشيطان يريد الكفرة وقال والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت وقرأ أبو جعفر المدني: نتخذ، على البناء للمفعول. وهذا الفعل أعنى «اتخذ» يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتخذ وليا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا. قال الله تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض وقال واتخذ الله إبراهيم خليلا فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو من أولياء والأصل: أن نتخذ أولياء، فزيدت من لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين. فالأول ما بنى له الفعل. والثاني: من أولياء. ومن للتبعيض، أى: لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير أولياء من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام والذكر: ذكر الله والإيمان به. أو القرآن والشرائع. والبور: الهلاك، يوصف به الواحد والجمع. ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.

[سورة الفرقان (25) : آية 19]
فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19)

(3/270)


وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا (20)

هذه المفاجأة «1» بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونحوها قوله تعالى يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير وقول القائل:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا «2»
وقرئ: يقولون، بالتاء والياء. فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم أنهم آلهة. ومعنى من قرأ بالياء: فقد كذبوكم بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء:
فإن قلت: هل يختلف حكم الباء مع التاء والياء؟ قلت إي والله، هي مع التاء كقوله بل كذبوا بالحق والجار والمجرور بدل من الضمير، كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون: وهي مع الياء كقولك: كتبت بالقلم. وقرئ: يستطيعون، بالتاء والياء أيضا. يعنى. فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة وقيل: الحيلة، من قولهم: إنه ليتصرف، أى. يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب. أو أن يحتالوا لكم.
الخطاب على العموم للمكلفين. والعذاب الكبير لا حق بكل من ظلم، والكافر ظالم، لقوله إن الشرك لظلم عظيم والفاسق ظالم. لقوله ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. وقرئ:
يذقه، بالياء. وفيه ضمير الله. أو ضمير مصدر يظلم.

[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا (20)
الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف. والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور. أعنى من المرسلين ونحوه قوله عز من قائل: وما منا إلا له مقام معلوم على معنى: وما منا أحد. وقرئ:
ويمشون، على البناء للمفعول، أى: تمشيهم حوائجهم أو الناس. ولو قرئ: يمشون، لكان أوجه لولا الرواية. وقيل: هو احتجاج على من قال مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
__________
(1) . قوله «هذه المفاجأة» أى: التي في قوله تعالى فقد كذبوكم. (ع)
(2) . يقول: قالوا إن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا وغاية السفر بنا، ثم يكون القفول أى الرجوع. ويجوز أنه عطف على خراسان. وقوله «فقد جئنا» مرتب على محذوف، أى: إن صدقوا في قولهم فقد جئنا خراسان، فلم لم نتخلص من السفر. ويجوز أنه عدل إلى الخطاب، أى: فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا. فقد جئنا الموعد، لكن ليس ذلك التفاتا.

(3/271)


وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا (21)

فتنة أى محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل، يقول: وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وموقع أتصبرون بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا. بصيرا عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا:
أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة. وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء لينظر: هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيرا ليكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوى. وقيل: كان أبو جهل والوليدين المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض.

[سورة الفرقان (25) : آية 21]
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا (21)
أى لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم كفرة. أو لا يخافون لقاءنا بالشر. والرجاء في لغة تهامة:
الخوف، وبه فسر قوله تعالى لا ترجون لله وقارا جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا. اقترحوا من الآيات أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بأن محمدا صادق حتى يصدقوه. أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. ولا يخلو: إما أن يكونوا عالمين بأن الله لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء، وأن الله لا يصح أن يرى «1» . وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون. وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فإن قلت: ما معنى في أنفسهم؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد
__________
(1) . قوله «لا يصح أن يرى، هذا مذهب المعتزلة، وعند أهل السنة: يصح أن يرى. (ع)

(3/272)


يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22)

في قلوبهم واعتقدوه. كما قال إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه. وعتوا وتجاوزوا الحد في الظلم. يقال: عتا علينا فلان. وقد وصف العتو بالكبير، فبالغ في إفراطه يعنى أنهم لم يخسروا على هذا القول العظيم، إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العنو، واللام جواب قسم محذوف. وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية. وفي أسلوبها قول القائل:
وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها «1»
وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب. ألا ترى أن المعنى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب.

[سورة الفرقان (25) : آية 22]
يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22)
يوم يرون منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه لا بشرى أى: يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويومئذ للتكرير. وإما بإضمار «اذكر» أى: اذكر يوم يرون الملائكة ثم قال لا بشرى يومئذ للمجرمين. وقوله «للمجرمين» إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام، فقد تناولهم بعمومه حجرا محجورا ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو: معاذ الله، «2» وقعدك الله، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة، أو نحو ذلك: يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا،
__________
(1) . لرجل من بنى بكر: قبيلة جساس، يفتخر على بنى تغلب: قبيلة كليب بن ربيعة أخى مهلهل وخال امرئ القيس. وجارة جساس: هي خالته البسوس. أبأنا- بالهمز-: أى قابلنا وساوينا كليبا، بنابها: أى بناقتها المسنة، فقتلناه فيها، ثم قال تعجبا واستعظاما: غلت، أى: ارتفعت وعظمت ناقة مسنة مهزولة بواؤها كليب المشهور.
وبواء كسواء وزنا ومعنى، أى: كفؤها ومساويها كليب بن ربيعة الشجاع المعروف. ومن خبرها أن البسوس أتت مع رجل من جرم تزور أختها هيلة أم جساس بن مرة فخرجت ناقة الجرمي ترعى مع إبل بنى بكر في أرض تغلب لما كان بينهما من المصاهرة والمودة، فأنكر كليب الناقة وظنها أجنبية، فرماها بسهم فأصاب ضرعها فرجعت تشخب دما، وبركت بفناء جساس، فرأتها البسوس فصاحت: واذلاه، واغربتاه! فقال جساس: اهدئى، والله لأعقرن فيها فحلا هو أعز على أهله منها، فظن كليب أنه يعنى فحلا عنده اسمه عليان، فقال: دون عليان خرط القتاد، لكن جساسا كان يعنى نفس كليب، فترقبه يوما ورماه برمحه فصرعه، وتبعه عمرو بن الحرث، فلما رآه كليب قال له:
اسقني يا عمرو. فقال: تركت الماء وراءك وأجهز عليه، فضرب به المثل المشهور:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
واشتعلت الحرب بين بكر وتغلب نحو ثلاثين سنة، وضرب المثل السائر: سد كليب في الناقة.
(2) . قوله «وقعدك الله» في الصحاح: وقولهم: قعيدك لا آتيك، وقعيدك الله لا آتيك، وقعدك الله لا آتيك:
يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر. والمعنى: بصاحبك الذي هو صاحب كل نجوى، كما يقال: نشدتك الله. (ع)

(3/273)


وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (24)

فيقول: حجرا، وهي من حجره إذا منعه، لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن، تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما كان قعدك وعمرك كذلك، وأنشدت لبعض الرجاز:
قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربى منكم وحجر «1»
فإن قلت: فإذ قد ثبت أنه من باب المصادر، فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت:
جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا. ذيل ذائل، والذيل: الهوان. وموت مائت. والمعنى في الآية: أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم، لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور «2» وشدة النازلة. وقيل: هو من قول الملائكة ومعناه: حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أى: جعل الله ذلك حراما عليكم.

[سورة الفرقان (25) : آية 23]
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23)
ليس هاهنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف، ومن على أسير، وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا «3» والهباء: ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفي أمثالهم: أقل من الهباء منثورا صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده، وأنه لا ينتفع به، ثم بالمنثور منه، لأنك تراه منتظما مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب كل مذهب. ونحوه قوله كعصف مأكول لم يكف أن شبههم بالعصف حتى جعله مؤوفا بالأكال «4» ولا أن شبه عملهم بالهباء حتى جعله متناثرا.
أو مفعول ثالث لجعلناه أى فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، كقوله كونوا قردة خاسئين أى جامعين للمسح والخسء. ولام الهباء واو، بدليل الهبوة.

[سورة الفرقان (25) : آية 24]
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (24)
__________
(1) . الحيدة: الصدود، وذعره ذعرا: فزعه. والذعر- بالضم-: اسم مصدر، وكذلك العوذ بمعنى التعوذ والالتجاء، وكذلك الحجر بمعنى الامتناع والتحصن، والمبتدأ محذوف، أى: قالت أمرى تعوذ منكم وتحصن بربي، والحال أنها صادة فزعة، وهذا يقال على لسانهم عند لقاء المكروه. [.....]
(2) . قوله «الموتور» في الصحاح: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. (ع)
(3) . قوله «لم يترك لها أثرا ولا عثيرا» في الصحاح «العثير» بتسكين الثاء: الغبار. (ع)
(4) . قوله «بالأكال» هو بالضم: الحكة. (ع)

(3/274)


ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا (26) ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) ياويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)

المستقر: المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون.
والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن، كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب. وروى أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وفي معناه قوله تعالى إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤن قيل في تفسير الشغل: افتضاض الأبكار، ولا نوم في الجنة. وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن: رمز إلى ما يتزين به مقيلهم. من حسن الوجوه وملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.

[سورة الفرقان (25) : آية 25]
ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25)
وقرئ تشقق والأصل: تتشقق، فحذف بعضهم التاء، وغيره أدغمها. ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها، جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء، كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها. ونظيره قوله تعالى السماء منفطر به. فإن قلت: أى فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عن النبات؟ قلت: معنى انشقت به: أن الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه. والمعنى: أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. وروى تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة إلى الأرض. وقيل: هو غمام أبيض رقيق، مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم. وفي معناه قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة. وقرئ: وننزل الملائكة، وتنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزلت الملائكة، وأنزل الملائكة، ونزل الملائكة، ونزل الملائكة: على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل: قراءة أهل مكة.

[سورة الفرقان (25) : آية 26]
الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا (26)
الحق: الثابت: لأن كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلا ملكه.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 27 الى 29]
ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)

(3/275)


عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الأسنان والأرم «1» ، وقرعها: كنايات عن الغيظ والحسرة، لأنها من روادفها، فيذكر الرادفة ويدل بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنى عنه. وقيل: نزلت في عقبة بن أبى معيط بن أمية بن عبد شمس، وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل وكان أبى بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامى وهو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فقتل يوم بدر: أمر عليا رضى الله عنه بقتله. وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصارى وقال: يا محمد، إلى من السبية «2» قال: إلى النار. وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد، فرجع إلى مكة فمات «3» . واللام في الظالم يجوز أن تكون للعهد، يراد به عقبة خاصة. ويجوز أن تكون للجنس فيتناول عقبة وغيره. تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم يتشعب به طرق الضلالة والهوى. أو أراد أنى كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط، فليتني حصلت بنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وقرئ: يا ويلتى بالياء، وهو الأصل، لأن الرجل ينادى ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالى فهذا أوانك. وإنما قلبت الياء ألفا كما في: صحارى، ومدارى. فلان: كناية عن الأعلام، كما أن الهن كناية عن الأجناس فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: ليتني لم أتخذ أبيا خليلا، فكنى عن اسمه. وإن أريد به الجنس،
__________
(1) . قوله «وحرق الأسنان والأرم» في الصحاح: حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض. ومنه قولهم: حرقت نابه، أى سحقه حتى سمع له صريف. وفلان يحرق عليك الأرم غيظا. وفيه أيضا: أرم على الشيء أى: عض عليه وأرمه أيضا، أى: أكله، والأرم: الأضراس، كأنه جمع آرم، يقال: فلان يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض. (ع)
(2) . قوله «وقال يا محمد إلى من السبية» في الصحاح «السبية» : المرأة تسبى. (ع)
(3) . أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس فذكره مطولا لكن إلى قوله «فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا. ولم يقتل من الأسارى يوم بدر غيره. قتله ثابت بن أبى الأفلح» وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله تعالى. ويوم يعض الظالم على يديه قال «دعا عقبة بن أبى معيط النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعه إلى قوله فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي» ومن طريق مقسم نحوه، مختصرا قال فقتل عقبة يوم بدر صبرا» وأما أبى بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد في القتال وهما اللذان أنزل الله تعالى فيهما ويوم يعض الظالم على يديه وذكره الثعلبي ثم الواحدي من غير سند.

(3/276)


وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34)

فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه عن الذكر عن ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله. أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجن والإنس. ويحتمل أن يكون وكان الشيطان حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله. اتخذت: يقرأ على الإدغام والإظهار، والإدغام أكثر.

[سورة الفرقان (25) : آية 30]
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30)
الرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه لأن الأنبياء كانوا إذا التجئوا إليه وشكوا إليه قومهم: حل بهم العذاب ولم ينظروا.

[سورة الفرقان (25) : آية 31]
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (31)
ثم أقبل عليه مسليا ومواسيا وواعدا النصرة عليهم، فقال وكذلك كان كل نبى قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بى هاديا إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم.
مهجورا: تركوه وصدوا عنه وعن الإيمان به. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه «1» . وقيل: هو من هجر، إذا هذى، أى: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجار وهو على وجهين، أحدهما: زعمهم أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين. والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله تعالى لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمجلود والمعقول. والمعنى: اتخذوه هجرا.
والعدو: يجوز أن يكون واحدا وجمعا. كقوله فإنهم عدو لي وقيل المعنى: وقال الرسول يوم القيامة.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34]
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق أبى هدية عن أنس وأبو هدية كذاب.

(3/277)


نزل هاهنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلا كان متدفعا. وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل على التفاريق. والقائلون:
قريش. وقيل: اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا. وقوله كذلك جواب لهم، أى:
كذلك أنزل مفرقا. والحكمة فيه: أن نقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا «1» بحفظه، والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام، حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجما في عشرين سنة. وقيل: في ثلاث وعشرين. وأيضا: فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا. فإن قلت: ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقا؟ قلت: لأن قولهم:
لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته ورتلناه معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك، كأنه قال: كذلك فرقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله: أن قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة. ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله ورتل القرآن ترتيلا أى اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضى الله عنها في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم «لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه يعدها» «2» وأصله: الترتيل في الأسنان:
__________
(1) . قوله «لبعل به وتعيا بحفظه» في الصحاح: بعل الرجل- بالكسر-: أى دهش: وفيه أيضا: عييت بأمرى، إذا لم تهتد لوجهه. وأعيا عليه الأمر وتعيا وتعايا، بمعنى اه فتدبر. (ع)
(2) . أخرجه البخاري. من رواية عروة. قال «جلس أبو هريرة رضى الله عنه إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحدث الحديث لوعده العاد لأحصاه» ولمسلم «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» وزاد الترمذي والنسائي ولكن كان يتكلم بكلام فصل يحفظه من جلس اليه» وسيأتى في المزمل.

(3/278)


ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا (36)

وهو تفليجها. يقال: ثغر رتل ومرتل، ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. وقيل: هو أن نزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة، ولم يفرقه في مدة متقاربة ولا يأتونك بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنه مثل في البطلان- إلا أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى، ومؤدى من سؤالهم. ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام، وضع موضع معناه فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا. أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك، نحو: أن يقرن بك ملك ينذر معك، أو يلقى إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة، إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته، يعنى: أن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما تزل شيء منها: أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ويقال لهم جيئوا بمثل هذا الكتاب في فصاحته مع بعد ما بين طرفيه، كأنه قيل لهم: إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته. ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم، لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله. وفي طريقته قوله هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه ... الآية ويجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازى وعن النبي صلى الله عليه وسلم: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا «1» .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 36]
ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا (36)
__________
(1) . أخرجه البيهقي من طريق مسدد عن بشر بن المفضل عن على بن زيد عن أوس بن أبى أوس. عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في الترمذي والبزار وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة من هذا الوجه لكن قال عن أوس ابن خالد وعند الحاكم من رواية أبى الطفيل عن حذيفة بن أسيد عن أبى ذر حدثني الصادق المصدوق «أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج. فوجا طاعمين لا بسين راكبين. وفوجا يمشون ويسعون. وفوجا تسحيهم الملائكة على وجوههم إلى النار» وفي الترمذي والنسائي من رواية معاوية بن جبلة حدثنا يهز بن حكيم رفعه «إنكم محشورون إلى الله ركبانا ورجالا وتمرون على وجوهكم» .

(3/279)


وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (39)

الوزارة: لا تنافى النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. والمعنى: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، كقوله اضرب بعصاك البحر فانفلق أى فضرب فانفلق. أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها أعنى: إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وعن على رضى الله عنه فدمرتهم. وعنه: فدمراهم. وقرئ فدمرانهم، على التأكيد بالنون الثقيلة.

[سورة الفرقان (25) : آية 37]
وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37)
كأنهم كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيب للجميع أو لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة وجعلناهم وجعلنا إغراقهم أو قصتهم للظالمين إما أن يعنى بهم قوم نوح، وأصله: وأعتدنا لهم، إلا أنه قصد تظليمهم فأظهر. وإما أن يتناولهم بعمومه.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 38 الى 39]
وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا (39)
عطف عادا على «هم» في جعلناهم أو على الظالمين، لأن المعنى: ووعدنا الظالمين. وقرئ:
وثمود، على تأويله القبلة. وأما المنصرف فعلى تأويل الحى أو لأنه اسم الأب الأكبر. قيل في أصحاب الرس: كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام. فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه. فبيناهم حول الرس وهو البئر غير المطوية. عن أبى عبيدة: انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة، قتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح. وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان، كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم، إن أعوزها الصيد. فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا: وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: هو الأخدود.
وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. وقيل: كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أى: دسوه فيها بين ذلك أى بين ذلك المذكور، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود ضربنا له الأمثال بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين، ووصفنا لهم ما أجروا

(3/280)


ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42)

إليه من تكذيب الأنبياء وجرى عليهم من عذاب الله وتدميره. والتتبير: التفتيت والتكسير.
ومنه: التبر، وهو كسار الذهب والفضة والزجاج. وكلا الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو: أنذرنا. أو: حذرنا. والثاني بتبرنا، لأنه فارغ له.

[سورة الفرقان (25) : آية 40]
ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40)
أراد بالقرية «سدوم» من قرى قوم لوط، وكانت خمسا: أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة. ومطر السوء: الحجارة، يعنى أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أفلم يكونوا في مرار مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ويذكرون بل كانوا قوما كفرة بالبعث لا يتوقعون نشورا وعاقبة، فوضع الرجاء موضع التوقع، لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن فمن ثم لم ينظروا ولم يذكروا، ومروا بها كما مرت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو لا يخافون، على اللغة التهامية.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 42]
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42)
إن الأولى نافية، والثانية مخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة بينهما. واتخذه هزوا:
في معنى استهزأ به، والأصل: اتخذه موضع هزؤ، أو مهزوءا به أهذا محكي بعد القول المضمر.
وهذا استصغار، وبعث الله رسولا وإخراجه في معرض التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزءوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولا. وقولهم إن كاد ليضلنا دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم، ولولا في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى- لا من حيث الصنعة- مجرى التقييد للحكم المطلق وسوف يعلمون وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال، ولا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير. وقوله من أضل سبيلا كالجواب

(3/281)


أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46)

عن قولهم إن كاد ليضلنا لأنه نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الضلال من حيث لا يضل غيره إلا من هو ضال في نفسه. ويروى أنه من قول أبى جهل لعنه الله.

[سورة الفرقان (25) : آية 43]
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43)
من كان في طاعة الهوى في دينه يتبعه في كل ما يأتى ويذر لا يتبصر دليلا ولا يصغى إلى برهان. فهو عابد هواه وجاعله إلهه، فيقول لرسوله هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وتقول لا بد أن تسلم شئت أو أبيت- ولا إكراه في الدين؟ وهذا كقوله وما أنت عليهم بجبار، لست عليهم بمصيطر ويروى أن الرجل منهم كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر. ومنهم الحرث بن قيس السهمي.

[سورة الفرقان (25) : آية 44]
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44)
أم هذه منقطعة، معناه، بل أتحسب كأن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا ولا إلى تدبره عقلا، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها. فإن قلت لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلها؟ قلت: ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية، كما تقول: علمت منطلقا زيدا: لفضل عنايتك بالمنطلق «1» . فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصده عن الإسلام إلا داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالا. فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها «وتهتدى لمراعيها ومشاربها. وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنى والعذب الروى.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 46]
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قدم إلهه وهو المفعول الثاني، وأجاب بأنه قدم عناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق» قال أحمد: وفيه نكتة حسنة وهي إفادة الحصر، فان الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر: المبتدأ هواه، والخبر إلهه. وتقديم الخبز كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه، والله أعلم.

(3/282)


وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47)

ألم تر إلى ربك ألم ننظر إلى صنع ربك وقدرته، ومعنى مد الظل: أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس ولو شاء لجعله ساكنا أى لاصقا بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجرة، غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمى انبساط الظل وامتداده تحركا منه وعدم ذلك سكونا. ومعنى كون الشمس دليلا: أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان زائلا «1» ومتسعا ومتقلصا، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه: أنه ينسخه بضح الشمس «2» يسيرا أى على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصر، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر: وهو أنه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب «3» لعدم النير، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل، أى: سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ويمتد ويتقلص، ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير. ويحتمل أن يريد: قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، وقوله: قبضناه إلينا: يدل عليه، وكذلك قوله يسيرا، كما قال ذلك حشر علينا يسير

[سورة الفرقان (25) : آية 47]
وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47)
شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. والسبات: الموت. والمسبوت: الميت، لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله وهو الذي يتوفاكم بالليل. فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟
قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق «4» . وهذه الاية مع دلالتها على
__________
(1) . قوله «زائلا» لعله زائلا عن آخر. (ع)
(2) . قوله «أنه ينسخه بضح الشمس» في الصحاح: ضحضح السراب وتضحضح، إذا ترقرق. والضح:
الشمس. وفي الحديث «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل» فانه مقعد الشيطان. (ع)
(3) . قوله «ظلها على الأرض فينانا ما في أديمه جوب» في الصحاح «الفينان» الطويل، وفيه «الأدم» جمع الأديم، مثل: أفيق وأفق، وربما سمى وجه الأرض أديما. وفيه: جاب يجوب جوبا، إذا خرق وقطع، فتدبر. (ع) [.....]
(4) . قوله «يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» في الصحاح «العيوف» من الإبل: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان. وفيه: رنقته ترنيقا: كدرته. (ع)

(3/283)


وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48) لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (49)

قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل، كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أى عبرة فيها لمن اعتبر.
وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.

[سورة الفرقان (25) : آية 48]
وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48)
قرئ: الريح. والرياح نشرا: إحياء. ونشرا: جمع نشور، وهي المحيية. ونشرا: تخفيف نشر، وبشرا تخفيف بشر: جمع بشور وبشرى. وبين يدي رحمته استعارة مليحة، أى: قدام المطر طهورا بليغا في طهارته. وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا. ويعضده قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وإلا فليس «فعول» من التفعيل في شيء. والطهور على وجهين في العربية: صفة، واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور، كقولك: طاهر، والاسم قولك لما يتطهر به: طهور، كالوضوء والوقود، لما يتوضأ به وتوقد به النار. وقولهم: تطهرت طهورا حسنا، كقولك:
وضوءا حسنا، ذكره سيبويه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، لا صلاة إلا بطهور «1» » أى طهارة. فإن قلت: ما الذي يزيل عن الماء اسم الطهور؟ قلت: تيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن، تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. أو استعماله في البدن لأداء عبادة عند أبى حنيفة وعند مالك بن أنس رضى الله عنهما: ما لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور. فإن قلت:
فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن بئر بضاعة فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه «2» » ؟ قلت: قال الواقدي: كان بئر بضاعة طريقا للماء إلى البساتين.

[سورة الفرقان (25) : آية 49]
لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا (49)
وإنما قال ميتا لأن البلدة في معنى البلد في قوله: فسقناه إلى بلد ميت، وأنه غير جار
__________
(1) . أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضى الله عنهما «لا تقبل صلاة إلا بطهور» وأصله في مسلم والطبراني من طريق عيسى بن صبرة عن أبيه عن جده «لا صلاة إلا بوضوء» وفي الباب عن جماعة من الصحابة. قلت: استوفيت طرقه في أول شرحي على الترمذي ولم يذكر المخرج منها إلا شيئا يسيرا
(2) . لم أجده هكذا. بل هو ملفق من حديثين فالأول أخرجه أصحاب السنن من حديث رافع بن خديج. قال يا رسول الله. أنتوضأ من بضاعة وهي بئر يلقى فيها الجيف ولحوم الكلاب والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه. وقد استوفيت طرقها في تخريج أحاديث الرافعي.

(3/284)


ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50)

على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ: نسقيه بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل:
أسقاه: جعل له سقيا. الأناسى: جمع إنسى أو إنسان. ونحوه ظرابى في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك:
أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت:
لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام: ولأنها قنية الأناسى، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، فبهم غنية عن سقى السماء، وأعقابهم- وهم كثير منهم- لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله لنحيي به بلدة ميتا يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟ قلت: لأن حياة الأناسى بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.

[سورة الفرقان (25) : آية 50]
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50)
يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم السلام- وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر- ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام «1» فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا:
مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية «2» . وروى
__________
(1) . قوله «ورذاذ وديمة ورهام» الرذاذ: مطر ضعيف. والرهام. جمع رهمة وهي المطرة الضعيفة الدائمة، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم والطبري من رواية الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: «ما من عام أمطر من عام. ولكن الله يصرفه ... الخ» وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة، أخرجه العقيلي من رواية على بن حميد عن شعبة عن أبى إسحاق عن أبى الأحوص عنه وقال: لا يتابع على رفعه.
ثم أخرجه موقوفا من رواية عمر بن مرزوق عن شعبة وقال: هذا أولى، وأورده ابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود مرفوعا.

(3/285)


ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53)

أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام، لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد.
وينتزع من هاهنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسى، كأنه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسى، وذلك البعض كثير. فإن قلت: هل يكفر من ينسب الأمطار إلى الأنواء؟ قلت: إن كان لا يراها إلا من الأنواء ويجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله: فهو كافر. وإن كان يرى أن الله خالقها وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها: لم يكفر.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 52]
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا (52)
يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى.
ولبعثنا في كل قرية نبيا ينذرها. وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر فلا تطع الكافرين فيما يريدونك عليه، وإنما أراد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم. والضمير للقرآن أو لترك الطاعة الذي يدل عليه: فلا تطع والمراد: أن الكفار يجدون ويجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدك واجتهادك وعضك على نواجذك بما تغلبهم به وتعلوهم، وجعله جهادا كبيرا لما يحتمل فيه من المشاق العظام. ويجوز أن يرجع الضمير في به إلى ما دل عليه: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه نذير كافة القرى، لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لو جبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم، فقال له وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة.

[سورة الفرقان (25) : آية 53]
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53)
سمى الماءين الكثيرين الواسعين: بحرين، والفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة.

(3/286)


وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55) وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (56) قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)

والأجاج: نقيضه، ومرجهما: خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج. وهذا من عظيم اقتداره. وفي كلام بعضهم: وبحران: أحدهما مع الآخر ممروج، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج «1» برزخا حائلا من قدرته، كقوله تعالى بغير عمد ترونها يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته. وقرئ: ملح، على فعل. وقيل: كأنه حذف من مالح تخفيفا، كما قال: وصليانا بردا، بريد: باردا: فإن قلت: وحجرا محجورا ما معناه؟
قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ، وقد فسرناها، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال لا يبغيان أى لا يبغى أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ هاهنا: جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.

[سورة الفرقان (25) : آية 54]
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54)
أراد: فقسم البشر قسمين ذوى نسب، أى: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهن، ونحوه قوله تعالى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. وكان ربك قديرا حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.

[سورة الفرقان (25) : آية 55]
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55)
الظهير والمظاهر، كالعوين والمعاون. و «فعيل» بمعنى مفاعل غير عزيز. والمعنى: أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك. روى أنها نزلت في أبى جهل، ويجوز أن يريد بالظهير: الجماعة، كقوله والملائكة بعد ذلك ظهير كما جاء: الصديق والخليط، يريد بالكافر: الجنس، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله. وقيل: معناه: وكان الذي يفعل هذا الفعل- وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر- على ربه هينا مهينا، من قولهم: ظهرت به، إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، وهذا نحو قوله أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 57]
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (56) قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)
__________
(1) . قوله «ممزوج» لعله: غير ممزوج، فليحرر. (ع)

(3/287)


وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا (59)

مثال إلا من شاء والمراد: إلا فعل من شاء واستثنائه عن الأجر قول ذى شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال: ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه.
فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين، إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله، كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا فإنى أطلب الثواب، والثانية: إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظت مالك: اعتد بحفظك ثوابا ورضى به كما يرضى المثاب بالثواب. ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا: تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل: المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.

[سورة الفرقان (25) : آية 58]
وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58)
أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرفه أن الحي الذي لا يموت، حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأعمالهم كاف في جزاء أعمالهم.

[سورة الفرقان (25) : آية 59]
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا (59)
في ستة أيام يعنى في مدة: مقدارها هذه المدة، لأنه لم يكن حينئذ نهار ولا ليل. وقيل:
ستة أيام من أيام الآخرة، وكل يوم ألف سنة. والظاهر أنها من أيام الدنيا. وعن مجاهد:
أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. ووجهه أن يسمى الله لملائكته تلك الأيام المقدرة بهذه الأسماء فلما خلق الشمس وأدارها وترتب أمر العالم على ما هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيام. وأما الداعي إلى هذا العدد- أعنى الستة دون سائر الأعداد- فلا نشك أنه داعى حكمة، لعلمنا أنه لا يقدر تقديرا إلا بداعي حكمة، وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته.
ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر، وحملة العرش ثمانية، والشهور اثنى عشر، والسماوات سبعا والأرض كذلك، والصلوات خمسا، وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك. والإقرار بدواعى الحكمة في جميع أفعاله، وبأن ما قدره حق وصواب هو الإيمان.
وقد نص عليه في قوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين

(3/288)


وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60) تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61)

كفروا، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا
ثم قال وما يعلم جنود ربك إلا هو وهو الجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة، وهو قادر على ذلك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنهما. إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق والتثبت. وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيدا للمسلمين. الذي خلق مبتدأ. والرحمن خبره. أو صفة للحى، والرحمن: خبر مبتدإ محذوف.
أو بدل عن المستتر في استوى. وقرئ: الرحمن، بالجر صفة للحى. وقرئ فسل، والباء في به صلة سل، كقوله تعالى سأل سائل بعذاب واقع كما تكون عن صلته في نحو قوله ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم فسأل به، كقوله: اهتم به، واعتنى به، واشتغل به. وسأل عنه كقولك: بحث عنه، وفتش عنه، ونقر عنه. أو صلة خبيرا: وتجعل خبيرا مفعول سل، يريد: فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته. أو: فسل بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أى برؤيته. والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا.
أو تجعله حالا عن الهاء، تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب، حتى يعرف من ينكره. ومن ثمة كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون مسيلمة. وكان يقال له: رحمن اليمامة:

[سورة الفرقان (25) : آية 60]
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60)
وما الرحمن يجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به، لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، والسؤال عن المجهول ب «ما» . ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى لما تأمرنا أى للذي تأمرناه، بمعنى تأمرنا سجوده: على قوله: أمرتك الخير. أو لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو. وفي زادهم ضمير اسجدوا للرحمن لأنه هو المقول.

[سورة الفرقان (25) : آية 61]
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61)
البروج: منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان،

(3/289)


وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63)

والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت: سميت بالبروج التي هي القصور العالية، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج، لظهوره. والسراج: الشمس كقوله تعالى وجعل الشمس سراجا وقرئ.
سرجا، وهي الشمس والكواكب الكبار معها. وقرأ الحسن والأعمش: وقمرا منيرا، وهي جمع ليلة قمراء، كأنه قال: وذا قمر منيرا لأن الليالي تكون قمرا بالقمر، فأضافه إليها.
ونظيره- في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه- قول حسان:
بردي يصفق بالرحيق السلسل «1»
يريد: ماء بردي، ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر، كالرشد والرشد، والعرب والعرب.

[سورة الفرقان (25) : آية 62]
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62)
الخلفة من خلف، كالركبة من ركب: وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوى خلفة، أى: ذوى عقبة، أى: يعقب هذا ذاك وذاك هذا.
ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان. ومنه قوله واختلاف الليل والنهار ويقال: بفلان «2» خلفة واختلاف، إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه. وقرئ: يذكر ويذكر.
وعن أبى بن كعب رضى الله عنه: يتذكر. والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدل بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار، كما قال عز وعلا: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله. أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رضى الله عنه:
من فانه عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب.

[سورة الفرقان (25) : آية 63]
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63)
وعباد الرحمن مبتدأ خبره في آخر السورة، كأنه قيل: وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 84 فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . قوله «ويقال بفلان خلفة» لعله: لفلان. (ع)

(3/290)


والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64)

أولئك يجزون الغرفة. ويجوز أن يكون خبره الذين يمشون وأضافهم إلى الرحمن تخصيصا وتفضيلا. وقرئ: وعباد الرحمن. وقرئ: يمشون هونا حال، أو صفة للمشي، بمعنى:
هينين. أو: مشيا هينا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين.
ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونا «1» ما» وقوله «المؤمنون هينون لينون «2» » والمثل:
إذا عز أخوك فهن. ومعناه: إذا عاسر فياسر. والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله ويمشون في الأسواق. سلاما تسلما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شر، أى: نتسلم منكم تسلما، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة، «3» من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «4»
وعن أبى العالية: نسختها آية القتال، ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.

[سورة الفرقان (25) : آية 64]
والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64)
__________
(1) . أخرجه الترمذي من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبى هريرة تفرد به سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة عن أيوب قال الترمذي. غريب. وقال ابن حبان، في الضعفاء: سويد بن عمرو يضع المتون الواهية على الأسانيد الصحيحة. وليس هذا من حديث أبى هريرة. وإنما هو من قول على رضى الله عنه. وقد رفعه الحسن بن أبى جعفر عن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن على. وهو خطأ فاحش. ورواية الحسن بن أبى جعفر في فوائد تمام وأخرجه ابن عدى من طريق الحسن بن دنيا- عن ابن سيرين عن أبى هريرة. قال: الحسن بن دنيا- أجمعوا على ضعفه ورواه الطبراني في الأوسط. من رواية أبى الزناد عن الأعرج. عن أبى هريرة لكن الراوي له عن أبى الزناد متروك. وهو عباد بن كثير. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني وفيه أبو السلط الهروي. وهو متروك وعن ابن عمرو بن العاص أخرجه أيضا من طريق محمد بن كثير الضمري. عن ابن لهيعة، عن أبى نهشل عنه وهذا إسناد واه جدا. والموقوف عن على. أخرجه البيهقي في الشعب في الحادي والأربعين من رواية أبى إسحاق عن صبرة بن يزيد ثم عن على. وقال الدارقطني. الصحيح على على موقوف
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد قال أخبرنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول بهذا مرسلا «وزاد كالجمل الأنف الذي إن قيد انقاد. وإن ينخ على صخرة أناخ» وأخرجه البيهقي في الشعب في السادس والخمسين من هذا الوجه قال هذا مرسل ثم أخرجه من طريق العقيلي في منكرات عبد الله بن عبد العزيز. وفي الباب عن ابن أنس مرفوعا ذكره ابن طاهر في الكلام على أحاديث الشهاب. وفيه زكريا بن يحيى الوقاد وهو واهى الحديث.
(3) . قوله «وسوء الرعة» في الصحاح: يقال: فلان سيئ الرعة، أى: قليل الورع. وفيه: قيل ذلك الورع- بكسر الراء-: الرجل التقى. وقد ورع يرع- بالكسر فيهما- ورعا ورعة. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 390 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/291)


والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67)

البيتوتة: خلاف الظلول، وهو أن يدركك الليل، نمت أو لم تنم، وقالوا: من قرأ شيئا من القرآن في صلاته وإن قل فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء. والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو بأكثره. يقال: فلان يظل صائما ويبيت قائما.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 66]
والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66)
غراما هلاكا وخسرانا ملحا لازما قال:
ويوم النسار ويوم الجفا ... ر كانا عذابا وكانا غراما «1»
وقال:
إن يعاقب يكن غراما ... وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالى»
ومنه: الغريم: لإلحاجه وإلزامه. وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه، إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم، كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة. ساءت في حكم «بئست» وفيها ضمير مبهم يفسره:
مستقرا. والمخصوص بالذم محذوف، معناه: ساءت مستقرا ومقاما هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون ساءت بمعنى: أحزنت. وفيها ضمير اسم إن. ومستقرا حال أو تمييز، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام الله وحكاية لقولهم.

[سورة الفرقان (25) : آية 67]
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67)
قرئ يقتروا بكسر التاء وضمها. ويقتروا، بتخفيف التاء وتشديدها. والقتر والإقتار والتقتير: التضييق الذي هو نقيض الإسراف. والإسراف: مجاوزة الحد في النفقة. ووصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) . لبشر بن أبى حازم. والنسار: ماء لبنى عامر. والجفار: ماء لبنى تميم ينجد، يقول: واقعة النسار وواقعة الجفار، كانا عذابا على أهلهما، وكانا غراما، أى: هلاكا لازما لهم. وقيل: شرا دائما.
(2) . للأعشى، يقول: إن يعاقب هذا الممدوح أعداءه يكن غراما أى هلاكا ملازما لهم. وإن يعط السائل عطاء جزيلا عظيما فانه لا يبالى به ولا يكترث به ولا يستكثره، فهو شجاع جواد. [.....]

(3/292)


والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70)

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقيل: الإسراف إنما هو الإنفاق في المعاصي، فأما في القرب فلا إسراف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير. وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه، فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت، وجاء بكلام حسن، فقال ابن لعبد الملك: إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر، فسأله عن نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بنى، أهذا أيضا مما أعده؟ وقيل: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر «1» .
وقال عمر رضى الله عنه: كفى سرفا أن لا يشتهى رجل شيئا إلا اشتراه فأكله «2» . والقوام:
العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما. ونظير القوام من الاستقامة: السواء من الاستواء. وقرئ: قواما، بالكسر، وهو ما يقام به الشيء. يقال: أنت قوامنا، بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، والمنصوبان أعنى بين ذلك قواما: جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا، وقواما مستقرا. وأن يكون الظرف خبرا، وقواما حالا مؤكدة. وأجاز الفراء أن يكون بين ذلك اسم كان، على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت «3»
وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوى لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة، فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 70]
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70)
__________
(1) . قوله «والقر» أى البرد. (ع)
(2) . أخرجه عبد الرزاق في التفسير عن ابن عيينة عن رجل عن الحسن عن عمر بن الخطاب وهذا منقطع من طريقه. رواه الثعلبي. ورواه أحمد في الزهد عن إسماعيل عن يونس عن الحسن كذلك ورواه ابن ماجة وأبو يعلى والبيهقي في الشعب من طريق نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس رضى الله عنه مرفوعا والأول أصح
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 422 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/293)


حرم الله أى حرمها. والمعنى: حرم قتلها. وإلا بالحق متعلق بهذا القتل المحذوف.
أو بلا يقتلون، ونفى هذه المقبحات العظام على الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين، للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. والقتل بغير الحق: يدخل فيه الوأد وغيره. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قلت: يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أى؟ قال «أن تزانى حليلة جارك» «1» فأنزل الله تصديقه. وقرئ: يلق فيه أثاما. وقرئ: يلقى، بإثبات الألف، وقد مر مثله. والآثام: جزاء الإثم، بوزن الوبال والنكال ومعناهما. قال:
جزي الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام «2»
وقيل هو الإثم. ومعناه: يلق جزاء أثام. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: أياما «3» ، أى شدائد. يقال: يوم ذو أيام: لليوم العصيب. يضاعف بدل من يلق، لأنهما في معنى واحد، كقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا «4»
وقرئ: يضعف، ونضعف له العذاب، بالنون ونصب العذاب. وقرئ بالرفع على الاستئناف أو على الحال، وكذلك يخلد وقرئ: ويخلد، على البناء للمفعول مخففا ومثقلا، من الإخلاد والتخليد. وقرئ: وتخلد، بالتاء على الالتفات يبدل مخفف ومثقل، وكذلك سيئاتهم. فإن قلت: ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيئات حسنات؟ قلت: إذا ارتكب المشرك معاصى مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعا، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. وإبدال السيئات حسنات: أنه يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات: الإيمان، والطاعة، والتقوى. وقيل: يبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين: قتل المشركين، وبالزنا:
عفة وإحصانا.
__________
(1) . متفق عليه من رواية أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عنه.
(2) . العقوق- بالفتح-: كثير العقوق بالضم، وهو منع بر الوالدين وقطع صلتهما، والأثام- كالوبال-: جزاء الإثم. وقيل: هو الإثم، فسمي به مسببه وهو الجزاء، ومفعول جزى الثاني محذوف. وعقوقا خبر أمسى.
والعقوق: مبتدأ، أى: لا بد العقوق من جزاء سيء عظيم.
(3) . قوله «أياما» وفي الصحاح «الأيام» الدخان. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 331 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/294)


ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73)

[سورة الفرقان (25) : آية 71]
ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71)
يريد. ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيا عنده مكفرا للخطايا محصلا للثواب. أو فإنه تائب متابا إلى الله الذي يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يستوجبون، والذي يحب التوابين ويحب المتطهرين. وفي كلام بعض العرب: لله أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد. أو: فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وأى مرجع.

[سورة الفرقان (25) : آية 72]
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72)
يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله، وصيانة لدينهم عما يثلمه لأن مشاهد الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه. وفي مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام: إياكم ومجالسة الخطائين.
ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وعن قتادة:
مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. اللغو: كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به. مروا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم، كقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وعن الحسن رضى الله عنه:
لم تسفههم المعاصي. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا. وقيل:
إذا ذكروا النكاح كنوا عنه

[سورة الفرقان (25) : آية 73]
والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73)
لم يخروا عليها ليس بنفي للخرور. وإنما هو إثبات له، ونفى للصمم والعمى، كما تقول:
لا يلقاني زيد مسلما، هو نفى للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها، سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.

(3/295)


والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76)

[سورة الفرقان (25) : آية 74]
والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74)
قرئ: ذريتنا، وذرياتنا. وقرة أعين، وقرات أعين. سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله، يسرون بمكانهم وتقربهم عيونهم. وعن محمد بن كعب: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. أراد. أئمة، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله تعالى ثم يخرجكم طفلا أو أرادوا اجعل كل واحد منا إماما. أو أراد جمع آم، كصائم وصيام. أو أرادوا اجعلنا إماما واحدا لا تحادنا واتفاق كلتنا. وعن بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقيل: نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة. فإن قلت: من في قوله من أزواجنا ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا. ومعناه:
أن يجعلهم الله لهم قرة أعين، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا، أى: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى: هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح. فإن قلت: لم قال قرة أعين فنكر وقلل؟ قلت: أما التنكير فلأجل تنكير القرة، لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه، كأنه قيل: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وإنما قيل أعين دون عيون، لأنه أراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال الله تعالى وقليل من عبادي الشكور «1» ويجوز أن يقال في تنكير أعين أنها أعين خاصة، وهي أعين المتقين.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 76]
أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76)
المراد يجزون الغرفات وهي العلالي في الجنة، فوحد اقتصارا على الواحد الدال على الجنس،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم قلل الأعين إذ الأعين صيغة جمع قلة؟ قلت: لأن أعين المتقين قليل بالاضافة إلى غيرهم، يدل على ذلك قوله: وقليل من عبادي الشكور» قال أحمد: والظاهر أن المحكي كلام كل أحد من المتقين، فكأنه قال: يقول كل واحد منهم اجعل لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وهذا أسلم من تأويله، فان المتقين وإن كانوا بالاضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد. والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والاضافة، والله أعلم.

(3/296)


قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77)

والدليل على ذلك قوله وهم في الغرفات آمنون وقراءة من قرأ: في الغرفة بما صبروا بصبرهم على الطاعات، وعن الشهوات، وعن أذى الكفار ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك.
وإطلاقه لأجل الشياع في كل مصبور عليه. وقرئ: يلقون، كقوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا ويلقون، كقوله تعالى يلق أثاما. والتحية: دعاء بالتعمير. والسلام: دعاء بالسلامة، يعنى أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كل آفة. اللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا مع أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك.

[سورة الفرقان (25) : آية 77]
قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77)
لما وصف عبادة العباد، وعدد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم الرفع من درجاتهم في الجنة: أتبع ذلك بيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ووعدهم ما وعدهم، لأجل عبادتهم، فأمر رسوله أن يصرح للناس، ويجزم لهم القول بأن الاكتراث لهم عند ربهم، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة ولم يعتد بهم ولم يكونوا عنده شيء يبالى به. والدعاء: العبادة. وما متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، كأنه قيل: وأى عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم. يعنى أنكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم ما عبأت به: ما اعتددت به من فوادح همومى ومما يكون عبئا على، كما تقول: ما اكترثت له، أى: ما اعتددت به من كوارثى ومما يهمني. وقال الزجاج في تأويل ما يعبؤا بكم ربي: أى وزن يكون لكم عنده؟
ويجوز أن تكون ما نافية، فقد كذبتم يقول: إذا أعلمتكم أن حكمى أنى لا أعتد بعبادي إلا عبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار.
ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتى أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمرى، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. وقيل: معناه ما يصنع بكم ربى لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. وقيل: ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، فإن قلت: إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ قلت: إلى الناس على الإطلاق، ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجدوا في جنسهم من العبادة والتكذيب. وقرئ:
فقد كذب الكافرون. وقيل: يكون العذاب لزاما. وعن مجاهد رضى الله عنه: هو قتل يوم بدر، وأنه لوزم بين القتلى لزاما. وقرئ: لزاما، بالفتح بمعنى اللزوم، كالثبات والثبوت.

(3/297)


طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)

والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به، لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف، والله أعلم بالصواب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفرقان لقى الله يوم القيامة وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنة بغير نصب» «1»

سورة الشعراء
مكية، إلا قوله والشعراء ... إلى آخر السورة وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: وست وعشرون آية [نزلت بعد الواقعة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2)
طسم بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها الكتاب المبين الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند الله، والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.

[سورة الشعراء (26) : آية 3]
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)
البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حد الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك ألا يكونوا مؤمنين لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة رضى الله عنه: باخع نفسك على الإضافة.

[سورة الشعراء (26) : آية 4]
إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)
أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. فظلت معطوف على الجزاء الذي هو ننزل،
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.

(3/298)


وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (6) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)

لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره: فأصدق وأكن، كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ:
لو شئنا لأنزلنا. وقرئ: فتظل أعناقهم. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأن الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعين، كقوله تعالى لي ساجدين وقيل أعناق الناس:
رؤساؤهم ومقدموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم هم الرءوس والنواصي والصدور. قال:
في محفل من نواصي الناس مشهود «1»
وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. وقرئ: فظلت أعناقهم لها خاضعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بنى أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 5 الى 6]
وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5) فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزؤن (6)
أى: وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به. فإن قلت:
كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت:
إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأن من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظن به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له فسيأتيهم وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 7 الى 9]
أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)
وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 428 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/299)


بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضى في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضى في معانيه وفوائده، وقال:
حتي يشق الصفوف من كرمه «1»
أى: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضى فيما يتعلق به من المنافع إن في إنبات تلك الأصناف لآية على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجو إيمانهم وإن ربك لهو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم «2» ؟ قلت: قد دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة «3» ، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين، أحدهما:
__________
(1) .
من رأى يومنا ويوم بنى التيم ... إذا التف صيقه بدمه
لما رأوا أن يومهم أشب ... شدوا حيازيمهم على ألمه
كأنما الأسد في عرينهم ... ونحن كالليل جاش في قتمه
لا يسلمون الغداة جارهم ... حتى يزل الشراك عن قدمه
ولا يخيم اللقاء فارسهم ... حتى يشق الصفوف من كرمه
لرجل من حمير. ومن: استفهامية. والصيق والصيقة- بالكسر-: الغبار والتراب. والأشب- كحذر-: كثير الجلية والاختلاط، ويطلق على المكان الذي التف شجره، والحيزوم: الصدر. والعرين: أجمة الأسد يسكن فيها.
وجاش: ارتفع وأقبل. والقتم: الغبار والسواد والظلمة. وروى في غشمه: بالغين. والمعنى واحد، لا يسلمون لا يخذلون ولا يتركون. والشراك: سير النعل، ولا يخيم: أى لا يجبن عن اللقاء، واليوم: الزمن أو الواقعة، وإضافة الصيق والدم إليه لأنه فيه. ووصف اليوم بأنه كثير الصياح والاختلاط، لأن ذلك واقع فيه، وشد الحيازيم على الألم: كناية عن التجلد والصبر. وشبههم بالأسود في شجاعتهم، وشبه قومه بالليل في الاحاطة والقهر للغير، ثم قال: لا يتركون حليفهم غداة الروع حتى يرتبك وحده في الحرب، فزلل الشراك: كناية عن ذلك ولا يجبن الفارس منهم عن اللقاء، فهو نصب على نزع الخافض، وقيل: مفعول معه، حتى يشق صفوف الحرب ويدخلها من كرمه، أى شجاعته وجراءته، لأن الكرم في كل باب بحسبه، وحتى الأولى غاية للمنفي، والثانية غاية للنفي. ويجوز أن الثانية ابتدائية، والفعل بعدها مرفوع على الاستئناف، وهذا أبلغ في المدح، ثم إن مدح عدوهم مدح لهم.
(2) . قوله «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» لعل بعده سقطا تقديره «كان مستقيما» . (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما فائدة الجمع بين كل وكم؟ وأجاب بأن كلا دخلت للاحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط به متكاثر مفرط الكثرة» قال أحمد: فعلى مقتضى ذلك يكون المقصود بالتكثير: الأنواع والظاهر أن المقصود آحاد الأزواج والأنعام، ويدل عليه أنك لو أسقطت كل فقلت: انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني، لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه، فإذا أدخلت كل فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين، والله أعلم.

(3/300)


وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11)

أن النبات على نوعين: نافع وضار، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضار. والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضاره، ويصفهما جميعا بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأن الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال إن في ذلك لآية وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أى آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية.
وقد سبقت لهذا الوجه نظائر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 11]
وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11)
سجل عليهم بالظلم بأن قدم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبنى إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ:
ألا يتقون بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: ألا يتقون؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون لا يتقون حالا من الضمير في الظالمين، أى: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
وأما من قرأ: ألا تتقون. على الخطاب. فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحر مزاجه «1» وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يونجه ويعنف يه ويقول له: ألم تتق الله، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه الصلاة والسلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى
__________
(1) . قوله «وحر مزاجه» في الصحاح: حر يحر حرا وحرارة وحرور. (ع) [.....]

(3/301)


قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13)

مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله ألا يسجدوا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 13]
قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13)
ويضيق وينطلق، بالرفع لأنهما معطوفان على خبر إن، وبالنصب لعطفهما على صلة أن.
والفرق بينهما في المعنى: أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفى انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة. فإن قلت:
اعتذارك هذا يرده الرفع، لأن المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع «1» الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهرون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ومعنى فأرسل إلى هارون: أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به «2» ، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال فأرسل إلى هارون فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أولها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله، فأراد الله إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره الله بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله من
__________
(1) . قوله «من الفصحاء المصاقع» في الصحاح «صقع الديك» : صاح. وخطيب مصقع، أى: بليغ. (ع)
(2) . قوله «وآزرنى به» في الصحاح «آزرت فلانا» : عاونته. والعامة تقول: وازرته. (ع)

(3/302)


ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22)

ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر: ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.

[سورة الشعراء (26) : آية 14]
ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14)
أراد بالذنب: قتله القبطي. وقيل: كان خباز فرعون واسمه فاتون. يعنى: ولهم على تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل «1» ، فأخاف أن يقتلوني به، فحذف المضاف. أو سمى تبعة الذنب ذنبا، كما سمى جزاء السيئة سيئة. فإن قلت: قد أبيت أن تكون تلك الثلاث عللا، وجعلتها تمهيدا للعذر فيما التمسه، فما قولك في هذه الرابعة؟ قلت: هذه استدفاع للبلية المتوقعة. وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة، فكيف يكون تعللا. والدليل عليه: ما جاء بعده من كلمة الردع، والموعد بالكلاءة والدفع.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 15 الى 22]
قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19)
قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (22)
جمع الله له الاستجابتين معا في قوله كلا فاذهبا لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فاذهبا أى اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون. فإن قلت: علام عطف قوله فاذهبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كلا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهرون. وقوله معكم مستمعون من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما
__________
(1) . قوله «وهي قود ذلك القتل» لعله القتيل. (ع)

(3/303)


وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأن، أو يكون مستمعون مستقرا، ومعكم لغوا. فإن قلت: لم جعلت مستمعون قرينة معكم في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أى: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «1» «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه البرم» «2» . فإن قلت: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إنا رسولا ربك؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه- إذا وصف به- بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال:
ألكنى إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر «3»
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول «4»
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ، والمحفوظ «صب في أذنيه الآنك» وهو الرصاص. وذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ: «البرم الدم» وقال: هو الكحل المذاب. قلت: وإنما تلقاه ابن الأثير عن الفائق، فرجع إلى الزمخشري.
(2) . قوله «صب في أذنيه البرم» في الصحاح «البرم» : ثمر العضاء. (ع)
(3) . لأبى ذؤيب. وألاكه يليكه: إذا أرسله. والمصدر إلاكة، فالهمزة زائدة. والأصل: لاك يلوك، كقام يقوم. وأما ألكه: إذا أرسله أيضا، فمصدره: ألوكة وأليكة ومألكة، بضم اللام وفتحها. ومألك بضمها.
وقيل: ألاكه، إذا تحمل رسالته. فالمعنى: أرسلنى، أو تحمل رسالتي إليها. ويروى: إليه: أى: إلى ذلك الأمر. والرسول في الأصل مصدر، فجاز إفراده مع تعدد معناه، ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم. وشبه الخبر بمكان ذى جهات على طريق المكنية. والنواحي تخييل. أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحى على طريق التصريحية، يعنى أنه أعلم من غيره بذلك.
(4) .
حلفت برب الراقصات إلى منى ... خلال الملا يمددن كل جديل
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
فلا تعجلي يا عز أن تنفهمى ... بنصح أتى الواشون أم بحبول
لكثير صاحب عزة. والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، خلال الملا: أى في أثناء الناس. والجديل الرسن في عنقها تمده به. والواشي: الذي يحسن الكلام ويموهه، ويخلط الصدق بالكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه. و «ما» نافية، أى: ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم إلى أحد برسول، أى برسالة، فهو في الأصل مصدر. وقد يطلق على المرسل، وهو الظاهر في رواية، «ولا راسلتهم برسول» أى لا شافهتهم بالسر ولا أرسلت إليهم رسولا به، وهذه الرواية أوفق بالمقابلة. ويمكن أن أرسلتهم بمعنى أرسلت إليهم، والأصل: يا عزة، فرخم بحذف التاء، أن تنفهمى، أى: في أن تنفهمى. أو لأجل أن تنفهمى، بنصح، أى: أبنصح أتى الواشون إليك، أم بحبول: جمع حبل بالكسر: وهي الداهية العظيمة، ولا أدهى من الكذب.

(3/304)


ويجوز أن يوحد، لأن حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أن كل واحد منا أن أرسل بمعنى: أى أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال:
التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له ألم نربك حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه.
وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبى لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبى عمرو: من عمرك، بسكون الميم سنين قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة.
وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة، وفر منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك.
وعن الشعبي: فعلتك بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه «1» بقوله وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين يجوز أن يكون حالا، أى: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإن الله تعالى عاصم من يريد أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر.
ويجوز أن يكون قوله وأنت من الكافرين حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين لفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى ويذرك وآلهتك وقرئ: إلهتك، فأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو من الضالين أى الجاهلين. وقراءة ابن مسعود: من الجاهلين، مفسرة. والمعنى: من
__________
(1) . قال محمود: «عدد نعمته عليه ووبخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وفظعه عليه بقوله: وفعلت فعلتك» قال أحمد: ووجه التفظيع عليه من ذلك أن في إتيانه به مجملا مبهما، إيذانا بأنه لفظاعته مما لا ينطق به إلا مكنيا عنه. ونظيره في التفخيم المستفاد من الإبهام قوله تعالى فغشيهم من اليم ما غشيهم، إذ يغشى السدرة ما يغشى، فأوحى إلى عبده ما أوحى
ومثله كثير، والله أعلم.

(3/305)


الفاعلين فعل أولى الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب.
أو الناسين، من قوله أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرأ ساحته، بأن وضع الضالين موضع الكافرين ربأ بمحل من رشح للنبوة عن تلك الصفة، ثم كر على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه «1» ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل لأن تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال:
علا م يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان «2»
فإن قلت: إذا جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت:
قول فرعون: وفعلت فعلتك فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء.
فإن قلت: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم؟ مع إفراده في تمنها وعبدت؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد. فإن قلت: تلك إشارة إلى ماذا، وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها. ومحل أن عبدت الرفع عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع والمعنى: تعبيدك بنى إسرائيل نعمة تمنها على. وقال
__________
(1) . قوله «واستأصله من سنخته» في الصحاح «السنخ» الأهل، وسنخ في العلم سنوخا رسخ: وسنخ الدهر- بالكسر-: لغة في زنخ، إذا فسد وتغيرت ريحه. يقال: بيت له سنخة وسناخة اه. (ع)
(2) . علام: استفهام إنكارى عن العلة، أى: على أى شيء. وأعبدت الرجل وعبدته: إذا اتخذته عبدا. والأباعر:
جمع بعير، يطلق على الذكر والأنثى من الإبل. والعبد: يجمع على عبدان بالكسر والضم وعبدى، بتشديد الدال مقصورا وممدودا. ومعبودا، وعباد، وأعبد، وعبيد، وعبد بضمتين وبفتحتين، يقول: لأى شيء يتخذونى عبدا، والحال أنه كثرت فيهم الإبل والعبيد بسببي، فليتخذوا منها ما شاءوا: بدل من الأباعر أو واقع موقع المصدر لكثرت، دلالة على التكثير. وفي هذه الحال: تهكم بهم ودلالة على حمقهم. ويجوز أن المعنى: والحال أن بعضهم كالأباعر، وبعضهم عبيد، فليكتفوا ببعضهم عنى. وقيل: يجوز أن التقييد بهذه الحالة، لأنها التي حملتهم على التكبر عليه.

(3/306)


قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24)

الزجاج: ويجوز أن يكون أن في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة على لأن عبدت بنى إسرائيل، أى: لو لم تفعل ذلك لكفلنى أهلى ولم يلقوني في اليم.

[سورة الشعراء (26) : آية 23]
قال فرعون وما رب العالمين (23)
لما قال له بوابه إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: وما رب العالمين يريد: أى شيء رب العالمين. وهذا السؤال لا يخلو: إما أن يريد به أى شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، «ليس كمثله شيء» وإما أن يريد به: أى شيء هو على الإطلاق، تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي، فأجابه بأن الذي إليه سبيل وهو الكافي في معرفته معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك. وأما التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ويدل عليه الكلام:
أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وطنز به «1» ، حيث سماه رسولهم. فلما ثلث بتقرير آخر: احتد واحتدم وقال: لئن اتخذت إلها غيرى. وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير.

[سورة الشعراء (26) : آية 24]
قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24)
فإن قلت: كيف قيل وما بينهما على التثنية، والمرجوع إليه مجموع؟ قلت: أريد وما بين الجنسين، فعل بالمضمر ما فعل بالظاهر من قال:
في الهيجا جمالين «2»
__________
(1) . قوله «وطنز به» أى: سخر به واحتدم، أى: التهب صدره غيظا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعي عمرو عقالين
لأصبح الناس أو بادا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين
الساعي: المنصوب لأخذ الزكاة. والعقال: زكاة العام، والمراد به هنا العام، لأنه جرى مجرى الظرف. والسبد:
الشيء القليل. يقال: لا له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير. وقال الأصمعي: الأول من الشعر، والثاني من الصوف. والأوباد: جمع وبد بفتحتين، وأصله ضيق العيش وسوء الحال، فاستعمل استعمال الصفات للمبالغة، وثنى الجمال على معنى نوعين منها أو طائفتين منها ولو من نوع واحد. يقول: سعى سنة واحدة لأخذ زكاتها، فظلمنا ولم يترك لنا شيئا قليلا من مالنا، فكيف يكون حالنا لو سعى عامين. وفي ذكر عمرو بعد تقدم ضميره نوع من التهويل. ويحتمل أنه من باب التنازع، فيجوز أن الظاهر فاعل الأول، وفاعل الثاني ضميره، وقوله «لأصبح» مرتب على محذوف، أى: لو سعى عقالين، لأصبح الناس هلكى من الفقر، ولم يجدوا عند تفرقهم في الحرب نوعين من الجمال: لكل فريق منهما نوع، فيختل أمر الغزوات لاحتمال محاربة العدو في جهتين بل في جهات، فيحتاج إلى جمالين، بل إلى جمالات.

(3/307)


قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29)

فإن قلت: ما معنى قوله إن كنتم موقنين وأين عن فرعون وملئه الإيقان؟ قلت: معناه إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدى إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به، لظهوره وإنارة دليله.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 25 الى 28]
قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28)
فإن قلت: ومن كان حوله؟ قلت: أشراف قومه قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت الملوك خاصة. فإن قلت: ذكر السماوات والأرض وما بينهما قد استوعب به الخلائق كلها، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ قلت: قد عمم أولا، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم. لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله، عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان، فبهت الذي كفر. وقرئ: رب المشارق والمغارب. الذي أرسل إليكم بفتح الهمزة.
فإن قلت: كيف قال أولا إن كنتم موقنين وآخرا إن كنتم تعقلون؟ قلت: لاين أولا، فلما رأى منهم شدة الشكيمة «1» في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج خاشن وعارض: إن رسولكم لمجنون، بقوله: إن كنتم تعقلون.

[سورة الشعراء (26) : آية 29]
قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29)
فإن قلت: ألم يكن: لأسجننك، أخصر من لأجعلنك من المسجونين ومؤديا مؤداه؟ قلت:
أما أخصر فنعم. وأما مؤد مؤداه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في
__________
(1) . قوله شدة الشكيمة، في الصحاح: فلان شديد الشكيمة، إذا كان شديد النفس أنفا أبيا. (ع)

(3/308)


قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31)

سجونى. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل وأشد.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 30 الى 31]
قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31)
الواو في قوله أولو جئتك واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه: أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين، أى: جائيا بالمعجزة. وفي قوله إن كنت من الصادقين أنه لا يأتى بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفى على ناس من أهل القبلة «1» حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات»
،
__________
(1) . قوله «وخفى على ناس من أهل القبلة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إن كلا من الحسن والقبيح بقضاء الله تعالى وقدره، ولم يلزمهم باطل كما بين في علم التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «علم فرعون أنه لا يأتى بالمعجزة إلا صادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن فرعون لم يخف عليه هذا وخفى على طائفة من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى كلامه» قال أحمد: ليته سلم وجه تصنيفه من ثآليل هذه الأباطيل، وكلف هذا التكليف في كيده لأهل السنة وإن كيده لفي تضليل، بينا هو يعرض بتفضيل فرعون عليهم، إذا هو قد حتم على إخوانه القدرية أنهم فراعنة، وأن كلا منهم إذا فتش نفسه وجد فيها نصيبا من فرعنته حيث يقول أنا ربكم الأعلى لأنهم يعتقدون أن أفعالهم خلقهم، وأنهم لها مبدعون خالقون كلا إنهم لهم المبتدعون المختلقون، لأنهم حجروا على الله تعالى أن يفعل إلا ما توطأت أوهامهم، على أنه حسن بالنسبة إلى الخلق في الشاهد، فمن ثم أشركوا به وهم لا يشعرون. ولما هدى الله تعالى أهل السنة إلى التوحيد الحق، اعتقدوا أن كل شيء هو مخلوق لله تعالى لا شريك له في ملكه، وأن كل ممكن يجوز أن ينظمه سلطان القدرة الأزلية في سلكه، فكان من الممكنات أن يبتلى الله عباده يخرق العادات على أيدى الكذابين، ومراده إظهار الضلالات: وقد اندرج ذلك لكونه ممكنا تحت سطوة القدرة حقا بينا، ثم لم يلزم من ذلك لله الحمد خرم في الدين، فان توهم ناظر بعين الهوى والغرض، معنون عما في قلبه من مرض: أن ذلك يجر إلى عدم الوثوق بمعجزات الأنبياء، حيث كان على يد غيرهم من الكذابين الأشقياء، قيل: معاذ الله أن نأخذ ذلك بنفس مطمئنة بصدق الأنبياء، آمنة بحصول العلم لها من وقوع ما جوزه العقل، ولو قدح الإمكان العقلي في علم حاصل يقينى، للزم الآن الشك في أن جبال الأرض قد عادت تبرا أحمر، وترابها مسكا أذفر، وانقلبت البحار دما عبيطا لأن ذلك ممكن في العقل بلا خلاف، ولا يشكك نفسه في هذا الإمكان إلا ذو خبل وعته وعمى وعمه، وأين الزمخشري من الحديث الصحيح في الشاب الذي يكذب الدجال فيقسمه بالسيف جزلتين فيمشى بينهما، ثم يقول له: عد فيعود حيا، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم به ثانى مرة فلا يسلط عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وهو حينئذ خير أهل الأرض، أو من خير أهل الأرض» أفرأيت هذا المؤمن لما نظر انخراق العادة على يد أكذب الكاذبين حتى شاهد ذلك في نفسه، لم يشككه ذلك في معلومه، فلم يتلكأ في معاودة تكذيبه، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.

(3/309)


فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35)

وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به، فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 33]
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33)
ثعبان مبين ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزورة بالشعوذة والسحر. وروى أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت. ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا للناظرين دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه، لخروجه عن العادة، وكان بياضا نوريا. روى أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده فقال له: ما هذه؟ قال: يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار «1» ويسد الأفق.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 الى 35]
قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35)
فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل، فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلى وهو النصب على الحال: قال: ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين، وبقي لا يدرى أى طرفيه أطول، حتى زل عنه ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه، وانتفخ سحره خوفا وفرقا «2» ، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم: أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحس به من جهة موسى عليه السلام وغلبته على ملكه وأرضه، وقوله إن هذا لساحر عليم قول باهت إذا غلب ومتمحل إذا لزم تأمرون من المؤامرة وهي المشاورة. أو من الأمر الذي هو ضد النهى: جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا لما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة. وماذا منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قوله: أمرتك الخير.
__________
(1) . قوله «ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار» في الصحاح «الغشاء» : الغطاء اه. ولعل عبارة المصنف يعشى بالعين المهملة، وفي الصحاح «العشا» مقصور: مصدر: الأعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. (ع)
(2) . قوله «وانتفخ سحره خوفا وفرقا» في الصحاح «السحر» : الرئة. ويقال للجبان: قد انتفخ سحره. (ع)

(3/310)


قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40)

[سورة الشعراء (26) : الآيات 36 الى 37]
قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37)
قرئ: أرجئه وأرجه: بالهمز والتخفيف، وهما لغتان. يقال: أرجأته وأرجيته، إذا أخرته. ومنه: المرجئة «1» ، وهم الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسه حاشرين شرطا يحشرون السحرة «2» ، وعارضوا قوله: إن هذا الساحر، بقولهم: بكل سحار، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصفة المبالغة، ليطامنوا من نفسه ويسكنوا بعض قلقه. وقرأ الأعمش: بكل ساحر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 40]
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40)
اليوم المعلوم: يوم الزينة. وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى صلوات الله عليه من يوم الزينة في قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى والميقات:
ما وقت به، أى حدد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام هل أنتم مجتمعون استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم واستحثاثهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق: إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أن الناس قد انطلقوا وهو واقف. ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق «3»
يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به لعلنا نتبع السحرة أى في دينهم إن غلبوا موسى،
__________
(1) . قال محمود: «معناه أخره. ومنه المرجئة الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون: هم مرجئون لأمر الله» قال أحمد: ضاقت عليه المسالك في تفسير الارجاء، حتى استدل عليه بالمرجئة، وصرف هذا اللقب لأهل السنة، فإنهم هم الذين لا يقطعون بوعيد فساق المؤمنين، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم.
فان كانت المرجئة هم المؤمنون بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء اللهم فاشهد أنا مرجئة.
(2) . قوله «شرطا يحشرون السحرة» الشرط- محركة-: الحرس، سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، أفاده الصحاح. (ع)
(3) . لتأبط شرا. وقيل: لجرير الخطفى، وهل: استفهام استبطائى فيه حث على الفعل. ودينار: اسم رجل وعبد رب كذلك، وهو نصب عطفا على محل دينار، لأنه مفعول معنى. وأخا عوف: نعت له. وقيل: منادى.
وعوف ومخراق: اسمان لرجلين. ويروى «عون» بالنون.

(3/311)


فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)

ولا نتبع موسى في دينه. وليس غرضهم باتباع السحرة «1» ، وإنما الغرض الكلى: أن لا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى عليه السلام.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 41 الى 42]
فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42)
وقرئ: نعم، بالكسر «2» ، وهما لغتان. ولما كان قوله إن لنا لأجرا في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله وإنكم إذا لمن المقربين معطوفا عليه ومدخلا في حكمه، دخلت إذا قارة في مكانها الذي تقتضيه من الجواب والجزاء، وعدهم أن يجمع لهم إلى الثواب على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى: القربة عنده والزلفى.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 44]
قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44)
أقسموا بعزة فرعون وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله معلقا ببعض أسمائه أو صفاته، كقولك: بالله، والرحمن، وربى، ورب العرش، وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وعظمة الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» «3» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسيت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 48]
فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)
__________
(1) . قوله «باتباع السحرة» لعله: اتباع، كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «وقرئ نعم بالكسر» أى كسر العين، كما في الصحاح. (ع)
(3) . أخرجه النسائي من حديث أبى هريرة دون قوله «ولا تحلفوا إلا بالله» وقال «بالأنداد» بدل الطواغيت وله من حديث عبد الرحمن بن سمرة «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» مختصر. وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .

(3/312)


قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51)

ما يأفكون ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم، ويزورونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، بالتمويه على الناظرين أو إفكهم: سمى تلك الأشياء إفكا مبالغة. روى أنهم قالوا: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به، علموا أنه من الله فآمنوا. وعن عكرمة رضى الله عنه: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء، لأنه ذكر مع الإلقاآت، فسلك به طريق المشاكلة. وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا. فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلا، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا رب موسى وهارون عطف بيان لرب العالمين، لأن فرعون لعنة الله عليه كان يدعى الربوبية، فأرادوا أن يعزلوه. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي يدعو إليه هذان، والذي أجرى على أيديهما ما أجرى.

[سورة الشعراء (26) : آية 49]
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49)
فلسوف تعلمون أى وبال ما فعلتم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 50 الى 51]
قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51)
الضر والضير والضور: واحد، أرادوا: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله، من تكفير الخطايا والثواب العظيم، مع الأعواض الكثيرة.
أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت. والقتل أهون أسبابه وأرجاها. أو لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته، لما رزقنا من السبق إلى الإيمان وخبر لا محذوف. والمعنى: لا ضير في ذلك، أو علينا أن كنا معناه: لأن كنا، وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، أو من رعية فرعون، أو من أهل المشهد. وقرئ: إن كنا، بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدل بأمره «1» ، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول
__________
(1) . قوله «المدل بأمره» أى الواثق به. أفاده الصحاح. (ع)

(3/313)


وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون (56)

المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر جعله: إن كنت عملت لك فوفني حقي ومنه قوله تعالى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 56]
وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون (56)
قرئ: أسر، بقطع الهمزة ووصلها. وسر إنكم متبعون علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم. والمعنى: أنى بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم، ويسلكوا مسلككم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأهلكهم. وروى:
أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه.
وروى: أن الله أوحى إلى موسى: أن اجمع بنى إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الجداء «1» واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنى سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزا فطيرا «2» فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمرى، فأرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور، مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبعمائة ألف: كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى عليه السلام وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا، وسماهم شرذمة قليلين إن هؤلاء محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة. ومنها قولهم:
ثوب شراذم، للذي يلي وتقطع قطعا، ذكرهم بالاسم الدال على القلة. ثم جعلهم قليلا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلا، واختار جمع السلامة الذي هو للقلة «3» ، وقد يجمع
__________
(1) . قوله «ثم اذبحوا الجداء» في الصحاح «الجدى» من ولد المعز. وثلاثة أجد. فإذا كثرت فهي الجداء. (ع)
(2) . قوله «واخبزوا خبزا فطيرا» في الصحاح «الفطير» : خلاف الخمير، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير. (ع)
(3) . قال محمود: «وقللهم من أربعة أوجه: عبر عنهم بالشرذمة وهي تفيد القلة، ثم وصفهم بالقلة، وجمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل، واختار جمع السلامة ليفيد القلة» قال أحمد: ووجه آخر في تقليلهم يكون خامسا:
وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد، قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة إلى غيره من الموصوفين به، كقولهم: معا زيد جياع، مبالغة في وصفه بالجوع، فكذلك هاهنا جمع قليلا، وكان الأصل إفراده فيقال: لشرذمة قليلة، كما أفرد في قوله كم من فئة قليلة ليدل بجمعه على تناهيهم في القلة، لكن يبقى النظر في أن هذا السر يبقى الوجوه المذكورة على ما هي عليه، أو يسقط منها شيئا ويخلفه، فتأمله والله الموفق.

(3/314)


فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68)

القليل على أقلة وقلل «1» . ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد. والمعنى:
أنهم لقلتهم لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج، سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. وقرئ: حذرون وحاذرون وحادرون «2» ، بالدال غير المعجمة. فالحذر:
اليقظ، والحاذر: الذي يجدد حذره. وقيل: المؤدى في السلاح، وإنما يفعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه. والحادر: السمين القوى. قال:
أحب الصبى السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر «3»
أراد أنهم أقوياء أشداء. وقيل مدججون في السلاح، قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 57 الى 60]
فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60)
وعن مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله. والمقام: المكان، يريد:
المنازل الحسنة والمجالس البهية. وعن الضحاك: المنابر. وقيل السر في الحجال «4» كذلك يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. والجر على أنه وصف لمقام، أى: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. والرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أى: الأمر كذلك. فأتبعوهم فلحقوهم. وقرئ: فاتبعوهم مشرقين داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 61 الى 68]
فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65)
ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68)
__________
(1) . قوله «وقد يجمع القليل على أقلة وقلل» في الصحاح: مثل سرير وسرر. (ع) [.....]
(2) . قوله «وقرئ حذرون وحاذرون وحادرون» في الصحاح: وقرئ: وإنا لجميع حاذرون. وحذرون. وحذرون، أيضا بضم الذال، حكاه الأخفش. ومعنى «حاذرون» متأهبون. وفيه: آد الرجل، أى قوى، من الأداة، فهو مؤد بالهمز، أى: شاك في السلاح. وفيه آديت السفر فأنا مؤد له، إذا كنت متهيئا له. (ع)
(3) . الحادر: القوى الشديد، أو الشجاع الباسل، أى: إن مدار حب الولد على حب أمه، لا على حسن أوصافه وضمير «أبغضه» عائد على الصبى بدون وصفه، لكن هذه شيمة المنهمك في حب النساء.
(4) . قوله «وقيل السر في الحجال» السر: الجماع، والحجال: جمع حجلة وهي بيت العروس يزين بالثياب والأسرة والستور، كذا في الصحاح. (ع)

(3/315)


سيهدين طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم. وقرئ، فلما تراءت الفئتان. إنا لمدركون: بتشديد الدال وكسر الراء، من ادرك الشيء إذا تتابع ففنى. ومنه قوله تعالى بل ادارك علمهم في الآخرة قال الحسن: جهلوا علم الاخرة. وفي معناه بيت الحماسة:
أبعد بنى أمى الذين تتابعوا ... أرجى الحياة أم من الموت أجزع «1»
والمعنى: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد. الفرق: الجزء المتفرق منه.
وقرئ: كل فلق. والمعنى واحد. والطود: الجبل العظيم «2» المنطاد في السماء وأزلفنا ثم حيث انفلق البحر الآخرين قوم فرعون، أى: قربناهم من بنى إسرائيل: أو أدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر. وقرئ: وأزلقنا، بالقاف، أى: أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، كقوله:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل «3»
__________
(1) .
أبعد بى أمى الذين تتابعوا ... أرجى حياة أم من الموت أجزع
ثمانية كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطى ما أشاء وأمنع
أولئك إخوان الصفاء رزئتهم ... وما الكف إلا أصبع ثم أصبع
لأبى الحناك البراء ربعي الفقعسي، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والمراد التحسر والتحزن، وتتابعوا أى انقرضوا واحدا بعد واحد. أرحى: أى أرتجى حياة أم أجزع من الموت، أى: لا أفعل ذلك بعدهم وقال: بى أمى، لأن المقام مقام رقة ورحمة، فهم ثمانية كانوا رؤساء قومهم، كالذؤابة الرأس، وهي شعرها الذي يتحرك حولها، فهو تشبيه بليغ، ثم قال: كنت بهم أفعل ما أريد من الإعطاء والمنع. ويجوز بناء الفعلين للمجهول، فالمعنى: كنت بهم أنال ما أشاء وأكفى شر ما أشاء، ورزأته أصبته في ماله. ورزأته ماله. ورزأتهم: مبنى للمجهول، أى: نقصني الدهر إياهم وأخذهم منى، فلا قوة لي بعدهم، كما أن الكف إذا فقدت أصابعها بطلت قوتها، لأن بطشها ليس إلا بالأصابع منتظمة مرتبة، فهم لي كالأصابع للكف.
(2) . قوله «والطود الجبل العظيم المنطاد في السماء» في الصحاح «طود في الجبال» : مثل طوف وطوح. والمطاود مثال المطاوح. (ع)
(3) . لزهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف. وعبس وذبيان كلاهما اسم قبيلة. يقول: تداركتما هاتين القبيلتين بالصلح بينهما ودفع ديات قتلاهم، وقد ثل: أى هدم عرشها. وهذا تمثيل لذهاب عزهم وفناء دولتهم.
وزلت النعل بالقدم: زلقت عن مقرها، وهذا أيضا تمثيل لاختلال أمرهم وفساد رأيهم. وفي البيت شبه الطباق، حيث أن الأولى أتاها العذاب من فوق رءوسها، والثانية: أتاها من تحت أرجلها

(3/316)


واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71)

ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبنى إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. عن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بنى إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبنى إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم. ويستقبل القبط فيقول: رويدكم يلحق آخركم. فلما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون- وكان بين يدي موسى: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر ولا يدرى موسى ما يصنع، فأوحى الله تعالى إليه: أن اضرب بعصاك البحر. فضربه فصار فيه اثنا عشر طريقا: لكل سبط طريق.
وروى أن يوشع قال: يا كليم الله، أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى:
هاهنا. فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا. وروى أن موسى قال عند ذلك:
يا من كان قبل كل شيء، والمكون لكل شيء، والكائن بعد كل شيء. ويقال: هذا البحر هو بحر القلزم. وقيل: هو بحر من وراء مصر، يقال له: أساف إن في ذلك لآية أية آية، وآية لا توصف، وقد عاينها الناس وشاع أمرها فيهم، وما تنبه عليها أكثرهم، ولا آمن بالله.
وبنو إسرائيل: الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة وإن ربك لهو العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 71]
واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71)
كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول له: الرقيق جمال وليس بمال. فإن قلت: ما تعبدون سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا: أصناما، كقوله تعالى ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو، ماذا قال ربكم قالوا الحق، ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا. قلت: هؤلاء قد جاءوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين، فاشتملت على جواب إبراهيم، وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم نعبد فنظل لها عاكفين ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده. ومثاله أن تقول لبعض الشطار: ما تلبس في بلادك؟ فيقول:

(3/317)


قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)

ألبس البرد الأتحمى «1» ، فأجر ذيله بين جواري الحي. وإنما قالوا: نظل، لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 72 الى 73]
قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73)
لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم. وقرأ قتادة: يسمعونكم، أى: هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم؟ وهل يقدرون على ذلك؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا هل سمعوا أو أسمعوا قط. وهذا أبلغ في التبكيت.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 74 الى 82]
قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78)
والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأولين من آبائكم، فإن التقدم والأولية لا يكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ولأن المغرى على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان، وإنما قال عدو لي تصويرا للمسألة في نفسه، على معنى:
أنى فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا:
ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدو لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمل فيه،
__________
(1) . قوله «البرد الأتحمى» في الصحاح «الأتحمي» : ضرب من البرود. (ع)

(3/318)


فربما قادة التأمل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعى رضى الله تعالى عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتى ولا بيتكم. والعدو والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
وقوم على ذوى مئرة ... أراهم عدوا وكانوا صديقا «1»
ومنه قوله تعالى وهم لكم عدو شبها بالمصادر للموازنة، كالقبول والولوع، والحنين والصهيل إلا رب العالمين استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين فهو يهدين يريد أنه حين أتم خلقه ونفخ فيه الروح، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعنيه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذى بالدم في البطن امتصاصا، ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة، وإلى معرفة مكانه، ومن هداه لكيفية الارتضاع، إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد، وإنما قال مرضت دون «أمرضنى» لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه «2» وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم. وقرئ: خطاياي، والمراد: ما يندر منه من بعض الصغائر، لأن الأنبياء معصومون مختارون على العالمين. وقيل: هي قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقوله لسارة: هي أختى. وما هي إلا معاريض كلام، وتخييلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر وهي
__________
(1) . المرة: القوة، وشدة الجدال، ويروى: ذوى مبرة، أى: عداوة أو فخر أو شدة. والعدو والصديق يجيئان للمذكر والمؤنث والمثنى والجمع. يقول: ورب قوم أصحاب قوة على، أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
(2) . قال محمود: «إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن كثيرا منه بتفريط الإنسان في مطعمه ومشربه» قال أحمد:
والذي ذكره غير الزمخشري أن السر في إضافة المرض إلى نفسه التأدب مع الله تعالى بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى، ولعل الزمخشري إنما عدل عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام قد أضاف الإماتة إلى الله تعالى وهي أشد من المرض، فلم يثبت عنده المعنى المذكور، ولكن المعنى الذي أبداه الزمخشري أيضا في المرض ينكسر بالموت، فان المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في نفسه، كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضافه إلى الله تعالى. ويمكن أن يفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب:
بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض.
فكم من معافى منه قد بغتة الموت، فالتأسى بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه، ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا، فقال وإذا مرضت وكان ممكنا أن يقول: والذي يمرضنى فيشفينى كما قال في غيره، فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة إلا لذلك، والله أعلم.

(3/319)


رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)

تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق لي: أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله أطمع ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت: لأن أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفى لا يعلم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87)
يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)
الحكم: الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل: النبوة، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله. والإلحاق بالصالحين: أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال وإنه في الآخرة لمن الصالحين. والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية «1» وهي الحياء. وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي يبعثون ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير الضالين. وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه «2» ، يعنى: ولا تخزني يوم يبعث الضالون وأبى فيهم إلا من أتى الله إلا حال من أتى الله بقلب سليم وهو من قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع «3»
وما ثوابه إلا السيف. وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه: سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
__________
(1) . قوله «ومن الخزاية» لعله: أو من. (ع)
(2) . قوله «أو ضمير الضالين، وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه» لعله عطف على المعنى، كأنه قال: ويحتمل أنه ضمير الضالين ... الخ. (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 60 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/320)


وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس أجمعون (95)

ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف، لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل من مفعولا لينفع، أى: لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا إلا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب: سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص: أن حكى استثناءه هذا حكاية راض بإصابته فيه، ثم جعله صفة له في قوله وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم ومن بدع التفاسير: تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله. وقول آخر: هو الذي سلم وسلم وأسلم وسالم واستسلم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل اليه ابتهال الأوابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 95]
وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94)
وجنود إبليس أجمعون (95)
الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها: قال الله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وقال فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا:
يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات، فتجعل النار بمرأى منهم، فيهلكون غما في كل لحظة،

(3/321)


قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100) ولا صديق حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104)

ويوبخون على إشراكهم، فيقال لهم: أين آلهتكم؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم. أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم: لأنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله فكبكبوا فيها هم أى الآلهة والغاوون وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم. والكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها، اللهم أجرنا منها يا خير مستجار وجنود إبليس شياطينه، أو متبعوه من عصاة الجن والإنس.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 96 الى 104]
قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100)
ولا صديق حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104)
يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم. ويجوز أن يجرى ذلك بين العصاة والشياطين. والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم، كقوله ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وعن السدى: الأولون الذين اقتدينا بهم. وعن ابن جريج: إبليس، وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي، فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء، لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون. وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، قال الله تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء، لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفى ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع: حكمه حكم المعدوم.
والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. فإن قلت: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ قلت: لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق «1» . ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلده
__________
(1) . قال محمود: «إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة إذا نزل بإنسان خطب ممن يعرفه وممن لا يعرفه وأما الصديق فقليل» قال أحمد: العجب أن الصديق يقع على الواحد وعلى الجمع، فما الدليل على إرادة الافراد؟
ثم لو كان المراد الافراد لكان أعم، لأنه في سياق النفي، فينفى الواحد فما زاد عليه إلى ما لا نهاية له، والله أعلم

(3/322)


كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110)

لشفاعته، رحمة له وحسبة، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة. وأما الصديق- وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك- فأعز من بيض الأنوق «1» . وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال: اسم لا معنى له. ويجوز أن يريد بالصديق: الجمع. الكرة: الرجعة إلى الدنيا.
ولو في مثل هذا الموضع في معنى التمني، كأنه قيل: فليت لنا كرة. وذلك لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير. ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب، وهو: لفعلنا كيت وكيت.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110]
كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109)
فاتقوا الله وأطيعون (110)
القوم: مؤنثة، وتصغيرها قويمة. ونظير قوله المرسلين والمراد نوح عليه السلام: قولك:
فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد «2» . قيل: أخوهم، لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بنى تميم، يريدون: يا واحدا منهم. ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا «3»
كان أمينا فيهم مشهورا بالأمانة، كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش وأطيعون في نصحى
__________
(1) . قوله «فأعز من بيض الأنوق» في الصحاح: الأنوق- على فعول-: طائر وهو الرخمة. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «المراد نوح، كما تقول: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد» قال أحمد: لا حاجة إلى تأويل الجمع بالواحد هاهنا مع القطع بأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل لأنه ما من نبى إلا ومستند صدقه المعجزة الدالة على الصدق فقد كذبوا كل من استند صدقه إلى دليل المعجزة، وكذلك الاشارة بقوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله لأن التفرقة بينهم توجب تكذيب الكل وتصديق واحد يوجب تصديق الكل والله أعلم.
(3) .
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لقريط بن أنيق من قبيلة بلعنبر، أغار عليه ناس من بنى شيبان فأخذوا منه ثلاثين بعيرا، فاستنجد قومه فلم ينجدوه، فاستغاث ببني مازن فركبوا معه وأطردوا له مائة بعير من بنى شيبان، وحرسوه إلى قومه، فمدحهم ووبخ قومه.
والناجذ: السن بين الضرس والناب. وقيل: ضرس العقل. وقيل: الضرس مطلقا. والزرافة- بالفتح والضم-:
الجماعة من الناس، وبها سميت الدابة المعروفة. والوحدان- بالضم-: جمع واحد. وشبه الشر بأسد يكشر عن أنيابه على طريق المكنية فأثبت له الناجذين تخييلا. يقول: بنو مازن شجعان: إذا ظهر الشر واشتد فزعوا إليه جماعات ومنفردين، فاستعار الطيران لذلك على طريق التصريحية. أو شبههم بالطيور في السرعة والانتشار على طريق الكناية والطريق تخييل، لا يسألون صاحبهم دليلا على ما قاله حين يناديهم برفع صوته في الملمات.

(3/323)


قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115)

لكم وفيما أدعوكم إليه من الحق عليه على هذا الأمر، وعلى ما أنا فيه، يعنى: دعاءه ونصحه ومعنى فاتقوا الله وأطيعون: فاتقوا الله في طاعتي، وكرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم، مع تعليق كل واحدة منهما بعلة، جعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم، وفي الثاني حسم طمعه عنهم.

[سورة الشعراء (26) : آية 111]
قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111)
وقرئ: وأتباعك، جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو جمع تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال. وحقها أن يضمر بعدها «قد» في: واتبعك. وقد جمع الأرذل على الصحة وعلى التكسير في قوله الذين هم أراذلنا والرذالة والنذالة: الخسة والدناءة. وإنما استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا. وقيل كانوا من أهل الصناعات الدنية «1» كالحياكة والحجامة. والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الغاغة «3» . وعن عكرمة:
الحاكة والأساكفة. وعن مقاتل: السفلة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 112 الى 115]
قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115)
وما علمي وأى شيء علمى؟ والمراد: انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله واطلاعه على سر أمرهم وباطنه. وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا- مع استرذالهم- في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله الذين هم أراذلنا بادي الرأي ويجوز أن يتغابى لهم نوح عليه السلام. فيفسر قولهم الأرذلين، بما هو الرذالة عنده، من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم، ثم يبنى جوابه على ذلك فيقول: ما على إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيئ، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز لو تشعرون ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك رد اعتقادهم وإنكار
__________
(1) . قوله «الصناعات الدنية» لعله: الدنيئة. كعبارة النسفي. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبى سفيان بلفظ: وسألتك ضعفاء الناس اتبعوه أم أشرافهم؟ فقلت:
بل ضعفاؤهم وكذلك أتباع الرسل. قلت: رواه بلفظ «أراذلهم» .
(3) . قوله «هم الغاغة» لعله الصاغة. وفي الخازن: قال ابن عباس: يعنى القافة. (ع)

(3/324)


قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122) كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131)

أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى وما أنا بطارد المؤمنين يريد ليس من شأنى أن أتبع شهواتكم وأطيب نفوسكم بطرد المؤمنين الذين صح إيمانهم طمعا في إيمانكم وما على إلا أن أنذركم إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 116 الى 122]
قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120)
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122)
ليس هذا بإخبار بالتكذيب، لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أنى لا أدعوك عليهم لما غاظونى وآذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك، فاحكم بيني وبينهم والفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح المستغلق كما سمى فيصلا، لأنه يفصل بين الخصومات. الفلك: السفينة، وجمعه فلك: قال الله تعالى: وترى الفلك فيه مواخر: فالواحد بوزن قفل، والجمع بوزن أسد، كسروا فعلا على فعل، كما كسروا فعلا على فعل، لأنهما أخوان في قولك: العرب والعرب، والرشد والرشد. فقالوا: أسد وأسد، وفلك وفلك. ونظيره: بعير هجان، وإبل هجان. ودرع دلاص. ودروع دلاص، فالواحد بوزن كناز، والجمع بوزن كرام. والمشحون: المملوء. يقال: شحنها عليهم خيلا ورجالا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 131]
كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (127)
أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131)
قرئ: بكل ريع، بالكسر والفتح: وهو المكان المرتفع. قال المسيب بن علس:

(3/325)


واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140)

في الآل يرفعها ويخفضها ... ريع يلوح كأنه سحل «1»
ومنه قولهم: كم ريع أرضك؟ وهو ارتفاعها. والآية: العلم وكانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم. فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم.
وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام «2» . والمصانع: مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون لعلكم تخلدون ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد. وفي حرف أبى: كأنكم. وقرئ تخلدون بضم التاء مخففا ومشددا وإذا بطشتم بسوط أو سيف كان ذلك ظلما وعلوا، وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب، لا تتثبتون متفكرين في العواقب.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 132 الى 135]
واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135)
بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال «3» أمدكم بما تعلمون ثم عددها عليهم وعرفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة، فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه.
ونحوه قوله تعالى ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد. فإن قلت: كيف قرن البنين بالأنعام؟ قلت: هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 140]
قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140)
__________
(1) . للمسيب بن علس، والآل: هو السراب. وقيل: الآل: ما في طرفى النهار وما في وسطه السراب.
والريع بالكسر: الطريق والمرتفع من الأرض. والسحل: نوع أبيض من ثياب اليمن، ولعل الضمير للظعائن، أى: هي في الآل. أو في وقته: برفعها تارة وبخفضها أخرى، ريع: أى طريق مرتفع تارة، ومنخفض أخرى.
أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه، يلوح: أى يظهر من بعد، كأنه ثياب بيض.
(2) . قال محمود: «كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم، فاتخذوا في طرقهم أعلاما فعبثوا بذلك، إذ النجوم فيها غنية عنها. وقيل: المراد القصور المشيدة، وقيل: بروج الحمام» قال أحمد: وتأويلها على القصور أظهر، وقد ورد ذم ذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث وصف الكائنين آخر الزمان بأنهم يتطاولون في البنيان، وما أحسن قول مالك رضى الله عنه: ولا يصلى الامام على شيء أرفع مما عليه أصحابه، كالدكاك تكون مرتفعة في المحراب ارتفاعا كبيرا، لأنهم يعبثون، فعبر عن ترفعهم إلى المحراب على سبيل التكبر ومطاولتهم المأمومين بالعبث، كتعبير هود صلوات الله عليه وسلامه عن ترفع قومه في البنيان بالعبث. وأما تأويل الآية على اتخاذهم الأعلام في الطرقات وقد كانت لهم بالنجوم كفاية، ففيه بعد، من حيث أن الحاجة تدعو إلى ذلك لغيم مطبق وما يجرى مجراه.
ولو وضع هذا في زماننا اليوم لهذا المقصد لم يكن عبثا، والله أعلم.
(3) . قوله «حين قال» لعله: حيث قال. (ع)

(3/326)


كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145) أتتركون في ما هاهنا آمنين (146) في جنات وعيون (147) وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152)

فإن قلت: لو قيل أوعظت أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأن المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم لم تعظ. من قرأ: خلق الأولين بالفتح، فمعناه: أن ما جئت به اختلاق الأولين وتخرصهم، كما قالوا:
أساطير الأولين. أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب. ومن قرأ: خلق، بضمتين، وبواحدة، فمعناه. ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم، كانوا يدينونه ويعتقدونه، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت الإعادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يلفقون مثله ويسطرونه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 152]
كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145)
أتتركون في ما هاهنا آمنين (146) في جنات وعيون (147) وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150)
ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152)
أتتركون يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدعة في ما هاهنا في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله في جنات وعيون وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل. فإن قلت: لم قال ونخل بعد قوله: في جنات، والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج، حتى أنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل، كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل. قال زهير:

(3/327)


قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156)

.... تسقى جنة سحقا «1»
قلت: فيه وجهان: أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر، تنبيها على انفراده عنها بفضله عليها، وأن يريد بالجنات: غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. الطلعة: هي التي تطلع من النخلة، كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو. والقنو:
اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. والهضيم: اللطيف الضامر، من قولهم:
كشح هضيم، وطلع إناث النخل فيه لطف، وفي طلع الفحاحيل جفاء، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون «2» ، فذكرهم نعمة الله في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه: لأن الإناث ولادة التمر، والبرني: أجود التمر وأطيبه ويجوز أن يريد أن نخيلهم أصابت جودة المنابت وسعة الماء، وسلمت من العاهات، فحملت الحمل الكثير، وإذا كثر الحمل هضم، وإذا قل جاء فاخرا.
وقيل: الهضيم: اللين النضيج، كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. قرأ الحسن: وتنحتون، بفتح الحاء. وقرئ: فرهين، وفارهين. والفراهة: الكيس والنشاط. ومنه: خيل فرهة، استعير لامتثال الأمر، وارتسامه طاعة الآمر المطاع. أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، والمراد الآمر. ومنه قولهم: لك على إمرة مطاعة. وقوله تعالى وأطيعوا أمري. فإن قلت: ما فائدة قوله ولا يصلحون؟ قلت: فائدته أن فسادهم فساد مصمت ليس معه شيء من الصلاح، كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 154]
قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154)
المسحر: الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة، «3» وأنه بشر.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 155 الى 156]
قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156)
الشرب: النصيب من الماء، نحو السقي والقيت، للحظ من السقي والقوت، وقرئ بالضم.
روى أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا «4» ، فقعد صالح يتفكر،
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون» البرني: ضرب من التمر. واللون: الدقل، والدقل:
أردا التمر، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «الرئة» لعله: بمعنى الرئة. (ع)
(4) . قوله «فتلد سقبا» في الصحاح «السقب» : الذكر من ولد الناقة. (ع)

(3/328)


فعقروها فأصبحوا نادمين (157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164) أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166)

فقال له جبريل عليه السلام: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبى موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعا.
وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء بسوء بضرب أو عقر أو غير ذلك. عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 157 الى 159]
فعقروها فأصبحوا نادمين (157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159)
وروى أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت: ثم ضربها قدار. وروى أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم، وكذلك صبيانهم. فإن قلت: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ قلت: لم يكن ندمهم ندم تائبين، ولكن ندم خائفين أن يعاقبوا على العقر عقابا عاجلا، كمن يرى في بعض الأمور رأيا فاسدا ويبنى عليه، ثم يندم ويتحسر كندامة الكسعى «1» أو ندموا ندم تائبين ولكن في غير وقت التوبة، وذلك عند معاينة العذاب. وقال الله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات ... الآية. وقيل: كانت ندامتهم على ترك الولد، وهو بعيد. واللام في العذاب: إشارة إلى عذاب يوم عظيم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 166]
كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164)
أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166)
أراد بالعالمين: الناس، أى: أتأتون من بين أولاد آدم عليه السلام- على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة- ذكر انهم، كأن الإناث قد أعوزتكم.
__________
(1) . قوله «كندامة الكسعي» الكسع: حي من اليمن. والكسعي: رجل منهم ربى تبعة حتى أخذ منها قوسا فرمي عنها الوحش ليلا وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصابه من الصيد فندم، وضرب به المثل من قال:
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
كذا في الصحاح. (ع)

(3/329)


قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين (167)

أو أتأتون أنتم- من بين من عداكم من العالمين- الذكران، يعنى أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والعالمون على هذا القول: كل ما ينكح من الحيوان من أزواجكم يصلح أن يكون تبيينا لما خلق «1» ، وأن يكون للتبعيض، ويراد بما خلق: العضو المباح منهن.
وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. العادي: المتعدى في ظلمه، المتجاوز فيه الحد، ومعناه: أترتكبون هذه المعصية على عظمها، بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي، فهذا من جملة ذاك، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة.

[سورة الشعراء (26) : آية 167]
قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167)
لئن لم تنته عن نهينا وتقبيح أمرنا لتكونن من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ حال: من تعنيف به، واحتباس لأملاكه «2» . وكما يكون حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه، وكما كان يفعل أهل مكة بمن يريد المهاجرة.
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون من أزواجكم بيانا لما خلق، وأن يكون للتبعيض ويراد به العضو المباح منهن. وفي قراءة ابن مسعود: ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم، فكأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم» قال أحمد:
وقد أشار الزمخشري بهذه الاشارة للاستدلال بهذه الآية على حظر إتيان المرأة في غير المأتى، وبيانه أن «من» لو كانت بيانا لكان العنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج، ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران» وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر، ولو كان الأمر كذلك لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع، وكان إما الأفصح أو المتعين، وقد اجتمعت العامة على القراءة به مرفوعا، ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة أو في الجواز أصلا، فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد، فيتعين حمل «من» على البعضية، فيكون المنكر عليهم أمرين كل واحد منهما مستقل بالإنكار، أحدهما: إتيان الذكران. والثاني: مجانبة إتيان النساء في المأتى رغبة في إتيانهن في غيره، وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير، والله الموفق. [.....]
(2) . قال محمود: «أى من جملة من أخرجناه، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال من تعنيف به واحتباس لأملاكه وأشباه ذلك» قال أحمد: وكثيرا ما ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، كقول فرعون لأجعلنك من المسجونين وقولهم سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين وقولهم لتكونن من المرجومين وقوله إني لعملكم من القالين وقوله تعالى في غيرها رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وكذلك ذرنا نكن مع القاعدين وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك والله أعلم: أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه، وهو أن الصفة المذكورة كالسمة لموصوف ثابتة العلوق به، كأنها لقب، وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة، واعتبر ذلك لو قلت: رضوا بأن يتخلفوا، لما كان في ذلك مزيد على الاخبار بوقوع التخلف منهم لا غير. وانظر إلى المساق وهو قوله رضوا بأن يكونوا مع الخوالف كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من بوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت له لقبا لاصقا به، وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك، فتأمله واقدره قدره، والله الموفق للصواب.

(3/330)


قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171) ثم دمرنا الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175)

[سورة الشعراء (26) : الآيات 168 الى 175]
قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171) ثم دمرنا الآخرين (172)
وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175)
ومن القالين أبلغ من أن يقول: إنى لعملكم قال، كما تقول: فلان من العلماء، فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم. ويجوز أن يريد: من الكاملين في قلاكم. والقلى: البغض الشديد، كأنه بغض يقلى الفؤاد والكبد. وفي هذا دليل على عظم المعصية، والمراد: القلى من حيث الدين والتقوى، وقد تقوى همة الدين في دين الله حتى تقرب كراهته للمعاصي من الكراهة الجبلية مما يعملون من عقوبة عملهم وهو الظاهر. ويحتمل أن يريد بالتنجية: العصمة. فإن قلت: فما معنى قوله فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا؟ قلت: معناه أنه عصمه وأهله من ذلك إلا العجوز، فإنها كانت غير معصومة منه، لكونها راضية به ومعينة عليه ومحرشة، والراضي بالمعصية في حكم العاصي. فإن قلت: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة، فكيف استثنيت الكافرة منهم:
قلت الاستثناء إنما وقع من الأهل وفي هذا الاسم لها معهم شركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان.
فإن قلت: في الغابرين صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم «1» قلت: معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها. ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين.
قيل: إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. والمراد بتدميرهم: الائتفاك بهم، وأما الإمطار: فعن قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم. وعن ابن زيد: لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطرا من حجارة. وفاعل فساء مطر المنذرين ولم يرد
__________
(1) . قال محمود: «المجرور صفة لها، كأنه قيل: إلا عجوزا غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم. قلت:
معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها، أى: في الهلاك والعذاب» قال أحمد: وإن تعجلت برفع القاعدة الممهدة آنفا، فاعلم أن السر الذي اقتضى العدول عن أن يقول مثلا: إلا عجوزا غابرة إلى ما ذكر في المتلو: هو أن المذكور في التلاوة يقتضى الاسجال عليها بأنها من أمة موسومين بهذه السمة من الهلاك كما قدمته الآن، فهو أبلغ من مجرد وصفها بالغبور، والله أعلم.

(3/331)


كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (180) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (184)

بالمنذرين قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذم محذوف، وهو مطرهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180]
كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (180)
قرئ أصحاب الأيكة بالهمزة وبتخفيفها، وبالجر على الإضافة وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة: اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب النحو لان، ولولى: على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة، على أن ليكة اسم لا يعرف. وروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم. فإن قلت: هلا قيل: أخوهم شعيب، كما في سائر المواضع؟ قلت:
قالوا: إن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة. وفي الحديث: إن شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184]
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (184)
الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء، ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف، ولم يذكر الزائد، وكأن تركه عن الأمر والنهى: دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه. قرئ: بالقسطاس مضموما ومكسورا وهو الميزان وقيل: القرسطون، فإن كان من القسط وهو العدل- وجعلت العين مكررة- فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: وهو بالرومية العدل. يقال: بخسته حقه، إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وهو عام في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. يقال: عثا في الأرض وعثى وعاث، وذلك نحو قطع الطريق، والغارة، وإهلاك الزروع، وكانوا يفعلون ذلك مع

(3/332)


قالوا إنما أنت من المسحرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187) قال ربي أعلم بما تعملون (188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189)

توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك. وقرئ: الجبلة، بوزن الأبلة. والجبلة «1» ، بوزن الخلقة.
ومعناهن واحد، أى: ذوى الجبلة، وهو كقولك: والخلق الأولين.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 186]
قالوا إنما أنت من المسحرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186)
فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟ قلت: إذا أدخلت الواو فقد قصد معنيان: كلاهما مناف للرسالة عندهم: التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا مثلهم. فإن قلت: إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظن وثانى مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن يتفرقا على المبتدإ والخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق، فلما كان البابان- أعنى باب كان وباب ظننت- من جنس باب المبتدإ والخبر، فعل ذلك في البابين فقيل: إن كان زيد لمنطلقا، وإن ظننته لمنطلقا.

[سورة الشعراء (26) : آية 187]
فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187)
قرئ: كسفا بالسكون والحركة، وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وسدر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة. وكسفه: قطعه. والسماء: السحاب، أو المظلة.
وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب. ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه. والمعنى: إن كنت صادقا أنك نبى، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.

[سورة الشعراء (26) : آية 188]
قال ربي أعلم بما تعملون (188)
ربي أعلم بما تعملون يريد: أن الله أعلم بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة

[سورة الشعراء (26) : آية 189]
فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189)
__________
(1) . قوله «الأبلة والجبلة» في الصحاح «الأبلة» بالضم وتشديد اللام: الغدرة من التمر. وفيه «الغدرة» :
القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة. وفيه أيضا: الجبلة الخلقة. ومنه قوله تعالى والجبلة الأولين وقرأها الحسن بالضم اه (ع)

(3/333)


وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195) وإنه لفي زبر الأولين (196)

فأخذهم الله بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد «1» فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا سرب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروى أن شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 196]
وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195) وإنه لفي زبر الأولين (196)
وإنه وإن هذا التنزيل، يعنى: ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل:
المنزل. والباء في نزل به الروح ونزل به الروح، على القراءتين للتعدية. ومعنى نزل به الروح جعل الله الروح نازلا به على قلبك أى: حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى بلسان عربي إما أن يتعلق بالمنذرين،
__________
(1) . قوله «الومد» شدة حر الليل، كما في الصحاح. (ع)

(3/334)


أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197)

فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي «1» لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعدة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أو لا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني الكلام يتلقاها بقلبه ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهرا بمعرفتها كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها، فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربى مبين وإنه وإن القرآن- يعنى ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية. وقيل: إن معانيه فيها. وبه يحتج لأبى حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية حيث قيل وإنه لفي زبر الأولين لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في أن يعلمه وليس بواضح.

[سورة الشعراء (26) : آية 197]
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197)
وقرئ: يكن، بالتذكير. وآية، بالنصب على أنها خبره، وأن يعلمه هو الاسم. وقرئ.
تكن، بالتأنيث، وجعلت آية اسماء، وأن يعلمه خبرا، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك، فقيل: في يكن ضمير القصة، وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر. ويجوز على هذا أن يكون لهم آية هي جملة الشأن، أن يعلمه بدلا عن آية. ويجوز مع نصب الآية تأنيث يكن كقوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ومنه بيت لبيد:
__________
(1) . عاد كلامه. قال: واعلم أن الآيات الأول كالمقدمات لهذه الآيات، فان الله تعالى أبان أنه منزل بلغتهم التي لا يعرفون غيرها، وعلى لسان عربى لو أشكل عليهم فهم شيء منه لكان البيان عنده عتيدا ناجزا، وما نزله على لسان أعجمى قد يعتذرون بأنه لا يفهمهم ما استغلق على أفهامهم من معانيه، فقد أزاح أعذارهم ودحض حججهم، وسلكه في قلوبهم ومكنهم من فهمه أشد التمكين، ولكن لم يوفقهم بل قدر عليهم أنهم لا يؤمنون» قال أحمد: يعنى بقوله قدر عليهم أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا يؤمنون، لأن التقدير عنده العلم. والحق أن الله تعالى أراد منهم أنهم لا يؤمنون. وهذا تقرير لجواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: قلوبهم نائية عن قبول الحق، لا يلجها بوجه ولا بسبب، فكيف يسلك الحق فيها؟ فيجاب عنه بهذا الجواب، والله أعلم.

(3/335)


ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207)

فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها «1»
وقرئ: تعلمه، بالتاء. علماء بني إسرائيل: عبد الله بن سلام وغيره. قال الله تعالى وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. فإن قلت: كيف خط في المصحف «علمؤا» بواو قبل الألف؟ قلت: خط على لغة من يميل الألف إلى الواو وعلى هذه اللغة كتبت الصلوة والزكاة والربوا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 207]
ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202)
فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207)
الأعجم: الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة واستعجام. والأعجمى مثله، إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد. وقرأ الحسن: الأعجميين. ولما كان من يتكلم بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه، قالوا له: أعجم وأعجمى، شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذى صوت من البهائم والطيور وغيرها: أعجم، قال حميد:
ولا عربيا شاقه صوت أعجما «2»
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 13 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتندما
فغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في نوحها متندما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تغفر بمنطقها فما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
لحميد بن ثور، وقد رحلت صاحبته سلمى، يقول: وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد بقلبي. إلا حمامة دعت ذكرها وساق حر: مركب إضافى: وهو ذكر القمري، أو ذكر الحمام مطلقا. والحر- بالضم-: فرخ الحمامة، والترحة:
الحزن، ضد الفرحة، والتندم: التأسف على ما فات. ويروى «ترنما» وهو تحسين الصوت، وهما نصب على الحالية، أى: حزينة ومتأسفة. أو ذات ترحة وذات تندم. وعشا: نصب على الظرف، فلم تدع: أى تترك لنائحة في غنائها، متندما: أى تندما أو شيئا يتندم به أو فيه. ويجوز أن ضمير نوحها للنائحة، وأنى بمعنى: كيف، أو من أنى. والاستفهام تعجبي. والفصيح: البين الخالي عن اللكنة والتعقيد. وفغر فاه يفغره، من باب نفع:
فتحه، أى: والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها، وإنما يخرج صوتها من صدرها. وشاقه: تسبب له في الشوق، والعربي: المفصح. والأعجم: الذي لا يفصح من الحيوان، نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده، وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة وبينه وبين عربى طباق التضاد.

(3/336)


سلكناه أدخلناه ومكناه. والمعنى: إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على أن البشارة بإنزاله وتحلية المنزل عليه وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هو من تلفيق محمد وافترائه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فضلا أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا، ثم قال كذلك سلكناه أى مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقررناه فيها، وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها، فكيفما فعل بهم وصنع وعلى أى وجه دبر أمرهم، فلا سبيل أن يتغيروا عماهم عليه من جحوده وإنكاره، كما قال ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين. فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن، وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح، يريدون: تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه «1» ، وهو قوله لا يؤمنون به. فإن قلت: ما موقع لا يؤمنون به من قوله سلكناه في قلوب المجرمين؟ قلت: موقعه منه موقع الموضع والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فأتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا، أى: سلكناه فيها غير مؤمن به. وقرأ الحسن: فتأتيهم، بالتاء يعنى: الساعة. وبغتة، بالتحريك. وفي حرف أبى: ويروه بغتة. فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله فيأتيهم بغتة...... فيقولوا؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: كيف أسند السلك بصيغة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: المراد الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه، بدليل أنه أسند إليهم ترك الايمان به على عقبه في قوله: لا يؤمنون به» قال أحمد: وما ينقم من بقائه على ظاهره إلا أنه التوحيد المحض والايمان الصرف، وأن الله تعالى خلق قلوبهم نائية عن قبول الحق. والقدرية لا يبلغون في التوحيد إلى هذا الحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/337)


وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209)

وسؤال النظرة فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة. ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه: إن أسات مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشد من مقتهم:
وهو مقت الله، وترى ثم يقع في هذا الأسلوب فيحل موقعه أفبعذابنا يستعجلون تبكيت لهم بإنكار وتهكم، ومعناه: كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه من جنس ما هو فيه اليوم من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها. ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ يوبخون به عند استنظارهم يومئذ، ويستعجلون على هذا الوجه حكاية حال ماضية. ووجه آخر متصل بما بعده، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لا حق بهم، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى: أفبعذابنا يستعجلون أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل، ثم قال: هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعن ميمون بن مهران: أنه لقى الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. وقرئ: يمتعون، بالتخفيف.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 208 الى 209]
وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209)
منذرون رسل ينذرونهم ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة، إما لأن «أنذر، وذكر» متقاربان، فكأنه قيل: مذكرون تذكرة. وإما لأنها حال من الضمير في منذرون أى، ينذرونهم ذوى تذكرة. وإما لأنها مفعول له، على معنى: أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. أو مرفوعة على أنها خبر مبتدإ محذوف، بمعنى: هذه ذكرى. والجملة اعتراضية. أو صفة بمعنى: منذرون ذوو ذكرى. أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. ووجه آخر: وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له. والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم وما كنا ظالمين فنهلك قوما غير ظالمين. وهذا الوجه عليه المعول. فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد «إلا» ولم تعزل عنها في قوله وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم؟

(3/338)


وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212) فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214)

قلت: الأصل: عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله سبعة وثامنهم كلبهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212]
وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212)
كانوا يقولون: إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما يتنزل به الشياطين على الكهنة، فكذبوا بأن ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء. وقرأ الحسن: الشياطون. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجرى الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا. هذه يبرون ويبرين.
وفلسطون وفلسطين. وحقه أن تشتقه من الشيطوطة وهي الهلاك كما قيل له الباطل. وعن الفراء: غلط الشيخ في قراءته «الشياطون» ظن أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل:
إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه- يريد: محمد ابن السميقع- مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 214]
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214)
قد علم أن ذلك لا يكون، ولكنه أراد أن يحرك منه لازدياد الإخلاص والتقوى. وفيه لطف لسائر المكلفين، كما قال ولو تقول علينا بعض الأقاويل، فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه. وأن يقدم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روى عنه عليه السلام:
أنه لما دخل مكة قال: «كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ما أضعه ربا العباس «1» » والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في الإنذار والتخويف. وروى أنه صعد الصفا- لما نزلت- فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا، وقال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، يا عباس عم النبى
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج وعزاه الطيبي للترمذي من رواية عمرو بن الأحوص وليس هو عنده بتمامه.

(3/339)


واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216)

يا صفية عمة رسول الله، إنى لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالى ما شئتم «1» » . وروى أنه جمع بنى عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا: الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس «2» على رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثم أنذرهم فقال:
«يا بنى عبد المطلب، لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم. قال:
فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، وروى أنه قال «يا بنى عبد المطلب، يا بنى هاشم، يا بنى عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار فإنى لا أغنى عنكم شيئا» ثم قال: «يا عائشة بنت أبى بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد، اشترين أنفسكن من النار فإنى لا أغنى عنكن شيئا «3» » .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 215 الى 216]
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216)
الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب. ومنه قول بعضهم:
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة قال «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين فقال: يا بنى عبد مناف يا بنى هاشم، لا أغنى عنكم من الله شيئا» وروى مسلم من حديث عائشة «لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب: لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالى ما شئتم» وروى ابن مردويه من حديث أبى أمامة قال «لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنى هاشم اشتروا أنفسكم من النار. فانى لا أملك لكم من الله شيئا، يا عائشة بنت أبى بكر ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا» .
(2) . قوله «ويشرب العس» هو القدح العظيم، كما في الصحاح. (ع)
(3) . أما أوله فأخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقه من رواية ابن عباس مطولا.
وأخرجه البزار وأبو نعيم في الدلائل من طريق عباد بن عبد الله الأسدى عن على قال «لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنع لي رجل شاة على صاع من طعام. وأعد قعبا من لبن.
ففعلت. ثم قال لي: اجمع لي بنى عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا. فوضعت الطعام بينهم، فأكلوا حتى شبعوا وإن فيهم لمن يأكل الجذعة ويشرب العس، ثم جئت بالعس فشربوا حتى رووا» وأما بقيته فمتفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فنادى: يا صباحاه فاجتمعوا إليه فقال: يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم تصدقونني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك؟ ألهذا جمعتنا فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب وتب» .

(3/340)


وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220)

وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعه أجدلا «1»
ينهاه عن التكبر بعد التواضع. فإن قلت: المتبعون للرسول هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول، فما قوله لمن اتبعك من المؤمنين؟ قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتبع رسول الله فيما جاء به، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح. والمعنى: من المؤمنين من عشيرتك وغيرهم، يعنى: أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض لهم جناحك، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 217 الى 220]
وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220)
وتوكل على الله يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة ثم سأل غيره خلاصه، لم يخرج من حد التوكل، لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: فتوكل، وبه قرأ نافع وابن عامر، وله محملان في العطف: أن يعطف على فقل. أو فلا تدع. على العزيز الرحيم على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو من أسباب الرحمة: وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون، ويستبطن سر أمرهم، وكيف يعبدون الله، وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة. والمراد بالساجدين: المصلون. وقيل: معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة. وتقلبه في الساجدين: تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه
__________
(1) . شبه بطائر يرق لأفراخه ويخفض إليها جناحه رحمة لها، فاستعار خفض الجناح لذلك على سبيل التمثيل، ورشحه بقوله: «فلا تك في رفعه أجدلا» أى شبيها بالأجدل، وهو الصقر في القسوة والجفوة. أو في التكبر والترفع ويجوز أن خفض الجناح: كناية عما يلزمه من الرقة والرحمة واللين، ورفعه: كناية عن القسوة والجفوة، وبين الخفض والرفع طباق التضاد.

(3/341)


هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223)

وسجوده وقعوده إذا أمهم. وعن مقاتل: أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله، هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فقال: لا يحضرني، فتلا له هذه الآية. ويحتمل أنه: لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين إنه هو السميع لما تقوله العليم بما تنويه وتعمله. وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلى خلفه، من قوله صلى الله عليه وسلم: «أتموا الركوع والسجود، فو الله إنى لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم «1» » . وقرئ: ويقلبك.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 223]
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223)
كل أفاك أثيم هم الكهنة والمتنبئة، كشق، وسطيح، ومسيلمة، وطليحة يلقون السمع هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا. وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع أى المسموع من الملائكة. وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم. أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، وترى أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا. وفي الحديث: «الكلمة يتخطفها الجنى فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» «2» والقر: الصب. فإن قلت: كيف دخل حرف الجر على «من» المتضمنة لمعنى الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: أعلى زيد مررت؟ ولا تقول: على أزيد مررت؟ قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم، ومعنى الحرف، وإنما معناه: أن الأصل أمن، فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» والأصل: أهل. قال:
أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم»
__________
(1) . متفق عليه من حديث قتادة عن أنس بمعناه. واللفظ المذكور عند النسائي واتفقا عليه من حديث أبى هريرة بلفظ «هل ترون قبلتي هاهنا: فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، وإنى لأراكم من وراء ظهري» . [.....]
(2) . متفق عليه من حديث عائشة أتم منه.
(3) .
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذى الأكم
لزيد الخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل: فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال، لتتلقن حقيقة الحال، ويربوع: أبو حى، والباء بمعنى عن، أى: سلهم عن قوتنا، ويروى:
بشدتنا، بفتح الشين. يقال: شد على قرنه في الحرب: حمل عليه، أى سلهم عن صولتنا عليهم، وجعل البصريون الباء بعد السؤال للسببية، لا بمعنى عن، والأصل في الاستفهام الهمزة، ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام، وأصل «هل» بمعنى «قد» ، «ومن» لمن يفعل، «وما» لما لا يفعل. «ومتى» للزمان، وهكذا بقية الأدوات موضوعة لمعان غير الاستفهام، فليست عريقة فيه، بل الهمزة مقدرة قبلها، ولذلك تظهر في بعض الأحيان كما في البيت، ويدخل عليها حروف الجر، ويضاف إليها غيرها: لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال، والاستفهام هنا للتقرير، «وهل» بمعنى «قد» ، وأنكر ذلك ابن هشام. ونقل عن السيرافي أن الرواية: أم هل، فأم بمعنى «بل» «وهل» للاستفهام: قال: وعلى صحة الأولى فهل مؤكدة للهمزة شذوذا اه ويروى: فهل رأونا. ويجوز أن معناه: سلهم فقد رأونا. والسفح: السطح أو أصل الجبل المنسطح. والقاع المستوى من الأرض. والأكم- بالفتح-: واحده أكمة، وجمعه أكم بالضم، وهي التلول المرتفعة.

(3/342)


ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226)

فإذا أدخلت حرف الجر على «من» فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك، كأنك تقول:
أعلى من تنزل الشياطين، كقولك: أعلى زيد مررت. فإن قلت: يلقون ما محله؟ قلت:
يجوز أن يكون في محل النصب على الحال، أى: تنزل ملقين السمع، وفي محل الجر صفة لكل أفاك، لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف، كأن قائلا قال: لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت. فإن قلت: كيف قيل وأكثرهم كاذبون بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجنى، وأكثرهم مفتر عليه. فإن قلت: وإنه لتنزيل رب العالمين، وما تنزلت به الشياطين، هل أنبئكم على من تنزل الشياطين لم فرق بينهن وهن أخوات؟ قلت: أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن، ليرجع إلى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة: فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها. ومثاله: أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 225 الى 226]
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226)
والشعراء مبتدأ. ويتبعهم الغاوون خبره: ومعناه: أنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل «1» والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطرب على قولهم- إلا الغاوون والسفهاء والشطار. وقيل: الغاوون: الراوون. وقيل: الشياطين،
__________
(1) . قوله «والنسيب بالحرم والغزل» النسيب: أى التشبيب. والغزل: محادثة النساء ومراودتهن. والابتهار: ادعاء الشيء كذبا، كذا في الصحاح في مواضع. (ع)

(3/343)


إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)

وقيل: هم شعراء قريش: عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبى وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحى. ومن ثقيف: أمية ابن أبى الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمد- وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم- وقرأ عيسى بن عمر: والشعراء، بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر. قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب. قرأ: حمالة الحطب، والسارق والسارقة وسورة أنزلناها «1» وقرئ: يتبعهم، على التخفيف. ويتبعهم، بسكون العين تشبيها «لبعه بعضد» .
ذكر الوادي والهيوم: فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلق في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وأن يبهتوا البرى «2» ، ويفسقوا التقى. وعن الفرزدق: أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبى مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام «3»
فقال: قد وجب عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عنى الحد بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون.

[سورة الشعراء (26) : آية 227]
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة،
__________
(1) . قوله «وسورة أنزلناها» لعل بعدها سقطا تقديره: بالنصب. (ع)
(2) . قوله «وأن يبهتوا البرى» أى يتهموا. (ع)
(3) .
خرجن إلى لم يطمئن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
للفرزدق، يقول: خرج النسوة إلى من خدورهن حال كونهن لم يطمئن، أى لم يزل بكارتهن أحد قبلي، وأكد ذلك بقوله: وهن أصح من بيض النعام الذي يصان عادة عن الكسر، لئلا تذهب زينته، فبتن مطروحات عن يمينى وشمالي، وبت أفض: أفتح وأزيل بكارتهن الشبيهة بأغلاق الختام لسدها الفروج، والأغلاق جمع غلق كسبب، بمعنى الأقفال. والختام: ما يسد به فم الزجاجة ونحوها، فاضافتها إليه بيانية. أو من إضافة المسميات إلى الاسم كأعواد السواك. ويجوز أن الختام بمعنى المختوم وهو الفرج، ويمكن أن يراد بالأغلاق: جوانب البكارة المشتبكة بالفرج وشبه البكارات أو جوانبها بالأغلاق على طريق التصريح، ولما سمع سليمان بن عبد الملك ذلك، قال: قد وجب عليك الحمد، فقال: قد درأه الله عنى بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون فخلى سبيله.

(3/344)


وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم. قال الله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وذلك من غير اعتداء ولا زيادة على ما هو جواب لقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وعن عمرو بن عبيد: أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر، فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام. وقيل: المراد بالمستثنين: عبد الله بن رواحة، وحسان ابن ثابت، والكعبان: كعب بن مالك، وكعب بن زهير، والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش. وعن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» «1» وكان يقول لحسان: «قل وروح القدس معك» «2» . ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأملين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله وسيعلم وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله الذين ظلموا وإطلاقه. وقوله أي منقلب ينقلبون وإبهامه، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضى الله عنهما حين عهد إليه «3» : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها.
وتفسير الظلم بالكفر تعليل «4» ، ولأن تخاف فتبلغ الأمن: خير من أن تأمن فتبلغ الخوف.
وقرأ ابن عباس: أى منفلت ينفلتون. ومعناها: إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن ملك عن أبيه قال «لما نزلت والشعراء يتبعهم الغاوون أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ماذا ترى في الشعر؟ فقال:
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل» قلت: وأخرجه من هذا الوجه وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا ابن عوف عن ابن سيرين «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: هيه: فأنشده. فقال: «لهو أشد عليهم من وقع النبل» ولمسلم عن عائشة مرفوعا «اهجوا قريشا فانه أشد عليها من رشق النبل» وللترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس في أثناء حديث: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خل عنهم يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل» .
(2) . متفق عليه من حديث البزار. ولفظ النسائي: قال لحسان: اهج المشركين، فان روح القدس معك» وللحاكم وابن مردويه من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال يوم الأحزاب: «من يحمى أعراض المسلمين؟ فقال حسان: أنا. قال: فقم اهجهم، فان روح القدس سيعينك» .
(3) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن المحسر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «كتب أبى وصية فذكرها وفي آخرها: وإن تجر وتظلم فانى لا أعلم الغيب. وسيعلم الذين ظلموا- الآية» ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أبى بكر عن الواقدي بأسانيد متعددة مطولا.
(4) . قوله «وتفسير الظلم بالكفر تعليل» لعله من علله بالشيء، أى: لهاء به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يجتزأ به عن اللبن، كما في الصحاح. (ع)

(3/345)


طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3)

الله، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة: اللهم اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وعلم أن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا، والله أعلم بالصواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد عليهم الصلاة والسلام» «1»

سورة النمل
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون [نزلت بعد الشعراء] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3)
طس قرئ بالتفخيم والإمالة، وتلك إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين:
إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة.
وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأن إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأن المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأن القرآن هو المنزل المبارك المصدق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح، فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي
__________
(1) . رواه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.

(3/346)


كتاب مبين. وقرأ ابن أبى عبلة: وكتاب مبين بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى وقولوا حطة، وادخلوا الباب سجدا ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم، هدى وبشرى في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أى: هادية ومبشرة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى.
والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال الله تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا. فإن قلت وهم بالآخرة هم يوقنون كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم حتى صار معناها:
وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق «1» .
__________
(1) . قال محمود: «كرر الضمير حتى صار معنى الكلام: ولا يوقن بالاخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح، لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق» قال أحمد: قد تقدم في غير موضع اعتقاد أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر، كما مر له في قوله تعالى هم ينشرون أن معناه: لا ينشر إلا هم، وعد الضمير من آلات الحصر كما مر ليس ببين، وقد بينا لمجيء الضمير في سورة اقترب وجها سوى الحصر. وأما وجه تكراره هاهنا- والله أعلم- فهو أنه لما كان أصل الكلام: وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدإ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما، فطري ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور. حيث بقي على حاله مقدما، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التظرية، فأقرب منها أن الشاعر قال:
سل ذو عجل ذا وألحقنا بذا ال ... الشحم إنا قد مللناه بخل
والأصل: وألحقنا بذا الشحم، فوقع منتصف الرجز أو منتهاه، على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند اللام وبنى الشاعر على أنه لا بد عند المنتصف أو المنتهى من وقيفة ما، فقدر بتلك الوقفة بعد أن بين المعرف وآلة التعريف فطراها ثانية، فهذه النظرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير، فتأمل هذا الفصل فانه جدير بالتأمل، والله أعلم.

(3/347)


إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6)

[سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5]
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5)
فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل «1» مجاز، وله طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز الحكمى، فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم. وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه لأن المجاز الحكمى يصححه بعض الملابسات. وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها: زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى إلى الحسن. والعمه:
التحير والتردد، كما يكون حال الضال عن الطريق. وعن بعض الأعراب: أنه دخل السوق وما أبصرها قط، فقال: رأيت الناس عمهين، أراد: مترددين في أعمالهم وأشغالهم سوء العذاب القتل والأسر يوم بدر. والأخسرون أشد الناس خسرانا، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله.

[سورة النمل (27) : آية 6]
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف أسند التزيين إلى ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم قلت:
إن بين الاسنادين فرقا، فالاسناد إلى الله مجاز، وإلى الشيطان حقيقة. وقد روى عن الحسن أن المراد زينا لهم أعمال البر فعمهوا عنها ولم يهتدوا إلى العمل بها» قال أحمد: وهذا الجواب مبنى على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازا، وإلى الشيطان حقيقة، ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله إلى التأويل الآخر: من أن المراد أعمال البر على بعده، لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، وأتى لهم ذلك وقد اتى الله بنيانهم من القواعد، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم على أن غالب وروده في غير البر، كقوله زين للناس حب الشهوات، زين للذين كفروا الحياة الدنيا، وكذلك زين لكثير من المشركين ومما يبعد حمله على أعمال البر: إضافة الأعمال إليهم في قوله أعمالهم وأعمال البر ليست مضافة إليهم، لأنهم لم يعملوها قط، فظاهر الاضافة يعطى ذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقوله قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم، لأنه صدر منهم، والله أعلم.

(3/348)


إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (8)

لتلقى القرآن لتؤتاه وتلقنه من عند أى حكيم وأى عليم وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية بساط وتمهيد، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.

[سورة النمل (27) : آية 7]
إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7)
إذ منصوب بمضمر، وهو: اذكر، كأنه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى. ويجوز أن ينتصب بعليم. وروى أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، وهو قوله امكثوا. الشهاب:
الشعلة. والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس.
ومن قرأ بالتنوين: جعل القبس بدلا، أو صفة لما فيه من معنى القبس. والخبر: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنه كان قد ضله. فإن قلت: سآتيكم منها بخبر، ولعلى آتيكم منها بخبر: كالمتدافعين:
لأن أحدهما ترج والآخر تيقن. قلت: قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. فإن قلت: كيف جاء بسين التسويف؟ قلت: عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة. فإن قلت: فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت: بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا، وهما العزان: عز الدنيا، وعز الآخرة.

[سورة النمل (27) : آية 8]
فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (8)
أن هي المفسرة: لأن النداء فيه معنى القول. والمعنى: قيل له بورك. فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره: نودي بأنه بورك. والضمير ضمير الشأن؟ قلت:
لا، لأنه لا بد من «قد» . فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة لا تحذف.
ومعنى بورك من في النار ومن حولها بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها. ومكانها:
البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة وتدل عليه قراءة أبى. تباركت الأرض ومن حولها. وعنه: بوركت النار، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر دينى فيها: وهو تكليم

(3/349)


ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11)

الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها، ويبث آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة. وقيل: المراد بالمبارك فيهم: موسى والملائكة الحاضرون. والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وحقت أن تكون كذلك، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحى إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتا. فإن قلت: فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت:
هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وسبحان الله رب العالمين تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين، تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.

[سورة النمل (27) : آية 9]
يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9)
الهاء في إنه يجوز أن يكون ضمير الشأن، والشأن أنا الله مبتدأ وخبر. والعزيز الحكيم صفتان للخبر. وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعنى: أن مكلمك أنا، والله بيان لأنا. والعزيز الحكيم: صفتان للمبين، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة، يريد: أنا القوى القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصاحية، الفاعل كل ما أفعله تحكمة وتدبير.

[سورة النمل (27) : الآيات 10 الى 11]
وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11)
فإن قلت: علام عطف قوله وألق عصاك؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك: كلاهما تفسير لنؤدي. والمعنى: قيل له بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك. والدليل على ذلك قوله تعالى وأن ألق عصاك بعد قوله أن يا موسى إني أنا الله على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليك أن حج وأن اعتمر، وإن شئت أن حج واعتمر. وقرأ الحسن: جأن على لغة من يجد في الهرب من التقاء الساكنين، فيقول: شأبة ودأبة. ومنها قراءة عمرو بن عبيد: ولا الضألين ولم يعقب لم يرجع، يقال:
عقب المقاتل، إذا كر بعد الفرار. قال:

(3/350)


وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13)

فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا «1»
وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه إني لا يخاف لدي المرسلون وإلا بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفى الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنة لطرو الشبهة، فاستدرك ذلك. والمعنى: ولكن من ظلم منهم أى فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى بوكزة القبطي، ويوشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها. وسماه ظلما، كما قال موسى رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي والحسن، والسوء: حسن التوبة، وقبح الذنب. وقرئ: ألا من ظلم، بحرف التنبيه. وعن أبى عمرو في رواية عصمة: حسنا.

[سورة النمل (27) : آية 12]
وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12)
وفي تسع آيات كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف. والمعنى: اذهب في تسع آيات إلى فرعون ونحوه:
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق نحسد الإنس الطعاما «2»
ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك: في تسع آيات، أى: في جملة تسع آيات وعدادهن. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة: ثنتان منها اليد والعصا، والتسع:
الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم.

[سورة النمل (27) : آية 13]
فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13)
المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولى العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه، لقوله واستيقنتها أنفسهم أو جعلت كأنها تبصر فتهدى، لأن العمى لا تقدر على الاهتداء، فضلا أن تهدى غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء،
__________
(1) . يصف قوما بالجبن، وإنهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها، أى: لم يقدموا مرة على العدو. وروى: إذ قيل، أى: حين ذلك. [.....]
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 2 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/351)


وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14) ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)

وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوى. ونحوه قوله تعالى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار. وقرأ على بن الحسين رضى الله عنهما وقتادة: مبصرة، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة «1» ، أى:
مكانا يكثر فيه التبصر.

[سورة النمل (27) : آية 14]
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)
الواو في واستيقنتها واو الحال، وقد بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون وقرئ: عليا، وعليا بالضم والكسر، كما قرئ عتيا، وعتيا. وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم. والاستيقان أبلغ من الإيقان، وقد قوبل بين المبصرة والمبين، وأى ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.

[سورة النمل (27) : آية 15]
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)
علما طائفة من العلم «2» أو علما سنيا غزيرا. فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه «3» والفضيلة وقالا الحمد لله الذي فضلنا
__________
(1) . قوله «ومجفرة» في الصحاح «جفر الفحل عن الضراب» : إذا انقطع عنه. ومنه قيل: الصوم مجفرة، أى قاطع للنكاح. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه طائفة من العلم» قال أحمد: التبعيض والتقليل من التنكير، وكما يرد للتقليل من شأن المنكر، فكذلك يرد للتعظيم من شأنه كما مر آنفا في قوله تعالى وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ولم يقبل الحكيم العليم. والغرض من التنكير التفخيم، كأنه قال: من لدن حكيم عليم، فظاهر قوله ولقد آتينا داود وسليمان علما في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه، كأنه قال: علما أى علم، وهو كذلك، فان علمهما كان مما يستعظم ويستغرب، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات الذي خصهما الله تعالى به وكل علم بالاضافة إلى علم الله تعالى قليل ضئيل، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «بجلا نعمة الله عليهما من حيث قولهما فضلنا وتواضعا بقولهما على كثير ولم يقولا: على عباده، اعترافا بأن غيرهما يفضلهما، حذرا من الترفع.

(3/352)


وورث سليمان داوود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)

والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علما. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه:
أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله، كما قال والذين أوتوا العلم درجات، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثة الأنبياء «1» » إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كل الناس أفقه من عمر «2» .

[سورة النمل (27) : آية 16]
وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)
ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه- وكانوا تسعة عشر- وكان داود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله وقال يا أيها الناس تشهيرا لنعمة الله، وتنويها بها، واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد.
وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه «3» وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال يقول:
أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا.
وصاح طاوس، فقال يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد، فقال يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان من حديث أبى الدرداء، من حديث رواه «من سلك طريقا يلتمس فيه علما وفيه: إن العلماء ورثة الأنبياء» وله طرق عند الطبراني. وفي الباب عن البراء وابن عمرو ابن العاص أخرجهما أبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف على الجاهل الشريف. وعن ابن مسعود أخرجه ابن حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وعن جابر أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أحمد بن محمد الثلجى. وفي إسناده الضحاك بن حجزة. وهو متهم بوضع الحديث
(2) . تقدم في سورة النساء
(3) . قوله «هو ما يفهم بعضه من بعض معانيه» عبارة النسفي: والمنطق: كل ما يصوت من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض اه (ع)

(3/353)


وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17)

وصاح طيطوى، فقال يقول: كل حى ميت، وكل جديد بال. وصاح خطاف فقال يقول:
قدموا خيرا تجدوه. وصاحت رخمة، فقال تقول: سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمرى، فأخبر أنه يقول: سبحان ربى الأعلى. وقال: الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه: والديك يقول:
اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول:
في البعد من الناس أنس. والضفدع يقول: سبحان ربى القدوس. وأراد بقوله من كل شيء كثرة ما أوتى، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله وأوتيت من كل شيء. إن هذا لهو الفضل المبين قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر «1» » أى: أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه. والثاني:
أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع- وكان ملكا مطاعا- فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه وإظهار آيينه «2» وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجبا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحوا من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدو. ألا ترى كيف أمر العباس رضى الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمر عليه الكتائب «3» .

[سورة النمل (27) : آية 17]
وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17)
روى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس،
__________
(1) . تقدم في سورة يوسف
(2) . قوله «وإظهار آيينه» قيل: مراتبه وبهاؤه. وفي نسخة: أبهته، فليحرر. (ع)
(3) . أخرجه البخاري من رواية هشام بن عروة عن أبيه في قصة الفتح قال فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس احبس أبا سفيان عند حطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة بعد كتيبة» وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(3/354)


حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)

وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحراث فقال: لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتى آل داود يوزعون يحبس أولهم على آخرهم، أى: توقف سلاف العسكر «1» حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.

[سورة النمل (27) : آية 18]
حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)
قيل: هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت: لم عدى أتوا بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب:
ولشد ما قربت عليك الأنجم «2»
لما كان قربا من فوق. والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ نملة يا أيها النمل، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم «السبع» في السبع. قيل: كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس «3» ، فنادت: يا أيها النمل: الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل: كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة
__________
(1) . قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا ... ولشد ما قربت عليك الأنجم
لأبى الطيب المتنبي، طلب منه رجل المدح، فأبى وقال ذلك، واللام للتأكيد، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب، وأصله شدد كحسن، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم، كما هو قياس بناء التعجب، أى: ما أشد مجاوزتك لقدرك، يعنى: كثرت مجاوزتك لمقدارك، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة، وقال: عليك، دون:
إليك، لأن قرب الأنجم من جهة العلو، أى: كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية، ففيه شبه التورية.
(3) . قوله «تتكاوس» في الصحاح: كوسته على رأسه تكويسا، أى: قلبته، وكاس هو يكوس: إذا فعل ذلك. وكاس البعير: إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)

(3/355)


فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19)

فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا- وهو غلام حدث-. فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله قالت نملة ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة، «1» وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامه أنثى، وهو وهي. وقرئ: مسكنكم ولا يحطمنكم، بتخفيف النون، وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها. وأصله: يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولى العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قلت:
لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، والذي جوز أن يكون بدلا منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.

[سورة النمل (27) : آية 19]
فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19)
ومعنى فتبسم ضاحكا تبسم شارعا في الضحك وآخذا فيه، يعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم السلام. وأما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه «2» فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك
__________
(1) . قال محمود «لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، فقال أبو حنيفة- وكان شابا-: سلوه عن النملة التي كلمت سليمان، أذكر كانت أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل:
كيف لك ذلك؟ قال: لأن الله عز وجل قال قالت نملة، ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة» قال أحمد: لا أدرى العجب منه أم من أبى حنيفة أن يثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال: نملة ذكر ونملة أنثى، كما يقولون حمامة ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى، فلفظها مؤنث.
ومعناه محتمل، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها، وإن كانت واقعة على ذكر. بل هذا هو الفصيح المستعمل. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، وإنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشى عليه حكم، لأنه نسبه إلى الامام أبى حنيفة على بصيرته باللغة، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على غزارة علمه وتبصره بالمنقولات، ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له، فيا للعجب العجاب، والله الموفق للصواب. [.....]
(2) . وقعت في هذه الجملة عدة أحاديث. منها حديث ابن مسعود «جاء رجل من اليهود. فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على أصبع الحديث. وفيه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» متفق عليه. ومنها حديثه مرفوعا «إنى لأعلم آخر أهل النار خروجا منها- الحديث. وفيه: قول الرجل: أتسخر بى وأنت الملك؟ قال: ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه أيضا. ومنها حديث أبى ذر رضى الله عنه «يؤتى برجل يوم القيامة. فيقال اعرض عليه صغار ذنوبه- الحديث. وفيه: فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره» أخرجه مسلم. ومنها حديث أبى سعيد- رفعه- «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة- الحديث. وفيه: فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه» متفق عليه ومنها حديث جابر «دخل أبو بكر والقوم جلوس على الباب- فذكر الحديث وفيه: فقال عمر: لو رأيت بنت خارجة وهي تسألنى النفقة فقمت فوجأت عنقها. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه مسلم. ومنها حديث ابن عمر رضى الله عنهما «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصاب الناس مخمصة- الحديث. وفيه: فلم يبق في الجيش وعاء إلا مليء وبقي مقله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه ابن حبان والحاكم. ومنها حديث سلمة بن الأكوع «قدمنا الحديبية- الحديث. وفيه:
قلت يا رسول الله، خلنى أنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم، فلا أبقى منهم أحدا إلا قتلته، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» وهو حديث طويل. وفيه هذه اللفظة في موضع آخر أخرجه مسلم. ومنها حديث زيد بن أرقم «أتى على رضى الله عنه- وهو باليمن- بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد- الحديث.
وفيه: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم.
ومنها حديث أم أيمن «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فبال في فخارة. فقمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أشعر فلما أصبح أمرنى أن أهريقها فقلت: إنى شربتها، فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه الحاكم. ومنها حديث صهيب في أكلة التمر وهو أرمد. فقال «إنما آكله من شق عينى الصحيحة. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار بتمامه. وبعضه لابن ماجة والحاكم. ومنها حديث ابن عباس «كان عبد الله ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته. فقام إلى جارية له فوقع عليها- الحديث. وفيه: الشعر. وقول المرأة:
آمنت بالله وكذبت البصر. قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه» أخرجه البزار وإسناده ضعيف.

(3/356)


النبوي، وإلا فبدو النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميقع:
ضحكا، فان قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها وهم لا يشعرون تعنى أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل «1» الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه»
لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة أوزعني اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عنى، حتى لا أنفك شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضى الله عنك وعن والديك. وروى
__________
(1) . قوله «ما همس به بعض الحكل» في الصحاح «الحكل» : ما لا يسمع له صوت. (ع)
(2) . قوله «وعلى استيفاقه لزيادة العمل» في الصحاح «استوفقت الله» : سألته التوفيق. (ع)

(3/357)


وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21)

أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة. ومعنى وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين واجعلنى من أهل الجنة.

[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 21]
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21)
أم هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال ما لي لا أرى على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره «1» ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدى ويصلى فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه «2» ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: على به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال:
بحق الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتينى، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبى الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أو ليأتينى بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه، فقال:
يا نبى الله، اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه، ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدب
__________
(1) . قوله «تجهز للحج بحشره» في الصحاح: حشرت الناس أحشرهم حشرا: جمعتهم. ومنه: يوم الحشر. (ع)
(2) . قوله «وكان الهدهد قناقنه» القناقن- بالضم-: الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القنى. والقنى:
جمع قناة. أفاده الصحاح في موضعين. (ع)

(3/358)


فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين (22)

بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه.
وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص.
وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع: وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة:
جاز أن يباح له ما يستصلح به. وقرئ: ليأتينى. وليأتينن. والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت:
قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتى بسلطان، حتى يقول والله ليأتينى بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله أو ليأتيني بسلطان مبين عن دراية وإيقان.

[سورة النمل (27) : آية 22]
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين (22)
فمكث قرئ بفتح الكاف وضمها غير بعيد غير زمان بعيد، كقوله: عن قريب.
ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله تعالى أحطت بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علما: أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. سبأ: قرئ بالصرف ومنعه. وقد روى بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية: سبا، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدى سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحى أو الأب الأكبر صرف. قال:

(3/359)


إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23)

من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما «1»
وقال:
الواردون وتيم في ذرى سباء ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس «2»
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أد. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله من سبإ بنبإ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق «3» باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعا. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر، لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.

[سورة النمل (27) : آية 23]
إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23)
المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في تملكهم راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها: كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين. وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض
__________
(1) . يمدح رجلا بأنه من قبيلة سبأ، وهو في الأصل اسم لابن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت به القبيلة ومأرب: مدينتها. وقيل: قصر لملكهم، وهو مفعول الحاضرين ممنوع من الصرف. وإذ ظرف. ومن دون بمعنى أمام. والعرم: السد العظيم، يحبس السيل عن المدينة.
(2) . أى الواردون هم، وتيم: اسم قبيلة في أعالى أرض سبأ. والمراد بجلد الجواميس: الحبال المفتولة منه لتغسل بها الأسرى في أعناقهم، فشبهت ما يصح منه العض لصلابتها على طريق المكنية، والعض تخييل، ويصح استعارته للقرص على طريق التصريحية، وسبأ- في الأصل-: لقب رجل من قحطان اسمه عبد شمس، لأنه أول من سبى كان له عشرة أولاد، فذهب ستة إلى اليمن: حمير، وكندة، والأسد، وأشعر، وقشعم، وبجيلة. وذهب أربعة إلى الشام: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان. وبها سميت قبائلهم المشهورة.
(3) . قوله «الذي يتعلق» لعله: التي تتعلق. (ع)

(3/360)


وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)

أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكى القصاص «1» من يقف على قوله ولها عرش ثم يبتدئ عظيم وجدتها يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله. فإن قلت: كيف قال وأوتيت من كل شيء مع قول سليمان وأوتينا من كل شيء كأنه سوى بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أولا إلى ما أوتى من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.

[سورة النمل (27) : الآيات 24 الى 26]
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)
فإن قلت: من أين للهدهد التهدى إلى معرفة الله، ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان، خصوصا في زمن نبى سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. من قرأ بالتشديد أراد: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف، فهو ألا يسجدوا. ألا للتنبيه، ويا حرف النداء، ومناداه محذوف، كما حذفه من قال:
ألا يا أسلمي يا دار مى على البلى «2»
__________
(1) . قوله «ومن نوكى القصاص» النوكى: جمع أنوك، وهو الأحمق. (ع)
(2) .
ألا يا أسلمي يا دار مى على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
لذي الرمة. وألا استفتاحية للتنبيه، فلا معنى ليا إلا النداء. والمنادى بها محذوف، تقديره: يا دارمى أسلمي، فاستغنى عنه بما بعده، وحذفه اهتماما بطلب السلامة لها. وفي تكرير ندائها: نوع تفجع. ومى: مرخم مية.
وترخيم المضاف إليه: ضرورة حسنها سبق النداء. وعلى: بمعنى مع، أى: اسلمي ولو كنت بالية، لأنه إن لم تبق الدار كفتني الآثار. ومنهلا: منصبا، والجرعاء: مؤنث الأجراع، وهو الموضع المختلط ترابه بالحصى. والقطر:
المطر، يدعو لها بالخصب.

(3/361)


وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش: هلا، وهلا: بقلب الهمزتين هاء. وعن عبد الله: هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب. وفي قراءة أبى: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون وسمى المخبوء بالمصدر: وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه عز وعلا من غيوبه. وقرئ: الخب، على تخفيف الهمزة بالحذف. والخبا، على تخفيفها بالقلب، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار. ووجهها: أن تخرج على لغة من يقول في الوقف:
هذا الخبو، رأيت الخبا، ومررت بالخبى. ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، لا على لغة من يقول:
الكمأة والحمأة، لأنها ضعيفة مسترذلة. وقرئ: يخفون ويعلنون، بالياء والتاء. وقيل: من أحطت إلى العظيم «1» : هو كلام الهدهد. وقيل: كلام رب العزة. وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذى الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فن من العلم في روائه «2» ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله. فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟
قلت، هي واجبة فيهما جميعا، لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أن سجدات القرآن أربع عشرة، وإنما اختلفا في سجدة ص: فهي عند أبى حنيفة سجدة تلاوة. وعند الشافعي: سجدة شكر. وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد، فغير مرجوع إليه. فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على فهم لا يهتدون ثم ابتدأ ألا يسجدوا، وإن شاء وقف على «ألا يا» ثم ابتدأ «اسجدوا» وإذا شدد لم يقف إلا على العرش العظيم. فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لأن وصف عرشها بالعظم: تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك.
ووصف عرش الله بالعظم: تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض. وقرئ:
العظيم، بالرفع.
__________
(1) . قوله «وقيل من أحطت إلى العظيم» في اللباب: أن الخلاف في: ألا يسجدوا- إلى- العظيم، ومال إليه في التقريب اه من هامش (ع)
(2) . قوله «في روائه» بالضم، أى: منظره. أفاده الصحاح. (ع)

(3/362)


قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)

[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 28]
قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28)
سننظر من النظر الذي هو التأمل والتصفح. وأراد: أصدقت أم كذبت، إلا أن كنت من الكاذبين أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا لا محالة، وإذا كان كاذبا اتهم بالكذب فيم أخبر به فلم يوثق به، «1» تول عنهم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك. ويرجعون من قوله تعالى يرجع بعضهم إلى بعض القول فيقال: دخل عليها من كوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة.
فإن قلت: لم قال: فألقه إليهم، على لفظ الجمع؟ قلت: لأنه قال: وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره.
وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.

[سورة النمل (27) : الآيات 29 الى 31]
قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)
كريم حسن مضمونه وما فيه، أو وصفته بالكرم، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم.
قال صلى الله عليه وسلم: «كرم الكتاب ختمه «2» » وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم، فقيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما «3» . وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وقيل: مصدر ببسم الله الرحمن الرحيم: هو استئناف وتبيين لما ألقى إليها، كأنها لما قالت: إنى ألقى إلى كتاب كريم، قيل لها: ممن هو؟ وما هو؟
فقالت: إنه من سليمان وإنه: كيت وكيت. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان وإنه. عطفا على:
إنى. وقرئ: أنه من سليمان وأنه، بالفتح على أنه بدل من كتاب، كأنه قيل: ألقى إلى أنه من سليمان. ويجوز أن تريد: لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان، وتصديره
__________
(1) . قال محمود: «معناه أصدقت أم كذبت، إلا أن عبارة الآية أبلغ، لأنه إذا كان معروفا بالكذب اتهم في جملة إخباره فلم يوثق به» قال أحمد: وهذا مما نبهت عليه في سورة الشعراء من العدول عن الفعل الذي هو: أم كذبت، وعن مجرد صفته في قوله: أم كنت كاذبا، إلى جعله واحدا من الفئة الموسومة بالكذب، فهو أبلغ في مقصود سياق الآية من التهديد، والله أعلم.
(2) . أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية محمد بن مروان. وهو السدى الصغير عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وأخرجه القضاعي في مسند البيهقي. [.....]
(3) . متفق عليه من رواية قتادة عن أنس قال: أراد أن يكتب ... فذكره.

(3/363)


قالت ياأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35) فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36)

باسم الله. وقرأ أبى: أن من سليمان وأن بسم الله، على أن المفسرة. وأن في ألا تعلوا مفسرة أيضا. لا تعلوا: لا تتكبروا كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما بالغين معجمة من الغلو: وهو مجاوزة الحد. يروى أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا على وائتوني مسلمين، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية. وقيل: نقرها فانتبهت فزعة. وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، وقالت لقومها ما قالت مسلمين منقادين أو مؤمنين.

[سورة النمل (27) : آية 32]
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32)
الفتوى: الجواب في الحادثة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن. والمراد بالفتوى هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأى والتدبير، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم: استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها قاطعة أمرا فاصلة. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: قاضية أى لا أبت أمرا إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا: كل واحد على عشرة آلاف.

[سورة النمل (27) : آية 33]
قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33)
أرادوا بالقوة: قوة الأجساد وقوة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب والأمر إليك أى هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك.
كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأى والتدبير، فانظرى ماذا ترين: نتبع رأيك.

[سورة النمل (27) : الآيات 34 الى 36]
قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35) فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36)

(3/364)


لما أحست منهم الميل إلى المحاربة، رأت من الرأى الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن، ورتبت الجواب، فزيفت أولا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة وقهرا أفسدوها أى خربوها- ومن ثمة قالوا للفساد: الخربة-، وأذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت وكذلك يفعلون أرادت: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت الملك القديم، فسمعت نحو ذلك ورأت، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأى السديد.
وقيل: هو تصديق من الله لقولها، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين مرسلة إليهم بهدية أى مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها عن ملكي فناظرة ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، فروى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهن الأساور والأطواق. والقرطة «1» راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك «2» في زى الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء، وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رجلين من أشراف قومها: المنذر بن عمرو، وآخر ذا رأى وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك، فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبى، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسى من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك، فلما دنا القوم ونظروا: بهتوا، ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟
__________
(1) . قوله «والقرطة» واحدها: قرط. (ع)
(2) . قوله «على رماك» هي إناث الخيل. (ع)

(3/365)


ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (37)

وقال: أبن الحق؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها، فجعل رزقها في الشجرة. وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، فجعل رزقها في الفواكه. ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية وقال للمنذر:
أرجع إليهم، فقالت: هو نبى وما لنا به طاقة، فشخصت إليه في اثنى عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: فلما جاءوا. أتمدونن وقرئ بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وبالإدغام، كقوله أتحاجوني وبنون واحدة: أتمدوني. الهدية:
اسم المهدى، كما أن العطية اسم المعطى، فتضاف إلى المهدى والمهدى إليه، تقول هذه هدية فلان، تريد: هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه. والمعنى: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال ويصانع به بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالى خلاف حالكم، وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية. فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدني بمال وأنا أغنى منك، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته مخاطبى عالما بزيادتى عليه في الغنى واليسار، وهو مع ذلك يمدني بالمال. وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عليه حالى، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأنى أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإنى غنى عنه. وعليه ورد قوله فما آتاني الله. فإن قلت:
فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه: وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح، إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدى، ويكون المعنى: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها.
ويحتمل أن يكون عبارة عن الرد، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها.

[سورة النمل (27) : آية 37]
ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (37)
ارجع خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملا كتابا آخر لا قبل لا طاقة.
وحقيقة القبل: المقاومة والمقابلة، أى: لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: لا قبل لهم بهم. الضمير في منها لسبأ. والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك.

(3/366)


قال ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (40)

والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.

[سورة النمل (27) : آية 38]
قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38)
يروى أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها. وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه، ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله وعلى ما يشهد لنبوة سليمان عليه السلام ويصدقها. وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها. وقيل. أراد أن يؤتى به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختبارا لعقلها.

[سورة النمل (27) : آية 39]
قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39)
وقرئ: عفرية. والعفر، والعفريت، والعفرية، والعفراة، والعفارية من الرجال:
الخبيث المنكر، الذي يعفر أقرانه. ومن الشياطين: الخبيث المارد. وقالوا: كان اسمه ذكوان لقوي على حمله أمين آتى به كما هو لا أختزل منه شيئا ولا أبد له.

[سورة النمل (27) : آية 40]
قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (40)
الذي عنده علم من الكتاب رجل كان عنده اسم الله الأعظم، وهو يا حى يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام، وعن الحسن رضى الله. عنه: الله. والرحمن. وقيل هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام، وكان صديقا عالما. وقيل: اسمه أسطوم. وقيل: هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان.
وقيل: هو سليمان نفسه، كأنه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول.
وعن ابن لهيعة: بلغني أنه الخضر عليه السلام: علم من الكتاب: من الكتاب المنزل، وهو

(3/367)


قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين (43)

علم الوحى والشرائع. وقيل: هو اللوح. والذي عنده علم منه: جبريل عليه السلام. وآتيك- في الموضعين- يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل. الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر. ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر «1»
وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. ومعنى قوله قبل أن يرتد إليك طرفك أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك: ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهى طرفك. فمد عينيه فنظر نحو اليمن. ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبغ «2» عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله، قبل أن يرد طرفه. ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدة المجيء به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردة طرف، والتفت ترني، وما أشبه ذلك: تريد السرعة. يشكر لنفسه لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد.
وقيل: الشكر، قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وفي كلام بعض المتقدمين: إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت «3» ناقرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا غني عن الشكر كريم بالإنعام على من يكفر نعمته، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكرا لربه، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر.

[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 43]
قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين (43)
__________
(1) .
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
لأعرابية، نظرها أعرابى فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها، كأنه يراودها عن نفسها، فأجابته بذلك وقيل: هو لشاعر حماسى. وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب، على طريق التصريحية، ورائدا ترشيح، لأنه يلائم الإرسال. ويوما: ظرف له. والمناظر: مواقع النظر، واستدل على إتعابها إياه بقوله: رأيت الذي لا تملكه كله ولا تصبر عن بعضه، فكانت عينك سببا لوقوع قلبك في حيرة الهوى وحرقة الجوى.
(2) . قوله «ثم نبغ عند مجلس سليمان» في الصحاح «نبغ الشيء» : ظهر. (ع)
(3) . قوله «وقلما أقشعت» أى: أقلعت، أفاده الصحاح. (ع)

(3/368)


نكروا اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه.
قالوا: وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره، وأعلاه أسفله. وقرئ: ننظر، بالجزم على الجواب، وبالرفع على الاستئناف أتهتدي لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والايمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرس. هكذا ثلاث كلمات: حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. لم يقل: أهذا عرشك، ولكن: أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا قالت كأنه هو ولم تقل: هو هو، ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقع في المحتمل «1» وأوتينا العلم من كلام سليمان وملئه: فإن قلت: علام عطف هذا الكلام، وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام- الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به- مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم وأوتينا العلم نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو: قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل «2» ، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها- عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل على دين الإسلام شكرا لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهر انى الكفرة، ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها كأنه هو والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان
__________
(1) . قال محمود: «لم يقل أهذا عرشك، لئلا يكون تلقينا، قالت. كأنه هو ولم تقل هو هو، ولا ليس بهو وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقع في المحتمل، قال أحمد: وفي قولها كأنه هو وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال، بأن تقول: هكذا هو، نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلا العبارتين تشبيه، إذ كاف التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الاشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما- أعنى اسم الاشارة والمضمر- واقع على الذات المشبهة، وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى، ويفضل قولها هكذا هو بمطابقته للسؤال، فلا بد في اختيار كأنه هو من حكمة فنقول: حكمته والله أعلم: أن كأنه هو عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين، فكاد يقول: هو هو، وتلك حال بلقيس. وأما هكذا هو، فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير، فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها والله أعلم. وقول الزمخشري: ولا ليس بهو، إن كان من قوله فوهم، والصواب: ولا ليس به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . قوله «وطبقت المفصل» لعله: وطابقت. (ع)

(3/369)


قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44)

عليه السلام قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، تعنى: ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام، ثم قال الله تعالى: وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله- أو سليمان- عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
وقرئ: أنها، بالفتح على أنه بدل من فاعل صد. أو بمعنى لأنها.

[سورة النمل (27) : آية 44]
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (44)
الصرح: القصر. وقيل: صحن الدار. وقرأ ابن كثير: سأقيها، بالهمزة. ووجهه أنه سمع:
سؤقا، فأجرى عليه الواحد. والممرد: المملس، وروى أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض، وأجرى من تحته الماء، وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره، وتحققا لنبوته، وثباتا على الدين. وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم، لأنها كانت بنت جنية. وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع، فقالوا له: إن في عقلها شيئا، وهي شعراء الساقين، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما لا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداهانه صرح ممرد من قوارير
وقيل: هي السبب في اتخاذ النورة: أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان عليه السلام وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان «1» ، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له. وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان، وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان لمت نفسي
تريد بكفرها فيما تقدم، وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنى بسليمان عليه السلام.
__________
(1) . قوله «فبنوا لها سيلحين وغمدان» في الصحاح «سيلحون» : قرية. وفيه في فصل «نصب» : أن للعرب في نصيبين ونحوه كبيرين وفلسطين وسيلحين وباسمين وقنسرين: مذهبين، أحدهما: لزوم الياء وإعراب ما لا ينصرف. والثاني: إعراب الجمع بالياء والنون نصبا وجرا، وبالواو والنون رفعا. وفي فصل «غمد» : غمدان:
قصر باليمن. وفي فصل «صنع» المصانع: الحصون. (ع)

(3/370)


ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47) وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (52) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53)

[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 46]
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46)
وقرئ: أن اعبدوا، بالضم على إتباع النون الباء فريقان فريق مؤمن وفريق كافر.
وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد يختصمون يقول كل فريق: الحق معى. السيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة، فإن قلت: ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت: كانوا يقولون لجهلهم: إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه، تبنا حينئذ واستغفرنا- مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت-. وإن لم تقع، فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم، ثم قال لهم: هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ لعلكم ترحمون تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه وتجهيلا فيما اعتقدوه.

[سورة النمل (27) : آية 47]
قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون (47)
وكان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحا «1» تيمن، وإن مر بارحا تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أى: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا:
اطيرنا بكم، أى: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا قال طائركم عند الله أى سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد:
عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل. عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله طائركم معكم، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. وقرئ: تطيرنا بكم، على الأصل. ومعنى: تطير به: تشاءم به.
وتطير منه: نفر منه تفتنون تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.

[سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 53]
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (52)
وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53)
__________
(1) . قوله «فان مر سانحا تيمن ... الخ» السانح: ما ولاك ميامنه من ظنى أو طائر أو غيرهما، بأن يمر من مياسرك إلى ميامنك. والبارح: ما ولاك مياسره بأن يمر من ميامنك إلى مياسرك، كذا في الصحاح. (ع)

(3/371)


المدينة الحجر. وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. والفرق بين الرهط والنفر: أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة.
والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب. غنم بن غنم. رباب بن مهرج. مصدع بن مهرج. عمير بن كردبة. عاصم بن مخرمة. سبيط بن صدقة. سمعان بن صفى.
قدار بن سالف: وهم الذين سعوا في عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام، وكانوا من أبناء أشرافهم ولا يصلحون يعنى أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح تقاسموا يحتمل أن يكون أمرا وخبرا في محل الحال بإضمار قد، أى: قالوا متقاسمين: وقرئ: تقسموا. وقرئ: لتبيتنه، بالتاء والياء والنون، فتقاسموا- مع النون والتاء- يصح فيه الوجهان. ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا.
والتقاسم، والتقسم: كالتظاهر، والتظهر: التحالف. والبيات: مباغتة العدو ليلا «1» . وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك «2» استراق الظفر، وقرئ: مهلك بفتح الميم واللام وكسرها من هلك. ومهلك بضم الميم من أهلك. ويحتمل المصدر والزمان والمكان، فإن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه «3» ؟ قلت كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا
__________
(1) . قوله «والبيات مباغتة العدو ليلا» في الصحاح «بيت العدو» أى: أوقع بهم ليلا، والاسم: البيات. (ع)
(2) . قوله «ليس من آيين الملوك» تقدم آنفا أنه قيل: آيين الملك: مراتبه وبهاؤه، كما وجد بهامش. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله وجمعوا بين البياتين جميعا لا أحدهما كانوا صادقين، وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا تراهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق حيلة يتفصون بها عن الكذب» قال أحمد: وحيلة الزمخشري لتصحيح قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل أقرب من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرا، لأن غرضه من تمهيد حيلتهم أن يستشهد على صحة القاعدة المذكورة في موافقة قوم لوط عليها، إذ استقبحوا الكذب بعقولهم لا بالشرع. وأنى يتم له ذلك أو لهم، وهم كاذبون صريح الكذب في قولهم ما شهدنا مهلك أهله وذلك أنهم فعلوا الأمرين، ومن فعل الأمرين فجحد فعل أحدهما لم يكن في فريته مرية، وإنما كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعي عليهم فعل أمرين، فجحدوا المجموع. ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا، فضرب زيدا وعمرا: كان حانثا، بخلاف الحالف لا أضرب زيدا وعمرا فضرب عمرا، ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما، فان مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه، فإذا تمهد أن هؤلاء كاذبون صراحا في قولهم ما شهدنا مهلك أهله وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب، فلا يخلو أمرهم أن يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة، مع القطع بأنها ليست حيلة، ولا شبهة لقرب جحدهم من الصدق، فيبطل ما قال الزمخشري لاثبات قاعدة دينه على زعمه، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد عقائد القدرية، بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها، فحسبه ما رضى به لدينه، والسلام.

(3/372)


ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55)

ما شهدنا مهلك أهله، فذكروا أحدهما: كانوا صادقين، لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبى الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب «1» . مكرهم: ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله. ومكر الله: إهلاكهم من حيث لا يشعرون. شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة. روى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلى فيه، فقالوا: زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلى قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب «2» حيالهم، فبادروا، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا منهم في مكانه، ونجى صالحا ومن معه. وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون راميا أنا دمرناهم استئناف. ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من العاقبة، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره:
هي تدميرهم. أو نصبه على معنى: لأنا. أو على أنه خبر كان، أى: كان عاقبة مكرهم الدمار خاوية حال عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف.

[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55)
واذكر لوطا أو أرسلنا لوطا لدلالة ولقد أرسلنا عليه. وإذ بدل على
__________
(1) . قوله «حيلة يتفصون بها عن الكذب» في الصحاح «فصا الإنسان» : إذا تخلص من البلية والضيق، وتفصيت من الديون: إذا خرجت منها وتخلصت. (ع) [.....]
(2) . قوله «صخرة من الهضب حيالهم» أى من المطر المتتابع مطرة بعد مطرة، وقعد حياله: أى إزاءه.
وأصله الواو، أفاده الصحاح. (ع)

(3/373)


فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (58)

الأول ظرف على الثاني وأنتم تبصرون من بصر القلب، أى: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادة لله في حكمته وحكمه، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة. وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عباده، لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين. أو تبصرونها بعضكم من بعض، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة، وانهما كافى المعصية، وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتى وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر «1»
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم. فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم قوم تجهلون فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت: أراد: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل. السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت: تجهلون صفة لقوم، والموصوف لفظه لفظ الغائب، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرئ بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت: اجتمعت الغيبة والمخاطبة، فغلبت المخاطبة، لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة.

[سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (58)
وقرأ الأعمش: جواب قومه، بالرفع. والمشهورة أحسن يتطهرون يتنزهون عن القاذورات كلها، فينكرون هذا العمل القذر، ويغيظنا إنكارهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو استهزاء قدرناها قدرنا كونها من الغابرين كقوله قدرنا إنها لمن الغابرين فالتقدير واقع على الغبور في المعنى.
__________
(1) .
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
لأبى نواس. وألا استفتاحية للتنبيه، فكأنه قال: تنبيه فاسقني. وقل لي هي الخمر: أى اجهر باسمها. وقوله: إذا أمكن الجهر: احترس- وباح الشيء: ظهر، وباح به: أظهره، أى: أظهر اسم من تحب كما تبوح باسم الخمر. ويروى وبح باسم ما تأتى، أى: ما تفعل. ودعني: أى اتركني: ضمنه معنى باعدنى فعداه بمن، كناية عن نهيه عن ذكر الكنى: جمع كنية: وهو ما دل على الشيء دلالة خفية، وشبه العبارة الخفية بالستر الحائل تصريحا.

(3/374)


قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (59) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60)

[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 60]
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (59) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60)
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله عز وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين. وقيل: هو خطاب للوط عليه السلام، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم. معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت «1» وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطإ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجرى تحته. ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء. وقرئ: يشركون بالياء والتاء. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها يقول «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم «2» » .
__________
(1) . قال محمود: «معلوم أن لا خير فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت» قال أحمد: كلام مرضى بعد أن تضع خالق كل شيء مكان قوله «خالق كل خير» فانه تخصيص قدرى: أو إشراك خفى. والتوحيد الأبلج: ما قلناه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) . كذا ذكره الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه البيهقي في الشعب في الباب التاسع من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر قال «كان على بن الحسين يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ختم القرآن- فذكر حديثا طويلا- وفيه والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون؟ بل الله خير وأجل وأبقى وأكرم وأعظم مما يشركون» .

(3/375)


أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (62)

[سورة النمل (27) : آية 60]
أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60)
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في أما يشركون وأمن خلق؟ قلت: تلك متصلة، لأن المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله تعالى: آلله خير أم الآلهة؟
قال: بل أمن خلق السماوات والأرض خير؟ تقريرا لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء. وقرأ الأعمش: أمن، بالتخفيف. ووجهه أن يجعل بدلا من الله، كأنه قال: أمن خلق السماوات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت: أى نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد. لا يقدر عليه إلا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتى ذلك محال من غيره، وكذلك قوله بل هم بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم. والحديقة: البستان عليه حائط: من الإحداق وهو الإحاطة. وقيل ذات، لأن المعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت. والبهجة: الحسن، لأن الناظر يبتهج به أإله مع الله أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. وقرئ: أإلها مع الله، بمعنى: أتدعون، أو أتشركون. ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدة، وتخرج الثانية بين بين يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.

[سورة النمل (27) : آية 61]
أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61)
أمن جعل وما بعده بدل من أمن خلق فكان حكمهما حكم قرارا دحاها وسواها بالاستقرار عليها حاجزا كقوله: برزخا.

[سورة النمل (27) : آية 62]
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (62)
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطره إلى كذا.

(3/376)


أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65)

والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو المجهود. وعن السدى: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله يجيب المضطر إذا دعاه وكم من مضطر يدعوه فلا يجاب»
؟ قلت، الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقا، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم خلفاء الأرض خلفاء فيها، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن. أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. وقرئ: يذكرون، بالياء مع الإدغام. وبالتاء مع الإدغام والحذف. وما مزيدة، أى: يذكرون تذكرا قليلا. والمعنى: نفى التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.

[سورة النمل (27) : آية 63]
أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (63)
يهديكم بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض: إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر.

[سورة النمل (27) : آية 64]
أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64)
فإن قلت: كيف قيل لهم أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده وهم منكرون للإعادة؟ قلت:
قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار من السماء الماء ومن الأرض النبات إن كنتم صادقين أن مع الله إلها، فأين دليلكم عليه؟

[سورة النمل (27) : آية 65]
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون (65)
__________
(1) . قال محمود «إن قلت فكم من مضطر لإيجاب؟ قلت: الاجابة موقوفة على كون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة» قال أحمد: الصواب أن الاجابة مقرونة بالمشيئة لا بالمصلحة، وإنما تقف الاجابة على المصلحة عند القدرية، لايجابهم على الله تعالى رعاية المصالح، فقول الزمخشري: لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطا فيه المصلحة: فاسد فان المشيئة شرط في إجابة الدعاء اتفاقا، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الداعي: اللهم اغفر لي إن شئت.

(3/377)


فإن قلت: لم رفع اسم الله، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت:
جاء على لغة بنى تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، يريدون: ما فيها إلا حمار، كأن أحدا لم يذكر. ومنه قوله:
عشية ما تغنى الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم «1»
وقولهم: ما أتانى زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت: دعت إليه نكتة سرية «2» . حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السماوات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعنى: أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أن معنى ما في البيت «3» : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتا للقول بخلوها عن الأنيس. فإن قلت: هلا زعمت أن الله ممن في السماوات والأرض، كما يقول المتكلمون: الله في كل مكان، على معنى أن علمه في الأماكن كلها، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت: يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز، وكونهم فيهن حقيقة، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة، على أن قولك: من في السماوات والأرض، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد: فيه إيهام تسوية، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى: «بئس خطيب القوم أنت «4» » وعن عائشة رضى الله عنها: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية «5» ، والله تعالى يقول: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله
__________
(1) . النبل: السهام العربية. والمشرفي: السيف، نسبة لمشارف اليمن. والمصمم: الماضي النافذ لصلابته، وكانت عادة المتحاربين التناضل بالسهام عند التباعد، فإذا تقاربوا تحاربوا بالرماح، فإذا التقوا تضاربوا بالسيوف.
وذكر النبل بعد الرماح لدفع توهم بعد العدو، فكأن النبل يغنى عن غيره، فالبيت كناية عن شدة الأمر واختلاط الصفين. وضمير مكانها للحرب أو للسيوف، والاستثناء منقطع بعد النفي، ويجب نصبه عند الحجازيين. ويجوز رفعه كما هنا عند التميميين: إما على البدل، أو على توهم أن المستثنى منه غير مذكور، وأن العامل مفرغ لما بعد «إلا» .
(2) . قوله «دعت إليه نكتة سرية» لعله بزنة فعيلة، فيكون بمعنى شريفة. (ع)
(3) . قوله: «معنى ما في البيت» هو قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس (ع)
(4) . أخرجه مسلم من حديث عدى بن حاتم.
(5) . متفق عليه من حديثها في أثناء حديث.

(3/378)


بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)

وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا، لئلا يأمن أحد من عبيده مكره. وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة أيان بمعنى متى، ولو سمى به: لكان فعالا، من آن يئين ولا نصرف. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.

[سورة النمل (27) : آية 66]
بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)
وقرئ: بل أدرك. بل ادراك. بل ادارك. بل تدارك. بل أأدرك، بهمزتين. بل آأدرك، بألف بينهما. بل أدرك، بالتخفيف والنقل. بل ادرك، بفتح اللام وتشديد الدال. وأصله:
بل أدرك؟ على الاستفهام. بلى أدرك. بلى أأدرك. أم تدارك. أم أدرك، فهذه ثنتا عشرة قراءة. وادارك: أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال. وادرك: افتعل. ومعنى أدرك علمهم:
انتهى وتكامل. وادرك: تتابع واستحكم. وهو على وجهين، أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله بل هم في شك منها بل هم منها عمون: يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟
قلت: لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه، وكان هذا بيانا لعجزهم ووصفا لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد أن يكون- وهو وقت جزاء أعمالهم-: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته:
وفي: أدرك علمهم، وادارك علمهم: وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى، من قولك: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم: وقد فسره الحسن رضى الله عنه باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت، فما وجه قراءة من قرأ: بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: أم أدرك. وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. فإن قلت: فمن قرأ:

(3/379)


وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68)

بلى أدرك، وبلى أأدرك؟ قلت: لما جاء ببلى، بعد قوله وما يشعرون كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفى العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها، فيرجع إلى نفى الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ: بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن في الآخرة في شأن الآخرة ومعناها فإن قلت، هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض: كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا.
ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عداه بمن دون عن، لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون.

[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 68]
وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68)
العامل في إذا ما دل عليه أإنا لمخرجون وهو نخرج، لأن بين يدي عمل اسم الفاعل «1» فيه عقابا وهي همزة الاستفهام، وإن ولام الابتداء وواحدة منها كافية، فكيف إذا اجتمعن؟
والمراد: الإخراج من الأرض. أو من حال الفناء إلى الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على «إذا» و «إن» جميعا إنكار على إنكار، وجحود عقيب جحود، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه. والضمير في إنا لهم ولآبائهم، لأن كونهم ترابا قد تناولهم وآباءهم. فإن قلت: قدم في هذه الآية هذا على نحن وآباؤنا وفي آية أخرى فدم نحن وآباؤنا على هذا؟ قلت.
التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المتعمد بالذكر، وإن الكلام إنما سيق لأجله، ففي إحدى الآيتين دل على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد.
__________
(1) . قوله «اسم الفاعل فيه عقابا» لعله اسم المفعول وعقابا جمع عقبة. أفاده الصحاح. وعبارة النسفي: لأن اسم الفاعل والمفعول- بعد همزة الاستفهام أو أن أو لام الابتداء- لا يعمل فيما قبله، فكيف إذا اجتمعن. (ع)

(3/380)


قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72)

[سورة النمل (27) : الآيات 69 الى 70]
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (70)
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأن تأنيثها غير حقيقى، ولأن المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين: الكافرين، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوف عاقبتها ألا ترى إلى قوله فدمدم عليهم ربهم بذنبهم وقوله: مما خطيئاتهم أغرقوا. ولا تحزن عليهم لأنهم لم يتبعوك، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش، كقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. في ضيق في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا: تخفيف الضيق. قال الله تعالى ضيقا حرجا قرئ مخففا ومثقلا ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.

[سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 72]
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72)
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في ولا تلقوا بأيديكم أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو: دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدى. بمن قال:
فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولوا سراعا والمنية تعنق «1»
يعنى: دنونا من عمير، وقرأ الأعرج: ردف لكم، بوزن ذهب، وهما لغتان، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف- في وعد الملوك ووعيدهم- يدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك: إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
__________
(1) . ردف كتبع يتعدى بنفسه، وضمن هنا معنى الدنو فعدى بمن، وأعنق الفرس: سار سيرا سريعا سهلا.
والعنق: اسم منه يقول: فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين، والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا. شبه المنية بالأسد على طريق المكنية، فأثبت لها العنق تخييلا، كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال. ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح، أى: ونحن نسرع خلفهم، فذكر العنق تجريد، لأنه يلائم المشبه.

(3/381)


وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين (75) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78)

[سورة النمل (27) : آية 73]
وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73)
الفضل والفاضلة: الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه: أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأنه لا يعاجلهم بها، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب: وهم قريش.

[سورة النمل (27) : آية 74]
وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (74)
قرئ تكن. يقال: كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، يعنى: أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.

[سورة النمل (27) : آية 75]
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين (75)
سمى الشيء الذي يغيب ويخفى: غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة.
ونظائرهما: النطيحة، والرمية، والذبيحة: في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية في قولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.

[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 77]
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77)
قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى للمؤمنين لمن أنصف منهم وآمن، أى: من بنى إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم.

[سورة النمل (27) : آية 78]
إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78)
بينهم بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت: ما معنى يقضى بحكمه؟ ولا يقال:
زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت: معناه بما يحكم به وهو عدله، لأنه لا يقضى إلا بالعدل، فسمى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته- وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه-: جمع حكمة. وهو العزيز فلا يرد قضاؤه العليم بمن يقضى له وبمن يقضى عليه، أو العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.

(3/382)


فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82)

[سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 81]
فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81)
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشك والظن. وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته.
وأن مثله لا يخذل. فإن قلت: إنك لا تسمع الموتى يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل، فما وجه ذلك؟ قلت:؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب: من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله- فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع-: كانت حالهم- لانتفاء جدوى السماع-: كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله إذا ولوا مدبرين؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ: ولا يسمع الصم، وما أنت بهاد العمى، على الأصل. وتهدى العمى. وعن ابن مسعود: وما أن تهدى العمى، وهداه عن الضلال.
كقولك: سقاه عن العيمة «1» أى: أبعده عنها بالسقى، وأبعده عن الضلال بالهدى إن تسمع أى ما يجدى إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته، أى: يصدقون بها فهم مسلمون أى مخلصون من قوله بلى من أسلم وجهه لله يعنى: جعله سالما لله خالصا له.

[سورة النمل (27) : آية 82]
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82)
سمى معنى القول ومؤداه بالقول، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه:
حصوله. والمراد: مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض:
__________
(1) . قوله «سقاه عن العيمة» هي شهوة اللبن كما في الصحاح. (ع)

(3/383)


الجساسة. جاء في الحديث: أن طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب «1» .
وروى: لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إبل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هر، وذنب كبش، وخف بعير. وما بين المفصلين: اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام.
وروى: لا تخرج إلا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء «2» ، أو يبلغ السحاب. وعن أبى هريرة:
فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضى الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل: من أين تخرج الدابة؟ فقال «من أعظم المساجد حرمة على الله «3» » يعنى المسجد الحرام. وروى: أنها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق «4» فتقول أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون يعنى أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي، لأن خروجها من الآيات، وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدى: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضى الله عنه: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثم تستقبل المشرق، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروى: تخرج من أجياد «5» .
وروى: بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام، فتنكت نكتة
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من حديث حذيفة دون قوله «وهي الجساسة» وسيأتى بعضه للحاكم وغيره في الذي بعده. [.....]
(2) . قوله «ورأسها يبلغ أعنان السماء» في الصحاح «أعنان السماء» : صفائحها وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عنن. والعامة تقول: عنان السماء. (ع)
(3) . أخرجه الطبري من طريق ربعي عن حذيفة بن اليمان: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقلت يا رسول الله، من أين تخرج؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله ... الحديث» وروى الحاكم والبيهقي في الشعب وإسحاق في مسنده وابن مردويه من حديث أبى الطفيل عن حذيفة عن أسيد رفعه قال «يكون للدابة ثلاث خرجات- إلى أن قال: بينما الناس في أعظم المساجد حرمة وخيرها وأكرمها: المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ... الحديث وفيه: ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب. ولا يفوتها هارب» وفي الباب عن ابن عباس: أخرجه ابن مردويه مطولا.
(4) . قوله «بلسان ذلق» أى طلق، كما في الصحاح. (ع)
(5) . قوله «تخرج من أجياد» جبل بمكة، سمى بذلك لموضع خيل تبع، وسمى «قعيقعان» لموضع سلاحه. (ع)

(3/384)


ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85)

بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درى، وتكتب بين عينيه: مؤمن: وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه: كافر. وروى: فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثم تقول لهم:
يا فلان، أنت من أهل الجنة. ويا فلان، أنت من أهل النار. وقرئ: تكلمهم، من الكلم وهو الجرح. والمراد به: الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا، على معنى التكثير. يقال: فلان مكلم، أى مجرح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أن المراد بالتكليم: التجريح، كما فسر: لنحرقنه، بقراءة على رضى الله عنه: لنحرقنه، وأن يستدل بقراءة أبى: تنبئهم. وبقراءة ابن مسعود: تكلمهم بأن الناس، على أنه من الكلام. والقراءة بإن مكسورة: حكاية لقول الدابة، إما لأن الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول، أى:
تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت: إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت: قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده، وأنها من خواص خلقه: أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك:
خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أى: تكلمهم بأن.

[سورة النمل (27) : آية 83]
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83)
فهم يوزعون يحبس أو لهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله فوجا فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى يدخلون في دين الله أفواجا وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أبو جهل والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة: يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت: أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت:
الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين، كقوله من الأوثان.

[سورة النمل (27) : الآيات 84 الى 85]
حتى إذا جاؤ قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85)
الواو للحال، كأنه قال: أكذبتم بها بادىء الرأى من غير فكر ولا نظر يؤدى إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب. أو للعطف، أى: أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه أما ذا كنتم تعملون

(3/385)


ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين (87)

بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك- وقد عرفته رويعي سوء-: أتأكل نعمى، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صح عندك من أكله وفساده، وترمى بقولك: أم ماذا تعمل بها، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل، لتبهته «1» وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والإصلاح، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد: أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها، وذلك قوله ووقع القول عليهم يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كقوله تعالى هذا يوم لا ينطقون.

[سورة النمل (27) : آية 86]
ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86)
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت: ما للتقابل لم يراع في قوله ليسكنوا ومبصرا حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصرا: ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.

[سورة النمل (27) : آية 87]
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين (87)
فإن قلت: لم قيل ففزع دون فيفزع؟ قلت: لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السماوات والأرض، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إلا من شاء الله إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت- عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وعن الضحاك: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش. وعن جابر: منهم موسى عليه السلام، لأنه صعق مرة. ومثله قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وقرئ: أتوه. وأتاه. ودخرين، فالجمع
__________
(1) . قوله «لتبهته» أى تدهشه وتحيره (ع)

(3/386)


وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90)

على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر: الصاغر. وقيل: مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.

[سورة النمل (27) : الآيات 88 الى 90]
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون (88) من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90)
جامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد وهي تمر مرا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد: إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها، كما قال النابغة في صفة جيش:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج «1»
صنع الله من المصادر المؤكدة، كقوله وعد الله. وصبغة الله إلا أن مؤكدة محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى: ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: صنع الله، يريد به: الإثابة والمعاقبة. وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال: صنع الله الذي أتقن كل شيء يعنى أن مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب: من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله من جاء بالحسنة إلى آخر الآيتين، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، «2» وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق «3» . ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب
__________
(1) . للنابغة. والأرعن: الجبل العالي. والطود: الجبل العظيم، فاستعار الأرعن للجيش، ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. والحاج: اسم جمع واحده حاجة. والركاب: المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة:
السير الرهو السهل، فارسى معرب. والهملاج: السريع. يقول: حاربنا العدو يجيش عظيم، تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم، والحال أن ركابهم تسرع السير.
(2) . قوله «ومكانة إضماده ورصانة تفسيره» الذي في الصحاح «ضمد الجرح، يضمده ضمدا» : شده بعصابة وفيه «الرصين» المحكم الثابت. وقد رصن- بالضم- رصانة. (ع)
(3) . قوله «وأخرس الشقاشق» في الصحاح «شقشق الفحل شقشقة» : هدر. وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة، فإنما يشبه بالفحل. (ع)

(3/387)


إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (93)

كلام، جاء كالشاهد بصحته والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان.
ألا ترى إلى قوله: صنع الله، وصبغة الله، ووعد الله، وفطرت الله: بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله الذي أتقن كل شيء، ومن أحسن من الله صبغة، لا يخلف الله الميعاد لا تبديل لخلق الله وقرئ: تفعلون، على الخطاب. فله خير منها يريد الإضعاف وأن العمل يتقضى والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل: فله خير منها، أى: له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ:
يومئذ مفتوحا مع الإضافة، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين فزع. فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأول: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب «1» وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية.
وأما الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ من فزع بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأما ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه، لأن البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. أمن: يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى أفأمنوا مكر الله. وقيل: السيئة: الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة، فكأنه قيل: فكبوا في النار، كقوله تعالى فكبكبوا فيها ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين هل تجزون يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.

[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (93)
أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام وأن أتلوا القرآن من التلاوة أو التلو كقوله واتبع ما يوحى إليك. والبلدة: مكة حرسها الله تعالى: اختصها من بين سائر.
__________
(1) . قوله «وقلب وجاب» في الصحاح «وجب القلب وجيبا» : اضطرب. (ع)

(3/388)


البلاد بإضافة اسمه إليها، لأنها أحب بلاده إليه، وأكرمها عليه، وأعظمها عنده. وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره، فلما بلغ الحزورة «1» استقبلها بوجهه الكريم فقال: «إنى أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله. ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت» «2» وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضاد لربه ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها «3» ، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن. وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء «4» : اللهم بارك لنا في سكناها، وآمنا فيها شر كل ذى شر، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ: التي حرمها. واتل عليهم هذا القرآن: عن أبى وأن أتل: عن ابن مسعود. فمن اهتدى باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفى الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل على من الوحى، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلى ومن ضل ولم يتبعني فلا على، وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول
__________
(1) . قوله «فلما بلغ الحزورة» هي تل صغير كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة والدارمي وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل. كلهم من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة وهو يقول: والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله. ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواه عقيل ويونس وشعيب وصالح بن كيسان عنه. ورواه ابن أخى الزهري عن عمه عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدى بن الخيار: أخرجه الطبراني. وصححه الدارقطني لوجهين. ورواه النسائي وإسحاق والبزار والبيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة. ولفظه للبيهقي «ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» قال البزار: تفرديه معمر هكذا.
وقال البيهقي: وهم فيه معمر وقال الترمذي: رواه محمد بن عمر بن أبى سلمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقول الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى أصح. وقال البيهقي أيضا: ورواية محمد بن عمرو وهم. وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه الترمذي من رواية ابن خثيم عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل جميعا فيه نحو «ما أطيبك من يلد وأحبك إلى. ولولا أن قومي أخرجونى منك ما سكنت غيرك» .
(3) . قوله «لا يختلى خلاها ... الخ» : أى لا يجز حشيشها، ولا يقطع شجرها. (ع)
(4) . قال محمود: «المراد بالبلدة مكة وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها، لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال: وله كل شيء، فجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كل شيء إنه لعظيم الشأن» قال أحمد: وتحت قوله وله كل شيء: فائدة أخرى سوى ذلك، وهي أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفا لها، أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه، قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها، وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف، لا لأنها ملك الله تعالى خاصة، والله أعلم.

(3/389)


إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعنى في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي: الدخان، وانشقاق القمر. وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل: هو كقوله سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية وكل عمل يعملونه، فالله عالم به غير غافل عنه لأن، الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات «1» ، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ: تعملون، بالتاء والياء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ طس سليمان: كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادى لا إله إلا الله» «2» .
__________
(1) . قال محمود: «لأن العالم بالذات لا يجوز عليه الغفلة» قال أحمد: قد سبق له جحد صفة العلم، وإيهام أن سلبها داخل في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللة بأنه عالم بالذات لا بعلم، والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بل هو علم قديم أزلى عام التعليق بجميع الواجبات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه تعالى على تعطيل صفاته وكماله وجلاله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(3/390)


طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)

سورة القصص
مكية، [إلا من آية 52 إلى غاية آية 55 فمدنية، وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة] وآياتها 88 [نزلت بعد النمل] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتاب المبين (2) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3)
من نبإ موسى وفرعون مفعول نتلو، أى: نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين، كقوله تنبت بالدهن لقوم يؤمنون لمن سبق في علمنا أنه يؤمن، لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم.

[سورة القصص (28) : آية 4]
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)
إن فرعون جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل، كأن قائلا قال: وكيف كان نبؤهما فقال:
إن فرعون علا في الأرض يعنى أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحد في الظلم والعسف شيعا فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوى عنقه. قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتي تراه عليها يبتغى الشيعا «1»
__________
(1) .
وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتى تراه عليها يبتغى الشيعا
كلفت مجهولها نفسي وشايعنى ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن يقال لعا
للأعشى، أى: ورب مفازة يخاف الجواب: أى كثير السير، من جبت الأرض: قطعتها بالسير. والدلجة، من دلج وأدلج بوزن افتعل، وأدلج بوزن أكرم: إذا سار ليلا والدلجة: ساعة من الليل، أى: يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها، كلفت نفسي سير المجهول منها، وعاوننى عزمي على سيرها وقت لمعان آلها، وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل، ثم قال مع ناقة صاحبة قوة، ويطلق اللوث على الضعف أيضا، فهو من الأضداد، عفرناة: غليظة، ويقال للعائر: لعا لك، دعاء له بالانتعاش. وتعسا له: دعاء عليه بالسقوط، يريد أنها لا تعثر، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.

(3/391)


ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6)

أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط. والطائفة المستضعفة: بنو إسرائيل. وسبب ذبح الأبناء: أن كاهنا قال له: يولد مولود في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يده. وفيه دليل بين على ثخانة حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن، وإن كذب فما وجه القتل؟ ويستضعف حال من الضمير في وجعل أو صفة لشيعا. أو كلام مستأنف. ويذبح بدل من يستضعف.
وقوله إنه كان من المفسدين بيان أن القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب، لأنه فعل لا طائل تحته، صدق الكاهن أو كذب.

[سورة القصص (28) : الآيات 5 الى 6]
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6)
فإن قلت: علام عطف قوله ونريد أن نمن وعطفه على نتلوا ويستضعف غير سديد؟ قلت: هي جملة معطوفة على قوله إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصا له. ونريد: حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالا من يستضعف، أى يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن نمن عليهم. فإن قلت:
كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر، قلت: لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم أئمة مقدمين في الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد رضى الله عنه: دعاة إلى الخير، وعن قتادة رضى الله عنه: ولاة، كقوله تعالى وجعلكم ملوكا. الوارثين يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم. مكن له: إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد، فوطأه ومهده ونظيره: أرض له. ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام: أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث «1» عليهم، كما كانت في أيام الجبابرة، وينفذ أمرهم، ويطلق أيديهم ويسلطهم.
__________
(1) . قوله «ولا تغث عليهم» أى: ولا تفسد وتردؤ. أفاده الصحاح. (ع)

(3/392)


وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8)

وقرئ: ويرى فرعون وهامان وجنودهما، أى: يرون منهم ما حذروه: من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.

[سورة القصص (28) : آية 7]
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7)
اليم: البحر. قيل: هو نيل مصر. فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت: أما الأول فالخوف عليه من القتل، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت:
ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن: غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما جميعا، وأو منت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسرورا: وهو رده إليها وجعله من المرسلين. وروى: أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد. وروى: أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون، ولكنى وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور «1» ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يلقوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدرى مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم. وقد روى أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي «2» مطلى بالقار من داخله.

[سورة القصص (28) : آية 8]
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8)
__________
(1) . قوله «ووضعته في تنور مسجور» في الصحاح «التنور» : الذي يخبر فيه. وفيه أيضا. سجرت التنور سجرا، إذا حميته. (ع)
(2) . قوله «تابوت من بردي مطلى بالقار» في الصحاح «البردي» بالفتح: نبات معروف، فلينظر. (ع)

(3/393)


وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)

اللام في ليكون هي لام كى التي معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمنى سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا، ولكن: المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك: ضربته ليتأدب. وتحريره: أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد. وقرئ: وحزنا وهما لغتان: كالعدم والعدم كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم. أو كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم- ومن هو سبب هلاكهم- على أيديهم. وقرئ: خاطين، تخفيف خاطئين، أو خاطين الصواب إلى الخطأ.

[سورة القصص (28) : آية 9]
وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)
روى أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبى نوره بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه، وكانت لفرعون بنت برصاء، وقالت له الأطباء: لا تبرأ إلا من، قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت «1» . وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت، فقالت: إن هذه لنسمة مباركة، فهذا أحد ما عطفهم عليه، فقال الغواة من قومه: هو الصبى الذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله، فهم بذلك فقالت آسية قرت عين لي ولك فقال فرعون: لك لا لي. وروى في حديث: «لو قال هو قرة عين لي كما هو لك، لهداه الله كما هداها «2» » وهذا على سبيل الفرض والتقدير، أى: لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها، ولأسلم كما أسلمت: هذا- إن صح الحديث- تأويله، والله أعلم بصحته.
وروى أنها قالت له: لعله من قوم آخرين ليس من بنى إسرائيل. قرة عين: خبر مبتدإ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ ولا تقتلوه خبرا، ولو نصب لكان أقوى. وقراءة ابن مسعود
__________
(1) . قوله «فبرأت» في الصحاح: برئت من المرض برءا بالضم. وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا بالفتح. وأصبح فلان بارئا من مرضه (ع)
(2) . هذا طرف من حديث الفتون الطويل. وقد ذكرنا في طه أن النسائي أخرجه من حديث ابن عباس وفيه فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك فقال فرعون: يكون لك فأما أنا فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن الله حرمه ذلك» .

(3/394)


وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11)

رضى الله عنه دليل على أنه خبر، قرأ: لا تقتلوه قرة عين لي ولك، بتقديم لا تقتلوه.
عسى أن ينفعنا فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا.
أو نتبناه، فإنه أهل للتبنى، ولأن يكون ولدا لبعض الملوك. فإن قلت: وهم لا يشعرون حال، فما ذو حالها؟ قلت: ذو حالها آل فرعون. وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: إن فرعون ... الآية: جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدة لمعنى خطئهم. وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم.

[سورة القصص (28) : الآيات 10 الى 11]
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11)
فارغا صفرا من العقل. والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى وأفئدتهم هواء أى جوف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... فأنت مجوف نخب هواء «1»
وذلك أن القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله فتكون لهم قلوب يعقلون بها ويدل عليه قراءة من قرأ: فرغا. وقرئ: قرعا، أى خاليا من قولهم: أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء «2» . وفرغا، من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ، أى هدر، يعنى: بطل قلبها وذهب، وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها لتبدي به لتصحر «3» به. والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته، وأنه ولدها لولا أن ربطنا على قلبها بإلهام الصبر، كما يربط على الشيء المنفلت ليقر ويطمئن لتكون من المؤمنين من المصدقين بوعد الله، وهو قوله
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات في الجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «من صفر الإناء وقرع الفناء» صفر الإناء: خلوه، مصدر: صفر الشيء بالكسر، أى: خلا.
وقرع الفناء: خلوه من الغاشية، مصدر قرع بالكسر، أى: خلا. (ع)
(3) . قوله «لتصحر به» في الصحاح: أصحر الرجل، أى: خرج إلى الصحراء والمراد هنا تجهر به ولا تكتم أمره (ع)

(3/395)


وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13)

إنا رادوه إليك ويجوز: وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت، لولا أنا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه. وقرئ: مؤسى، بالهمزة: جعلت الضمة في جارة الواو- وهي الميم- كأنها فيها، فهمزت كما تهمز واو وجوه قصيه اتبعى أثره وتتبعى خبره. وقرئ فبصرت بالكسر- يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة، بمعنى: عن بعد. وقرئ: عن جانب، وعن جنب. والجنب: الجانب. يقال: قعد إلى جنبه وإلى جانبه، أى: نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة «1» . وهم لا يحسون بأنها أخته، وكان اسمها مريم.

[سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 13]
وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13)
التحريم: استعارة للمنع لأن من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم: محظور.
وحجر، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط، حتى أهمهم ذلك.
والمراضع: جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع. أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع يعنى الثدي أو الرضاع من قبل من قبل قصصها أثره. روى أنها لما قالت وهم له ناصحون قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون «2» والنصح:
إخلاص العمل من شائب الفساد، فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها والصبى على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكى يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إنى امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتى بصبى إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله وعده في الرد، فعندها ثبت واستقر في علمها أن سيكون نبيا. وذلك قوله ولتعلم أن وعد الله حق يريد. وليثبت علمها ويتمكن. فإن قلت: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟
__________
(1) . قوله «متجانفة مخاتلة» متجانفة: أى مائلة. ومخاتلة: أى مخادعة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إنهم اتهموها لما قالت وهم له ناصحون بمعرفة موسى عليه السلام، فقالت إنما أردت وهم للملك فرعون ناصحون، فخلصت من التهمة» قال أحمد: أوردت هذه التورية استحسانا لفطنتها، ولكونها من بيت النبوة، وأخت النبي، فحقيق لها ذلك.

(3/396)


ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (14)

قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربى كانت تأخذه على وجه الاستباحة. وقوله ولكن أكثرهم لا يعلمون داخل تحت علمها. المعنى: لتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون. ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها: يا أم موسى، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجرى، ثم ذهبت فتوليت قتله، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت: وقع في يد العدو، فنسيت وعد الله. ويجوز أن يتعلق ولكن بقوله ولتعلم ومعناه: أن الرد إنما كان لهذا الغرض الديني، وهو علمها بصدق وعد الله. ولكن الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلى الذي ما سواه تبع له:
من قرة العين وذهاب الحزن.

[سورة القصص (28) : آية 14]
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (14)
واستوى واعتدل وتم استحكامه، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه، كما قال لقيط:
واستحملوا أمركم لله دركمو ... شزر المريرة لا قحما ولا ضرعا «1»
وذلك أربعون سنة: ويروى: أنه لم يبعث نبى إلا على رأس أربعين سنة «2» . العلم. التوراة.
والحكم: السنة. وحكمة الأنبياء: سنتهم. قال الله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
__________
(1) . للقيط. وروى: واستحكموا. والشزر: القتل الشديد، والشيء الشديد، فهو مصدر أو وصف، والمريرة من المرة وهي القوة. والمرير: الحبل المحكم الفتل. والقحم: الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع: اللين الذليل، من الضراعة وهي الذلة والخضوع، يقول: قلدوا أمر خلافتكم رجلا محكم العزيمة قوى الهمة، لا هرما مختل الرأى ولا ضعيفا، ولله دركم: جملة اعتراضية، أى: لله خيركم وصالح عملكم. وقيل: هذا البيت ملفق مما رواه أبو العباس المبرد في كامله، ومنه:
فقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا
ورحب الذراع: طويل الباع واسع الصدر، أى: شجاع جواد، واضطلع بكذا: قوى عليه واشتد، من الضلاعة وهي القوة واحتمال الثقيل، وشطرت الناقة شطرا: حلبت شطر لبنها وتركت شطره، أى: نصفه وما هنا مستعار منه، أى: جربت الدهر ومرت بى ضروبه من خير وشر، فاكتسبت منه ما يصح به رائي. والأشطر: جمع شطر بدل من الدهر. ويجوز أن حلب يتعدى إلى مفعولين ولو بالتضمين. ومتبع الأول: اسم مفعول، والثاني: اسم فاعل، أى: تارة تابع، وتارة متبوع. واستمرت مريرته: قوى عزمه واستحكم أمره على شزر، أى قوة وصدق همة،
(2) . لم أجده. [.....]

(3/397)


ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17)

وقيل: معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء، وسمتهم قبل البعث، فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه.

[سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 17]
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17)
المدينة: مصر. وقيل: مدينة منف من أرض مصر. وحين غفلتهم: ما بين العشاءين.
وقيل: وقت القائلة. وقيل: يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم. وقيل: لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم، فأخافوه، فلا يدخل قرية إلا على تغفل. وقرأ سيبويه: فاستعانه من شيعته ممن شايعه على دينه من بنى إسرائيل. وقيل: هو السامرى من عدوه من مخالفيه من القبط، وهو فاتون، وكان يتسخر الاسرائيلى لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. والوكز: الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: بجمع الكف. وقرأ ابن مسعود: فلكزه. باللام فقضى عليه فقتله. فإن قلت: لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه؟ قلت: لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل، فكان ذنبا يستغفر منه. عن ابن جريج: ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر بما أنعمت علي يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف، تقديره: أقسم بإنعامك على بالمغفرة لأتوبن فلن أكون ظهيرا للمجرمين «1» وأن يكون استعطافا، كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت على من المغفرة، فلن أكون- إن عصمتني- ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون. وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلى المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلى به مرة أخرى. يعنى: لم يقل: فلن أكون إن شاء الله. وهذا نحو قوله ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وعن عطاء: أن رجلا قال له: إن أخى يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال: فمن الرأس، يعنى
__________
(1) . قوله تعالى قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين قال أحمد: لقد تبرأ من عظيم، لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى: أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة، فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة أو برى لهم قلما فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.

(3/398)


فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين (19) وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20) فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (21)

من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري: قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث: «ينادى مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم» «1» وقيل معناه. بما أنعمت على من القوة، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك.
ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بنى إسرائيل.

[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 19]
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين (18) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين (19)
يترقب المكروه وهو الاستقادة منه، أو الإخبار وما يقال فيه، ووصف الإسرائيلى بالغى، لأنه كان سبب قتل رجل، وهو يقاتل اخر. وقرئ: يبطش، بالضم. والذي هو عدو لهما: القبطي لأنه ليس على دينهما، ولأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل. والجبار:
الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن:
وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله، ولما قال هذا: أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقى إلى فرعون، وهموا بقتله.

[سورة القصص (28) : آية 20]
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20)
قيل: الرجل: مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، ويسعى يجوز ارتفاعه وصفا لرجل، وانتصابه حالا عنه، لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله من أقصى المدينة وإذا جعل صلة لجاء، لم يجز في يسعى إلا الوصف. والائتمار: التشاور. يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر. والمعنى: يتشاورون بسببك لك بيان، وليس بصلة الناصحين.

[سورة القصص (28) : آية 21]
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (21)
__________
(1) . ذكره صاحب الفردوس من حديث أبى هريرة.

(3/399)


ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل (22) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27) قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28)

يترقب التعرض له في الطريق. أو أن يلحق.

[سورة القصص (28) : آية 22]
ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل (22)
تلقاء مدين قصدها ونحوها. ومدين: قرية شعيب عليه السلام، سميت بمدين بن إبراهيم، ولم تكن في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس: خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. وسواء السبيل وسطه ومعظم نهجه. وقيل: خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر، فما وصل حتى سقط خف قدمه.
وقيل: جاءه ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين.

[سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 28]
ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27)
قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل (28)
ماء مدين ماءهم الذي يستقون منه، وكان بئرا فيما روى. ووروده: مجيئه والوصول إليه وجد عليه وجد فوق شفيره ومستقاه أمة جماعة كثيفة العدد من الناس من أناس مختلفين من دونهم في مكان أسفل من مكانهم. والذود: الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان، لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي. وقيل: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما ما خطبكما ما شأنكما. وحقيقته: ما مخطوبكما، أى: مطلوبكما من الذياد، فسمى المخطوب خطبا،

(3/400)


كما سمى المشئون شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شأنت شأنه، أى: قصدت قصده. وقرئ لا نسقي. ويصدر. والرعاء، بضم النون والياء والراء. والرعاء: اسم جمع كالرخال والثناء «1» .
وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام كبير كبير السن فسقى لهما فسقى غنمهما لأجلهما. وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال. وقيل:
عشرة. وقيل: أربعون. وقيل: مائه، فأقله وحده. وروى أنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا: استق بها، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة، وروى غنمهما وأصدرهما. وروى أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما. وقيل: كانت بئرا أخرى عليها الصخرة. وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف. والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوة قلبه وقوة ساعده، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتى من البطش والقوة وما لم يغفل عنه، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب، ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم. فإن قلت: لم ترك المفعول غير مذكور في قوله يسقون وتذودان ولا نسقي «2» ؟ قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا، وكذلك قولهما لا نسقي حتى يصدر الرعاء المقصود فيه السقي لا المسقى. فإن قلت: كيف طابق جوابهما سؤاله قلت: سألهما عن سبب الذود فقالتا: السبب في ذلك أنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال «3» ومزاحمتهم، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به: أبلتا إليه عذرهما «4» في توليهما السقي بأنفسهما. فإن قلت: كيف ساغ لنبى الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لا بنتيه
__________
(1) . قوله «لا نسقي ويصدر والرعاء بضم النون والياء والراء ... الخ» يفيد أن القراءة المشهورة بفتح النون والياء وكسر الراء. والرخال: واحده رخل، وهي الأنثى من ولد الضأن. والثناء: عقال البعير ونحوه من حبل مثنى، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وتذودان ولا نسقي» لعل بعده سقطا تقديره: فسقى لهما، وعبارة النسفي: لا نسقي، و: فسقى. (ع)
(3) . قوله «لا نقدر على مساجلة الرجال» في الصحاح: «السجل» الدلو إذا كان فيه ماء. والمساجلة: المفاخرة بأن تصنع مثل صنعه في جرى أو سقى، وأصله من الدلو اه. (ع)
(4) . قوله «أبلتا إليه عذرهما» لعله تحريف، وأصله: أبدتا، كعبارة النسفي. (ع)

(3/401)


بسقى الماشية؟ قلت: الأمر في نفسه ليس بمحظور، فالدين لا يأباه. وأما المروءة، فالناس مختلفون في ذلك، والعادات متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة إني لأى شيء أنزلت إلي قليل أو كثير، غث أو سمين ل فقير «1» وإنما عدى فقير باللام، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. قيل: ذكر ذلك وإن خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال، ما سأل الله إلا أكلة. ويحتمل أن يريد: إنى فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلى من خير الدين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة: قال ذلك رضا بالبدل السنى، وفرحا به، وشكرا له، وكان الظل ظل سمرة على استحياء في موضع الحال، أى: مستحيية متخفرة «2» . وقيل. قد استترت بكم درعها. روى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان «3» قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما:
اذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: امشى خلفي وانعتى لي الطريق، فلما قص عليه قصته قال له. لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا. فإن قلت:
كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشى معها وهي أجنبية؟ قلت: أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مما شاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال، مع ذلك الاحتياط والتورع. فإن قلت: كيف صح له أخذ الأجر على البر والمعروف؟ قلت:
يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف. وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ. كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيف ويكرم خصوصا في دار نبى من أنبياء الله، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلبا للأجر. وقد روى ما يعضد كلا القولين: روى أنها لما قالت: ليجزيك، كره ذلك، ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض «4» ذهبا، ولا نأخذ على المعروف ثمنا. حتى قال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. وعن عطاء ابن السائب: رفع صوته بدعائه ليسمعهما، فلذلك قيل له: ليجزيك أجر ما سقيت، أى، جزاء سقيك. والقصص: مصدر كالعلل، سمى
__________
(1) . قوله «غث أو سمين لفقير» أى مهزول كما في الصحاح. والمراد: ردىء أو جيد. (ع)
(2) . قوله «أى مستحيية متخفرة» الخفر: شدة الحياء. ومنه جارية خفرة ومتخفرة، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وأغنامها حفل بطان» في الصحاح: ضرع حافل، أى ممتلئ لبنا. وفيه: بطن بالكسر يبطن بطنا:
عظم بطنه من الشيع. (ع)
(4) . قوله «لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا» في الصحاح «طلاع الشيء» : ملؤه. (ع)

(3/402)


به المقصوص. كبراهما: كانت تسمى صفراء، والصغرى: صفيراء. وصفراء: هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. وعن ابن عباس: أن شعيبا أحفظته الغيرة «1» فقال:
وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو، وأنه صوب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه. وقولها إن خير من استأجرت القوي الأمين كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعنى الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل، والحكمة أن تقول استأجره لقوته وأمانته «2» . فإن قلت: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن، والقوى الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله:
ألا إن خير الناس حيا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل «3»
__________
(1) . قوله «أن شعيبا أحفظته الغبرة» أى أغضبته، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت القوة والأمانة في القائم بأمرك فقد فرع بالك، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي ساقته سياق المثل والحكم عن أن تقول: فانه قوى أمين» قال أحمد: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للحشمة، وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه، وما أحسن ما أخذ الفاروق رضى الله تعالى عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوى، ففي مضمون هذه الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا أمينا يستعين به على ما كان بصدده رضى الله عنه. وهذا الإبهام- من ابنة شعيب صلوات الله عليه وسلامه- قد سلكته زليخا مع يوسف عليه السلام، ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل، حيث قالت لسيدها: ما جزاء من أراد بأملك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم، وهي تعنى ما جزاء يوسف بما أرادنى من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر أن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا، إيذانا بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر، يمنعها من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، والله أعلم.
(3) .
ألا إن خير الناس حيا وميتا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري إن عمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضا بكل ملمة ... ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل
لأبى الشغب العبسي، يتحزن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو. وخير الناس: أفعل تفضيل، مضاف إلى المعرف بأل، وهو اسم إن. وحيا وميتا، وروى هالكا: حالان منه. وأسير: خبر إن مضاف إلى ثقيف علم القبيلة. والعلم أعرف من المحلى بأل، فخبر إن المضاف إليه أعرف من اسمها المضاف للمحلى، ولا مانع منه مع اتحادا لما صدق الذي هو مراد المخبر. وعندهم في السلاسل: حال أو خبر بعد خبر. ولعمري: قسم، إن عمرتم: أى أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن. وأوطأتموه، أى: صيرتموه يطأ برجله الأرض كوطأة المتثاقل:
الحامل لشيء ثقيل، لجعل القيد في رجليه، فهو كناية عن ذلك لقد كان نهاضا جواب القسم، وجواب الشرط محذوف، أى: كان سريع القيام بكل نازلة ثقيلة، وكان معطي اللهى- بالفتح-: جمع لهاة، كحصى وحصاة، بمعنى اللحمة التي في أقصى الفم، لكنها هنا بمعنى الفم نفسه. والأوجه أنه بالضم جمع لهوة، كغرف: جمع غرفة بمعنى العطية من أى نوع كانت، غمرا: أى عطاء كثيرا غامرا، وكان كثير الزيادات في العطاء، وأجرى «معطي» مجرى المرفوع للوزن.

(3/403)


في أن العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبرا اسما، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. ومنه قولهم: أهون ما أعملت لسان ممخ «1» . وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف، في قوله عسى أن ينفعنا وأبو بكر في عمر. روى أنه أنكحه صفراء. وقوله هاتين فيه دليل على أنه كانت له غيرهما تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيرا، كقولك: أبوته إذا كنت له أبا، وثماني حجج ظرفه. أو من أجرته كذا، إذا أثبته إياه. ومنه: تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجركم الله ورحمكم «2» . وثماني حجج: مفعول به، ومعناه:
رعية ثماني حجج فإن قلت: كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ قلت: لم يكن ذلك عقدا للنكاح، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم «3» عليه، ولو كان عقدا لقال: قد أنكحتك ولم يقل: إنى أريد أن أنكحك. فإن قلت: فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم، ولا بد من تسليم ما هو مال؟ ألا ترى إلى أبى حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة «4» وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة، لأنه في الأول:
مسلم نفسه وليس بمال، وفي الثاني: هو مسلم مالا وهو العبد أو الدار، قلت: الأمر على مذهب أبى حنيفة على ما ذكرت. وأما الشافعي: فقد جوز التزوج على الإجارة لبعض الأعمال والخدمة،
__________
(1) . قوله «أهون ما أعملت لسان ممخ» في الصحاح: تمخيت من الشيء وأمخيت منه: إذا تبرأت منه اه، فلعل ممخ: اسم فاعل من أمخيت. (ع) [.....]
(2) . أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق أحمد بن الحسن بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن على عن آبائه إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عزى قال: «آجركم الله ورحمكم» وإذا هنأ قال: «بارك الله لكم وبارك عليكم» وله شاهد مرسل أخرجه ابن أبى شيبة من رواية ابن خالد الوالبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال له: «يرحمه الله ويأجركم» وفي الضعفاء لابن حبان عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى مسلما بذمي مات له، فقال: «آجرك الله وأعظم أجرك» وفي إسناده إسماعيل بن يحيى التيمي. وهو ساقط
(3) . قوله «ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه» لعله: ومواضعة (ع)
(4) . قال محمود: «نقل من مذهب أبى حنيفة منع النكاح على مثل خدمته بعينه، وجوازه على مثل خدمة عبده سنة، وفرق بأنه في الأولى سلم نفسه وليس بمال، وفي الثانية سلم عبده وهو مال. ونقل عن الشافعي جواز النكاح على المنافع المعلومة مطلقا» قال أحمد: ومذهب ملك على ثلاثة أقوال: المنع، والكراهة، والجواز.
والعجب من إجازة أبى حنيفة النكاح على منافع العبد، بخلاف منافع الزوج، مع أن الآية أجازت النكاح على منافع الزوج ولم تتعرض لغيره، وما ذاك إلا لترجيح المعنى الذي أشار إليه الزمخشري. أو تفريعا على أن لا دليل في شرع من قبلنا، أو غير ذلك، والله أعلم.

(3/404)


إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرا معلوما، ولعل ذلك كان جائزا في تلك الشريعة. ويجوز أن يكون المهر شيئا آخر، وإنما أراد أن يكون راعى غنمه هذه المدة، وأراد أن ينكحه ابنته، فذكر له المرادين، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى: إنى أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة. ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته به، ويجعل قوله على أن تأجرني ثماني حجج عبارة عما جرى بينهما فإن أتممت عمل عشر حجج فمن عندك فإتمامه من عندك. ومعناه: فهو من عندك لا من عندي، يعنى: لا ألزمكه ولا أحتمه عليك، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع، وإلا فلا عليك وما أريد أن أشق عليك بإلزام أتم الأجلين وإيجابه. فإن قلت: ما حقيقة قولهم: شققت عليه، وشق عليه الأمر؟ قلت: حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة: أطيقه، وتارة: لا أطيقه. أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعى غنمه، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين، من المناقشة في مراعاة الأوقات، والمداقة في استيفاء الأعمال، وتكليف الرعاة أشغالا خارجة عن حد الشرط، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس. ومنه الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي، فكان خير شريك لا يدارى ولا يشارى ولا يماري» «1» وقوله ستجدني إن شاء الله من الصالحين يدل على ذلك، يريد بالصلاح: حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب «2» . ويجوز أن يريد الصلاح على العموم.
ويدخل تحته حسن المعاملة، والمراد باشتراط مشيئة الله فيما وعد من الصلاح: الاتكال على توفيقه فيه ومعونته، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله، وإن شاء استعمل خلافه ذلك مبتدأ، وبيني وبينك خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد. ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتنى عليه قائم بيننا جميعا، لا نخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت على ولا أنت عما شرطت على نفسك. ثم قال: أى أجل من الأجلين قضيت: أطولهما الذي هو العشر، أو أقصرهما الذي هو الثمان فلا عدوان علي أى لا يعتدى على في طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت: معناه كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت
__________
(1) . أخرجه أبو داود، وابن ماجة من حديث السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي، فكنت خير شريك. لا تدارى ولا تمارى.
(2) . قوله «ووطأة الخلق ولين الجانب» في الصحاح: «شيء وطئ» : بين الوطاءة. (ع)

(3/405)


مستقر، وأن الأجلين على السواء: إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيى: إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعديا، وهو في نفى العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم على، ولا تبعة على. وفي قراءة ابن مسعود: أى الأجلين ما قضيت. وقرئ: أيما، بسكون الياء، كقوله:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما ... على من الغيث استهلت مواطره «1»
وعن ابن قطيب: عدوان، بالكسر. فإن قلت: ما الفرق بين موقعى «ما» المزيدة في القراءتين؟
قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، أى: زائدة في شياعها: وفي الشاذة تأكيدا للقضاء، كأنه قال: أى الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له. الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت «2» ، عدى بعلى لذلك. روى أن شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى. فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب، فمسها- وكان مكفوفا، فضن بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أن له شأنا. وقيل:
أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا. وقيل: أودعها شعيبا ملك في صورة رجل، فأمر بنته أن تأتيه بعصا، فأتته بها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة، فتبعه فاختصما فيها، ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع، فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى. وعن الحسن:
ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا. وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإن الكلأ وإن كان بها أكثر، إلا أن فيها تنينا «3» أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية. فلما أبصرها دامية
__________
(1) . للفرزدق. ونصر: هو ابن سيار ملك العراقين. والسما كان: كوكبان: السماك الأعزل لا نجم أمامه، والسماك الرامح أمامه نجوم، وأيهما أصله مشدد فسكن للضرورة، ثم يحتمل أنه نصب بدل مما قبله، وأنه معمول لمحذوف: أى لا أعلم أيهما وهو موصول. ويجوز أنه استفهام، وعليه فهو رفع على الابتداء، والضمير فيه راجع لنصر والسماكين، أى: ترقبت نصرا والسماكين أيهما استهلت مواطره على من الغيث، وأهل السحاب واستهل: اشتد انصبابه. والمواطر: السحائب. والغيث: المطر. وفي قرن نصر بالسماكين: دلالة على تشبيهه بهما في الخير وعلى الاستفهام، فهو من باب تجاهل العارف، وكذلك على نفى العلم.
(2) . قوله «والمهيمن والمقيت» أى: المقتدر، أو الحافظ. (ع)
(3) . قوله «إلا أن فيها تنينا» أى: ثعبانا. (ع)

(3/406)


فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين (30) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين (32)

والتنين مقتولا ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مس الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا، وقال له: إنى وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء»
، فأوحى إليه في المنام: أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فوفى له بشرطه

[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (30) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين (32)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الأجلين قضى موسى؟ فقال: أبعدهما وأبطأهما «2» .
وروى أنه قال: قضى أوفاهما، وتزوج صغراهما. وهذا خلاف الرواية التي سبقت. الجذوة- باللغات الثلاث. وقرئ بهن جميعا-: العود الغليظ، كانت في رأسه نار أو لم تكن، قال كثير:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذى غير خوار ولا دعر «3»
__________
(1) . قوله «كل أدرع ودرعاء» لعله «كل أردع وردعاء» وفي الصحاح: به ردع من زعفران أو دم، أى: لطخ وأثر.
وردعته بالشيء فارتدع، أى: لطخته به فتلطخ اه، فالأردع: شبيه المتلطخ بلون آخر. ولفظ الخازن: أبلق وبلقاء. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم من طريق ابن عيينة عن إبراهيم بن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس بهذا قلت. وإبراهيم مجهول. وقوله: وروى أنه قال قضى أوفاهما وتزوج من صغراهما: أخرجه الطبراني والبزار من طريق عويد بن أبى عمران الجونى عنه عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما، قال وسئل أى المرأتين تزوج؟ قال الصغرى منهما» وعويد ضعيف وفي ابن مردويه من حديث أبى هريرة رفعه «قال لي جبريل: إن سألك اليهودي: أى الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما وإن سألك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما» وفي إسناده سليمان الشاذكوني وهو ضعيف.
(3) . لابن مقبل. والحواطب: الجواري يطلبن الحطب، والالتماس- بحسب الأصل-: من اللمس.» ثم اتسع فيه. والجذل: الحطب الغليظ اليابس: والجذى: جمع جذوة بتثليث الجيم فيهما وهي العود الغليظ في رأسه نار أولا. والخوار: الضعيف. والخور معيب، إلا في قولهم: ناقة خوارة، أى كثيرة اللبن. ونخلة خوارة:
كثيرة الحمل. ودعر العود دعرا كتعب كثر دخانه، فهو دعر كحذر. والدعر أيضا: السوس والفساد. والدعار:
الفسق والخبث، وغير خوار: حال من جزل الجذى.

(3/407)


وقال:
وألقى على قبس من النار جذوة ... شديدا عليه حرها والتهابها «1»
من الأولى والثانية لابتداء الغاية، أى: أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة.
ومن الشجرة بدل من قوله: من شاطئ الوادي، بدل الاشتمال، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، كقوله تعالى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم وقرئ: البقعة بالضم والفتح.
والرهب بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون: وهو الخوف. فإن قلت: ما معنى قوله واضمم إليك جناحك من الرهب؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: أن موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية: فزع واضطرب، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له:
إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة «2» عند الأعداء. فإذا ألقيتها فكما تنقلب «3» حية، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح: اليد، لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر. وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. والثاني: أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه. وتشدده عند انقلاب العصاحية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما. وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن كاتبا له كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك، واضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك «4» ، فإنى ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي. ومعنى قوله من الرهب من أجل الرهب، أى: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك: جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: واضمم إليك جناحك، وقوله اسلك يدك في جيبك على أحد التفسيرين: واحد. ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء
__________
(1) . الجذوة في الأصل، العود الغليظ في رأسه نار أولا، ولكن خصها الوصف بما في رأسه نار، ثم إنها استعارة تصريحية للرمح أو للسيف، والحر والالتهاب: ترشيح لها. وشديد: خبر المبتدأ الذي بعده.
(2) . قوله «فيه غضاضة» أى: ذلة ومنقصة، كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فكما تنقلب حية» أى: فعند ما تنقلب. (ع) [.....]
(4) . قوله «وليفرخ روعك» أى ليذهب فزعك. أفاده الصحاح. (ع)

(3/408)


قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34)

وفي الثاني: إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه، وذلك قوله واضمم إليك جناحك وقوله واضمم يدك إلى جناحك فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم. هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه: اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما: جناح. ومن بدع التفاسير: أن الرهب: الكم، بلغة حمير وأنهم يقولون: أعطنى مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل «1» كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة «2» من صوف لا كمى لها فذانك قرئ مخففا ومشددا، فالمخفف مثنى ذاك. والمشدد مثنى ذلك، برهانان حجتان بينتان نيرتان. فإن قلت: لم سميت الحجة برهانا؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء. برهرهة، بتكرير العين واللام معا. والدليل على زيادة النون قولهم:
أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. ونظيره تسميتهم إياها سلطانا من السليط وهو الزيت، لإنارتها.

[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 34]
قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34)
يقال: ردأته: أعنته. والردء: اسم مايعان به، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن جندل:
وردئى كل أبيض مشرفي ... شحيذ الحد عضب ذى فلول «3»
وقرئ: ردا على التخفيف، كما قرئ: الخب ردءا يصدقني بالرفع والجزم صفة وجواب، نحو وليا يرثني سواء. فإن قلت: تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي
__________
(1) . قوله «وكيف تطبيقه المفصل» لعله تطبيقه على المفصل (ع)
(2) . قوله «زرمانقة من صوف» في الحديث: أن موسى عليه السلام لما أتى فرعون أتاه وعليه زرمانقة، يعنى: جبة صوف. قال أبو عبيد: أراها عبرانية، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . لسلامة بن جندل. يقول: وردئى الذي أتوقى به المكاره كل سيف أبيض، وعبر بكل، لأن المراد بيان الجنس لا الشخص، مشرفي: نسبة إلى مشارف اليمن قرى منها، وقيل: من الشام، شحيذ الحد: مرهفه، من شحذ المدية: حددها. عضب: قاطع، والفلول: جمع فل- بالفتح: وهو كسر في حد السيف وانثلام، أى:
به فلول من قراع الكتائب.

(3/409)


قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)

، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإن سحبان وباقلا «1» يستويان فيه، أو يصل جناح كلامه بالبيان، حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه، فأسند التصديق إلى هرون، لأنه السبب فيه إسنادا مجازيا. ومعنى الإسناد المجازى: أن التصديق حقيقة في المصدق، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق، ولكن استعير له الإسناد لأنه لا بس التصديق بالتسبب كما لا بسه الفاعل بالمباشرة. والدليل على هذا الوجه قوله: إني أخاف أن يكذبون وقراءة من قرأ: ردءا يصدقوني. وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني.

[سورة القصص (28) : آية 35]
قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)
العضد: قوام اليد، وبشدتها تشتد. قال طرفة:
أبنى لبينى لستمو بيد ... إلا يدا ليست لها عضد «2»
ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك. وفي ضده، فت الله في عضدك. ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به ونعينك، فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد. والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور. وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة سلطانا غلبة وتسلطا. أو حجة واضحة بآياتنا متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات، أى اذهبا بآياتنا. أو بنجعل لكما سلطانا، أى: نسلطكما بآياتنا. أو بلا يصلون، أى: تمتنعون منهم بآياتنا. أو هو بيان للغالبون لا صلة، لامتناع تقدم الصلة على الموصول. ولو تأخر: لم يكن إلا صلة له. ويجوز أن يكون قسما جوابه:
لا يصلون، مقدما عليه. أو من لغو القسم.
__________
(1) . قوله «فان سحبان وباقلا يستويان فيه» مثل في الفصاحة. وباقل: مثل في الفهاهة والعي. (ع)
(2) .
أبنى لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
أبنى لبينى لا أحقكم ... وجد الاله بكم كما أجد
لطرفة بن العبد. وقيل: لأوس بن حجر. والهمزة للنداء. ولبينى: اسم أمة كناية عن أنهم أرقاء. واليد استعارة تصريحية للأقوياء. أو تشبيه بليغ، أى: لستم مثل يد من الأيدى في القوة، إلا مثل يد لا عضد لها، فهي صعبة. ويروى إلا يدا مخبولة العضد، يقال: خبلت يده أشللتها، ففي القافية الاقواء، وفيه استتباع الذم بما يشبه المدح للمبالغة في الذم، وكرر النداء لزيادة التعبير، وحقه يحقه: خصمه يخصمه، وأثبته، وأوجبه أيضا، أى: لا أثبتكم. أو لستم أهلا لمخاصمتى إياكم. ووجد عليه: غضب. ووجد به: حزن، أى: غضب الله بسيبكم كما أغضب أنا. أو كرهكم كما يكره الحزين ما يحزنه. وهذا دعاء عليهم بالإهلاك.

(3/410)


فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (37)

[سورة القصص (28) : آية 36]
فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36)
سحر مفترى سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله في آبائنا حال منصوبة عن هذا، أى: كائنا في زمانهم وأيامهم، يريد: ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، وقد سمعوا وعلموا بنحوه. أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به. وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها.

[سورة القصص (28) : آية 37]
وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (37)
يقول: ربي أعلم منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى: يعنى نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غنى حكيم لا يرسل الكاذبين، ولا ينئى الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن وقوله وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف، فإذا عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار «1» . وقرأ ابن كثير: قال موسى بغير
__________
(1) . قال محمود: «العاقبة هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله عز وجل أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن وقوله وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار والمراد دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت. قال: فان قلت العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله، كما قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف، لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من تحريف الفجار» قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي يحتاج إلى تجديده هاهنا: أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم، مثل قوله ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية. والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين. ومن ذلك ما يروى عن الفاروق رضى الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغبرة ذرء النار، أى: خلقها، فلئن دلت آية الذاريات ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له، فقد دلت آية الأعراف على أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم.
وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وإن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي، جمعا بين الأدلة، فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى: هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجيء العاقبة المطلقة كثيرا وإرادة الخير بها: أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم، ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير، ومكنهم منها، وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها، وأن يتخذوها نصب أعينهم، فأطلقت العاقبة والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم. والحاصل: أنها لما كانت هي المأمور بها والمحضوض عليها، عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من كثير من الخلق، وقال لي بعضهم: ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها، ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة، كقوله من تكون له عاقبة الدار، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار، والعاقبة للمتقين فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير، إذ هي لهم وعاقبة السوء عليهم لا لهم، كما يقولون: الدائرة لفلان، يعنون: دائرة الظفر والنصر. والدائرة على فلان، يعنون:
دائرة الخذلان والسوء، فقلت: لقد كان لي في ذلك مقال لولا ورود أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ولم يقل عليهم، فاستعمال اللام مكان «على» دليل على إيفاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، والله أعلم.

(3/411)


وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38)

واو، على ما في مصاحف أهل مكة، وهي قراءة حسنة، لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة: سحرا مفترى. ووجه الأخرى:
أنهم قالوا ذلك، وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر:
وبضدها تتبين الأشياء «1»
وقرئ تكون: بالياء والتاء.

[سورة القصص (28) : آية 38]
وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38)
__________
(1) .
من يظلم القرناء في تكليفهم ... أن يصبحوا وهم له أكفاء
ويذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتميز الأشياء
لأبى الطيب المتنبي، بمدح هارون بن عبد العزيز، أى: أنه تظلم أقرانه في تكليفهم أن يكونوا مساوين له، وفي ذلك مشقة عليهم: كناية عن أنه لا يساويه أحد. وقوله: وبضدها إلى آخره: دليل على ما قبله. ويروى:
تتبين الأشياء، والمعنى واحد، أى: الأشياء تعرف بمعرفة معنى أضدادها.

(3/412)


روى أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبنى، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. ويروى في هذه القصة: أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء، فأراد الله أن يفتنهم فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه، والله أعلم بصحته. قصد بنفي علمه بإله غيره: نفى وجوده، معناه:
ما علمت لكم من إله غيري كما قال الله تعالى قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض معناه بما ليس فيهن، وذلك لأن العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود. فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده. وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده «1» . ويجوز أن يكون على ظاهره، وأن إلها غيره غير معلوم عنده،
__________
(1) . قال محمود: «عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم، وإنما كان كذلك لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو عليه إن موجودا فموجود وإن معدوما فمعدوم، فمن ثم عبر عن نفى كونه موجودا بنفي كونه معلوما» قال أحمد:
لشدة ما بلغ منه الوهم، لم يتأمل كيف سقوط السهم، وإنما أتى من حيث أن الله تعالى عبر كثيرا عن نفى المعلوم بنفي العلم في مثل قوله: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض، أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض، فلما اطرد ذلك عنده توهم أن هذا التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم يشمل كل علم، ولو لم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، وليس هو كذلك، بل هذا التعبير لا يسوغ إلا في علم الله تعالى لأمر يخص العلم القديم وهو عموم تعلقه حتى لا يعزب عنه أمر، فما لم يتعلق العلم بوجوده يلزم أن لا يكون موجودا، إذ لو كان موجودا لتعلق به بخلاف علم الخلق، فلا تلازم بين نفى الشيء ونفى العلم الحادث بوجوده، ولا كذلك العلم القديم، فان بين نفى معلومه ونفى تعلقه بوجوده تلازما سوغ التعبير المذكور، ولكن المعلوم أن فرعون كان يدعى الالهية ويعامل علمه معاملة علم الله تعالى في أنه لا يعزب عنه شيء، فمن ثم طغى وتكبر. وعبر بنفي علمه عن نفى المعلوم، تدليسا على ملئه، وتلبيسا على عقولهم السخيفة- والله أعلم- ويناسب تعاظمه هذا قوله فأوقد لي يا هامان على الطين ولم يقل: فاطبخ لي آجرا، وذلك من التعاظم، كما قال تعالى- وله العظمة والكبرياء، ومن ارتدى بردائهما قصمه-: ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية فذكر هذه العبارة الجامعة لأنواع الكفر على وجه الكبرياء تهاونا بها، وذلك من تجبر الملوك- جل الله وعز- ومن تعاظم فرعون أيضا: نداؤه لوزيره باسمه، وبحرف النداء وتوسيط ندائه خلال الأمر، وبناؤه الصرح ورجاؤه الاطلاع: دليل على أنه لم يكن مصمما على الجحود. قال الزمخشري: وذلك مناقض لما أظهر من الجحد الجازم في قوله ما علمت لكم من إله غيري فاما أن يخفى هذا التناقض على قومه لغباوتهم وكآبة أذهانهم. وإما أن يتفطنوا لها ويخافوا نقمته فيصروا. قال أحمد: ولقائل- والله أعلم- أن يحمل قوله ما علمت لكم من إله غيري على الشك، ونفى علمه خاصة، وإجرائه مجرى سائر علوم الخلق في أنه لا يلزم من نفى تعلقه بوجود أمر نفى ذلك الأمر، لجواز أن يكون موجودا عازبا عن علمه. وحينئذ لا يكون تناقضا، ولو لم يكن حمله هذا هو الأصل لما سوغنا أن يرفع التناقض عن كلامه، لأنه أحقر من ذلك.

(3/413)


ولكنه مظنون بدليل قوله وإني لأظنه من الكاذبين، وإذا ظن موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا، فقد ظن أن في الوجود إلها غيره، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر لما تكلف ذلك البنيان العظيم، ولما تعب في بنائه ما تعب، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض. ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم: من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه، وليت شعري، أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك سن عقولهم، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صح ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم، فنهكم به بالفعل، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة. ويجوز أن يفسر الظن على القول الأول باليقين، كقوله:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج «1»
ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم.
أو لم تخف عليهم، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه، وإنما قال فأوقد لي يا هامان
__________
(1) .
وكل تباريح المحب لقيتها ... سوى أنثى لم ألق حتفي بمرصدى
نصحت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بنى السوداء والقوم شهدى
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارس المسرد
لدريد بن الصمة، ينذر قومه بهجوم العدو. ودريد: هو معاوية بن الحرث بن بكر بن علقمة الجثمى: قتل مشركا يوم حنين، أى: كل الشدائد التي يلقاها المحب من محبوبه لقيتها. والحتف: الهلاك. والمرصد، والمرصاد:
الطريق، وفي إضافته لنفسه معنى لطيف، أى: لم أسلك طريقا فيه حتف لي، بل أسلك غيره فطر بقي لا ضرر فيه. ونصحه ونصح له: خلص وصفا. والشهد- بالتشديد: جمع شاهد. ودججه تدجيجا: غطاه تغطية. والدجة- بالتشديد-: الظلمة. والدج: المشي بتؤدة. والمدجج: التام السلاح. وقيل: هو بالفتح: الفرس، وبالكسر:
الفارس. والسراة: السادة الأشراف بفتح السين، وهي في الأصل: أعلى ظهر الحيوان، فاستعيرت لهم، وقد تضم، فوزنها «فعلة» جمع سرى وزن فعيل على غير قياس، إذ قياسه أفعلاء، وهو في الأصل: النهر الصغير:
استعير للخير الرئيس، والفارس: الدروع المعمولة بفارس. والسرد والتسريد: متابعة النسج، يقول: أيقنوا بهجوم جيش عظيم. والألفان: كناية عن الكثرة، أى: جيش كثير مغطى بالسلاح، أشرافه في الدروع الفارسية المتتابعة النسج. والظرفية دالة على سبوغ الدروع لهم. ويروى المسود بالواو وليس بذاك.

(3/414)


واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين (42)

على الطين ولم يقل: اطبخ لي الآجر واتخذه، لأنه أول من عمل الآجر، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا فى وسط الكلام: دليل التعظيم «1» والتجبر. وعن عمر رضى الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال:
ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون. والطلوع والإطلاع: الصعود. يقال: طلع الجبل وأطلع: بمعنى.

[سورة القصص (28) : الآيات 39 الى 40]
واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40)
الاستكبار بالحق: إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر على الحقيقة، أى: المتبالغ في كبرياء الشأن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في النار» «2» . وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق يرجعون بالضم والفتح فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه. شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم «3» ، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير، بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر. ونحو ذلك قوله وجعلنا فيها رواسي شامخات، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره، وأن كل مقدور وإن عظم وجل، فهو مستصغر إلى جنب قدرته.

[سورة القصص (28) : الآيات 41 الى 42]
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين (42)
فإن قلت: ما معنى قوله وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار؟ قلت: معناه: ودعوناهم أئمة
__________
(1) . قوله «دليل التعظيم» لعله التعظيم. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وأبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم مقابلة لاستكباره بفعل عبر عنه بما صورته أخذ حصيات ممتهنات، ثم نبذها، أى: طرحها في اليم بهوان، فذلك تمثيل لاستهانته به وإهلاكه بهذا النوع من الهلاك. والله أعلم.

(3/415)


ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون (43)

دعاة إلى النار «1» ، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا، إذا دعاه وقال: إنه بخيل وفاسق «2» . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا. ومنه قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ويوم القيامة لا ينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة. ويجوز: خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان:
منع الألطاف، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغنى عنه الآيات والنذر، ومجراه مجرى الكناية، لأن منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره:
التصميم نفسه، فكأنه قيل: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته.
فإن قلت: فأى فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت: ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده، فيكون أقوى لإثباته من ذكره. ألا ترى أنك تقول: لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة، وهو قيام الحجة على وجوده.
وينصر هذا الوجه قوله ويوم القيامة لا ينصرون كأنه قيل. وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون، كما قال وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة أى طردا وإبعادا عن الرحمة ويوم القيامة هم من المقبوحين أى من المطرودين المبعدين.

[سورة القصص (28) : آية 43]
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون (43)
بصائر نصب على الحال. والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يريد: آتيناه التوراة أنوارا للقلوب، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف
__________
(1) . قوله «ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار» هذا التأويل وما يأتى بعده في قوله: ويجوز خذلناهم ... إلى آخره:
مبنيان على أنه تعالى يجب عليه الصلاح ولا يجوز عليه خلق الشر، وهذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة فهو أنه لا يجب عليه تعالى شيء، ويجوز عليه خلق الشر كالخير. وقد حقق في التوحيد فلا داعى إلى تأويل الآية بمثل هذا التكلف. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «معناه دعوناهم أئمة دعاة إلى النار، كما تقول: جعلته بخيلا فاسقا إذا دعوته بذلك» قال أحمد: لا فرق عند أهل السنة بين قوله تعالى وجعل الظلمات والنور، وجعلنا الليل والنهار آيتين وبين هذه الآية، فمن حمل الجعل على التسمية فيما نحن فيه فرارا من اعتقاد أن دعاءهم إلى النار مخلوق لله تعالى، فهو بمثابة من حمله على التسمية في قوله تعالى «وجعلنا الليل والنهار آيتين» : فرارا من جعل الليل والنهار مخلوقين لله تعالى، فلا فرق بين نفى مخلوق واحد عن قدرته تعالى ونفى كل مخلوق، نعوذ بالله من ذلك.

(3/416)


وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45)

حقا من باطل. وإرشادا، لأنهم كانوا يخبطون في ضلال ورحمة لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة لعلهم يتذكرون إرادة أن يتذكروا. شبهت الإرادة بالترجى فاستعير لها.
ويجوز أن يراد به ترجى موسى عليه السلام «1» لتذكرهم، كقوله تعالى لعله يتذكر.

[سورة القصص (28) : آية 44]
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (44)
الغربي المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضى إلى موسى عليه السلام: الوحى الذي أوحى إليه، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحى إليه، أو على الوحى إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته. وكتبة التوراة له في الألواح، وغير ذلك.

[سورة القصص (28) : آية 45]
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45)
فإن قلت: كيف يتصل قوله ولكنا أنشأنا قرونا بهذا الكلام؟ ومن أى وجه يكون استدراكا له؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا له، من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول على آخرهم: وهو القرن الذي أنت فيهم العمر أى أمد انقطاع الوحى واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك «2» العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحينا إليك. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة، ودل به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته، فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده وما كنت ثاويا أى مقيما في أهل مدين وهم شعيب والمؤمنون به تتلوا عليهم آياتنا تقرؤها عليهم تعلما منهم، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه،
__________
(1) . قال محمود: «معناه إرادة تذكرهم، لأن الارادة تشبه الترجي، فاستعير لها. أو يراد به ترجى موسى عليه السلام» قال أحمد: الوجه الثاني هو الصواب، واحذر الأول فانه قدرى.
(2) . قوله «وكسبناك العلم» كسب يتعدى إلى مفعولين، فيقال: كسبت أهلى خيرا، وكسبت الرجل مالا، كما في الصحاح. (ع)

(3/417)


وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47)

ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.

[سورة القصص (28) : آية 46]
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46)
إذ نادينا يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك رحمة وقرئ: رحمة، بالرفع: أى هي رحمة ما أتاهم من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه قوله لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم.

[سورة القصص (28) : آية 47]
ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47)
لولا الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، وإحدى الفاءين للعطف، والأخرى جواب لولا، لكونها في حكم الأمر، من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي: هلا أرسلت إلينا رسولا، محتجين علينا بذلك: لما أرسلنا إليهم، يعنى: أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها، كقوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك. فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية «1» ، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم
__________
(1) . قال محمود: «لولا الأولى امتناعية، والثانية تحضيضية. والفاء الأولى عاطفة والثانية جواب لولا.
والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، محتجين بذلك لما أرسلت إليهم أحدا. فان قلت:
كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة سببا في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟
قلت: العقوبة سبب القول، وهي سبب السبب، فجعلت سببا وعطف السبب الأصلى عليها بالفاء السببية» قال أحمد:
وذلك مثل قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى والسر في جعل سبب السبب سببا، وعطف السبب الأصلى عليه أمران، أحدهما: أن مزيد العناية يوجب التقديم، وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه. الثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما: أما الأول فلاقترانه بحرف التعليل، وهو «أن» وأما الثاني، فلاقترانه بفاء السبب، ولا يتعاطى هذا المعنى إلا من قولك أن تضل إحداهما فتذكر لا من قول القائل: أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت، وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من المتكلمين، فيقول: «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها، وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال، لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة، فيشكل الواقع بعدها على أهل السنة، لأنهم يقولون: لا ظلم قبل بعثه الرسل، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة، وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع، فان لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة، لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه، ثم كان مورد هذا الاشكال يجيب عنه بتقدير محذوف. والأصل: ولولا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الاشكال عن الطائفتين.
والتحقيق عندي في الجواب خلاف ذلك، وإنما جاء الاشكال من حيث عدم تجويز النحاة لمعنى لولا أن يقولون:
أنها تدل على أن ما بعدها موجود وأن جوابها ممتنع به، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها، عكس «لو» فان معناها لزوم جوابها لما بعدها، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا، والآية من قبيل فرض وجود المانع، وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين، فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه. وعلى هذا التحرير يزول الاشكال الوارد على «لو» في قوله: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فتأمل هذا الفصل فتحته فوائد للمتأمل، والله الموفق.

(3/418)


فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون (48)

مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة: وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين: لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى، كقوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدى: جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدى وتقديم الأيدى وإن كان من أعمال القلوب، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعا للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل.

[سورة القصص (28) : آية 48]
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون (48)
فلما جاءهم الحق وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسد طريق احتجاجهم قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة، ومن قلب العصاحية وفلق البحر وغيرهما من الآيات، فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وما أشبه ذلك أولم يكفروا يعنى أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن

(3/419)


قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50)

موسى عليه السلام بما أوتي موسى وعن الحسن رحمه الله: قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم قالوا في موسى وهرون سحران تظاهرا أى تعاونا. وقرئ إظهارا على الإدغام. وسحران، بمعنى: ذوا سحر. أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر. أو أرادوا نوعان من السحر بكل بكل واحد منهما.
فإن قلت: بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير؟ قلت: بأ ولم يكفروا، ولي أن أعلقه بأوتي، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
ساحران تظاهرا. أو في الكتابين: سحران تظاهرا، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبروهم أنه نعته وصفته، وأنه في كتابهم، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: ساحران تظاهرا.

[سورة القصص (28) : آية 49]
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (49)
هو أهدى منهما مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل على. هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته، لأن امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشك. ويجوز أن يقصد بحرف الشك: التهكم بهم.

[سورة القصص (28) : آية 50]
فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50)
فإن قلت: ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية، وبينه في قوله:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «1»
حيث عدى بغير اللام؟ قلت: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال، استجاب الله دعاءه أو استجابة له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاءه، على حذف المضاف. فإن قلت:
فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء هاهنا. قلت: قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه، فكأنه قال: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، ثم قال ومن أضل ممن لا يتبع في
__________
(1) . قوله «فلم يستجبه عند ذاك مجيب» صدره:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
اه عليان.
قلت: وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 456 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/420)


ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (55)

دينه إلا هواه بغير هدى من الله أى مطبوعا على قلبه ممنوع الألطاف إن الله لا يهدي أى لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث. وقوله بغير هدى في موضع الحال، يعنى: مخذولا مخلى بينه وبين هواه.

[سورة القصص (28) : آية 51]
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51)
قرئ وصلنا بالتشديد والتخفيف. والمعنى: أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ ونصائح: إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. أو نزل عليهم نزولا متصلا بعضه في أثر بعض، كقوله وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين.

[سورة القصص (28) : آية 52]
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون (52)
نزلت في مؤمنى أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقيل: في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل: اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة، وثمانية من الشام.
والضمير في من قبله للقرآن.

[سورة القصص (28) : آية 53]
وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53)
فإن قلت: أى فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت: الأول تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني: بيان لقوله آمنا به لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، لأن آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم من قبله من قبل وجوده ونزوله مسلمين كائنين على دين الإسلام، لأن الإسلام صفة كل موحد مصدق للوحى.

[سورة القصص (28) : آية 54]
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون (54)
بما صبروا بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن. أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله. أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. ونحوه يؤتكم كفلين من رحمته، بالحسنة السيئة بالطاعة المعصية المتقدمة. أو بالحلم الأذى.

[سورة القصص (28) : آية 55]
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (55)

(3/421)


إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57)

سلام عليكم توديع ومتاركة. وعن الحسن رضى الله عنه: كلمة حلم من المؤمنين لا نبتغي الجاهلين لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت: من خاطبوا بقولهم ولكم أعمالكم؟ قلت:
اللاغين الذين دل عليهم قوله وإذا سمعوا اللغو.

[سورة القصص (28) : آية 56]
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)
لا تهدي من أحببت لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف ننفع فيه، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول وهو أعلم بالمهتدين بالقابلين من الذين لا يقبلون. قال الزجاج:
أجمع المسلمون أنها نزلت في أبى طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بنى هاشم، أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخى؟ قال: أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا: أن تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله. قال: يا ابن أخى، قد علمت إنك لصادق، ولكنى أكره أن يقال: خرع عند الموت «1» ، ولولا أن تكون عليك وعلى بنى أبيك غضاضة»
ومسبة بعدي، لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكنى سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف.

[سورة القصص (28) : آية 57]
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57)
قالت قريش «3» ، وقيل: إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك- وإنما نحن أكلة رأس، أى: قليلون- أن يتخطفونا من أرضنا، فألقمهم الله الحجر. بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون، وبحرمة البيت هم قارون بواد غير ذى زرع، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل
__________
(1) . قوله «أكره أن يقال خرع عند الموت» في الصحاح: خرع الرجل- بالكسر-: ضعف، فهو خرع. (ع)
(2) . قوله «غضاضة» أى: مذلة ومنقصة. (ع)
(3) . لم أجده، وقصة وفاة أبى طالب في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن ابنه بغير هذا السياق أو أخصر منه.

(3/422)


وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)

أوب، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوف والتخطف، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام. وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة، وإلى الحرم مجاز يجبى إليه تجلب وتجمع. قرئ:
بالياء والتاء. وقرئ: تجنى، بالنون، من الجنى. وتعديته بإلى كقوله: يجنى إلى فيه، ويجنى إلى الخافة «1» . وثمرات: بضمتين وبضمة وسكون. ومعنى الكلية: الكثرة كقوله وأوتيت من كل شيء، ولكن أكثرهم لا يعلمون متعلق بقوله من لدنا أى قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده.
فإن قلت: بم انتصب رزقا؟ قلت: إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله، لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء ويرزق ثمرات كل شيء: واحد، وأن يكون مفعولا له. وإن جعلته بمعنى: مرزوق، كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.

[سورة القصص (28) : آية 58]
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر، «2» فدمرهم الله وخرب ديارهم. وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله تعالى واختار موسى قومه وإما على الظرف بنفسها، كقولك: زيد ظنى مقيم «3» . أو بتقدير حذف الزمان المضاف، أصله: بطرت أيام معيشتها، كخفوق النجم، ومقدم الحاج: وإما بتضمين بطرت معنى:
كفرت وغمطت. وقيل: البطر سوء احتمال الغنى: وهو أن لا يحفظ حق الله فيه إلا قليلا من السكنى. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة ويحتمل أن شؤم معاصى المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا
__________
(1) . قوله «ويجنى إلى الخافة» في الصحاح «الخافة» : خريطة من أدم يشتار فيها بعسل. وفيه «يشتار» :
يجتنى. (ع)
(2) . قوله «فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر» أى بطروها وحقروها. والأشر والبطر: شدة المرح والمرح: شدة الفرح، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «كقولك زيد ظنى مقيم» أى: في ظنى. (ع)

(3/423)


وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)

قليلا وكنا نحن الوارثين لتلك المساكن من ساكنيها، أى: تركناها على حال لا يكنها أحد، أو خربناها وسويناها بالأرض.
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع «1»

[سورة القصص (28) : آية 59]
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)
وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت حتى يبعث في القرية التي هي أمها، أى:
أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، مع علمه أنهم لا يؤمنون، أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى- يعنى مكة- رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وقرئ: أمها، بضم الهمزة وكسرها لاتباع الجر، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم «2» ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين، كما قال تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون فنص في قوله بظلم أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، وأن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم.
__________
(1) .
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
لأبى الطيب حين دخل مصر ورأى الأهرام التي بناها الملك سورند. وقيل: سنان بن مشلشل. وقيل: إدريس عليه السلام. والهرمان: تثنية هرم- كسبب- وأراد بهما القريبين من مصر، ويومه: هو زمن ملكه، ويجوز أنه يوم موته، كما أن المصرع مكان الموت، والاستفهام عن هذا بعد الاستفهام عن قومه لاستحضار الصورتين والفرق بين الحالتين، ثم قال: تتخلف، أى: تتأخر الآثار من البنيان والأشجار وغير ذلك زمنا طويلا بعد أصحابها.
ثم يلحقها الفناء فتتبع أصحابها ولو طال زمن تخلفها. ويجوز أن المعنى: حينا قليلا، فالتنوين للتكثير أو التقليل.
(2) . قال محمود: «هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم حتى أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا العذاب ولا يستحقوا حتى تتأكد عليهم الحجة ببعثة الرسل» قال أحمد: هذا إسلاف من الزمخشري لجواب ساقط عن سؤال وارد على القدرية لا جواب لهم عنه، ينشأ السؤال في هذه الآية فيقال: لو كانت العقول تحكم عن الله تعالى بأحكام التكليف، لقامت الحجة على الناس وإن لم يكن بعث رسل، إذ العقل حاكم، فلا يجدون للخلاص من هذا السؤال سبيلا.

(3/424)


وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين (61) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (62)

[سورة القصص (28) : آية 60]
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60)
وأى شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل، وهي مدة الحياة المتقضية وما عند الله وهو ثوابه خير في نفسه من ذلك وأبقى لأن بقاءه دائم سرمد وقرئ: يعقلون، بالياء، وهو أبلغ في الموعظة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن، والمنافق، والكافر: فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.

[سورة القصص (28) : آية 61]
أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين (61)
هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها. والوعد الحسن: الثواب، لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق، وأى شيء أحسن منها، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى. ولاقيه كقوله تعالى. ولقاهم نضرة وسرورا، وعكسه فسوف يلقون غيا. من المحضرين من الذين أحضروا النار. ونحوه لكنت من المحضرين، فكذبوه فإنهم لمحضرون قيل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى جهل. وقيل: في على وحمزة وأبى جهل. وقيل: في عمار ابن ياسر والوليد بن المغيرة. فإن قلت: فسر لي الفاءين وثم، وأخبرنى عن مواقعها. قلت:
قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما، ثم عقبه بقوله أفمن وعدناه على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأما الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير. وأما «ثم» فلتراخى حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخى وقته عن وقته.
وقرئ ثم هو بسكون الهاء، كما قيل عضد في عضد، تشبيها للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في:
فهو، وهو، ولهو: أحسن لأن الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل.

[سورة القصص (28) : آية 62]
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (62)
شركائي مبنى على زعمهم، وفيه تهكم. فإن قلت: زعم يطلب مفعولين، كقوله:
... ولم أزعمك عن ذاك معزلا «1»
__________
(1) .
وإن الذي قد عاش يا أم مالك ... يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا
يقول. وإن كل حى- وإن طال عمره- يموت. ولم أظنك يا أم مالك معزلا عن ذلك الحكم أو الموت، والمعزل:
مكان العزلة والانفراد، أى: لم أظنك في معزل عنه، أو ذات معزل، أو معتزلة، أو نفس المقول مبالغة. [.....]

(3/425)


قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)

فأين هما؟ قلت: محذوفان، تقديره: الذين كنتم تزعمونهم شركائى. ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت، ولا يصح الاقتصار على أحدهما.

[سورة القصص (28) : آية 63]
قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63)
الذين حق عليهم القول الشياطين أو أئمة الكفر ورءوسه. ومعنى حق عليهم القول:
وجب عليهم مقتضاه وثبت، وهو قوله لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وهؤلاء مبتدأ، والذين أغوينا صفته، والراجع إلى الموصول محذوف، وأغويناهم الخبر.
والكاف صفة مصدر محذوف، تقديره: أغويناهم، فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون: أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أن فوقنا مغوين أغرونا بقسر منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغى وسولوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم، لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا وإلجاء، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر وداعيا إلى الإيمان. وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم والله تعالى قدم هذا المعنى أول شيء، حيث قال لإبليس إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. تبرأنا إليك منهم ومما اختاروه من الكفر بأنفسهم، هوى منهم للباطل ومقتا للحق، لا بقوة منا على استكراههم ولا سلطان ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم. وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.

[سورة القصص (28) : الآيات 64 الى 66]
وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون (66)
لو أنهم كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب. أو لو أنهم كانوا مهتدين

(3/426)


فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين (67) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (68)

مؤمنين، لما رأوه. أو تمنوا لو كانوا مهتدين. أو تحيروا عند رؤيته وسدروا «1» فلا يهتدون طريقا. حكى أولا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل فعميت عليهم الأنباء فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدى إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب. وقرئ:
فعميت، والمراد بالنبإ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم؟ قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب فما ظنك بالضلال من أممهم.

[سورة القصص (28) : آية 67]
فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين (67)
فأما من تاب من المشركين من الشرك، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح فعسى أن يفلح عند الله، و «عسى» من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد: ترجى التائب وطمعه، كأنه قال:
فليطمع أن يفلح.

[سورة القصص (28) : آية 68]
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (68)
الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير: تستعمل بمعنى المصدر هو التخير، وبمعنى المتخير كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه ما كان لهم الخيرة بيان لقوله ويختار لأن معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف. والمعنى: أن الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة:
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يعنى: لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وقيل: معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة، أى: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم، من قولهم في الأمرين: ليس فيهما خيرة لمختار. فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت: أصل الكلام: ما كان لهم فيه
__________
(1) . قوله «وسدروا» أى تحيروا. أفاده الصحاح. (ع)

(3/427)


وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)

الخيرة، فحذف «فيه» كما حذف «منه» في قوله إن ذلك لمن عزم الأمور لأنه مفهوم سبحان الله أى الله بريء من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار.

[سورة القصص (28) : الآيات 69 الى 70]
وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون (70)
ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله وحسده وما يعلنون من مطاعنهم فيه.
وقولهم: هلا اختير عليه غيره في النبوة وهو الله وهو المستأثر بالإلهية المختص بها، ولا إله إلا هو تقرير لذلك، كقولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلا هي. فإن قلت: الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت: هو قولهم الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده وقيل الحمد لله رب العالمين والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة. وفي الحديث: يلهمون التسبيح والتقديس «1» وله الحكم القضاء بين عباده.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73]
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)
أرأيتم وقرئ أريتم: بحذف الهمزة، وليس بحذف قياسي. ومعناه: أخبرونى من يقدر على هذا؟ والسرمد: الدائم المتصل، من السرد وهو المتابعة. ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد، وواحد فرد، والميم مزيدة. ووزنه فعمل. ونظيره. دلامص، من الدلاص «2» . فإن قلت:
هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه، كما قيل: بليل تسكنون فيه؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث جابر في أثناء حديث في صفة أهل الجنة: وفيه «يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» وفي رواية له «التسبيح والتكبير» .
(2) . قوله «ونظيره دلامص من الدلاص» في الصحاح، الدلاص: اللين البراق. والدلامص: البراق. يقال:
دلصت الدرع- بالفتح. (ع)

(3/428)


ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75) إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)

الشمس: لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره. وأنت من السكون ونحوه ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة:
لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم.

[سورة القصص (28) : آية 74]
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74)
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء: إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك، فأدخلنا في الناجين من وعيدك.

[سورة القصص (28) : آية 75]
ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75)
ونزعنا وأخرجنا من كل أمة شهيدا وهو نبيهم: لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه فقلنا للأمة هاتوا برهانكم فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول فعلموا حينئذ أن الحق لله ولرسوله، لا لهم ولشياطينهم وضل عنهم وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يفترون من الكذب والباطل.

[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)
قارون اسم أعجمى مثل هرون، ولم ينصرف للعجمة والتعريف، ولو كان فاعولا من قرن لانصرف. وقيل: معنى كونه من قومه أنه آمن به. وقيل، كان إسرائيليا ابن عم موسى:
هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وموسى بن عمران بن قاهث. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أقرأ بنى إسرائيل للتوراة، ولكنه

(3/429)


نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى عليه السلام، والمذبح والقربان إلى هرون فما لي؟ وروى: أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم- وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه- وجد قارون في نفسه وحسدهما، فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء، إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله قال: والله لا أصدق حتى تأتى بآية، فأمر رؤساء بنى إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحى ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فبغى عليهم من البغي وهو الظلم. قيل: ملكه فرعون على بنى إسرائيل فظلمهم. وقيل: من البغي وهو الكبر والبذخ: تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده. قيل: زاد عليهم في الثياب شبرا. المفاتح: جمع مفتح بالكسر: وهو ما يفتح به. وقيل هي الخزائن، وقياس واحدها: مفتح- بالفتح. ويقال: ناء به الحمل، إذا أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة والعصابة: مثلها. واعصوصبوا: اجتمعوا. وقيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على أصبع. وكانت من جلود. قال أبو رزين: يكفى الكوفة مفتاح، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ: الكنوز، والمفاتح، والنوء، والعصبة، وأولى القوة. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء. ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال، كقولك ذهبت أهل اليمامة. ومحل إذ منصوب بتنوء لا تفرح كقوله ولا تفرحوا بما آتاكم وقول القائل:
ولست بمفراح إذا الدهر سرنى «1»
وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن. وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب، لم تحدثه نفسه بالفرح. وما أحسن ما قال القائل:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا «2»
__________
(1) .
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أبتغى شرا إذا الشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
لهدبة بن خشرم لما قاده معاوية إلى الحرة ليقتص منه في زياد بن زيد العذرى، فلقيه عبد الرحمن بن حسان فاستنشده فأنشده ذلك. والمفراح: كثير الفرح. والمراد: نفى الفرح من أصله. وصرف الدهر: حدثانه. وإذا: شرطية فلا بد بعدها من فعل، أى: إذا كان الشر تاركي. وأحمل مبنى للمجهول، وأركب للفاعل. والمعنى: أنى جربت الدهر فإذا هو خئون، ومع ذلك لا أتضعضع.
(2) . لأبى الطيب، أى: أشد الغم عندي وقت السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، وهكذا سرور الدنيا كله.

(3/430)


قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78)

وابتغ فيما آتاك الله من الغنى والثروة الدار الآخرة بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه، وتجعله زادك إلى الآخرة ولا تنس نصيبك وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك وأحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك أو أحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك. والفساد في الأرض: ما كان عليه من الظلم والبغي. وقيل إن القائل موسى عليه السلام. وقرئ: واتبع.

[سورة القصص (28) : آية 78]
قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون (78)
على علم أى على استحقاق واستيجاب لما فى من العلم الذي فضلت به الناس، وذلك أنه كان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة. وقيل: هو علم الكيمياء. عن سعيد بن المسيب: كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نون ثلثه، وكالب بن يوفنا ثلثه، وقارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا.
وقيل: علم الله موسى علم الكيمياء، فعله موسى أخته، فعلمته أخته قارون. وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة «1» وسائر المكاسب. وقيل عندي معناه: في ظنى، كما تقول الأمر عندي كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ثم زاد عندي أى هو في ظنى ورأيى هكذا. يجوز أن يكون إثباتا لعلمه بأن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل أولم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك، لأنه لما قال: أوتيته على علم عندي، فتنفج بالعلم «2» وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين وأكثر جمعا للمال، أو أكثر جماعة وعددا. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى والله خبير بما تعملون، والله بما تعملون عليم وما أشبه ذلك.
__________
(1) . قوله «والدهقنة» أى الزراعة، كما عبر غيره. (ع)
(2) . قوله «فتنفج بالعلم» أى ترفع وتفاخر وتكبر. أفاده الصحاح. (ع)

(3/431)


فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81)

[سورة القصص (28) : آية 79]
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79)
في زينته قال الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان «1» وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية، بيض عليهن الحلي والديباج. وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رئي فيه المعصفر: كان المتمنون قوما مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر. وعن قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير. وقيل: كانوا قوما كفارا. الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه. والحاسد: هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ومن الحسد قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال «2» :
«لا إلا كما يضر العضاه الخبط «3» » والحظ: الجد، وهو البخت والدولة: وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت، يقال: فلان ذو حظ، وحظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود.

[سورة القصص (28) : الآيات 80 الى 81]
وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون (80) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81)
ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبا لك. وأصله الدعاء على الرجل بالإقراف «4» في الحث على الفعل. والراجع
__________
(1) . قوله «بغلة شهباء عليها الأرجوان» في الصحاح: قطيفة حمراء أرجوان. وفيه أيضا: الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة، ويقال: هو بالفارسية أرغوان، وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون. (ع)
(2) . ذكره ثابت السر قسطي في الغريب هكذا بغير إسناد. وأخرجه إبراهيم الحربي في الغريب من طريق ابن أبى حسين «أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيضر الناس الغبط؟ قال: نعم كما يضر العضاه الخبط» بهذا اللفظ أخرجه الطبراني من رواية أم الدرداء قالت: قلت يا رسول الله. فذكره، لكن قال «الشجر» بدل العضاه.
قال الحربي الغبط إرادة السعة. وقال ثابت: الغبط الحسد.
(3) . قوله «إلا كما يضر العضاه الخبط» في الصحاح «العضاه» : كل شجر يعظم وله شوك. وفيه «الخبط» :
ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. (ع)
(4) . قوله «الدعاء على الرجل بالإقراف» أى بفساد الأب. أفاده الصحاح. (ع)

(3/432)


في ولا يلقاها للكلمة التي تكلم بها العلماء، أو للثواب، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة، أو للسيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير. كان قارون يؤذى نبى الله موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بنى إسرائيل وقال: إن موسى أرادكم على كل شيء، وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، فمر بما شئت، قال:
نبرطل فلانة البغى حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار. وقيل: طستا من ذهب. وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبا. وقيل: حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال:
يا بنى إسرائيل، من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها موسى بالذي فلق البحر، وأنزل التوراة أن تصدق، فتداركها الله فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك لنفسي، فخر موسى ساجدا يبكى وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى إليه:
أن مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك. فقال: يا بنى إسرائيل، إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معنى فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم، وموسى لا يلتفت اليهم لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم «1» . وأوحى الله إلى موسى: ما أفظك: استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم، أما وعزتي لو إياى دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله من المنتصرين من المنتقمين من موسى عليه السلام، أو من الممتنعين من عذاب الله. يقال: نصره من عدوه فانتصر، أى: منعه منه فامتنع.
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبراني. من رواية على بن زيد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي. قال، فذكره موقوفا. ووصله الحاكم بذكر ابن عباس. قال «لما أتى موسى قومه أمرهم بالزكاة فجمعهم قارون. فذكره باختصار. قوله وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه، يعنى وقوع الرعب في قلوب جميع الناس يوم الموقف يمكن أن يستدل له بحديث الشفاعة الطويل. ففي المتفق عليه عن أبى هريرة في حديث الشفاعة قال «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. وفيه قول آدم وغيره: نفسي نفسي» وانفقا عليه من حديث أنس كذلك

(3/433)


وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)

[سورة القصص (28) : آية 82]
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)
قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة مكانه منزلته من الدنيا «وى» مفصولة عن «كأن» ، وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم. ومعناه:
أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون وتندموا ثم قالوا ويكأنه لا يفلح الكافرون أى: ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح، وهو مذهب الخليل وسيبويه. قال:
وى كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر «1»
وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وى كأنه وراء البيت. وعند الكوفيين أن «ويك» بمعنى: ويلك، وأن المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وى، كقوله:
...... ويك عنتر أقدم «2»
__________
(1) .
سألتانى الطلاق أن رأتا ... قل مالى قد جئتمانى بنكر
وى كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كل سر
لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي. وقيل: لسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. وقيل: لنبيه بن الحجاج بن عامر، قتل كافرا يوم بدر. وسألتانى بقلب الهمزة ألفا للوزن، وهي لغة قليلة، والضمير لزوجتيه، والطلاق مفعول ثان، وأن رأتا: أى لرؤيتهما، وقل: يحتمل أنه فعل ماض، فلا بد به من تقدير محذوف قبله به يتم الكلام، أى: لأن رأتانى قل مالى. أو لرؤيتهما أنى قل مالى. ويحتمل أنه اسم بمعنى قليل، ولا حذف في الكلام، فالمعنى: لأن رأتا قليل مالى، أى: مالى القليل، والتفت من الغيبة إلى خطابهما بقوله: قد جثتمانى بنكر، أى: منكر. وفيه معنى التعجيب من حالهما، و «وى» : اسم فعل للتعجب، وقيل: لفظه تيقظ وتندم، وكأن:
للظن أو للتحقيق، كما أجازه الكوفيون، وهي مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقيل: لا اسم للمخففة.
والنشب: المال. ويعش عيش ضر، أى: يبغض. والنجي- بالتشديد-: المناجى، أى: المتكلم بالسر.
ويجنب: مبنى للمجهول. وسر: مفعوله الثاني. وأخا المال: صاحب المال. ومحضر: اسم مفعول، وكل:
مفعوله الثاني.
(2) .
ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
لعنترة بن شداد من معلقته. ويروى: وأبر أسقمها. ويروى: وأذهب غمها. ويروى: قول، بدل: قيل. وكلاهما مصدر. وويك: اسم فعل للتعجب، لكن لا بلائم البيت. وقيل: كلمة تنبيه، والكاف حرف خطاب. وقال الكسائي: أصل «ويك» : ويلك، فالكاف ضمير مجرور، لكن تبعد ملاءمته للبيت. وعنتر: منادى مرخم، وحسن الترخيم وحذف حرف النداء: أن المقام للاهتمام وسرعة الكلام، وأقدم: أى أقبل على العدو، لتمنعنا بأسه. [.....]

(3/434)


تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83)

وأنه بمعنى لأنه، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو، لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون، ومن الناس من يقف على «وى» ويبتدئ «كأنه» ومنهم من يقف على «ويك» . وقرأ الأعمش لولا من الله علينا. وقرئ لخسف بنا «1» وفيه ضمير الله.
ولا نخسف بنا، كقولك: انقطع به. ولتخسف بنا.

[سورة القصص (28) : آية 83]
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83)
تلك تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعنى: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد «2» بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فعلق الوعيد بالركون. وعن على رضى الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها «3» . وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال.
ذهبت الأمانى هاهنا «4» . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله إن فرعون علا في الأرض، ولا تبغ الفساد في الأرض ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله والعاقبة للمتقين كما تدبره على والفضيل وعمر.
__________
(1) . قوله: «وقرئ: لخسف بنا» يفيد أن القراءة المشهورة: لخسف، مبنيا للمجهول. (ع)
(2) . قوله «لم يعلق الموعد» لعله: الوعد. (ع)
(3) . أخرجه الطبري والواحدي من رواية وكيع عن أشعث السمان عن أبى سلام الأعرج عن على بهذا موقوفا وإسناده ضعيف.
(4) . قال محمود: «لم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما، كما قال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار فعلق الوعيد بالركون إلى الظلمة. وعن على أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله خيرا من شراك نعل أخيه فيدخل تحتها. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. وعن الفضيل أنه قرأها وقال: ذهبت الأمانى هاهنا. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون، لقوله إن فرعون علا في الأرض وقوله ولا تبغ الفساد في الأرض ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة، ولا يتدبر قوله والعاقبة للمتقين كما تدبرها على وعمر والفضيل» قال أحمد: هو تعرض لغمص أهل السنة، فان كل موحد من أهل الجنة، وإنما طمعوا حيث أطمعهم الله تعالى، بل وحقق طمعهم في رحمته حيث يقول رسوله عليه الصلاة والسلام: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ... ثلاثا، وفي الثالثة: وإن رغم أنف أبى ذر» اللهم اقسم لنا من رجاء رحمتك ما تعصمنا به من القنوط، ومن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، والله الموفق للصواب.

(3/435)


من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84) إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين (85) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86)

[سورة القصص (28) : آية 84]
من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84)
معناه: فلا يجزون، فوضع الذين عملوا السيئات موضع الضمير، لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكررا. فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين إلا ما كانوا يعملون إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزى السيئة إلا بمثلها، ويجزى الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة، وهو معنى قوله فله خير منها.

[سورة القصص (28) : آية 85]
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين (85)
فرض عليك القرآن أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعنى: أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. ولرادك بعد الموت إلى معاد أى معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك: وقيل: المراد به مكة: ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح: ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعا له اعتداد، لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه. والسورة مكية، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها: أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. فإن قلت: كيف اتصل قوله تعالى قل ربي أعلم بما قبله؟ قلت: لما وعد رسوله الرد إلى معاد، قال: قل للمشركين: ربي أعلم من جاء بالهدى يعنى نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده ومن هو في ضلال مبين يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.

[سورة القصص (28) : آية 86]
وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86)
فإن قلت: قوله إلا رحمة من ربك ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك، أى: ولكن لرحمة من ربك ألقى إليك.

(3/436)


ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)

[سورة القصص (28) : آية 87]
ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87)
وقرئ: يصدنك، من أصده بمعنى صده، وهي في لغة كلب. وقال:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهمو ... صدود السواقى عن أنوف الحوائم «1»
بعد إذ أنزلت إليك بعد وقت إنزاله «2» وإذ تضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذ وليلتئذ ويومئذ وما أشبه ذلك. والنهى عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سيق ذكره.

[سورة القصص (28) : آية 88]
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)
إلا وجهه إلا إياه. والوجه يعبر به عن الذات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ طسم القصص كان له الأجر بعدد من صدق موسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا أن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون» «3» .
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 538 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «بعد وقت إنزاله» لعله: إنزالها. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه. والواحدي من حديث أبى بن كعب بأسانيدهم المتقدم ذكرها.

(3/437)


الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)

سورة العنكبوت
مكية [إلا من آية 1 إلى غاية آية 11 فمدنية] وآياتها 69 [نزلت بعد الروم] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)
الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل. ألا ترى أنك لو قلت:
حسبت زيدا وظننت الفرس: لم يكن شيئا حتى تقول: حسبت زيدا عالما وظننت الفرس جوادا، لأن قولك: زيد عالم، أو الفرس جواد كلام دال على مضمون، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين، فلم تجد بدا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه، من ذكر شطرى الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان، حتى يتم لك غرضك. فإن قلت:
فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت: هو في قوله أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون وذلك أن تقديره: أحسبوا تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم: آمنا، هو الخبر. وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
فتركته جزر السباع ينشنه «1»
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان، تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنا، على تقدير: حاصل ومستقر، قبل اللام. فإن قلت: أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول خروجه لمخافة الشر، وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت مخافة الشر، وضربته تأديبا: تعليلين. وتقول أيضا:
حسبت خروجه لمخافة الشر، وظننت ضربه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 75 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/438)


وخبرا. والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان: أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكن من العابد على حرف، كما قال لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر: وكان يعذب في الله. وقيل: في ناس أسلموا بمكة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا، فخرجوا فتبعهم المشركون فردوهم، فلما نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة «1» ، فجزع عليه أبواه وامرأته ولقد فتنا موصول بأحسب أو بلا يفتنون، كقولك: ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه، يعنى: أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم. أو ما هو أشد منه فصبروا، كما قال: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا ... الآية وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» «2» فليعلمن الله بالامتحان الذين صدقوا في الإيمان وليعلمن الكاذبين فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدوما، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد «3» ، والمعنى:
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن مقاتل قال «نزلت هاتان الآيتان في مهجع بن عبد الله مولى عمر، كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وسنده إلى مقاتل في أول كتابه، وفي الدلائل لابن أبى شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال «أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر» .
(2) . أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت به، وأتم منه.
(3) . قال محمود: «إن قلت هو لم يزل يعلم الصادقين والكاذبين قبل الامتحان، فما وجه هذا الكلام؟
قلت: لم يزل يعلمه معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد» قال أحمد: فيما ذكر إيهام بمذهب فاسد، وهو اعتقاد أن العلم بالكائن غير العلم بأن سيكون، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم: التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء، كأنه قال تعالى: لنعلمنهم فلنجازينهم بحسب علمه فيهم، والله أعلم.

(3/439)


أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5)

وليتميزن الصادق منهم من الكاذب. ويجوز أن يكون وعدا ووعيدا، كأنه قال: وليثيبن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين. وقرأ على رضى الله عنه والزهري: وليعلمن، من الإعلام، أى:
وليعرفنهم الله الناس من هم. أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها.

[سورة العنكبوت (29) : آية 4]
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4)
أن يسبقونا أن يفوتونا، يعنى أن الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدثوا به نفوسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي: في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه. ونظيره وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون. فإن قلت: أين مفعولا «حسب» ؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين، كقوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ساء ما يحكمون بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 5]
من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5)
لقاء الله: مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت، والبعث، والحساب، والجزاء:
مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى قوله من كان يرجوا لقاء الله: من كان يأمل تلك الحال. وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر فإن أجل الله وهو الموت لآت لا محالة، فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه، ويحقق أمله، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى وهو السميع العليم الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه، فهو حقيق بالتقوى والخشية. وقيل يرجوا: يخاف من قول الهذلي في صفة عسال:

(3/440)


ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8)

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها «1»
فإن قلت: فإن أجل الله لآت، كيف وقع جوابا للشرط؟ قلت: إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت: فكأنه قال:
من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت، لأن الأجل واقع فيه اللقاء، كما تقول: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة.

[سورة العنكبوت (29) : آية 6]
ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6)
ومن جاهد نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه فإنما يجاهد لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمر الله عز وجل ونهى، رحمة لعباده وهو الغنى عنهم وعن طاعتهم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 7]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7)
إما أن يريد قوما مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم، أى يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أى: أحسن جزاء أعمالهم: وإما قوما مشركين آمنوا وعملوا الصالحات، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام «2» .

[سورة العنكبوت (29) : آية 8]
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (8)
__________
(1) .
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
لأبى ذؤيب، يصف عسالا يجتنى العسل: بأنه إذا لسعته الدبر- بالفتح والكسر-: ذكور النحل والزنابير.
وروى كذلك: لم يرج، أى: لم يخف لسعها إذا أرادت لسعه. أو لسعته بالفعل لم يخف من مثله، أو لم يرتقبه ويعتنى به، وحالفها: أى لازمها. ويروى بالمعجمة، أى: خالف مرادها. أو جاء خلفها بعد أن خرجت ترعى.
والنوب: ضرب من النحل واحده نائب، لأنه يذهب إلى بيته نوبة بعد نوبة، عواسل: كثيرة العسل. وروى:
عوامل، بالميم لأنها تعمل العسل.
(2) . قال محمود: «المراد بهؤلاء أحد فريقين: إما قوم مسلمون سيئاتهم صغائر مغمورة بالحسنات، وإما قوم آمنوا وعملوا الصالحات بعد كفر فالإسلام يجب ما قبله» قال أحمد: حجر واسعا من رحمة الله تعالى، بناء على أصله الفاسد في وجوب الوعيد على مرتكب السيئات الكبائر لا بالتوبة، وأطلق تكفير الصغائر وإن لم تكن توبة إذا غمرتها الحسنات، وكلا الأصلين قدرى مجتنب، والله الموفق.

(3/441)


«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه. يقال: وصيت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه بيت الإصلاح:
وذبيانية وصت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف «1»
كما لو قال: أمرتهم بأن ينتهبوها. ومنه قوله تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه أى وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك: وصيت زيدا بعمرو، معناه: وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا: وصيناه بإيتاء والديه حسنا، أو بإيلاء والديه حسنا، أى: فعلا ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله تعالى وقولوا للناس حسنا وقرئ: حسنا. وإحسانا. ويجوز أن تجعل حسنا من باب قولك: زيدا، بإضمار «أضرب» إذا رأيته متهيئا للضرب، فتنصبه بإضمار أو لهما. أو افعل بهما، لأن التوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، كأنه قال: قلنا أو لهما معروفا وفلا تطعهما في الشرك إذا حملاك عليه. وعلى هذا التفسير إن وقف على بوالديه وابتدأ حسنا حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول، معناه: وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان ما ليس لك به علم أى لا علم لك بإلهيته. والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال: لتشرك بى شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم: وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكر، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قال: إلى مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم. وفيه شيئان، أحدهما: أن الجزاء إلى، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا، كما أنى لا أمنعهما رزقي. والثاني: التحذير من متابعتهما على الشرك، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد.
روى أن سعد بن أبى وقاص الزهري رضى الله عنه حين أسلم قالت أمه- وهي حمنة بنت أبى سفيان بن أمية بن عبد شمس-: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح «2»
__________
(1) . لمعقر بن حمار البارقي، أنشده ابن السكيت في كتابه المسمى: إصلاح المنطق، أى: امرأة منسوبة إلى قبيلة ذبيان وصت بنيها. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وخبرها: كذب، وهو قد يكون بمعنى وجب كما في الصحاح. وفي الحديث: ثلاثة أسفار كذبن عليكم، أى: وجبن. وعن عمر رضى الله عنه: كذب عليكم الحج، أى وجب. وفي الكلام معنى الحث والإغراء. والقراطف: جمع قرطف، وهو القطيفة المخملة. والقروف:
أوعية من أدم يجعل فيها اللحم المشوى. والقرف- بالكسر-: المقشر. والقرفة: قشر يداوى به. والقرف- بالفتح- وعاء من جلد يدبغ بالقرفة. واقترف، واقترب: متقاربان لفظا ومعنى، أى: وصتهم باغتنامها وحفظها معهم. [.....]
(2) . قوله «من الضح» في الصحاح «الضح» : الشمس. وفي الحديث: «لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل، فانه مقعد الشيطان» اه. (ع)

(3/442)


والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (11)

والريج، وإن الطعام والشراب على حرام حتى تكفر بمحمد- وكان أحب ولدها إليها- فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان «1» . وروى أنها نزلت في عياش بن أبى ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضى الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة «2» ، فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام- أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة: امرأة من بنى تميم من بنى حنظلة- فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوى بيتا حتى تراك، وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا، وفتلا منه في الذروة والغارب «3» فاستشار عمر رضى الله عنه فقال: هما يخدعانك، ولك على أن أقسم مالى بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل:
إن ناقتي قد كلت فاحملني معك. قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله، فأخذاه وشداه وثاقا، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد، فنزلت.

[سورة العنكبوت (29) : آية 9]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (9)
في الصالحين في جملتهم. والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله. قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال في إبراهيم عليه السلام: وإنه في الآخرة لمن الصالحين أو في مدخل الصالحين وهي الجنة، وهذا نحو قوله تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم الآية.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين (11)
__________
(1) . ذكره الواحدي والثعلبي والواقدي هكذا بغير سند والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص بغير هذا السياق.
(2) . تقدم الكلام عليه في سورة النساء وهذا السياق أورده الثعلبي عن مقاتل وسنده إليه في أول كتابه، وأخرجه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البزار قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر مطولا.
(3) . قوله «وفتلا منه في الذروة والغارب» في الصحاح: ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب، أى: يدور من وراء خديعته. (ع)

(3/443)


وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون (13)

هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس، كان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر. أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا. وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا إنا كنا معكم أى مشايعين لكم في دينكم، ثابتين عليه ثباتكم، ما قدر أحد أن يفتننا، فأعطونا نصيبنا من المغنم. ثم أخبر سبحانه أنه أعلم بما في صدور العالمين من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما تكن صدور هؤلاء من النفاق، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين. وقرئ: ليقولن، بفتح اللام.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون (13)
أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر، وأرادوا: ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن تحمل خطاياكم. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش: كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. ونرى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه- إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم-: افعل هذا وإثمه في عنقي. وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم- ومنه ما يحكى أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه، فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين، بقيت الحاجة العظمى. قال: وما هي؟ قال شفاعتك يوم القيامة، فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله: إياك وهؤلاء، فإنهم قطاع الطريق في المأمن «1» . فإن قلت: كيف سماهم
__________
(1) . قال محمود: «وبعض المتسمين بالإسلام إذا أراد أن يشجع صاحبه على ذنب قال له: افعل هذا وإثمه في عنقي. ومنه ما يحكى أن رجلا رفع إلى المنصور حوائجه فلما قضاها، قال يا أمير المؤمنين، بقيت لي إليك حاجة هي العظمى. قال: وما هي؟ قال: شفاعتك في المحشر. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، إياك وهؤلاء فهم قطاع الطريق في المأمن» قال أحمد: عمرو بن عبيد أول القدرية المنكرين للشفاعة فاحذره، وليست الآية مطابقة للحكاية، ولكن الزمخشري يبنى على أنه لا فرق بين اعتقاد الشفاعة واعتقاد أن الكفار يحملون خطايا أتباعهم، فلذلك ساقهما مساقا واحدا نعوذ بالله من ذلك. وفي قوله تعالى: إنهم لكاذبون نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر، فان من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر، ولم يتم له ذلك في هذه الآية، لأن الله تعالى أردف قولهم: ولنحمل خطاياكم، على صيغة الأمر بقوله إنهم لكاذبون والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار.

(3/444)


ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15)

كاذبين، وإنما ضمنوا شيئا علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت: شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه لمخبر، عنه. ويجوز أن يريد أنهم كاذبون، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف وليحملن أثقالهم أى أثقال أنفسهم وأثقالا يعنى أثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها، وهي أثقال الذين كانوا سببا في ضلالهم وليسئلن سؤال تقريع عما كانوا يفترون أى يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. وقرئ: من خطيآتهم.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (15)
كان عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. فإن قلت: هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة «1» ، وفيه نكتة أخرى: وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره. فإن قلت: فلم جاء المميز أولا بالسنة وثانيا بالعام؟ قلت: لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد
__________
(1) . قال محمود: «عدل عن تسعمائة وخمسين لأنه يحتمل فيه إطلاق العدد على أكثره بخلاف مجيئه مع الاستثناء» قال أحمد: لأن الاستثناء استدراك ورجوع على الجملة بالتنقيص، تحريرا للعدد، فلا يحتمل المبالغة لأنها لا يجوز معها العدد.

(3/445)


وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18)

حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل «1» أو تنويه أو نحو ذلك. والطوفان ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما. قال العجاج:
وغم طوفان الظلام الأثأبا «2»
أصحاب السفينة كانوا ثمانية وسبعين نفسا: نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح عليه السلام: سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة. خمسة رجال وخمس نسوة. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم «كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة» «3» والضمير في وجعلناها للسفينة أو للحادثة والقصة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18)
نصب إبراهيم بإضمار اذكر، وأبدل عنه إذ بدل الاشتمال، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها. أو هو معطوف على نوحا وإذ ظرف لأرسلنا، يعنى: أرسلناه حين بلغ من السن والعلم مبلغا صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وفيه نكتة أخرى، وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح وكابده من طول المصابرة، تسلية له عليه السلام فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع على الغرض. قال: وإنما خالف بين اللفظين فذكر في الأول السنة وفي الثاني العام، تجنبا للتكرار الذي لا يحمد إلا لقصد تفخيم أو تعظيم» قال أحمد: ولو فخم المستثنى لعاد ذلك ببعض تفخيم المستثنى منه وتكبيره عند السامع، والله أعلم.
(2) .
حتى إذا ما يومها تصيبا ... وعم طوفان الظلام الأثأبا
للعجاج يصف بقرة وحشية. وما: زائدة. ويروى: عم، بالمهملة وبالمعجمة، والمعنيان متقاربان. والطوفان:
كل ما طاف حول الشيء وأحاط به من ظلام أو ماء أو نحوهما. والأثأب: نوع من الشجر يشبه شجر التين، الواحدة: أثأبة ونسبة التصبب اليوم: مجاز عقلى من باب الاسناد للزمان، أو على تقدير التمييز، أى: تصبب مطرا، وستر ظلامه الشجر الذي كانت فيه.
(3) . تقدم في هود.

(3/446)


أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22)

وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله. وإبراهيم، بالرفع على معنى: ومن المرسلين إبراهيم إن كنتم تعلمون يعنى: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم. أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء: علمتم أنه خير لكم: وقرئ: تخلقون من خلق بمعنى التكثير في خلق. وتخلقون، من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ: إفكا، فيه وجهان:
أن يكون مصدرا، نحو: كذب ولعب. والإفك: مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن يكون صفة على فعل، أى خلقا إفكا، أى ذا إفك وباطل. واختلاقهم الإفك: تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه. أو سمى الأصنام: إفكا، وعملهم لها ونحتهم: خلقا للإفك. فإن قلت: لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت: لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله. فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره إليه ترجعون وقرئ: بفتح التاء، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وإن تكذبونني فلا تضروننى بتكذيبكم، فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم، وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم، حيث حل بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل: وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أو: وإن كنت مكذبا فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله فما كان جواب قومه محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها. فإن قلت: إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت: قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وكفى بقوم نوح أمة في معنى أمم جمة مكذبة، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء. وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه، وأعقابهم على التكذيب.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 22]
أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22)

(3/447)


فإن قلت: فما تصنع بقوله قل سيروا في الأرض؟ قلت: هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه، كما يحكى رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت: فإذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفى قصة إبراهيم والجملة؟ أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؟ ألا تراك لا تقول: مكة- وزيد أبوه قائم- خير بلاد الله؟ قلت: إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأن أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوا بنحو ما مني «1» به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها، لأن قوله فقد كذب أمم من قبلكم لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض واقع «2» متصل، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله وسلطانه، ووضوح حجته وبرهانه. قرئ يروا بالياء والتاء. ويبدئ ويبدأ. وقوله ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدئ، وليست الرؤية واقعة عليه، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت، كما وقع النظر في قوله تعالى: فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة على البدء دون الإنشاء، ونحوه قولك: ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلفه «3» . فإن قلت: هو معطوف بحرف العطف، فلا بد له من معطوف عليه، فما هو؟ قلت: هو جملة قوله أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق وكذلك: وأستخلفه، معطوف على جملة قوله: ما زلت أوثر فلانا ذلك يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله وهو أهون عليه من معنى يعيد. دل بقوله النشأة الآخرة على أنهما نشأتان، وأن كل واحدة منهما إنشاء، أى: ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك. وقرئ: النشأة والنشاءة، كالرأفة والرآفة. فإن قلت: ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله ثم الله ينشئ النشأة الآخرة بعد إضماره في قوله: كيف بدأ الخلق؟
__________
(1) . قوله «كان ممنوا بنحو ماضى؟؟؟ به» أى: مبتلى. في الصحاح: منوته ومنيته، إذا ابتليته. (ع)
(2) . قوله «وهو كما ترى اعتراض واقع» لعله: واقع موقعه. (ع)
(3) . قال محمود: «يعيده ليس معطوفا على يبدئ، وإنما هو إخبار على حياله، كما وقع كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة كقولك ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه بعدي» قال أحمد، وقد تقدم له عند قوله تعالى أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده أنه معطوف، وصحح العطف- وإن كانوا ينكرون الاعادة- لأن الاعتراف بها لازم لهم، وقد أبى هاهنا جعله معطوفا، فالفرق والله أعلم أنه هاهنا لو عطف الاعادة على البداءة لدخلت في الرؤية الماضية، وهي لم تقع بعد، ولا كذلك في آية النمل، ولقائل أن يقول: هي وإن لم تقع، إلا أنها باخبار الله تعالى بوقوعها كالواقعة المرئية، فعوملت معاملة ما رئي وشوهد إلا أن جعله خبرا ثانيا أوضح، والله أعلم.

(3/448)


والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)

وكان القياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت: الكلام معهم كان واقعا في الإعادة، وفيها كانت تصطك الركب، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة «1» ، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ يعذب من يشاء تعذيبه ويرحم من يشاء رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن «2» وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب تقلبون تردون وترجعون وما أنتم بمعجزين ربكم أى لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة ولا في السماء التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى:
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، وقيل: ولا من في السماء «3» كما قال حسان رضى الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء «4»
ويحتمل أن يراد: لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى ولو كنتم في بروج مشيدة أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.

[سورة العنكبوت (29) : آية 23]
والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)
بآيات الله بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث يئسوا من رحمتي وعيد، أى ييأسون يوم القيامة، كقوله: ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون. أو هو وصف
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما وجه الإفصاح باسمه تعالى مع النشأة الآخرة، بعد إضماره في البداءة أو لا؟
قلت: لأن النشأة الآخرة هي المقصودة وفيها كانت تصطك الركب، فكانت خليقة بإبراز اسمه تعالى تحقيقا لنسبة الاعادة إلى من نسبت إليه الأولى» قال أحمد: والأصل الاظهار ثم الإضمار، ويليه لقصد التفخيم: الاظهار بعد الاظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة: الاظهار بعد الإضمار كما في الآية، والله أعلم.
(2) . قوله «ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن» تفسيره بما يأتى مبنى على أنه تعالى يجب عليه تعذيب الكافر والفاسق إذا لم يتوبا وإثابة المعصوم والتائب، وهو مذهب المعتزلة. ولا يجب عليه تعالى شيء عند أهل السنة، فالمشيئة في الآية على إطلاقها. (ع) [.....]
(3) . قوله «وقيل ولا من في السماء» عبارة الخازن: ولا من في السماء بمعجز. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/449)


فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25)

لحالهم، لأن المؤمن إنما يكون راجيا خاشيا، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف.
أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة: وعن قتادة رضى الله عنه. إن الله ذم قوما هانوا عليه فقال أولئك يئسوا من رحمتي وقال إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن «1» أن يكون راجيا لله عز وجل خائفا.

[سورة العنكبوت (29) : آية 24]
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24)
قرئ جواب قومه بالنصب والرفع قالوا قال بعضهم لبعض. أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين. وروى أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار، نعنى: يوم ألقى إبراهيم في النار، وذلك لذهاب حرها.

[سورة العنكبوت (29) : آية 25]
وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25)
قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أى لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن يكون مفعولا ثانيا، كقوله اتخذ إلهه هواه أى اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم، على تقدير حذف المضاف.
أو اتخذتموها مودة بينكم، بمعنى مودودة بينكم، كقوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرا لأن، على أن ما موصولة.
وأن يكون خبر مبتدإ محذوف. والمعنى: أن الأوثان مودة بينكم، أى: مودودة، أو سبب مودة. وعن عاصم: مودة بينكم: بفتح بينكم مع الإضافة، كما قرئ لقد تقطع بينكم ففتح وهو فاعل. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا، أى: إنما تتوادون عليها، أو تودونها في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن
__________
(1) . قوله: «صفة المؤمن» لعله: لأن صفه المؤمن ... الخ. (ع)

(3/450)


فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30)

والتباغض والتعادي: يتلاعن العبدة، ويتلاعن العبدة والأصنام، كقوله تعالى ويكونون عليهم ضدا.

[سورة العنكبوت (29) : آية 26]
فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26)
كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه وقال يعنى إبراهيم إني مهاجر من «كوثى» وهي من سواد الكوفة إلى «حران» ثم منها إلى فلسطين، ومن ثمة قالوا: لكل نبى هجرة ولإبراهيم هجرتان، وكان معه في هجرته: لوط، وامرأته سارة، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة إلى ربي إلى حيث أمرنى بالهجرة إليه إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائى الحكيم الذي لا يأمرنى إلا بما هو مصلحتي.

[سورة العنكبوت (29) : آية 27]
ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27)
أجره الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر والذرية الطيبة والنبوة، وأن أهل الملل كلهم يتولونه. فإن قلت: ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر، وذكر إسحاق وعقبه؟
قلت: قد دل عليه في قوله وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وكفى الدليل لشهرة أمره وعلو قدره. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذريته من الكتب الأربعة: التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؟

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (28) أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30)
ولوطا معطوف على إبراهيم، أو على ما عطف عليه. والفاحشة الفعلة البالغة في القبح. وما سبقكم بها من أحد من العالمين جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة، كأن قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل له: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازا منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم. قالوا لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط. وقرئ: إنكم، بغير استفهام في الأول دون الثاني: قال أبو عبيدة:

مجلد 4. : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)


ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (32)

وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين الياء والنون وقطع السبيل:
عمل قطاع الطريق، من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة.
وعن الحسن: قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. والمنكر عن ابن عباس رضى الله عنهما هو الخذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الأزرار، والسباب، والفحش في المزاح. وعن عائشة رضى الله عنها: كانوا يتحابقون «1» .
وقيل السخرية بمن مر بهم. وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء: من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له. ولا يقال للمجلس: ناد، إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا إن كنت من الصادقين فيما تعدناه من نزول العذاب. كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم، وقال الله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32]
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين (31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (32)
بالبشرى هي البشارة بالولد. والنافلة: وهما إسحاق ويعقوب. وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف. والمعنى الاستقبال. والقرية: سدوم التي قيل فيها: أجور من قاضى سدوم كانوا ظالمين معناه أن الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة، وهم عليه مصرون، وظلمهم: كفرهم وألوان معاصيهم إن فيها لوطا ليس إخبارا لهم بكونه فيها، وإنما هو جدال في شأنه، لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم: اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم، وأراد بالجدال: إظهار الشفقة عليهم، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه، والتشمر في نصرته وحياطته، والخوف من أن يمسه أذى أو يلحقه ضرر. قال قتادة: لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه بمن فيها يعنون: نحن أعلم منك
__________
(1) . قوله «كانوا يتحابقون» في الصحاح «الحبق» بالكسر: الردام. وفيه أيضا «الردام» بالضم: الحبق اه، وهو دور فلينظر حله، ثم رأيت فيه في مادة «ضرط» الضراط: الردام، وقد ضرط يضرط ضرطا بكسر الزاء، مثال: حبق يحبق حبقا اه فالتحابق: المضارطة، كما عبر النسفي. (ع)

(3/452)


ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35) وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37)

وأخبر بحال لوط وحال قومه، وامتيازه منهم الامتياز البين، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون، فخفض على نفسك وهون عليك الخطب. وقرئ لننجينه بالتشديد والتخفيف، وكذلك منجوك.

[سورة العنكبوت (29) : آية 33]
ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33)
أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتبا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث «1» ، خيفة عليهم من قومه وضاق بهم ذرعا وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أى طاقته، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع: عبارة عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا، إذا كان مطيقا له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 34 الى 35]
إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35)
الرجز والرجس: العذاب، من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب. وقرئ منزلون مخففا ومشددا منها من القرية آية بينة هي آثار منازلهم الخربة. وقيل: بقية الحجارة. وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض. وقيل: الخبر عما صنع بهم لقوم متعلق بتركنا أو ببينة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين (36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37)
وارجوا وافعلوا ما ترجون به العاقبة. فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا بالرجاء:
والمراد: اشتراط ما يسوغه من الإيمان، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط. وقيل:
هو من الرجاء بمعنى الخوف. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وعن الضحاك: صيحة جبريل عليه السلام، لأن القلوب رجفت لها في دارهم في بلدهم وأرضهم. أو في ديارهم، فاكتفى بالواحد
__________
(1) . قوله «من غير ريث» أى بطء. (ع)

(3/453)


وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين (38) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين (39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم (42)

لأنه لا يلبس جاثمين باركين على الركب ميتين.

[سورة العنكبوت (29) : آية 38]
وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين (38)
وعادا منصوب بإضمار «أهلكنا» لأن قوله فأخذتهم الرجفة يدل عليه، لأنه في معنى الإهلاك وقد تبين لكم ذلك: يعنى ما وصفه من إهلاكهم من جهة مسكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها وكانوا مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والافتكار، ولكنهم لم يفعلوا. أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، ولكنهم لجوا حتى هلكوا.

[سورة العنكبوت (29) : آية 39]
وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين (39)
سابقين فائتين، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه.

[سورة العنكبوت (29) : آية 40]
فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40)
الحاصب: لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء. وقيل: ملك كان يرميهم. والصيحة:
لمدين وثمود. والخسف: لقارون. والغرق: لقوم نوح وفرعون.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 42]
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم (42)
الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة. وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت؟ فإن قلت: ما معنى قوله لو كانوا يعلمون وكل

(3/454)


وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43) خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين (44)

أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت: معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. ووجه آخر: وهو أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل عنكبوت يتخذ بيتا، بالإضافة إلى رجل يبنى بيتا بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون.
قرئ: تدعون، بالتاء والياء. وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا وهو العزيز الحكيم فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلا، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا بحكمة وتدبير.

[سورة العنكبوت (29) : آية 43]
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)
كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلذلك قال وما يعقلها إلا العالمون أى لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه «1» » :

[سورة العنكبوت (29) : آية 44]
خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين (44)
بالحق أى بالغرض الصحيح «2» الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته: ألا ترى إلى قوله إن في ذلك لآية للمؤمنين ونحوه قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ثم قال ذلك ظن الذين كفروا
__________
(1) . أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحارث بن أبى أسامة في مسنده عنه من حديث جابر، وأخرجه من طريق الحارث الثعلبي والواحدي: والبغوي، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
(2) . قال محمود: «أى بالغرض الصحيح» قال أحمد: لفظة قدرية ومعتقد ردىء قد تقدم إنكاره على القدرية، ولو كان ما قالوه حقا من حيث المعنى، لوجب اجتناب هذه العبارة التي لا تليق بالأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/455)


اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (45)

[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (45)
الصلاة تكون لطفا في ترك المعاصي، فكأنها ناهية عنها. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب: أن يدخل فيها مقدما للتوبة النصوح، متقيا، لقوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح، فقد روى عن حاتم: كأن رجلي على الصراط والجنة عن يمينى والنار عن يساري وملك الموت من فوقى، وأصلى بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا «1» . وعن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. وقيل: من كان مراعيا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهى عن السيئات يوما ما، فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلانا يصلى بالنهار ويسرق بالليل، فقال «إن صلاته لتردعه» «2» وروى أن فتى من الأنصار كان يصلى معه الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف له فقال «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب «3» . وعلى كل حال إن المراعى للصلاة لا بد أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها. وأيضا فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضى أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها، كما تقول: إن زيدا ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير، وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم ولذكر الله أكبر يريد: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها
__________
(1) . أخرجه الطبراني من رواية العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس بهذا موقوفا. ورواه الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق ليث عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وفي الباب عن ابن عمر. أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفي إسناده محمد بن الحسن البصري. قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. يروى عن مالك ما لا أصل له. وأخرجه أحمد في الزهد من قول ابن مسعود. وأخرجه عبد الرزاق والطبري والبيهقي في الشعب من مرسل الحسن
(2) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والبزار وأبو يعلى من طريق عيسى بن يونس ووكيع ومجاهد عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة. قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن فلانا يصلى بالليل فإذا أصبح سرق.
فقال إن صلاته ستنهاه ورواه البزار من طريق زياد البكائى وأبو يعلى من طريق أبى إسحاق الفزاري كلاهما عن الأعمش عن أبى صالح عن جابر. قال البزار: اختلف فيه عن الأعمش فقيل عنه أيضا عن أبى سفيان عن جابر
(3) . لم أجده

(3/456)


ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47)

بذكر الله كما قال فاسعوا إلى ذكر الله وإنما قال: ولذكر الله: ليستقل بالتعليل، كأنه قال:
وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته والله يعلم ما تصنعون من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب.

[سورة العنكبوت (29) : آية 46]
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)
بالتي هي أحسن بالخصلة التي هي أحسن: وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم.
والسورة بالأناة، كما قال. ادفع بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة.
وقيل: معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا مجادلة أشد من السيف: وقوله قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا من جنس المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم «1» .

[سورة العنكبوت (29) : آية 47]
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47)
ومثل ذلك الإنزال أنزلنا إليك الكتاب أى: أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية، تحقيقا لقوله آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم. وقيل: كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا
__________
(1) . أخرجه أبو داود، وابن حبان وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني، من طريق الزهري أخبرنى ابن أبى نملة الأنصارى أن أباه أبا نملة الأنصارى أحبره. قال «بينا هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فذكر قصة هذا فيها» هذا هو المعروف في إسناد هذا الحديث وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين من رواية بقية عن الزبير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة به. وأصل الحديث في البخاري من حديث أبى هريرة باختصار

(3/457)


وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49)

إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه ومن هؤلاء من أهل مكة وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، ومن هؤلاء ممن في عهده منهم وما يجحد بآياتنا مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 الى 49]
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49)
وأنت أمى ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط إذا لو كان شيء من ذلك، أى، من التلاوة والخط لارتاب المبطلون من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمى لا يكتب ولا يقرأ وليس به. أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده. فإن قلت:
لم سماهم مبطلين، ولو لم يكن أميا وقالوا: ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين؟
ولكان أهل مكة أيضا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارئ كاتب؟ قلت: سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمى بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أميا لارتابوا أشد الريب، فحين ليس «1» بقارئ كاتب فلا وجه لارتيابهم. وشيء آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أميين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين «2» ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذا هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى.
فان قلت: ما فائدة قوله بيمينك؟ قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات، رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته، فكذلك النفي بل القرآن آيات بينات في صدور العلماء به وحفاظه، وهما من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهرا: بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات،
__________
(1) . قوله «فحين ليس» لعله فحين كان ليس. (ع)
(2) . قوله «على أن المنزلين ليسا بمعجزين» لعله: المنزلين عليهما. (ع)

(3/458)


أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)

وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» «1» وما يجحد بآيات الله الواضحة، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 الى 52]
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)
قرئ: آية، وآيات. أرادوا: هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك إنما الآيات عند الله ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل وإنما أنا نذير كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول، أنزل على آية كذا دون آية كذا، مع علمى أن الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ثم قال أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات- إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل، كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان. إن في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر لرحمة لنعمة عظيمة لا تشكر. وتذكرة لقوم يؤمنون وقيل: أو لم يكفهم، يعنى اليهود: أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. وقيل: إن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، فنزلت «2» . والوجه ما ذكرناه كفى بالله بيني وبينكم شهيدا أنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وأنكم قابلتمونى بالجحد والتكذيب يعلم ما في السماوات والأرض
__________
(1) . أخرجه الطبراني من روآية سنان بن الحارث عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعا في أثناء حديث وروى الواقدي في الردة عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبى ربيعة عن أبيه أن يهوديا من أهل سبأ يقال له نعمان، وكان أعلم أحبار يهود فذكر قصة فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم في سفر عندهم مختوم وفيه هذا. [.....]
(2) . أخرجه الطبري وأبو داود في المراسيل من طريق يحيى بن جعدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم من المسلمين بكتاب في كتف» فذكر نحوه ولفظ الطبري كالأصل.

(3/459)


ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55) ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56)

فهو مطلع على أمرى وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم والذين آمنوا بالباطل منكم وهو ما تعبدون من دون الله وكفروا بالله وآياته أولئك هم الخاسرون المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف، كقوله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وكقول حسان:
فشر كما لخير كما الفداء «1»
وروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد، من يشهد لك بأنك رسول الله، فنزلت.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55)
كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيبا، والنضر بن الحرث هو الذي قال: اللهم أمطر علينا حجارة من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: فأسقط علينا كسفا من السماء ولولا أجل قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى لجاءهم العذاب عاجلا. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روى أن الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة «2» .
وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم لمحيطة أى ستحيط بهم يوم يغشاهم العذاب أو هي محيطة بهم في الدنيا: لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم. ويوم يغشاهم على هذا منصوب بمضمر، أى: يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. من فوقهم ومن تحت أرجلهم كقوله تعالى لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، ويقول قرئ بالنون والياء ما كنتم تعملون أى جزاءه.

[سورة العنكبوت (29) : آية 56]
يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56)
معنى الآية: أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . لم أجده.

(3/460)


كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59)

فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جربنا وجرب أولونا، فلم نجد فيما درنا وداروا: أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة- من سكنى حرم الله وجوار بيت الله، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم «1» ومحمد» وقيل: هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وإنما كان ذلك لأن أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة فإياي فاعبدون
في المتكلم، نحو: إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير: فإياى فاعبدوا: فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في فاعبدون
وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لأن المعنى: إن أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.

[سورة العنكبوت (29) : آية 57]
كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57)
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت «2» ، أتبعه قوله كل نفس ذائقة الموت أى واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ومعناه: إنكم ميتون فواصلون الى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 58 الى 59]
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59)
لنبوئنهم لننزلنهم من الجنة علالي. وقرئ: لنثوينهم، من الثواء وهو النزول للإقامة.
يقال: ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى: غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن وقد تقدم في النساء.
(2) . قوله «أوفق البلاد وإن شعست» أى بعدت. (ع)

(3/461)


وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62)

النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا، نحو: ذهب، وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم. أو حذف الجار وإيصال الفعل: أو تشبيه الظرف المؤقت «1» بالمبهم. وقرأ يحيى بن وثاب: فنعم، بزيادة الفاء الذين صبروا على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله.

[سورة العنكبوت (29) : آية 60]
وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60)
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة، فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. تحمل رزقها لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله الله يرزقها وإياكم أى لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن لا تحمل رزقها لا تدخره، إنما تصبح فيرزقها الله. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة.
وعن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها وهو السميع لقولكم: نخشى الفقر والضيعة العليم بما في ضمائركم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 61]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61)
الضمير في سألتهم لأهل مكة فأنى يؤفكون فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض.

[سورة العنكبوت (29) : آية 62]
الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62)
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه. فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله ويقدر له هو من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد. قلت: يحتمل الوجهين جميعا:
أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع من يشاء، لأن لمن يشاء مبهم غير معين، فكان الضمير مبهما مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة إن الله بكل شيء عليم
__________
(1) . قوله «الظرف المؤقت» أى المحدد، وهو الغرف. (ع)

(3/462)


ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64)

يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 63]
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63)
استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقرارا عاطلا كاقرار المشركين، وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم، ثم قال بل أكثرهم لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟

[سورة العنكبوت (29) : آية 64]
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64)
هذه فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة. يريد: ما هي- لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها- إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أى ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت «1» فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان: مصدر حي، وقياسه حييان، فقلبت الياء الثانية واوا، كما قالوا: حيوة، في اسم رجل، وبه سمى ما فيه حياة: حيوانا. قالوا: اشتر من الموتان، ولا تشتر من الحيوان «2» . وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنغصان واللهبان «3» ، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة لو كانوا يعلمون فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها.
__________
(1) . قال محمود: «إنما عدل عن الحياة إلى هذا البناء تنبيها على تعظيم حياة الآخرة ودوامها» قال أحمد:
والذي يخص هذا البناء به إفادة ما لا يخلو من الحركة، كالنزوان والجولان. والحيوان من ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «اشتر من الموتان ... الخ» الذي في الصحاح: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان. أى: اشتر الأرض والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب اه (ع)
(3) . قوله «كالنزوان والنغضان واللهبان» في الصحاح «اللهبان» بالتحريك: اتقاد النار. (ع)

(3/463)


فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66) أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 66]
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66)
فإن قلت: بم اتصل قوله فإذا ركبوا؟ قلت: بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلها آخر. وفي تسميتهم مخلصين: ضرب من التهكم فلما نجاهم إلى البر وآمنوا عادوا إلى حال الشرك: واللام في ليكفروا محتملة أن تكون لام كى، وكذلك في وليتمتعوا فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا- بالعود إلى شركهم- كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير. فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية. ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر، وعندك أن ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى إلى ضرر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم، حردت «1» عليه وقلت:
أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر. وكيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة، فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت وتبعث عليه، ليتبين لك- إذا فعلت- صحة رأى الناصح وفساد رأيك.

[سورة العنكبوت (29) : آية 67]
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67)
كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا، ويتغاورون، ويتناهبون، وأهل مكة قارون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة
__________
(1) . قوله «حردت عليه» أى غضبت. أفاده الصحاح. (ع)

(3/464)


ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)

وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده مكفورة عندهم.

[سورة العنكبوت (29) : آية 68]
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68)
افتراؤهم على الله كذبا: زعمهم أن لله شريكا. وتكذيبهم بما جاءهم من الحق: كفرهم بالرسول والكتاب. وفي قوله لما جاءه تسفيه لهم، يعنى: لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور: يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر، ويستأنون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه أليس تقرير لثوائهم في جهنم، كقوله:
ألستم خير من ركب المطايا «1»
قال بعضهم: ولو كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل. وحقيقته: أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير، فهما وجهان، أحدهما: ألا يثوون في جهنم، وألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني: ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟.

[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)
أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول، ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين فينا في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا لنهدينهم سبلنا لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا، كقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وعن أبى سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا. وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم لمع المحسنين لناصرهم ومعينهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين «2» » .
__________
(1) .
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
لجرير: في عبد الملك بن مروان. والاستفهام للإنكار، يعنى: لا تنتفى زيادتكم في الفضل والكرم على جميع الناس ومن ركب المطايا: كناية عنهم، لأن الركوب من خواصهم. والراح: اسم جمع واحده راحة، وهي ما عدا الأصابع من الكف، وذلك كناية عن الكرم، لأن بها بذل المعروف في العادة. قيل: لما بلغ جرير هذا البيت في القصيدة، كان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا فرحا وقال: هكذا مدحنا. وأعطاه مائة من الإبل.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب.

(3/465)


الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5)

سورة الروم
مكية، إلا آية 17 فمدنية وآياتها 60 [نزلت بعد الانشقاق] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)
بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5)
القراءة المشهورة الكثيرة غلبت بضم الغين. وسيغلبون بفتح الياء. والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أى: في أدنى أرضهم إلى عدوهم. قال مجاهد: هي أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الأردن وفلسطين. وقرئ: في أدانى الأرض. والبضع ما بين الثلاث إلى العشر عن الأصمعى. وقيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين «1» ، لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن نحن عليكم، فنزلت. فقال لهم
__________
(1) . أخرجه سنيد بن أبى داود في تفسيره: حدثني حجاج هو ابن محمد الأعور عن أبى بكر بن عبد الله عن عكرمة قال «كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الأبطال فدعاها كسرى فقال إنى أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيرى على: أيهم أستعمل؟ فأشارت عليه بولد لها يدعي شهرابرز. فاستعمله. قال أبو بكر بن عبد الله فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم فالتقيا بأذرعات وبصرى فغلبتهم فارس فذكر القصة قلت ولها طرق جمعتها في أول شرحي الكبير على البخاري، وقصة أبى بكر في المراهنة رواها الترمذي وغيره من حديث نيار بن مكرم الأسلمى وسياقها مخالف لسياق هذه القصة.

(3/466)


أبو بكر رضى الله عنه: لا يقرر الله أعينكم، فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبى بن خلف. كذبت يا أبا فصيل، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه. والمناحبة: المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل. فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. ومات أبى من جرح رسول الله، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبى، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق به. وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوة، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وقرئ: غلبهم، بسكون اللام. والغلب والغلب.
مصدران كالجلب والجلب، والحلب والحلب. وقرئ: غلبت الروم، بالفتح. وسيغلبون، بالضم. ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين. وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم، وإضافة غلبهم تختلف باختلاف القراءتين، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول. وفي الثانية إضافته إلى الفاعل. ومثالهما محرم عليكم إخراجهم، ولن يخلف الله وعده. فإن قلت: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت: عن قتادة رحمه الله أنه كان ذلك قبل تحريم القمار. ومن مذهب أبى حنيفة ومحمد: أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار. وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبى بن خلف من قبل ومن بعد أى في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين. ومن بعد كونهم مغلوبين، وهو وقت كونهم غالبين، يعنى أن كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله وقضائه وتلك الأيام نداولها بين الناس وقرئ: من قبل ومن بعد، على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه. كأنه قيل: قبلا وبعدا، بمعنى أولا وآخرا ويومئذ ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله عز وجل من غلبتهم يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. وقيل:
نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم وقيل نصر الله. أنه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمهم، حتى تفانوا وتناقصوا، وفل «1» هؤلاء شوكة هؤلاء وفي ذلك قوة للإسلام. وعن أبى سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر، وفي هذا اليوم نصر المؤمنون وهو العزيز الرحيم ينصر عليكم تارة وينصركم أخرى.
__________
(1) . قوله «وقل هؤلاء شوكة هؤلاء» أى كسرها. أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(3/467)


وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7) أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8)

[سورة الروم (30) : الآيات 6 الى 7]
وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7)
وعد الله مصدر مؤكد، كقولك: لك على ألف درهم عرفا، لأن معناه: أعترف لك بها اعترافا، ووعد الله ذلك وعدا، لأن ما سبقه في معنى وعد. ذمهم الله عز وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا، بله في أمر الدين، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب. وعن الحسن.
بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بإصبعه، فيعلم أرديء هو أم جيد. وقوله يعلمون بدل من قوله لا يعلمون وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم «1» بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة: يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. وفي تنكير الظاهر: أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة الظواهر. و «هم» الثانية يجوز أن يكون مبتدأ. وغافلون خبره، والجملة خبر «هم» الأولى، وأن يكون تكريرا للأولى، وغافلون خبر الأولى. وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.

[سورة الروم (30) : آية 8]
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8)
في أنفسهم يحتمل أن يكون ظرفا، كأنه قيل: أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أى:
في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك:
تفكر في الأمر وأجال فيه فكره. وما خلق متعلق بالقول المحذوف، معناه: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه: فيعلموا، لأن في الكلام دليلا عليه إلا بالحق وأجل مسمى
__________
(1) . قال محمود: «يعلمون بدل من الأول، وفي البدل نكتة وهي الاشعار بأنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين العلم بظاهر الدنيا، حتى كأنهما شيء واحد، فأبدل أحدهما من الآخر. وفائدة تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها» قال أحمد: وفي التنكير تقليل لمعلومهم وتقليله يقربه من النفي حتى يطابق المبدل منه. وروى عن الحسن أنه قال في تلاوته هذه الآية: بلغ من صدق أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم ردى.

(3/468)


أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9)

أى ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة: وإنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا. والباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت: إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت: معناه: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم: الأجل المسمى.

[سورة الروم (30) : آية 9]
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9)
أولم يسيروا تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وحرثوها قال الله تعالى لا ذلول تثير الأرض وقيل لبقر الحرث: المثيرة. وقالوا: سمى ثورا لإثارته الأرض وبقرة، لأنها تبقرها أى تشقها وعمروها يعنى أولئك المدمرون أكثر مما عمروها من عمارة أهل مكة. وأهل مكة: أهل واد غير ذى زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلا، ولا عمارة لها رأسا فما هو إلا تهكم بهم، وبضعف حالهم في دنياهم، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة «1» ، وهم أيضا ضعاف القوى، فقوله كانوا أشد منهم قوة أى عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل، كقوله أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وإن كان هذا أبلغ، لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلما لهم، لأن حاله منافية للظلم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم.
__________
(1) . قوله «أمر الدهقنة» أي الزراعة (ع)

(3/469)


ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون (10) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (11) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين (13) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون (16)

[سورة الروم (30) : آية 10]
ثم كان عاقبة الذين أساؤا السواى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن (10)
قرئ عاقبة بالنصب والرفع. والسواى تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم سوأى إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أى: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وأن كذبوا بمعنى لأن كذبوا. ويجوز أن يكون أن بمعنى: أى، لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول، نحو: نادى. وكتب، وما أشبه ذلك. ووجه آخر: وهو أن يكون أساؤا السواى بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا، وأن كذبوا عطف بيان لها، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو، إرادة الإبهام.

[سورة الروم (30) : آية 11]
الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (11)
ثم إليه ترجعون أى إلى ثوابه وعقابه. وقرئ بالتاء والياء.

[سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 13]
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين (13)
الإبلاس: أى يبقى بائسا ساكنا متحيرا. يقال: ناظرته فأبلس، إذا لم ينبس «1» ويئس من أن يحتج. ومنه الناقة المبلاس: التي لا ترغو. وقرئ: يبلس، بفتح اللام، من أبلسه إذا أسكته من شركائهم من الذين عبدوهم من دون الله وكانوا بشركائهم كافرين أى يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها. أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. وكتب «شفعواء» في المصحف بواو قبل الألف، كما كتب «علمؤا بنى إسرائيل» وكذلك كتبت «السوأى» بألف قبل الياء إثباتا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.

[سورة الروم (30) : الآيات 14 الى 16]
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون (16)
__________
(1) . قوله «إذا لم ينبس» أى لم يتكلم. أفاده الصحاح. (ع)

(3/470)


فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)

الضمير في يتفرقون للمسلمين والكافرين، لدلالة ما بعده عليه. وعن الحسن رضى الله عنه:
هو تفرق المسلمين والكافرين: هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل السافلين- وعن قتادة رضى الله عنه: فرقة لا اجتماع بعدها في روضة في بستان، وهي الجنة. والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء. وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون: بيضة النعامة يحبرون يسرون. يقال: حبره إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره. ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسار، فعن مجاهد رضى الله عنه:
يكرمون. وعن قتادة: ينعمون. وعن ابن كيسان: يحلون. وعن أبى بكر بن عياش: التيجان على رءوسهم. وعن وكيع: السماع في الجنة. وعن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم «1» ، وفي آخر القوم أعرابى فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟
قال: «نعم يا أعرابى، إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية، يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط، فذلك أفضل نعيم الجنة» قال الراوي: فسألت أبا الدرداء، بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروى «إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة» فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا «2» » محضرون لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، كقوله:
وما هم بخارجين منها، لا يفتر عنهم.

[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)
لما ذكر الوعد والوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجى من الوعيد. والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة. وقيل: الصلاة. وقيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية تمسون صلاتا المغرب والعشاء تصبحون صلاة
__________
(1) . في طريق سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله الجنبي عن عمه أبى مشجعة عن أبى الدرداء قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها ... الحديث» وسليمان منكر الحديث.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية عبد الله بن عرادة الشيباني أحد الضعفاء عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم بهذا. وروى إسحاق في مسنده من رواية مجاهد قيل لأبى هريرة «هل في الجنة من سماع؟ قال نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من الفضة وثمرها الياقوت والزبرجد يبعث لها ريح فيحرك بعضها بعضا. فما سمع شيء قط أحسن منه» .

(3/471)


ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)

الفجر وعشيا صلاة العصر. وتظهرون صلاة الظهر. وقوله وعشيا متصل بقوله حين تمسون وقوله وله الحمد في السماوات والأرض اعتراض بينهما. ومعناه: إن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. فإن قلت: لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أن هذه الآية مدنية؟ قلت: لأنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. والقول الأكثر أن الخمس إنما فرضت بمكة. وعن عائشة رضى الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين «1» فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ... الآية «2» » وعنه عليه السلام «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون- إلى قوله- وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه. ومن قالها حين يمسى أدرك ما فاته في ليلته «3» » وفي قراءة عكرمة:
حينا تمسون وحينا تصبحون. والمعنى: تمسون فيه وتصبحون فيه، كقوله يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا بمعنى فيه الحي من الميت الطائر من البيضة، والميت من الحي
البيضة من الطائر. وإحياء الأرض: إخراج النبات منها وكذلك تخرجون ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون. والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحى وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي. وقرئ: الميت، بالتشديد «4» . وتخرجون، بفتح التاء.

[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)
خلقكم من تراب لأنه خلق أصلهم منه. وإذا للمفاجأة. وتقديره: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، كقوله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. من أنفسكم أزواجا لأن حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال. أو من شكل أنفسكم وجنسها، لا من جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الألف والسكون،
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة واللفظ لأحمد وسياقه أتم
(2) . أخرجه الثعلبي من حديث أنس وفي إسناده بشر بن الحسين وهو ساقط.
(3) . أخرجه أبو داود والعقيلي وابن عدى من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف. وقال البخاري: لا يصح.
(4) . قوله «وقرئ الميت بالتشديد» يفيد أن القراءة المشهورة بالتخفيف. (ع)

(3/472)


ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)

وما بين الجنسين المختلفين من التنافر وجعل بينكم التواد والتراحم بعصمة الزواج، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، ولا لقاء، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم وعن الحسن رضى الله عنه: المودة كناية عن الجماع، والرحمة عن الولد، كما قال ورحمة منا وقال: ذكر رحمت ربك عبده. ويقال: سكن إليه، إذا مال إليه، كقولهم: انقطع إليه، واطمأن إليه- ومنه السكن. وهو الإلف المسكون إليه. فعل بمعنى مفعول. وقيل: إن المودة والرحمة من قبل الله وإن الفرك من قبل الشيطان «1» .

[سورة الروم (30) : آية 22]
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22)
الألسنة: اللغات. أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عز وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحلى وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد، وفرعوا من أصل فذ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون. وقرئ: للعالمين بفتح اللام وكسرها، ويشهد للكسر قوله تعالى وما يعقلها إلا العالمون.

[سورة الروم (30) : آية 23]
ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)
هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين. لأنهما زمانان. والزمان والواقع فيه كشيء واحد، مع إعانة اللف على الاتحاد. ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين، وابتغاءكم فيهما، والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية.
__________
(1) . قوله «وإن الفرك من قبل الشيطان» في الصحاح «الفرك» بالكسر: البغض. (ع)

(3/473)


ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24)

[سورة الروم (30) : آية 24]
ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24)
في يريكم وجهان: إضماران، وإنزال الفعل منزلة المصدر، وبهما فسر المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقول القائل:
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذى أثير «1»
خوفا من الصاعقة أو من الإخلاف وطمعا في الغيث. وقيل: خوفا للمسافر، وطمعا للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له. فإن قلت: من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن المفعولين فاعلون في المعنى، لأنهم راءون، فكأنه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى: إرادة خوف وإرادة طمع «2» ، فحذف المضاف وأقيم المضاف
__________
(1) .
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير
سقونى الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذى أثير
لعروة بن الورد العبسي، وأرقت: سهرت. والواو للمعية. والمضيق المكان الضيق. وعمق- بكسر فسكون-:
شجر ببلاد الحجاز، وبضم ففتح: موضع منخفض عند مكة، ولعله سكن هنا للوزن، ولبرق: متعلق بأرقت، أى سهرت في هذا الموضع لأجل برق من تهامة جهة محبوبتى، ويحتمل أن الواو حالية، وصحبتي مبتدأ خبره بمضيق عمق، وإذا كان أصحابه فيه فهو فيه، فرجع إلى الأول، ومستطير: منتشر. وروى: سقونى النسيء. ونسأت اللبن: خلطته بماء، فالنسىء: هو اللبن المخلوط بماء، وتكنفوني: أحاطوا بى، وعداة: جمع عاد بمعنى عدو.
وقيل: جمع عدو، أى: هم أعداء الله من أجل كذبهم وزورهم، وهي جملة اعتراضية، ويحتمل أن «عداة» بدل من ضمير الفاعل. أو فاعل على لغة من قال: أكلونى البراغيث، أى: أحاطوا بى وقالوا: ما الذي تريده، فقلت: ألهو، أى: هو أن ألهو، فأن: مقدرة معنى، وإن لم ينصب الفعل لفظا. وقال الجوهري: يقال افعل هذا آثر ذى أثير، أى: أول كل شيء، فأشار إلى أن آثر: نصب على الظرفية المجازية أو الحالية، أى افعله حال كونه أول كل شيء يؤثر، فهو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، ونص ابن الحاجب على جواز ذلك ووروده قليلا، وأثره بقصر الهمزة ومدها: إذا قدمه على غيره، وأثير: اسم مفعول بمعنى مأثور. أو حقيق بالتقدم، فالمعنى: أول كل شيء صاحب شيء مأثور، فيكون هو الأثير المقدم. أو التقدير: لهوى طول الليل هو المقدم عندي.
(2) . قال محمود: فان قلت: أينصب خوفا وطمعا مفعولا لهما وليسا فعلى فاعل الفعل المعلل، فما وجه ذلك؟ قلت:
المفعولون هنا فاعلون لأنهم راءون، فتقديره: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا. أو على حذف مضاف، تقديره: إرادة خوفكم وطمعكم» قال أحمد: الخوف والطمع من جملة مخلوقات الله تعالى وآثار قدرته، وحينئذ يلزم اجتماع شرائط النصب فيهما وهي كونهما مصدرين ومقارنين في الوجود، والفاعل الخالق واحد، فلا بد من التنبيه على تخريج النصب على غير هذا الوجه، فنقول: معنى قول النحاة في المفعول له لا بد وأن يكون فعل الفاعل، أى: ولا بد أن يكون الفاعل متصفا به، مثاله إذا قلت: جئتك إكراما لك، فقد وصفت نفسك بالإكرام فقلت في المعنى: جئتك مكرما لك، والله تعالى- وإن خلق الخوف والطمع لعباده- إلا أنه مقدس عن الاتصاف بهما، فمن ثم احتيج إلى تأويل النصب على المذهبين جميعا. والله أعلم.

(3/474)


ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26)

إليه مقامه. ويجوز أن يكونا حالين، أى: خائفين وطامعين. وقرئ: ينزل بالتشديد «1» .

[سورة الروم (30) : الآيات 25 الى 26]
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26)
ومن آياته قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد بأمره أى بقوله:
كونا قائمتين. والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال. وقوله إذا دعاكم بمنزلة قوله: يريكم، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور اخرجوا.
والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوه، كما قال القائل:
دعوت كليبا دعوة فكأنما ... دعوت به ابن الطود أو هو أسرع «2»
يريد بابن الطود: الصدى، أو الحجر إذا تدهدى، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر» كما قال تعالى ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. قولك: دعوته من مكان كذا، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك، تقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل على، ودعوته من أسفل
__________
(1) . قوله «وقرئ ينزل بالتشديد» يفيد أن المشهور بالتخفيف. (ع)
(2) . يقول: دعوت كليبا. ويروى: خليدا، دعوة واحدة فأجابني بسرعة كأنى دعوت به ابن الطود: وهو الجبل العظيم، وابنه الصدى: الذي يحاكى صوت الصائح عقب صياحه. أو: الحجر إذا هوى منه متدحرجا متدحرجا إلى أسفل. وسمى ابنه على سبيل الاستعارة التصريحية، لأنه ناشئ منه وملازم له، ثم إن فيه تجريدا حيث انتزع من كليب أمرا آخر يشبه ابن الطود في السرعة، والباء للملابسة، أى كأنى دعوت ابن الطود ملابسا له. ويحتمل أنها للبدل، أى: دعوت بدله ابن الطود. أو بمعنى من، أى: دعوت منه ابن الطود. وقوله: أو هو، أى: كليب أسرع من ابن الطود في الاجابة. [.....]

(3/475)


وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)

الوادي فطلع إلى. فإن قلت: بم تعلق من الأرض أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. فإن قلت: ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت: الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وقرئ: تخرجون، بضم التاء وفتحها قانتون منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه.

[سورة الروم (30) : آية 27]
وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)
وهو أهون عليه فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم، لأن من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم: أول الغزو أخرق، وتسمون الماهر في صناعته معاودا، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى، حتى مرن عليها وهانت عليه. فإن قلت: لم ذكر الضمير في قوله وهو أهون عليه والمراد به الإعادة؟ قلت: معناه: وأن يعيده أهون عليه. فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله وهو أهون عليه وقدمت في قوله هو علي هين «1» ؟ قلت: هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو على هين، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم «2» وعاقر، وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره «3» ، ثم هونت بعد ذلك؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم أخرت الصلة هاهنا وقد قدمت في قوله تعالى هو علي هين؟ قلت: لأن المقصود مما نحن فيه خلاف المقصد هناك، فانه اختصاص الله تعالى بالقدرة على إيلاد الهم والعاقر، وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه، كيف والأمر مبنى على ما يعتقدونه في الشاهد من أن الاعادة أسهل من الابتداء، فالاختصاص بغير المعنى» قال أحمد: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر، وقد علمت مذهبه في مثل ذلك.
(2) . قوله «أن يولد بين هم وعاقر» في الصحاح «الهم» بالكسر. الشيخ الفاني. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما بال الاعادة استعظمت في قوله ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض؟ قلت: الاعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء» قال أحمد: إنما يلقى في السؤال تعظيم الاعادة من عطفها بثم، إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها. وقوله في الجواب: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء لا يخلص، فان الاعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره. وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الاعادة، فيلزم تعظيم الاعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه عن الإنشاء ويعود الاشكال، والمخلص- والله أعلم- جعل ثم على بابها لتراخى الزمان لا لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا. وذلك نادر في مجيئها لتراخى المراتب، فان المعطوف حينئذ في أكثر المواضع أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم.

(3/476)


الإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. وقيل الضمير في عليه للخلق.
ومعناه: أن البعث أهون على الخلق من الإنشاء، لأن تكوينه في حد الاستحكام، والتمام أهون عليه وأقل تعبا وكبدا، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحد. وقيل:
الأهون بمعنى الهين. ووجه آخر: وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله، لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب «1» ، والأفعال: إما محال والمحال ممتنع أصلا «2» خارج عن المقدور، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح، وهو رديف المحال، لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة. وإما تفضل والتفضل حالة بين بين، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله. وإما واجب لا بد من فعله، ولا سبيل إلى الإخلال به، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول. فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب، كانت أبعد الأفعال من الامتناع.
وإذا كانت أبعدها من الامتناع، كانت أدخلها في التأنى والتسهل، فكانت أهون منها «3» . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء وله المثل الأعلى أى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به. ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات، ويدل عليه قوله تعالى وهو العزيز الحكيم أى القاهر لكل مقدور، الحكيم الذي يجرى كل فعل على قضايا حكمته وعلمه. وعن مجاهد: المثل الأعلى: قول لا إله إلا الله، ومعناه: وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية. ويعضده قوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم وقال الزجاج: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، أى: قوله تعالى وهو أهون عليه قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل. يريد: التفسير الأول.
__________
(1) . قوله «وجزاؤها واجب ... الخ» هذا عند المعتزلة، ولا يجب على الله شيء عند أهل السنة كما تقدم في محله. (ع)
(2) . عاد كلامه: قال في تقرير معنى قوله وهو أهون عليه: الأفعال إما ممتنع عقلا لذاته، وإما ممتنع لصارف يصرف الحكيم عن فعله. وإما تفضل يتخير الحكيم فيه بين أن يفعل وأن لا. وإما واجب على الحكيم أن يفعله فالانشاء الأول من قبيل التفضل، وأما الاعادة فواجبة على الله تعالى لأجل الجزاء، فلما كانت واجبة كانت أبعد الأفعال عن الممتنع، فلذلك وصفت بالتسهيل وكانت أهون من الإنشاء» قال أحمد: لقد ضل وصد عن السبيل، فلا نوافقه ولا ترافقه، والحق: أن لا واجب على الله تعالى، وكل ما ذكره في هذا الفصل نزغات قدرية، على أنها أيضا غير مستقيمة على أصولهم المجتثة، فان مقتضاها وجوب الإنشاء في الحكمة، إذ لولا مصلحة اقتضت الإنشاء لما وقع، وتلك المصلحة توجب متعلقها، فقد وضح أن المصنف لا إلى معالى السنة رقى، ولا في حضيض الاعتزال بقي، فلله العصمة.
(3) . قوله فكانت أهون منها» أى من بقية الأفعال. (ع)

(3/477)


ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28) بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين (29) فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)

[سورة الروم (30) : آية 28]
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28)
فإن قلت: أى فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى من أنفسكم، مما ملكت أيمانكم، من شركاء؟ قلت: الأولى للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب.
شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد، والثانية للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. ومعناه: هل ترضون لأنفسكم- وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد- أن يشارككم بعضهم في ما رزقناكم من الأموال وغيرها تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفصلة بين حر وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ كذلك أى مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أى نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها.
ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟

[سورة الروم (30) : آية 29]
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين (29)
الذين ظلموا أى أشركوا، كقوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم بغير علم أى اتبعوا أهواءهم جاهلين، لأن العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه. وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء من أضل الله من خذله «1» ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له، فمن يقدر على هداية مثله. وقوله وما لهم من ناصرين دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.

[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)
__________
(1) . قوله «من أضل الله: من خذله» تأويل الإضلال بذلك مبنى على أنه تعالى لا يخلق الشر، وهو مذهب المعتزلة، وذهب أهل السنة إلى أنه يخلق الشر كالخير، فالآية على ظاهرها. (ع)

(3/478)


فأقم وجهك للدين فقوم وجهك له وعدله، غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا، وهو تمثيل لإقباله على الدين، واستقامته عليه، وثباته، واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه، وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه، مقبلا به عليه. وحنيفا حال من المأمور. أو من الدين فطرت الله أى الزموا فطرة الله. أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله منيبين إليه ومنيبين: حال من الضمير في: الزموا. وقوله واتقوه وأقيموا ... ولا تكونوا معطوف على هذا المضمر. والفطرة: الخلقة. ألا ترى إلى قوله لا تبديل لخلق الله والمعنى: أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، مساوقا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين «1» عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بى غيرى «2» » وقوله عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» «3» لا تبديل لخلق الله أى ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. فإن قلت: لم وحد الخطاب أولا، ثم جمع؟ قلت: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص من الذين بدل من المشركين فرقوا دينهم تركوا دين الإسلام. وقرئ: فرقوا دينهم بالتشديد، أى: جعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم وكانوا شيعا فرقا، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها كل حزب منهم فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقا- ويجوز أن يكون من الذين منقطعا مما قبله، ومعناه: من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل، كقوله:
وكل خليل غير هاضم نفسه «4»
__________
(1) . قوله «فاجتالتهم الشياطين» أدارتهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه مسلم من حديث عياض بن حمار به وأتم منه.
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.
(4) .
وكل خليل غير هاضم نفسه ... فبالصد والاعراض عنه جدير
للشماخ. ويروى: بدل الشطر الثاني: بوصل خليل صارم أو مصادر. وغير هاضم- بالرفع-: صفة كل. أو بالجر: صفة خليل، أى: من لم يخفض نفسه لصاحبه فهو حقيق بالصد والاعراض عنه لا بالمودة. وزادت الفاء، لأن المبتدأ فيه معنى الشرط. والصارم: القاطع. والمصادر: المجانب، أى: من لم يهضم نفسه لوصل خليله، أدى به ذلك إلى القطيعة، فان لم تكن فالى المجانبة، فكأنه مقاطع، أو مجانب بالفعل.

(3/479)


وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34) أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37) فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38)

[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 34]
وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34)
الضر: الشدة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك. والرحمة: الخلاص من الشدة.
واللام في ليكفروا مجاز مثلها في ليكون لهم عدوا. فتمتعوا نظير اعملوا ما شئتم فسوف تعلمون وبال تمتعكم. وقرأ ابن مسعود: وليتمتعوا.

[سورة الروم (30) : آية 35]
أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35)
السلطان: الحجة، وتكلمه. مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن.
ومعناه: الدلالة والشهادة، كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته. وما في بما كانوا مصدرية أى: بكونهم بالله يشركون. ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها. ومعناه: فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون. ويحتمل أن يكون المعنى: أم أنزلنا عليهم ذا سلطان، أى:
ملكا معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون.

[سورة الروم (30) : آية 36]
وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36)
وإذا أذقنا الناس رحمة أى نعمة من مطر أو سعة أو صحة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة أى بلاء من جدب أو ضيق أو مرض- والسبب فيها شؤم معاصيهم- قنطوا من الرحمة.

[سورة الروم (30) : آية 37]
أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37)
ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته.

[سورة الروم (30) : آية 38]
فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38)
حق ذى القربى: صلة الرحم. وحق المسكين وابن السبيل: نصيبهما من الصدقة المسماة لهما.

(3/480)


وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)

وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. وعند الشافعي رحمه الله: لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين: قاس سائر القرابات على ابن العم، لأنه لا ولاد بينهم. فإن قلت: كيف تعلق قوله فآت ذا القربى بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت: لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك يريدون وجه الله يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه، أى: يقصدون بمعروفهم إياه خالصا وحقه، كقوله تعالى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى أو يقصدون جهة التقرب إلى الله لا جهة أخرى، والمعنيان متقاربان، ولكن الطريقة مختلفة.

[سورة الروم (30) : آية 39]
وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39)
هذه الآية في معنى قوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات سواء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا من ربا ليربوا في أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه وما آتيتم من زكاة أى صدقة تبتغون به وجهه خالصا، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة فأولئك هم المضعفون ذوو الإضعاف من الحسنات. ونظير المضعف:
المقوي والموسر، لذي القوة واليسار: وقرئ بفتح العين. وقيل: نزلت في ثقيف، وكانوا يربون. وقيل: المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدى له، ليعوضه أكثر مما وهب أو أهدى، فليست تلك الزيادة بحرام، ولكن المعوض لا يثاب على تلك الزيادة. وقالوا: الربا ربوان:
فالحرام: كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه: أو يجر منفعة. والذي ليس بحرام: أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها. وفي الحديث «المستغزر يثاب من هبته» «1» وقرئ: وما أتيتم من ربا، بمعنى: وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا. وقرئ: لتربوا، أى: لتزيدوا في أموالهم، كقوله تعالى ويربي الصدقات أى يزيدها. وقوله تعالى فأولئك هم المضعفون التفات حسن، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم: هم المضعفون. فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. والمعنى: المضعفون به، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، ووجه آخر: وهو أن يكون تقديره: فمؤتوه أولئك هم المضعفون.
والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذا، والأول أملأ بالفائدة.

[سورة الروم (30) : آية 40]
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من وجهين عن ابن سيرين عن شريح بهذا موقوفا.

(3/481)


ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)

الله مبتدأ وخبره الذي خلقكم أى الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره، ثم قال هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئا قط من تلك الأفعال، حتى يصح ما ذهبتم إليه، ثم استبعد حاله من حال شركائهم. ويجوز أن يكون الذي خلقكم صفة للمبتدإ، والخبر: هل من شركائكم، وقوله من ذلكم هو الذي ربط الجملة بالمبتدإ، لأن معناه: من أفعاله. ومن الأولى والثانية والثالثة: كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد، لتعجيز شركائهم، وتجهيل عبدتهم.

[سورة الروم (30) : آية 41]
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)
الفساد في البر والبحر نحو: الجدب، والقحط، وقلة الريع في الزراعات والريح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق، وإخفاق الصيادين «1» والغاصة، ومحق البركات من كل شيء، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار. وعن ابن عباس:
أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر. وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أن المراد بالبحر: مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة: العرب تسمى الأمصار البحار. وقرئ في البر والبحور بما كسبت أيدي الناس بسبب معاصيهم وذنوبهم، كقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وعن ابن عباس ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه. وفي البحر بأن جلندى كان يأخذ كل سفينة غصبا: وعن قتادة: كان ذلك قبل البعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت: ما معنى قوله ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون؟ قلت أما على التفسير الأول فظاهر، وهو أن الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه. وأما على الثاني فاللام مجاز، على معنى أن ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك. وقرئ: لنذيقهم، بالنون.
__________
(1) . قوله «وإخفاق الصيادين» في الصحاح: أخفق الصائد، إذا رجع ولم يصطد. (ع)

(3/482)


قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42) فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43) من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين (45)

[سورة الروم (30) : آية 42]
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42)
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله: حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، ودل بقوله كان أكثرهم مشركين على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأن ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك.

[سورة الروم (30) : آية 43]
فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43)
القيم: البليغ الاستقامة «الذي لا يتأتى فيه عوج من الله إما أن يتعلق بيأتى، فيكون المعنى: من قبل أن يأتى من الله يوم لا يرده أحد، كقوله تعالى فلا يستطيعون ردها أو بمرد، على معنى: لا يرده هو بعد أن يجيء به، ولا رد له من جهته. والمرد: مصدر بمعنى الرد يصدعون يتصدعون: أى: يتفرقون، كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون.

[سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45]
من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين (45)
فعليه كفره كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضار، لأن من كان ضاره كفره، فقد أحاطت به كل مضرة فلأنفسهم يمهدون أى يسؤون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغض عليه مرقده: من نتوء أو قضض «1» أو بعض ما يؤذى الراقد. ويجوز أن يريد: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أم فرشت فأنامت. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه. ومنفعة الإيمان والعمل الصالح: ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه ليجزي متعلق بيمهدون تعليل له من فضله مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له: أو أراد من عطائه وهو ثوابه، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب. وتكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إنه لا يحب الكافرين تقرير بعده تقرير، على الطرد والعكس.
__________
(1) . قوله «من نتوء أو قضض» النتوء: الارتفاع. والقضض: صغار الحصى. أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(3/483)


ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)

[سورة الروم (30) : آية 46]
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46)
الرياح هي الجنوب والشمال والصبا، وهي رياح الرحمة. وأما الدبور، فريح العذاب.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا «1» » وقد عدد الأغراض في إرسالها، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض «2» » وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك ولتجري الفلك في البحر عند هبوبها. وإنما زاد بأمره لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية «3» ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت فأغرقتها ولتبتغوا من فضله يريد تجارة البحر، ولتشكروا نعمة الله فيها. فإن قلت: بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت:
فيه وجهان: أن يكون معطوفا على مبشرات على المعنى، كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم. وأن يتعلق بمحذوف تقديره: وليذيقكم، وليكون كذا وكذا: أرسلناها.

[سورة الروم (30) : آية 47]
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)
اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين، وقد أخلى الكلام أولا عن ذكرهما. وقوله كان حقا علينا نصر المؤمنين
تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم، وقد يوقف على قا
. ومعناه:
وكان الانتقام منهم حقا، ثم يبتدأ: لينا نصر المؤمنين
وعن النبى صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة «4» » . ثم
__________
(1) . أخرجه الشافعي: أخبرنى من لا أنهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه، ومن طريقه. أخرجه في المعرفة وفي الدعوات. وهذا المبهم: هو إبراهيم بن أبى يحيى وهو ضعيف. وله طريق أخرى عند أبى يعلى والطبراني وابن عدى من رواية حسين بن قيس عن عكرمة به وحسين ضعيف أيضا
(2) . لم أجده.
(3) . قوله «ولا تكون مؤاتية» في الصحاح: آتيته على ذلك الأمر هؤاتاة، إذا وافقته. والعامة تقول:
وأتيته. (ع)
(4) . أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث أبى الدرداء وقال حسن. ورواه إسحاق والطبراني وأبو يعلى وابن عدى من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا نحوه وإسناده ضعيف. واختلف فيه على شهر ابن حوشب: فقال العلاج عنه هكذا، وقال ليث بن أبى سليم عنه عن أبى هريرة، أخرجه ابن مردويه.

(3/484)


الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير (50) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53)

تلا قوله تعالى كان حقا علينا نصر المؤمنين.

[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 49]
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49)
فيبسطه متصلا تارة ويجعله كسفا أى قطعا تارة فترى الودق يخرج من خلاله في التارتين جميعا. والمراد بالسماء. سمت السماء وشقها، كقوله تعالى وفرعها في السماء، وبإصابة العباد: إصابة بلادهم وأراضيهم من قبله من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم «1» فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.

[سورة الروم (30) : آية 50]
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير (50)
قرئ: أثر وآثار، على الوحدة والجمع. وقرأ أبو حيوة وغيره: كيف تحيى، أى: الرحمة إن ذلك يعنى إن ذلك القادر الذي يحيى الأرض بعد موتها، هو الذي يحيى الناس بعد موتهم وهو على كل شيء من المقدورات قادر، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.

[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53)
فرأوه فرأوا أثر رحمة الله. لأن رحمة الله هي الغيث، وأثرها: النبات. ومن قرأ بالجمع: رجع الضمير إلى معناه لأن معنى آثار الرحمة النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. ولئن: هي اللام الموطئة للقسم، دخلت على حرف الشرط، ولظلوا جواب القسم سد مسد الجوابين، أعنى: جواب القسم وجواب الشرط، ومعناه: ليظلن ذمهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم
__________
(1) . قوله «إبلاسهم» الإبلاس: اليأس من الخير، والسكوت، والانكسار غما وحزنا. أفاده الصحاح. (ع)

(3/485)


الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54) ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55)

على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر: استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل ريحا فضرب زروعهم بالصفار، ضجوا وكفروا بنعمة الله. فهم في جمع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله، فقنطوا. وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار. وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. والريح التي اصفر لها النبات: يجوز أن تكون حرورا وحرجفا، فكلتاهما مما يصوح «1» له النبات ويصبح هشيما. وقال: مصفرا: لأن تلك صفرة حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرا، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر.

[سورة الروم (30) : آية 54]
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54)
قرئ: بفتح الضاد وضمها، وهما لغتان، والضم أقوى في القراءة، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعف، فأقرأنى من ضعف «2» .
قوله خلقكم من ضعف كقوله خلق الإنسان من عجل يعنى أن أساس أمركم وما عليه؟؟؟ بلتكم وبنيتكم الضعف وخلق الإنسان ضعيفا أى ابتدأناكم في أول الأمر ضعافا، وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة، وتلك حال القوة إلى الاكتهال وبلوغ الاشد، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم. وقيل: من ضعف من؟؟؟ النطف، كقوله تعالى من ماء مهين وهذا الترديد في الأحوال المختلفة، والتغيير من هيئة إلى؟؟؟ الهيئة وصفة إلى صفة: أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر.

[سورة الروم (30) : آية 55]
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55)
الساعة القيامة، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا. أو لأنها تقع؟؟؟ بغتة وبديهة. كما تقول: «في ساعة» لمن تستعجله، وجرت علما لها كالنجم للثريا، والكوكب للزهرة. وأرادوا: لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث:
__________
(1) . قوله «وحرجفا ... الخ» في الصحاح «الحرجف» : الريح الباردة. وفيه أيضا «صوحته الريح» :
؟؟؟ أيبسته. (ع)
(2) . أخرجه أبو داود والترمذي وإسحاق والبزار من حديث عطية عن ابن عمر دون التفسير ورواه ابن مردويه من رواية أبى عمرو بن العلاء عن نافع عن ابن عمر لكن في إسناده سلام بن سليمان.

(3/486)


وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)

«ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون» «1» قالوا: لا نعلم أهى أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون كذلك كانوا يؤفكون أى مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق. أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة.

[سورة الروم (30) : الآيات 56 الى 57]
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)
القائلون: هم الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون في كتاب الله في اللوح. أو في علم الله وقضائه. أو فيما كتبه، أى: أوجبه بحكمته. ردوا ما قالوه وحلفوا عليه، وأطلعوهم على الحقيقة تم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. فإن قلت: ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:
فقد جئنا خراسانا «2»
وحقيقتها: أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان، وآن لنا أن نخلص، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث، أى فقد تبين بطلان قولكم. وقرأ الحسن يوم البعث، بالتحريك لا ينفع قرئ بالياء والتاء يستعتبون من قولك: استعتبني فلان فأعتبته. أى: استرضانى فأرضيته، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله:
غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم «3»
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما بين النفختين» أربعون قالوا: يا أبا هريرة أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت قالوا: أربعون يوما؟ قال: أبيت» .
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 271 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 105 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(3/487)


ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)

كيف جعلهم غضابا، ثم قال: فأعتبوا، أى: أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى:
لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون.
فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها، وهو قوله وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين؟ قلت: أما كونهم غير مستعتبين: فهذا معناه. وأما كونهم غير معتبين، فمعناه: أنهم غير راضين بما هم فيه، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه، فإن يستعتبوا الله: أى يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته.

[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)
ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم- لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة- إذا جئتهم بآية من آيات القرآن، قالوا: جئتنا بزور وباطل، ثم قال: مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة. ومعنى طبع الله: منع الألطاف «1» التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغنى عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أن الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدإ والرين إياها، فكأنه قال: كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله «2» في تلك الصفة فاصبر على عداوتهم إن وعد الله بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله حق لا بد من إنجازه والوفاء به، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق
__________
(1) . قوله «ومعنى طبع الله منع الألطاف» أوله بذلك بناء على أنه تعالى لا يخلق الشر وهو مذهب المعتزلة.
وذهب أهل السنة إلى أنه يخلقه كالخير، فالآية على ظاهرها. (ع)
(2) . قوله «وهم أعرق خلق الله» في الصحاح: أعرق الرجل، أى: صار عريقا، وهو الذي له عرق في الكرم. (ع)

(3/488)


الم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)

ويعقوب: ولا يستحقنك، أى: لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» «1» .

سورة لقمان
مكية [إلا الآيات 27 و 28 و 29 فمدنية] وآياتها 34 وقيل 33 [نزلت بعد الصافات] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تلك آيات الكتاب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (4)
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
الكتاب الحكيم ذى الحكمة. أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازى. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة هدى ورحمة بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها:
ما في تلك من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف للمحسنين للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس:
الألمعى الذى يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
(2) .
أيتها النفس احملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة و ... النجدة والبر والتقى جمعا
الألمعى الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
أودى فلا تنفع الاشاحة من ... أمر لمن يحاول البدعا
لأوس بن حجر، يرثى فضالة بن كلدة. يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما، إن الذي تخافين منه قد حصل، وبينه بقوله: إن الذي جمع المكارم كلها أودى، أى: هلك. وجمع- بالضم-: توكيد للصفات قبله. والألمعى:
نصب على الصفة للذي، وفسره بأنه الذي يظن بك، يعنى كل مخاطب، أى: يظن الظن الحق، كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب، كأنه قد رآه إن كان فعلا، أو سمعه إن كان قولا. وفيه نوع من البديع يسمى التفسير، وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته بدون تفسيره، ذكره السيوطى في شرح عقود الجمان. والاشاحة:
الشجاعة والجد في القتال. وضمن «تنفع» معنى «تحفظ» فعداه بمن، أى: فلا تحفظ الشجاعة من مكروه أحدا.
وعداه باللام، نظرا للفظه. والأقرب أن من واللام زائدتان لتوكيد الكلام، أى: فلا تنفع الاشاحة شيئا من النفع أحدا من الناس يحاول ويطلب بدائع الأمور وعظائمها، يعنى: أن فضالة كان كذلك فمات، وفيه نوع تسل. [.....]

(3/489)


ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7)

حكى عن الأصمعى: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها.

[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7)
اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار «1» ، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشترى المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن ولا أثمانهن «2» «وعنه صلى الله عليه وسلم «ما من رجل
__________
(1) . قوله «وتعلم الموسيقار» يونانية. ومعناه: علم الغناء، وبغير راء: ذات الغناء، كذا قيل. (ع)
(2) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة بهذا. وهو عند أحمد وابن أبى شيبة والترمذي وأبى يعلى من هذا الوجه وهو ضعيف، ورواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم نحوه. وله طريق آخر عند ابن ماجة من رواية عبيد الله الأفريقى عن أبى أمامة، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن، وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن وفي الباب عن عمر. أخرجه الطبراني وابن عدى من رواية يزيد بن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن خصيف عن السائب بن يزيد عن عمر نحوه، ويزيد بن عبد المطلب ضعيف وعن على أخرجه أبو يعلى وابن عدى.
وفيه الحارث بن نهان وهو ضعيف، وعن عائشة أخرجه البيهقي وفيه ليث بن أبى سليم وهو ضعيف.

(3/490)


يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت «1» «وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت:
معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز، وباب ساج «2» . والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «3» » ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله يشتري إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله اشتروا الكفر بالإيمان أى استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه:
استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: ليضل بضم الياء وفتحها.
وسبيل الله دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمده، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه.
والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله بغير علم؟ قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.
ونحوه قوله تعالى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أى: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ ويتخذها بالنصب والرفع عطفا على يشترى. أو ليضل، والضمير للسبيل، لأنها مؤنثة، كقوله تعالى وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا.
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبى أمامة وهو عند الطبراني من رواية يحيى بن الحارث عن القاسم في الحديث الذي قبله.
(2) . قوله «كقولك صفة خز وباب ساج» لعله محرف. وأصله جبة خز، ثم رأيت في الصحاح: صفة الدار والسرج: واحدة الصفف اه، فلعل صفة السرج تكون من خز. (ع)
(3) . تقدم في براءة.

(3/491)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9) خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد (12)

ولى مستكبرا زاما «1» لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كأن في أذنيه وقرا أى ثقلا ولا وقر فيهما، وقرئ: بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من مستكبرا والثانية من لم يسمعها: ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في كأن المخففة: كأنه، والضمير: ضمير الشأن.

[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 11]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9) خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11)
وعد الله حقا مصدران مؤكدان، الأول: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، لأن قوله لهم جنات النعيم في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله لهم جنات النعيم وهو العزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو الحكيم لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل ترونها الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها، غير معمودة على قوله بغير عمد كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحر صفة للعمد أى: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. والذين من دونه آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال.

[سورة لقمان (31) : آية 12]
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد (12)
هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش
__________
(1) . قوله «زاما لا يعبأ بها» في الصحاح: زم بأنفه، أي: تكبر، فهو زام. (ع)

(3/492)


وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13)

ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا. ولكن كان راعيا أسود، فرزقه الله العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا. وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة «1» . وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطا، وعن مجاهد: كان عبدا أسود غليظ الشفتين متشفق «2» القدمين. وقيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال ما بلغ بك ما أرى؟
قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. وروى أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان. أن هي المفسرة، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر غني غير محتاج إلى الشكر حميد حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.

[سورة لقمان (31) : آية 13]
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13)
قيل: كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي: «أشكم» وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال
__________
(1) . ذكر محمود في ذلك اختلاف العلماء في نبوته، وذكر أثناء ذلك أنه خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. قال أحمد: وفي هذا بعد بين، وذلك أن الحكمة داخلة في النبوة، وقطرة من بحرها، وأعلى درجات الحكماء تنحط عن أدنى درجات الأنبياء بما لا يقدر قدره. وليس من الحكمة اختيار الحكمة المجردة من النبوة،
(2) . قوله «متشفق» في الصحاح: «الشفق» : الرديء من الأشياء. يقال: غطاء مشفق، أى: مقلل اه والظاهر أنه متشقق بقافين. (ع)

(3/493)


ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15)

بهما حتى أسلما لظلم عظيم لأن التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصور أن تكون منه-: ظلم لا يكتنه عظمه.

[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15]
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15)
أى حملته تهن وهنا على وهن كقولك رجع عودا على بدء، بمعنى، يعود عودا على بدء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أى: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا. وقرئ: وهنا على وهن، بالتحريك عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن. ووهن يهن. وقرئ: وفصله أن اشكر تفسير لوصينا ما ليس لك به علم أراد بنفي العلم به نفيه، أى: لا تشرك بى ما ليس بشيء «1» ، يريد الأصنام، كقوله تعالى ما يدعون من دونه من شيء. معروفا صحابا، أو مصاحبا معروفا حسنا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة واتبع سبيل من أناب إلي يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه- وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا- ثم إلى مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها «2» بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت:
فقوله حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما
__________
(1) . قال محمود: «معناه: ما ليس بشيء، وعبر بنفي العلم عن نفى المعلوم» قال أحمد: هو من باب قوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: ما ليس باله فيكون لك علم بالالهية، وليس كما ذكره في قول فرعون ما علمت لكم من إله غيري وقد مر معناه فيما تقدم.
(2) . قوله «حتى شجروا فاها بعود» في الصحاح: شجرة بالرمح، أى: طعنه. (ع)

(3/494)


يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16)

وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا «1» . وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ «أمك ثم أمك ثم أمك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك «2» » . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه:
أحمل أمى وهي الحماله ... ترضعنى الدرة والعلالة
ولا يجازى والد فعاله «3»
فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وبه استشهد الشافعي رضى الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رضى الله عنه.
فمدة الرضاع ثلاثون شهرا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعا. وإن أكل أكلا ضعيفا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم.

[سورة لقمان (31) : آية 16]
يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16)
قرئ مثقال حبة بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة «4» من الإساءة أو الإحسان،
__________
(1) . قال محمود: «فيه تخصيص حق الأم، وهو مطابق لبدايته، فذكرها في وجوب البر في الحديث المأثور» قال أحمد: وهذا من قبيل ما يقوله الفقهاء: إن اللأم من عمل الولد قبل الحلم جله، وهو مما يفيد تأكيد حقها، والله أعلم.
(2) . أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال «قلت يا رسول الله من أبر؟
الحديث» وله شاهد في الصحيحين من حديث أبى زرعة عن أبى هريرة قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق بصحابتى؟ - الحديث»
(3) . لعربي يحمل أمه إلى الحج، وهي الحمالة: جملة حالية، أى: كثيرة الحمل بحسب ما كان. أو من عادتها ذلك، وترضع: حال متداخلة، والدرة- بالضم: كثرة اللبن وسيلانه، والمراد بها: اللبن الكثير. والعلالة- بالضم-:
بقية اللبن، والحلبة بين الحلبتين، وتطلق على بقية جرى الفرس. والعلل: الشرب الثاني، والشرب الأول النهل:
وروى ترضعنى الدرة. والفعال- بالفتح-: فعل الخير وأراد بالوالد: الأم، أو ما يشمل الأب والأم.
(4) . قوله «للهنة من الاساءة» في الصحاح «هن» : على وزن أخ: كلمة كناية. ومعناه: شيء، ومؤنثه:
هنة. والقماءة: الصغر والحقارة. كذا في الصحاح (ع) [.....]

(3/495)


يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (17)

أى: إن كانت مثلا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة «1» أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى يأت بها الله يوم القيامة فيحاسب بها عاملها إن الله لطيف يتوصل علمه إلى كل خفى خبير عالم بكنهه.
وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة، كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم «2»
وروى أن ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر- أى: في مغاصه- يعلمها الله؟ فقال: إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ: فتكن، بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا.

[سورة لقمان (31) : آية 17]
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (17)
واصبر على ما أصابك يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر إن ذلك مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل «3» » أى لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام «لمن لم يبيت السيام» «4» ومنه «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» «5»
__________
(1) . قال محمود: «هذا من البديع الذي يسمى التتميم» قال أحمد: يعنى أنه تمم خلفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادى قولها كأنه علم في رأسه نار.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . تقدم في البقرة.
(4) . تقدم أيضا.
(5) . أخرجه ابن أبى شيبة وابن عدى من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رجلا قال يا رسول الله، أقصر الصلاة في سفري؟ قال: نعم، إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بفريضته» وفيه عمر بن عبد الله بن أبى خشعم اليمامي وهو منكر الحديث: قاله ابن عدى، وأخرجه أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبى سعيد، حدثني أخى عبد الله عن أبيه. أن أبى هريرة مرفوعا نحوه، ورواه ابن حبان وأحمد والبزار، وأبو يعلى من رواية حرب ابن قيس عن نافع عن ابن عمر بلفظ «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في الحلية من رواية هشام بن حسان عن عكرمة عنه بلفظ ابن عمر وعن ابن مسعود أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو نعيم من رواية معمر بن عبد الله الأنصارى عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عنه تفرد برفعه معمر، ووقفه غندر وروح بن عبادة وغيرهما عن شعبة. أخرجه ابن أبى شيبة وغيره. وعن عائشة: أخرجه ابن عدى من رواية الحكم بن عبد الله الأيلى عن القاسم عن عائشة ومن رواية عمر بن عبيد البصري عن هشام عن أبيه عنها والحكم وعمر ضعيفان. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا عمر بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن زيد بن آدم عن أبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة وأنس به وقال: لا يروى إلا بهذا الاسناد تفرد به إسماعيل. قلت: والاسناد مجهول. قوله «وقولهم عزمة من عزمات ربنا» هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، في أثناء حديثه قال فيه «ومن منعها يعنى الزكاة فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء وإسناده حسن.

(3/496)


ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)

وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك. وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده:
عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ولا مندوحة في تركه.
وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أى: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل. أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى فإذا عزم الأمر كقولك: جد الأمر، وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها.

[سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19]
ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)
تصاعر، وتصعر: بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خده، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد:
ولا تمش تمرح مرحا أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس. والمختال: مقابل للماشي مرحا، وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا واقصد في مشيك واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» «1» وأما قول
__________
(1) . جاء من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وابن عمر، وأخرجه ابن عدى من رواية عمار بن مطرد وهو لتروك، وقد تابعه الوليد بن سلمة وهو أو هي منه، لكنه قال: عن ابن أبى ذئب عن المغيرة عن أبى سعيد والوليد بن سلمة. وفيه إسناد آخر أخرجه ابن عدى من روايته عن عمرو بن صهبان عن نافع عن ابن عمر، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبى معشر عن سعيد عن أبى هريرة وإسناده ضعيف أيضا

(3/497)


ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20)

عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» «1» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ: وأقصد، بقطع الهمزة، أى: سدد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية واغضض من صوتك وانقص منه واقصر، من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه أنكر الأصوات أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عد في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة «2» ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة- وإن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا- ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.

[سورة لقمان (31) : آية 20]
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (20)
ما في السماوات الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك وما في الأرض البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى وأسبغ وقرى بالسين والصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ، صلخ، وفي سقر: صقر، وفي سالغ: صالغ «3»
__________
(1) . ذكره ابن الأثير في النهاية، قلت: لعله أخذه عن الفائق، وفي الطبقات لابن سعد من رواية سليمان ابن أبى حثمة قال قالت الشفاء بنت عبد الله، وهي أم سليمان: كان عمر إذا مشى ... فذكره.
(2) . قوله «منه الرجلة» أى: المشي برجله، يعنى: وإن أتعبه المشي وعدم الركوب. وفي الصحاح «الرجل» بالتحريك: مصدر قولك: رجل- بالكسر- أى: بقي راجلا. (ع)
(3) . قوله «وفي سالغ صالغ» في الصحاح: سلغت البقرة والشاة، إذا أسقطت السن التي خلفت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف: بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف. (ع)

(3/498)


وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور (22)

وقرئ: نعمه، ونعمة، ونعمته. فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمة، لأنه إما حيوان، وإما غير حيوان. فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان، والحيوان نعمة من حيث أن إيجاده حيا نعمة عليه. لأنه لولا إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثا، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع، لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الأمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة الستر. وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة. وتسوية الأعضاء. والباطنة:
المعرفة. وقيل: الظاهرة البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة:
القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى: أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس «1» .

[سورة لقمان (31) : آية 21]
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21)
معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أى في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

[سورة لقمان (31) : آية 22]
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور (22)
قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: ومن يسلم بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ماله عدى بإلى، وقد عدى باللام في قوله بلى من أسلم وجهه لله؟ قلت:
معناه مع اللام: أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله. أى خالصا له. ومعناه- مع إلى-:
__________
(1) . لم أجده.

(3/499)


ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25) لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد (26) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)

أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه فقد استمسك بالعروة الوثقى من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وإلى الله عاقبة الأمور أى هي صائرة إليه.

[سورة لقمان (31) : الآيات 23 الى 24]
ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24)
قرئ: يحزنك، ويحزنك: من حزن، وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عز وجل دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله إن الله يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه نمتعهم زمانا قليلا بدنياهم ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك «1» منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد الشدة والثقل على المعذب.

[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 27]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25) لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد (26) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)
قل الحمد لله إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال بل أكثرهم لا يعلمون أن ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا إن الله هو الغني عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه.
__________
(1) . قال محمود: «شبه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه» قال أحمد:
وتفسير هذا الاضطرار في الحديث في أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد، فيرسل الله عليهم الزمهرير.
فيكون عليهم كشدة اللهب، فيتمنون عود اللهب اضطرارا، فهو إخبار عن اضطرار. وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث يقول:
يرون الموت قداما وخلفا ... فيختارون والموت اضطرار

(3/500)


قرئ: والبحر، بالنصب عطفا على اسم إن، وبالرفع عطفا على محل إن، ومعمولها على.
ولو ثبت «1» كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء والواو للحال، على معنى. ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا، وفي قراءة ابن مسعود:
وبحر يمده على التنكير، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأول. وقرئ: يمده، ويمده. وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أن الشجر أقلام، والبحر مداد. قلت:
أغنى عن ذكر المداد قوله: يمده، لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. والمعنى:
ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر. وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. فإن قلت: زعمت أن قوله والبحر يمده حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها «2»
و: جئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل. فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل: إن المشركين قالوا: إن هذا يعنون الوحى- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء إن الله عزيز لا يعجزه شيء حكيم لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.
__________
(1) . قوله «ومعمولها على: ولو ثبت» لعله: على معنى ولو ... الخ. (ع)
(2) .
وقد اغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
لامرئ القيس من معلقته. وقد: للتكثير. والوكنات: جمع وكنة بضمتين، وبتثليث أوله وسكون ثانيه:
موضع الطير الذي يبيت فيه، والباء للملابسة، والمجرد: دقيق الشعر قصيره. أو سريع الجري. وشبه الفرس بالقيد تشبيها بليغا: أى: لا تنفك منه الأوابد: وهي الوحوش، ولا تفوته هيكل: عظيم الجسم.

(3/501)


ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28) ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)

[سورة لقمان (31) : آية 28]
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28)
إلا كنفس واحدة إلا كخلقها وبعثها، أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد:
أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك إن الله سميع بصير يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث.

[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 30]
ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)
كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة. لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ. دل أيضا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجل مسمى، ويجرى إلى أجل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن «1» . ولكن المعنيين. أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأن قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأن قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى إليه. وقولك: يجرى لأجل مسمى: تريد يجرى لإدراك أجل مسمى، تجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أن جرى الشمس مختص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه ذلك الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته. وأن من دونه باطل الإلهية وأن الله هو العلي الشأن الكبير السلطان. أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق، وأن إلها غيره باطل، وأن الله هو العلى الكبير عن أن يشرك به.
__________
(1) . قوله «إلا بليد الطبع ضيق العطن» في الصحاح: أنه مبرك الإبل عند الماء، لتشرب عللا بعد نهل. (ع) [.....]

(3/502)


ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32) ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33)

[سورة لقمان (31) : آية 31]
ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31)
قرئ: الفلك، بضم اللام. وكل فعل: يجوز فيه فعل، كما يجوز في كل فعل فعل، على مذهب التعويض. وبنعمات الله: بسكون العين. وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون بنعمت الله بإحسانه ورحمته صبار على بلائه شكور لنعمائه، وهما صفتا المؤمن، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن.

[سورة لقمان (31) : آية 32]
وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور (32)
يرتفع الموج ويتراكب، فيعود مثل الظلل، والظلة: كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ: كالظلال، جمع ظلة، كقلة وقلال فمنهم مقتصد متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعنى أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف، لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر: أشد الغدر. ومنه قولهم: إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من ختر، قال:
وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر «1»

[سورة لقمان (31) : آية 33]
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33)
لا يجزي لا يقضى عنه شيئا. ومنه قيل للمتقاضى: المتجازى. وفي الحديث في جذعة
__________
(1) . الغدر: أشد الختر. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عد بأصابع يده اليمنى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وبأصابع اليسرى: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأت يديك خيرا، شبه المعقول بالمحسوس على سبيل المكنية. وملء اليدين: تخييل، وذكرهما لأن الرجل عد بهما، فضربه الشاعر مثلا لحال أبى عمير ومن يراه على سبيل الاستعارة التمثيلية التهكمية، فان من رآه وعد معايبه، كأنه ملأ يديه شرا لا خيرا، وحذف العد إشارة إلى أنه بمجرد الرؤية يحصل ذلك.

(3/503)


إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)

ابن نيار: تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك «1» . وقرئ: لا يجزئ: لا يغنى «2» . يقال:
أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى: لا يجزى فيه، فحذف الغرور الشيطان. وقيل: الدنيا وقيل: تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرة.
وقرئ بضم الغين وهو مصدر غره غرورا، وجعل الغرور غارا، كما قيل: جد جده، أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت: قوله ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف «3» عليه. قلت: الأمر كذلك، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله هو وقوله مولود والسبب في مجيئه على هذا السنن: أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم «4» : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم: أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك.

[سورة لقمان (31) : آية 34]
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)
روى أن رجلا من محارب وهو الحرث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنى عن الساعة متى قيامها، وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد
__________
(1) . تقدم في أوائل البقرة.
(2) . قوله «وقرئ لا يجزئ لا يغنى» لعله: أى لا يغنى. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: لم أكد الجملة الثانية دون الأولى؟ قلت: لأن أكثر المسلمين كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر، فلما كان إغناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج تأكيدا، ولما كان إغناء المسلم عن الكافر قد يقع في الأوهام أكد نفيه» قال أحمد: وهذا الجواب تتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ، والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، فالجواب المعتبر- والله أعلم- أن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء، وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكتفى والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع هاهنا وهم الوالد في ان يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع- لأن الله حضه عليه في الدنيا- كان جديرا بتأكيد النفي لازالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس، فهذا جواب كاف شاف للعليل، إن شاء الله تعالى.
(4) . قوله «وعليتهم» أى أشرافهم وعظماؤهم. (ع)

(3/504)


أبطأت عنا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟
وإنى علمت ما علمت أمس، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت «1» ؟ فنزلت وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس» «2» وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدة عمره، فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأولوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه عنده علم الساعة أيان مرساها وينزل الغيث في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به ويعلم ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال وما تدري نفس برة أو فاجرة ماذا تكسب غدا من خير أو شر، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا، وعازمة على شر فعملت خيرا وما تدري نفس أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحها وأقبر فيها، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدثتها به ظنونها. وروى أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك «3» . وجعل العلم لله والدراية للعبد، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف- وإن أعملت حيلها- ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ: بأية أرض. وشبه سيبويه تأنيث «أى» بتأنيث «كل» في قولهم: كلتهن.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر «4» .
__________
(1) . هكذا ذكره الواحدي والثعلبي بغير سند. وأخرجه الطبري وابن أبى حاتم من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد، قال «جاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد إن امرأتى حبلى فأخبرنى متى تلد؟ فذكره»
(2) . أخرجه البخاري من حديث ابن عمر
(3) . موقوف. رواه أحمد في الزهد وابن أبى شيبة قالا حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن خيثمة عن شهر بن حوشب قال «دخل ملك الموت، فذكره»
(4) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.

(3/505)


الم (1) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (2) أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)

سورة السجدة
مكية [إلا من آية 16 إلى غاية آية 20 فمدنية] وآياتها 30 وقيل 29 [نزلت بعد المؤمنون] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (2) أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)
الم على أنها اسم السورة مبتدأ خبره تنزيل الكتاب وإن جعلتها تعديدا للحروف ارتفع تنزيل الكتاب بأنه خبر مبتدإ محذوف: أو هو مبتدأ خبره لا ريب فيه والوجه أن يرتفع بالابتداء، وخبره من رب العالمين ولا ريب فيه: اعتراض لا محل له. والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أى في كونه منزلا من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله أم يقولون افتراه لأن قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله بل هو الحق من ربك وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله أم يقولون افتراه لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور أمره: في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أول الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم افتراه؟ قلت: معنى لا ريب فيه أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله، لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزا

(3/506)


الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون (4) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (5)

للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب. وأما قولهم افتراه فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه ما أتاهم من نذير من قبلك
كقوله: ما أنذر آباؤهم، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا «1» قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان لعلهم يهتدون فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لعله يتذكر على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.

[سورة السجده (32) : آية 4]
الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون (4)
فإن قلت: ما معنى قوله ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع؟ قلت: هو على معنيين، أحدهما: أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا، أى: ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم. والثاني: أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم أى ناصركم على سبيل المجاز، لأن الشفيع ينصر المشفوع له، فهو كقوله تعالى وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير فإذا خذلكم لم يبق لكم ولى ولا نصير.

[سورة السجده (32) : آية 5]
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (5)
الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص
__________
(1) . قال محمود: «يعنى قريشا لأنها لم يبعث لها نبى قط. فان قلت: إن لم يتقدم بعث نبى إليهم فيما قامت عليهم الحجة. قلت: قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل لا سبيل إليه. وأما قيامها بمعرفة الله تعالى وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل معهم في كل زمان» قال أحمد: مذهب أهل السنة: أنه لا يدرك علم شيء من أحكام الله تعالى التكليفية إلا بالشرع وما ذكره الزمخشري تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وقد مجها السمع فلم يبح بها القلم، فأعرض عنه حتى يخوض في حديث غيره. وإنما قامت الحجة على العرب يمن تقدم من الرسل إليهم كأبيهم إسماعيل وغيره، والمراد بقوله تعالى ما أتاهم من نذير يعنى ذرية العرب في زمانه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يبعث إليهم نذير معاصر، فلطف الله تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم.

(3/507)


ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)

ودل عليه قوله على أثره قليلا ما تشكرون أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض: لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، كما قال وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون، ثم يعرج إليه أى يصير إليه، ويثبت عنده، وبكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدة: ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. وقيل: ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو رده مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أى يصير إليه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة: يعرج، على البناء للمفعول. وقرئ: يعدون، بالتاء والياء.

[سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 9]
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)
أحسن كل شيء حسنه، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن، كما قال لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقيل: علم كيف يخلقه من قوله: قيمة المرء ما يحسن. وحقيقته، يحسن معرفته أى يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وقرئ: خلقه: على البدل، أى: أحسن، فقد خلق كل شيء «1» وخلقه: على الوصف، أى: كل شيء خلقه فقد أحسنه. سميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه، أى: تنفصل منه وتخرج من صلبه «2» ونحوه قولهم للولد: سليل ونجل، وسواه قومه،
__________
(1) . قوله «أى أحسن فقد خلق كل شيء» لعل لفظ «فقد» مزيدة من قلم الناسخ. وعبارة النسفي: على البدل، أى: أحسن خلق كل شيء ويمكن أنه ليس مزيدا، بل هذا حاصل المعنى على البدل، كما أن عكسه الآتي هو حاصل المعنى على الوصف. (ع)
(2) . قوله «وتخرج من صلبه» لعل قبله سقطا تقديره: كما سميت النطفة سلالة، لأنها تسل منه. وفي الصحاح «النجل» : النسل. ونجله أبوه، أى: ولده. (ع)

(3/508)


وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10) قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11)

كقوله تعالى في أحسن تقويم ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله ويسئلونك عن الروح ... الآية كأنه قال: ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته.

[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10) قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11)
وقالوا قيل القائل أبى بن خلف، ولرضاهم بقوله أسند إليهم جميعا. وقرئ: أئنا.
وأنا، على الاستفهام وتركه ضللنا صرنا ترابا، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا في الأرض بالدفن فيها، من قوله:
وآب مضلوه بعين جلية «1»
وقرأ على وابن عباس رضى الله عنهما: ضللنا، بكسر اللام. يقال: ضل يضل وضل يضل. وقرأ الحسن رضى الله عنه: صللنا، من صل اللحم وأصل: إذا أنتن. وقيل: صرنا من جنس الصلة وهي الأرض. فإن قلت: بم انتصب الظرف في أإذا ضللنا؟ قلت: بما يدل عليه إنا لفي خلق جديد وهو نبعث. أو يجدد خلقنا. لقاء ربهم: هو الوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت وما وراءه، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء، أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالإنشاء وحده: ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح. قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس وقال: أخرجوا أنفسكم، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء. من قولك: توفيت حقي من فلان، واستوفينه إذا أخذته وافيا كاملا من غير نقصان. والتفعل والاستفعال: يلتقيان في مواضع: منها: تقصيته واستقصيته، وتعجلته واستعجلته. وعن مجاهد رضى الله عنه: حويت لملك الموت الأرض، وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن قتادة: يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة.
وقيل: ملك الموت: يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها.
__________
(1) .
وآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل
يرثى ميتا. والإياب: الرجوع. والإضلال: الدفق والتغيب. وجولان: جبل بالشام. والنائل: العطاء يعنى: بترك ذلك الموصوف بالحزم والكرم، فقد ترك الوصفات هناك.

(3/509)


ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون (12) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (13) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14)

[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون (12) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (13) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14)
ولو ترى يجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أن يراد به التمني، كأنه قال: وليتك ترى، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة: «لو نظرت إليها» «1» والتمني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان الترجي له في لعلهم يهتدون لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمرا فظيعا. أو: لرأيت أسوأ حال ترى. ويجوز: أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم، إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا تريد به مخاطبا بعينه، فكأنك قلت:
إن أكرم وإن أحسن إليه، ولو وإذ: كلاهما للمضى، وإنما جاز ذلك، لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود المقطوع به في تحققه، ولا يقدر لترى ما يتناوله، كأنه قيل: ولو تكون منك الرؤية، وإذ ظرف له. يستغيثون بقولهم ربنا أبصرنا وسمعنا فلا يغاثون، يعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك. أو كنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا فارجعنا هي الرجعة إلى الدنيا لآتينا كل نفس هداها على طريق الإلجاء والقسر، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار «2» دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء. ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله فذوقوا بما نسيتم فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم: من نسيان العاقبة،
__________
(1) . هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي، والنسائي وابن ماجة وابن أبى شيبة وابن حبان. والحاكم.
وأحمد والبزار. وغيرهم من حديث المغيرة «أنه خطب امرأة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما» ورواه أبو عبيد في الغريب بلفظ أنه قال للمغيرة وقد خطب امرأة «لو نظرت إليها» الحديث. [.....]
(2) . قوله «ولكننا بنينا الأمر على الاختيار» لما أوجب المعتزلة على الله الصلاح قالوا: إنه قد شاء الهدى للكل، ولكن مشيئة تخيير، لا مشيئة إجبار، فلذا لم يهتد الكل بل البعض، ولو شاء مشيئة قسر لاهتدى الكل.
وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا، وقالوا: كل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، خيرا كان أو شرا. واستلزام الارادة لوقوع المراد لا يستلزم القسر والإجبار للعباد، لما لهم من الكسب في أفعالهم، وإن كانت في الحقيقة مخلوقة لله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

(3/510)


إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)

وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعنى: أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها، ثم قال إنا نسيناكم على المقابلة، أى: جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، أى: تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم والمعنى فذوقوا هذا أى ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم «1» من المعاصي والكبائر الموبقة «2» .

[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)
إذا ذكروا بها أى وعظوا: سجدوا تواضعا لله وخشوعا، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام وسبحوا بحمد ربهم ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه، وأثنوا عليه حامدين له وهم لا يستكبرون كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمعها، ومثله قوله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا: تتجافى ترتفع وتتنحى عن المضاجع عن الفرش ومواضع النوم، داعين ربهم عابدين له، لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وهم المتهجدون. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل» «3» وعن الحسن رضى الله عنه: أنه التهجد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادى بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل. ثم يرجع فينادى: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء
__________
(1) . قال محمود: «معناه بما كنتم تعملون من الكفر والكبائر الموبقة» قال أحمد: قد تمهد من مذاهب أهل السنة أن المقتضى لاستحقاق الخلود في العذاب هو الكفر خاصة. وأما ما دونه من الكبائر فلا يوجب خلودا، والمسألة سمعية، وأدلتها من الكتاب والسنة قطعية، خلافا للقدرية.
(2) . قوله «والكبائر الموبقة» أى: المهلكة. (ع)
(3) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم من رواية أبى وائل عن معاذ في أثناء حديث مرفوع قال «وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع»

(3/511)


والضراء، فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» «1» . وعن أنس بن مالك رضى الله عنه: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فنزلت فيهم «2» . وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها ما أخفي لهم على البناء للمفعول. ما أخفى لهم على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وما أخفى لهم. وما نخفى لهم. وما أخفيت لهم: الثلاثة للمتكلم، وهو الله سبحانه. وما: بمعنى الذي، أو بمعنى أى «3» . وقرئ: من قرة أعين. وقرات أعين. والمعنى: لا تعلم النفوس- كلهن ولا نفس واحدة منهن لا ملك مقرب ولا نبى مرسل- أى نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو مما تقر به عيونهم، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها، ثم قال جزاء بما كانوا يعملون فحسم أطماع المتمنين «4» : وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين «5» ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،
__________
(1) . أخرجه إسحاق وأبو يعلى من رواية شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مطولا وهو عند الحاكم باختصار
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية الحرث بن رحبة عن مالك بن دينار «سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع- الآية فقال: كان ناس- فذكره» ورواه أبو داود من حديث سعيد عن قتادة عن أنس نحوه، قال: وكان الحسن يقول «هو قيام الليل» والبزار من طريق زيد بن أسلم عن أبيه. قال قال بلال «كنا نجلس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية» قال: ولا نعلم له طريقا إلا هذه. ولا روى أسلم عن بلال غيره
(3) . قوله «أو بمعنى أى» لعله: أى شيء (ع)
(4) . قال محمود: «هذا حسم لأطماع المتمنين» قال أحمد: يشير إلى أهل السنة لاعتقادهم أن المؤمن العاصي موعود بالجنة، ولا بد من دخوله إياها وفاء بالوعد الصادق، وأن أحدا لا يستحق على الله بعمله شيئا، فلما وجد قوله تعالى جزاء بما كانوا يعملون اغتنم الفرصة في الاستشهاد على معتقد القدرية في أن الأعمال أسباب موجبة للجزاء، ولا دليل في ذلك لمعتقدهم مع قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فهذا الحديث يوجب حمل الآية على وجه يجمع بينها وبينه، وذلك إما أن تحمل الآية على أن المراد منها قسمة المنازل بينهم في الجنة فانه على حسب الأعمال، وليس بذاك فان المذكور في الآية مجرد دخول الجنة لا اقتسام درجاتها. وإما أن تحمل- وهو الظاهر، والله أعلم- على أن الله تعالى لما وعد المؤمن جنته- ووعده يجب أن يكون حقا وصدقا، تعالى وتقدس- صارت الأعمال بالوعد كأنها أسباب موجبات، فعوملت في هذه العبارة معاملتها، والمقصود من ذلك: تأكيد صدق الوعد في النفوس، وتصوره بصورة المستحق بالعمل، كالأجرة المستحقة شاهدا على العمل من باب مجاز التشبيه، والله أعلم. وذكر الزمخشري الحديث المشهور وهو «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وكان جدي رحمه الله يستحسن أن تقرأ الآية تلو الحديث المذكور بسكون الياء من أخفى، ورده إلى المتكلم، وهي من القراآت المستفيضة. والسبب في اختيار ذلك مطابقة صدر الحديث وهو: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ليكون الكل راجعا إلى الله تعالى، مسندا إلى ضمير اسمه عز وجل صريحا، والله الموفق.
(5) . متفق عليه من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه.

(3/512)


أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21)

بله «1» ما أطلعتهم عليه، اقرؤا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين» وعن الحسن رضى الله عنه: أخفى القوم أعمالا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 21]
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21)
كان مؤمنا وكان فاسقا محمولان على لفظ من، ولا يستوون محمول على المعنى، بدليل قوله تعالى أما الذين آمنوا ... وأما الذين فسقوا ونحوه قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك. وجنات المأوى نوع من الجنان: قال الله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى سميت بذلك لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: تأوى إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش. وقرئ: جنة المأوى، على التوحيد نزلا عطاء بأعمالهم. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاما فمأواهم النار أى ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أى النار لهم، مكان جنة المأوى للمؤمنين:
كقوله فبشرهم بعذاب أليم، العذاب الأدنى عذاب الدنيا من القتل والأسر، وما محنوا به من السنة «2» سبع سنين. وعن مجاهد رضى الله عنه: عذاب القبر. والعذاب الأكبر عذاب الآخرة، أى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة لعلهم يرجعون أى يتوبون «3» عن الكفر، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه، كقوله تعالى
__________
(1) . قوله «بله ما أطلعتهم عليه» في الصحاح «بله» : كلمة مبنية على الفتح مثل كيف، ومعناها: دع، كما أجازه، الأخفش في قول كعب بن مالك:
تذر الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق
ويقال: معناها سوى. وفي الحديث: «أعددت لعبادي ... الخ» . (ع)
(2) . قوله «وما محنوا به من السنة» أى المجدية. أو المراد بها الجدب، كما يؤخذ من الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه لعلهم يتوبون. فان قلت: من أبن صح تفسير الرجوع بالتوبة ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان، وتوبتهم مما لا يكون، لأنهم لو تابوا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. قلت: إرادة الله تعالى تتعلق بأفعاله وأفعال عباده فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده فاما أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرون إليها بقسره، فان أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك:
إرادتك أن يختار عبدك الطاعة لك وهو لا يختارها، لأن اختيارها لا يتعلق بقدرتك فلا يكون فقده عجزا منك» قال أحمد: هذا الفصل ردىء جدا مفرع على الإشراك الجلى لا على الاشراك الخفي، فاعتصم بدليل الوحدانية على رده واجتنابه من أصله، والله المستعان. وإنما جره في تفسير لعل إلى الارادة، والحق في تفسيرها أنها لترجى المخاطبين امتناع الترجي على الله تعالى، كذا فسرها سيبويه فيما تقدم، والله أعلم.

(3/513)


فارجعنا نعمل صالحا وسميت إرادة الرجوع رجوعا، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة ويدل عليه قراءة من قرأ: يرجعون، على البناء للمفعول. فإن قلت:
من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و «لعل» من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت:
إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع، للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده: فإما أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره «1» ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالا على عجزك. وروى في نزولها: أنه شجر بين على بن أبى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن أبى معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبى: أنا أشب منك شبابا، وأجلد منك جلدا، وأذرب منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة. فقال له على رضى الله عنه: اسكت، فإنك فاسق «2» ، فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما «3» . وعن الحسن بن على رضى
__________
(1) . قوله «لم يقدح ذلك في اقتداره» أى عدم وقوعها وعدم اختيارهم إياها، فهذا على مذهب المعتزلة:
من أنه قد يريد الشيء ولا يكون، ومذهب أهل السنة: أن كل ما أراده الله كان. (ع)
(2) . أخرجه ابن مردويه والواحدي من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة بن أبى معيط لعلى: أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ منك للكتيبة. فقال له على: اسكت يا فاسق، فإنما أنت فاسق.
فنزلت» وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما «تنبيه» قوله: أن ذلك شجر بينهما يوم بدر، غلط فاحش. فما كان الوليد حينئذ رجلا [.....]
(3) . قال محمود: «سبب نزولها أنه شجر بين على بن أبى طالب كرم الله وجهه والوليد ابن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد اسكت فإنك صبى أنا أشب منك شبابا وأجلد جلدا وأذرب لسانا وأحد منك سنانا وأشجع جنانا وأملأ حشوا في الكتيبة، فقال له على: اسكت فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والكافرين تتناولهما معا» قال أحمد: ذكر للسبب المحقق: لأن المراد بالفاسق وبالذين فسقوا: الذين كفروا، لأنها نزلت في الوليد وهو كافر حينئذ، ثم أدرج فيه المؤمن تعصبا لمذهبه في وجوب خلود فساق المؤمنين كفساق الكافرين.
فلم يزل يورد هذه العقائد الفواسد، ولقد اتسع الخرق على الراقع.

(3/514)


ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22) ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل (23) وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25)

الله عنهما: أنه قال للوليد: كيف تشتم عليا وقد سماه الله مؤمنا في عشر آيات، وسماك فاسقا؟

[سورة السجده (32) : آية 22]
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)
ثم في قوله ثم أعرض عنها للاستبعاد. والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه ثم في بيت الحماسة:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها «1»
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. فإن قلت: هلا قيل:
إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.

[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل (23) وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25)
__________
(1) .
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
لجعفر بن علبة الحارثي، شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشى الناس ويغطيهم على طريق المكنية، والكشف تخييل وقال «ابن حرة» أى كريم، ليكون تهييجا للسامع وبعثا له على الهيجاء. والغمرة: الشدة. وغمرات الموت:
شدائده وأهواله، كأحوال المعركة الشديدة. وقوله «ثم يزورها» أى يلاقيها برغبة، كلقاء المحبوب، وعطفه بثم، لأن بين رؤية الأهوال المفزعة، وبين الانحدار إليها برغبة بون بعيد في العادة والتعقل. وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجرى فيه المقاسمة، وتقاسمهم تخييل لذلك، ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها، أى ما يغشاهم منها وهي مقابضها. أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه «صدورها» أى أطرافها المتقدمة منها. وصدر كل شيء: مقدمه. وعبر بفي دون اللام، لأن «في» تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم، واللام تفيد التملك وليس مرادا، وإن كان مقتضى القسمة، فلعله دفع توهمه بالعدول إلى «في» وذكرها أولا تمهيدا للثانية.

(3/515)


أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26) أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27)

الكتاب للجنس والضمير في لقائه له. ومعناه: إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ونحو قوله من لقائه قوله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم وقوله ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام هدى لقومه وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، لصبرهم وإيقانهم بالآيات. وكذلك لنجعلن الكتاب المنزل إليك هدى ونورا، ولنجعلن من أمتك أثمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين.
وقيل: من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل: من لقاء موسى عليه السلام الكتاب، أى: من تلقيه له بالرضا والقبول. وقرئ: لما صبروا، ولما صبروا، أى لصبرهم. وعن الحسن رضى الله عنه: صبروا عن الدنيا. وقيل: إنما جعل الله التوراة هدى لبنى إسرائيل خاصة، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام يفصل بينهم يقضى، فيميز المحق في دينه من المبطل.

[سورة السجده (32) : آية 26]
أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26)
الواو في أولم يهد للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف، والضمير في لهم لأهل مكة. وقرئ بالنون والياء، والفاعل ما دل عليه كم أهلكنا لأن كم لا تقع فاعلة، لا يقال: جاءني كم رجل، تقديره: أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون. أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه، كقولك: يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة بالنون. والقرون عاد وثمود وقوم لوط يمشون في مساكنهم يعنى أهل مكة، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم. وقرئ: يمشون: بالتشديد.

[سورة السجده (32) : آية 27]
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27)
الجرز الأرض التي جرز نباتها أى قطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأزيل، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز. ويدل عليه قوله فنخرج به زرعا وعن ابن عباس

(3/516)


ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون (29) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)

رضى الله عنه: إنها أرض اليمن. وعن مجاهد رضى الله عنه: هي أبين»
. به بالماء تأكل من الزرع أنعامهم من عصفه وأنفسهم من حبه. وقرئ: يأكل، بالياء.

[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30]
ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون (29) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)
الفتح: النصر، أو الفصل بالحكومة، من قوله ربنا افتح بيننا وكان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين. ويفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون قالوا متى هذا الفتح أى في أى وقت يكون إن كنتم صادقين في أنه كائن. ويوم الفتح يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم، ويوم نصرهم عليهم. وقيل: هو يوم بدر. وعن مجاهد والحسن رضى الله عنهما: يوم فتح مكة. فإن قلت: قد سألوا عن وقت الفتح، فكيف ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم. قلت: كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالا منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأنى بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. فإن قلت: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. قلت: المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق وانتظر النصرة عليهم وهلاكهم إنهم منتظرون الغلبة عليكم وهلاككم، كقوله تعالى فتربصوا إنا معكم متربصون وقرأ ابن السميقع رحمه الله:
منتظرون، بفتح الظاء. ومعناه: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعنى أنهم هالكون لا محالة. أو وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ الم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك، أعطى من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر «2» » وقال: «من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» «3» .
__________
(1) . قوله «هي أبين» في الصحاح «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن، فيقال: عدن أبين. اه فتدبر. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي عن أبى وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية أبى عصمة عن زيد العمي عن أبى بصرة عن ابن عباس عن أبى. وعند ابن مردويه مزوجه آخر عن نافع عن ابن عمر. وفي إسناده داود بن معاذ: وهو ساقط.
(3) . لم أجده.

(3/517)


ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3)

سورة الأحزاب
مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية [نزلت بعد آل عمران] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3)
عن زر قال: قال لي أبى بن كعب رضى الله عنه: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبى بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول.
ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم «1» . أراد أبى رضى الله عنه أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضى الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض «2» . جعل نداءه بالنبى والرسول في قوله يا أيها النبي اتق الله يا أيها النبي لم تحرم. يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم. يا موسى، يا عيسى.
يا داود: كرامة له وتشريفا، وربئا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله محمد رسول الله، وما محمد إلا رسول. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار،
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط وابن مردويه كلهم من هذا الوجه.
(2) . قلت: بل راويها ثقة غير متهم. قال إبراهيم الحربي في الغريب: حدثنا هرون بن عبد الله أن الرجم أنزل في سورة الأحزاب مكتوبا في خوصة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها» وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة انتهى. وكأن المصنف فهم أن ثبوت هذه الزيادة يقتضى ما تدعيه الروافض:
أن القرآن ذهب منه أشياء. وليس ذلك بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ

(3/518)


ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5)

ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء لقد جاءكم رسول من أنفسكم، وقال الرسول يا رب، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، والله ورسوله أحق أن يرضوه، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، إن الله وملائكته يصلون على النبي، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي. اتق الله: واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا تطع الكافرين والمنافقين لا تساعدهم على شيء. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبنى قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم. وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم «1» فنزلت. وروى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبى ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم «2» ، فنزلت: أى اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع. فنزلت إن الله كان عليما بالصواب من الخطإ، والمصلحة من المفسدة حكيما لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة واتبع ما يوحى إليك في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إن الله الذي يوحى إليك خبير بما تعملون فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ: يعملون، بالياء، أى: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم وتوكل على الله وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره وكيلا حافظا موكولا إليه كل أمر.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5)
__________
(1) . لم أجده.
(2) . هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.

(3/519)


ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل.
والمعنى: أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك، فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها. عالما ظانا، موقنا شاكا في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان، وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له لأن النبوة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية «1» لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبى صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد «2» ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وقوله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمر بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب، فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما
__________
(1) . قال محمود: «أسد ما ذكر فيه من التأويلات أنهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين، فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة، كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات. قال: وهذه الأمور الثلاثة متنافية: أما الأول فلأنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر، وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك. وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام، فنافى أن تكون الزوجة أما. وأما الثالث فلأن النبوة أصالة وعراقة، والدعوة لاصقة عارضة، فهما متنافيان، وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار.
(2) . هكذا ذكره ابن إسحاق وابن أبى خيثمة من طريقه. وزاد في آخره «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منه بعشر سنين فتبناه» وعن سالم عن أبيه قال «ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى أنزل الله ادعوهم لآبائهم انتهى. وهذه الزيادة في الصحيحين عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «ما كنا ندعو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادعوهم لآبائهم- الآية

(3/520)


في رجلى، فأكذب الله قوله وقولهم، وضربه مثلا في الظهار والتبني. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الله. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول:
نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في رجل، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه.
فإن قلت: أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله القلوب التي في الصدور وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور التجلي المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار. وقرئ: اللايئ «1» ، بياء وهمزة مكسورتين. واللائي. بيا. ساكنة بعد الهمزة: وتظاهرون: من ظاهر. وتظاهرون.
من اظاهر، بمعنى تظاهر. وتظهرون: من أظهر، بمعنى تظهر. وتظهرون: من ظهر، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد. وتظهرون: من ظهر، بلفظ فعل من الظهور. ومعنى ظاهر من امرأته:
قال لها: أنت على كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم، إذا قال لبيك. وأفف الرجل: إذا قال: أف وأخوات لهن. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت: كان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية. فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها. وظاهر منها:
حاذر منها، وظهر منها: وحش منها «2» . وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدى بمن، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه.
فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت على كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت على حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن. ومنه حديث عمر رضى الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه: أراد على ظهره. ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرما عندهم محظورا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر ثم لم يقنع
__________
(1) . قوله «وقرئ اللايئ بياء وهمزة مكسورتين» لعل مراد، قراءتان إحداهما بياء مكسورة والأخرى بهمزة مكسورة، لكن الياء ليست ياء صرفة، بل هي همزة مسهلة ينطق بها بين الهمزة والياء والحاصل: أنه قرئ اللائي بياء ساكنة بعد الهمزة. وقرئ اللاء بهمزة مكسورة من غير ياء. وقرئ: اللايى بشبه الياء مكسورة وهي الهمزة التي ينطق بها بين بين. وقرئ: اللاى بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، فهذه أربع قراآت في لفظ اللائي أينما كان في القرآن، كما في شرح الشاطبية. (ع)
(2) . قوله «وحش منها» أى خلا منها أفاده الصحاح. (ع)

(3/521)


بذلك حتى جعله ظهر أمه فلم يترك. فإن قلت: الدعى فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يدعى ولدا فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقى وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى. قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي ذلكم النسب هو قولكم بأفواهكم هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقا. والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله ادعوهم لآبائهم وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها «1» : من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة:
وهو الذي يهدى السبيل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه: ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم «فهم» فإخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخى وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي: يريد الأخوة في الدين والولاية فيه ما تعمدت في محل الجر عطفا على ما أخطأتم. ويجوز أن يكون مرتفعا على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى.
أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنى على سبيل الخطإ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام «ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» «2» وقوله عليه الصلاة والسلام وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه «3» » ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده.
فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب وأصغر سنا من المتبنى ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم
__________
(1) . قوله «وفي فصل هذه الجمل ووصلها» أى: فصل ما فصل منها ووصل ما وصل. (ع) [.....]
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبى هريرة مرفوعا أتم منه. وأخرجه الطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين من رواية ثابت بن عجلان حدثني عطاء عن عائشة رضى الله عنها.
(3) . أخرجه ابن عدى من رواية حسن بن برقة حدثني أبى عن الحسن عن أبى بكرة رفعه «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ والنسيان والأمر المكرهون عليه» هذه من منكرات جعفر. وأخرجه ابن ماجة وابن حبان من حديث ابن عباس. فأما ابن حبان فقال: عن عطاء عن عبيد بن عمير عنه، بلفظ «إن الله تجاوز» وأما ابن ماجة فقال عن الأوزاعى «إن الله وضع»

(3/522)


النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)

يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند صاحبيه لا يعتق. وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبدا عتق وكان الله غفورا رحيما لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد «1» .

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)
النبي أولى بالمؤمنين في كل شيء من أمور الدين والدنيا من أنفسهم ولهدا أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبدلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه، لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم «2» لئلا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أو هو أولى بهم، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى بالمؤمنين رؤف رحيم وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فإلى» «3» وفي قراءة ابن مسعود: النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أب لهم. وقال مجاهد: كل نبى فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين وأزواجه أمهاتهم تشبيه لهن بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن: قال الله تعالى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات، ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: لسنا أمهات النساء «4» . تعنى أنهن إنما كن أمهات الرجال، لكونهن
__________
(1) . قوله «وعن العمد إذا تاب العامد» هذا عند المعتزلة، وقد يغفر بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)
(2) . قوله «فأخذ يحجزهم» في الصحاح «حجزة الإزار» : معقده. وحجزة السراويل: التي فيها التكة. (ع)
(3) . أخرجه البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبى عمرة عن أبى هريرة رضى الله عنه بمعناه.
(4) . أخرجه الدارقطني من رواية مضر الأعتق حدثني حرفاء قالت: قلت لعائشة «يا أم. فقالت: لست أم النساء، إنما أنا أم الرجال» وفي الطبقات من طريق مسروق قال «قالت امرأة لعائشة: يا أم. فقالت عائشة إنى لست بأمك إنما أنا أم الرجال» .

(3/523)


وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8)

محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم. والدليل على ذلك: أن هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهن، وكذلك لم يثبت لهن سائر أحكام الأمهات. كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام «1» وعز أهله، وجعل التوارث بحق القرابة في كتاب الله في اللوح. أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية. أو في آية المواريث. أو فيما فرض الله كقوله كتاب الله عليكم.
من المؤمنين والمهاجرين يجوز أن يكون بيانا لأولى الأرحام، أى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أى: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
فإن قلت: مم استثنى أن تفعلوا؟ قلت: من أعم العام في معنى النفع والإحسان، كما تقول:
القريب أولى من الأجنبى إلا في الوصية، تريد: أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية. والمراد بفعل المعروف: التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى، لأنه في معنى: تسدوا وتزلوا «2» والمراد بالأولياء: المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعا. وتفسير الكتاب: ما مر آنفا، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8)
واذكر حين أخذنا من النبيين جميعا ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم ومنك خصوصا ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وإنما فعلنا ذلك ليسئل الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى عن صدقهم عهدهم وشهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين. أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم، لأن من قال للصادق: صدقت، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم. وتأويل مسألة الرسل: تبكيت الكافرين بهم، كقوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.
__________
(1) . قوله «دجا الإسلام» في الصحاح: دجا الإسلام، أى: قوى وألبس كل شيء. (ع)
(2) . قوله «لأنه في معنى تسدوا وتزلوا» في الصحاح: أزلت إليه نعمة، أى: أسديتها. وفي الحديث:
«من أزلت إليه نعمة فليشكرها» اه. (ع)

(3/524)


ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)

فإن قلت: لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده «1» قلت: هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم «2» ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين: قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه. فإن قلت:
فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية، وهي قوله شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ثم قدم على غيره. قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أن الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا. والغلظ: استعارة من وصف الأجرام، والمراد: عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه. وقيل الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. فإن قلت: علام عطف قوله وأعد للكافرين؟ قلت: على أخذنا من النبيين، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو على ما دل عليه ليسئل الصادقين كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 11]
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9) إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)
__________
(1) . قال محمود: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم على نوح لأنهم ذكروا تخصيصا بعد التعميم تفضيلا لهم فقدم أفضل المخصوصين» قال أحمد: وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... على ومنهم أحمد المتخير
فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له، وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام على نوح ومن بعده في الذكر: أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك، ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام: جرى ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم، والله أعلم.
(2) . قوله «هم مشاهيرهم وذراريهم» لعله «دراريهم» بالدال المهملة، والدراري: الكواكب العظام، كما أفاده الصحاح. (ع)

(3/525)


اذكروا ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إذ جاءتكم جنود وهم الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريح الصبا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور «1» وجنودا لم تروها وهم الملائكة وكانوا ألفا: بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «2» وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى الله عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «3» واشتد الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله النصر «4» تعملون قرئ بالتاء والياء من فوقكم من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان ومن أسفل منكم من أسفل الوادي من قبل المغرب: قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا زاغت الأبصار مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا.
وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع. الحنجرة: رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم: مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغم الشديد: ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة وتظنون بالله الظنونا خطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام،
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(2) . قوله «فأخصرتهم» في الصحاح «الخصر» بالتحريك: البرد. وقد خصر الرجل: إذا آلمه البرد في أطرافه اه، فأخصرتهم: أوقعتهم في الخصر أى البرد. (ع)
(3) . قوله «فرفعوا في الآطام» أى الحصون، وهو جمع أطم كعنق. (ع)
(4) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي. ومن طريقه الطبري عن زيد بن رومان عن عروة عن عبد الله بن أبى بكر ومحمد بن كعب وغيرهم من علمائنا، فذكر القصة بطولها وأتم مما هاهنا. وهو في السيرة لابن هشام من قول إسحاق. [.....]

(3/526)


وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14)

والضعاف القلوب: الذين هم على حرف، والمنافقون: الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم. وعن الحسن: ظنوا ظنونا مختلفة: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يبتلون. وقرئ: الظنون، بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة، كما زادها في القافية من قال:
أقلى اللوم عاذل والعتابا «1»
وكذلك الرسولا والسبيلا. وقرئ بزيادتها في الوصل أيضا، إجراء له مجرى الوقف. قال أبو عبيد: وهن كلهن في الإمام بألف. وعن أبى عمرو إشمام زاى زلزلوا. وقرئ زلزالا بالفتح. والمعنى: أن الخوف أزعجهم أشد الإزعاج

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 14]
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14)
إلا غرورا قيل قائله: معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا «2» ، ما هذا إلا وعد غرور طائفة منهم هم أوس بن قيظى ومن وافقه على رأيه. وعن السدى عبد الله بن أبى وأصحابه. ويثرب: اسم
__________
(1) .
أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
إذا غضبت على بنو تميم ... وجدت الناس كلهم غضابا
لجرير، وزاد الألف في القافية للإطلاق، وبنو تميم ينشدون مثل ذلك بتنوين الترنم بدل حرف الإطلاق. قال الزمخشري: إذا وصل المنشد ولم يقف، وظاهر كلام النحويين: أنه إنما يجيء في الوقف. وعاذل: منادى، مرخم عاذلة. يقول: اتركي ملامى وعتابى، وإن فعلت صوابا فاعترفى به، ويروى بكسر التاء، فالمعنى: أن لومك خطأ فإذا أردت الصواب فقولي: لقد أصاب، وجعل غضب بنى تميم غضب كل الناس، لأن ما عداهم تبع. أو كالمعدوم.
ويروى: إذا غضبت عليك، والخطاب لكل سامع.
(2) . قوله «فرقا» أى خوفا. (ع)

(3/527)


ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16)

المدينة. وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها لا مقام لكم قرئ بضم الميم وفتحها، أى لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون فارجعوا إلى المدينة: أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا، وإلا فليست يثرب لكم بمكان. قرئ: عورة، بسكون الواو وكسرها، فالعورة: الخلل، والعورة: ذات العورة، يقال: عور المكان عورا إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق.
ويجوز أن تكون عورة تخفيف: عورة، اعتذروا أن بيوتهم معرضة للعدو ممكنة للسراق، لأنها غير محرزة ولا محصنة، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك، وإنما يريدون الفرار ولو دخلت عليهم المدينة. وقيل: بيوتهم، من قولك: دخلت على فلان داره من أقطارها من جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفا منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها. وانثالت «1» على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة الفتنة أى الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، لأتوها: لجاؤها وفعلوها. وقرئ: لآتوها: لأعطوها وما تلبثوا بها وما ألبثوا إعطاءها إلا يسيرا ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا، فإن الله يهلكهم. والمعنى: أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤهم هولا ورعبا، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا «2» عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام. وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 16]
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤلا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16)
عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم. وقيل: هم قوم غابوا عن بدر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وعن محمد بن إسحاق عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد ما نزل فيهم ما نزل مسؤلا مطلوبا مقتضى حتى يوفى به لن ينفعكم الفرار مما لا بد لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل. وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم
__________
(1) . قوله «وانثالت» في الصحاح: انثال عليه الناس من كل وجه، أى: انصبوا. (ع)
(2) . قوله «لو كبسوا» في الصحاح: كبسوا دار فلان: أغاروا عليها فجأة. (ع)

(3/528)


قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17) قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا (19) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (20)

بالتأخير: لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا. وعن بعض المروانية: أنه مر بحائط مائل فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب.

[سورة الأحزاب (33) : آية 17]
قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17)
فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله:
متقلدا سيفا ورمحا «1»
أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 20]
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا (19) يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا (20)
المعوقين المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون: كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس «2» ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم وهلم إلينا أى قربوا
__________
(1) .
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
«يا ليت زوجك قد غدا» أى: ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.
(2) . قوله «ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس» أى قليلون يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل، والالتهام:
الابتلاع، كذا في الصحاح. (ع)

(3/529)


أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز: يسؤون فيه بين الواحد والجماعة. وأما تميم فيقولون:
هلم يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعد مثل احضر وقرب قل هلم شهداءكم إلا قليلا إلا إتيانا قليلا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، كقوله ما قاتلوا إلا قليلا. أشحة عليكم في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف ينظرون إليك في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولو إذا بك، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير- وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم عليه. ونصب أشحة على الحال أو على الذم. وقرئ: أشحة، بالرفع. وصلقوكم بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا. فإن قلت: ما معنى قوله وكان ذلك على الله يسيرا وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف يحسبون أن الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط وإن يأت الأحزاب كرة ثانية، تمنوا لخوفهم مما منوا «1» به هذه الكرة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب يسئلون كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال- لم يقاتلوا إلا تعلة «2» رياء وسمعة. وقرئ: بدى، على فعل جمع باد كغاز وغزى. وفي رواية صاحب الإقليد: بدى، بوزن عدى. ويساءلون، أى: يتساءلون. ومعناه. يقول بعضهم لبعض:
ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه: كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في
__________
(1) . قوله «مما منوا به» أى ابتلوا به. (ع)
(2) . قوله «إلا تعلة» في الصحاح: علله بالشيء، أى: لهاه به، كما يعلل الصبى بشيء من الطعام يتجزأ به عن اللبن. يقال: فلان يعلل نفسه بتعلة. (ع)

(3/530)


لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (27)

الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب «1» . حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشج وجهه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 21]
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)
فإن قلت: فما حقيقة قوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقرئ: أسوة، «2» بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أى: قدوة، وهو الموتسى، أى: المقتدى به، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أى: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع. وهي المواساة بنفسه لمن كان يرجوا الله بدل من لكم، كقوله للذين استضعفوا لمن آمن منهم يرجو الله واليوم الآخر: من قولك رجوت زيدا وفضله، أى: فضل زيد. أو يرجو أيام الله. واليوم الآخر خصوصا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف وذكر الله كثيرا وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان كذلك.

[سورة الأحزاب (33) : آية 22]
ولما رأ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22)
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه في قوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا، أى:
في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك «3» . وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء إيمانا بالله وبمواعيده وتسليما لقضاياه وأقداره،

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27]
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديرا (27)
__________
(1) . قوله «في مرحى الحرب» أى مكان إدارة رحاها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وقرئ أسوة بالضم» يفيد أن قراءة الكسر هي المشهورة. (ع)
(3) . لم أجده

(3/531)


نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى الله عنهم فمنهم من قضى نحبه يعنى حمزة ومصعبا ومنهم من ينتظر يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» «1» فإن قلت: ما قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت، لأن كل حى لا بد له من أن يموت. فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أى:
نذره. وقوله فمنهم من قضى نحبه يحتمل موته شهيدا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟
قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني، إذا قال لك الصدق والكذب. وأما المثل: صدقنى سن بكره. فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل، فلا يخلو ما عاهدوا الله عليه إما أن يكون بمنزلة السن في طرح الجار، وإما أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوبا وما بدلوا العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة «2» وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب: جعل
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم من طريق الصلت بن دينار عن أبى نصرة عن جابر. والصلت ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق أولاد طلحة عن طلحة.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية حرير بن حازم عن عروة في قوله تعالى «من المؤمنين رجال صدقوا- الآية» منهم طلحة بن عبيد الله فذكره. وقد روى مفرقا من غير هذا الوجه. فقضيته أن يده أصيبت. أخرجها البخاري من رواية قيس بن أبى حازم «رأيت بد طلحة شلاء، وفي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد» والنسائي من طريق عمارة بن غزية عن أبى الزبير عن جابر قال «لما كان يوم أحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية في اثنى عشر رجلا من الأنصار. فذكر القصة مطولة قوله أوجب طلحة» أخرجها الترمذي وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى والبزار من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه به.

(3/532)


المنافقون، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم إن شاء إذا لم يتوبوا أو يتوب عليهم إذا تابوا ورد الله الذين كفروا الأحزاب بغيظهم مغيظين، كقوله تنبت بالدهن. لم ينالوا خيرا غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والملائكة وأنزل الذين ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب من صياصيهم من حصونهم. والصيصية ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى:
صيصية، ولشوكة الديك، وهي مخلبه التي في ساقه، لأنه يتحصن بها. روى أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال:
ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج، فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة وأنا عامد إليهم، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس: أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلى العصر إلا في بنى قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمى؟
فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «1» ثم استزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير «2» . وقرئ: الرعب، بسكون
__________
(1) . قوله «من فوق سبعة أرقعة» في الصحاح «الرقيع» سماء الدنيا. وكذلك سائر السماوات. وفي الحديث «من فوق سبعة أرقع» على لفظ التذكير، كأنه ذهب إلى السقف. (ع) [.....]
(2) . هو في سيرة ابن هشام في غزوة بنى قريظة عن ابن إسحاق إلى القدر الأخير فأسنده ابن إسحاق عن عاصم ابن عمر عن عبد الرحمن أن عمر بن سعد بن معاذ عن علقمة بن وقاص الليثي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره. وروى أبو نعيم في الدلائل من طريق معاذ بن رفاعة عن أبى الزبير عن جابر رضى الله عنه قال «لما رابطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يغسل رأسه»

(3/533)


ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)

العين وضمها. وتأسرون، بضم السين. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضى الله عنه:
أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس، قال: رضينا بما صنع الله ورسوله «1» وأرضا لم تطؤها عن الحسن رضى الله عنه: فارس والروم.
وعن قتادة رضى الله عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضى الله عنه: هي خيبر. وعن عكرمة:
كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)
أردن شيئا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، فبدأ بعائشة رضى الله عنها- وكانت أحبهن إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهن اختيارها، فشكر لهن الله ذلك، فأنزل لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج «2» . روى أنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفى هذا أستأمر أبوى، فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة «3» . وروى أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا «4» . فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لا بد من ذكر النفس في
__________
(1) . أخرجه الواقدي من رواية حارثة بن زيد عن أم العلاء قالت «لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير- الحديث» ومن طريق المسور بن رفاعة قال قال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت من بنى النضير الخ؟»
(2) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة عن الحسن نحو هذا
(3) . متفق عليه من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عائشة: وزاد ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت»
(4) . أخرجه سالم من رواية أبى الزبير عن جابر في قصة التخيير. وفي آخره «وأسألك أن تخيير امرأة من نسائك. فانه لا تسألنى امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» وفي الصحيحين من رواية معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس- فذكر القصة مطولا. وفي آخره عند مسلم قال معمر فأخبرنا أيوب أن عائشة قالت له لا تخبر نساءك أنى اخترتك. قال: إن الله أرسلنى مبلغا ولم يرسلني متعنتا» .

(3/534)


يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31)

قول الخير أو المخيرة- وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى الله عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى الله عنها: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقا «1» . وروى: أفكان طلاقا. وعن على رضى الله عنه. إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء. أصل تعال: أن يقوله من في المكان المرتفع، لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى تعالين: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن، كما تقول: أقبل. يخاصمني، وذهب يكلمني. وقام يهددنى أمتعكن أعطكن متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضى الله عنه: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية. حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: المتعة حق مفروض. وعن الحسن رضى الله عنه: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا تنقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها. فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: أمتعكن وأسرحكن بالرفع؟ قلت:
وجهه الاستئناف سراحا جميلا من غير ضرار طلاقا بالسنة منكن للبيان لا للتبعيض.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 30 الى 31]
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31)
الفاحشة: السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهرة فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن، وطلبهن منه
__________
(1) . متفق عليه باللفظين.

(3/535)


يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32)

ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل: الزنا، والله عاصم رسوله من ذلك، كما مر في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابا يتبع كون الفعل قبيحا، فمتى ازداد قبحا. ازداد عقابه شدة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم: أشد منه للعاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك فضل حد الأحرار على حد العبيد، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر وكان ذلك على الله يسيرا إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه. قرئ: يأت، بالتاء والياء. مبينة: بفتح الياء وكسرها، من بين بمعنى تبين. يضاعف، ويضعف: على البناء للمفعول. ويضاعف، ونضعف: بالياء والنون.
وقرئ: تقنت، وتعمل: بالتاء والياء. ونؤتها: بالياء والنون. والقنوت: الطاعة، وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة والقناعة، وتوفرهن على عبادة الله والتقوى.

[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32)
أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله لستن كأحد من النساء لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله قوله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم «1» يريد بين
__________
(1) . قال محمود: «معناه لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أى: إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله: ولم يفرقوا بين أحد منهم» قال أحمد: إنما بعثه على جعل التفضيل بين نساء النبي عليه الصلاة والسلام وبين جماعات النساء لا آحادهن: أن يطابق بين المتفاضلين، لأن الأول جماعة، وقد كان مستغنيا عن ذلك بحمل الكلام على واحدة، ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء، أى: كواحدة من النساء، ويلزم من تفضيل كل واحدة منهن على كل واحدة من آحاد النساء تفضيل جماعتهن على كل جماعة، ولا يلزم ذلك في العكس، فتأمله والله أعلم وجاء التفضيل هاهنا كمجيئه في قوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقوله وليس الذكر كالأنثى في تقديم الأفضل عند التفضيل، وقد مضت في ذلك نكتة حسنة، والله الموفق.

(3/536)


وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)

جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين إن اتقيتن إن أردتن التقوى، وإن كنتن «1» متقيات فلا تخضعن بالقول فلا تجبن بقولكن خاضعا، أى: لينا خنثا مثل كلام المربيات والمومسات فيطمع الذي في قلبه مرض أى ريبة وفجور. وقرئ بالجزم، عطفا على محل فعل النهى، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول. ونهى المريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضعن فلا يطمع. وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول، أى: فيطمع القول المريب قولا معروفا بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.

[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)
وقرن بكسر القاف، من وقر يقر وقارا. أو من قر يقر، حذفت الأولى من رائى:
أقررن، ونقلت كسرتها إلى القاف، كما تقول: ظلن، وقرن: بفتحها، وأصله: أقررن، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها، كقولك: ظلن، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان:
وجها آخر، قال: قار يقار: إذا اجتمع. ومنه. القارة، لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش «2» : اجتمعوا فكونوا قارة. والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام: كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح. وقيل: بين إدريس ونوح. وقيل: زمن داود وسليمان، والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى الدرداء رضى الله عنه «إن فيك جاهلية» قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال «بل جاهلية كفر» «3»
__________
(1) . قوله «وإن كنتن متقيات» لعله «أو إن» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «إلى قول عضل والديش» في الصحاح «عضل» : قبيلة، وهو عضل بن الهون بن خزيمة أخو الديش، وهما القارة. وفيه أيضا «الديش بن الهون بن خزيمة» وربما قالوه بفتح الدال، وهو أحد القارة، والآخر عضل ابن الهون، يقال لهما جميعا: القارة. (ع)
(3) . لم أجده عن أبى الدرداء، وإنما هو في الصحيحين عن أبى ذر. ولم يقل جاهلية كفر ... إلى آخره.

(3/537)


واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)

أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاما في جميع الطاعات، لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات: من اعتنى بهما حق اعتنائه جرتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن، لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصونوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب: الرجس، وللتقوى: الطهر، لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات، فالعرض معها نقى مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولى الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأهل البيت نصب على النداء. أو على المدح. وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته.

[سورة الأحزاب (33) : آية 34]
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34)
ثم ذكرهن أن بيوتهن مهابط الوحى، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: هو آيات بينات تدل على صدق النبوة، لأنه معجزة بنظمه. وهو حكمة وعلوم وشرائع إن الله كان لطيفا خبيرا حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم.
أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته. أو حيث جعل الكلام الواحد جامعا بين الغرضين.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)
يروى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة «1» . وقيل: السائلة أم سلمة «2» .
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية ابن ظبيان عن ابن عباس: «قال النساء: يا رسول الله، ما لنا لا نذكر في القرآن ... الحديث» .
(2) . أخرجه النسائي من رواية شريك عن محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أم سلمة قالت «يا رسول الله مالى أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرن. فأنزل الله تعالى إن المسلمين والمسلمات الآية وأخرجه الطبراني والطبري من وجه آخر عن محمد بن عمر. ورواه أحمد وابن راهويه والنسائي من رواية عثمان بن حكيم عن عبد الرحمن ابن شيبة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد عن أم سلمة وروى الترمذي عن أم عمارة نحوه.

(3/538)


وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)

وروى أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء؟ «1» فنزلت. والمسلم: الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله. والمؤمن: المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به.
والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها. والصادق: الذي يصدق في نيته وقوله وعمله. والصابر:
الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي. والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه. وقيل: الذي إذا صلى لم يعرف من عن يمينه وشماله. والمتصدق: الذي يزكى ماله ولا يخل بالنوافل. وقيل:
من تصدق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين. ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين.
والذاكر الله كثيرا: من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما. وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» «2» والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف، لأن الظاهر يدل عليه. فإن قلت: أى فرق بين العطفين، أعنى عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت: العطف الأول نحو قوله تعالى ثيبات وأبكارا في أنهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسيط العاطف بينهما. وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه: إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم.

[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة، فأبت وأبى أخوها عبد الله، فنزلت، فقال: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر «3» . وقيل: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وهي أول من
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «دخل نساء من المؤمنات على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكرنا الله في القرآن- الحديث» وأخرجه ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن قتادة.
(2) . أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من رواية الأغر عن أبى سعيد وأبى هريرة مرفوعا. [.....]
(3) . لم أجده موصولا. وأوله في الدارقطني من رواية الكميت بن زيد الأسدى الشاعر عن مذكور بن زيد الأسدى مولى زينب بنت جحش عن زينب بنت جحش «قالت: خطبنى عدة من قريش. فأرسلت أختى حمنة تستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها: أين هي من بعلها؟ كتاب الله- الحديث وإسناده ضعيف.
وليس فيه ذكر مقدار المهر. نعم أخرجه ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان مقطوعا.

(3/539)


وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)

هاجر من النساء، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت، وزوجها زيدا.
فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجنا عبده «1» والمعنى وما صح لرجل ولا امرأة من المؤمنين إذا قضى الله ورسوله أى رسول الله أو لأن قضاء رسول الله هو قضاء الله أمرا من الأمور: أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. فإن قلت: كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. قلت: نعم ولكنهما وقعا تحت النفي، فعما كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ. وقرئ: يكون، بالتاء والياء. والخيرة ما يتخير.

[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)
للذي أنعم الله عليه بالإسلام الذي هو أجل النعم، وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه وأنعمت عليه بما وفقك الله فيه، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة أمسك عليك زوجك يعنى زينب بنت جحش رضى الله عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه، فقال: سبحان الله مقلب القلوب، وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك: أرابك منها شيء؟ قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم على لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، ثم طلقها بعد، فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب على زينب. قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر
__________
(1) . أخرجه الثعلبي بهذا بغير سند وروى الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من قوله ذلك.

(3/540)


إليها، حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب، أبشرى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن «1» زوجناكها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار. فإن قلت: ما أراد بقوله واتق الله؟ قلت: أراد: واتق الله فلا تطلقها، وقصد نهى تنزيه لا تحريم، لأن الأولى أن لا يطلق. وقيل: أراد: واتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. فإن قلت: ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها.
وقيل: مودة مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها وسينكحها، لأن الله قد أعلمه بذلك. وعن عائشة رضى الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحى إليه لكتم هذه الآية «2» . فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد: أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: افعل، فإنى أريد نكاحها؟ قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته، لأن الله يريد من الأنبياء تساوى الظاهر والباطن، والتصلب في الأمور، والتجاوب في الأحوال، والاستمرار على طريقة مستتبة، كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبى سرح واعتراض عثمان بشفاعته له: أن عمر قال له: لقد كان عينى إلى عينك، هل تشير إلى فأقتله، فقال: إن الأنبياء لا تومض، «3» ظاهرهم وباطنهم واحد «4» . فإن قلت:
__________
(1) . ذكره الثعلبي بغير سند. وأخرج الطبري معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله، وفي الصحيحين عن أنس قصة زينب وزيد مختصرة. وليس فيه مما في أوله.
(2) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
(3) . قوله «لا تومض» في الصحاح: أو مضت المرأة، إذا سارقت النظر. (ع)
(4) . لم أجده، وفي الدلائل للبيهقي من رواية الحسن بن بشر عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال «أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس- فذكر الحديث قال «ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن سعد إذا رآه فأتى به عثمان فشفع له، فجعل الأنصارى يتردد ويكره أن يقدم عليه. فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للأنصارى: قد انتظرتك. قال: يا رسول الله أفلا أرمضت إلى؟ قال: إنه ليس للنبي أن يومض» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة مرسلا. وروى عبد الرزاق من طريق مقسم مولى ابن عباس قال «لما كانت المدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش- فذكر الحديث بطوله وفيه «وأمن الناس إلا أربعة. وفيه فجاء عثمان بابن أبى سرح. فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاء فبايعه فقال لقد أعرضت عنه ليقتله بعضكم فقال رجل من الأنصار هلا أومضت إلينا يا رسول الله؟ قال:
إن النبي لا يومض» وهذا مرسل أيضا وأخرجه أبو داود وغيره من حديث سعد بن أبى وقاص نحو الأول، لكن في آخره «ثم أقبل على أصحابه فقال: أفما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عنه فيقتله؟
قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.

(3/541)


كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ولا يستهجن النبى صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن، وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات؟ وماله لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟
ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيى من اطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجل ثوابها، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتى فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار، حتى نزلت إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا، لشق عليهم، ولكان بعض المقالة، «1» فهذا من ذاك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زر قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها، ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر، وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمهات المسلمين. إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامة في قوله لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فبالحرى أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله أمسك عليك زوجك واتق الله وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات
__________
(1) . قوله «ولكان بعض المقالة» لعله: القالة. (ع)

(3/542)


ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39)

في مواطن الحق، حتى يقتدى به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مرا. فإن قلت: الواو في وتخفي في نفسك، وتخشى الناس والله أحق ما هي؟ قلت: واو الحال، أى: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفى خاشيا قالة الناس وتخشى الناس، حقيقا في ذلك بأن تخشى الله، أو واو العطف، كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك. أمسك، وإخفاء خلافه، وخشية الناس. والله أحق أن تخشاه، حتى لا تفعل مثل ذلك.
إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل: قضى منه وطره. والمعنى: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة، وتقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسه، وطلقها، وانقضت عدتها زوجناكها وقراءة أهل البيت: زوجتكها. وقيل لجعفر بن محمد رضى الله عنهما: أليس تقرأ على غير ذلك، فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما قرأتها على أبى إلا كذلك، ولا قرأها الحسن بن على على أبيه إلا كذلك، ولا قرأها على بن أبى طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كذلك وكان أمر الله مفعولا جملة اعتراضية، يعنى: وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه، مفعولا مكونا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء «1» أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن. ويجوز أن يراد بأمر الله: المكون، لأنه مفعول بكن، وهو أمر الله.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 39]
ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39)
فرض الله له قسم له وأوجب، من قولهم: فرض لفلان في الديوان كذا. ومنه فروض العسكر لرزقاتهم سنة الله اسم موضوع موضع المصدر- كقولهم: تربا، وجندلا-:
مؤكد لقوله تعالى ما كان على النبي من حرج كأنه قيل: سن الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة وسبعمائة في الذين خلوا في الأنبياء الذين مضوا الذين يبلغون يحتمل
__________
(1) . قوله «ومن نفى الحرج عن المؤمنين في إجراء» لعله في عدم إجراء، ويمكن أن المراد: الحرج الذي يكون في الاجراء والتسوية لو حصل ذلك الاجراء. (ع)

(3/543)


ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)

وجوه الاعراب: الجر، على الوصف للأنبياء. والرفع والنصب، على المدح على هم الذين يبلغون. أو على: أعنى الذين يبلغون. وقرئ: رسالة الله. قدرا مقدورا: قضاء مقضيا، وحكما محكوما؟؟؟، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا الله: تعريض بعد التصريح في قوله تعالى وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. حسيبا كافيا للمخاوف، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله.

[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم أى لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ولكن كان رسول الله وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم. ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وكان خاتم النبيين يعنى أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبيا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى أنه قال في إبراهيم حين توفى. لو عاش لكان نبيا «1» . فإن قلت: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم من وجهين، أحدهما: أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ، وهما أيضا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده، لقوله تعالى وخاتم النبيين ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما «2» على الأربعين والآخر على الخمسين. قرئ. ولكن رسول الله بالنصب، عطفا على أبا أحد وبالرفع على: ولكن هو رسول الله. ولكن، بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكن رسول الله من عرفتموه، أى: لم يعش له ولد ذكر. وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم. وتقويه قراءة ابن مسعود: ولكن نبيا ختم النبيين. فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة من طريق مقسم عن ابن عباس في أثناء حديث. وللبخاري من حديث ابن أبى أوفى «ولو قضى أن يكون بعد محمد نبى لعاش ابنه، ولكن لا نبى بعده» .
(2) . قوله «نيف أحدهما» أى: زاد. والنيف- بالتشديد والتخفيف-: الزيادة، كذا في الصحاح. (ع)

(3/544)


ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44)

لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعة محمد، مصليا إلى قبلته، كأنه بعض أمته.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42]
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42)
اذكروا الله أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك بكرة وأصيلا أى في كافة الأوقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذكر الله على فم كل مسلم «1» . وروى في قلب كل مسلم. وعن قتادة: قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان، أعنى اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصل يوم الجمعة، والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات، فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 43 الى 44]
هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما (44)
لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوا عليه وترؤفا. كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم: صلى الله عليك، أى ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله هو الذي يصلي عليكم
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ. وروى الدارقطني والبيهقي وابن عدى من حديث أبى هريرة قال «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى؟ قال: اسم الله على فم كل مسلم» وفيه مروان بن سالم.
وهو ضعيف جدا.

(3/545)


ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)

إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف «1» ، فما تصنع بقوله: وملائكته وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك الله، أى أحياك وأبقاك، وحييتك، أى:
دعوت لك بأن يحييك الله، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك الله، وعمرتك، وسقاك الله، وسقيتك، وعليه قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه أى ادعوا الله بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف: حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة وكان بالمؤمنين رحيما دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر رضى الله عنه: ما خصك يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزلت تحيتهم من إضافة المصدر إلى المفعول، أى: يحيون يوم لقائه بسلام، فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم والأجر الكريم: الجنة.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 46]
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)
شاهدا على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أى: مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة، كمسئلة الكتاب:
مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أى: مقدرا به الصيد غدا، فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله بإذنه؟ قلت: لم يرد
__________
(1) . قال محمود: «إن جعلت يصلى بمعنى يرحم فما بال عطف الملائكة عليه، فأجاب بأنهم لما كانوا يدعون الله بالرحمة ويستجيب دعاءهم بذلك، جعلوا كأنهم فاعلون الرحمة، كما تقول: حياك الله، بمعنى أحياك، ثم تقول حييته، بمعنى دعوت الله له بالحياة، والمقصد بذلك جعل الحياة محققة له، كأنك قلت: دعوت له بالحياء فاستجيبت الدعوة» قال أحمد: كثيرا ما يفر الزمخشري من اعتقاد إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد، وقد التزمه هاهنا، ولكن جعل الصلاة من الله حقيقة، ومن الملائكة مجازا، لأنه حملها على الرحمة. وأما غيره فحملها على الدعاء، وجعلها من الملائكة حقيقة، ومن الله مجازا، والله أعلم.

(3/546)


وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)

به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارا للتسهيل والتيسير، لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلا لما تعذر من ذلك، وضع موضعه، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل: بإذنه، للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله الله ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذون له في الإنفاق، أى: غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقا عليه داخلا في حكم التعذر. جلى به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمد الله بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. وصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليا سراجا منيرا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف أرسلناك.

[سورة الأحزاب (33) : آية 47]
وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47)
الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب. ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة الله، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.

[سورة الأحزاب (33) : آية 48]
ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)
ولا تطع الكافرين معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه. أو التهييج أذاهم يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول. يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي منسوخة بآية السيف وتوكل على الله فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوضا إليه، ولقائل أن يقول: وصفه الله بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له، قابل الشاهد بقوله: وبشر المؤمنين، لأنه يكون شاهدا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر- والأذى لا بد له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى الله

(3/547)


ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)

بتيسيره بقوله وتوكل على الله لأن من توكل على الله يسر عليه كل عسير، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا، لأن من أناره الله برهانا على جميع خلقه، كان جديرا بأن يكتفى به عن جميع خلقه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)
النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له، من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما، لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابه «1»
سمى الماء بأسنمة الآبال، لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشى والإتيان. فإن قلت: لم خص المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهن تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به: أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحد عدوة الله ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب.
وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة ثم في قوله ثم طلقتموهن؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم: بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها: فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟
__________
(1) .
أقبل كالمستن من ربابه ... كأنما الوابل في مصابه
أسنمة الآبال في سحابه
يصف مطرا بالكثرة والثروة. ويقال: استن الفرس، إذا قمص ولعب، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما تارة ورجليه أخرى على التعاقب. وقمص البحر بالسفينة: إذا حركها، فرفع مقدمها تارة ومؤخرها أخرى، فالمستن:
اسم فاعل منه، واستعير للسحاب: إذ أقبل يتحرك وفيه المطر. والرباب: السحاب الأبيض المتلاصق. وضمير «أقبل» و «ربابه» للمطر. والوابل: إظهار في مقام الإضمار، للدلالة على الكثرة. وفي مصابه: حال له. وأسنمة الآبال: مبتدأ. وفي سحابه: خبر، والجملة خبر الوائل، وأطلق الأسنمة على الماء لأنه سبب سمنها، والمصاب:
مصدر على زنة المفعول. الوابل: المطر الشديد الوقع. والأسنمة: جمع سنام. والآبال- بمد الهمزة-: جمع الإبل

(3/548)


ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50) ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51)

قلت، نعم عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله فما لكم عليهن من عدة دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال تعتدونها تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك. كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ: تعتدونها، مخففا، أى: تعتدون فيها «كقوله:
ويوم شهدناه «1»
والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. فإن قلت: ما هذا التمتيع أواجب أم مندوب إليه؟ قلت إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها، فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة. وبعض على الوجوب سراحا جميلا من غير ضرار ولا منع واجب.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 51]
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50) ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51)
أجورهن مهورهن، لأن المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلا. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: اللاتي آتيت أجورهن ومما أفاء الله عليك واللاتي هاجرن معك وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزا، وله أن
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 408 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]

(3/549)


يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره، وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه الله من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب. والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة:
ما سبى من أهل الحرب. وأما من كان له عهد فالمسبى منهم سبى خبثة، ويدل عليه قوله تعالى مما أفاء الله عليك لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أن رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام «1» ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانى بنت أبى طالب: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل الله هذه الآية، فلم أحل له، لأنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء «2» . وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك، فعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة. وقيل الموهوبات أربع:
ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم- رضى الله عنهن. قرئ إن وهبت على الشرط. وقرأ الحسن رضى الله عنه إن بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرا محذوفا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، بمعنى وقت دوامه جالسا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير أن. فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأول؟ قلت: هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة: إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى نفسها للنبي إن أراد النبي ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت:
للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعا لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعى
__________
(1) . قوله «كما أن رزق الله يجب إطلاقه على الحلال» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيطلقونه على القسمين. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبى شيبة وإسحاق والطبري والطبراني وابن أبى حاتم كلهم من رواية السدى عن أبى صالح عنها

(3/550)


للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى اللاتي آتيت أجورهن وقال أبو بكر الرازي: لا يصح، لأن الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان خالصة مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله، أى: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج والقاعد، والعافية والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله: قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم بعد قوله من دون المؤمنين وهي جملة اعتراضية، وقوله لكيلا يكون عليك حرج متصل بخالصة لك من دون المؤمنين، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أن الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أى حد وصفة يجب أن يفرض عليهم ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ففعل ومعنى لكيلا يكون عليك حرج لئلا يكون عليك ضيق في دينك:
حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك: حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: خالصة، بالرفع، أى: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم وكان الله غفورا للواقع في الحرج إذا تاب رحيما بالتوسعة على عباده. روى أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هجرهن شهرا، ونزل التخيير، فأشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت «1» . وروى أن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسول الله إنى أرى ربك يسارع في هواك «2» ترجي بهمز وغير همز: تؤخر وتؤوي تضم، يعنى: تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء. أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء.
__________
(1) . هذا ملفق من أحاديث. فأوله عند مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر قال «دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم والناس على الباب جلوس ... الحديث» وفيه قول أبى بكر وعمر قال «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألننى النفقة- فذكر الحديث- وفيه: فأنزل الله آية التخيير» وقوله «وهجرهن شهرا» هذا هو من حديث عائشة في الصحيحين. وقوله «تأشفقن أن يطلقهن- إلى آخره» أخرجه ابن أبى شيبة من رواية رزين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يفارق نساءه فقلن له: اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا» وهذا مرسل. وروى ابن مردويه من طريق سالم الأفطس عن مجاهد قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة وخشين أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا. فنزلت ترجي من تشاء منهن الآية
(2) . متفق عليه من حديث هشام عن أبيه عن عائشة في أثناء حديث ووهم الحاكم فاستدركه

(3/551)


لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا (52)

أولا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت. أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت. وعن الحسن رضى الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض، لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم. وإذا طلق وعزل، فإما أن يخلى المعزولة لا يبتغيها، أو يبتغيها. روى أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه: عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضى الله عنهن أرجى خمسا وآوى أربعا «1» . وروى أنه كان يسوى مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك «2» ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا، لأنه إذا سوى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء. وارتفع التفاضل، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى. وعلمن أن هذا التفويض من عند الله بوحيه- اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير، وحصل الرضا وقرت العيون، وسلت القلوب والله يعلم ما في قلوبكم فيه وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله من ذلك وفوض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على تواطئ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه. وقرئ: تقر أعينهن، بضم التاء ونصب الأعين. وتقر أعينهن، على البناء للمفعول وكان الله عليما بذات الصدور حليما لا يعاجل بالعقاب، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر، كلهن تأكيد لنون يرضين، وقرأ ابن مسعود: ويرضين كلهن. بما آتيتهن. على التقديم. وقرأ: كلهن، تأكيدا ل «هن» في آتيتهن.

[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا (52)
لا يحل وقرئ بالتذكير، لأن تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة عن جرير وعبد الرزاق عن معمر كلاهما عن منصور عن أبى رزين وهذا مرسل.
(2) . أما كونه كان يسوى فمن حديث عائشة رضى الله عنها «كان يقسم فيعدل» وأما قصة سودة فروى الترمذي عن ابن عباس «أن سودة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل» وفي الطيراني من رواية ابن أبى الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل بعضنا على بعض في القسم. وكان قل يوم إلا وهو يطيف بنا ويدنو من كل واحدة منا من غير مسيس حتى ينتهى إلى التي هي يومها فيبيت عندها، ولقد قالت له سودة بنت زمعة وقد أراد أن يفارقها: يومى منك وتصيبى لعائشة. فقبل ذلك منها، وفيها نزلت وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية» .

(3/552)


وقال نسوة كان مع الفصل أجوز من بعد من بعد التسع، لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمته منهن، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب ولا أن تبدل بهن ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهن أو بعضهن، أراد الله لهن كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر النبى صلى الله عليه وسلم عليهن، وهي التسع «1» اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر. حفصة بنت عمر. أم حبيبة بنت أبى سفيان. سودة بنت زمعة. أم سلمة بنت أبى أمية. صفية بنت حيي الخيبرية. ميمونة بنت الحرث الهلالية. زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى الله عنهن «2» . من في من أزواج لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل معناه: لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهن لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبى صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة، أين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أم المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة رضى الله عنها: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه- على ما ترين- لسيد قومه «3» . وعن عائشة رضى الله عنها:
ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء، يعنى: أن الآية قد نسخت «4» ،
__________
(1) . قوله «وهي التسع» لعله «وهن» . (ع)
(2) . هذا مجمع عليه كما قال الواقدي وغيره، لكن اختلف في ريحانة وروى ابن أبى خيثمة عن الزهري وعن قتادة وقال أبو عبيد: صح عندنا وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة فلم يتزوج عليها حتى ماتت، ثم تزوج سودة، ثم عائشة، ثم أم سلمة. ثم حفصة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية، ثم أم حبيبة، ثم صفية ثم ميمونة، ثم فاطمة بنت سريج، ثم زينب بنت خزيمة، ثم هند بنت يزيد، ثم اسماء بنت النعمان، ثم هيلة بنت قيس أخت الأشعث. ثم أسماء بنت سبأ» وقال الواحدي: والمجمع عليه أنه تزوج أربع عشرة: التسع التي مات عنهن وتزوج أيضا خديجة وزينب بنت خزيمة وريحانة ومتن عنده، وتزوج أيضا فاطمة بنت الضحاك وأسماء بنت النعمان ولم يدخل بهما.
(3) . أخرجه البزار من حديث أبى هريرة بهذا وأتم منه وفيه إسحاق بن عبد الله القروي وهو متروك. وله شاهد من حديث جرير أخرجه الطبراني، وآخر عن عائشة أخرجه ابن سعد.
(4) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق والنسائي وأبو يعلى والطبري والبزار وابن حبان والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها بالحديث دون التفسير وأخرجه ابن أبى حاتم وابن سعد من حديث أم سلمة رضى لله عنها.

(3/553)


ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53)

ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف ولو أعجبك في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في تبدل لا من المفعول الذي هو من أزواج لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضا إعجابك بهن. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهن، واستثنى ممن حرم عليه: الإماء رقيبا حافظا مهيمنا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.

[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53)
أن يؤذن لكم في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم. وغير ناظرين حال من لا تدخلوا وقع الاستثناء على الوقت والحال معا. كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه:
لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام، إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يؤذن له إذنا خاصا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة أنه قرأ: غير ناظرين، مجرورا صفة لطعام، وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وإنى الطعام: إدراكه.
يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى. ومنه قوله بين حميم آن بالغ إناه. وقيل إناه:
وقته، أى: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم على زينب بتمر وسويق وشاة، وأمر أنسا أن يدعو بالناس، فترادفوا أفواجا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج إلى أن قال: يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال:
ارفعوا طعامكم وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا: فقام رسول الله صلى الله

(3/554)


عليه وسلم ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: عليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له، ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع «1» ونزلت: ولا مستأنسين لحديث نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به. أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور معطوف على ناظرين. وقيل:
هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لا بد في قوله فيستحيي منكم من تقدير المضاف، أى: من إخراجكم، بدليل قوله والله لا يستحيي من الحق يعنى أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قيل لا يستحيي من الحق بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدب الله به الثقلاء. وعن عائشة رضى الله عنها: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال: فإذا طعمتم فانتشروا «2» . وقرئ:
لا يستحى، بياء واحدة. الضمير في سألتموهن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرن لأن الحال ناطقة بذكرهن متاعا حاجة فسئلوهن المتاع. قيل: إن عمر رضى الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، «3» فنزلت. وروى أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد «4» فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى الله عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس وله طرق عندهما وألفاظ.
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق العلاء سمعت عائشة بهذا. قلت: كذا بخط المخرج. وهو غلط واضح جدا.
فان العلاء إنما يروى عن ابن عائشة صاحب النوادر ولم يدرك أصحاب أصحابه عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فضلا عنها ولعله كان في الأصل ابن عائشة فسقط ابن
(3) . متفق عليه من حديثين هذا أحدهما. أخرجه النسائي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني في الصغير من طريق مجاهد عن عائشة قالت «كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قصعة فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه أصبعى، فقال عمر: أواه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب» ورواه ابن أبى شيبة والطبري من طريق مجاهد مرسلا وصوبه الدارقطني في العلل والثاني أخرجه النسائي أيضا من طريق أنس عن عمر رضى الله عنه قال «قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب وأصله في الصحيح.
(4) . أخرجه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي قال «مر عمر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم» فذكره [.....]

(3/555)


إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما (54) لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا (55)

إلا يسيرا حتى نزلت. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، «1» فنزلت آية الحجاب.
وذكر أن بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم الله أن ذلك محرم «2» وما كان لكم وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده. وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيا وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا، «3» فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها، تصورا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة، فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك.

[سورة الأحزاب (33) : آية 54]
إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما (54)
إن تبدوا شيئا من نكاحهن على ألسنتكم أو تخفوه في صدوركم فإن الله يعلم ذلك فيعاقبكم به، وإنما جاء به على أثر ذلك عاما لكل باد وخاف، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل.

[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا (55)
__________
(1) . وهو في حديث النسائي الذي قدمناه أولا.
(2) . أخرجه ابن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن ابن أبى عون عن ابن بكر بن حزام في هذه الآية نزلت في طلحة قال: إذا توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة» وقال عبد الرزق أخبرنا معمر عن قتادة أن رجلا قال «لو قد مات محمد لأتزوجن عائشة رضى الله عنها» فأنزل الله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية» وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية داود عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال «نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم- الحديث» من طريق السدى أن الذي عزم على ذلك عائشة رضى الله عنها.
(3) . قوله «لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا» في الصحاح: فلان مستهتر بالشراب، أى: مولع به، لا يبالى ما قيل فيه. (ع)

(3/556)


إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)

روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب، فنزلت لا جناح عليهن أى لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبا.
قال الله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وإسماعيل عم يعقوب. وقيل. كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد. فقيل واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه وفيما استثنى منه ما قدرتن. واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات، ليفضل سركن علنكن إن الله كان على كل شيء من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه شهيدا لا يتفاوت في علمه الأحوال.

[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)
قرئ: وملائكته بالرفع، عطفا على محل إن واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين. أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه صلوا عليه وسلموا أى قولوا الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها. فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل على فدخل النار فأبعده «1» الله» ويروى أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به، إن الله وكل بى ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلى على إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلى على إلا قال ذانك الملكان: لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن عمر عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين قال: إن جبريل أتانى فذكر الحديث وفيه «ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله» وفي الباب عن مالك بن الحويرث عند ابن حبان والطبراني. وعن ابن عباس في الطبراني وكذلك عن جابر بن سمرة وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وعن بريدة عند إسحاق بن راهويه وعن عمار بن ياسر عند البزار وعن جابر بن عبد الله عند البيهقي في الشعب.

(3/557)


لذينك الملكين: آمين» «1» ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط. الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار «2» . فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطا. وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك- يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وقوله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبى أوفى» «3» ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك: وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى الله على النبي وآله، فلا كلام فيها. وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأن ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم «4»
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن مردويه والثعلبي من حديث الحسن بن على. وفيه الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك.
(2) . ومنها حديث أبى هريرة رفعه «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي وابن حبان، وفي الباب عن كعب بن عجزة أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب. وعن جابر في الأدب المفرد للبخاري، وفي الطبراني الأوسط. وعن عبد الله بن الحارث بن جزء في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لابن أبى عاصم ومنها حديث على رضى الله عنه «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل على» أخرجه الترمذي من طريق عمارة بن غزية عن عبد الله بن على بن حسين عن أبيه عن حسين بن على عن على رضى الله عنه، وأخرجه النسائي وابن حبان من هذا الوجه بغير ذكر على. وأخرجه الحاكم من هذا الوجه فقال عن عبد الله بن على بن الحسين عن أبى هريرة ومنها حديث أنس رفعه «من ذكرت عنده فليصل على فمن صلى على مرة صلى الله عليه عشرا» أخرجه النسائي. ومنها حديث ابن عباس- رفعه- «من نسى الصلاة على خطئ طريق الجنه» أخرجه ابن ماجة. وله طريق أخرى عن الحسين بن على عند الطبراني. وأخرى عند البيهقي في القضايا من المعرفة عن أبى هريرة وأخرى عند ابن إسحاق وابن يعلى عن أبى ذر بلفظ «إن أضل الناس من ذكرت عنده فلم يصل على، ومنها حديث عمر رضى الله عنه قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم» أخرجه الترمذي والبيهقي في الشعب عن على نحوه ومنها حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه- رفعه «من صلى على صلت عليه الملائكة ما صلى على، فليقل من ذلك أو ليكثر، أخرجه ابن ماجة، والأحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا.
(3) . متفق عليه. وقد تقدم في سورة براءة
(4) . تقدم في يوسف

(3/558)


إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58) ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59)

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 58]
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58)
يؤذون الله ورسوله فيه وجهان، أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه:
من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازا فيهما جميعا. وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة. والثاني: أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في أذى الله: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه «شتمني ابن آدم ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني. فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدا. وأما أذاه فقوله: إن الله لا يعيدني بعد أن بدأنى» وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله «1» ، وقيل في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي، وأطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا.
وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه. ومعنى بغير ما اكتسبوا بغير جناية واستحقاق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا رضى الله عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى الله عنها. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف «2» وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة، لما فيه من الروعة عند كر الحول.

[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59)
الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل.
__________
(1) . أخرجه الطبري من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. ومن حديث ابن عباس رضى الله عنهما نحوه.
(2) . «فكيف» عبارة النسفي: فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات. (ع)

(3/559)


لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)

وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد:
مجلبب من سواد الليل جلبابا «1»
ومعنى يدنين عليهن من جلابيبهن يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال:
إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحره بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلك أدنى أن يعرفن أى أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى من في من جلابيبهن؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين.
وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالانضمام معنى الإدناء وكان الله غفورا لما سلف منهن من التفريط مع التوبة «2» ، لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62]
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)
__________
(1) .
أهلا بضيف أنى ما استفتح البابا ... مجلبب من سواد الليل جلبابا
لأبى زبيد. وأهلا: مفعول لمحذوف وجوبا، أى: أتيت أهلا. وبضيف: متعلق بمحذوف، أى. أرحب بضيف:
ويجوز تعلقه بأهلا، لأن فيه معنى الترحيب. وما: مصدرية، أى: مدة استقامة الباب. والمراد منه التعميم، أى: في أى وقت يطلب فتح الباب: وصفه بالآتى في سواد الليل، مبالغة في التمدح بالكرم. ويجوز؟؟؟ أن الضيف محبوبته، فيكون الليل استزلها؟؟؟. وشبه استتار ضيفه بظلام الليل يلبس اللباس، والتجوز في الجلببة أو في الجلباب على طريق التصريحية، ويجوز لأن ما نافية، وعلى هذا فيصح أن يكون خطابا لملك الموت، حيث دخل ولم يطلب فتح الباب، وإن كان الضيف والحبيب قد يفعلان ذلك أيضا
(2) . قوله «لما سلف لعنهن من التفريط مع التوبة» هذا عند المعتزلة. أو بمجرد الفضل عند أهل السنة. (ع)

(3/560)


الذين في قلوبهم مرض قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى فيطمع الذي في قلبه مرض. والمرجفون ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا، إذا أخبر به على غير حقيقة، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء:
لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم «1» ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم «2» ، فسمى ذلك إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز ملعونين نصب على الشتم أو الحال، أى: لا يجاورونك إلا ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مر في قوله إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولا يصح أن ينتصب عن أخذوا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في قليلا وهو منصوب على الحال أيضا. ومعناه. لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع لا يجاورونك؟ قلت:
لا يجاورونك عطف على لنغرينك، لأنه يجوز أن يجاب به القسم. ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. فإن قلت: أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببا عن الأول لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابا آخر للقسم معطوفا على الأول، وإنما عطف بثم، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه سنة الله في موضع مصدر مؤكد، أى: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل: يعنى كما قتل أهل بدر وأسروا.
__________
(1) . قوله «الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم» في الصحاح، يقال: له عندي ما ساءه وناءه، أى أثقله، وما يسوؤه وينوؤه، وقال بعضهم أراد ساءه وناءه وإنما قال ناءه وهو لا يتعدى لأجل ساءه، ليزدوج الكلام. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد بقوله تعالى إلا قليلا ريثما يلتقطون عيالاتهم وأنفسهم لا غير» قال أحمد: وفيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي، يمهل ربما؟؟؟ ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان، حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد، والله أعلم. [.....]

(3/561)


يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)

[سورة الأحزاب (33) : آية 63]
يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63)
كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا، لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، وإسكانا للممتحنين قريبا شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 65]
إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65)
السعير: النار المسعورة الشديدة الإيقاد.

[سورة الأحزاب (33) : آية 66]
يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66)
وقرئ: تقلب، على البناء للمفعول. وتقلب، بمعنى تتقلب. ونقلب، أى: نقلب نحن.
وتقلب، على أن الفعل للسعير «1» . ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها. أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف يقولون أو محذوف. وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان يقولون حالا.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 الى 68]
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)
وقرئ: سادتنا وساداتنا: وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضل السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت: جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ: كثيرا، تكثيرا لإعداد اللعائن. وكبيرا، ليدل على أشد اللعن وأعظمه ضعفين ضعفا لضلاله وضعفا لإضلاله: يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك.
__________
(1) . قوله «على أن الفعل للسعير، يعنى: وجوههم، بالنصب. (ع)

(3/562)


ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69) ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73)

[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)
لا تكونوا كالذين آذوا موسى قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل: في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها، وقيل: اتهامهم إياه بقتل هرون، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيب «1» في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم الله على أنه بريء منه وجيها ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة. وكان عبد الله وجيها. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله، كقوله تعالى عند ذي العرش مكين وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله مما قالوا معناه: من قولهم، أو من مقولهم، لأن «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فكيف تصح البراءة منه؟ قلت المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه، وهو الأمر المعيب. ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة «2» ، والقالة بمعنى القول؟

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 73]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73)
قولا سديدا قاصدا إلى الحق والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدد السهم نحو الرمية: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا
__________
(1) . قوله «وقيل قرفوه بعيب» في الصحاح: قرفت الرجل، أى: عبته، ويقال: هو يقرف بكذا، أى:
ترمى برؤيتهم. (ع)
(2) . قوله «ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة» في الصحاح: صار هذا الأمر سبة عليه- بالضم، أى: عارا (ع)

(3/563)


فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعث على أن يسد قولهم «1» في كل باب لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقررة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال ومن يطع الله ورسوله وعلق بالطاعة الفوز العظيم، أتبعه قوله إنا عرضنا الأمانة وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها- وهو ما يتأتى من الجمادات- وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها- حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال قالتا أتينا طائعين وأما الإنسان فلم تكن حاله- فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد:
أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل:
أخوك الذى لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف «2»
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأداه،
__________
(1) . قوله «على ان يسد قولهم» في الصحاح: سد قوله يسد- بالكسر-: أى صار سديدا. (ع)
(2) . للقطامى. وقبل: لذي الرمة. وحس له حسا: رق له وعطف. والحس أيضا: العقل والتدبير والنظر في العواقب، والارفضاض من الترشرش والتناثر، وأحفظه إحفاظا: أغضبه، فالمحفظات: المغضبات. والكتائف:
جمع كتيفة، وهي الضغينة والحقد. يقول: أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة، بل يبذلها لك. أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأنى، بل يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك، لأنها تغضبه أيضا.

(3/564)


فمعنى: فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده: أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته إنه كان ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس «1» بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟
لقال: أسوى العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصور مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله- في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما- بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب.
وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات: مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في ليعذب لام التعليل على طريق المجاز، لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ: ويتوب الله «2» . ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر، والله أعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر «3» » .
__________
(1) . قوله «ثم خاس بضمانه فيها» في الصحاح: خاس به يخيس ويخوس، أى: غدر به يقال: خاص بالعهد، إذ نكث. (ع)
(2) . قوله «ويتوب» أى بالرفع، كما في النسفي. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(3/565)


الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2)

سورة سبإ
مكية، [إلا آية 6 فمدنية] وآياتها 54 [نزلت بعد لقمان] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2)
ما في السماوات والأرض كله نعمة من الله، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال الحمد لله ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه.
ولما قال وله الحمد في الآخرة علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت:
ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أما الحمد في الدنيا فواجب، لأنه على نعمة متفضل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأما الحمد في الآخرة فليس بواجب «1» ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها «2» ، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم:
يلتذون به كما يلتذ من به العطاش «3» بالماء البارد وهو الحكيم الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته الخبير بكل كائن يكون. ثم ذكر مما يحيط به علما ما يلج في الأرض من
__________
(1) . قال محمود: «الحمد الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها، والثاني: ليس بواجب، لأنه على نعمة واجبة على المنعم» قال أحمد: والحق في الفرق بين الحمدين: أن الأول عبادة مكلف بها، والثاني غير مكلف به ولا متكلف، وإنما هو في النشأة الثانية كالجليات في النشأة الأولى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» وإلا فالنعمة الأولى كالثانية بفضل من الله تعالى على عباده، لا عن استحقاق. والله الموفق.
(2) . قوله «نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها» مبنى على مذهب المعتزلة، أما أهل السنة فلا يوجبون على الله شيئا، ولا يجب الحمد في الآخرة، لأنها ليست دار تكليف. (ع)
(3) . قوله «كما يلتذ من به العطاش» في الصحاح «العطاش» : داء يصيب الإنسان: يشرب الماء فلا يروى. (ع)

(3/566)


وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4)

الغيث كقوله فسلكه ينابيع في الأرض ومن الكنوز والدفائن والأموات، وجميع ما هي له كفات وما يخرج منها من الشجر والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب، وغير ذلك وما ينزل من السماء من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير، كما قال تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون وما يعرج فيها من الملائكة وأعمال العباد وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله الرحيم الغفور للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: ننزل، بالنون والتشديد.

[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 4]
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4)
قولهم لا تأتينا الساعة نفى للبعث وإنكار لمجيء الساعة. أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية، كقولهم متى هذا الوعد. أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكدا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أنبع المقسم به من الوصف بما وصف به، إلى قوله ليجزي لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة، كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ.
فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب: إذا قيل عالم الغيب، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا. فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبا كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة والبينة الساطعة وهي قوله ليجزي فقد وضع الله في العقول وركب في

(3/567)


والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6)

الغرائز وجوب الجزاء «1» ، وأن المحسن لا بد له من ثواب، والمسيء لا بد له من عقاب. وقوله ليجزي متصل بقوله لتأتينكم تعليلا له. قرئ: لتأتينكم بالتاء والياء. ووجه من قرأ بالياء: أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم. أو يسند إلى عالم الغيب، أى ليأتينكم أمره كما قال تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك وقال و يأتي أمر ربك
. وقرئ:
عالم الغيب، وعلام الغيب: بالجر، صفة لربي. وعالم الغيب، وعالم الغيوب: بالرفع، على المدح.
ولا يعزب: بالضم والكسر في الزاى، من العزوب وهو البعد. يقال: روض عزيب: بعيد من الناس مثقال ذرة مقدار أصغر نملة ذلك إشارة إلى مثقال ذرة. وقرئ: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بالرفع على أصل الابتداء. وبالفتح على نفى الجنس، كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، بالرفع والنصب. وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت: هل يصح عطف المرفوع على مثقال ذرة، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة، لا لتأكيد النفي. وعطف المفتوح على ذرة بأنه فتح في موضع الجر لامتناع الصرف، كأنه قيل: لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب، وجعلت الغيب اسما للخفيات، قبل أن تكتب في اللوح لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء، ولا يزل عنه إلا مسطورا في اللوح.

[سورة سبإ (34) : آية 5]
والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5)
وقرئ معجزين، وأليم، بالرفع والجر. وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب.

[سورة سبإ (34) : آية 6]
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6)
وقرئ معجزين. فأليم: بالرفع والجر، وعن قتادة: الرجز: سوء العذاب. ويرى في موضع الرفع، أى: ويعلم أولو العلم، يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته. أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب الأحبار وعبد الله ابن سلام رضى الله عنهما. الذي أنزل إليك ... الحق هما مفعولان ليرى، وهو فصل من قرأ الحق بالرفع: جعله مبتدأ والحق خبرا، والجملة في موضع المفعول الثاني. وقيل يرى في موضع النصب معطوف على ليجزي أى: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق. علما
__________
(1) . قوله «وركب في الغرائز وجوب الجزاء» هذا مقتضى الحكمة وإن لم يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة، فتدبر. (ع)

(3/568)


وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8)

لا يزاد عليه في الإيقان، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا. ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما.

[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 8]
وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8)
الذين كفروا قريش. قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على رجل يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم: يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب: أنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق، أى: يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد. أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو مبرأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث: واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك. وذلك أجن الجنون وأشده إطباقا على عقولهم: جعل وقوعهم في العذاب رسيلا لوقوعهم في الضلال، كأنهما كائنان في وقت واحد: لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته: جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان. وقرأ زيد بن على رضى الله عنه: ينبيكم.
فإن قلت: فقد جعلت الممزق مصدرا، كبيت الكتاب:
ألم تعلم مسرحى القوافي ... فلاعيا بهن ولا اجتلابا «1»
فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم. معناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع، وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح. فإن قلت: ما العامل في إذا؟ قلت: ما دل عليه إنكم لفي خلق جديد وقد سبق نظيره. فإن قلت: الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت: هو عند البصريين بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جديد، كحد فهو حديد، وقل فهو قليل. وعند الكوفيين بمعنى: مفعول، من جده إذا قطعه. وقالوا: هو
__________
(1) . لجرير، وهو من أبيات الكتاب. والمسرح: مصدر على زنة المفعول، فهو بمعنى التسريح، أى:
الإرسال أو التسوية. وسرحت الجارية شعرها: مشطته، فاسترسل وحسن، وهو مضاف لباء الفاعل. والقوافي:
مفعول، ونصب العي لشبهه بالمضاف، أو نونه للضرورة، أى: لا أعيى بها، ولا أعجز عنها، ولا أجتلبها، ولا أسرقها، ويجوز أن العي ركاكة المعنى. والاجتلاب: الاستتار، من جلبة الجرح، وهي قشرته الساترة له، فيهن:
بمعنى فيهن.

(3/569)


أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب (9)

الذي جده الناسج الساعة في الثوب، ثم شاع. ويقولون: ولهذا قالوا «1» ملحفة جديد، وهي عند البصريين كقوله تعالى إن رحمت الله قريب ونحو ذلك. فإن قلت: لم أسقطت الهمزة في قوله أفترى دون قوله «السحر» ، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت: القياس الطرح، ولكن أمرا اضطرهم إلى ترك إسقاطها في نحو «آلسحر» وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام. فإن قلت: ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت هو من الإسناد المجازى، لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة، وكلما ازداد عنها بعدا كان أضل.
فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قوله هل ندلكم على رجل ينبئكم فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره.

[سورة سبإ (34) : آية 9]
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب (9)
أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة إن في ذلك النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله لآية ودلالة لكل عبد منيب وهو الراجع إلى ربه المطيع له، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به. قرئ يشأ ويخسف ويسقط: بالياء، لقوله تعالى أفترى على الله كذبا وبالنون لقوله ولقد آتينا وكسفا: بفتح السين وسكونه. وقرأ الكسائي: يخسف بهم، بالإدغام وليست بقوية.
__________
(1) . قوله «ولهذا قالوا» أى العرب. (ع) [.....]

(3/570)


ولقد آتينا داوود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 13]
ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير (11) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)
يا جبال إما أن يكون بدلا من فضلا، وإما من آتينا بتقدير: قولنا يا جبال.
أو: قلنا يا جبال. وقرئ: أوبى، وأوبى: من التأويب. والأوب: أى رجعي معه التسبيح.
أو ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه، لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه: ومعنى تسبيح الجبال:
أن الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح: معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها «1» والطير بأصواتها. وقرئ: والطير، رفعا ونصبا، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوزوا أن ينتصب مفعولا معه، وأن يعطف على فضلا، بمعنى وسخرنا له الطير. فإن قلت: أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال ولقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير؟
قلت: كم بينهما. ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى: من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا: إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته وألنا له الحديد وجعلناه له لينا كالطين والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة. وقيل: لان الحديد في يده لما أوتى من شدة القوة. وقرئ صابغات، وهي الدروع الواسعة الضافية، وهو أول من اتخذها وكانت قبل صفائح. وقيل:
كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله، ويتصدق على الفقراء. وقيل:
كان يخرج حين ملك بنى إسرائيل متنكرا، فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟
فيثنون عليه، فقيض الله له ملكا في صورة آدمى فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود، فسأله؟ فقال: لولا أنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع وقدر لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق، ولا غلاظا فتفصم الحلق. والسرد: نسج الدروع واعملوا الضمير لداود وأهله وسخرنا لسليمان الريح فيمن نصب: ولسليمان الريح مسخرة، فيمن رفع، وكذلك فيمن قرأ:
__________
(1) . قوله «بأصدائها» جمع صدى، وهو الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها، كذا في الصحاح. (ع)

(3/571)


الرياح، بالرفع غدوها شهر جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. وقرئ:
غدوتها وروحتها. وعن الحسن رضى الله عنه: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثم يروح فيكون رواحه بكابل. ويحكى أن بعضهم رأى مكتوبا في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان: نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله. القطر: النحاس المذاب من القطران. فإن قلت: ماذا أراد بعين القطر؟ قلت: أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله «1» كما ألان الحديد لداود، فنبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، كما قال إني أراني أعصر خمرا وقيل: كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام بإذن ربه بأمره ومن يزغ منهم ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرئ. يزغ من أزاغه. وعذاب السعير: عذاب الآخرة، عن ابن عباس رضى الله عنهما وعن السدى: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجنى.
المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال: سميت محاريب لأنه يحامى عليها ويذب عنها. وقيل: هي المساجد. والتماثيل: صور الملائكة والنبيين والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. فإن قلت:
كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت: هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع، لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب، وعن أبى العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما. ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها، لأن التمثال كل ما صور على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان. أو تصور محذوفة الرؤوس. وروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. والجوابى: الحياض الكبار، قال:
تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقى تفهق «2»
لأن الماء يجبى فيها، أى: يجمع. جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة. قيل:
كان يقعد على الجفنة ألف رجل. وقرئ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. كقوله تعالى يوم يدع الداع.
__________
(1) . قوله «ولكنه أساله كما ألان الحديد» لعله: أساله له (ع)
(2) . للأعشى في مدح المحلق. وروى «تلوح» بدل تروح، لأنها تظهر عند خروجها من البيت أول النهار مستعلية عليهم. والجفنة: قصعة الثريد. والجابية: الحوض يجبى الماء، أى: يجمعه إلى الحوض. والسيح:
الماء الكثير الجاري. وفهق يفهق، كفرح يفرح: اتسع وامتلأ وتدفق. ومنه الحديث: أنه قام إلى باب الجنة فانفهقت له، أى: انفتحت واتسعت، والمتفيهق: المكثر من الكلام، فقوله «تفهق» أى تمتلئ مع اتساعها حتى تكاد تتدفق

(3/572)


فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)

راسيات ثابتات على الأثافى لا تنزل عنها لعظمها اعملوا آل داود حكاية ما قيل لآل داود. وانتصب شكرا على أنه مفعول له، أى: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدى على طريق الشكر. أو على الحال، أى:
شاكرين. أو على تقدير اشكروا شكرا، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا، من حيث أن العمل للمنعم شكر له. ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولا به. ومعناه: إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة الشكور المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه: قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادا واعترافا وكدحا، وأكثر أوقاته. وعن ابن عباس رضى الله عنهما من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: من يشكر على الشكر. وقيل: من يرى عجزه عن الشكر. وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول: اللهم اجعلنى من القليل، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنى سمعت الله يقول وقليل من عبادي الشكور فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر «1» .

[سورة سبإ (34) : آية 14]
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)
قرئ: فلما قضى عليه الموت. ودابة الأرض: الأرضة، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها، فأضيفت إليه. يقال: أرضت الخشبة أرضا. إذا أكلتها الأرضة. وقرئ بفتح الراء، من أرضت الخشبة أرضا، وهو من باب فعلته ففعل، كقولك: أكلت القوادح الأسنان أكلا، فأكلت أكلا. والمنسأة: العصا. لأنه ينسأ بها، أى: يطرد ويؤخر وقرئ بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلبا وحذفا وكلاهما ليس بقياس، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي. ومنسأته على مفعالة. كما يقال في الميضأة ميضاءة. ومن سأته، أى: من طرف عصاه، سميت بسأة «2» القوس على الاستعارة. وفيها لغتان، كقولهم: قحة وقحة «3» . وقرئ. أكلت منسأته تبينت الجن من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى. وأن مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال، كقولك: تبين زيد جهله: والظهور له في المعنى، أى: ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب أو علم الجن كلهم علما بينا- بعد التباس الأمر
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد من رواية التيمي قال قال عمر- فذكره نحوه
(2) . قوله «سميت بسأة القوس» في الصحاح «سية القوس» : ما عطف من طرفيها، وكان رؤبة يهمز: سية القوس، وسائر العرب لا يهمزونها. (ع)
(3) . قوله «كقولهم قحة وقحة» كسعة وكمدة، بمعنى الوقاحة: وهي الصلابة. (ع)

(3/573)


على عامتهم وضعفتهم وتوهمهم- أن كبارهم يصدقون في ادعائهم علم الغيب. أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدعى الباطل إذا دحضت حجته «1» وظهر إبطاله بقولك: هل تبينت أنك مبطل.
وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا. وقرئ: تبينت الجن، على البناء للمفعول، على أن المتبين في المعنى هو أن مع ما في صلتها، لأنه بدل. وفي قراءة أبى: تبينت الإنس. وعن الضحاك:
تباينت الإنس بمعنى تعارفت وتعالمت. والضمير في كانوا للجن في قوله ومن الجن من يعمل بين يديه أى علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب، ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب.
روى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله، فيسألها: لأى شيء أنت؟ فتقول لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة، فسألها، فقالت: نبت لخراب هذا المسجد:
فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حى، أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له وقال: اللهم عم عن الجن موتى، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الإنس أنهم يعلمون العيب، وقال لملك الموت: إذا أمرت بى فأعلمنى، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى متكئا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا. ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة، وروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه، وليبطل دعواهم علم الغيب. روى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه، وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة: ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقى في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.
__________
(1) . قوله «إذا دحضت حجته» في الصحاح: بطلت. (ع)

(3/574)


لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17)

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17)
قرئ لسبإ بالصرف ومنعه، وقلب الهمزة ألفا. ومكنهم: بفتح الكاف وكسرها، وهو موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها، أو مسكن كل واحد منهم.
وقرئ: مساكنهم. وجنتان بدل من آية. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره: الآية جنتان.
وفي الرفع معنى المدح، تدل عليه قراءة من قرأ: جنتين، بالنصب على المدح. فإن قلت: ما معنى كونهما آية؟ قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية، وإنما جعل قصتهما، وأن أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما، وأبدلهم عنهما لخمط والأثل: آية، وعبرة لهم، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز أن تجعلهما آية، أى:
علامة دالة على الله، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها. كأنها جنة واحدة، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها. أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال:
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب كلوا من رزق ربكم إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال. أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ولما قال كلوا من رزق ربكم واشكروا له أتبعه قوله بلدة طيبة ورب غفور يعنى: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتمل فتعمل بيديها وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر طيبة لم تكن سبخة. وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية. وقرئ: بلدة طيبة وربا غفورا، بالنصب على المدح. وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد العرم الجرذ «1»
__________
(1) . قوله «العرم الجرذ» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر. وفيه: سكرت النهر سكرا، إذا شددته. (ع)

(3/575)


الذي نقب عليهم السكر. ضربت لهم بلقيس الملكة بسد ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا قيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم، فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدهم الخلد، «1» فنقبه من أسفله فغرقهم. وقيل: العرم جمع عرمة، وهي الحجارة المركومة. ويقال للكدس؟؟؟ من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة «2» التي عقدوها سكرا: وقيل: العرم اسم الوادي: وقيل: العرم المطر الشديد. وقرئ: العرم، بسكون الراء. وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقرئ:
أكل، بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة. والأكل: الثمر. والخمط: شجر الأراك: وعن أبى عبيدة: كل شجر ذى شوك. وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة، حتى لا يمكن أكله. والأثل: شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودا. ووجه من نون: أن أصله ذواتي أكل أكل خمط. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو وصف الأكل بالخمط، كأنه قيل: ذواتي أكل بشع. ومن أضاف وهو أبو عمرو وحده، فلأن أكل الخمط في معنى البرير، «3» كأنه قيل: ذواتي برير. والأثل والسدر: معطوفان على أكل، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له. وقرئ وأثلا. وشيئا: بالنصب، عطفا على جنتين. وتسمية البدل جنتين، لأجل المشاكلة وفيه: ضرب من التهكم. وعن الحسن رحمه الله. قال السدر، لأنه أكرم ما بدلوا. وقرئ:
وهل يجازى. وهل نجازى، بالنون. وهل يجازى والفاعل الله وحده. وهل يجزى، والمعنى:
أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر، وهو العقاب العاجل، وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء، ووجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله جزيناهم بما كفروا بمعنى: عاقباهم بكفرهم. قيل: وهل نجازي إلا الكفور بمعنى: وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح، وليس لقائل أن يقول: لم قيل:
وهل يجازى إلا الكفور، على اختصاص الكفور بالجزاء، والجزاء عام للكافر والمؤمن، لأنه لم يرد الجزاء العام، وإنما أراد الخاص وهو العقاب، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه. ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا، وهل يجازى إلا الكافر والمؤمن:
__________
(1) . قوله «سلط الله على سدهم الخلد فنقبه» في الصحاح «الخلد» : ضرب من الجرذان أعمى. وفيه «المكدس» بالضم: واحد أكداس الطعام. (ع)
(2) . قوله «والمراد المسناة التي عقدوها» في الصحاح: المسناة: العرم وفيه: العرم المسناة. وفي ذلك دور. (ع)
(3) . قوله «فلأن أكل الخمط في معنى البرير» في الصحاح «البرير» : ثمر الأراك. (ع)

(3/576)


وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19)

لم يصح ولم يسد كلاما، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (19)
القرى التي باركنا فيها وهي قرى الشام قرى ظاهرة متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق: ظاهرة للسابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وقدرنا فيها السير قيل: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء سيروا فيها وقلنا لهم: سيروا: ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه، كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله ليالي وأياما؟ قلت: معناه سيروا فيها، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين لا تخافون، وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي. أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم، فإنكم في كل حين وزمان، لا تلقون فيها إلا الأمن. قرئ: ربنا باعد بين أسفارنا. وبعد. ويا ربنا، على الدعاء، بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش «1» ، وملوا العافية، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. وقرئ ربنا بعد بين أسفارنا، وبعد بين أسفارنا على النداء، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به، كما تقول: سير فرسخان، وبوعد بين أسفارنا. وقرئ: ربنا باعد بين أسفارنا. وبين سفرنا. وبعد، برفع ربنا على الابتداء، والمعنى خلاف الأول، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوها لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم كانوا يتشاجون «2» على ربهم
__________
(1) . قوله «وبشموا من طيب العيش» بشموا، أى: سئموا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «كأنهم كانوا يتشاجون» في الصحاح «الشجو» : الهم والحزن. (ع)

(3/577)


ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21)

ويتحازنون عليه أحاديث يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم، وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا، يقولون: ذهبوا أيدى سبا، وتفرقوا أبادى سبا. قال كثير:
أيادى سبا يا عز ما كنت بعدكم ... فلم يحل بالعينين بعدك منظر «1»
لحق غسان بالشأم، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان صبار عن المعاصي شكور للنعم.

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21)
قرئ: صدق، بالتشديد والتخفيف، ورفع إبليس ونصب الظن، فمن شدد فعلى: حقق عليهم ظنه، أو وجده صادقا، ومن خفف فعلى: صدق في ظنه أو صدق يظن ظنا، نحو: فعلته جهدك، وبنصب إبليس ورفع الظن، فمن شدد فعلى: وجده ظنه صادقا ومن خفف فعلى: قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، يقولون: صدقك ظنك، وبالتخفيف ورفعهما على: صدق عليهم ظن إبليس، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق، كقوله: صدقت فيهم ظنوني،
__________
(1) . لكثير صاحب عزة. وسبأ: بلدة كانت كثرة الخصب طيبة البساتين، فكفر أهلها نعمة الله فأرسل عليهم السيل، وبدلهم بالخصب جديا؟؟؟، وبالرغد ضيقا، وبالسمن غثا، فصاروا لا ينالون الأفوات إلا من جهات بعيدة. والمراد بالأيادى: النعم، وأيادى سبا: استعارة لأحوال نفسه التي تشبه أحوال سبأ في التشتت والتنغص.
أو تشبيه بلغ على الخلاف. وفيه مجاز بالحذف، أى: أيادى أهل سبأ ما كنته بعدكم، أى: ما كنت متصفا به من الأحوال كأحوال سبأ. ويجوز ان ما مصدرية، أى: أكوانى وأحوالى بعدكم كأحوال سبأ. أو المراد بأيادى سبأ: أصحابها الذين كانوا يعمرونها، ففرقوا أنفسهم بأيديهم فشبه نفسه بهم لعدم استقراره. وتطلق سبأ على قبيلة كانت تسكنها. ويحتمل أنها المراد هنا، بل هو أظهر. ويجوز أن المراد أبوها، وهو سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان: كان ذا مال وبنين، فتفرق بنوه بعضهم إلى اليمن وبعضهم إلى الشام إلى غير ذلك، فأطلق الأيادى عليهم، لأن بهم قوته كالأيادى، ثم شبه نفسه بهم في الشتات. وعن: مرخم، وفي ندائها معنى التوجع والاستعطاف، وخاطبها بضمير جمع المذكر تعظيما، ولذلك لا تجده في مواضع ذمهن، وجملة النداء معترضة بين الخبر والمبتدأ ويحتمل أن التقدير: أنا كأيادى سبأ مدة كوني بعدكم، فهي معترضة بين الجملة والظرف المتعلق بها، وحلا يحلو كدعا يدعو وغيره قليل، شبه الحسن بالحلاوة بجامع اللذة. وقيل: حلى يحلى، كرضى يرضى في المنظر. وحلا يحلو في الطعم، وما هنا من الأول فلا مجاز، والمنظر مصدر بمعنى النظر، ويجوز أن الحلاوة الحسن والمنظر- بالفتح-: مكان النظر. ويجوز أنه النظر. أى: فلم يحسن لعيني غيرك، ويجوز أن المراد بعدكم بعد ارتحالك أنت وأهلك، فالخطاب لها ولحيها! ولكن موارد الاستعمال يعضدها ما تقدم، وروى: فلن يحل، فزعم بعضهم أن «لن» قد تجزم كما هنا، وعلى المنع فحذف آخر الفعل للضرورة أو التخفيف. [.....]

(3/578)


قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير (23)

ومعناه: أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إن ذريته أضعف عزما منه، فظن بهم اتباعه وقال: لأضلنهم، لأغوينهم. وقيل: ظن ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها. والضمير في عليهم وفاتبعوه إما لأهل سبأ، أو لبنى آدم. وقلل المؤمنين بقوله إلا فريقا لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار، كما قال لأحتنكن ذريته إلا قليلا، ولا تجد أكثرهم شاكرين. وما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلا لغرض صحيح وحكمة بينة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم. وقرئ: ليعلم على البناء للمفعول حفيظ محافظ عليه، وفعيل ومفاعل: متآخيان.

[سورة سبإ (34) : آية 22]
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22)
قل لمشركي قومك ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه، وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون أن يستجيب لكم ويرحمكم، ثم أجاب عنهم بقوله لا يملكون مثقال ذرة من خير أو شر، أو نفع أو ضر في السماوات ولا في الأرض وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك، كقوله تعالى ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه، يريد: أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية، فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى، فإن قلت: أين مفعولا زعم؟
«قلت» : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول. وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون من دون الله أو لا يملكون أو محذوفا فلا يصح الأول، لأن قولك: هم من دون الله، لا يلتئم كلاما، ولا الثاني، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم، وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقى أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله أهذا الذي بعث الله رسولا استخفافا، لطول الموصول لصلته، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته من دون الله والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما، فإذا مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين.

[سورة سبإ (34) : آية 23]
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير (23)

(3/579)


تقول: الشفاعة لزيد، على معنى أنه الشافع، كما تقول: الكرم لزيد: وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين، أى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له.
أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له، أى: لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أى لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فإن قلت: بما اتصل قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم ولأى شيء وقعت حتى غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليه قوله عز وجل رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا. يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون كليا فزعين وهلين، حتى إذا فزع عن قلوبهم، أى: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن: تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا قال الحق أى القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة «1» » وقرئ أذن له، أى: أذن له الله، وأذن له على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: فزع، مخففا، بمعنى فزع. وقرئ فزع، على البناء للفاعل، وهو الله وحده، وفرع، أى: نفى الوجل عنها وأفنى، من قولهم: فرغ الزاد، إذا لم يبق منه شيء، ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور، كما تقول: دفع إلى زيد، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف، وأصله: فرغ الوجل عنها، أى: انتفى عنها، وفنى ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور. وقرأ: افرنقع عن قلوبهم، بمعنى: انكشف عنها. وعن أبى علقمة أنه هاج به المرار «2» فالتف عليه الناس، فلما أفاق قال: ما لكم تكأكأتم على تكأكؤكم على ذى جنة؟ افرنقعوا عنى. والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط، مع زيادة الراء. وقرئ الحق بالرفع، أى: مقوله الحق وهو العلي الكبير ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبى أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
__________
(1) . لم أجده
(2) . قوله «أنه هاج به المرار» في الصحاح «المرار» بضم الميم: شجر مر، إذا أكلت منه الإبل قلصت عنه مشافرها. ومنه: بنو آكل المرار: وهم قوم من العرب. (ع)

(3/580)


قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24)

[سورة سبإ (34) : آية 24]
قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24)
أمره بأن يقررهم بقوله من يرزقكم ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله:
يرزقكم الله. وذلك للإشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به، لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم: لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرن عليه من لا يقدر على الرزق، ألا ترى إلى قوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار حتى قال: فسيقولون الله ثم قال فماذا بعد الحق إلا الضلال فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ومرة كانوا يتلعثمون عنادا وضرارا وحذارا من إلزام الحجة، ونحوه قوله عز وجل قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ومعناه: وإن أحد الفريقين من الذين يتوحدون الرازق من السماوات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ: دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أنضل «1» بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفل شوكته «2» بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب «3» . ومنه بيت حسان:
__________
(1) . قوله «ولكن التعريض والتورية أفضل» في الصحاح «ناضله» : راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته اه، فالأنضل الأشد رميا، فلذا عدى بالي. (ع)
(2) . قوله «وفل شوكته» أى كسرها. (ع)
(3) . قال محمود: «لما ألزمهم الحجة في قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير وهلم جرا إلى الآية المذكورة- وهذا الإلزام إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه- أمره أن يقول وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة: لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موافق أو مخالف قال للمخاطب به: قد أنصفك صاحبك، والتعريض أنضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا. ونحوه قول الرجل لصاحبه: الله يعلم الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب ومنه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
قال أحمد: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد، واستعاذه الخاطر كأنى بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخر والفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم، وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله والله الموفق.

(3/581)


قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)

أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء «1»
فإن قلت: كيف خولف بين حرفى الجر الداخلين على الحق والضلال؟ قلت: لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدرى أين يتوجه. وفي قراءة أبى: وإنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين.

[سورة سبإ (34) : الآيات 25 الى 26]
قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26)
هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه من الأول، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين، وإن أراد بالإجرام: الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن، وبالعمل: الكفر والمعاصي العظام «2» . وفتح الله بينهم: وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار.

[سورة سبإ (34) : آية 27]
قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)
فإن قلت: ما معنى قوله أروني وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به. وكلا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أف لكم ولما تعبدون من دون الله بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة 563 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قال محمود: «وهذا القول أدخل في الانصاف من الأول، حيث أسند الاجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر» قال أحمد: فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزاما للانصاف، وزيادة على ذلك أنه ذكر الاجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يعطى تحقيق المعنى، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطى ذلك، والله أعلم.

(3/582)


وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31)

غلطهم وإن لم يقدروا الله حق قدره بقوله هو الله العزيز الحكيم كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده. أو ضمير الشأن، كما في قوله تعالى قل هو الله أحد.

[سورة سبإ (34) : آية 28]
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28)
إلا كافة للناس إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالا من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقع به حتى بضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطإ الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين.

[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)
قرئ: ميعاد يوم. وميعاد يوم. وميعاد يوما. والميعاد: ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان. والدليل عليه قراءة من قرأ: ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. فإن قلت: فما تأويل من أضافه إلى يوم، أو نصب يوما؟ قلت. أما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول: سحق ثوب، وبعير سانية. وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد، أعنى يوما أو أريد يوما من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يكون الرفع على هذا، أعنى التعظيم. فإن قلت:
كيف انطبق هذا جوابا على سؤالهم؟ قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتا، لا استرشادا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم. فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه.

[سورة سبإ (34) : آية 31]
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31)

(3/583)


قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33)

الذي بين يديه: ما نزل قبل القرآن من كتب الله: يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله عز وجل في الكفر. فكفروا بها جميعا. وقيل: الذي بين يديه يوم القيامة. والمعنى: أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب ولو ترى في الاخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم، لرأيت العجيب «1» ، فحذف الجواب. والمستضعفون: هم الأتباع، والمستكبرون: هم الرءوس والمقدمون.

[سورة سبإ (34) : الآيات 32 الى 33]
قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33)
أولى الاسم أعنى نحن حرف الإنكار، لأن الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم، كأنهم قالوا:
أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين بعد إذ جاءكم بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا. فإن قلت: إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية، فلم وقعت إذ مضافا إليها؟ قلت: قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليها الزمان، كما أضيف إلى الجمل في قولك: جئتك بعد إذ جاء زيد، وحينئذ، ويومئذ، وكان ذلك أو ان الحجاج أمير، وحين خرج زيد. لما أنكر المستكبرون بقولهم أنحن صددناكم أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم بل كنتم مجرمين أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كر عليهم المستضعفون بقولهم بل مكر الليل والنهار فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من
__________
(1) . قوله «لرأيت العجيب» لعله: العجب، كعبارة النسفي. (ع)

(3/584)


وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35)

جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد. ومعنى مكر الليل والنهار: مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازى. وقرئ: بل مكر الليل والنهار بالتنوين ونصب الظرفين. وبل مكر الليل والنهار بالرفع والنصب. أى تكرون الإغواء مكرا دائبا لا تفترون عنه. فإن قلت: ما وجه الرفع والنصب؟ قلت: هو مبتدأ أو خبر، على معنى: بل سبب ذلك مكركم أو مكركم، أو مكركم أو مكركم سبب ذلك. والنصب على: بل تكرون الإغواء مكر الليل والنهار: فإن قلت: لم قيل: قال الذين استكبروا، بغير عاطف، وقيل وقال الذين استضعفوا؟ قلت: لأن الذين استضعفوا مر أولا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأول فإن قلت: من صاحب الضمير في وأسروا قلت: الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين في أعناق الذين كفروا أى في أعناقهم، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال. وعن قتادة: أسروا الكلام بذلك بينهم. وقيل: أسروا الندامة أظهروها، وهو من الأضداد.

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35]
وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35)
هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى «1» به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والمفاخرة «2» وزخارفها، والتكبر بذلك على المؤمنين، والاستهانة بهم من أجله، وقولهم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فعلى قياسهم ذلك قالوا وما نحن بمعذبين أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم، نظرا إلى أحوالهم في الدنيا.
__________
(1) . قوله «مما منى به من قومه» أى ابتلى به. (ع)
(2) . قوله «والمفاخرة وزخارفها» لعله «والمفاخرة بالدنيا وزخارفها» . (ع)

(3/585)


قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (37) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)

[سورة سبإ (34) : آية 36]
قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36)
وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس، وربما وسع عليهما وضيق عليهما، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق. وقدر الرزق: تضييقه. قال تعالى ومن قدر عليه رزقه وقرئ يقدر، بالتشديد والتخفيف.

[سورة سبإ (34) : الآيات 37 الى 38]
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (37) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون (38)
أراد: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أى: ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب. وقرأ الحسن: باللاتى تقربكم، لأنها جماعات. وقرئ: بالذي يقربكم، أى: بالشيء الذي يقربكم. والزلفى والزلفة: كالكربى والكربة، ومحلها النصب، أى: تقربكم قربة، كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا، إلا من آمن استثناء من «كم» في تقربكم، والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة، جزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله:
فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم جزاء الضعف، ثم جزاء الضعف. ومعنى جزاء الضعف:
أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشرا. وقرئ: جزاء الضعف، على: فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على: أن يجازوا الضعف، وجزاء الضعف مرفوعان: الضعف بدل من جزاء. قرئ في الغرفات بضم الراء وفتحها وسكونها. وفي الغرفة.

[سورة سبإ (34) : آية 39]
قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)
فهو يخلفه فهو يعوضه لا معوض سواه: إما عاجلا بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز

(3/586)


ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41)

لا ينفد. وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونه. وعن مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولن: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، فإن هذا في الآخرة. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه خير الرازقين وأعلاهم رب العزة، بأن كل ما رزق غيره: من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله: فهو من رزق الله، أجراه على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدنى «1» وجعلني ممن يشتهى، فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهى.

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41]
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41)
هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر:
إياك أعنى واسمعي يا جاره «2»
ونحوه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقد علم سبحانه كون
__________
(1) . قوله «الحمد لله الذي أوجدنى» في الصحاح: وجد مطلوبه وأوجده الله مطلوبه، أى أظفره به وأوجده أى: أغناه. (ع)
(2) .
يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره ... إياك اعنى فاسمعي يا جاره
لسهل بن مالك الفزاري، يخاطب أخت حارثة بن لأم، وكان قد سألها على أخيها فلم يجده فأنزلته وأكرمته، فرآها في غاية الجمال والكمال، فأنشد ذلك، فأجابته بقولها:
إنى أقول يا فتى فزاره ... لا أبتغى الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هدى الحاره ... فارحل إلى أهلك باستحاره
فارتحل، ثم نزل عند أخيها مرة أخرى، وكان حسن الطلعة، فأرسلت إليه خفية أن يخطبها، ففعل، وتزوجها وارتحل بها. والبدو: هو البادية. والحضارة: هي الحاضرة. والمراد أهلهما، وكيف: اسم استفهام نصب على المفعولية بترين. والمعنى: أى حال ترين في فتى هذه القيلة؟ يعنى نفسه. وفيه تعريض ب خطبتها. والمعطارة:
كثيرة التعطر، ولحاق تاء التأنيث لمفعال شاذ- إن كانت للفرق بين المذكر والمؤنث كما هنا- ويمكن أنها لزيادة المبالغة، لا للتأنيث. والدعارة: الفسق والخبث والفساد. وهذى: اسم إشارة. وقولها: باستحارة، أى بكمال وعدم نقص. أو بتحير وعدم اهتداء. يقال: استحار الإناء، إذا امتلأ وتكامل. واستحار الرجل: إذا تحر في رأيه.

(3/587)


فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43)

الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد. وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم:
وهو أنه ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتص عليه. والموالاة:
خلاف المعاداة. ومنها: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وهي مفاعلة من الولي وهو القرب، كما أن المعاداة من العدواء وهي البعد، والولي: يقع على الموالي والموالي جميعا. والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار: براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم، لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك بل كانوا يعبدون الجن يريدون الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. وقيل:
صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت. فيعبدون بعبادتها. وقرئ: نحشرهم. ونقول، بالنون والياء.

[سورة سبإ (34) : آية 42]
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42)
الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد، لأن الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلى بينهم، يتضارون ويتنافعون. والمراد: أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو وحده، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله ونقول للذين ظلموا معطوفا على لا يملك.

[سورة سبإ (34) : آية 43]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43)
الإشارة الأولى: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية إلى القرآن. والثالثة: إلى الحق، والحق أمر النبوة كله ودين الإسلام كما هو. وفي قوله وقال الذين كفروا وفي أن لم يقل وقالوا، وفي قوله للحق لما جاءهم وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي لما من المبادهة بالكفر: دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه إن هذا إلا سحر مبين فبتوا القضاء على أنه سحر، ثم بتوه على

(3/588)


وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46)

أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحرا.

[سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45]
وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45)
وما آتيناهم كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، كما قال عز وجل أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو وصفهم بأنهم قوم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثة رسول كما قال أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون فليس لتكذيبهم وجه متشبث، ولا شبهة متعلق، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله وكذب الذين تقدموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكارى بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، فما بال هؤلاء؟ وقرئ: يدرسونها، من التدريس وهو تكرير الدرس. أو من درس الكتاب، ودرس الكتب: ويدرسونها، بتشديد الدال: يفتعلون من الدرس. والمعشار كالمرباع، وهما: العشر، والربع. فإن قلت: ما معنى فكذبوا رسلي وهو مستغنى عنه بقوله وكذب الذين من قبلهم؟ قلت: لما كان معنى قوله وكذب الذين من قبلهم: وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه: جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن ينعطف على قوله: وما بلغوا، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه فكيف كان نكير «1» أى للمكذبين الأولين، فليحذروا من مثله.

[سورة سبإ (34) : آية 46]
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46)
بواحدة بخصلة واحدة، وقد فسرها بقوله أن تقوموا على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة
__________
(1) . قوله «فكيف كان نكير» وفي النسفي: أن يعقوب قرأ «نكيري» بالياء في الوصل والوقف. (ع)

(3/589)


قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47)

والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم: وهي: أن تقوموا لوجه الله خالصا. متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أما الاثنان: فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسننه، وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجارى أحوالهم، والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى: أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول، ومع ذلك يقل الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب. ولا يسمع إلا نصرة المذهب، وأراهم بقوله ما بصاحبكم من جنة أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعا، لا يتصدى لا دعاء مثله إلا رجلان: إما مجنون لا يبالى باقتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، بل لا يدرى ما الافتضاح وما رقبة العواقب. وإما عاقل راجح العقل مرشح للنبوة، مختار من أهل الدنيا، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه، وإلا فما يجدى على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه، وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنة، بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به، فكان مظنة لأن تظنوا به الخير، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب، وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين. فإن قلت:
ما بصاحبكم ثم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون كلاما مستأنفا تنبيها من الله عز وجل على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة، وقد جوز بعضهم أن تكون ما استفهامية بين يدي عذاب شديد كقوله عليه الصلاة والسلام «1» : «بعثت في نسم الساعة «2» » .

[سورة سبإ (34) : آية 47]
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47)
فهو لكم جزاء الشرط الذي هو قوله ما سألتكم من أجر تقديره: أى شيء سألتكم
__________
(1) . تقدم في الأنبياء. [.....]
(2) . قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» : أولها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسم أيضا: جمع نسمة وهي النفس. (ع)

(3/590)


قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49)

من أجر فهو لكم، كقوله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة وفيه معنيان، أحدهما: نفى مسألة الأجر رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتنى شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ولكنه يريد به البت، لتعليقه الأخذ بما لم يكن. والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وفي قوله قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمته وإياهم على كل شيء شهيد حفيظ مهيمن، يعلم أنى لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.

[سورة سبإ (34) : آية 48]
قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب (48)
القذف والرمي: تزجية «1» السهم ونحوه بدفع واعتماد، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب، أن اقذفيه في التابوت ومعنى يقذف بالحق يلقيه وينزله إلى أنبيائه. أو يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه علام الغيوب رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب صفة لربي، أو على المدح. وقرئ: الغيوب بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت. والغيوب كالصبور وهو الأمر الذي غاب وخفى جدا.

[سورة سبإ (34) : آية 49]
قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49)
والحى إما أن يبدئ فعلا أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك. ومنه قول عبيد:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد «2»
والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى: جاء الحق وزهق الباطل وعن ابن مسعود
__________
(1) . قوله «القذف والرمي تزجية السهم» في الصحاح: زجيت الشيء تزجية إذا دفعته برفق. (ع)
(2) . لعبيد بن الأبرص. وأقفر: خلا أو هلك عبيد من أهله. والإبداء والاعادة من لوازمهما الحياة، فنفيهما كناية عن نفيها بالموت. كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه، وفي آخر فيقتل أول من يلقاه، فصادفه فيه عبيد، فقيل له: امدحه بشعر لعله يعفو عنك، فقال: حال الجريض دون القريض، أى منعت الغصة الشعر، فضرب ذلك مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا. وفي مجانى الأدب: أن المنذر قال له: أنشدنى: أقفر من أهله ملحوب، فقال: أفقر من أهله عبيد. وملحوب: اسم موضع، استنشده بيتا قديما فعلم أنه يريد هلاكه، فقال: لا قدرة لي على إبداء شعر جديد، ولا على إعادة شعر قديم، ودخل في حشو البيت الزحاف الطى، ومن العلل القطع، فصار مستفعلن على وزن مستعل بسكون اللام، وذلك في قوله «أهله» .

(3/591)


قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51)

رضى الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة «1» ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد «2» . والحق: القرآن. وقيل: الإسلام. وقيل: السيف. وقيل الباطل: إبليس لعنه الله، أى: ما ينشئ خلقا ولا يعيده، المنشئ والباعث: هو الله تعالى. وعن الحسن: لا يبدئ لأهله خيرا ولا يعيده، أى: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: أى شيء ينشئ إبليس ويعيده، فجعله للاستفهام. وقيل للشيطان: الباطل، لأنه صاحب الباطل، أو لأنه هالك كما قيل له: الشيطان، من شاط إذا هلك.

[سورة سبإ (34) : آية 50]
قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50)
قرئ، ضللت أضل، بفتح العين مع كسرها. وضللت أضل، بكسرها مع فتحها، وهما لغتان، نحو: ظللت أظل، وظللت أظل. وقرئ اضل: بكسر الهمزة مع فتح العين. فإن قلت: أين التقابل بين قوله فإنما أضل على نفسي وقوله فبما يوحي إلي ربي، وإنما كان يستقيم أن يقال: فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما أهتدى لها، كقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. أو يقال: فإنما أضل بنفسي. قلت: هما متقابلان من جهة المعنى، لأن النفس كل ما عليها فهو بها، أعنى: أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها: لأن الأمارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه، لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به إنه سميع قريب يدرك قول كل ضال ومهتد، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء.

[سورة سبإ (34) : آية 51]
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51)
ولو ترى جوابه محذوف، يعنى: لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة. و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم: كلها للمضى. والمراد بها الاستقبال، لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه، ووقت الفزع: وقت البعث وقيام الساعة. وقيل: وقت الموت. وقيل: يوم بدر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت
__________
(1) . قوله «فجعل يطعنه بعود نبعة» لعله «معه» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . متفق عليه وقد تقدم في الاسراء.

(3/592)


وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)

في خسف البيداء، وذلك أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم فلا فوت فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. وقرئ: فلا فوت. والأخذ من مكان قريب: من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من صحراء بدر إلى القليب. أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم. فإن قلت: علام عطف قوله وأخذوا؟
قلت: فيه وجهان: العطف على فزعوا، أى: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم. أو على لا فوت، على معنى: إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. وقرئ: وأخذ، وهو معطوف على محل لا فوت.
ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ.

[سورة سبإ (34) : الآيات 52 الى 54]
وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)
آمنا به بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله ما بصاحبكم من جنة: والتناوش والتناول: أخوان إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب، يقال ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال: تناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا. وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا: مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة «1» كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه وقرئ التناؤش: همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبى عمرو التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت إذا أبطأت وتأخرت. ومنه البيت:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعنى «2»
__________
(1) . قوله «أن يتناول الشيء من غلوة» في الصحاح: غلوت بالسهم غلوا، إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، والغلوة: الغاية مقدار رمية، وفيه: يقال بينهما قيس رمح وقاس رمح، أى: قدر رمح. (ع)
(2) .
ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع فيما أشار قصير
فلما رأى ما غب أمرى وأمره ... وناءت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشا أن يكون أطاعنى ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
لنهشل بن حرى» واستبد: انفرد واستغنى بأمره. وقصير: علم رجل كان حسن الرأى، وهو فاعل أشار.
ومفعول «يطع» محذوف لدلالة المذكور عليه. أو لأن الفعل منزل منزلة اللازم، والأوجه رواية لم يطع مبنيا للمجهول. وقصير: نائب الفاعل، وضميره فاعل أشار، وبالعكس على الخلاف في باب التنازع. رغب الأمر:
بلغ فيه بالكسر عاقبته. وناء- بالمد-: أصله نأى، فقلب: أى بعد، وشبه الأمر بشيء له صدر وعجز على طريق المكنية وإثباتهما له تخييل، كأن أوائل الأمور مضت بأواخرها، فلما مضت الأوائل ظهرت الأواخر بعد خفائها. ويقال: نأش بالهمز إذا تأخر. ونئيشا: نصب على الظرف، أى أخيرا، أى: تمنى في آخر الأمر أن يكون أطاعنى في نصيحتي لما رأى عاقبة أمرى حسنة وعاقبة أمره سيئة، والحال أنه قد حدثت بعد الأمور السهلة أمور صعبة كانت خفية أوجبت تمنيه، فهي حال مبينة للمراد من الظرف. أو حدثت بعد الأمور السهلة التي كان يمكنه معها مطاوعتى أمور صعبة تمنعه من التخلص من ربكته، كما نصحته بذلك أولا فلم يسمع ومضى على رأيه.

(3/593)


أى أخيرا ويقذفون معطوف على قد كفروا، على حكاية الحال الماضية، يعنى: وكانوا يتكلمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر. ساحر. كذاب. وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي، لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به: الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت: الكذب والزور: وقرئ: ويقذفون بالغيب، على البناء للمفعول، أى: يأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه، وإن شئت فعلقه بقوله وقالوا آمنا به على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا، والغيب: الشيء الغائب، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله بين يدي عذاب شديد وكانوا يقولون: وما نحن بمعذبين، إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب، ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا، قايسين أمر الآخرة على أمر الدنيا: فهذا كان قذفهم بالغيب، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة، لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف ما يشتهون من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة. أو من الرد إلى الدنيا، كما حكى عنهم فارجعنا نعمل صالحا. بأشياعهم بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم مريب إما من أرابه، إذا أوقعه في الريبة والتهمة. أو من أراب الرجل، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها، وكلاهما مجاز إلا أن بينهما فريقا: وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصح أن يكون مريبا من لأعيان إلى المعنى، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول:
شعر شاعر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبى إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا «1» »
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.

(3/594)


الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (1)

سورة الملائكة
مكية، وهي خمس وأربعون آية [نزلت بعد الفرقان] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة فاطر (35) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (1)
فاطر السماوات مبتدئها ومبتدعها. وعن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما: ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض، حتى اختصم إلى أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها «1» ، أى ابتدأتها. وقرئ: الذي فطر السماوات والأرض وجعل الملائكة. وقرئ: جاعل الملائكة، بالرفع على المدح رسلا بضم السين وسكونها أولي أجنحة أصحاب أجنحة، وأولو:
اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة مثنى وثلاث ورباع صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها. ذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر، كما عدل عمر عن عامر. وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول: مررت بنسوة أربع، وبرجال ثلاثة، فلا يعرج عليها، والمعنى: أن الملائكة «2» خلقا أجنحتهم اثنان اثنان، أى: لكل واحد منهم جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة يزيد في الخلق ما يشاء أى: يزيد في خلق الأجنحة، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل الجناحان، لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه. فإن قلت: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه، فما صورة الثلاثة؟ قلت: لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة. أو لعله لغير الطيران، فقد مربى في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه رأى جبريل عليه السلام
__________
(1) . تقدم في أول الأنعام
(2) . قوله «أن الملائكة خلقا» لعله: متنوعة خلقا ... الخ. (ع)

(3/595)


ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2)

ليلة المعراج وله ستمائة جناح «1» ، وروى أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك. قال: «إنى أحب أن تفعل «2» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال: سبحان الله! ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا، فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل: له اثنا عشر جناحا:
جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب. وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع «3» وهو العصفور الصغير. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء: «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن» وقيل «الخط الحسن» وعن قتادة: الملاحة في العينين، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل «4» ، وجزالة في الرأى، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة»
في اللسان ولباقة في التكلم «6» ، وحسن تأن في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.

[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2)
استعير الفتح للإطلاق والإرسال. ألا ترى إلى قوله فلا مرسل له من بعده مكان: لا فاتح له، يعنى: أى شيء يطلق الله من رحمة أى من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها. وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها، وأى شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. فإن قلت: لم أنث الضمير أولا، ثم ذكر آخرا؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت: هما لغتان: الحمل على المعنى وعلى اللفظ، والمتكلم على الخيرة
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» ولفظ ابن حبان «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينتشر في ريشه الدر والياقوت»
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. والثعلبي من طريقه أخبرنا الليث عن عقيل عن الزهري بهذا. وزاد «والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته» الوصع بفتح الصاد المهملة بعدها مهملة أيضا
(3) . قوله «مثل الوصع وهو العصفور» في الصحاح «الوصع» : طائر أصغر من العصفور. (ع)
(4) . قوله «وحصافة» أى: إحكام. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(5) . قوله «وذلاقة» أى: حدة وطلاقة، أفاده الصحاح. (ع)
(6) . قوله «ولباقة في التكلم» أى حذق. أفاده الصحاح. (ع)

(3/596)


ياأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)

فيهما، فأنث على معنى الرحمة، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه، ولأن الأول فسر بالرحمة، فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرئ فلا مرسل لها.
فإن قلت: لا بد للثاني من تفسير، فما تفسيره؟ قلت: يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول، ولكنه ترك لدلالته عليه، وأن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته، وإنما فسر الأول دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت: إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها- وهو الذي أراده ابن عباس رضى الله عنهما إن قاله- فمقبول، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب، فمردود لأن الله تعالى يشاء التوبة أبدا «1» ، ولا يجوز عليه أن لا يشاؤها من بعده من بعد إمساكه، كقوله تعالى فمن يهديه من بعد الله، فبأي حديث بعد الله أى من بعد هدايته وبعد آياته وهو العزيز الغالب القادر على الإرسال والإمساك الحكيم الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.

[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)
ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن به وبالقلب، وحفظها من الكفران والغمط «2» وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادى عندك. يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها، والخطاب عام للجميع لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد: يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم، حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم، والناس يتخطفون من حولكم. وعنه: نعمة الله العافية. وقرئ: غير الله، بالحركات الثلاث فالجر والرفع على الوصف لفظا ومحلا، والنصب على الاستثناء. فإن قلت: ما محل يرزقكم؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق «3» وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق، بإضمار يرزقكم، وأوقعت يرزقكم تفسيرا له، أو جعلته كلاما مبتدأ بعد قوله هل من خالق غير الله.
__________
(1) . قوله «يشاء التوبة أبدا» هذا وما بعده على مذهب المعتزلة، من أنه تعالى يجب عليه الصلاح للعبد.
وعند أهل السنة: لا يجب عليه شيء، فالكلام على ظاهره، ورده مردود. (ع)
(2) . قوله «وحفظها من الكفران والغمط» أى: الاحتقار. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت: ما محل يرزقكم؟ قلت: يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق، وأن لا يكون له محل إذا جعلته تفسيرا وجعلت من خالق مرفوع المحل بفعل يدل عليه هذا، كأنه قيل: هل يرزقكم خالق غير الله، أو جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ» قال أحمد: والوجه المؤخر أوجهها

(3/597)


وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4)

فإن قلت: هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى «1» ؟ قلت نعم إن جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير. فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على اختصاصه، بالإطلاق، والرزق من السماء المطر، ومن الأرض النبات لا إله إلا هو جملة مفصولة لا محل لها، مثل: يرزقكم في الوجه الثالث، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى، لأن قولك: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق: غير مستقيم، لأن قولك: هل من خالق سوى الله إثبات لله، فلو ذهبت تقول ذلك: كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات فأنى تؤفكون فمن أى وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟

[سورة فاطر (35) : آية 4]
وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4)
نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله، ولتكذيبهم بها، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد: من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذب والمكذب بما يستحقانه. وقرئ: ترجع، بضم التاء وفتحها. فإن قلت: ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له. قلت: معناه: وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع فقد كذبت رسل من قبلك موضع: فتأس، استغناء بالسبب عن المسبب: أعنى بالتكذيب عن التأسى. فإن قلت: ما معنى التنكير في رسل؟ قلت:
معناه فقد كذبت رسل، أى رسل ذو وعدد كثير. وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم، وما أشبه ذلك. وهذا أسلى له، وأحث على المصابرة.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت: هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت: نعم إن جعلت يرزقكم كلاما مبتدأ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماوات والأرض، وخرج من الإطلاق، فكيف يستشهد به على نفيه مطلقا.
قال أحمد: القدرية إذا قرعت هذه الآية أسماعهم قالوا بجرأه على الله تعالى: نعم ثم خالق غير الله، لأن كل أحد عندهم يخلق فعل نفسه، فلهذا رأيت الزمخشري وسع الدائرة، وجلب الوجوه الشاردة النافرة، وجعل الوجهين يطابقان معتقده في إثبات خالق غير الله، ووجهها هو الحق والظاهر، وأخره في الذكر تأسيا له، والذي يحقق الوجه الثالث وأنه هو المراد: أن الآية خوطب بها قوم على أنهم مشركون، إذا سئلوا عن رازقهم من السماوات والأرض، قالوا: الله، فقرروا بذلك وقرعوا به، إقامة للحجة عليهم بإقرارهم، ولو كان على غير هذا الوجه قيد، لكان مفهومه إثبات خالق غير الله، لكنه لا يرزق وهؤلاء الكفرة قد تبرؤا عن ذلك، فلا وجه لتقريعهم بما يلائم قولهم هذا ترجيح الوجه الثالث من حيث مقصود سياق الآية. وأما من حيث النظم اللفظي، فلأن الجملتين اللتين هما قوله يرزقكم وقوله لا إله إلا هو سقتا سياقا واحدا. والثانية مفصولة اتفاقا مما تقدم، فكذلك وزينتها.

(3/598)


ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (7) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8)

[سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 7]
يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (7)
وعد الله الجراء بالثواب والعقاب فلا تغرنكم فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله ولا يغرنكم بالله الغرور لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة «1» . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه. وقرئ بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غار كقاعد وقعود أخبرنا الله عز وجل أن الشيطان لنا عدو مبين، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا، فوعظنا عز وجل بأنه كما علمتم عدوكم الذي لا عدو أعرق في العداوة منه، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله فاتخذوه عدوا في عقائدكم وأفعالكم، ولا يوجدن منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته: هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك، وأن يكونوا من أصحاب السعير. ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء «2» ، ليقطع الأطماع الفارغة والأمانى الكاذبة، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما.

[سورة فاطر (35) : آية 8]
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8)
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا، قال لنبيه أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا يعنى: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين، كمن لم يزين له، فكأن رسول الله صلى
__________
(1) . قال محمود: «معناه: ولا يقولن لكم الشيطان: اعملوا ما شئتم فان الله غفور، يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة» قال أحمد: هو يعرض بأهل السنة في اعتقادهم جواز مغفرة الكبائر للموحد، وإن لم يكن توبة.
وهذا لا يناقض صدق وعده تعالى، لأن الله تعالى حيث توعد على الكبائر قرن الوعد بالمشيئة في مثل قوله لهم إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهم إذا مصدقون بوعد الله تعالى، موقنون به على حسب ما ورد.
(2) . قوله «وقشر اللحاء» في الصحاح: اللحاء- ممدود-: قشر الشجر. (ع)

(3/599)


الله عليه وسلم قال «لا» فقال فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ومعنى تزيين العمل والإضلال: واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدى عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهى، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه، ويقعد تحت قول أبى نواس:
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح «1»
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقى بالا إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم: اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم. وذكر الزجاج أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه: أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لدلالة فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء عليه. حسرات: مفعول له يعنى: فلا تهلك نفسك للحسرات.
وعليهم صلة تذهب، كما تقول: هلك عليه حبا، ومات عليه حزنا. أو هو بيان للمتحسر عليه.
ولا يجوز أن يتعلق بحسرات، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا، كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... حتي ذهبن كلاكلا وصدورا «2»
يريد: رجعن كلا كلا وصدورا، أى: لم يبق إلا كلا كلها وصدورها. ومنه قوله:
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام «3»
وقرئ: فلا تذهب نفسك إن الله عليم بما يصنعون وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
__________
(1) .
نحن نخفيها فتأتى ... طيب ريح فتفوح
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح
لأبى نواس. ونخفيها، أى: الخمر، فتفوح: أى رائحتها، ثم قال لساقى الخمر: اسقني حتى أسكر، فيحسن عندي القبيح، وحسنا: المفعول الثاني، والقبيح مرفوع به، واستحسانه: كناية عن اشتداد السكر.
(2) . لجرير يصف نوقا بالهزال. يقال: فرس ممشوق، أى: طويل مهزول. وجارية ممشوقة: رقيقة القوام.
والهاجرة: شدة الحر. والسرى- بالضم-: سير الليل. والكلكل والكلكال: الصدر، وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير، أى: صرن من شدة الحر والسير كأنهم عظام فقط لا لحم عليهن.
(3) . لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها، فكأنها هي. أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان وهو أوجه. وذكرهم: أى تذكرهم سقام لي، وهو بالفتح مصدر كالسقم.

(3/600)


والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9)

[سورة فاطر (35) : آية 9]
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9)
وقرئ: أرسل الريح. فإن قلت: لم جاء فتثير على المضارعة دون ما قبله، وما بعده؟ قلت:
ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية، بحال تستغرب، أوتهم المخاطب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:
بأنى قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران «1»
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها: لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا، وأحيينا، معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. والكاف في كذلك في محل الرفع، أى: مثل إحياء الموات نشور الأموات وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟
فقال «هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهز «2» خضرا» قال: نعم. قال: «فكذلك يحيى
__________
(1) .
فمن ينكر وجود الغول إنى ... أخبر عن يقين بل عيان
بأنى لقد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
لتأبط شرا. والغول: أثى الشياطين. والعيان: المشاهدة بالعين. والهوى: الهبوط. والمراد: سرعة العدو.
والسهب- بالفتح-: الفضاء المستوى البعيد الأطراف. والصحيفة: الكتاب. والصحصحان والصعصعان- بالفتح-:
المستوى من الأرض. والجران- ككتاب-: مقدم عظم العنق من الحلق إلى اللبة، وجمعه جرنة ككتبة، وأجرنة كأفئدة. يقول: فمن ينكر وجود الغول فقد كذب، فإنى أخبر عن يقين. ويجوز أن المعنى: فيا من تنكر وجود الغول، إنى أخبر إخبارا ناشئا عن يقين، وهو ما كان بدليل قاطع بل عيان ومشاهدة بالعين، بأنى قد لقيتها تسرع في مكان متسع مستو، وكرر الوصف بذلك توكيدا، وأظهر موضع الإضمار لزيادة تمكين الغول في ذهن السامع وللتهويل، وكان الظاهر أن يقول: فضربتها، لكن عدل إلى المضارع ليحكى الحال الماضية كأنها موجودة الآن مشاهدة فيتعجب منها، وتعلم شجاعته، أى: فجعلت أضربها بلا خوف فسقطت مطروحة على يديها وعنقها. وفعيل: يوصف به المذكر والمؤنث كما هنا.
(2) . قوله «ثم مررت به يهز خضرا» في الخازن: «يهتز» . (ع)

(3/601)


من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)

الله الموتى وتلك آيته في خلقه «1» وقيل يحيى الله الخلق» بماء يرسله من تحت العرش كمنى الرجال، تنبت منه أجساد الخلق.

[سورة فاطر (35) : آية 10]
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)
كان الكافرون يتعززون بالأصنام، كما قال عز وجل واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم: كانوا يتعززون بالمشركين، كما قال تعالى الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا فبين أن لا عزة إلا لله ولأوليائه. وقال ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين والمعنى فليطلبها عند الله، فوضع قوله فلله العزة جميعا موضعه، استغناء به عنه لدلالته عليه، لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد:
فليطلبها عندهم، إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه. ومعنى فلله العزة جميعا أن العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة. ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والكلم الطيب: لا إله إلا الله. عن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى أن هذه الكلم لا تقبل. ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عز وجل إن كتاب الأبرار لفي عليين إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها. وقيل: الرافع الكلم، والمرفوع العمل، لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد. وقيل: الرافع هو الله تعالى، والمرفوع العمل. وقيل: الكلم الطيب: كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل «2» منه» وفي الحديث «لا يقبل
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي في البعث كلهم من طريق حماد بن سلمة عن يعلى ابن عطاء عن وكيع بن عدى عن عمه أبى رزين العقيلي أنه قال «يا رسول الله أكلنا يرى ربه يوم القيامة. وما آية ذلك في خلقه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس كلكم ينظر إلى القمر مختليا به؟ قالوا بلى. قال: فالله أعظم. قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيى الله الموتى. وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك ممحلا؟ قال: بلى. قال ثم مررت به يهتز خضرا؟ قال: قلت: بلى. قال: فكذلك يحيى الله الموتى. وذلك آية في خلقه» وأوله في سنن أبى داود وابن ماجة دون مقصود الكتاب. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من رواية على بن عاصم عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة مرفوعا، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء والطبري مرفوعا عن ابن مسعود رضى الله عنه.

(3/602)


والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير (11)

الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا ولا عملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة «1» » وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر.
وقرئ: إليه يصعد الكلم الطيب على البناء للمفعول. وإليه يصعد الكلم الطيب على تسمية الفاعل، من أصعد. والمصعد: هو الرجل أى يصعد إلى الله عز وجل الكلم الطيب، وإليه يصعد الكلام الطيب. وقرئ: والعمل الصالح يرفعه، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عز وجل. فإن قلت: مكر: فعل غير متعد. لا يقال: مكر فلان عمله فبم نصب السيئات؟
قلت: هذه صفة للمصدر، أو لما في حكمه، كقوله تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله أصله والذين مكروا المكرات السيئات. أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأى في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إثباته، أو قتله، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ومكر أولئك هو يبور يعنى: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، أى: يكسد ويفسد، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

[سورة فاطر (35) : آية 11]
والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير (11)
أزواجا أصنافا، أو ذكرانا وإناثا، كقوله تعالى أو يزوجهم ذكرانا وإناثا وعن قتادة رضى الله عنه: زوج بعضهم بعضا بعلمه في موضع الحال، أى: إلا معلومة له.
فإن قلت: ما معنى قوله. وما يعمر من معمر؟ قلت: معناه وما يعمر من أحد. وإنما سماه معمرا بما هو صائر إليه. فإن قلت: الإنسان إما معمر، أى طويل العمر: أو منقوص العمر، أى قصيره. فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال، فكيف صح قوله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره
__________
(1) . أخرجه الخطيب في الجامع من روآية بقية بن إسماعيل بن عبد الله عن أبان عن أنس بهذا مرفوعا. وأبان متروك. وله طريق أخرى عن أبى هريرة مرفوعا أخرجه ابن عدى وابن حبان، كلاهما في الضعفاء عن خالد بن عبد الدائم عن نافع بن يزيد عن زهرة بن معبد عن سعيد بن المسيب عنه، بلفظ «قرآن في صلاة خير من قرآن في غير صلاة- الحديث. وفيه: ولا قول إلا بعمل إلى آخره. ورواه ابن حبان أيضا من روآية الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن مسعود. وفيه أحمد بن الحسن المصري. وهو كذاب.

(3/603)


وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)

؟ قلت: هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض. يقولون: لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق.
وما تنعمت بلدا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى «1» . وفيه تأويل آخر: هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته: أن يكتب في اللوح: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار «2» » وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضى الله عنه: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله، «3» فقيل لكعب: أليس قد قال الله إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال:
فقد قال الله وما يعمر من معمر وقد استفاض على الألسنة: أطال الله بقاءك، وفسخ في مدتك وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتى على آخره. وعن قتادة رضى الله عنه: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب:
اللوح. عن ابن عباس رضى الله عنهما: ويجوز أن يراد بكتاب الله: علم الله، أو صحيفة الإنسان.
وقرئ: ولا ينقص، على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف.

[سورة فاطر (35) : آية 12]
وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)
ضرب البحرين: العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه ومن كل أى: ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا وهو السمك وتستخرجون حلية وهي اللؤلؤ والمرجان وترى الفلك فيه
__________
(1) . قوله «ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي» أى: كرهت المقام به، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أحمد من طريق القاسم عن عائشة، لكن قال «وحسن الخلق» بدل «الصدقة» ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه كذلك، وزاد وحسن الجوار» وله طريق أخرى عند الأصبهانى عن أبى سعيد بلفظ «صلة الرحم وحسن الخلق وبر الوالدين» وزاد «وإن كان القوم فجارا»
(3) . أخرجه إسحاق في آخر مسند ابن عباس رضى الله عنهما، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد.

(3/604)


يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14)

في كل مواخر شواق للماء بجريها، يقال: مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب: بنات مخر، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره من فضله من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية، ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل، لدلالة المعنى عليه. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنما قيل: لتبتغوا، ولتشكروا. والفرات: الذي يكسر العطش. والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته. وقرئ: سيغ، بوزن سيد: وسيغ بالتخفيف. وملح: على فعل.
والأجاج: الذي يحرق بملوحته. ويحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر، بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ: وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ثم قال وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله.

[سورة فاطر (35) : آية 13]
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13)
ذلكم مبتدأ. والله ربكم له الملك أخبار مترادفة. أو الله ربكم خبران. وله الملك: جملة مبتدأة واقعة في قران قوله والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة. أو عطف بيان. وربكم خبرا.
لولا أن المعنى يأباه. والقطمير: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها.

[سورة فاطر (35) : آية 14]
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14)
إن تدعوا الأوثان لا يسمعوا دعاءكم لأنهم جماد ولو سمعوا على سبيل الفرض والتمثيل ل ما استجابوا لكم لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية، ويتبرءون منها.
وقيل: ما نفعوكم يكفرون بشرككم «1» ولا ينبئك مثل خبير ولا يخبرك بالأمر مخبر هو
__________
(1) . قوله «يكفرون بشرككم» كأن تفسيره قد سقط، وفي النسفي: يكفرون بشرككم: باشراككم لهم وعبادتكم إياهم، ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، ولا ينبئك ... الخ. (ع)

(3/605)


ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله بعزيز (17) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18)

مثل خبير عالم به. ويريد: أن الخبير بالأمر وحده، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأنى خبير بما أخبرت به.
وقرئ: يدعون، بالياء والتاء.

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 17]
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (15) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله بعزيز (17)
فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم، لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله وخلق الإنسان ضعيفا وقال سبحانه وتعالى الله الذي خلقكم من ضعف ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل الفقراء بالغنى، فما فائدة الحميد؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم- وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغنى جوادا منعما، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد- ذكر الحميد ليدل به على أنه الغنى النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه، الحميد على ألسنة مؤمنيهم بعزيز بممتنع، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أندادا، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئا.

[سورة فاطر (35) : آية 18]
ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18)
الوزر والوقر: أخوان، ووزر الشيء إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته: لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا: الولي بالولى، والجار بالجار. فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟
ولم قيل وازرة؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها، لا وزر غيرها. فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في

(3/606)


وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23)

قولهم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم بقوله تعالى وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء.
فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى وبين معنى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها، والثاني في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفسا قد أثقلها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: إلام أسند كان في ولو كان ذا قربى؟
قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله وإن تدع مثقلة. فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت:
ليعم، ويشمل كل مدعو. فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل. فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ ولو كان ذا قربى على كان التامة، كقوله تعالى وإن كان ذو عسرة؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة، لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه شيء، وإن كان مدعوها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه «1» ، على أن هاهنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته بالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أى: يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائبا عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا، يعنى: إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرديهم وأهل عنادهم ومن تزكى ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي. وقرئ: ومن ازكى فإنما يزكى، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة، لأنهما من جملة التزكى وإلى الله المصير وعد للمتزكين بالثواب. فإن قلت: كيف اتصل قوله إنما تنذر بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله إن يشأ يذهبكم أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال إنما تنذر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل إنما تنذر أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم.

[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 23]
وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23)
__________
(1) . قوله «وخرج من اتساقه والتئامه» أى: انتظامه. (ع)

(3/607)


إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26)

الأعمى والبصير مثل للكافر والمؤمن، كما ضرب البحرين مثلا لهما أو للصنم والله عز وجل، والظلمات والنور والظن والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر والحرور: السموم، إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة. فإن قلت: لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي. فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعا إلى شفع، وبعضها وترا إلى وتر إن الله يسمع من يشاء يعنى أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدى الذي قد علم أن الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأما أنت فخفى عليك أمرهم، فلذلك تحرص وتنهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال إن أنت إلا نذير أى ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أن الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدى المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى.

[سورة فاطر (35) : آية 24]
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)
بالحق حال من أحد الضميرين، يعنى: محقا أو محقين، أو صفة للمصدر، أى: إرسالا مصحوبا بالحق. أو صلة لبشير ونذير على: بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق. والأمة الجماعة الكثيرة. قال الله تعالى: وجد عليه أمة من الناس، ويقال لأهل كل عصر: أمة، وفي حدود المتكلمين: الأمة هم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد هاهنا: أهل العصر. فإن قلت: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة، دل ذكرها على ذكرها، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما

[سورة فاطر (35) : الآيات 25 الى 26]
وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26)

(3/608)


ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28)

بالبينات بالشواهد على صحة النبوة وهي المعجزات وبالزبر وبالصحف وبالكتاب المنير نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا، وإن كان بعضها في جميعهم: وهي البينات، وبعضها في بعضهم:
وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28)
ألوانها أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد:
أو مذهب جدد على ألواحه
ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه وغرابيب معطوف على بيض أو على جدد، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب «1» . وعن عكرمة رضى الله عنه: هي الجبال الطوال السود. فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود. يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك: وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب. ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق «2» وما أشبه ذلك. قلت: وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير «3» ...
__________
(1) . قوله «ما هو على لون واحد غرابيب» لعله. غربيب. (ع)
(2) . قوله «وأبيض يقق» بفتح القاف الأولى، وحكى كسرها. أفاده الصحاح. (ع)
(3) .
فلا لعمر الذي طيفت بكعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد
والمؤمن العائذات الطير يرقبها ... ركبان مكة بين القيل والسند
ما إن أتيت بشيء أنت نكرهه ... إذا فلا رفعت سوطى إلى يدي
للنابغة، يعتذر للنعمان بن المنذر، ولا زائدة قبل القسم، لأنه في الغالب لنفى دعوى الخصم. والعمر: الحياة، وهو مبتدأ حذف خبره وجوبا، وطاف به يطيف طيفا. أتى عليه ونزل به، وطاف به يطوف طوافا وطوفانا، إذا دار حوله ومنه: طيفت، وهو مبنى للمجهول، ونائب الفاعل: الجار والمجرور، ولما كان مؤنثا لحقت التاء الفعل شذوذا، والفصيح تركها في مثله. والغيل والسند: أجمتان بجانب منى. وقيل: موضعا ماء بجانبي الحرم، وهو قريب مما قبله. أى: حياة الذي طاف الحجيج بكعبته قسمي، وما هريق، والمؤمن: بالرفع عطف على المبتدأ والعائذات منصوب بالمؤمن، والطير: عطف بيان للعائذات، ويجوز جعله بدلا منه، وكذا كل موصوف تبع صفته، وهريق: أصله أريق. والجسد: البدن، وجسد به الدم، إذا لصق به، فهو جاسد وجسد. فعلى الأول «أريق» بمعنى ذبح، وعلى الثاني على ظاهره، لكنه كناية عن الذبح، أى وما ذبح على الحجارة المنصوبة حول الكعبة من الهدى، والذي آمن الطير العائذات اللائذات بالحرم، حال كونها بنظرها الحجاج في منى ولا يؤذونها لاحرامهم. وروى: يمسحها وهو أبلغ في الأمن، وما أتيت جواب القسم، وإن زائدة. ويجوز أنها نافية مؤكدة ثم دعا على نفسه فقال: إذا كان ذلك منى فلا رفعت سوطى إلى يدي: بيان يدي، كناية عن أنه يضعف غاية الضعف، وروى «سوطا» ، بدل «سوطى» أى يضعف حتى لا يقدر على رفعه.

(3/609)


وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقى الإظهار والإضمار جميعا، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى ومن الجبال جدد بمعنى: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال: ثمرات مختلفا ألوانها ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه يعنى: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: ألوانها. وقرأ الزهري جدد، بالضم: جمع جديدة، وهي الجدة، يقال:
جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبى ذؤيب يصف حمار وحش.
جون السراة له جدائد اربع «1»
وروى عنه: جدد، بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ، والدواب مخففا ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ «ولا الضألين» لأن كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين، فحرك ذاك أو لهما، وحذف هذا آخرهما. وقوله كذلك أى كاختلاف الثمرات والجبال. المراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث:
__________
(1) .
والدهر لا يبقى على حدثانه ... جون السراة له جدائد أربع
لأبى ذؤيب في مرثية بنيه. والجون: الأسود ويطلق على الأبيض، فهو من الأضداد. وسراة الظهر: أعلاه.
وسراة كل شيء: أعلاه. وجديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. والجدائد: الأتن التي جف لبنها.
والمرأة الجداء: التي لا ثدي لها: يسلى عن بنيه بأن لك عادة الدهر، فهو لا يبقى مع ما فيه من الحدثان أحدا، حتى أسود الظهر كناية عن حمار الوحش له أتن أربع يرعى معهن في البراري وينزو عليهن. وقيل: إنه يعيش مائتي سنة فربما يتوهم أنه لا يصيبه الدهر بشيء. ويجوز قراءة «يبقى» بالفتح. وجون بالرفع فاعل، وله جدائد: جملة حالية أى: لا بد أن تهلك أتنه واحدة بعد واحدة، أو يهلك هو.

(3/610)


إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30)

«أعلمكم بالله أشدكم له خشية» «1» وعن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل:
نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت:
هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لا بد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى: إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله تعالى ولا يخشون أحدا إلا الله وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال ألم تر بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك: ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم «2» به» . فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ إنما يخشى الله من عباده العلماء وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى:
إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس من بين جميع عباده إن الله عزيز غفور تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب: حقه أن يخشى.

[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30]
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30)
يتلون كتاب الله يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف رحمه الله:
هي آية القراء. وعن الكلبي رحمه الله: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به.
وعن السدى رحمه الله: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون يرجون خبر إن، والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. وليوفيهم متعلق بلن تبور، أى: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق «3» عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيح: «أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» .
(2) . أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد بن أسلم. ومالك في الموطأ والشافعي عنه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلا في أثناء حديث أوله «أن رجلا قبل امرأته وهو صائم»
(3) . قوله «وتنفق عند الله» أى تروج. أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(3/611)


والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)

وهي ما استحقوه من الثواب ويزيدهم من التفضل على المستحق، وإن شئت جعلت يرجون في موضع الحال على: وأنفقوا راجين ليوفيهم، أى فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض، وخبر إن قوله إنه غفور شكور على معنى: غفور لهم شكور لأعمالهم. والشكر مجاز عن الإثابة.

[سورة فاطر (35) : آية 31]
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31)
الكتاب القرآن. ومن للتبيين أو الجنس. ومن للتبعيض مصدقا حال مؤكدة، لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق لما بين يديه لما تقدمه من الكتب لخبير بصير يعنى أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.

[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)
فإن قلت: ما معنى قوله ثم أورثنا الكتاب؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أى حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه وهو يريد نورثه، لما عليه أخبار الله الذين اصطفينا من عبادنا وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله، ومقتصد: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمة رسولا وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاءوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير، ثم قال: إن الذين يتلون

(3/612)


كتاب الله، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ثم قال ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا أى من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية، فإن قلت: فكيف جعلت جنات عدن بدلا من الفضل الكبير «1» الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له «2» » فإن شرط ذلك صحة التوبة «3» لقوله تعالى عسى الله أن يتوب عليهم وقوله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ سباق. ومعنى بإذن الله بتيسيره وتوفيقه فإن قلت: لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل. وقرئ: جنة عدن على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين. وجنات عدن:
__________
(1) . قال محمود: «يعنى بالمصطفين أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قسمتهم الآية إلى ظالم لنفسه: هو المرجأ لأمر الله، وإلى مقتصد: وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وإلى سابق، ثم قال لزمخشرى: فان قلت:
كيف جعل الجنات بدلا من الفضل الكبير، وذلك في تتمة الآية في قوله ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها قلت: لأن الاشارة بالفضل إلى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح، ولا يغترا بما رواه عمر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» فان شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» قال أحمد: وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله، ثم قسمتهم إلى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحدين في المصطفين، وإنه لمنهم، وأى نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع، فما بال المصنف يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ، وقوله جنات عدن يدخلونها الضمير فيه راجع إلى المصطفين عموما، والجنات جزاؤهم على توحيدهم جميعا، وإعرابها: جنات مبتدأ، ويدخلونها الخبر، وقوله يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ... إلى آخر الآية: خبر بعد خبر، وخبر على خبر، والله المستعان.
(2) . أخرجه البيهقي في الشعب من رواية ميمون بن سياه عن عمر رضى الله عنه مرفوعا. وهذا منقطع وأخرجه الثعلبي وابن مردويه من وجه آخر عن ميمون بن سياه عن أبى عثمان الهدى عن عمر. فيه الفضل بن عميرة: وهو ضعيف. ورواه سعيد بن منصور عن فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازى عمن سمع عمر فذكره موقوفا
(3) . قوله «فإن شرط ذلك صحة التوبة» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل. (ع)

(3/613)


الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35) والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37)

بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أى يدخلون جنات عدن يدخلونها، ويدخلونها، على البناء للمفعول. ويحلون: من حليت: المرأة، فهي حال ولؤلؤا معطوف على محل من أساور، ومن داخلة للتبعيض، أى: يحلون بعض أساور من ذهب، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض، كما سبق المسورون به غيرهم: وقيل: إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ. وقرئ:
ولو لؤلؤا بتخفيف الهمزة الاولى، وقرى: الحزن، والمراد: حزن المتقين، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة، كقوله تعالى إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: حزن الاعراض والآفات. وعنه: حزن الموت.
وعن الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. وقيل: هم المعاش. وقيل: حزن زوال النعم، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه: أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم، وكأنى بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن «1» » وذكر الشكور: دليل على أن القوم كثير والحسنات، المقامة: بمعنى الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقاما ومقامة من فضله من عطائه وإفضاله، من قولهم: لفلان فضول على قومه وفواضل، وليس من الفضل الذي هو التفضل، لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق، والتفضل كالتبرع. وقرئ: لغوب، بالفتح:
وهو اسم ما يلغب منه، أى: لا نتكلف عملا يلغبنا: أو مصدر كالقبول والولوغ، أو صفة للمصدر، كأنه «2» لغوب لغوب، كقولك: موت مائت، فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب: نفس المشقة والكلفة. واللغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة.

[سورة فاطر (35) : الآيات 35 الى 37]
الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35) والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37)
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والبيهقي في أول الشعب والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر. وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وله طريق أخرى عند الطبراني والنسائي في الكنى عن ابن عمر. وأخرى عند البيهقي في الشعب. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه تمام في فوائده والخطيب في ترجمة محمد بن سعيد الطائفي وعن أنس عند ابن مردويه
(2) . «كأنه» لعله: كأنه قال. (ع)

(3/614)


فيموتوا جواب النفي، ونصبه بإضمار أن: وقرئ: فيموتون، عطفا على يقضى، وإدخالا له في حكم النفي، أى: لا يقضى عليهم الموت فلا يموتون، كقوله تعالى ولا يؤذن لهم فيعتذرون. كذلك مثل ذلك الجزاء «يجزى» وقرئ: يجازى. ونجزى كل كفور بالنون «1» يصطرخون يتصارخون: يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة. قال
كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها «2»
واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته. فإن قلت: هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى فارجعنا نعمل صالحا وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل على أنه يؤذن أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به. وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم «3» كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة، كما قال الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فقالوا. أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله أولم نعمركم توبيخ من الله يعنى: فنقول لهم. وقرئ: ما يذكر فيه، من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة «4» . وعن
__________
(1) . قوله «وتجزى كل كفور بالنون» ونصب كل في هذه القراءة ورفعه فيما قبلها. (ع)
(2) .
قصدت إلى عنس لأحدج رحلها ... وقد حان من تلك الديار رحيلها
فأنت كما أن الأسير وصرخت ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
للأعشى. وعنست المرأة عنسا: إذا لم تخرج من بيتها للزواج مع بلوغها من السن. والعنس: الناقة الصلبة الصعبة وحدج من باب ضرب: إذا شد الرحل على الناقة. والحدوج: الرحال والهوادج، وهو بتأخير الجيم. واما الجدح- بتأخير المهملة-: فهو اللت والخوض والمزج، أى: عمدت إلى ناقة صلبة لأشد رحلها عليها، والحال أنه جاء حين رحليها من تلك الديار. والأنين: الصوت المنخفض للتحزن، أى: أنت كأنين الأسير في الأول، وصرخت برفع صوتها ثانيا كصرخة حبلى عند الطلق أسلمتها وتركتها قبيلها التي تخدمها عند الولادة. والقبيل والقبول والقابلة:
التي تقوم بمصلحة المرأة عند الولادة وتتلقى الولد عند خروجه.
(3) . قوله «ولأنهم كانوا يحسبون» لعله: أو لأنهم كانوا. (ع)
(4) . أخرجه البزار من رواية سعيد المقبري عن أبى هريرة مرفوعا بهذا. وأصله في البخاري، بلفظ «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» ووهم الحاكم فاستدركه. ورواه ابن مردويه به من حديث سهل بن سعد

(3/615)


إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا (39)

مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشر وسبع عشر. والنذير الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشيب. وقرئ: وجاءتكم النذر. فإن قلت: علام عطف وجاءكم النذير؟
قلت: على معنى: أو لم نعمركم، لأن لفظه لفظ استخبار. ومعناه معنى إخبار، كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير.

[سورة فاطر (35) : آية 38]
إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38)
إنه عليم بذات الصدور
كالتعليل، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون، فقد علم كل غيب في العالم وذات الصدور: مضمراتها، وهي تأنيث ذو في نحو قول أبى بكر رضى الله عنه: ذو بطن خارجة جارية «1» وقوله:
لتغنى عنى ذا إنائك أجمعا «2»
المعنى ما في بطنها من الحبل، وما في إنائك من الشراب، لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء. ألا ترى إلى قولهم: معها حبل، وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها.
وذو: موضوع لمعنى الصحبة.

[سورة فاطر (35) : آية 39]
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا (39)
__________
(1) . أخرجه في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة «أن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا- الحديث» وفيه «إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية، فولدت جارية» وقد تقدم طرف منه في الاسراء
(2) .
وناولته من رسل كوماء جلدة ... وأغضبت عنه الطرف حتى تضلعا
إذا قال قدنى قلت بالله حلفة ... لتغنى عنى ذا إنائك أجمعا
لحريث بن عتاب الطائي. والرسل- بالكسر-: اللبن القليل. والكوماء: السمينة. والجلدة: الصلبة. والاغضاء الغض والإغماض. والتضلع: امتلاء البطن حتى يرتفع الجنبان والضلوع. وغض طرفه عن الضيف كى لا يستحى إذا قال الضيف: قدنى، أى حسبي من الشرب قلت: بالله. وروى: قال بالله، فكأنه عبر عن نفسه بطريق الغيبة.
ويروى: إذا قلت قدنى قال، على أن الشاعر الضيف وليس بذاك. وحلفة: نصب بمعنى القسم قبله، أى: أحلف بالله حلفة، ولتغنى: جواب القسم وفتح آخره لاتصاله تقديرا بنون التوكيد الخفيفة، أى: لتمنعنى عنى. وروى ثعلب لتغنن بنون التوكيد الثقيلة، أى: لتبعدن عنى، وكان حقه على اللغة المشهورة لتغنين، لكن حذفت ياؤه بعد الكسرة على لغة فزارة. وروى لتغنى بكسر اللام للتعليل، أى: اشرب لتغنى عنى صاحب إنائك وهو اللبن، وأضافه للاناء لأنه فيه، وأضاف الإناء لضمير الضيف لأنه في يده، وتبرأ من نسبته إلى نفسه دلالة على الكرم، وأجمع: توكيد للبن، أى لا ترد إلى ما في الإناء، بل أشربه كله.

(3/616)


قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)

يقال للمستخلف: خليفة وخليف، فالخليفة تجمع خلائف، والخليف: خلفاء، والمعنى:
أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فمن كفر منكم وغمط مثل هذه النعمة «1» السنية، فوبال كفره راجع عليه، وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزى وصغار وخسار الآخرة الذي ما بقي بعده خسار، والمقت: أشد البغض. ومنه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتى، لكونه ممقوتا في كل قلب، وهو خطاب للناس. وقيل: خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلكم أمة خلفت من قبلها، ورأت وشاهدت فيمن سلف ما ينبغي أن تعتبر به، فمن كفر منكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة، كما أن ذلك حكم من قبلكم.

[سورة فاطر (35) : آية 40]
قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40)
أروني بدل من أرأيتم: لأن المعنى: أرأيتم أخبرونى، كأنه قال: أخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة أرونى أى جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات، أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. أو يكون الضمير في آتيناهم للمشركين، كقوله تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا أم آتيناهم كتابا من قبله، بل إن يعد بعضهم وهم الرؤساء بعضا وهم الأتباع إلا غرورا وهو قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقرئ: بينات.

[سورة فاطر (35) : آية 41]
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)
أن تزولا كراهة أن تزولا. أو يمنعهما من أن تزولا: لأن الإمساك منع إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة، حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا، لعظم كلمة الشرك كما قال تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض. وقرئ: ولو زالنا، وإن أمسكهما:
جواب القسم في ولئن زالتا سد مسد الجوابين، ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي، والثانية للابتداء. من بعده: من بعد إمساكه. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال لرجل مقبل من
__________
(1) . قوله «وغمط مثل هذه النعمة» أى: واحتقر. (ع)

(3/617)


وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44)

الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: إن السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب. أما ترك يهوديته بعد «1» ثم قرأ هذه الآية.

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 44]
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44)
بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه. وفي إحدى الأمم وجهان، أحدهما: من بعض الأمم، ومن واحدة من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم.
والثاني: من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة ما زادهم إسناد مجازى، لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم. نفورا عن الحق وابتعادا عنه كقوله تعالى فزادتهم رجسا إلى رجسهم. استكبارا بدل من نفورا. أو مفعول له، على معنى: فما زادهم الا أن نفروا استكبارا وعلوا في الأرض أو حال بمعنى: مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ويجوز أن يكون ومكر السيئ معطوفا على نفورا فإن قلت: فما وجه قوله ومكر السيئ؟ قلت: أصله: وأن مكروا السيئ، أى المكر السيئ، ثم ومكرا السيئ، ثم ومكر السيئ. والدليل عليه قوله تعالى ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ومعنى يحيق: يحيط وينزل. وقرئ: ولا يحيق المكر السيئ، أى: لا يحيق الله، ولقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا، «2» فإن الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا، يقول الله تعالى: إنما بغيكم على
__________
(1) . لم أجده. وروى الطبري من رواية أبى وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام فذكره مثله، إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته»
(2) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. وقد تقدم في أول يونس [.....]

(3/618)


ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (45)

أنفسكم» . وعن كعب أنه قال لابن عباس رضى الله عنهما: قرأت في التوراة: من حفر مغواة «1» وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية. وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقرأ حمزة: ومكر السيئ، بإسكان الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة، ثم ابتدأ ولا يحيق وقرأ ابن مسعود: ومكرا سيئا سنت الأولين إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم، وبين أن عادته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها، أى: لا يغيرها، وأن ذلك مفعول له لا محالة، واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن: من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم ليعجزه ليسبقه ويفوته.

[سورة فاطر (35) : آية 45]
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (45)
بما كسبوا بما اقترفوا من معاصيهم على ظهرها على ظهر الأرض من دابة من نسمة تدب عليها، يريد بنى آدم. وقيل: ما ترك بنى آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم.
وعن ابن مسعود: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم، «2» ثم تلا هذه الآية. وعن أنس:
إن الضب ليموت هزالا في جحره بذنب ابن آدم «3» . وقيل: يحبس المطر فيهلك كل شيء إلى أجل مسمى إلى يوم القيامة كان بعباده بصيرا وعيد بالجزاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة:
أن أدخل من أى باب شئت» «4»
__________
(1) . قوله «من حفر مغواة وقع فيها» في الصحاح: وقع الناس في أغوية، أى: في داهية. والمغويات- بفتح الواو مشددة-: جمع المغواة، وهي حفرة كالزبية، يقال: من حفر مغواة وقع فيها، والزبية: حفرة تحفر للأسد اه أى: لصيد الأسد. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم وقد تقدم في النحل،
(3) . لم أجده عن أنس وقد تقدم في النحل عن أبى هريرة. وعزاه إليه المصنف فيه على الصواب
(4) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(3/619)


يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7)

الجزء الرابع

سورة يس
(بسم الله الرحمن الرحيم) مكية، [إلا آية 45 فمدنية] وآياتها 83 [نزلت بعد الجن]

[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4)
تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7)
بسم الله الرحمن الرحيم قرئ: يس، بالفتح «1» ، كأين وكيف. أو بالنصب على اتل يس، وبالكسر على الأصل كجير، وبالرفع على هذه يس. أو بالضم كحيث. وفخمت الألف وأميلت «2» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: معناه يا إنسان في لغة طيئ، والله أعلم بصحته، وإن صح فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله الحكيم ذى الحكمة. أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي. أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به على صراط مستقيم خبر بعد خبر، أو صلة للمرسلين. فإن قلت: أى حاجة إليه خبرا كان أو صلة، وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: ليس الغرض
__________
(1) . قوله «قرئ يس بالفتح» يفيد أن السكون قراءة الجمهور، والحركات قراءات لبعضهم، فالفتح بناء أو نصب، والكسر بناء فقط، فتدبر (ع)
(2) . قوله «وأخفت الألف وأميلت» يعنى: قرأ الجمهور بالتفخيم. وقرأ بعضهم بالامالة، كما في النسفي. (ع)

(4/3)


بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال:
إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه «1» ، وقرئ تنزيل العزيز الرحيم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على أعنى، وبالجر على البدل من القرآن قوما ما أنذر آباؤهم قوما غير منذر آباؤهم على الوصف «2» ونحوه قوله تعالى لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير. وقد فسر ما أنذر آباؤهم على إثبات الإنذار.
ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية، لتنذر قوما إنذار آبائهم أو موصولة ومنصوبة على المفعول الثاني لتنذر «3» قوما ما أنذره آباؤهم من العذاب، كقوله تعالى نا أنذرناكم عذابا قريبا
فإن قلت: أى فرق بين تعلقي قوله فهم غافلون على التفسيرين؟ قلت: هو على الأول متعلق بالنفي، أى: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إنك لمن المرسلين لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل. أو فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت: لا مناقضة:
لأن الآي في نفى إنذارهم لا في نفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم «4» فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أن آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما سر قوله على صراط مستقيم وقد علم بكونه من المرسلين أنه كذلك؟ وأجاب بأن الغرض وصفه ووصف ما جاء به، فجاء بالوصفين في نظام واحد، فكأنه قال: إنك لمن المرسلين على طريق ثابت.
قال: وأيضا ففي تنكير الصراط أنه مخصوص من بين الصراط المستقيمة بصراط لا يكتنه وصفه. انتهى كلامه» قال أحمد: قد تقدم في مواضع أن التنكير قد يفيد تفخيما وتعظيما وهذا منه.
(2) . قال محمود: إنه على الوصف كقوله لتنذر قوما ما أتاهم من نذير قال: وقد فسر ما أنذر آباؤهم على إثبات الانذار على أن ما مصدرية أو موصولة. قال: والفرق بين موقع الفاء على التفسيرين أنها على الأول متعلقة بالنفي معنى جوابا له، والمعنى أن نفى إنذارهم هو السبب في غفلتهم، وعلى الثاني بقوله إنك لمن المرسلين لتنذر، كما تقول: أرسلناك إلى فلان لتذره، فانه غافل أو فهو غافل انتهى» قال أحمد: يعنى أنها على التفسير الثاني تفهم أن غفلتهم سبب في إنذارهم.
(3) . قوله «على المفعول الثاني لتنذر» لعل بعده سقطا تقديره: أى لتنذر. (ع)
(4) . قال محمود: فان قلت كيف يكونون منذرين على هذا التفسير غير منذرين في قوله ما أتاهم من نذير من قبلك وأجاب بأن الآية لنفى إنذارهم لا لنفى إنذار آبائهم، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل، وقد كانت النذارة فيهم.
قال: فما تصنع بأحد التفسيرين الذي مقتضاه أن آباءهم لم ينذروا وهو التفسير الأول في هذه الآية مع التفسير الثاني، ومقتضاء أنهم أنذروا، وأجاب بأن آباءهم الأباعد هم المنذرون لا آباؤهم الأدنون. قال: ثم مثل تصميمهم على للكفر وأنهم لا يرعوون ولا يرجعون بأن جعلهم كالمغلولين لمقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يطأطئون رؤسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم قال والضمير للأغلال لأن طوق الغر يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحا. انتهى كلامه» قال أحمد: إذا فرقت هذا التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه، مشبها بالاقماح، لأن المقمح لا يطأطئ رأسه.
وقوله: فهي إلى الأذقان تتمة للزوم الاقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقلة مشبها بسد من قدامهم.

(4/4)


إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9)

أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد القول قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين يعنى تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب، لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.

[سورة يس (36) : الآيات 8 الى 9]
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9)
ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمخين:
في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم: في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله فهي إلى الأذقان؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرا «1» من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله «2» ، فلا يزال مقمحا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. يقال:
قمح البعير فهو قامح: إذا روى فرفع رأسه. ومنه شهرا قماح «3» ، لأن الإبل ترفع رءوسها عن الماء لبرده فيهما، وهما الكانونان. ومنه: اقتحمت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق- وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى «4» ؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه قوله
__________
(1) . قوله «رأس العمود نادرا» أى شاذا، كما يفيده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ويوطئ قذاله» في الصحاح «القذال» : جماع مؤخر الرأس، فتدبر. (ع)
(3) . قوله «ومنه شهرا قماح» بوزن كتاب وغراب، كما نقل عن القاموس. وفي الصحاح: سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء فقامحت. (ع)
(4) . قال محمود: فان قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة: كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى. وأجاب بأن الوجه هو الأول، واستدل على هذا التفسير الثاني بقوله فهم مقمحون لأنه جعل الاقماح نتيجة قوله فهي إلى الأذقان ولو كان الضمير للأيدى لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا، وترك الحق الأبلج للباطل اللجلج. انتهى كلامه» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كالفاء الأولى في قوله فهي إلى الأذقان أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الاقماح، فان اليد والعياذ بالله تعالى تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن دافعة بها ومانعة من وطأتها، ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فان اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة، فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والاتخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدى، فان اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. [.....]

(4/5)


وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11)

فهم مقمحون ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله فهي إلى الأذقان ولو كان الضمير للايدى لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج «1» . فإن قلت: فقد قرأ ابن عباس رضى الله عنهما في أيديهم وابن مسعود في أيمانهم، فهل تجوز على هاتين القراءتين أن تجعل الضمير للأيدى أو للايمان؟ قلت: يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للاغلال، وسداد المعنى عليه كما ذكرت. وقرئ:
سدا بالفتح والضم. وقيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله فبالضم فأغشيناهم فأغشينا أبصارهم، أى: غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئى، وعن مجاهد: فأغشيناهم: فألبسنا أبصارهم غشاوة. وقرئ بالعين من العشا. وقيل: نزلت في بنى مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلى ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به، فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومى آخر: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله عينيه «2»

[سورة يس (36) : الآيات 10 الى 11]
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11)
فإن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار، ثم قفاه بقوله إنما تنذر «3» وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا. قلت: هو كما قلت، ولكن لما كان ذلك نفيا للايمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان، قفى بقوله إنما تنذر على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر: وهو القرآن أو الوعظ، الخاشون ربهم.
__________
(1) . قوله «إلى الباطل اللجلج» أى الذي يردد من غير أن ينفذ. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة في كلام طويل. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد بن سعيد، أو عكرمة، عن ابن عباس «أن أبا جهل قال: إنى أعاهد الله لأجلسن غدا لمحمد بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. فذكر نحوه إلى قوله قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر بين يديه: وأصله في البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3) . قال محمود: «إن قلت: قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الانذار، ثم قفاه بقوله إنما تنذر وإنما كانت التقفية تصح لو كان الانذار منفيا، وأجاب بأن الأمر كذلك، ولكن لما بين أن البغية المرومة بالإنذار وهي الايمان منفية عنهم: قفاه بقوله إنما تنذر أى إنما تحصل بغية الانذار ممن اتبع الذكر. انتهى كلامه» قلت: في السؤال سوء أدب، وينبغي أن يقال: وما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول، مع أن الأول إثبات، والانذار الثاني كذلك.

(4/6)


إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (12) واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15)

[سورة يس (36) : آية 12]
إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (12)
نحي الموتى نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إحياؤهم: أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس حبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ، كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدث فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله: من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها. ونحوه قوله تعالى ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر
أى: قدم من أعماله، وأخر من آثاره. وقيل: هي آثار المشاءين إلى المساجد. وعن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله «1» خالية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا وقال: يا بنى سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد، فقلنا نعم، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية، فقال:
عليكم دياركم. فإنما تكتب آثاركم. قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح.
والإمام: اللوح. وقرئ: ويكتب ما قدموا وآثارهم على البناء للمفعول. وكل شيء: بالرقع

[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 15]
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15)
واضرب لهم مثلا ومثل لهم مثلا، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أى: من هذا المثال، وهذه الأشياء على ضرب واحد، أى على مثال واحد. والمعنى. واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أى: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية. والمثل الثاني بيان للأول.
وانتصاب إذ بأنه بدل من أصحاب القرية. والقرية أنطاكية. والمرسلون رسل عيسى عليه
__________
(1) . أخرجه ابن حبان في الأول من الأول عن طريق أبى نضرة عنه. وأصله في مسلم.

(4/7)


السلام إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان. أرسل إليهم اثنين، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب يس، فسألهما فأخبراه، فقال:
أمعكما آية؟ فقالا: نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه، فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر، فشفى على أيديهما خلق كثير، ورقى حديثهما إلى الملك وقال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس وضربوهما. وقيل: حبسا، ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون، فدخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به، فقال له ذات يوم:
بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك، فدعاهما، فقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال:
صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين، فدعوا الله حتى انشق له بصر، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلى ويتضرع ويحسبون أنه منهم، ثم قال:
إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إنى أدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال شمعون، وهذان، فتعجب الملك. فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا فعززنا فقوينا. يقال: المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، وتعزز لحم الناقة. وقرئ بالتخفيف من عزه يعزه: إذا غلبه، أى: فغلبنا وقهرنا بثالث وهو شمعون. فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل، وإذا كان الكلام منصبا إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه، كأن ما سواه مرفوض مطرح.
ونظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق، الغرض المسوق إليه: قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. إنما رفع بشر ونصب «1» في قوله ما هذا بشرا لأن إلا تنقض النفي، فلا يبقى لما المشبهة بليس شبه، فلا يبقى له عمل. فإن قلت: لم قيل: إنا إليكم
__________
(1) . قوله «إنما رفع بشر ونصب» عبارة النسفي: إنما رفع بشر هنا ونصب ... الخ. (ع)

(4/8)


قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلاغ المبين (17) قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19)

مرسلون أولا «1» ، وإنا إليكم لمرسلون آخرا؟ قلت: لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار.

[سورة يس (36) : الآيات 16 الى 17]
قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلاغ المبين (17)
وقوله ربنا يعلم جار مجرى القسم في التوكيد، وكذلك قولهم: شهد الله، وعلم الله. وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم وما علينا إلا البلاغ المبين أى الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته، وإلا فلو قال المدعى: والله إنى لصادق فيما أدعى ولم يحضر البينة كان قبيحا.

[سورة يس (36) : الآيات 18 الى 19]
قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19)
تطيرنا بكم تشاء منابكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، «2» وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه. وعن مشركي مكة: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. وقيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم طائركم معكم وقرئ: طيركم، أى سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم. أو أسباب شؤمكم معكم، وهي كفرهم ومعاصيهم. وقرأ الحسن: أطيركم أى تطيركم. وقرئ: أئن ذكرتم؟ بهمزة الاستفهام وحرف الشرط. وآئن بألف بينهما، «3» بمعنى: أتطيرون إن ذكرتم؟ وقرئ: أأن ذكرتم بهمزة الاستفهام وأن الناصبة، يعنى: أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرئ: أن، وإن، بغير استفهام لمعنى الإخبار، أى تطيرتم لأن ذكرتم، أو إن ذكرتم تطيرتم. وقرئ: أين ذكرتم: على التخفيف، أى شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم بل أنتم قوم مسرفون في العصيان: ومن ثم أتاكم الشؤم، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: لم أسقط اللام هنا وأثبتها في الثانية عند قوله ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون قلت: الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب إنكار» قال أحمد: أى فلاق توكيده.
(2) . قوله «ونفرت منهم» لعله: منه كعبارة النسفي. (ع)
(3) . قوله «وآئن بألف بينهما» الذي في النسفي أن هذا وما قبله بياء مكسورة بدل الهمزة الثانية. (ع)

(4/9)


وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون (21) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إني إذا لفي ضلال مبين (24) إني آمنت بربكم فاسمعون (25)

[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 25]
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون (21) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إني إذا لفي ضلال مبين (24)
إني آمنت بربكم فاسمعون (25)
رجل يسعى هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا، فوثبوا عليه فقتلوه.
وقيل: توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه «1» من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم اهد قومي، وقبره في سوق أنطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سباق الأمم ثلاثة: لم يكفروا بالله طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون» «2» من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أى: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه، ولقد وضع قوله وما لي لا أعبد الذي فطرني مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم. ألا ترى إلى قوله وإليه ترجعون ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال آمنت بربكم فاسمعون يريد فاسمعوا قولي وأطيعونى، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه: أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضر وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده، ولم يقدروا على
__________
(1) . قوله «حتى خرج قصبه» في الصحاح «القصب» بالضم: المتقى. والمعى: واحد الأمعاء. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبيه بهذا، وفيه عمرو بن جمع وهو متروك. ورواه العقيلي والطبراني وابن مردويه، من طريق حسين بن حسن الأشقر عن ابن عيينة عن ابن أبى تجيح عن مجاهد عن ابن عباس، بلفظ «السباق ثلاثة. فالسابق الى عيسى صاحب يس، والى محمد صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب

(4/10)


قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27)

إنقاذكم منه بوجه من الوجوه، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذى عقل وتمييز. وقيل: لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال لهم إني آمنت بربكم فاسمعون أى اسمعوا إيمانى تشهدوا لي به. وقرئ: إن يردني الرحمن بضر، بمعنى: أن يوردني ضرا، أى يجعلني موردا للضر.

[سورة يس (36) : الآيات 26 الى 27]
قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27)
أى لما قتل قيل له ادخل الجنة وعن قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حى يرزق أراد قوله تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين وقيل: معناه البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها. فإن قلت: كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت: مخرجه مخرج الاستئناف، لأن هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه، كأن قائلا قال: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخى لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له، لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه، لا إلى المقول له مع كونه معلوما، وكذلك قال يا ليت قومي يعلمون مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم، وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع: نصح قومه حيا وميتا «1» . وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في عمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة، لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور. والأول أوجه. وقرئ: المكرمين. فإن قلت:
ما في قوله تعالى بما غفر لي ربي أى الماءات هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة، أى: بالذي غفره لي من الذنوب. ويحتمل أن تكون استفهامية، يعنى بأى شيء غفر لي ربى، يريد به
__________
(1) . ورد هذا في قصة عروة بن مسعود أخرجه ابن مردويه من حديث المغيرة بن شعبة، فذكر القصة وفي آخرها «فكان يقول وهو في النزع: يا معشر ثقيف ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا منه الأمان، قبل أن يبلغه موتى فيغزوكم. فلم يزل كذلك حتى مات، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد نصح قومه حبا وميتا، وشبهه يصاحب يس.

(4/11)


وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (29)

ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل، إلى أن قولك بما غفر لي بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا، يقال: قد علمت بما صنعت هذا، أى: بأى شيء صنعت وبم صنعت.

[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 29]
وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (29)
المعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء، كما فعل يوم بدر والخندق، فإن قلت: وما معنى قوله وما كنا منزلين؟ قلت: معناه:
وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة. ألا ترى إلى قوله تعالى فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا. فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ قال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، بألف من الملائكة مردفين، بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بخمسة آلاف من الملائكة مسومين؟
قلت: إنما كان يكفى ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاده من أسباب الكرامة والإعذار ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله:
وما أنزلنا، وما كنا منزلين إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك إن كانت إلا صيحة واحدة إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامة، أى: ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل، لأن المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن: فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وبيت ذى الرمة:
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع «1»
__________
(1) .
برى لحمها سير الفيافي وحرها ... وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
للبيد. يصف ناقته بأنها أذهب لحمها سير الأراضى القفرة، أى السير فيها وحرها الشديد، برما بقيت فيها إلا الضلوع.
وكان الأفصح حذف التاء، لأن المعنى: ما بقي فيها شيء إلا الضلوع، لكنه أنث نظرا للضلوع. والجراشع: جمع جرشع كقنفذ، وهو الغليظ المرتفع. ويروى: بدل الشطر الأول
طوى الحر والأجراز ما في عروضها
والأجراز: جمع جرز، وهي المفازة القفرة، والعروض: جمع عرض- بضم فسكون-: أى جنوبها. ويروى:
النحز، بدل الحر، وهو بنون فمهملة فزاى: النخس والدفع. ويروى «غروض» بغين معجمة: جمع غرض، كقفل: وهو حزام الرحل، أراد به الصدر لعلاقة المجاورة. أو هو على حذف مضاف، أى محل غروضها. ويجوز أنه أراد بما في غروضها الصدر ذاته لا الشحم واللحم. ومعنى الطي التضمير أو الاذهاب على طريق المجاز.

(4/12)


ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (30) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)

وقرأ ابن مسعود: الأزقية: واحدة، من زقا الطائر يزقو ويزقى، إذا صاح. ومنه المثل:
أثقل من الزواقى خامدون خمدوا كما تخمد النار، فتعود رمادا، كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو مناطع «1»

[سورة يس (36) : آية 30]
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن (30)
يا حسرة على العباد نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضرى فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، ويتلهف على حالهم المتلهفون. أوهم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه، وقراءة من قرأ: يا حسرتا، تعضد هذا الوجه لأن المعنى: يا حسرتى. وقرئ: يا حسرة العباد، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم، من حيث أنها موجهة إليهم. ويا حسرة على العباد: على إجراء الوصل مجرى الوقف.

[سورة يس (36) : الآيات 31 الى 32]
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)
ألم يروا ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في كم لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها، كانت للاستفهام أو للخبر، لأن أصلها الاستفهام، إلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك:
ألم يروا إن زيدا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه. وأنهم إليهم لا يرجعون بدل من كم أهلكنا على المعنى، لا على اللفظ، تقديره: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم
__________
(1) .
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
للبيد العامري، أى: ليس حال المرء وحياته وبهجته ثم موته وفناؤه بعد ذلك إلا مثل حال شهاب النار وضوئه حال كونه يصير رمادا بعد إضاءته. ويمكن أن قوله «يحور رمادا» استئناف مبين لوجه للشبه، وذلك تشبيه هيئة ولا يصح تشبيه المرء بالشهاب وضوئه، وشبه مال الشخص وأقاربه بالودائع تشبيها بليغا، يجامع أنه لا بد من أخذ كل، وبين ذلك بقوله: ولا بد أن ترد الودائع في يوم من الأيام.

(4/13)


وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)

غير راجعين إليهم. وعن الحسن: كسر إن على الاستئناف. وفي قراءة ابن مسعود: ألم يروا من أهلكنا، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، وهذا مما يرد قول أهل الرجعة. ويحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قيل له: إن قوما يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن إذن نكحنا: نساءه وقسمنا ميراثه «1» . قرئ: لما، بالتخفيف، على أن «ما» صلة للتأكيد، وإن: مخففة من الثقيلة، وهي متلقاة باللام لا محالة. ولما بالتشديد، بمعنى: إلا، كالتي في مسألة الكتاب. نشدتك بالله لما فعلت، وإن نافية. والتنوين في كل هو الذي يقع عوضا من المضاف إليه، كقولك: مررت بكل قائما. والمعنى أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. وقيل محضرون معذبون. فإن قلت: كيف أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد «2» ؟ قلت: ليس بواحد: لأن كلا يفيد معنى الإحاطة، وأن لا ينفلت منهم أحد، والجميع: معناه الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال حى جميع، وجاءوا جميعا.

[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)
القراءة بالميتة على الخفة أشيع، لسلسها على اللسان. وأحييناها استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ: ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض «3» وليل بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما
__________
(1) . أخرجه الحاكم في تفسير البقرة نحوه باختصار. وأخرجه من حديث الحسن في فضائل الصحابة أتم منه.
وليس فيه: بئس القوم نحن إذن [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت لم أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد وأجاب بأن كلا تفيد الاحاطة لا ينلفت عنهم أحد وجميع تفيد الاجتماع وهو فعيل بمعنى مفعول وبينهما فرق انتهي كلامه، قال أحمد: ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا لكل، لأنه أخص منه وأزيد معنى
(3) . قال محمود: «يجوز أن يكون أحييناها صفة للأرض وصح ذلك لأن المراد بالأرض الجنس ولم يقصد بها أرض معينة وأن يكون بيانا لوجه الآية فيها» قال أحمد: وغيره من النحاة يمنع وقوع الجملة صفة للمعرف وإن كان جنسيا وليس الغرض منه معينا ويراعي هذا المانع المطابقة اللفظية في الوصفية ومنه
ولقد أمر على اللئيم يسبني.

(4/14)


بالأفعال، ونحوه:
ولقد امر على اللئيم يسبني «1»
وقوله فمنه يأكلون بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووقع الضر، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء. قرئ وفجرنا بالتخفيف والتثقيل، والفجر والتفجير، كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى. وقرئ ثمره بفتحتين وضمتين وضمة وسكون، والضمير لله تعالى: والمعنى:
ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ومن ما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله، يعنى أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بنى آدم، وأصله من ثمرنا كما قال: وجعلنا، وفجرنا، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها، لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره. ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات، كما قال رؤبة:
فيها خطوط من بياض وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق «2»
فقيل له، فقال: أردت كأن ذاك: ولك أن تجعل «ما» نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدى الناس ولا يقدرون عليه. وقرئ على الوجه الأول، وما عملت من غير راجع، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير الأزواج الأجناس والأصناف ومما لا يعلمون ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به، لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم، ولو كانت بهم اليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لم يسمهم. وفي الحديث «ما لا عين رأت «3» ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتهم عليه» فأعلمنا بوجوده وإعداده ولم يعلمنا به ما هو، ونحوه فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دل على عظم قدرته واتساع ملكه.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 16 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 149 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «في الحديث ما لا عين رأت» أوله: «أعددت لعبادي الصالحين» كما مر في تفسير السجدة. (ع)

(4/15)


وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)

[سورة يس (36) : آية 37]
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37)
سلخ جلد الشاة: إذا كشطه عنها وأزاله. ومنه: سلخ الحية لخرشائها «1» ، فاستعير لازالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله مظلمون داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا، كما تقول: أعتمنا وأدجينا «2» لمستقر لها لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب، لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها، لأنها لا تعدوه أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب. وقيل: مستقرها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه وهو آخر السنة. وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة.

[سورة يس (36) : الآيات 38 الى 40]
والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)
وقرئ: تجرى إلى مستقر لها. وقرأ ابن مسعود: لا مستقر لها، أى: لا تزال تجرى لا تستقر. وقرئ: لا مستقر لها، على أن لا بمعنى ليس ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه. ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم. قرئ: والقمر رفعا على الابتداء، أو عطفا على الليل. يريد: من آياته القمر، ونصبا بفعل يفسره قدرناه، ولا بد في قدرناه منازل من تقدير مضاف، لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل. والمعنى: قدرنا مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها كل ليلة من المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة، وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوا، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم،
__________
(1) . قوله «ومنه سلخ الحية لخرشائها» في الصحاح «الخرشاء» : مثل الحرباء: جلد الحية. (ع)
(2) . قوله «أعتمنا وأدجينا» الدجى: وجع في حافر الفرس أو خف البعير. أفاده الصحاح وغيره. (ع)

(4/16)


فرغ الدلو المؤخر، الرشا. فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس، وعاد كالعرجون القديم وهو عود العذق، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. وقال الزجاج: هو «فعلون» من الانعراج وهو الانعطاف. وقرئ: العرجون، بوزن الفرجون «1» ، وهما لغتان، كالبزيون والبزيون، والقديم المحول، وإذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبه به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل مدة الموصوف بالقدم الحول، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر. أو كتب ذلك في وصيته: عتق منهم من مضى له حول أو أكثر. وقرئ: سابق النهار. على الأصل، والمعنى:
أن الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان، وضرب له حدا معلوما، ودبر أمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس: أى لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم لوقوع التدبير على المعاقبة، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله «2»
__________
(1) . قوله «وقرئ العرجون بوزن الفرجون» في الصحاح «الفرجون» : المحسة، وقد فرجنت الدابة إذا فرجنتها. ومنه قول بعضهم: ادفنوني في ثيابي ولا تحسوا عتى ترابا، أى: لا تتفضوه. وفيه «البزيون» :
السندس. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه فيطمس نوره بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى. قال: فان قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك، والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق انتهى كلامه» قال أحمد: يؤخذ من هذه الآية أن النهار تابع لليل وهو المذهب المعروف للفقهاء، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل، وإنما نفى الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعى تقدم القمر وتبعية الشمس، فانه لا يقال: أدرك السابق اللاحق، ولكن أدرك اللاحق السابق، وبحسب الإمكان توقيع النفي، فالليل إذا متبوع والنهار تابع.
فان قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار؟ وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا، فالجواب: أن هذا مشترك الإلزام، وبيانه أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء. أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة. أو اجتماعهما، فهذا القسم الثالث منفي باتفاق «فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه، وهذا السؤال وارد عليهما جميعا، لأن من قال: إن النهار سابق الليل، لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال: ولا الليل يدرك النهار، فان المتأخر إذا نفى إدراكه كان أبلغ من نفى سابقه، مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ، فان الله تعالى نفى أن تكون مدركة فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك فالجواب المحقق عنه أن المنفي السبقية الموجبة لتراخى النهار عن الليل وتخلل زمن آخر بينهما، وحينئذ يثبت التعاقب وهو مراد الآية. وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما فانه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هم أولاء على أثرى، فقد قريهم منه عذرا عن قوله تعالى وما أعجلك عن قومك فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره، فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة؟ فذاك لو اتفق لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا، فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل، فان بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية وبين السبق بونا بعيدا ومخالفا أيضا لبقية الآية، فانه لو كان الليل تابعا ومتأخرا لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك ولا يبلغ به عدم السبق، ويكون القول بتقدم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده.

(4/17)


وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)

أن تدرك القمر فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره، ولا يسبق الليل النهار يعنى آية الليل آية النهار وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر، ويطلع الشمس من مغربها. فإن قلت: لم جعلت الشمس غير مدركة، والقمر غير سابق؟ قلت: لأن الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطئ سيرها عن سير القمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره وكل التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، والمعنى: وكلهم، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره.

[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)
ذريتهم أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل: اسم الذرية يقع على النساء، لأنهن مزارعها وفي الحديث أنه نهى عن قتل الذراري يعنى النساء من مثله من مثل الفلك ما يركبون من الإبل، وهي سفائن البر. وقيل الفلك المشحون سفينة نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. ومن مثله من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق فلا صريخ لا مغيث. أولا إغاثة. يقال: أتاهم الصريخ ولا هم ينقذون لا ينجون من الموت بالغرق إلا رحمة إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى حين «1» إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق. ولقد أحسن من قال:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام «2»
وقرأ الحسن رضى الله عنه: نغرقهم،
__________
(1) . قال أحمد: من هنا أخذ أبو الطيب:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
لأنه تعالى أخبر أنهم إن سلموا من موت الغرق فتلك السلامة متاع إلى حين، أى: إلى أجل يموتون فيه، ولا بد.
(2) . للمتنبي يقول: ولم أسلم من حوادث الدهر ومكاره الحرب لأجل أن أخلد، وإنما سلمت من الحمام- ككتاب-: أى الموت ببعض الأسباب إلى أن أموت ببعضها الآخر. أو منقلب إلى الموت ببعضها الآخر، لأنه لا خلود في الدنيا.

(4/18)


وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50)

[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 46]
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46)
اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم كقوله تعالى أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وعن مجاهد: ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من الوقائع التي خلت، يعنى من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها، وما خلفكم من أمر الساعة لعلكم ترحمون لتكونوا على رجاء رحمة الله. وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله إلا كانوا عنها معرضين فكأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا. ثم قال:
ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.

[سورة يس (36) : آية 47]
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47)
كانت الزنادقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء لأعزه، ولو شاء لكان كذا، فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله. ومعناه: أنطعم المقول فيه هذا القول بينكم، وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله، لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع: وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وقيل: كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله، يعنون قوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم.

[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 50]
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50)
إن أنتم إلا في ضلال مبين قول الله لهم. أو حكاية قول المؤمنين لهم. أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين. قرئ: وهم يخصمون بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها، وإتباع الياء الخاء في الكسر. ويختصمون على الأصل. ويخصمون، من خصمه. والمعنى: أنها تبغتهم

(4/19)


ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52)

وهم في أمنهم وغفلتهم عنها، لا يخطرونها ببالهم مشتغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون. ومعنى خصمون: يخصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون فلا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم، بل يموتون بحيث تفجؤهم الصيحة.

[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 52]
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52)
قرئ الصور، بسكون الواو وهو القرن، أو جمع صورة، وحركها بعضهم. والأجداث القبور. وقرئ بالفاء «1» ينسلون يعدون بكسر السين وضمها، وهي النفخة الثانية. قرئ:
يا ويلتنا. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: من أهبنا، من هب من نومه إذا انتبه، وأهبه غيره وقرئ: من هبنا بمعنى أهبنا: وعن بعضهم: أراد هب بنا، فحذف الجار وأوصل الفعل:
وقرئ: من بعثنا، ومن هبنا، على من الجارة والمصدر، وهذا مبتدأ، وما وعد خبره، وما مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد، وما وعد: خبر مبتدإ محذوف، أى: هذا وعد الرحمن، أى: مبتدأ محذوف الخبر، أى ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق. وعن مجاهد: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قالوا: من بعثنا، وأما هذا ما وعد الرحمن فكلام الملائكة. عن ابن عباس. وعن الحسن:
كلام المتقين. وقيل: كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضا. فإن قلت: إذا جعلت ما مصدرية: كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله وصدق المرسلون إذا جعلتها موصولة؟ قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون، بمعنى:
والذي صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال. ومنه صدقنى سن بكره.
فإن قلت: من بعثنا من مرقدنا؟ سؤال عن الباعث، فكيف طابقه ذلك جوابا؟ قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، إلا أنه جيء به على طريقة: سيئت بها قلوبهم، ونعيت إليهم أحوالهم، وذكروا كفرهم وتكذيبهم، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده، حتى يهمكم السؤال عن
__________
(1) . قوله «وقرئ بالفاء» في الصحاح «الجدف» : القبر، وهو إبدال الجدث. قال الفراء: العرب تعقب بين الفاء والثاء في اللغة، فيقولون: جدث وجدف، وهي الأجداث والأجداف. (ع)

(4/20)


إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57) سلام قولا من رب رحيم (58)

الباعث، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين.

[سورة يس (36) : الآيات 53 الى 58]
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤن (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57)
سلام قولا من رب رحيم (58)
إلا صيحة واحدة قرئت منصوبة ومرفوعة فاليوم لا تظلم نفس شيئا ... إن أصحاب الجنة اليوم في شغل «1» حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره في شغل في أى شغل وفي شغل لا يوصف، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم، ووقع في تلك الملاذ التي أعدها الله للمرتضين من عباده، ثوابا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم، وذلك بعد الوله والصبابة، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية، وتخطى الأهوال، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط. ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب، وعن ابن عباس: في افتضاض الأبكار.
وعنه: في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان: في التزاور. وقيل: في ضيافة الله. وعن الحسن:
شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم: لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ: في شغل، بضمتين وضمة وسكون، وفتحتين، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ: ومنه الفاكهة، لأنها مما يتلذذ به. وكذلك الفكاهة، وهي المزاحة. وقرئ فاكهون، وفكهون، بكسر الكاف وضمها، كقولهم: رجل حدث وحدث «2» ، ونطس ونطس. وقرئ: فاكهين وفكهين،
__________
(1) . قال أحمد: هذا مما التنكير فيه للتفخيم، كأنه قيل: في شغل أى شغل، وكذا قوله تعالى: سلام قولا من رب رحيم.
(2) . قوله «كقولهم رجل حدث وحدث» أى حسن الحديث، والنطس البالغ في التطهر والمدقق في العلم.
أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(4/21)


وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59)

على أنه حال والظرف مستقر هم يحتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون تأكيدا للضمير في في شغل وفي فاكهون على أن أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال. وقرئ: في ظلل، والأريكة: السرير في الحجلة «1» . وقيل: الفراش فيها. وقرأ ابن مسعود: متكين يدعون يفتعلون من الدعاء، أى: يدعون به لأنفسهم، كقولك: اشتوى واجتمل، إذا شوى «2» وجمل لنفسه. قال لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل «3»
ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه، كقولك: ارتموه، وتراموه. وقيل: يتمنون، من قولهم: ادع على ما شئت، بمعنى تمنه على، وفلان في خير ما ادعى، أى في خير ما تمنى. قال الزجاج: وهو من الدعاء، أى: ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وسلام بدل مما يدعون، كأنه قال لهم: سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم والمعنى: أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة، أو بغير واسطة، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم، ولهم ذلك لا يمنعونه.
قال ابن عباس: فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل: ما يدعون، مبتدأ وخبره سلام، بمعنى: ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. وقولا مصدر مؤكد لقوله تعالى ولهم ما يدعون سلام أى: عدة من رب رحيم. والأوجه: أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. وقرئ: سلم، وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود: سلاما نصب على الحال، أى لهم مرادهم خالصا.

[سورة يس (36) : آية 59]
وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59)
وامتازوا وانفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى
__________
(1) . قوله «السرير في الحجلة» هي بيت العروس يزين بالثياب والستور، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله و «اجتمل إذا شوى» في الصحاح: جملت الشحم أجمله جملا، واجتملته: إذا أذبته. (ع)
(3) .
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل
أرسلته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريح واحتمل
للبيد بن ربيعة. والألوك: الرسالة، أى: ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال، فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله، وبين ذلك بقوله: أرسلته فأتاه رزقه، وفيه دلالة على أنه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم العلام، أى: فأتاه رزقه من الصيد، فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود، واحتمل: أى حمل كثيرا منه بنفسه لنفسه، ولأمه التي أرسلته. ويروى: اجتمل، بالجيم: وفي الصحاح: جملت الشحم واجتملته إذا أذبته، وهذه الروآية أنسب وأفيد.

(4/22)


ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)

ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا ... الآية يقال: مازه فانماز وامتاز.
وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه، لا يرى ولا يرى. ومعناه: أن بعضهم يمتاز من بعض.

[سورة يس (36) : الآيات 60 الى 61]
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)
العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه. وعهد الله إليهم: ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع. وعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ:
اعهد، بكسر الهمزة. وباب «فعل» كله يجوز في حروف مضارعته الكسر «1» ، إلا في الياء.
وأعهد، بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب. وأحهد:
بالحاء. وأحد: وهي لغة تميم. ومنه قولهم: دحا محا «2» هذا إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن، إذا لا صراط أقوم منه، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا ... لأفقر منى إننى لفقير «3»
أراد: إننى لفقير بليغ الفقر، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه فى، وإلا لم يستقم معنى البيت، وكذلك قوله هذا صراط مستقيم يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه. ويجوز أن يراد: هذا بعض الصراط المستقيمة،
__________
(1) . قوله «في حروف مضارعته الكسر» لعله مضارعه. (ع)
(2) . قوله «ومنه قولهم دحا محا» أى: دعها معها. (ع)
(3) .
دعوت إلهى دعوة ما جهلتها ... وربى بما تخفى الصدور بصير
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا ... لأفقر منى إننى لفقير
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتينى بالطلاق بشير
لكثير عزة. وقيل: لمجنون ليلى. وقوله «ما جهلتها» معناه: أنها عن قصد وحضور قلب. وقوله: لئن كان يهدى، بيان للدعوة، وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر، أى: لئن كان يعطى برد أسنانها العليا، خصها لأنها التي تبدو كثيرا. وقيل: العلا الشريفة، لأحوج منى إننى لبليغ في الفقر فأنا أحق بها من كل محتاج، لأنى أحوج الناس إليها. ويجوز أن يرد أنيابها: كناية عن ذاتها كلها، وإننى لفقير: خبر بمعنى الإنشاء مجازا مرسلا، لأن إظهار شدة الاحتياج يلزمه الطلب. ويجوز أنه كناية عنه وهو جواب القسم المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف وجوبا لدلالة المذكور عليه، وما تعجبية، وأكثر فعل تعجب، والأخبار مفعوله، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهي على تقدير حرف الجر، أى: أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها، وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب، أى: أتمني ذلك أو أتعجب من عدمه.

(4/23)


ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67)

توبيخا لهم على العدول عنه، والتفادى عن سلوكه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدى إلى الضلالة والتهلكة، كأنه قيل: أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق: أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك، كما بقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار، توبيخا له على الإعراض عن نصائحه.

[سورة يس (36) : الآيات 62 الى 64]
ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64)
قرئ: جبلا، بضمتين، وضمة وسكون، وضمتين وتشديدة، وكسرتين، وكسرة وسكون، وكسرتين وتشديدة. وهذه اللغات في معنى الخلق. وقرئ: جبلا، جمع جبلة، كفطر وخلق.
وفي قراءة على رضى الله عنه: جيلا واحدا، لا أجيال.

[سورة يس (36) : الآيات 65 الى 66]
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66)
يروى أنهم يجحدون ويخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث: «1» «يقول العبد يوم القيامة: إنى لا أجيز على شاهدا إلا من نفسي، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقى فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا. فعنكن كنت أناضل» «2» وقرئ: يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم. وقرئ: ولتكلمنا أيديهم وتشهد، بلام كى والنصب على معنى: ولذلك تختم على أفواههم: وقرئ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.

[سورة يس (36) : آية 67]
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67)
الطمس: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة فاستبقوا الصراط لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل: فاستبقوا إلى الصراط. أو يضمن معنى ابتدروا.
__________
(1) . أخرجه مسلم والنسائي من طريق الشعبي عن أنس، ووهم الحاكم فاستدركه،
(2) . قوله «كنت أناضل» أى أجادل. (ع)

(4/24)


ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68)

أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه. أو ينتصب على الظرف. والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع «1» الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرا- كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين «2» في أمور دنياهم- لم يقدروا، وتعايى عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره.
أو لو شاء لأعماهم، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف- كما كان ذلك هجيراهم- لم يستطيعوا. أو لو شاء لأعماهم، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا، يعنى أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا «3» به من المقاصد دون غيرها على مكانتهم وقرئ، على مكاناتهم. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أى:
لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضى ولا رجوع واختلف في المسخ، فعن ابن عباس: لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة:
لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ: مضيا بالحركات الثلاث، فالمضى والمضي كالعتى والعتي. والمضى كالصبى.

[سورة يس (36) : آية 68]
ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68)
ننكسه في الخلق نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقى من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبى في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عز وجل ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، ثم رددناه أسفل سافلين وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه- قادر على أن يطمس على
__________
(1) . قوله «إلى الطريق المهيع» الهيوع: الجبن، والهيعة: الذوبان والسيلان وكل ما أفزعك من صوت، كذا في الصحاح. ولعل المراد الذي سهله كثرة سلوكه. (ع)
(2) . قوله «موضعين» في الصحاح: وضع البعير وغيره: أسرع من سيره وأوضعه راكبه. (ع)
(3) . قوله «وضروا به» أى: مرنوا. (ع)

(4/25)


وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)

أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد: وقرئ بكسر الكاف «1» . وننكسه وننكسه، من التنكيس والإنكاس أفلا يعقلون بالياء والتاء.

[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)
كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، وروى أن القائل: عقبة بن أبى معيط، فقيل وما علمناه الشعر أى: وما علمناه بتعليم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء. وأين هو عن الشعر، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى، يدل على معنى، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت، اللهم إلا أن هذا لفظه عربى، كما أن ذاك كذلك وما ينبغي له وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أى: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، كما جعلناه أميا لا يتهدى للخط ولا يحسنه، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت: فقوله:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب «2»
وقوله: «3»
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت «4»
__________
(1) . قوله «وقرئ بكسر الكاف» يفيد أن القراءة المشهورة بضم الكاف، وهما من النكس. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث البراء بن عازب في حديث.
(3) . متفق عليه من حديث جندب بن سفيان في حديث. [.....]
(4) .
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس لا تقنطى بموتى ... هذى حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
لعبد الله بن رواحة حين حمل اللواء بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب فأصيبت أصبعه في الحرب فدميت وروى البخاري عن جندب أنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشى إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت أصبعه فقال «هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» فأفاد أنه صلى الله عليه وسلم يتمثل بشعر غيره، وهو بكسر التاء على وفق القافية، وقال الكرماني: التاء في الرجز مكسورة، وفي الحديث ساكنة. وقال عياض غفل بعض الناس فروى: دميت: ولقيت، بغير مد وخالف الرواية. وروى أحمد والطيالسي أنه صلى الله عليه وسلم قاله حين كان خارجا إلى الصلاة، ودميت: صفة أصبع، والمعنى: لم يحصل لك شيء من الأذى إلا أنك دميت ولم يكن ذلك هدرا بل كان في سبيل الله ومرضاته لا غير، أى: الذي لقيته من الأذى في سبيل الله، فلا تحزني، ونزلها منزلة العاقل فخاطبها بذلك تسلية وتثبيتا لها، وهو في الحقيقة لنفسه «ثم صرح بخطاب النفس مثبتا لها. بقوله إن لم تقتلي في الحرب فلا بد لك من الموت وهذه حياضه فلا تفرى منها لأن الوقوع في البلاء أهون من انتظاره وشبه الموت بسيل على سبيل المكنية، فأثبت له الحياض تخييلا، وشبهه بالنار كذلك، فأثبت له الصلى وهو اقتحام النار، ولا مانع من تشبيه الشيء بأمرين مختفين مع الرمز لكل منهما بما يلائمه، ويجوز استعارة الحياض للمعرفة تصريحا، والذي تمنيته من الحرب المؤدى إلى الشهادة فقد لقيته، إن تفعلي كفعل زيد وجعفر، هديت إلى طريق الخير.

(4/26)


أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)

قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على السليقة، من غير صنعة ولا تكلف، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزونا، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرا، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال إن هو إلا ذكر وقرآن مبين يعنى: ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجن، كما قال إن هو إلا ذكر للعالمين وما هو إلا قرآن كتاب سماوي، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ لينذر القرآن أو الرسول وقرئ: لتنذر، بالتاء. ولينذر: من نذر به إذا علمه من كان حيا أى عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت. أو معلوما منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان ويحق القول وتجب كلمة العذاب على الكافرين الذين لا يتأملون ولا يتوقع منهم الإيمان.

[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)
مما عملت أيدينا مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها، التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدى: استعارة من عمل من يعملون بالأيدى فهم لها مالكون أى خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون، من قوله:

(4/27)


واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76)

أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا «1»
أى لا أضبطه، وهو من جملة النعم الظاهرة، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها، كما قال القائل:
يصرفه الصبى بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير «2»
ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وقرئ: ركوبهم. وركوبتهم. وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. وقيل:
الركوبة جمع. وقرئ: ركوبهم، أى ذو ركوبهم. أو فمن منافعها ركوبهم منافع من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك ومشارب من اللبن، ذكرها مجملة، وقد فصلها في قوله تعالى وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ... الآية والمشارب: جمع مشرب وهو موضع الشرب، أو الشرب

[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76)
__________
(1) .
أصبح متى الشباب مبتكرا ... إن ينأ عنى فقد ثوى عصرا
فارقنا قبل أن نفارقه ... لما قضى من جماعنا وطرا
أصبحت لا أملك السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
للربيع بن منيع، قاله حين بلغ مائة وأربعين عاما، عاش بعده مائة وستين. والمبتكر: المسافر أول النهار، فهو تشبيه بليغ، ثم تسلى بقوله: إن ينأ، أى بعد عنى فقد أقام عندي أزمنة طويلة فارقنا، أى: ذهب عنا قبل أن نموت، فقوله «نفارقه» مجاز عن ذلك، أو كناية عنه، أو مجاز عن البغض، والجماع: معناه الاجتماع والمصاحبة، والوطر: الحاجة، وهذا كله ترشيح للتشبيه أول الكلام، ولا يخفى ما في البيت من إبهام ما كان ينبغي الاحتراس منه، فان قضاء الوطر من الجماع اشتهر استعماله في مقام الوطء، ثم قال: صرت لا أضبط السلاح بيدي ولا رأس البعير إن ندمنى ولا أقدر عليهما. ويروى: لا أحمل السلاح، أى: لا أقدر على حمله، وأخشاه: أى أخافه، إن مررت به وحدي وأخاف الرياح والمطر ولو مع غيرى، وكل هذا كناية عن بلوغه غاية الضعف والهرم.
(2) .
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصبى بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير
لكثير عزة حين رآه عبد الملك بن مروان قصيرا حقيرا، فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقيل: للعباس ابن مرداس. وقيل: لمعاوية بن مالك الكلابي، وعظم: ضخم وطال. واللب: العقل، وأتى بالظاهر موضع المضمر للتهويل في الطول والجسامة، بكل وجه: في كل جهة. والخسف: الذل. والجرير: حبل غير الزمام يربط به. والهراوى: جمع هراوة وهي العصا، وجمعها دلالة على كثرة الضرب. والغير- بالتحريك- الغيرة.
والنكير: الإنكار، يعنى أن العبرة بالألباب والعقول، لا بالغلظ والطول.

(4/28)


أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)

اتخذوا الآلهة طمعا في أن يتقووا بهم ويعتضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدروا، حيث هم جند لآلهتهم معدون محضرون يخدمونهم ويذبون عنهم، ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا، حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلون وقودا للنار. وقرئ: فلا يحزنك، بفتح الياء وضمها، من حزنه وأحزنه. والمعنى: فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بما يسرون لك من عداوتهم وما يعلنون وإنا مجازوهم عليه، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن. فإن قلت: ما تقول فيمن يقول: إن قرأ قارئ: أنا نعلم، بالفتح: انتقضت صلاته، وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى: كفر؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يكون على حذف لام التعليل، وهو كثير في القرآن وفي الشعر، وفي كل كلام وقياس مطرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد والنعمة «1» لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي، وكلاهما تعليل. والثاني: أن يكون بدلا من قولهم كأنه قيل: فلا يحزنك، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها، وإنما يدوران على تقديرك، فتفصل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل، كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية، ثم إن قدرته كاسرا أو فاتحا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل، فما فيه إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم، وليس النهى عن ذلك مما يوجب شيئا. ألا ترى إلى قوله تعالى فلا تكونن ظهيرا للكافرين، ولا تكونن من المشركين، ولا تدع مع الله إلها آخر

[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر في أثناء حديث.

(4/29)


قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ، وأدل على تمادى كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادى، وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة «1» ، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته «2» لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به، وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها، وروى أن جماعة من كفار قريش منهم أبى بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بزوائل والوليد ابن المغيرة تكلموا في ذلك، فقال لهم أبى: ألا ترون إلى ما يقول محمد، إن الله يبعث الأموات، ثم قال: واللات والعزى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول:
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رم، قال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم «3» وقيل: معنى قوله فإذا هو خصيم مبين فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطبق قادر على الخصام، مبين: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فإن قلت: لم سمى قوله من يحي العظام وهي رميم مثلا؟ قلت: لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه، بدليل النشأة الأولى، فإذا قيل:
__________
(1) . قوله «وتغلغله في القحة» في الصحاح: وقح الرجل قحة ووقاحة، إذا صار قليل الحياء. (ع)
(2) . قوله «وشرز صفحته ... الخ» في الصحاح «الشرز» الشرس، وهو الغلظ. والمحك: اللجاج. (ع)
(3) . هكذا ذكره الحلبي عن قتادة بغير سند، وأخرجه الحاكم من رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء، ففتته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، يميتك الله- الحديث» وروى البيهقي في الشعب من طريق حصين عن أبى مالك.
قال: جاء أبى بن خلف بعظم نخر- الحديث» وروى ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: «جاء أبو جهل بعظم حائل» .

(4/30)


من يحيى العظام على طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف الله تعالى بكونه قادرا عليه، كان تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفات، فلا يقال: لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول: إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها. وأما أصحاب أبى حنيفة فهي عندهم طاهرة، وكذلك الشعب والعصب، ويزعمون أن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون: المراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حى حساس وهو بكل خلق عليم يعلم كيف يخلق، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات ومن أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراض وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم: في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر، على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب «1» . قالوا:
ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ: الأخضر، على اللفظ. وقرئ: الخضراء، على المعنى. ونحوه قوله تعالى من شجر من زقوم فمالؤن منها البطون فشاربون عليه من الحميم من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسى أقدر، وفي معناه قوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وقرئ: يقدر، وقوله أن يخلق مثلهم يحتمل معنيين: أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة «2» بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم، لأن المعاد مثل للمبتدإ وليس به وهو الخلاق الكثير المخلوقات العليم الكثير المعلومات. وقرئ: الخالق إنما أمره إنما شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه ولا صارف أن يقول له كن أن يكونه من غير توقف فيكون فيحدث، أى: فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت: ما حقيقة قوله أن يقول له كن فيكون؟ قلت:
هو مجاز من الكلام وتمثيل، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت: فما وجه القراءتين في فيكون؟ قلت: أما الرفع فلأنها جملة من مبتدإ وخبر، لأن تقديرها: فهو يكون، معطوفة على مثلها، وهي أمره أن يقول له كن. وأما النصب فللعطف على يقول، والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «والقماءة» الصغر والذلة. أفاده الصحاح. (ع)

(4/31)


إذا فعلت شيئا مما تقدر عليه، من المباشرة بمحال القدرة، واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب إنما أمره وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل، فيتكون فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ فسبحان تنزيه له مما وصفه به المشركون، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا بيده ملكوت كل شيء هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وقرئ: ملكة كل شيء. وملك كل شيء.
والمعنى واحد ترجعون بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كنت لا أعلم ما روى في فضائل يس وقراءتها كيف خصت، بذلك، فإذا أنه لهذه الآية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن يس، من قرأ يس يريد بها وجه الله، غفر الله تعالى له، وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان «1» . وقال عليه الصلاة والسلام «إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها. ألا وهي سورة يس» «2» .
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي من حديث أبى بن كعب، وأوله في الترمذي من رواية هرون أبى محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس. وقال: غريب. وهرون مجهول «وفي الباب عن أبى بكر وأبى هريرة. فأما حديث أبى هريرة فأخرجه البزار وفيه حميد المكي مولى آل علقمة. وهو ضعيف. وحديث أبى بكر: أخرجه الحكيم الترمذي.
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها.

(4/32)


والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحد (4) رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5)

سورة الصافات
مكية، وهي مائة وإحدى وثمانون آية، وقيل: واثنتان وثمانون [نزلت بعد الأنعام] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحد (4)
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5)
أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة، من قوله تعالى وإنا لنحن الصافون أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله فالزاجرات السحاب سوقا فالتاليات لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل الصافات: الطير، من قوله تعالى والطير صافات والزاجرات: كل ما زجر عن معاصى الله. والتاليات: كل من تلا كتاب الله. ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه. أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر «1» مع ذلك لا تشغلها
__________
(1) . قال محمود: «المقسم به طوائف الملائكة أو نفوسهم، والمراد صفهم في الصلاة وزجرهم السحاب أى سوقهم وتلاوتهم ذكر الله أو العلماء والمراد تصافف أقدامهم في الصلاة وزجرهم بالمواعظ عن المعاصي وتلاوتهم الذكر...... إلى أن قال: ... «ويكون التفاصل بين الطوائف إما على أن الأول هو الأفضل أو على العكس» قال أحمد: قد جوز أن يكون ترتيبها في التفاضل على أن الأول وهو الأفضل وعلى العكس، ولم يبين وجه كل واحد منهما من حيث صنعة البديع، ونحن نبينه فنقول: وجه البداءة بالأفضل الاعتناء بالأهم. فقدم، ووجه عكس هذا الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ومنه قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... على ومنهم أحمد المنخير
ولا يقال: إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة، فان هذا غايته أنه عذر، وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة، وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف، وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم، فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم.

(4/33)


إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7)

عنه تلك الشواغل، كما يحكى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه. فإن قلت: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله:
يا لهف زيابة للحرث الصابح ... فالغانم فالآيب «1»
كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك، كقوله:
رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أى هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها، فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل: إما إن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل، أعنى أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا، أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات:
الطير، وبالزاجرات: كل ما يزجر عن معصية. وبالتاليات: كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة. وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاى والذال رب السماوات خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف. والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقا، وكذلك المغارب: تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. فإن قلت:
فماذا أراد بقوله رب المشرقين ورب المغربين؟ قلت: أراد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.

[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 7]
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7)
الدنيا القربى منكم. والزينة: مصدر كالنسبة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة، ويحتملهما قوله بزينة الكواكب فإن أردت المصدر، فعلى إضافته إلى الفاعل، أى: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب: أو على إضافته إلى المفعول، أى: بأن زان الله الكواكب وحسنها، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها، وأصله بزينة الكواكب وهي قراءة أبى بكر والأعمش وابن وثاب، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان:
أن تقع الكواكب بيانا للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، وأن يراد
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 41 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/34)


لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)

ما زينت به الكواكب. وجاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: بزينة الكواكب: بضوء الكواكب: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وقرئ على هذا المعنى: بزينة الكواكب، بتنوين زينة وجر الكواكب على الإبدال. ويجوز في نصب الكواكب: أن يكون بدلا من محل بزينة وحفظا مما حمل على المعنى لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين، كما قال تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ويجوز أن يقدر الفعل المعلل، كأنه قيل: وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب، وقيل: وحفظناها حفظا. والمارد:
الخارج من الطاعة المتملس «1» منها.

[سورة الصافات (37) : الآيات 8 الى 10]
لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)
الضمير في لا يسمعون لكل شيطان، لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد، فإن قلت: لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان، أو استئنافا فلا تصح الصفة لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يستمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف لأن سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟
فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم، فبقى أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا، لما عليه حال المسترقة للسمع «2» ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة. أو يتسمعوا وهم
__________
(1) . قوله «من الطاعة المتملس منها» في الصحاح: يقال: انملس من الأمر، إذا أقلت منه. (ع) [.....]
(2) . أبطل الزمخشري أن يكون لا يسمعون صفة لأن الحفظ من شيطان لا يسمع لا معنى له وأبطل أن يكون أصله لئلا يسمعوا، فحذف اللام وحذفها كثير، ثم حذف أن وأهدر عملها مثل:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
واستبعد اجتماع هذين الحذفين، وإن كان كل واحد منهما بانفراده سائغا، ولما أبطل هذين الوجهين تعين عنده أن يكون ابتداء كلام اقتصاصا لما عليه أحوال المسترقة للسمع» قال أحمد: كلا الوجهين مستقيم، والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول: أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه، فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع، وإحدى الحالين لازمة للأخرى، فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه، وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسيمه، ونظير هذه الآية على هذا التقدير قوله تعالى وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره فقوله تعالى مسخرات حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر. ومعناه مستقيم، لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة، فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة، لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك، وما أشار له الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير، إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه، فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزق، وجعل المعنى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير، وفيما ذكرناه كفاية، ومن هذا النمط ثم أرسلنا رسلنا وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال، وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ. وأما الجواب عن إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا وأصله لئلا تضلوا، فحذف اللام و «لا» جميعا من محليهما.

(4/35)


فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)

مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله:
لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقى أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها، كما في قول القائل:
ألا أيها ذا الزاجرى أحضر الوغى «1»
قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أى فرق بين سمعت فلانا يتحدث، وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟ قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك، والملأ الأعلى: الملائكة، لأنهم يسكنون السماوات. والإنس والجن: هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة من كل جانب من جميع جوانب السماء من أى جهة صعدوا للاستراق دحورا مفعول له، أى: ويقذفون للدحور وهو الطرد، أو مدحورين على الحال. أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل:
يدحرون أو قذفا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بفتح الدال على: قذفا دحورا طرودا. أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبا، يعنى أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب، وقد أعد لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع من في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون، أى: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة وقرئ: خطف بكسر الخاء والطاء وتشديدها، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: فأتبعه، وفاتبعه.

[سورة الصافات (37) : آية 11]
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)
الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها، فلذلك قيل
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 159 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/36)


بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا رأوا آية يستسخرون (14)

فاستفتهم أى استخبرهم أهم أشد خلقا ولم يقل: فقررهم، والضمير لمشركي مكة. قيل:
نزلت في أبى الأشد بن كلدة، وكنى بذلك لشدة بطشه وقوته أم من خلقنا يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولى العقل على غيرهم، فقال: من خلقنا، والدليل عليه قوله بعد عد هذه الأشياء: فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا، بالفاء المعقبة. وقوله: أم من خلقنا، مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم أهم أشد خلقا أم الذي خلقناه من ذلك، ويقطع به قراءة من قرأ: أم من عددنا، بالتخفيف والتشديد. وأشد خلقا: يحتمل أقوى خلقا من قولهم:
شديد الخلق. وفي خلقه شدة، وأصعب خلقا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: من خلقنا من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم. وقرئ: لازب ولاتب، والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 12 الى 14]
بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا رأوا آية يستسخرون (14)
بل عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وقرئ بضم التاء، أى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على الله تعالى، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام: والثاني: أن يتخيل العجب ويفرض.
وقد جاء في الحديث: عجب ربكم من ألكم «1» وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم «2» . وكان شريح
__________
(1) . قوله «من ألكم وقنوطكم» الأل: يأتى بمعنى السرعة والأنين والفساد. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمرو يرفعه، ثم قال: فقال: الأل رفع الصوت بالدعاء. وقال بعضهم: يرويه الأول، وهو الشدة.

(4/37)


وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (16) أوآباؤنا الأولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19) وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21)

يقرأ بالفتح ويقول: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم، فقال إبراهيم النخعي:
إن شريحا كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم، يريد عبد الله بن مسعود، وكان يقرأ بالضم. وقيل معناه: قل يا محمد بل عجبت. وإذا ذكروا ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به وإذا رأوا آية من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه يستسخرون يبالغون في السخرية. أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها.

[سورة الصافات (37) : الآيات 15 الى 19]
وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (16) أوآباؤنا الأولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19)
وآباؤنا معطوف على محل إن واسمها. أو على الضمير في مبعوثون، والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام. والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ أو آباؤنا قل نعم وقرئ: نعم بكسر العين وهما لغتان. وقرئ: قال نعم، أى الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون وأنتم داخرون صاغرون فإنما جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان ذلك فما هي زجرة واحدة وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضحها خبرها. ويجوز:
فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم: إذا صاح عليها فريعت لصوته. ومنه قوله:
زجر أبى عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم «1»
يريد تصوينه بها فإذا هم أحياء بصراء ينظرون.

[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 21]
وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21)
يحتمل أن يكون هذا يوم الدين إلى قوله احشروا من كلام الكفرة بعضهم مع بعض
__________
(1) . للنابغة الجعدي. وأبو عروة: كنية العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يزعمون أنه يصيح بالسباع فينفق مرارة الأسد في جوفه، وروى أن غارة أتتهم يوم حنين فصاح: يا صباحاه فأسقطت الحوامل، وكان يسمع صوته من مسافة ثمانية أميال. وزجره يزجره، إذا صاح بمنعه، أى: كزجر أبى عروة السباع عن الغنم إذا خاف اختلاطهن بها في البادية.

(4/38)


احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسئولون (24) ما لكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35)

وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون يا ويلنا هذا يوم الدين كلام الكفرة. وهذا يوم الفصل من كلام الملائكة جوابا لهم. ويوم الدين: اليوم الذي ندان فيه، أى نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل: يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلالة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 26]
احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسؤلون (24) ما لكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26)
احشروا خطاب الله للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض وأزواجهم وضرباءهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم فاهدوهم فعرفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين بل هم اليوم مستسلمون قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز، فكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ: لا تتناصرون ولا تناصرون، بالإدغام.

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 35]
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31)
فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35)
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سموها: الشؤمى،

(4/39)


كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، «1» وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء «2» . وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله:
استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أى: من قبل الخير وناحيته، فصده عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك، ولك أن تجعلها مستعارة للقوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم بل لم تكونوا مؤمنين بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بل كنتم قوما مختارين الطغيان فحق علينا فلزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعنى: وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قل مالى «3»
__________
(1) . قوله «وتيمنوا بالسانح» السانح: المار من اليسار إلى اليمين. والبارح عكسه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها أتم من هذا.
(3) .
ألا زعمت هوازن قل مالى ... وهل لي غير ما أنفقت مال
أسربه نعم ونعم قديما ... على ما كان هن مال وبال
ألا استفتاحية، وهوازن: امرأته، وضمن زعمت معنى قالت، فعداه إلى الجملة، ولو حكى قولها بلفظه لقال: قل مالك، ولكن جاء بياء المتكلم لجواز الحكاية بالمعنى، وهل: استفهام إنكارى، وغير: حال مقدمة، أى: ليس لي مال غير ما أنفقته في المكارم، وأسربه. مبنى للمجهول صفة لمال، أى: لا يسرني غير ما أنفقته، وبين جهة الإنفاق بقوله: نعم ونعم، أى جوابي للسائلين بذلك من قديم الزمان: هو وبال ومضرة على ما كان لي من مال، ويجوز أن أسر مبنى للفاعل. ونعم الأولى مفعوله، أى: هل لي مال أسربه من يجاب بنعم، والحال أن نعم وبال على المال، ومهلكة له قديما، حيث أخيب السائل بها.

(4/40)


ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37) إنكم لذائقو العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلصين (40) أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47) وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49)

ولو حكى قولها لقال: قل مالك. ومنه قول المحلف للحالف: احلف لأخرجن، ولتخرجن:
الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف فأغويناكم فدعوناكم إلى الغى دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستحبابكم الغى على الرشد إنا كنا غاوين فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فإنهم فإن الأتباع والمتبوعين جميعا يومئذ يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية إنا مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم، يعنى أن سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها إنهم كانوا إذا سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك.

[سورة الصافات (37) : الآيات 36 الى 39]
ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37) إنكم لذائقوا العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39)
لشاعر مجنون يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم بل جاء بالحق رد على المشركين وصدق المرسلين كقوله مصدقا لما بين يديه وقرئ: لذائقو العذاب، بالنصب على تقدير النون، كقوله:
ولا ذاكر الله إلا قليلا «1»
بتقدير التنوين. وقرئ على الأصل: لذائقون العذاب إلا ما كنتم تعملون إلا مثل ما عملتم جزاء سيئا بعمل سيئ.

[سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 49]
إلا عباد الله المخلصين (40) أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44)
يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47) وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49)
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 448 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/41)


إلا عباد الله ولكن عباد الله، على الاستثناء المنقطع. فسر الرزق المعلوم بالفواكه:
وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة، يعنى أن رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا وعن قتادة: الرزق المعلوم الجنة. وقوله في جنات يأباه، وقوله وهم مكرمون هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوى الهمم، كما أن من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هو ان أهل النار وصغارهم.
التقابل: أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال:
وكاس شربت على لذة «1»
وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس من معين من شراب معين. أو من نهر معين، وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون: وصف بما يوصف به الماء، لأنه يجرى في الجنة في أنهار كما يجرى الماء، قال الله تعالى وأنهار من خمر.
بيضاء صفة للكأس لذة إما أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها: أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ. ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال:
ولذ كطعم الصرخدى تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان «2»
__________
(1) .
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أنى امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
للأعشى، والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر، وعلى الخمر فيها: مجازا مشهورا، وهي مؤنثة بدليل تأنيث صفتها وضميرها. يقول: ورب كأس شربتها مع لذة، أو لأجل لذة فضرتنى، فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها، ليعلم الناس أنى مجرب للأمور، وكنى عن ذلك بقوله: أتيت المعيشة من بابها، وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على طريق المكنية وإثبات الباب تخييل، أى: كما داويت الداء من بابه أدرك المعيشة وأحصلها من الأسباب التي تناسبها. ويروى: بدل الشطر الثاني من البيت الأول
دهاق يرنح من ذاقها
ودهقه:
كسره وغمزه غمزا شديدا، وكأس داهق: ممتلئة، ودهاق: مملوءة. وترنح: تميل، لكن هذا من قافية أخرى.
(2) . اللذ: وصف، واللذة: مؤنثة، وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس، واسم للشيء اللذيذ. والصرخد:
موضع من الشام ينسب إليه الشراب. والحدثان: مصدر كالحدث، إلا أنه يدل على التجدد والتكرر، يقول:
ورب شيء لذيذ يعنى النوم، طعمه كطعم الشراب الطيب، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بى. ويروى بدل الشطر الثاني
عشية خمس القوم والعين عاشقة
وخمست القوم أخمسهم- بالضم-: أخذت خمس أموالهم.

(4/42)


فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول أإنك لمن المصدقين (52) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (57)

يريد النوم. الغول: لمن غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده. ومنه: الغول الذي في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم: الغضب غول الحلم، وينزفون على البناء للمفعول، من نزف الشارب «1» إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ويقال للمطعون: نزف فمات إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية حتى نزفتها: إذا لم تترك فيها ماء. وفي أمثالهم: أجبن من المنزوف ضرطا. وقرئ: ينزفون، من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه. قال:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو ... لبئس الندامى كنتمو آل أبجرا «2»
ومعناه: صار ذا ترف. ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكبيته.
وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: وينزفون: بضم الزاى، من نزف ينزف كقرب يقرب، إذا سكر. والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار «3» أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك، ولا هم يسكرون «4» ، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر قاصرات الطرف قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا يمددن طرفا إلى غيرهم، كقوله تعالى عربا «5» والعين:
النجل العيون «6» شبههن يبيض النعام المكنون في الأداحى، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور.

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 57]
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول أإنك لمن المصدقين (52) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54)
فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (57)
__________
(1) . قوله «من نزف الشارب في الصحاح: نزفت ماء البئر نزفا، إذا نزحته كله. ونزفت هي: يتعدى ولا يتعدى ... ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله. (ع)
(2) . للأبيرد. ونزف دمه: خرج منه حتى ضعف وانقطعت حركته. ونزف الرجل في الخصومة: انقطعت حجته، وأنزف: صار ذا نزف، فنزف وأنزف لا زمان. وقوله: لئن أنزفتم، أى سكرتم وبطلت حركتكم، أو انقطع شرابكم، ولبئس الندامى: جواب القسم، وجواب الشرط مثله محذوف، وأنتم: هو المخصوص بالذم.
وآل أبجر: منادى، وفيه نوع من التهكم والاستخفاف بهم.
(3) . قوله «في الصحاح: الخمار: بقية السكر. (ع) [.....]
(4) . قوله «ولا هم يسكرون» لعله: ولا هم عنها يسكرون. (ع)
(5) . قوله «كقوله تعالى: عربا» أى متحببات إلى أزواجهن كما يأتى. (ع)
(6) . قوله «النجل العيون» في الصحاح: النجل- بالتحريك: كشف العين. والرجل أنجل، والعين نجلاء، والجمع نجل. وفيه: مدحى النعامة: موضع بيضها. وأدحيها موضعها، وهو أفعول من دحوت، لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض فيه اه والأداحى: جمعه. (ع)

(4/43)


فإن قلت: علام عطف قوله فأقبل بعضهم على بعض؟ قلت: على يطاف عليهم. والمعنى:
يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب «1» ، قال:
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام «2»
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره. قرئ: من المصدقين، من التصديق. ومن المصدقين مشدد الصاد، من التصدق، وقيل: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضنى الله به في الآخرة خيرا منه، فقال:
أإنك لمن المصدقين بيوم الدين. أو من المتصدقين لطلب الثواب. والله لا أعطيك شيئا لمدينون لمجزيون، من الدين وهو الجزاء. أو لمسوسون مربوبون. يقال: دانه ساسة.
ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه، «3» . قال يعنى ذلك القائل هل أنتم مطلعون إلى النار لأريكم ذلك القرين. قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. وقيل:
القائل هو الله عز وجل: وقيل بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقرئ. مطلعون، فاطلع. وفأطلع بالتشديد، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب: ومطلعون فاطلع، وفأطلع بالتخفيف، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب. يقال: طلع علينا فلان، واطلع، وأطلع بمعنى واحد، والمعنى: هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضا. أو عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه، فاطلع هو بعد ذلك.
وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره، فالمعنى: أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم، وهو من
__________
(1) . قوله «كعادة الشرب» جمع شارب، كالصحب جمع صاحب، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . الفرزدق، يقول: وما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام، أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر، وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه، وكان الظاهر: وما بقي من اللذات، لكن أنث الفعل لأنه مفرغ لما بعد إلا، أو للتأويل المتقدم.
(3) . أخرجه الترمذي وابن ماجة، والحاكم وأحمد والبزار وأبو يعلى والحرث والطبراني كلهم من رواية أبى بكر ابن أبى مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس.

(4/44)


أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61) أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رءوس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68) إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون (70)

آداب المجالسة. أن لا يستبد بشيء دون جلسائه، فكأنهم مطلعوه. وقيل: الخطاب على هذا للملائكة. وقرئ: مطلعون بكسر النون، أراد: مطلعون إياى، فوضع المتصل موضع المنفصل، كقوله:
هم الفاعلون الخير والآمرونه «1»
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر في سواء الجحيم في وسطها، يقال: تعبت حتى انقطع سوائى، وعن أبى عبيدة:
قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائى إن مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على «كاد» كما تدخل على «كان» ونحوه إن كاد ليضلنا واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء: الإهلاك. وفي قراءة عبد الله: لتغوين نعمة ربي هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام، والبراءة من قرين السوء. أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة من المحضرين من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك.

[سورة الصافات (37) : الآيات 58 الى 59]
أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59)
الذي عطفت عليه الفاء محذوف، معناه: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
وقرئ بمائتين. والمعنى أن هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة، وقيل لبعض الحكماء:
ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.

[سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)
يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له يزيد به تعذبا، وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزاجرا. ويجوز أن يكون قولهم جميعا، وكذلك قوله إن هذا لهو الفوز العظيم أى إن هذا الأمر الذي نحن فيه. وقيل: هو من قول الله عز وجل تقريرا لقولهم وتصديقا له. وقرئ: لهو الرزق العظيم، وهو ما رزقوه من السعادة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70]
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رؤس الشياطين (65) فإنهم لآكلون منها فمالؤن منها البطون (66)
ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68) إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون (70)
__________
(1) .
هم الفاعلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من حادث الدهر معظما
الخير: نصب على المفعولية. ويقال: أمرتك الخير وأمرتك به، فالآمرونه: اسم فاعل متعد للمفعول الثاني بنفسه، وكان حقه الفصل فوصل، وربما كان في البيت أوقع منه في اسم الفاعل المجرد من اللام، وما زائدة: أى إذا خافوا من حادث الدهر أمرا معظما. ويروى: مفظعا، أى: مخيفا فحقه في حرف العين.

(4/45)


تمت قصة المؤمن وقرينه، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال أذلك الرزق خير نزلا أى خير حاصلا أم شجرة الزقوم وأصل النزل: الفضل والربع في الطعام، يقال:
طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والغم، وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا، كما تقول:
أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا؟ يعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة. وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير في كونه نزلا. والنزل: ما يقال «1» للنازل بالمكان من الرزق. ومنه إنزال الجند لأرزاقهم، كما يقال لما يقام لساكن الدار: السكن «2» . ومعنى الأول: أن للرزق المعلوم نزلا، ولشجر الزقوم نزلا، فأيهما خير نزلا. ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم، واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم فتنة للظالمين محنة وعذابا لهم في الآخرة. أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر، فكذبوا. وقرئ:
نابتة في أصل الجحيم قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها: والطلع للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها: إما استعارة لفظية، أو معنوية، وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيقولون في القبيح الصورة: كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان. وإذا صوره المصورون: جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله، كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه، فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم وهذا تشبيه تخييلى. وقيل: الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا. وقيل: إن شجرا يقال له الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة، يسمى ثمره:
__________
(1) . قوله «ما يقال للنازل بالمكان» لعله «ما يقام» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «لساكن الدار السكن» في الصحاح «السكن» : كل ما سكنت إليه. (ع)

(4/46)


ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74) ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الآخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79) إنا كذلك نجزي المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الآخرين (82)

رؤوس الشياطين. وما سمت العرب هذا الثمر برءوس الشياطين إلا قصدا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به منها من الشجرة، أى من ظلعها فمالؤن بطونهم، لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها، ليكون بابا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابا من غساق أو صديد، شوبه: أى مزاجه من حميم يشوى وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة ومزاجه من تسنيم وقرئ: لشوبا، بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأول تسمية بالمصدر. فإن قلت:
ما معنى حرف التراخي في قوله ثم إن لهم عليها لشوبا وفي قوله ثم إن مرجعهم؟ قلت:
في الأول وجهان، أحدهما: أنهم يملئون البطون من شجر الزقوم، وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم، فلا يسقون إلا بعد ملى تعذيبا بذلك العطش، ثم يسقون ما هو احر وهو الشراب المشوب بالحميم. والثاني: أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع، فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه. ومعنى الثاني: أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن يتملئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك بين: وقرئ: ثم إن منقلبهم، ثم إن مصيرهم، ثم إن منفذهم إلى الجحيم: علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين، واتباعهم إياهم على الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يحثون حثا. وقيل:
إسراع فيه شبه بالرعدة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74]
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74)
ولقد ضل قبلهم قبل قومك قريش. منذرين أنبياء حذروهم العواقب. المنذرين الذين أنذروا وحذروا، أى أهلكوا جميعا إلا عباد الله الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الآخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79)
إنا كذلك نجزي المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الآخرين (82)

(4/47)


وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة دون الله تريدون (86) فما ظنكم برب العالمين (87)

لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه إياه حين أيس من قومه، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فو الله لنعم المجيبون نحن، والجمع دليل العظمة والكبرياء. والمعنى:
إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون هم الباقين هم الذين بقوا وحدهم وقد فنى غيرهم، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده. أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرية نوح. وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، وفارس، والروم. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب. ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في الآخرين من الأمم هذه الكلمة، وهي: سلام على نوح يعنى يسلمون عليه تسليما، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت سورة أنزلناها. فإن قلت: فما معنى قوله في العالمين؟ قلت: معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا، وأن لا يخلو أخد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا مؤمنا، ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 87]
وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أإفكا آلهة دون الله تريدون (86) فما ظنكم برب العالمين (87)
من شيعته ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان:
هود، وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟
قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعنى: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم. أو بمحذوف وهو: اذكر بقلب سليم من جميع آفات القلوب. وقيل:
من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها.
فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب

(4/48)


فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90)

المجيء مثلا لذلك أإفكا مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون الله إفكا، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إفكا مفعولا، يعنى: أتريدون به إفكا.
ثم فسر الإفك بقوله آلهة دون الله على أنها إفك في أنفسها. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون الله آفكين فما ظنكم بمن هو الحقيق بالعبادة، لأن من كان ربا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام: والمعنى: أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. أو فما ظنكم به أى شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادا. أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟

[سورة الصافات (37) : الآيات 88 الى 90]
فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90)
في النجوم في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم فقال إني سقيم إنى مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرض وورى، والذي قاله إبراهيم عليه السلام: معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم.
ومنه المثل: كفى بالسلامة داء. وقول لبيد:
فدعوت ربى بالسلامة جاهدا ... ليصحنى فإذا السلامة داء «1»
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابى: أصحيح من الموت في عنقه. وقيل: أراد: إنى سقيم النفس لكفركم.
__________
(1) .
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء
فدعوت ربى بالسلامة جاهدا ... ليصحنى فإذا السلامة داء
للبيد بن ربيعة العامري، والقناة: الرمح، استعارها لاقامته أو قوته على طريق التصريح، والليونة والغمز:
ترشيح. والغمزى: الحبى باليد ويجوز أن الاستعارة تمثيلية في المركب، يصف قوته زمن الشباب، ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه، وأنه تطلب فسحة الأجل، فكانت سبب اضمحلاله.

(4/49)


فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون (91) ما لكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94)

[سورة الصافات (37) : الآيات 91 الى 93]
فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون (91) ما لكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93)
فراغ إلى آلهتهم فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، إلى آلهتهم: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله تعالى: أين شركائى؟ ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها فراغ عليهم فأقبل عليهم مستخفيا، كأنه قال: فضربهم ضربا لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم. أو فراغ عليهم يضربهم ضربا. أو فراغ عليهم ضربا بمعنى ضاربا. وقرئ: صفقا وسفقا، ومعناهما: الضرب. ومعنى ضربا باليمين ضربا شديدا قويا، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما. وقيل: بالقوة والمتانة: وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله تالله لأكيدن أصنامكم.

[سورة الصافات (37) : آية 94]
فأقبلوا إليه يزفون (94)
يزفون يسرعون، من زفيف النعام. ويزفون: من أزف، إذا دخل في الزفيف. أو من أزفه، إذا حمله على الزفيف، أى: يزف بعضهم بعضا. ويزفون، على البناء للمفعول، أى:
يحملون على الزفيف. ويزفون، من وزف يزف إذا أسرع. ويزفون: من زفاه إذا حداه «1» ، كأن بعضهم يزفوا بعضا لتسارعهم إليه، فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم كالتناقض حيث ذكر هاهنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر، ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. قلت:
فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية «2» من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم «سمعنا فتى يذكرهم» لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر. وقولهم: قالوا فأتوا به على أعين الناس.
__________
(1) . قوله «إذا حداه» أى ساقه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «والعلية» أى العظماء. (ع)

(4/50)


قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96)

[سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 96]
قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96)
والله خلقكم وما تعملون يعنى خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، كقوله بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن أى فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله معمولا لهم، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟
قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب «1» والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها الله، وعاملو أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت «2» أن تكون ما مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى:
والله خلقكم وعملكم، كما تقول المجبرة «3» ؟ قلت: أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه
__________
(1) . قال محمود: «يعنى خلقكم وما تعملون من الأصنام، كقوله بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن فان قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا لله تعالى معمولا لهم؟ وأجاب بأن هذا كما يقال: عمل النجار الباب ... إلى أن قال: ... وفي ذلك فك للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية» اه كلامه. قال أحمد: إذا جاء سيل الله ذهب سيل معقل، فنقول: يتعين حملها على المصدرية، وذلك أنهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة، فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها، ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر، فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم، ففي الحقيقة أنهم عبدوا عملهم، وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله، مع أن المعبود كسب العابد وعمله، فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه، فإذا أثبت ذلك فليتتبع كلامه بالابطال. أما قوله أنها موصولة، وأن المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر، فانه مفتقر إلى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره: والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته، بخلاف توجيه أهل السنة فانه غير مفتقر إلى حذف البتة، ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر، فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد، مع موافقته على أن جواهر الأصنام ليست من عملهم؟ فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل، وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم، فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد، وعلى ما قررناه يتضح. وأما قوله: إن المطابقة تنفك على تأويل أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح، فان لنا أن نحمل الأولى على أنها مصدرية وأنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم، لأن هذه الأصنام وهي حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها، فلما عملوا فيها النحت عبدوها، ففي الحقيقة ما عبدوا سوى تحتهم الذي هو عملهم، فالمطابقة إذا حاصلة، والإلزام على هذا أبلغ وأمتن، ولو كان كما قال لقامت لهم الحجة، ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله والله خلقكم وما تعملون بأن يقولوا: لا ولا كرامة، ولا يخلق الله ما نعمل نحن، لأنا إنما عملنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله، وكانوا يجدون الذريعة إلى اقتحام الحجة، ويأبى الله إلا أن تكون لنا الحجة البالغة ولهم الأكاذب الفارغة، فهذا إلزام بل إلجام لمن خالف السنة، وغل بعنقه، وعقر بكتفه، وضرب على يده، حتى يرجع إلى الحق آئبا، ويعترف بخطئه تائبا.
(2) . قوله «فان قلت فما أنكرت» ؟ لعله: لم أنكرت. (ع) [.....]
(3) . قوله «كما تقول المجبرة» يريد أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه لا خالق إلا الله، فهو الخالق لعمل العبد والمعتزلة يقولون: إن العبد هو الخالق لعمل نفسه، فجعلوا العبد شريكا لله في الخالقية، مع أنهم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، قالوا: لو كان الله هو الخالق لفعل العبد لكان تعذيبه للعبد على المعاصي ظلما لا عدلا، قال أهل السنة:
يعذبه عليها كما يثيبه على الطاعة، لما له فيهما من الكسب والاختيار، فلا ظلم، لكن المعتزلة لم ينظروا في التوحيد تمام النظر، ولم يتبصروا في أدلته تمام التبصر. (ع)

(4/51)


قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98) وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99) رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101)

بحجج العقل والكتاب: أن معنى الاية يأباه إباء جليا، وينبو عنه نبوا ظاهرا، وذلك أن الله عز وجل قد احتج عليهم بأن العابد والمعبود جميعا خلق الله، فكيف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصور نفسه ويشكلها، ولو قلت: والله خلقكم وخلق عملكم، ولم يكن محتجا عليهم «1» ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر: وهو أن قوله ما تعملون ترجمة عن قوله ما تنحتون وما في ما تنحتون موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن. فإن قلت: اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم. قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين، كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضا فإنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون، حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بما تنحتون: الأعيان التي هي الأصنام، وبما تعملون: المعاني التي هي الأعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية.

[سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98)
الجحيم النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم.
والمعنى: أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعا، وأذلهم بين يديه: أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم فمالوا إلى المكر، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 101]
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99) رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101)
أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام، كما قال:
__________
(1) . قوله «لم يكن محتجا عليهم» يكفى في الاحتجاج أن الله هو الخالق لهم ولأعمالهم في الأصنام وغيرها، والأصنام لا تخلق شيئا، بل الانفراد بالخالقية أدل على الانفراد بالالهية. (ع)

(4/52)


فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102)

إنى مهاجر إلى ربى. سيهدين سيرشدنى إلى ما فيه صلاحي في دينى ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام كلا إن معي ربي سيهدين كأن الله وعده وقال له: سأهديك، فأجزى كلامه على سنن موعد ربه. أو بناء على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده.
أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى عليه السلام عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. هب لي من الصالحين هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا قال عز وجل ووهبنا له إسحاق ويعقوب ووهبنا له يحيى وقال على بن أبى طالب لابن عباس رضى الله عنهم- حين هنأه بولده على أبى الأملاك-: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة الله، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما، وأى حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، ثم استسلم لذلك. وقيل: ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت الله به إبراهيم في قوله إن إبراهيم لأواه حليم، إن إبراهيم لحليم أواه منيب لأن الحادثة شهدت بحلمهما جميعا.

[سورة الصافات (37) : آية 102]
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102)
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: معه بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلفه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعى، ولا بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: فلما بلغ السعى أى الحد الذي يقدر فيه على السعى قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، فلهذا قال إني أرى في المنام أني أذبحك فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح

(4/53)


فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن ياإبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111)

ابنك هذا، فلما أصبح روى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟
فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل: إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له: أوف بنذرك فانظر ماذا ترى من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ: ماذا ترى «1» ، أى: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وماذا ترى، على البناء للمفعول، أى: ماذا تريك نفسك من الرأى افعل ما تؤمر أى ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به «2»
أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ: ما تؤمر به. فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله: ولأن المغافصة «3» بالذبح مما يستسمج، وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين، لأن الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.

[سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 111]
فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107)
وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111)
__________
(1) . قوله «وقرئ ماذا ترى» لعله بضم التاء وكسر الراء، من أراه يريه، فليحرر. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 590 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «المغافصة» في الصحاح: غافصت الرجل، أى: أخذته على غرة. (ع)

(4/54)


يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. وقد قرئ بهن جميعا إذا تنقاد له، وخضع، وأصلها من قولك: سلم هذا لفلان إذا خلص له. ومعناه: سلم من أن ينازع فيه، وقولهم: سلم لأمر الله، وأسلم له منقولان منه، وحقيقة معناهما: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى: استسلم: استخلص نفسه لله. وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه وتله للجبين صرعه على شقه، فوقع أحد جبينيه على الأرض تواضعا «1» على مباشرة الأمر بصبر وجلد، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان. وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم. فإن قلت: أين جواب لما؟ قلت: هو محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما، من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب، وقوله إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس البلاء المبين الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم. أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها. الذبح: اسم ما يذبح. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل. وعن الحسن: فدى بو على «2» أهبط عليه من ثبير. وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم»
عظيم ضخم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحى. وقوله عليه السلام «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» وقيل: لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم. وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه، فبقيت سنة في الرمي. وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده: وروى أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم عليه السلام: الله أكبر ولله الحمد «4» ، فبقى سنة: وحكى في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه وقال: يا بنى خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر، فقال: اشدد رباطى لا أضطرب، واكفف عنى ثيابك
__________
(1) . قوله «تواضعا على مباشرة الأمر» أى توافقا. (ع)
(2) . قوله «بو عل» في الصحاح: الوعل: الأروى اه، ويقال: التيس الجبلي. (ع)
(3) . لم أجده.
(4) . لم أجده.

(4/55)


لا ينتضح عليها شيء من دمى فينقص أجرى وتراه أمى فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقى حتى تجهز على، ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمى سلامى، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمى فافعل، فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بنى على أمر الله، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل. لأن الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهى فإنك إذا نظرت وجهى رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه، وأتى المنحر من منى فذبحه: وقيل: لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج. وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده: أنه يلزمه ذبح شاة، فإن قلت: من كان الذبيح من ولديه؟ قلت: قد اختلف فيه، فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من النابعين: أنه إسماعيل. والحجة فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابى: يا ابن الذبيحين، فتبسم، فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله: لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له أفد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل» «1» وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان مجتهد بنى إسرائيل يقول إذا دعا: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، فقال موسى عليه السلام: يا رب، ما لمجتهد بنى إسرائيل إذا دعا قال: اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل، وأنا بين أظهرهم فقد أسمعتنى كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال: يا موسى، لم يحبني أحد حب إبراهيم قط، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني. وأما إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه. وأما إسرائيل، فإنه لم ييأس من روحي في شدة نزلت به قط، ويدل عليه أن الله تعالى لما أتم قصة الذبيح قال: وبشرناه بإسحاق نبيا وعن محمد بن كعب أنه قال لعمر بن عبد العزيز:
هو إسماعيل، فقال عمر: إن هذا شيء ما كنت أنظر فيه، وإنى لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى يهودى قد أسلم فسأله، فقال: إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدى بنى إسماعيل إلى أن احترق البيت. وعن الأصمعى قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعى أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.
__________
(1) . أخرجه الحاكم والثعلبي من رواية الصنابحى عن معاوية رضى الله عنه وفيه قصة.

(4/56)


ومما يدل عليه أن الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله إنه كان صادق الوعد لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به، ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفا للموعد في يعقوب. وعن على بن أبى طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين: أنه إسحاق. والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به. ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله «1» . فإن قلت: قد أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: قد صدقت الرؤيا، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح «2»
__________
(1) . أخرجه الترمذي في النوادر في الحادي والعشرين بعد المائتين: حدثنا عمر بن أبى عمر حدثنا عصام بن المثنى الحمصي عن أبيه عن وهب بن منبه قال «كتب يعقوب كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من يعقوب نبى الله إلى آخره» وأخرج الدارقطني في غرائب مالك من رواية إسحاق بن وهب الطوسي عن ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه «أوحى إلى ملك الموت أن ائت يعقوب فسلم عليه فذكر الحديث- وفيه فقال:
اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فانا أهل بيت فذكره مطولا. قال الدارقطني: هذا موضوع. وإسحاق كان يضع الحديث على ابن وهب. وقد تقدم في يوسف من وجه آخر.
(2) . قال محمود: «فان قلت قد أوحى إلى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له: قد صدقت الرؤيا وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح، ولم يصح. فأجاب بأنه قد بذل وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه منع الشفرة أن تمضى فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ولا قل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام عليه. انتهى كلامه» قال أحمد: كل ما ذكر دندنة حول امتناع النسخ قبل التمكن من الفعل، وتلك قاعدة المعتزلة. وأما أهل السنة فيثبتون جوازه، لأن التكليف ثابت قبل التمكن من الفعل، فجاز رفعه كالموت. وأيضا فكل نسخ كذلك، لأن القدرة على الفعل عندنا مقارنة لا متقدمة، ثم يثبتون وقوعه بهذه الآية. ووجه الدليل منها أن إبراهيم عليه السلام أمر بالذبح بدليل افعل ما تؤمر ونسخ قبل التمكن بدليل العدول إلى الفداء، فمن ثم تحوم الزمخشري على أنه فعل غاية وسعه من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، وإنما امتنعت بأمر من الله تعالى، وغرضه بذلك أحد أمرين: إما أن يكون الأمر إنما توجه عليه بمقدمات الذبح وقد حصلت لا بنفس الذبح، أو توجه الأمر بنفس الذبح وتعاطيه، ولكن لم يتمكن. وكلا الأمرين لا يخلصه. أما قوله: أمر بمقدمات الذبح فباطل بقوله إني أرى في المنام أني أذبحك
وقوله افعل ما تؤمر وأما قوله: لم يتمكن لأن الشفرة منعت بأمر من الله تعالى بعد تسليم الأمر بالذبح، فحاصله أنه لم يتمكن من الذبح المأمور به، فكان النسخ إذا قبل التمكن، وهو عين ما أنكره المعتزلة، ولما لم يكن في هذين الجوابين لهم خلاص: لجأ بعضهم إلى تسليم أنه أمر بالذبح، ودعوى أنه ذبح ولكنه كان يلتحم، وهو باطل لا ثبوت له. وسياق الآية يخل دعواه ويفل ثنياه.

(4/57)


وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)

قلت. قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح: من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضى فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا، بل يسمى مطيعا ومجتهدا، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أوان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام، حتى يشتغل بالكلام فيه. فإن قلت: الله تعالى هو المفتدى منه: لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون فاديا حتى قال وفديناه؟ قلت: الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل وهب له الكبش ليفدى به وإنما قال وفديناه إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته. فإن قلت: فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح. فما معنى الفداء، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت: قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فرى الأوداج وانهار الدم، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل، ولكن في نفس الكبش بدلا منه. فإن قلت: فأى فائدة في تحصل تلك الحقيقة، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت: الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه. فإن قلت: لم قيل هاهنا كذلك نجزي المحسنين وفي غيرها من القصص: إنا كذلك؟ قلت: قد سبقه في هذه القصة: إنا كذلك، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية.

[سورة الصافات (37) : الآيات 112 الى 113]
وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)
نبيا حال مقدرة، كقوله تعالى فادخلوها خالدين. فإن قلت: فرق بين هذا وبين قوله فادخلوها خالدين وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت مقدرين الخلود فكان مستقيما، وليس كذلك المبشر به، فإنه معدوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة، لأن الحال حلية، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضا بوجوده، بل تراخت عنه مدة متطاولة، فكيف يجعل نبيا حالا مقدرة، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به، فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها «1» صفتهم، لأن المعنى مقدرين
__________
(1) . قوله «فتقديرها صفتهم» لعله: فتقديره. (ع)

(4/58)


ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122)

الخلود، وليس كذلك النبوة، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق. قلت: هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال:
أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك قولك: وبشرناه بوجود إسحاق نبيا، أى بأن يوجد مقدرة نبوته، فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، وبذلك يرجع، نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين. من الصالحين حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأن كل نبى لا بد أن يكون من الصالحين. وعن قتادة: بشره الله بنبوة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه، وهذا جواب من يقول الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه بقوله وبشرناه بإسحاق قالوا: ولا يجوز أن يبشره الله بمولده ونبوته معا، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبيا وباركنا عليه وعلى إسحاق وقرئ: وبركنا، أى: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، كقوله وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين وقيل: باركنا على إبراهيم في أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بنى إسرائيل من صلبه. وقوله وظالم لنفسه نظيره: قال ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجرى أمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118)
وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122)
من الكرب العظيم من الغرق. أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم «1» ونصرناهم الضمير لهما ولقومهما في قوله ونجيناهما وقومهما. الكتاب المستبين البليغ في بيانه وهو التوراة، كما قال إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور وقال: من جوز أن تكون التوراة
__________
(1) . قوله «وغشمهم» في الصحاح «الغشم» : الظلم. (ع) [.....]

(4/59)


وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125) الله ربكم ورب آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلام على إل ياسين (130) إنا كذلك نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132) وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الآخرين (136) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138)

عربية أن تشتق «1» من ورى الزند «فوعلة» منه، على أن التاء مبدلة من واو الصراط المستقيم صراط أهل الإسلام، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125) الله ربكم ورب آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127)
إلا عباد الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلام على إل ياسين (130) إنا كذلك نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132)
قرئ إلياس، بكسر الهمزة، والياس: على لفظ الوصل: وقيل: هو إدريس النبي. وقرأ ابن مسعود: وإن إدريس، في موضع إلياس. وقرئ: إدراس: وقيل: هو إلياس بن ياسين، من ولد هرون أخى موسى أتدعون بعلا أتعبدون بعلا، وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل.
وقيل: كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف- بعل- ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقيل: البعل الرب، بلغة اليمن، يقال: من بعل هذه الدار، أى: من ربها؟
والمعنى: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله الله ربكم ورب آبائكم قرئ بالرفع على الابتداء، وبالنصب على البدل، وكان حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع: وقرئ:
على الياسين. وإدريسين. وادراسين. وإدرسين، على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. وقرئ: على الياسين بالوصل، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه، كقولهم: الخبيبون والمهلبون. فإن قلت: فهلا حملت على هذا إلياسين على القطع وأخواته؟ قلت: لو كان جمعا لعرف بالألف واللام. وأما من قرأ: على آل ياسين، فعلى أن ياسين اسم أبى الياس، أضيف إليه الآل.

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الآخرين (136) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137)
وبالليل أفلا تعقلون (138)
__________
(1) . قوله «أن تشتق» لعله: يجوز أن تشتق. (ع)

(4/60)


وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)

مصبحين
داخلين في الصباح، يعنى: تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلا ونهارا، فما فيكم عقول تعتبرون بها.

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143)
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)
قرئ: يونس، بضم النون وكسرها. وسمى هربه من قومه بغير إذن ربه: إباقا على طريقة المجاز. والمساهمة: المقارعة. ويقال: استهم القوم، إذا اقترعوا. والمدحض: المغلوب المقروع.
وحقيقته: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روى أنه حين ركب في السفينة وقفت، فقالوا: هاهنا عبد أبق من سيده، وفيما يزعم البحارون أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس فقال: أنا الآبق، وزج بنفسه في الماء فالتقمه الحوت وهو مليم داخل في الملامة. يقال: رب لائم مليم، أى يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ: مليم، بفتح الميم، من ليم فهو مليم، كما جاء: مشيب في مشوب، مبنيا على شيب. ونحوه: مدعى، بناء على دعى من المسبحين من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس. وقيل: هو قوله في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقيل: من المصلين. وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة «1» . وعن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. قال:
وكان يقال: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا صرع وجد متكأ. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله، وإقباله على عبادته، وجمع همه لتقييد
__________
(1) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما- قوله ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة موقوفا

(4/61)


فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطان مبين (156) فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157)

نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد للبث في بطنه الظاهر لبثه فيه حيا إلى يوم البعث. وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة. وروى أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت: إنى جعلت بطنك له سجنا، ولم أجعله لك طعاما. واختلف في مقدار لبثه، فعن الكلبي: أربعون يوما، وعن الضحاك: عشرون يوما.
وعن عطاء سبعة. وعن بعضهم: ثلاثة. وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلا، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا: وروى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. والعراء: المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه وهو سقيم اعتل مما حل به. وروى أنه عاد بدنه كبدن الصبى حين يولد. واليقطين: كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل، وهو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل: هو الدباء. وفائدة الدباء أن الذباب لا يجتمع عنده- وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال «أجل هي شجرة أخى يونس» «1» وقيل: هي التين، وقيل: شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها.
وقيل: كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة «2» تختلف إليه، فيشرب من لبنها. وروى أنه مر زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحى الله إليه: بكيت على شجرة ولا تبكى على مائة ألف في يد الكافر، فإن قلت: ما معنى وأنبتنا عليه شجرة؟ قلت: أنبتناها فوقه مظلة له، كما يطنب البيت على الإنسان وأرسلناه إلى مائة ألف المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين. أو إلى غيرهم وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبى إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم، وقال لهم: إن الله باعث إليكم نبيا أو يزيدون في مرأى الناظر أى. إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر، والغرض: الوصف بالكثرة إلى حين إلى أجل مسمى وقرئ: ويزيدون، بالواو. وحتى حين.

[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 157]
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153)
ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطان مبين (156) فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157)
__________
(1) . لم أجده. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود في قصة يونس قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم ... واليقطين القرع.
(2) . قوله «وكانت وعلة» يقال: هي شاة جبلية. (ع)

(4/62)


فاستفتهم معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة: أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهم، واستنكافهم من ذكرهن.
ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر، أحدها: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني: تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، كما قال وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم، أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة. أو شكلك شكل النساء، للبس لقائله جلد النمر، ولانقلبت حماليقه «1» وذلك في أهاجيهم بين مكشوف، فكرر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرات، ودل على فظاعتها في آيات: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض، بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله، وجعلوا له من عباده جزءا، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، أم له البنات ولكم البنون، ويجعلون لله ما يكرهون، أصطفى البنات على البنين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون. فإن قلت. لم قال وهم شاهدون فخص علم المشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل، وكذلك قوله أشهدوا خلقهم ونحوه قوله ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر.
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وقرئ: ولد الله، أى الملائكة ولده. والولد
__________
(1) . قوله «ولانقلبت حماليقه» في الصحاح «حملاق العين» : باطن أجفانها الذي يسوده الكحل اه. (ع)

(4/63)


وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160)

«فعل» بمعنى مفعول، يقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. تقول: هذه ولدى، وهؤلاء ولدى. فإن قلت: أصطفى البنات بفتح الهمزة: استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبى جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت: جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم ولد الله وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضى الله عنهما. وهذه القراءة- وإن كان هذا محملها- فهي ضعيفة، والذي أضعفها: أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله وإنهم لكاذبون. ما لكم كيف تحكمون؟ فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. وقرئ تذكرون، من ذكر أم لكم سلطان أى حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله فأتوا بكتابكم
الذي أنزل عليكم في ذلك، كقوله تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، وإنكار فظيع، واستبعاد لأقاويلهم شديد، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش، وتجهيل نفوسها، واستركاك عقولها، مع استهزاء وتهكم وتعجيب، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدث به نفسا، فضلا أن يجعله معتقدا ويتظاهر به مذهبا.

[سورة الصافات (37) : الآيات 158 الى 160]
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160)
وجعلوا بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة نسبا وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى:
وجعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت:
لم سمى الملائكة جنة؟ قلت: قالوا الجنس واحد، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرا كله فهو شيطان، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك، فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم. وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله: أن تسوى بين الملك وبين بعض خواصه ومقربيه، فيقول لك: أتسوي بيني وبين عبدى. وإذا ذكره في غير هذا المقام وقره وكناه. والضمير في إنهم لمحضرون للكفرة. والمعنى: أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، والمراد المبالغة في التكذيب. حيث أضيف إلى علم الذين ادعوا لهم تلك النسبة.
وقيل: قالوا إن الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل: قالوا. إن الله والشيطان أخوان.

(4/64)


فإنكم وما تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163)

وعن الحسن: أشركوا الجن في طاعة الله. ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين: أن يكون الضمير في إنهم لمحضرون لهم، والمعنى أن الشياطين عالمون بأن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم إلا عباد الله المخلصين استثناء منقطع من المحضرين: معناه ولكن المخلصين ناجون. وسبحان الله: اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون، أى: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به.

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 163]
فإنكم وما تعبدون (161) ما أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163)
والضمير في عليه لله عز وجل ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت. يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم، من قولك يفتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن يكون الواو في وما تعبدون بمعنى مع، مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، وأن كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله فإنكم وما تعبدون لأن قوله وما تعبدون ساد مسد الخبر، لأن معناه: فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أى: فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها، ثم قال: ما أنتم عليه، أى على ما تعبدون بفاتنين بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال إلا من هو ضال مثلكم. أو يكون في أسلوب قوله:
فإنك والكتاب إلى على ... كدا بغة وقد حلم الأديم «1»
وقرأ الحسن: صال الجحيم، بضم اللام. وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون جمعا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف «فإن قلت» كيف استقام الجمع مع قوله من هو؟ قلت من موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالحون على معناه كما حمل في مواضع من التنزيل
__________
(1) . لعمرو بن العاص. وقيل للوليد بن عقبة بن أبى معيط، يحرض معاوية على حرب على بن أبى طالب، وحلم الجلد حلما، كتعب تعبا: إذا فسد ودود وتنقب. وحلم بالضم، حلما بالكسر: عفى مع القدرة. وحلم بالفتح، حلما بالضم: رأى في منامه شيئا. يقول: فإنك وكتابك الواصل إلى على ترجو به استقامته، كرجل كثير الدبغ للجلد، أو كامرأة دابغة له والحال أنه قد فسد ولم ينفع فيه الدبغ. والمقصود: تشبيه حالة بأخرى. ويجوز أن الواو للمعية لا للعطف، فالمعنى تشبيه معاوية بالدابغة.

(4/65)


وما منا إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166)

على لفظ من ومعناه في آية واحدة. والثاني أن يكون أصله صائل على القلب، ثم يقال صال في صائل، كقولهم شاك في شائك. والثالث أن تحذف لام صال تخفيفا ويجرى الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالة، وأصلها بالية من بالي، كعافية من عافى. ونظيره قراءة من قرأ:
وجنى الجنتين دان وله الجوار المنشآت بإجراء الإعراب على العين.

[سورة الصافات (37) : الآيات 164 الى 166]
وما منا إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166)
وما منا أحد إلا له مقام معلوم فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا «1»
بكفى كان من أرمى البشر «2»
مقام معلوم في العبادة، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روى: فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه لنحن الصافون نصف أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء. منتظرين ما نؤمر. وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل: إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين المسبحون المنزهون أو المصلون. والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله سبحان الله عما يصفون من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله ولقد علمت الجنة كأنه قيل: ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه، وقالوا للكفرة فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه وتضلوه، إلا من كان مثلكم ممن علم الله- لكفرهم، لا لتقديره وإرادته «3» ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- أنهم من أهل النار، وكيف نكون مناسبين لرب العزة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرا، خشوعا لعظمته
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 305 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 616 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «لا لتقديره وإرادته تعالى» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يقدر الشر ولا يريده. وقال أهل السنة: إن كل كائن فهو بقضاء الله وقدره كما بين في علم التوحيد. (ع)

(4/66)


وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)

وتواضعا لجلاله، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين، وكما يجب على العباد «1» لربهم. وقيل: هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى: وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 167 الى 170]
وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170)
هم مشركو قريش كانوا يقولون لو أن عندنا ذكرا أى كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ولما خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب، فكفروا به. ونحوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. وإن: هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه، فكم بين أول أمرهم وآخره.

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 173]
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)
الكلمة: قوله: إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدة، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة. وقرئ: كلماتنا: والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة، كما قال والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ولا يلزم انهزامهم «2» في بعض المشاهد، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة، وكفى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلا يحتذى عليها وعبرا يعتبر بها. وعن الحسن رحمه الله: ما غلب نبى في حرب ولا قتل فيها، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه: الظفر والنصرة- وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة- والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . قوله «وكما يجب على العباد لربهم» لعله كما يجب. كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «ولا يلزم انهزامهم» أى لا يرد نقضا للغلبة والنصر. (ع)

(4/67)


فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)

عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وفي قراءة ابن مسعود: على عبادنا، على تضمين سبقت معنى حقت.

[سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 175]
فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175)
فتول عنهم فأعرض عنهم وأغض «1» على أذاهم حتى حين إلى مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال. وعن السدى: إلى يوم بدر. وقيل إلى الموت. وقيل: إلى يوم القيامة وأبصرهم وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة: الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك.
وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله فسوف يبصرون للوعيد كما سلف لا للتبعيد.

[سورة الصافات (37) : الآيات 176 الى 179]
أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)
مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة، فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا، فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، وقرأ ابن مسعود: فبئس صباح. وقرئ: نزل بساحتهم، على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك: ذهب بزيد ونزل، على:
ونزل العذاب. والمعنى: فساء صباح المنذرين صباحهم، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا، لأن ساء وبئس يقتضيان ذلك. وقيل: هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة.
وعن أنس رضى الله عنه: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر- وكانوا خارجين إلى مزارعهم وممهم المساحي- قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه الصلاة والسلام:
«الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «2» وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف
__________
(1) . قوله «وأغض على أذاهم» في الصحاح «الاغضاء» : إدناء الجفون. (ع)
(2) . متفق عليه

(4/68)


سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182)

المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 180 الى 182]
سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182)
أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق، لاختصاصه بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، كقوله تعالى تعز من تشاء: اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه، وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد. وعن على رضى الله عنه: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه:
سبحان ربك رب العرة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبريء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» «2» .
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والثعلبي من رواية الأصبغ بن نباتة عن على موقوفا. ورواه ابن أبى حاتم من رواية الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرف عن أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/69)


ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2)

سورة ص
مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل ثمان وثمانون آية [نزلت بعد القمر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2)
ص على الوقف وهي أكثر القراءة. وقرئ بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله، كقولهم: الله لأفعلن، كذا بالنصب، أو بإضمار حرف القسم، والفتح في موضع الجر، كقولهم: الله لأفعلن، بالجر وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنها بمعنى السورة، وقد صرفها من قرأ ص بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل:
وقيل: فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة. ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه: ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت: قوله: ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كلام ظاهره متنافر غير منتظم، فما وجه انتظامه؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما:
أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدى والتنبيه على الإعجاز كما مر في أول الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدى عليه، كأنه قال والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون ص خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعنى: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذى الذكر، كما تقول:
هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذى الذكر إنه لمعجز، ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسما بها وعطفت عليها والقرآن ذي الذكر جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذى الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر: الشرف والشهرة، من قولك: فلان مذكور، وإنه

(4/70)


كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3)

لذكر لك ولقومك. أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد. والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما وتفاقمهما.
وقرئ: في غرة، أى: في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.

[سورة ص (38) : آية 3]
كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3)
كم أهلكنا وعيد لذوي العزة والشقاق فنادوا فدعوا واستغاثوا، وعن الحسن.
فنادوا بالتوبة ولات هي لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب، وثم للتوكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضيها: إما الاسم وإما الخبر، وامتنع بروزهما جميعا، وهذا مذهب الخليل وسيبويه. وعند الأخفش:
أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان. وحين مناص منصوب بها، كأنك قلت: ولا حين مناص لهم. وعنه: أن ما ينتصب بعده بفعل مضمر، أى: ولا أرى حين مناص، ويرتفع بالابتداء: أى ولا حين مناص كائن لهم، وعندهما أن النصب على: ولات الحين حين مناص أى وليس حين مناص، والرفع على ولات حين مناص حاصلا لهم.
وقرئ: حين مناص، بالكسر، ومثله قول أبى زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء «1»
فإن قلت: ما وجه الكسر في أوان؟ قلت: شبه بإذ في قوله: وأنت إذ صحيح، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين: لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت:
فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص، لأن
__________
(1) .
بعثوا حربنا عليهم وكانوا ... في مقام لو أبصروا ورخاء
ثم لما تشذرت وأنافت ... وتصلوا منها كريه الصلاء
طلبوا صلحتا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء
لأبى زبيد الطائي، استعار البعث للتسبب. وتنوين مقام ورخاء للتعظيم. والتشذر: التهيؤ للقتال، والتشمر بأطراف الثوب، والتطاول، والوعيد، والركوب من خلف المركوب. والانافة: الارتفاع، وكل هذا ترشيح لاستعارة البعث. ويجوز أنه شبه الحرب بفارس على طريق المكنية. والبعث والتشذر والانافة: تخييل. وشبهها بالنار أيضا فأثبت لهاء التصلى وهو التدفؤ بالنار تخييلا. أو استعار التصلى لاقتحام المكاره تصريحية، وطلبوا: جواب لما، أى: لما ذاقوا بأسنا طلبوا صلحنا، والحال أنه ليس الأوان أوان صلح، فأجبناهم بأن هذا ليس وقت بقاء، بل وقت فناء. وأوان: منى على الكسر لنية الاضافة. وقيل: إنه مبنى على الكسر أيضا لنية الاضافة، ونون للضرورة. وشبهه بنزال في الوزن. وقيل: مجرور على إضمار «من» الاستغراقية الزائدة. وزعم الفراء أن لات هنا حرف جر، وعليها فتنوين أوان للتمكين. وزعم الزمخشري أنه على البناء تنوين عوض، ورد بأنه لو كان كذلك لأعرب، وحين نصب على أنه خبر لات في بقاء، ثم تنزيلها منزلة نيتها في حين، لأن التقدير: أن لات حين بقائكم، وهو بعيد عن المعنى الجزل.

(4/71)


وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5)

أصله حين مناصهم منزلة قطعه من حين، لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضا من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن. وقرئ: ولات بكسر التاء على البناء، كجير. فإن قلت: كيف يوقف على لات؟ قلت: يوقف عليها بالتاء، كما يوقف على الفعل الذي يتصل به تاء التأنيث. وأما الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة.
وأما قول أبى عبيد: إن التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص: المنجا والفوت. يقال: ناصه ينوصه إذا فاته. واستناص: طلب المناص. قال حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه ... بيدي استناص ورام جري المسحل «1»

[سورة ص (38) : الآيات 4 الى 5]
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5)
منذر منهم رسول من أنفسهم وقال الكافرون ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغى الذين قال فيهم أولئك هم الكافرون حقا وهل ترى كفرا أعظم وجهلا أبلغ من أن يسموا من صدقه الله بوحيه كاذبا، ويتعجبوا من التوحيد، وهو الحق الذي لا يصح غيره، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته. روى أن إسلام عمر رضى الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحا شديدا، وشق على قريش وبلغ منهم، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبى طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا «2» ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الذين دخلوا في الإسلام، وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخى، هؤلاء قومك يسألونك السؤال «3» فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يسألوننى؟ قالوا ارفضنا
__________
(1) . لحارثة بن بدر، يصف فرسا بأنه كثير المجاراة لغيره من الأفراس، إذا قصرت: أى جذبت عنانه، استناص: أى طلب النوص والهرب والنجاء من الأعداء. وشبه الفرس بمن تصح منه الارادة على طريق المكنية، والروم تخييل، أى: أراد جريا كجرى السحل وهو حمار الوحش، سمي به لكثرة سحاله، أى شهيقه.
(2) . ذكره الثعلبي بغير سند. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم....... الحديث نحوه» وليس فيه أوله.
(3) . قوله «يسألونك السؤال فلا تمل» لعله السواء، كما في عبارة النسفي. (ع)

(4/72)


وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)

وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال عليه السلام: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطى أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقالوا: نعم وعشرا، أى نعطيكها وعشر كلمات معها، فقال: قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب أى: بليغ في العجب. وقرئ: عجاب، بالتشديد، كقوله تعالى مكرا كبارا وهو أبلغ من المخفف. ونظيره: كريم وكرام وكرام: وقوله أجعل الآلهة إلها واحدا مثل قوله وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم، كأنه قال: أجعل الجماعة واحدا في قوله، لأن ذلك في الفعل محال.

[سورة ص (38) : الآيات 6 الى 7]
وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)
الملأ أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض امشوا واصبروا فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد إن هذا الأمر لشيء يراد أى يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مرد له ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه: أو أن دينكم لشيء يراد، أى: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. وأن بمعنى أى، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول. ويجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أى أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها. ومنه: الماشية، للتفاؤل، كما قيل لها: الفاشية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» «ضموا فواشيكم» «2» ومعنى واصبروا على آلهتكم: واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها، وقرئ:
وانطلق الملأ منهم امشوا، بغير أن على إضمار القول. وعن ابن مسعود: وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا في الملة الآخرة في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل في الملة الآخرة حالا من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين.
والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
ما هذا إلا اختلاق أى: افتعال وكذب.
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من حديث جابر رضى الله عنه بلفظ «كفوا» وأصله في مسلم.
(2) . قوله «ضموا فواشيكم» بقيته في الصحاح: «حتى تذهب فحمة العشاء» (ع)

(4/73)


أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)

[سورة ص (38) : الآيات 8 الى 11]
أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)
أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوة من بينهم بل هم في شك من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم إن هذا إلا اختلاق كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد بل لما يذوقوا عذاب بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد «1» حينئذ، يعنى: أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه أم عندهم خزائن رحمة ربك يعنى ما هم بما لكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا، ويتخيروا للنبوة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها: العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا ثم رشح هذا المعنى فقال أم لهم ملك السماوات والأرض حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال:
وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا تحق له فليرتقوا في الأسباب فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله، وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خساءة «2» عن ذلك بقوله
__________
(1) . قال محمود: «معناه لم يذوقوه بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم ... الخ» قلت: ويؤخذ منه أن لما لائقة بالجواب، وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده، كما يقول سيبويه، وفرق بينها وبين لم بأن لم نفى لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد، ولما نفى لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته قد، وإنما ذكرت ذلك لأنى حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام «الشفعة فيما لم يقسم» فانى استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة، فقيل لي:
إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة، فاما أنها لا تقبل قسمة، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة «لم» ومقتضاها قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم» ولو قلت: الحجر لم يتكلم، لكان ركيكا من القول، لافهامه قبوله للكلام،
(2) . قوله «ثم خسأهم خسأة» في الصحاح: خسأت الكلب خسأ: طردته. وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)

(4/74)


كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15)

جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله، مهزوم مكسور عما قريب «1» فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون. وما مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره «2»
إلا أنه على سبيل الهزء، وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك.

[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15)
ذو الأوتاد أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال:
والبيت لا يبتنى إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد «3»
__________
(1) . قال محمود: «ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة فكانت عندهم المعرفة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا يستحق، فليرتقوا في المعارج والطرق الموصلة إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى، وينزلوا الوحى على من يختارونه.
قال: ثم خسأهم بقوله جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب معناه: إن هؤلاء إلا جند متحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم عما قليل يهزمون ويولون الأدبار» قال أحمد: الاستواء المنسوب لله: ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج والوصول إلى العرش والاستقرار عليه والتمكن فوقه، لأن الاستواء المنسوب إلى الله تعالى ليس استواء استقرار بجسم- تعالى الله عن ذلك- وإنما هو صفة فعل، أى فعل فيه فعلا سماء استواء، هذا تأويل القاضي أبى بكر.
وليست عبارة الزمخشري في هذا الفصل مطابقة للمفصل على جارى عاداته في تحرير العبارة على مراده.
(2) .
جد بالوفاق لمشتاق إلى سهره ... إن لم تجد فحديث ما على قصره
المراد بالوفاق: الوصال. وضمير «سهره» للمشتاق أو للوفاق. وحديث: مبتدأ خبره محذوف، أى: تجود به.
وما زائدة التعميم. ويجوز أنها للتعظيم. لكن الأول أوفق بالمقام. وعلى بمعنى مع، وضمير «قصره» : للحديث.
(3) .
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فان تجمع أسباب وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
للرافدة الأودى، يقول: لا ينال الأمر إلا بتوافر أسبابه، فالبيت من باب التمثيل: شبه توقف الأمر على أسبابه وتوقف أسبابه على أسبابها، يتوقف ضرب الخيمة على انتصاب الأعمدة، وتوقف انتصابها على إثبات الأوتاد المشدودة بالحبال، ثم قال: فان اجتمعت الحبال المشدودة بالأوتاد الثابتة وانتصبت الأعمدة ووجد الساكن بلغ مراده، وهو بمعنى الجمع، فصح جمع ضميره، وكاده كيدا عالجه علاجا، أى: بلغوا الأمر الذي كادوه، أي عالجوه لتحصيله.

(4/75)


فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد «1»
وقيل: كان يشبح «2» المعذب بين أربع سوار: كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه أولئك الأحزاب قصد بهذه لإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب «3» .
ولقد ذكر تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها:
بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا وبالاستثنائية ثانيا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه، ثم قال فحق عقاب أى فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم هؤلاء أهل مكة. ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب
__________
(1) .
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد أياد
جرت الرياح على مقر ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهي به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد
للأسود بن يعفر. يقول: لا أتمنى شيئا بعدهم من الدنيا. ومحرق: هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدى اللخمي.
والاياد- في الأصل-: تراب يجمع حول الحوض والبيت، يحفظه عن المطر والسيول، من الأيدى: وهو القوة.
وإياد: علم على ابن نزار بن معد، فهو أخو مضر وربيعة. والمراد به هنا القبيلة. وروى: وآل إياد، عطفا على آل محرق. وغنى بالمكان، كرضى: أقام به. والبلى: الانمحاق. والنفاد: الفناء. يقول: تركوا منازلهم:
جملة مستأنفة لبيان نفى التأميل، واعتراضية بين المتعاطفين. وقوله «جرت الرياح» مستأنف لبيان حال القبيلتين، يقول: تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم، وجريان الرياح على مقر الديار، لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح، وذلك كناية عن موتهم، وأفاد أن فناءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله: فكأنهم كانوا على ميعاد واحد، ولقد أقاموا بأرغد عيشة، وشبه الملك الذي به عزهم وصونهم بخيمة مضروبة عليهم، والظل: الترشيح، والأوتاد تخييل. وإذا معناها المفاجأة. أى فظهر بغتة أن كل نعيم لا محالة زائل، أى: فأدركهم المحاق والفناء.
(2) . قوله «وقيل كان يشبح المعذب» أى يمده، أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «قصد بهذه الاشارة الاعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم الذين وجد التكذيب منهم» قال أحمد: وفي تكرار تكذيبهم فائدة أخرى: وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلي قوله تعالى فحق عقاب على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام وهو كما قدمته في قوله وكذب موسى حيث كرر الفعل ليقترن بقوله فأمليت للكافرين.

(4/76)


وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16) اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)

لاستحضارهم بالذكر. أو لأنهم كالحضور عند الله. والصيحة: النفخة ما لها من فواق وقرئ بالضم: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع. يعنى: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة وعن ابن عباس: مالها من رجوع، وترداد، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة: ساعة ترجع الدر إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

[سورة ص (38) : آية 16]
وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16)
القط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة:
قط، لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى عجل لنا قطنا أى نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب وقيل: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين الجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها. أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.

[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 20]
اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)
فإن قلت: كيف تطابق قوله اصبر على ما يقولون وقوله واذكر عبدنا داود حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبى من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوة والملك، لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب «1» ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم: اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقى من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقى ذا الأيد ذا القوة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه، كان على نهوضه بأعباء
__________
(1) . قوله «وغمه الواصب» أى: الدائم. (ع)

(4/77)


النبوة والملك يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشد الصوم، ويقوم نصف الليل. يقال: فلان أيد، وذو أيد، وذو آد. وأياد كل شيء: ما يتقوى به أواب تواب رجاع إلى مرضاة الله فإن قلت: ما ذلك على أن الأيد القوة في الدين؟ قلت: قوله تعالى إنه أواب لأنه تعليل لذي الأيد والإشراق وقت الإشراق، وهو حين تشرق الشمس، أى: تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق «1» . وعن أم هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق «2» . وعن طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقال: كانت صلاة يصليها داود عليه السلام. وعنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.
وعنه: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية يسبحن بالعشي والإشراق وكان لا يصلى صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب أنه قال لابن عباس: إنى لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى، يعنى هذه الآية. ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق، ومنه قوله تعالى فأخذتهم الصيحة مشرقين وقول أهل الجاهلية: أشرق «3» ثبير، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق. ويسبحن: في معنى ومسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات «4» ؟ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك، وهو الدلالة
__________
(1) . قال محمود: «الاشراق حين تشرق الشمس، أى يصفو نورها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها.
يقال: شرقت الشمس ولما تشرق. ومنه أخذ ابن عباس صلاة الضحى. قال: ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في وقت الشروق، ويكون المراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بشروق الشمس» قال أحمد: الوجه الثاني يفرق بين العشى والاشراق، فان العشى ظرف بلا إشكال، فلو حمل الاشراق على الدخول في وقت الشروق لكان مصدرا، مع أن المراد به الظرف، لأنه فعل الشمس وصفتها التي تستعمل ظرفا كالطلوع والغروب وشبههما.
(2) . أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي والبغوي والطبراني كلهم من رواية أبى بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس: حدثتني أم هانئ. ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس «كان لا يصلى الضحى حتى أدخلناه على أم هانئ فقلت لها: أخبرى ابن عباس قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فصلى صلاة الضحى ثمان ركعات. قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: هذه صلاة الاشراق» هذا موقوف وهو أصح.
(3) . قوله «أشرق ثبير» كانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، كما في الصحاح. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت لم اختار يسبحن على مسبحات وأيهما وقع كان حالا، وأجاب بأن اختيارهما لمعنى وهو الدلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء كأن السامع محاضر لها فيسمعها تسبح. ومنه قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق
ولو قال: محرقة لم يكن شيئا. قال أحمد: ولهذه النكتة فرق سحنون من أصحابنا بين: أنا محرم يوم أفعل كذا «بصيغة اسم الفاعل. وبين أحرم بصيغة المضارع. فرأى أن المعلق بصيغة اسم الفاعل يكون محرما بوجود صيغة التعليق، ولا كذلك المعلق بصيغة الفعل المضارع، فانه لا يكون محرما حتى يحرم ويقال له أحرم، فكأنه رأى أن صيغة الفعل خصوصية في الدلالة على حدوثه، ولا كذلك اسم الفاعل وإن كان متأخرا. وأصحابنا اختلفوا في معنى قول سحنون في اسم الفاعل يكون محرما يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد الفور فينشئ إحراما، ومنهم من قال: يكون محرما في الحال بالتعليق الأول ولا يجدد شيئا. ومذهب مالك: التسوية بين صيغتي اسم الفاعل والفعل في هذا المقام والله أعلم. وحقق الزمخشري هذا الفرق بين اسم الفاعل والفعل في قوله والطير محشورة كل له أواب فقال:
لما كان الواقع حشر الطير دفعة واحدة، وكان ذلك أدل على القدرة، لم يكن لاستعمال الفعل الدال على الحدوث شيئا فشيئا معنى، فاستعمل فيه اسم المفعول على خلاف استعمال الفعل في الأول.

(4/78)


على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق «1»
ولو قال: محرقة، لم يكن شيئا. وقوله محشورة في مقابلة: يسبحن: إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا.
وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن- على أن الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء.
والحاشر هو الله عز وجل- لكان خلفا، لأن حشرها جملة واحدة أدل على القدرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: والطير محشورة. بالرفع كل له أواب كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أى: لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأواب موضع المسبح: إما لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب- وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير لله، أى: كل من داود والجبال والطير لله أؤاب، أى مسبح مرجع للتسبيح وشددنا ملكه قويناه، قال تعالى سنشد عضدك وقرئ شددنا على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم «2» يحرسونه وقيل:
الذي شد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أن رجلا ادعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى إليه في المنام: أن اقتل المدعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال: إن الله عز وجل لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فقتله،
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثالث صفحة 63 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «مستلئم» أى: لا بس اللأمة، وهي الدرع. أفاده الصحاح. (ع)

(4/79)


وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22)

فهابوه الحكمة الزبور وعلم الشرائع. وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة. الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل، بمعنى المفصول كضرب الأمير، لأنهم قالوا: كلام ملتبس، وفي كلامه لبس. والملتبس: المختلط، فقيل في نقيضه: فصل، أى مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه: أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله فويل للمصلين إلا موصولا بما بعده، ولا والله يعلم وأنتم حتى يصله بقوله لا تعلمون ونحو ذلك، وكذلك مظان العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وأردت بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه. هو قوله: البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله «أما بعد» لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه: فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل. ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل لا نذر ولا هذر «1» .

[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 22]
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22)
كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل، فتزوجها وهي أم سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك: لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر
__________
(1) . هو حديث أم معيد. وقد تقدم في سورة الأعراف، وفي الأدب لأبى داود من حديث عائشة «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلا يفهمه من سمعه» .

(4/80)


على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأما ما يذكر أن داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلى ابراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا، فاحترس، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمد يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتد إليها، فطارت فوقعت في كوة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء، «1» فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء. أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد، ففتح الله على يده وسلم، فأمر برده مرة أخرى، وثالثة، حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، «2» فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد ابن المسيب والحرث الأعور: أن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء «3» . وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك.
وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر:
لسماعى هذا الكلام أحب إلى مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطإ فيه من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا
__________
(1) . قوله «من غزاة البلقاء» في الصحاح: مدينة بالشام. (ع)
(2) . قوله «من أفناء المسلمين» في الصحاح: يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو. وعبارة النسفي بدل قوله: فهذا ونحوه ... الخ: فلا يليق من المتسمين ... الخ. (ع)
(3) . لم أجده

(4/81)


وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله ومقياسا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟
قلت: ليحكم بما حكم به من قوله لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه وهل أتاك نبأ الخصم ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم:
الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع، كالضيف. قال الله تعالى حديث ضيف إبراهيم المكرمين لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصما، كما تقول: ضافه ضيفا. فإن قلت:
هذا جمع. وقوله خصمان تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: خصمان بغى بعضهم على بعض: ونحوه قوله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم. فإن قلت: فما تصنع بقوله إن هذا أخي وهو دليل على اثنين؟
قلت: هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت: فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعا خصما في قوله نبأ الخصم وخصمان؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب إذ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبإ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك، لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبإ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبإ: القصة في نفسها لم يكن ناصبا، فبقى أن ينتصب بمحذوف، وتقديره:
وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى تسوروا المحراب تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية: تسنمه، إذ علا سنامه، وتذراه: إذا علا ذروته. روى أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهم قال ابن عباس: إن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بنى إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم، ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه خصمان

(4/82)


إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23)

خبر مبتدإ محذوف، أى: نحن خصمان ولا تشطط ولا تجر. وقرئ: ولا تشطط، أى:
ولا تبعد عن الحق. وقرئ: ولا تشطط. ولا تشاطط، وكلها من معنى الشطط: وهو مجاوزة الحد وتخطى الحق. وسواء الصراط وسطه ومحجته: ضربه مثلا لعين الحق ومحضه.

[سورة ص (38) : آية 23]
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23)
أخي بدل من هذا أو خبر لإن. والمراد أخوة الدين، أو أخوة الصداقة والألفة، أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى وإن كثيرا من الخلطاء كل واحدة من هذه الأخوات تدلى بحق مانع من الاعتداء والظلم. وقرئ: تسع وتسعون، بفتح التاء. ونعجة، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات، نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة «1» أكفلنيها ملكنيها.
وحقيقته: اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وعزني وغلبني. يقال: عزه يعزه. قال:
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح «2»
يريد: جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به. وأراد بالخطاب: مخاطبة المحاج المجادل:
أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا، أى: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث زوجها دوني. وقرئ: وعازني، من المعازة وهي المغالبة. وقرأ أبو حيوة: وعزنى، بتخفيف الزاى طلبا للخفة، وهو تخفيف غريب، وكأنه قاسه على نحو: ظلت، ومست. فإن قلت: ما معنى ذكر النعاج؟ قلت: كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلا وكلامهم تمثيلا، لأن التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا، وللتنبيه على أمر يستحيا من كشفه، فيكنى عنه كما يكنى عما يستسمج الإفصاح به، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته. ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ
__________
(1) . قوله «نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة» في الصحاح: «النطع» فيه أربع لغات. وفيه «اللقوة» : داء في الوجه، والناقة السريعة اللقاح، والعقاب: الأنثى، واللقوة- بالكسر-: مثله. (ع)
(2) .
كأن القلب ليلة قيل يفدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
لقيص بن الملوح مجنون ليلى العامرية، وقطاة: خبر كأن. وعزها: بمهملة فمعجمة، بمعنى: غلبها وحبسها، يقال:
عز يعز بالكسر: تعظم، وبالفتح: قوى. وعزه يعزه- بالضم-: غلبه، وما هنا من الثالث: شبه قلبه حين سمع برحيلها بحمامة أمسك الشرك جناحها في كثرة الخفقان والاضطراب. [.....]

(4/83)


مراده، والدليل عليه قوله وإن كثيرا من الخلطاء وإنما خص هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة. فإن قلت: إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم. قلت: الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله:
يا شاة ما قنص لمن حلت له «1»
فرميت غفلة عينه عن شاته «2»
وشبهها بالنعجة من قال:
كنعاج الملا تعسفن رملا «3»
__________
(1) .
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت على وليتها لم تحرم
لعنترة من معلقته يتذكر محبوبته بعد وقوع الحرب بينه وبين قبيلتها، فلذلك حرمت عليه. وقيل: كان تزوجها أبوه فحرمت عليه، شبهها بالشاة الوحشية في الحسن والجمال والفرة عن الرجال، وأن كلا يصطاد بالاحتيال على طريق الاستعارة التصريحية، وذكر القنص ترشيح، لأنه يلائم الشاة. وما زائدة، أى يا شاة القنص تعالى، فهذا وقت التفكر في شأنك. وقيل: المنادى محذوف، أى: يا قوم أحضروا شاة قنص، وتعجبوا من حالها. والقنص:
الصيد، والقنص- بالتحريك- والقنيص: المصيد. ويروى: يا شاة من قنص، فقيل: من زائدة، بناء على مذهب الكوفيين، من جواز زيادة الأسماء. وقيل: نكرة موصوفة. وقنص صفتها من باب الوصف بالمصدر، أى:
يا شاة إنسان قابص. ولمن حلت: متعلق بمحذوف صفة لها، وحرمت على: التفات على القول بندائها، وهو صفة لها، أو استئناف بين به شأنها، وتمنى عدم حرمتها: ندم على ما وقع من سبب الحرمة.
(2) .
قد كنت رائدها وشاة محاذر ... حذر يقل بعينه إغفالها
فظللت أرعاها وظل يحوطها ... حتى دنوت إذا الظلام دنا لها
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلها وطحالها
للأعشى. وقيل: لعمر بن أبى ربيعة. وضمير رائدها مرجعه في البيت قبله كامرأة أو مفازة، ثم قال: ورب شاة رجل محاذر، فاستعار الشاة للمرأة الجميلة على طريق التصريحية. والمحاذر: الذي يحاذر غيره ويخاف مكره. والحذر:
كثير الحذر مستمره، يقل: بضم أوله، من أقل الرباعي. وإغفالها، أى: إغفال عينه، فظللت أراقب الشاة وظل هو يحفظها، حتى قربت لها حين قرب الظلام ودخل الليل، فرميت شاته حين غفلة عينه عن شاته التي كان يحفظها وفيه نوع تهكم به، وأضاف الغفلة إلى العين دون الشخص لأنها المذكورة أولا، وللدلالة على قصر الزمن وسرعة الظفر، ولأن القلب لا يغفل عنها لعزتها عنده، بل يذكرها في النوم. وأما العين فتغفل، فأصبت حبة ملبها أى وسطه، وأصبت طحالها، والرمي ترشيح للاستعارة، لأنه من ملائمات الشاة. ويصح أن يكون هذا البيت استعارة تمثيلية، حيث شبه حالة ظفره بمراده على حين غفلة من الرقيب وإصابة أحشاء المرأة بالحب، بحال من ظفر برمي الشاة بالسهم على غفلة من الراعي، بل يصح أن يكون قوله: وشاة محاذر ... إلى آخر الأبيات: استعارة تمثيلية لتلك الحال، ولا استعارة في الشاة وحدها على هذا.
(3) .
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الفلا تعسفن رملا
وتنقبن بالحرير وأبدين ... عيونا حور المداعج نجلا
لعمر بن أبى ربيعة. وزهر: عطف على ضمير الفاعل المتصل، ومجيئه بلا فصل قليل. وتهادى: أصله تتهادى، حذف منه إحدى التاءين، وهو صفة زهر. وشبههن بالنعاج الوحشية في حسن المشية وسعة العيون وسوادها.
والزهر: جمع زهراء، أى: بيضاء، والفلا: القفر الخالي. والتعسف: الميل عن سواء السبيل، وهو حال من النعاج. ورملا: نصب على نزع الخافض، أى: تمايلن في رمل. وتنقبت المرأة: لبست النقاب. وحور: جمع حوراء، أى: صافيات. والمداعج: الحدقات، من الدعج وهو اتساع سواد العين. والنجل: جمع نجلاء، أى: واسعات.

(4/84)


لولا أن الخلطاء تأباه، إلا أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلا لهم ولقصتهم «1» . فإن قلت.
الملائكة عليهم السلام كيف صح منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يتلبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت: هو تصوير للمسألة وفرض لها، فصوروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسى، كما تقول في تصوير المسائل: زيد له أربعون شاة، وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد «2» وتقول أيضا في تصويرها: لي أربعون شاة وأربعون فخلطناها. وما لكما من الأربعين أربعة ولاربعها فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى «3» ؟ قلت: يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة. والمعنى: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله:
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة، فان كان من الخطبة فما وجهه؟ قال: الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة، كما استعاروا لها الشاة في قوله:
يا شاة ما قنص لمن حلت له
إلا أن لفظ الخلطاء يأباه: اللهم إلا أن يكون ابتداء مثل من داود عليه السلام» قال أحمد: والفرق بين التمثيل والاستعارة: أنه على التمثيل، يكون الذي سبق إلى فهم داود عليه السلام: أن التحاكم على ظاهره، وهو التخاصم في النعاج التي هي الهائم، ثم انتقل بواسطة التنبيه إلى فهم أنه تمثيل لحاله. وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما: التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية، ثم استشعر أنه هو المراد بذلك.
(2) . قوله «وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد» في الصحاح: ما له سبد ولا لبد، أى: لا قليل ولا كثير.
والسبد: من الشعر، واللبد: من الصوف. (ع)
(3) . قال محمود: «فان قلت: فما وجه قراءة ابن مسعود: ولي نعجة أنثى. وأجاب بأنه يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، ومعناه: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها. ألا ترى إلى وصفهم إياها بالكسول والمكسال، كقوله:
فتور القيام قطيع الكلام
قال أحمد: ولكن قوله ولي نعجة إنما أورده على سبيل التقليل لما عنده والتحقير، ليستجل على خصمه بالبغي لطلبه هذا القليل الحقير وعنده الجم الغفير، فكيف يليق وصف ما عنده والمراد تقليله بصفة الحسن التي توجب إقامة عذر ما لخصمه، ولذلك جاءت القراءة المشهورة على الاقتصار على ذكر النعجة، وتأكيد قلتها بقوله واحدة فهذا إشكال على قراءة ابن مسعود، يمكن الجواب عنه بأن القصة الواقعة لما كانت امرأة أوريا الممثلة بالنعجة فيها مشهورة بالحسن، وصف مثالها في قصة الخصمين بالحسن زيادة في التطبيق، لتأكيد التنبيه على أنه هو المراد بالتمثيل.

(4/85)


قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)

فتور القيام قطيع الكلام «1»
وقوله:
تمشى رويدا تكاد تنغرف «2»

[سورة ص (38) : الآيات 24 الى 25]
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)
لقد ظلمك جواب قسم محذوف. وفي ذلك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه.
والسؤال: مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله تعالى من دعاء الخير وقد ضمن معنى الإضافة فعدى تعديتها، كأنه قيل بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب. فإن قلت:
كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه «3» ؟ قلت: ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم. ويروى أنه قال: أنا أريد أن
__________
(1) .
فتور القيام قطوع الكلام ... لعوب العشاء إذا لم تنم
تبذ النساء بحسن الحديث ودل رخيم وخلق عمم
الفترة: ضعف حركة الأعضاء في العمل، فهي كثيرة الفترة في القيام. وقطوع الكلام: أى قليلته، أو كأنها لا تقدر على إتمام الألفاظ للينها واستحيائها، فكأنها تقطعها تقطيعا، كثيرة اللعب في وقت العشاء مع زوجها، وإذا لم تنم: إشارة إلى أنها قد تنام من أول الليل، وهو وصف لها بالكسل الذي هو من توابع اللين والأنوثة.
وبذ الرجل: إذا ساء خلقه ورث حاله وبذه الرجل: إذا غلبه، أى تغلبهن بحسن الحديث، والدل والدلال، والتيه، والتغنج، والتشكل، والتكسر، والرخاوة، والرخامة، ورقة الصوت ولينه، والتمنع مع الرضاء. واعتم النبت: طال، واعتم الشيء: تم، وجسم عميم: تام، والجمع عمم، كسرير وسرر، ورجل عمم- بالافراد-:
أى تام، فالمراد أن خلقها أى جسمها تام حسن.
(2) .
ما أنس سلمى غداة تنصرف ... تمشى رويدا تكاد تنغرف
حذف ألف أنس للوزن، أى: لا أنساها، بل أتذكرها وقت انصرافها، وتمشى: بدل مما قبله. وعبر بالمضارع لاستحضار الصورة المستحسنة. ورويدا: نصب بتمش، أى: مشيا بتؤدة وأناة، تكاد تنغرف: أى تنقطع وتنكسر.
وغرفته فانغرف. قطعته فانقطع، أو تكاد تؤخذ من الأرض، كما يغرف الماء باليد، فكأنها ماء لتنكلها وتقطعها في تبخترها. وفرس غروف: كثير الأخذ من الأرض بقوائمه.
(3) . قال محمود: «فان قلت كيف سارع بتصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، وأجاب بأن ذلك كان بعد اعتراف خصمه ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم» قال أحمد: ويحتمل أن يكون ذلك من داود على سبيل الفرض والتقدير، أى: إن صح ذلك فقد ظلمك.

(4/86)


آخذها منه وأكمل نعاجى مائة، فقال داود: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة، فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما وقع فيه والخلطاء الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد: خليط، وهي الخلطة، وقد غلبت في الماشية، والشافعي رحمه الله يعتبرها، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة، أو لكل واحد منهما ماشية على حدة إلا أن مراحهما ومساقهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة: فهما يزكيان زكاة الواحد فإن كان لهما أربعون شاة فعليهما شاة. وإن كانوا ثلاثة ولهم مائة وعشرون لكل واحد وأربعون، فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد. وعند أبى حنيفة: لا تعتبر الخلطة، والخليط والمنفرد عنده واحد، ففي أربعين بين خليطين: لا شيء عنده، وفي مائة وعشرين بين ثلاثة: ثلاث شياه. فإن قلت: فهذه الخلطة ما تقول فيها؟ قلت: عليهما شاة واحدة، فيجب على ذى النعجة أداء جزء من مائة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله، وعند أبى حنيفة لا شيء عليه، فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ: ليبغى بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة، وحذفها كقوله:
اضرب عنك الهموم طارقها «1»
وهو جواب قسم محذوف. وليبغ: بحذف الياء، اكتفاء منها بالكسرة، وما في وقليل ما هم للإبهام. وفيه تعجب من قلتهم. وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها، من قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره «2»
__________
(1) .
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس
لطرفة بن العبد، وقال أبو حاتم وابن برى: هو مصنوع عليه. واضرب فعل أمر بنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة تقديرا، وحذفها لغير وقف ولالتقاء الساكنين قليل. وقيل ضرورة كما هنا. والمعنى: ادفع عنك الهموم، فهو استعارة مضرحة. وضربك بالسوط، أى: كضربك به ترشيح، وطارقها: بدل من الهموم، أى الفاشي لك منها، والسوط: معمول من جلد تساق به الفرس. ويروى: بالسيف، لكنه غير ملائم للفرس، بل للفارس. وقونسها: أعلى رأسها. وقيل: شعر عنقها. ويجوز تشبيه الهموم بحيوان يصح ضربه على طريق المكنية، والضرب تخييل، والطروق ترشيح.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 75 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/87)


وانظر هل بقي له معنى قط. لما كان الظن الغالب يدانى العلم، استعير له. ومعناه: وعلم داود وأيقن أنما فتناه أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا، هل يثبت أو يزل؟ وقرئ: فتناه، بالتشديد للمبالغة. وأفتناه، من قوله:
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت «1»
وفتناه وفتناه، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحنى ويخضع كالساجد. وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أن الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى: وخر للسجود راكعا أى مصليا، لأن الركوع يجعل عبارة عن الصلاة وأناب ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل. وروى أنه بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها. وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته «2»
__________
(1) .
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلى كل مسلم
وألقى مصابيح القراءة واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
للأعشى الهمداني. وفتنته المرأة- بالتخفيف والتشديد- وأفتنته: دلهته وحيرته. و «لهى بالأمس أفتنت» جواب القسم المدلول عليه باللام في قوله: لئن فتنتني. وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. والمعنى: إن فتنتني فلا أحزن ولا أتعجب، فان تلك عادتها من قبل، فالمراد بالأمس: الزمن الماضي. وسعيد: هو ابن جبير، كان عالما تقيا. وقلى كل مسلم، أى: بغض كل مسلم سواها. وعبر بالمسلم، لأنه يبعد بغضه. والمصابيح: يجوز أنها حقيقة، وأنها مجاز عن الكتب. والغواني: الجميلات. والمنمنم: المحسن بنقوش الكتابة.
(2) . قال محمود: «ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهاتر والسراري والثاني معسرا وماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وفزع داود، وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه إلى الظلم قبل مسألته» قال أحمد: مقصود هذا القائل تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة في نسبة الظلم إلى المدعى عليه، لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون الباعث عليه الشهوة والهوى، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس، وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: داود وغيره- منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤن من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى.

(4/88)


ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)

[سورة ص (38) : آية 26]
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)
خليفة في الأرض أى استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه. وجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير فاحكم بين الناس بالحق أى بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته ولا تتبع هوى النفس في قضائك وغيره مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا فيضلك الهوى فيكون سببا لضلالك عن سبيل الله عن دلائله التي نصبها في العقول، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها.
ويوم الحساب متعلق بنسوا، أى: بنسيانهم يوم الحساب، أو بقوله لهم، أى: لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله. وعن بعض خلفاء بنى مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجرى عليه القلم ولا تكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية.

[سورة ص (38) : آية 27]
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)
باطلا خلقا باطلا، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة. أو مبطلين عابثين، كقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وتقديره: ذوى باطل.
أو عبثا، فوضع باطلا موضعه، كما وضعوا هنيئا موضع المدر، وهو صفة، أى ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أن خلقناها نفوسا «1» أودعناها العقل
__________
(1) . قوله «وهو أن خلقنا نفوسا» عبارة النسفي: وهو أنا خلقنا نفوسا. (ع) [.....]

(4/89)


أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب (29)

والتمييز، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم. وذلك إشارة إلى خلقها باطلا، والظن: بمعنى المظنون، أى: خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا. فإن قلت: إذا كانوا مقرين بأن الله خالق السماوات والأرض وما بينهما بدليل قوله: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة. قلت: لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب، مؤديا إلى أن خلقها عبث وباطل، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه، لأن الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، فكان إقراره بكونه خالقا كلا إقرار.

[سورة ص (38) : آية 28]
أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)
أم منقطعة. ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمراد: أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد، وأتقى وفجر، ومن سوى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما.

[سورة ص (38) : آية 29]
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (29)
وقرئ: مباركا، وليتدبروا: على الأصل، ولتدبروا: على الخطاب. وتدبر الآيات:
التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدى إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلو، لم يحل منه بكثير طائل، «1» وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله: حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، «2» لا كثر
__________
(1) . قوله لم يحل منه بكثير طائل» في الصحاح: قولهم «لم يحل منه بطائل» أى: لم يستفد منه كبير فائدة وفيه: اللقح- بالكسر-: الإبل بأعيانها، الواحدة: لقوح، وهي الحلوب، مثل: فلوص وقلاص: واللقحة:
اللقوح، والجمع لقح مثل قربة قرب، وفيه: ناقة درور، أى: كثيرة اللبن. وفيه: النثور، أى: كثيرة الولد.
(2) . قوله «ولا الوزعة» جمع وازع، وهو الذي يكف عن الضرر، والذي يتقدم الصف فيصلحه بالتقديم والتأخير. أفاده الصحاح. (ع)

(4/90)


ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)

الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.

[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33)
وقرئ: نعم العبد، على الأصل، «1» والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجاعا إليه بالتوبة. أو مسبحا مؤوبا للتسبيح مرجعا له، لأن كل مؤوب أواب.
والصافن: الذي في قوله:
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا «2»
وقيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل: هو المتخيم. وأما الصافن: فالذي يجمع بين يديه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار» «3» أى: واقفين كما خدم الجبابرة. فإن قلت: ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت: الصفون لا يكاد يكون في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص. وقيل: وصفها بالصفون والجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعنى: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها. وروى أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل:
خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوما بعد ما صلى الأولى على كرسيه «4» واستعرضها، فلم
__________
(1) . قوله «وقرئ نعم العبد على الأصل» لعله بفتح النون وكسر العين، كما يفيده الصحاح. (ع)
(2) . لامرئ القيس. وقيل: للعجاج يصف فرسا. والصفون- بالمهملة-: الوقوف على سنبك يد أو رجل.
والسنبك: طرف حافر الفرس. والصفون- بالمعجمة-: الجمع بين اليدين في الوقوف، ومما يقوم: خبر كان، أى: أحب الصفون، كأنه من الجنس الذي يقوم على ثلاث قوائم. أو كأنه مخلوق من القيام على ثلاثة كخلق الإنسان من عجل، حال كونه مكسور القائمة الرابعة، أو كاسرها أى ثانيها، فما موصولة أو مصدرية. وكسيرا:
حال، والجملة: خبر يزال، وهذا ما استقر عليه رأى ابن الحاجب في الأمالى بعد كلام طويل، ولو جعلت ما مصدرية، وكسيرا: خبر كأن، كان حقه الرفع، ولو جعلته خبر يزال كما اختاره ابن هشام، لكان المعنى:
فلا يزال كسيرا، كأنه مما يقوم على الثلاث على ما مر. ويجوز أن يكون المعنى: فلا يزال كسيرا من قيامه على الثلاث، وكأنه اعتراض، وخبره محذوف، أى كأنه كسير. وفائدته الاحتراس.
(3) . لم أجده هكذا وفي السنن حديث معاوية «من سره أن يتمثل الناس له قياما» وفي الغريب لأبى عبيد من حديث البراء رضى الله عنه «كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه قمنا معه صفوفا.
(4) . قوله «بعد ما صلى الأولى على كرسيه» عبارة النسفي. صلى الظهر. (ع)

(4/91)


تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشى، وتهيبوه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته، فاستردها وعقرها مقربا «1» لله، وبقي مائة، فما بقي في أيدى الناس من الجياد فمن نسلها، وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرا منها، وهي الريح تجرى بأمره. فإن قلت: ما معنى أحببت حب الخير عن ذكر ربي؟ قلت: أحببت: مضمن معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربى. أو جعلت حب الخير مجزيا أو مغنيا عن ذكر ربى. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أن «أحببت» بمعنى: لزمت، من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبا «2»
وليس بذاك. والخير: المال، كقوله إن ترك خيرا وقوله وإنه لحب الخير لشديد والمال: الخيل التي شغلته. أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة «3» » وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل» «4» وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالا رضى الله عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير «5» .
__________
(1) . قوله «وعقر ما مقربا لله» عبارة النسفي: تقربا. (ع)
(2) .
كيف قربت عمك القرشبا ... حين أتاك لاغبا مخبا
حلت عليه بالقفيل ضربا ... تبا لمن بالهون قد ألبا
مثل بعير السوء إذ أحبا
لأبى محمد الفقعسي. والقرشب- بكسر أوله وفتح ثالثه-: المسن، واللاغب، من اللغوب: وهو التعب. والمخب من أخبه: إذا حمله على الخبب، وهو نوع من السير. أو من أخب: إذا لزم المكان كما قيل. وحلت: أى قمت ووثبت عليه. والقفيل: السوط. وضربا: بمعنى ضاربا. أو تضربه ضربا. والتب: الهلاك، وهو دعاء عليه، وفعله محذوف وجوبا. والهون- بالضم-: الهوان. وألب بالمكان: أقام به، ورواه الأصمعى هكذا:
كيف قربت شيخك الأذبا ... لما أتاك يابسا قرشبا
قمت عليه بالقفيل ضربا ... مثل بعير السوء إذ أحبا
والذيب: كثرة الشعر وطوله. والأذب: البعير الذي نبت على حاجبيه شعيرات، فإذا ضربته الريح نفر وماج.
وقال الجوهري: الاخباب: البروك. وهو في الإبل كالحران في الخبل.
(3) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(4) . ذكره ابن إسحاق في المغازي بغير سند، والبيهقي في الدلائل من طريقه. وذكره ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له مقطوعة
(5) . أخرجه ابراهيم الحربي من رواية مغيرة عن الشعبي قال «كان رهان. فقال رجل لبلال: من سبق، قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمن صلى؟ قال: أبو بكر. قال: إنما أعنى في الخيل» قال: وأنا أعنى في الخير»

(4/92)


ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34)

والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن توارى الملك. أو المخبأة بحجابهما. والذي دل على أن الضمير للشمس مرور ذكر العشى، ولا بد للمضمر من جرى ذكر أو دليل ذكر.
وقيل: الضمير للصافنات، أى: حتى توارت بحجاب الليل يعنى الظلام. ومن بدع التفاسير:
أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه فطفق مسحا فجعل يمسح مسحا، أى يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعنى: يقطعها. يقال: مسح علاوته، إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب «1» إذا قطع أطرافه بسيفه. وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها، أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف. وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها. فإن قلت: بم اتصل قوله ردوها علي؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردوها على، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا، وهو اشتغال نبى من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقرئ: بالسؤق، بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغئور، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى: ونظير ساق وسوق: أسد وأسد.
وقرئ: بالساق، اكتفاء بالواحد عن الجمع، لأمن الإلباس.

[سورة ص (38) : آية 34]
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34)
قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة. وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته:
أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغذوه في السحابة «2» فما راعه إلا أن ألقى على كرسيه ميتا، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتى بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون «3» ، فذلك قوله تعالى ولقد فتنا سليمان. وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشياطين وعبادة
__________
(1) . قوله «ومسح المسفر الكتاب» الذي في الصحاح: سفرت الكتاب أسفره سفرا. وسفرت المرأة:
كشفت عن وجهها. وأسفر الصبح: أى أضاء. وأسفر وجهه حسنا، أى: أشرق، فليحرر. (ع)
(2) . قوله «فكان يغذوه» في الصحاح: غذوت الصبي باللبن، أى ربيته به فاغتذى. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. [.....]

(4/93)


الوثن في بيت سليمان، فالله أعلم بصحته «1» حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر، وأن بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها، وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرعا، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر- وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة خاتمي، فتختم به وجلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه، ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بنى إسرائيل حكم الشيطان، وسأل آصف نساء سليمان فقلنا: ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة.
وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به ووقع ساجدا، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرة لصخر «2» فجعله فيها، وسد عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر. وقيل: لما افتتنن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقر في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله من محاريب وتماثيل وأما السجود للصورة فلا يظن بنبى الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه. وقوله وألقينا على كرسيه جسدا ناب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوا ظاهرا.
__________
(1) . أخرجه النسائي في التفسير من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده قوى وأخرجه ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس قريبا مما أورده المصنف.
(2) . قوله «وجاب صخرة لصخر» أى: خرق أو قطع أفاده الصحاح. (ع)

(4/94)


قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40)

[سورة ص (38) : آية 35]
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)
قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم لا ينبغي لا يتسهل ولا يكون. ومعنى من بعدي دوني. فإن قلت: اما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطى الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقيل: ملكا لا أسلبه ولا يقوم غيرى فيه مقامي، كما سلبته مرة وأقيم مقامي غيرى. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال لا ينبغي لأحد من بعدي، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. وعن الحجاج أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد منى من قال هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكى عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله، لأنه شرط في طاعته فقال فاتقوا الله ما استطعتم وأطلق طاعتنا فقال وأولي الأمر منكم.

[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 40]
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40)
قرئ: الريح، والرياح رخاء لينة طيبة لا تزعزع. وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه حيث أصاب حيث قصد وأراد. حكى الأصمعى عن العرب: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن

(4/95)


واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)

رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟
فقالا: هذه طلبتنا ورجعا، ويقال: أصاب الله بك خيرا والشياطين عطف على الريح كل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على كل داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل: كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وهو أول من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. وعن السدى: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع «1» . والصفد القيد، وسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه. ومنه قول على رضى الله عنه: من برك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك. ومنه قول القائل: غل يدا مطلقها، وأرق رقبة معتقها. وقال حبيب: إن العطاء إسار، وتبعه من قال:
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا «2»
وفرقوا بين الفعلين فقالوا: صفده قيده، وأصفده أعطاه، كوعده وأوعده، أى هذا الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة عطاؤنا بغير حساب، يعنى: جما كثيرا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره فامنن من المنة وهي العطاء، أى: فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوضا إليك التصرف فيه. وفي قراءة ابن مسعود: هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب، أو هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أى لا حساب عليك في ذلك.

[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)
__________
(1) . قوله «في الجوامع» في الصحاح «الجامعة» : الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق. (ع)
(2) .
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
للمتنبي، يقول: تركت سير الليل وراء ظهري، أى: بالغت في تركه لمن قل ماله، لأنه لا زال يبتغيه، واكتفيت بنعمتك العظمى، وشبه الآمال التي امتدت إليه وبلغت مناها، بأفراس منعلة بالذهب على طريق التصريحية والانعال ترشيح. ويجوز أن ذلك كناية عن عظم النعمة، واستعار التقييد للمنع عن التطلع لغير الممدوح وقصر المدح عليه.
ويجوز أنه شبه نفسه بحيوان، والتقييد: تخييل. والذرا- بالفتح-: كل ما ستر الشيء، يقال: أنا في ظل الجبل وفي ذراه، أو في ظل فلان وفي ذراه، أى: في كنفه وحماه، ومحبة: مفعول لأجله، وشبه الإحسان بالقيد لأنه سبب استملاك النفس.

(4/96)


أيوب عطف بيان. وإذ بدل اشتمال منه أني مسني بأنى مسنى: حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه: لأنه غائب. وقرئ بنصب بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب: كالرشد والرشد، والنصب: على أصل المصدر، والنصب: تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسى فيه من أنواع الوصب «1» . وقيل: الضر في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضى من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل ألقى إليه الشيطان: إن الله لا يبتلى الأنبياء والصالحين، وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يغزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله اركض برجلك حكاية ما أجيب به أيوب، أى: اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة: هي أرض الجابية «2» فضربها، فنبعت عين فقيل هذا مغتسل بارد وشراب أى هذا ماء تغتسل به وتشرب منه، فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب مآبك قلبة «3» . وقيل: نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله، وقيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها رحمة منا وذكرى مفعول لهما. والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب، لأنهم إذا سمعوا بما
__________
(1) . قوله «من أنواع الوصب» في الصحاح «الوصب» : المرض. (ع)
(2) . قوله «هي أرض الجابية» مدينة بالشام كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وتنقلب ما بك قلبة» في الصحاح «القلاب» داء يأخذ البعير. وقولهم: ما به قلبة، أى: ليست به علة. (ع)

(4/97)


أنعمنا به عليه لصبره، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم وخذ معطوف على اركض. والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس: قبضة من الشجر، كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وهذه الرخصة باقية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بمخدج «1» قد خبث بأمة، فقال: «خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة» «2» ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة، إما أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة مع وجود صورة الضرب، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره، وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام. وقيل: قال لها الشيطان اسجدي لي سجدة فأرد عليكم ما لكم وأولادكم، فهمت بذلك فأدركتها العصمة، فذكرت ذلك له، فحلف. وقيل: أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ، فعرضت له بذلك. وقيل:
سألته أن يقرب للشيطان بعناق وجدناه صابرا علمناه صابرا. فإن قلت: كيف وجده صابرا وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عز وعلا لا تسمى جزعا، ولقد قال يعقوب عليه السلام: نما أشكوا بثي وحزني إلى الله
وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمنى العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابرا مع تمنى العافية وطلب الشفاء، فليسم صابرا مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة.
حيث كان الشيطان بوسوس إليهم كما كان يوسوس اليه أنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلى به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصرى، ولم يهبني ما ملكت يمينى، «3» ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان، فكشف الله عنه.
__________
(1) . قوله «إنه أتى بمخدج» الخداج: النقصان، وأخدجت الناقة: إذا جاءت بولدها ناقص الخلق، وإن كانت أيامه تامة فهي مخدج، والولد مخدج، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه النسائي وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبزار والطبراني من رواية أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن عبادة. قال «كان بين أبياتنا رجل ضعيف مخدج، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها- الحديث» قال البزار: لم يرد إلا هذا، واختلف في إسناده. فقيل هكذا. وقيل عن أبى الزناد عن أبى أمامة مرسلا ورواه أبو داود من وجه آخر عن أبى أمامة أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) . قوله «ولم يهبني ما ملكت يميني» أى لم ينشطنى ولم يهيجني، من هبت الريح: أى هاجت، وهب البعير:
أى نشط، كما في الصحاح. (ع)

(4/98)


وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)

[سورة ص (38) : الآيات 38 الى 47]
وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42)
ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47)
إبراهيم وإسحاق ويعقوب عطف بيان لعبادنا. ومن قرأ: عبدنا، جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا، وهي إسحاق ويعقوب، كقراءة ابن عباس: وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدى غلبت، فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدى. أو كان العمال جذما لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا أولي الأيدي والأبصار يريد: أولى الأعمال والفكر، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله، ولا يفكرون أفكار ذوى الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبى العقول الذين لا استبصار بهم. وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما. وقرئ: أولى الأيادى، على جمع الجمع. وفي قراءة ابن مسعود: أولى الأيد، على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة. وتفسيره بالأيد- من التأييد-: قلق غير متمكن أخلصناهم جعلناهم خالصين بخالصة بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثم فسرها بذكرى الدار، شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها. وقرئ على الإضافة. والمعنى: بما خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر، إنما همهم ذكرى الدار لا غير. ومعنى ذكرى الدار: ذكراهم الآخرة دائبا، ونسيانهم اليها ذكر الدنيا. أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، وتزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء وديدنهم. وقيل. ذكرى الدار. الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. فإن قلت: ما معنى أخلصناهم بخالصة؟ قلت: معناه: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، وبأنهم من أهلها. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، واللطف بهم في اختيارها. وتعضد الأول قراءة من قرأ: بخالصتهم المصطفين المختارين من أبناء جنسهم. والأخيار جمع خير، أو خير، على التخفيف، كالأموات في جمع ميت أو ميت.

[سورة ص (38) : آية 48]
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)
واليسع كأن حرف التعريف دخل على يسع. وقرئ: والليسع، كأن حرف التعريف

(4/99)


هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)

دخل على ليسع، فيعل من اللسع. والتنوين في وكل عوض من المضاف اليه، معناه:
وكلهم من الأخيار.

[سورة ص (38) : الآيات 49 الى 52]
هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب (49) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب (51) وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52)
هذا ذكر أى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن، لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل، ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، «1» قال: هذا ذكر، ثم قال وإن للمتقين كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه: أنه لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار. قال: هذا وإن للطاغين. وقيل: معناه هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هذا ذكر من مضى من الأنبياء جنات عدن معرفة لقوله جنات عدن التي وعد الرحمن وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب. ومفتحة حال، والعامل فيها ما في للمتقين من معنى الفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات. والأبواب بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. وقرئ: جنات عدن مفتحة، بالرفع، على أن جنات عدن مبتدأ، ومفتحة خبره.
أو كلاهما خبر مبتدإ محذوف، أى: هو جنات عدن هي مفتحة لهم، كأن اللدات سمين أترابا، لأن التراب مسهن في وقت واحد، وانما جعلن على سن واحدة، لأن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن أتراب لأزواجهن، أسنانهن كأسنانهم:

[سورة ص (38) : الآيات 53 الى 54]
هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)
قرئ: يوعدون، بالتاء والياء ليوم الحساب لأجل يوم الحساب، كما تقول: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أى: ليوم تجزى كل نفس ما عملت.
__________
(1) . قال محمود: «إنما قال: هذا ذكر ليذكر عقبه ذكرا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر» قال أحمد: وكما ما يقول الفقيه إذا ذكر أدلة المسألة عند تمام الدليل الأول: هذا دليل ثان كذا وكذا إلى آخر ما في نفسه، ويدل عليه أنه عند انقضاء ذكر أهل الجنة قال: هذا وإن للطاغين لشر مآب فذكر أهل النار.

(4/100)


هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وآخر من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61)

[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 61]
هذا وإن للطاغين لشر مآب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وآخر من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59)
قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61)
هذا أى الأمر هذا: أو هذا كما ذكر فبئس المهاد كقوله لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم، أى: هذا حميم فليذوقوه. أو العذاب هذا فليذوقوه، ثم ابتدأ فقال: هو حميم وغساق أو: هذا فليذوقوه بمنزلة وإياي فارهبون أى ليذوقوا هذا فليذوقوه، والغساق- بالتخفيف والتشديد-: ما يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين، إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده. وقيل: لو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضى الله عنه. الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى.
إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة وآخر ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة أزواج أجناس. وقرئ: وآخر، أى: وعذاب آخر. أو مذوق آخر.
وأزواج: صفة لآخر، لأنه يجوز أن يكون ضروبا. أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله. وقرئ: من شكله، بالكسر «1» وهي لغة. وأما الغنج «2» فبالكسر لا غير هذا فوج مقتحم معكم هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أى دخل النار في صحبتكم وقرانكم، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة: الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض، أى: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مرحبا بهم دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبا، أى:
أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا: أو رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.
__________
(1) . قوله وقرئ «من شكله بالكسر وهي لغة» أى في الشكل بمعنى المثل. (ع)
(2) . «وأما الغنج فبالكسر لا غير» في الصحاح: الغنج والغنج: الشكل، وقد غنجت الجارية وتغنجت، فهي غنجة. وفيه: الشكل- بالفتح-: المثل، وبالكسر: الدل، يقال: امرأة ذات شكل. (ع)

(4/101)


وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63)

وبهم بيان للمدعو عليهم إنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم للدعاء عليهم. ونحوه قوله تعالى كلما دخلت أمة لعنت أختها وقيل: هذا فوج مقتحم معكم: كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم. ولا مرحبا بهم إنهم صالوا النار كلام الرؤساء. وقيل: هذا كله كلام الخزنة قالوا أى الأتباع بل أنتم لا مرحبا بكم يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم أنتم قدمتموه لنا والضمير للعذاب أو لصلبهم. فإن قلت: ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت: المقدم هو عمل السوء. قال الله تعالى ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم ولكن الرؤساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه: قيل أنتم قدمتموه لنا، فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم، فجمع بين مجازين، لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لا رؤساؤهم، والعمل هو المقدم لاجزاؤه. فإن قلت: فالذي جعل قوله لا مرحبا بهم من كلام الخزنة ما يصنع بقوله بل أنتم لا مرحبا بكم والمخاطبون- أعنى رؤساءهم- لم يتكلموا بما يكون هذا جوابا لهم؟ قلت: كأنه قيل: هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا ونسببكم فيما نحن فيه من العذاب، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوى فارتكبوه فقيل للمزينين: أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم؟ فقال المزين لهم للمزينين: بل أنتم أولى بالخزي منا، فلولا أنتم لم نرتكب ذلك قالوا هم الأتباع أيضا فزده عذابا ضعفا أى مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف: ونحوه قوله تعالى ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، كقوله عز وجل ربنا آتهم ضعفين من العذاب «1» وجاء في التفسير عذابا ضعفا: حيات وأفاعى «2» .

[سورة ص (38) : الآيات 62 الى 63]
وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار (63)
وقالوا الضمير للطاغين رجالا يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم من الأشرار من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارا أتخذناهم سخريا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالا، مثل قوله كنا نعدهم من الأشرار
__________
(1) . قوله تعالى قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا وقال في موضع آخر آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا والقصة واحدة. قال أحمد: وفيه دليل على أن الضعفين اثنان من شيء واحد، خلافا لمن قال غير ذلك، لأنه في موضع قال فزده عذابا ضعفا والمراد: مثل عذابه، فيكونا عذابين. وقال في موضعين ضعفين والمراد: ذا عذابين. [.....]
(2) . قوله «وجاء في التفسير ... الخ» عبارة الخازن: قال ابن عباس: حيات وأفاعى (ع)

(4/102)


إن ذلك لحق تخاصم أهل النار (64) قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66)

وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها «1» في الاستسخار منهم.
وقوله أم زاغت عنهم الأبصار له وجهان من الاتصال، أحدهما: أن يتصل بقوله ما لنا أى: مالنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها: قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة، وبين أن يكونوا من أهل النار. إلا أنه خفى عليهم مكانهم.
والوجه الثاني: أن يتصل باتخذناهم سخريا، إما أن تكون أم متصلة على معنى: أى الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم، أم الازدراء بهم والتحقير، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضى اتخذناهم سخريا على الخبر أو الاستفهام، كقولك: إنها إبل أم شاء، وأزيد عندك أم عندك عمرو: ولك أن تقدر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته، لأن «أم» تدل عليها، فلا تفترق القراءتان:
إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل: الضمير في وقالوا لصناديد قريش كأبى جهل والوليد وأضرابهما، والرجال: عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ: سخريا، بالضم والكسر.

[سورة ص (38) : آية 64]
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار (64)
إن ذلك أى الذي حكينا عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به، ثم بين ما هو فقال هو تخاصم أهل النار وقرئ بالنصب على أنه صفة لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت: لم سمى ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك «2» ولأن قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة، فسمى التقاول كله تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.

[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 66]
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66)
__________
(1) . قوله «وتأنيب لها» أى: تعنيف ولوم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك، ولأن قول الرؤساء: لا مرحبا بهم، وقول أتباعهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، من باب الخصومة» قال أحمد: هذا يحقق أن ما تقدم من قوله لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار من قول المتكبرين الكفار، وقوله تعالى بل أنتم لا مرحبا بكم من قول الأتباع، فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين، فيتحقق التخاصم، خلافا لمن قال: إن الأول من كلام خزنة جهنم، والثاني: من كلام الأتباع، فانه على هذا التقدير إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين فالتفسير الأول أمكن وأثبت.

(4/103)


قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70)

قل يا محمد لمشركي مكة: ما أنا إلا رسول منذر أنذركم عذاب الله للمشركين، وأقول لكم: إن دين الحق توحيد الله، وأن يعتقد أن لا إله إلا الله الواحد بلا ند ولا شريك القهار لكل شيء، وأن الملك والربوبية له في العالم كله وهو العزيز الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة، وهو مع ذلك الغفار لذنوب من التجأ إليه. أو قل لهم ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه.

[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 70]
قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70)
قل هو نبأ عظيم أى هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله واحد لا شريك له: نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوته بأن ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب، فعلم أن ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير أى لأنما أنا نذير. ومعناه:
ما يوحى إلى إلا للإنذار، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى:
ما يوحى إلى إلا هذا، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك، أى ما أو مر إلا بهذا الأمر وحده، وليس إلى غير ذلك. وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أى: إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئا آخر. وقيل: النبأ العظيم: قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. فإن قلت: بم يتعلق إذ يختصمون؟ قلت: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم، وإذ قال بدل من إذ يختصمون. فإن قلت: ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت: أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم:
فإن قلت: ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له، فأنت بين أمرين: إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء، وكان التقاول بينهم ولم يكن التفاؤل بينهم وإما أن تقول: التقاول كان بين الله وبينهم، فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فصح أن التقاول كان

(4/104)


إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76)

بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام: التقاول على ما سبق.

[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 74]
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74)
فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشرا وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم فإذا سويته فإذا أتممت خلقه وعدلته ونفخت فيه من روحي وأحييته وجعلته حساسا متنفسا فقعوا فخروا، كل: للإحاطة. وأجمعون: للاجتماع، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات. فإن قلت: كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت: الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل، إلا أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت: كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجن؟ قلت: قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فسجد الملائكة ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا وكان من الكافرين أريد وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرا، لأن كان مطلق في جنس الأوقات الماضية، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد: وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله.

[سورة ص (38) : الآيات 75 الى 76]
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76)
فإن قلت: ما وجه قوله خلقت بيدي: قلت: قد سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل ممن لا يدي له: يداك أوكتا «1» وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك. ومنه قوله تعالى مما عملت أيدينا
__________
(1) . قوله «يداك أوكتا» في الصحاح: أوكى على ما في سقائه: إذا شده بالوكاء. (ع)

(4/105)


ولما خلقت بيدي. فإن قلت: فما معنى قوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق، فذهب بنفسه، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أن آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار. ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعز عباده عليه «1» وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم، ثم لم يفعلوا وتبعوا امر الله وجعلوه قدام أعينهم، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له، تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه: كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدى بهم ويقتفى أثرهم، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله، أو غل في عبادته منهم في السجود له، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح، فقيل له:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى، أى: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلفته بيدي- لا شك في كونه مخلوقا- امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه، وقيل له: لم تركته مع وجود هذه العلة، وقد أمرك الله به، يعنى: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله:
أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه، فيقول له:
ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه «2» ، يريد: هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت
__________
(1) . قوله «حين أمر به أعز عباده» مبنى على مذهب المعتزلة: أن الملك أفضل من البشر. وعند أهل السنة:
البشر أفضل من الملك. (ع)
(2) . قال محمود: «لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه: غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين، حتى قيل في عمل القلب: هذا مما عملت يداك. قال ومعناه أن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه: أنه سجود لمخلوق، مع أنه دون الساجد، لأن آدم من طين، وإبليس من نار، فرأى للنار فضلا على الطين، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة أن يسجدوا لهذا البشر:
لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر، مع انحطاطه عن مراتبهم، فقيل له: ما منعك أن تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك، مع أنه لا شك أن في ذلك امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة، فذكر له العلة التي منعته من السجود، وقيل له: ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمرى، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم، فيمتنع اعتبارا لسقوطه. فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه، يريد: علا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه، انتهى المقصود من الآية بعد تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قال أحمد: إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه الآية:
أحدهما: أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع، هذا مذهب أبى الحسن والقاضي، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة، فان قدرة الله تعالى واحدة، واليدان مذكورتان بصيغة التثنية، وأبطلا حملهما على النعمة بأن نعم الله لا تحصى، فكيف تحصر بالتثنية. وغيرهما من أهل السنة كامام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة، ويجيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس، إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة، وعلى أن المراد القدرة، فالتثنية تعظيم، ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني: أن النبي أفضل من الملك، والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة، لا جرم أنه أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره.
زر بعض سقاط الحشم، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام، وأقام لإبليس عذره وصوب اعتقاده. أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين، وإنما غلطه من جهة أخرى. وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له، على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة، وجعل قوله تعالى لما خلقت بيدي إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود، وهو كونه دونه، وهذا- نسأل الله العصمة- المراد منه ضد ما فهم الزمخشري، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس، إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه بيده، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه. ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة، إذ يقول له الناس عند ما يقصدونه فيها: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد كراماته وخصائصه، لا فيما يحط منه، معاذ الله وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوي الهوى ومهالكه، وأن يرشدنا إلى سبيل الحق ومسالكه، إنه ولى التوفيق، وبالاجابة حقيق.

(4/106)


قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78)

اعتبار سقوطه، وفيه: أنى خلقته بيدي، فأنا أعلم بحاله، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه: من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له. وقيل: معنى لما خلقت بيدي لما خلقت بغير واسطة. وقرئ: بيدى، كما قرئ: بمصرخى. وقرئ: بيدي، على التوحيد من العالين ممن علوت وفقت، فأجاب بأنه من العالين حيث قال أنا خير منه وقيل: استكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين. ومعنى الهمزة: التقرير.
وقرئ: استكبرت بحذف حرف الاستفهام، لأن أم تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى، أى: لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له، لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي خلقتني من نار مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.

[سورة ص (38) : الآيات 77 الى 78]
قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78)
منها من الجنة، وقيل: من السماوات. وقيل: من الخلقة التي أنت فيها، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته، فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا، وأظلم بعد ما كان نورانيا. والرجيم: المرجوم. ومعناه: المطرود، كما قيل له: المدحور والملعون، لأن من طرد رمى بالحجارة على أثره. والرجم: الرمي بالحجارة. أو لأن الشياطين يرجمون بالشهب.

(4/107)


قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)

فإن قلت: قوله لعنتي إلى يوم الدين كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت:
كيف تنقطع وقد قال الله تعالى فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ولكن المعنى:
أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة، فكأنها انقطعت.

[سورة ص (38) : الآيات 79 الى 81]
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81)
فإن قلت: ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت: الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه: اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى المعلوم: أنه معلوم عند الله معين، لا يستقدم ولا يستأخر.

[سورة ص (38) : الآيات 82 الى 83]
قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)
فبعزتك إقسام بعزة الله تعالى وهي سلطانه وقهره.

[سورة ص (38) : الآيات 84 الى 85]
قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)
قرئ: فالحق والحق، منصوبين على أن الأول مقسم به كالله في
إن عليك الله أن تبايعا
وجوابه لأملأن والحق أقول: اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، ومعناه: ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق: إما اسمه عز وعلا الذي في قوله أن الله هو الحق المبين أو الحق الذي هو نقيض الباطل: عظمه الله بإقسامه به. ومرفوعين على أن الأول مبتدأ محذوف الخبر، كقوله لعمرك أى: فالحق قسمي لأملأن. والحق أقول، أى: أقوله كقوله كله لم أصنع، ومجرورين: على أن الأول مقسم به قد أضمر حرف قسمه، كقولك: الله لأفعلن.
والحق أقول، أى: ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به. ومعناه: التوكيد والتشديد.
وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضا. وهو وجه دقيق حسن. وقرئ يرفع الأول وجره مع نصب الثاني، وتخريجه على ما ذكرنا منك من جنسك وهم الشياطين وممن تبعك منهم من ذرية آدم. فإن قلت: أجمعين تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم، أو الكاف في منك مع من تبعك. ومعناه: لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحدا. أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم.

(4/108)


قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)

[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)
عليه من أجر الضمير للقرآن أو للوحى وما أنا من المتكلفين من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن إن هو إلا ذكر من الله للعالمين للثقلين. أوحى إلى فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم «1» » ولتعلمن نبأه أى ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وفشوه، من صحة خبره، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير» «2» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عون حدثنا محمد بن المصلى حدثنا حيوة بن شريح عن أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن نفيل مرفوعا به. ورواه البيهقي في الشعب في الثالث والثلاثين من رواية بقية عن أرطاة قوله ورواه أبو نعيم عن وهب بن منبه قوله.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى رضى الله عنه.

(4/109)


تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4)

سورة الزمر
مكية، إلا قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا ... الآية وتسمى سورة الغرف وهي خمس وسبعون آية. وقيل ثنتان وسبعون آية [نزلت بعد سورة سبإ] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4)
تنزيل الكتاب قرئ بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف. أو خبر مبتدإ محذوف والجار صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله. أو غير صلة، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، فهو على هذا خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره:
هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة، وبالنصب على إضمار فعل، نحو: اقرأ، والزم. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني: أنه السورة مخلصا له الدين ممحضا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ: الدين، بالرفع. وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا- بفتح اللام- كقوله تعالى وأخلصوا دينهم لله حتى يطابق قوله ألا لله الدين الخالص والخالص والمخلص: واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازى، كقولهم:

(4/110)


شعر شاعر. وأما من جعل مخلصا حالا من العابد، وله الدين مبتدأ وخبرا، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين ألا لله الدين الخالص أى: هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة كدر، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولأنه الحقيق بذلك، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام والذين اتخذوا يحتمل المتخذين وهم الكفرة، والمتخذين وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى: عن ابن عباس رضى الله عنهما، فالضمير في اتخذوا على الأول راجع إلى الذين، وعلى الثاني إلى المشركين، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوما، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى: والذين اتخذهم المشركون أولياء، والذين اتخذوا في موضع الرفع على الابتداء. فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت: هو على الأول إما إن الله يحكم بينهم أو ما أضمر من القول قبل قوله ما نعبدهم. وعلى الثاني: أن الله يحكم بينهم. فإن قلت: فإذا كان إن الله يحكم بينهم الخبر، فما موضع القول المضمر؟ قلت: يجوز أن يكون في موضع الحال، أى:
قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلا من الصلة فلا يكون له محل، كما أن المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول قالوا ما نعبدهم وفي قراءة أبى: ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ: نعبدهم، بضم النون اتباعا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر، والتنوين في عذاب اركض والضمير في بينهم لهم ولأوليائهم. والمعنى: أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم، واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى.
وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض، أقروا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالضمير في بينهم عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.
والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين «1» . وقرئ: كذاب وكذوب. وكذبهم: قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء: بنات الله، ولذلك عقبه محتجا عليهم بقوله لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء
__________
(1) . قال محمود: «المراد بمنع الهدآية منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا يلطف بهم، وأنه في علمه من الهالكين» قال أحمد: مذهب أهل السنة حمل هذه الآية وأمثالها على الظاهر، فان معتقدهم أن معنى هداية الله تعالى للمؤمن خلق الهدى فيه، ومعنى إضلاله للكافر إزاحته عن الهدى وخلق الكفر له، ومع ذلك فيجوز عند أهل السنة أن يخلق الله تعالى للكافر لطفا يؤمن عنده طائعا، خلافا للقدرية، وغرضنا التنبيه على مذهب أهل الحق لا غيره.

(4/111)


خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5)

يعنى: لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح، لكونه محالا، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه. وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده، جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء «1» على الله وملائكته، غالبين «2» في الكفر، ثم قال سبحانه فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء. ودل على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة، لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له: وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة. وقهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟

[سورة الزمر (39) : آية 5]
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5)
ثم دل بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف واللى، يقال: كار العمامة على رأسه وكورها. وفيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه فكأنما ألبسه والف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذى الرمة في وصف السراب:
تلوى الثنايا بأحقيها حواشيه ... لى الملاء بأبواب التفاريج «3»
__________
(1) . قوله «متبالغين في الافتراء» لعله: مبالغين. (ع)
(2) . قوله «غالبين في الكفر» لعله: غالين. (ع)
(3) .
وراكد الشمس أجاج نصب له ... قواضب القوم بالمهرية العوج
إذا تنازع حالا مجهل قذف ... أطراف مطره بالخز منسوج
تلوى الثنايا بحقويها حواشيه ... لي الملاء بأبواب التفاريج
كأنه والرهاة الموت يركضه ... أعراف أزهر تحت الريخ منتوج
لذي الرمة يصف السراب. وراكد الشمس: ما يتساقط منها على الأرض. والأجاج: صفة مبالغة، أى: كثير الأجيج، يقال: أجت النار أجيجا: اشتعلت، والحر: اشتد. وأج الظليم أجا: أسرع وله حفيف. وأج الأمر:
اختلط. والأج: طير أبيض سريع الطيران يشبه النعام. ويرى السراب عند شدة الحر أبيض كأنه يسير، فيجوز أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير، لأنه يشبهه، وللام للتوقيت، وللقواضب: السيوف النواطع.
والمهرية: الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن، خيلها أنجب الخيل. والعوج: جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان: ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل: الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف- كسبب-:
الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد: السراب المستوى، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا:
العقبات. والحقو: الخصر والإزار، وشده عليه استعارة لجانب العقبة، وحواشي السراب: جوانبه. والملاء بالضم والمد: اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج: الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة- جمع رهو-:
المكان المرتفع، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل: اسم موضع. والموت: القفر. والركض: ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف: جمع عرف. وعرف الديك والفرس:
أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل: إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف، والأزهر: السحاب الأبيض والماء الأبيض، وهو الأنسب بكونه تحت الريح، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى أقلت سحابا والمنتوج: الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر، يقول: ورب راكد من الشمس، يعنى السراب شديد الحر أو السير، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلى الجلباب في أبواب التفاريج، وتلوى: يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء، ولى الملا: مفعول مطلق، وأعراف: خبر كأنه، والرهاة: جملة حالية، وفاعل يركض إما ضمير الآل، أو ضمير الرهاة، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى: تطرده، وفاعله ضمير الرهاة جزما، لأن الآل هو المطرود، وبيت الكشاف: يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو: جمعه أحق، وأصل وزنه: أفعل.

(4/112)


خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)

ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض ألا هو العزيز الغالب القادر على عقاب المصرين الغفار لذنوب التائبين «1» . أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم: مغفرة.

[سورة الزمر (39) : آية 6]
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)
فإن قلت: ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان «2» من جملة الآيات التي عددها دالا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت
__________
(1) . قال محمود: «أى لذنوب التائبين» قال أحمد: الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
(2) . قال محمود: «فان قلت: ما وجه العطف بثم في قوله ثم جعل وأجاب بأتهما آيتان ... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم، وخلق حواء منه، وهو متقدم على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية، فلم يستقم حملها على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة، على تقدير: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها، يعنى: شفعها بزوجها، فكانت هاهنا على بابها لتراخى الوجود، والله سبحانه وتعالى أعلم. [.....]

(4/113)


إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7)

للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل: ثم متعلق بمعنى واحدة، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء وأنزل لكم وقضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول «1» من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء. وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها. ثمانية أزواج ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. قال الله تعالى: فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. خلقا من بعد خلق حيوانا سويا، من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة. وقيل:
الصلب والرحم والبطن ذلكم الذي هذه أفعاله هو الله ربكم...... فأنى تصرفون فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟

[سورة الزمر (39) : آية 7]
إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7)
فإن الله غني عنكم عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه، لاسضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان ولا يرضى لعباده الكفر رحمة لهم، لأنه يوقعهم في الهلكة وإن تشكروا يرضه لكم أى يرض الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم، فإذن ما كره كفركم ولا رضى شكركم
__________
(1) . قال محمود: «إنما جعلها منزلة لأن قضاياه تعالى وقسمه موصوفة بالنزول ... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط بعينه قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابة.

(4/114)


إلا لكم ولصلاحكم «1» ، لا لأن منفعة ترجع إليه، لأنه الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد نمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى «2» ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان يريد المعصومين، كقوله تعالى عينا يشرب بها عباد الله، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرئ «برضه» بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها خوله أعطاه. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول «3»
وفي حقيقته وجهان، أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال مال: إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه: ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان
__________
(1) . حمل الزمخشري الرضا على الارادة، والعباد على العموم ... الخ» قال أحمد: إن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين، أو في ميزان عقله غين، أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت في مغاثر العبارات، وبديع الزمان في صناعة البديع، فكيف نبا عن جادة الا جادة فهما، وأعار منادى الحذاقة أذنا صما، اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا، وغطى سنى مكشوف العبارة فسحقا سحقا، أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط، لا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا، ولا مضيه واستقبال الشرط لغة وعقلا، واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وشيعة البدعة: أن إرادة الله تعالى لشكر عباده مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم، فحينئذ كيف ساغ حمل الرضا على الارادة، وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا، واللازم من ذلك عقلا: تقدم المراد وهو الشكر، على الارادة وهي الرضا، ولغة: تقدم المشروط على الشرط. والزمخشري أخص من قال: إن المشروط متى كان ماضيا محضا لزمته ألفا. وقد، كقولك: إن تكر منى فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرفين المذكورين، على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية مع ذلك فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الارادة عقلا ونقلا، تعين التماس المحمل الصحيح له، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازى به المرضى عنه من الثواب والكرامة، فيكون معنى الآية- والله أعلم-: وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر، فجرى الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة، وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الارادة عقلا، ومثل هذا يقدر في قوله ولا يرضى لعباده الكفر أى لا يجازى غير الكافر مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة.
(2) . قوله «لينبت لله تعالى ... الخ» إنما يتم لو كان الرضاء بمعنى الارادة، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: هو غيرها، فكفر الكافر مراد غير مرضى، وعند المعتزلة: غير مراد ولا مرضى. (ع)
(3) .
الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
الوهوب: الوهاب. والمجزل: المكثر العطاء، وبينه بقوله: أعطى السائلين فلم يبخل عليهم، ولم يبخل: مشدد مبنى للمجهول، أى: لم يتهم بالبخل. وقيل: هو توكيد. ويروى بناؤه للفاعل، أى لم يجعل من أعطاهم بخلاء، بل جعلهم كرماء. وكوم الذرى: نصب بأعطى، أى: نوقا عظيمات السنام. والكوم: جمع كوماء. والذرى:
جمع ذروة. والمخول بالتشديد المعطي، وهو الله عز وجل.

(4/115)


وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (9)

يتخول أصحابه بالموعظة «1» والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب:
إن الغنى طويل الذيل مياس

[سورة الزمر (39) : آية 8]
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8)
ما كان يدعوا إليه أى نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسى ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من، كقوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى وقرئ:
ليضل، بفتح الباء وضمها، بمعنى أن نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله.
والنتيجة: قد تكون غرضا في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقوله تمتع بكفرك من باب الخذلان والتخلية، كأنه قليل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه: مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه. لأنه لا مبالغة في الخذلان، لأن أشد من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله متاع قليل ثم مأواهم جهنم.

[سورة الزمر (39) : آية 9]
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (9)
قرئ. أمن هو قانت بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من، وبالتشديد على إدخال «أم» عليه. ومن مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، وهو جرى ذكر الكافر قبله. وقوله بعده قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقيل: معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر. أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الصلاة طول القنوت» «2» وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الوتر، لأنه دعاء المصلى
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن مسعود وأتم منه.
(2) . أخرجه مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر. ورواه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ «طول القيام» وكذا هو في حديث عبد الله بن جعفر بلفظ «سئل أى الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام» .

(4/116)


قل ياعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10)

قائما ساجدا حال. وقرئ: ساجد وقائم، على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين.
وقرئ: ويحذر عذاب الآخرة. وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أى: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل نزلت في عمار بن ياسر رضى الله عنه وأبى حذيفة بن المغيرة المخزومي. وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو «1» ، فقال: هذا تمن، وإنما الرجاء قوله: وتلا هذه الاية.
وقرى: إنما يذكر، بالإدغام.

[سورة الزمر (39) : آية 10]
قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10)
في هذه الدنيا متعلق بأحسنوا لا بحسنة، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة، أى: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدى بحسنة، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت: إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصح أن يقع صفة لها لتقدمه. قلت: هو صفة لها إذا تأخر، فإذا تقدم كان بيانا لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق، وإن لم يكن التعلق وصفا ومعنى وأرض الله واسعة أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
وقيل: هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وقيل: هي أرض الجنة. والصابرون الذين صبروا على مفارقة
__________
(1) . قال محمود: «سئل الحسن عمن يتمادى على المعاصي ويرجو ... الخ» قال أحمد: كلام الحسن رضى الله عنه صحيح غير منزل على كلام الزمخشري بقرينة حاله، فان الحسن أراد أن المتمادى على المعصية مصرا عليها غير تائب إذا غلب رجاؤه خوفه كان متمنيا، لأن اللائق بهذا أن يغلب خوفه رجاؤه، ولم يرد الحسن إقناط هذا من رحمة الله تعالى وحاشاه، وأما قرينة حال الزمخشري فإنها تم على ما أضمره من إيراد هذه المقالة، فان معتقده أن مثل هذا العاصي وإن كان موحدا يجب خلوده في نار جهنم، ولا معنى لرجائه، ولتنميته صحة هذا المعتقد أورد مقالة الحسن كالتزام إلى تتميم هذه النزعة، وعما قليل يقرع سمعه ما في أنباء هذه السورة.

(4/117)


قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين (15)

أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها. من تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير بغير حساب لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفا، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم: «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين. ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، قال الله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «1» .

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 15]
قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لأن أكون أول المسلمين (12) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين (15)
قل إني أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل لأن أكون أول المسلمين أى مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. ولمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا. فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد «2» ؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه، من حديث أنس رضى الله عنه. وإسناده ضعيف جدا. وأورده أبو نعيم في الحلية في ترجمة جابر بن زيد عن الطبراني. وهو في معجمه بإسناده إلى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضى الله عنهما مختصرا.
(2) . قال محمود: «فان قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد، وأجاب بأنه ليس بتكرير ... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في تقوية هذا المعنى في هذه الآية بقوله فاعبدوا ما شئتم من دونه فان مقابلته بعدم الحصر توجب كونه للحصر، والله أعلم. وما أحسن ما بين وجوه المبالغة في وصف الله تعالى لفظاعة خسرانهم فقال:
استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين، وبين في تسمية الشيطان طاغوتا وجوها ثلاثة من المبالغة، أحدها: تسمينه بالمصدر كأنه نفس الطغيان، الثاني: بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت، وهي الرحمة الواسعة والملكوت وشبهه. الثالث: تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاص الشيطان بهذه التسمية.

(4/118)


لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون (16)

ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وأمرت لأن أكون أول المسلمين وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أكون أول من أسلم وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بى في قولي وفعلى جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعنى: أن الله أمرنى أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب، بدليل العقل والوحى.
فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقوله قل الله أعبد مخلصا له ديني قلت: ليس بتكرير، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول فالكلام أولا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله فاعبدوا ما شئتم من دونه والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إن الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم الذين خسروا أنفسهم لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم «1» لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعنى: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله ألا ذلك هو الخسران المبين حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.

[سورة الزمر (39) : آية 16]
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16)
__________
(1) . قوله «وخسروهم» لعله «خسروهم» بدون واو. (ع)

(4/119)


والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (18)

ومن تحتهم أطباق من النار هي ظلل لآخرين ذلك العذاب هو الذي يتوعد الله به عباده ويخوفهم، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عباد فاتقون ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ: يا عبادي.

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 18]
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب (18)
الطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين، لكونها مصدرا وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان طغيان، وأن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان، والمراد بها هاهنا الجمع. وقرئ: الطواغيت أن يعبدوها بدل من الطاغوت بدل الاشتمال لهم البشرى هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى هم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة
الله عز وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون. قال الله تعالى يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وأراد أن يكونوا نقادا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب وندب، اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حراصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر «1» ، وأبينها دليلا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك، كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا «2»
__________
(1) . قال محمود: «يدخل تحت هذا المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر ... الخ» قال أحمد: لقد كنت أطمع لعله رجع عما ضمن هذا الكتاب من المذاهب الرديئة والمعتقدات الفاسدة، حتى حققت من كلامه هذا أن ذلك التصميم كان متمكنا من فؤاده الصميم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(2) .
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ... ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
للزمخشري. تشمير الثياب عن الساعد: كناية عن ترك الكسل، ثم قال: واجتهد في أحكام الدين ولا تقلد غيرك، فتكون مثل حمار قاده الشخص فانقاد وطاوعه أينما يوجهه. ويحتمل أن المعنى: اجتهد في العمل ولا تطع الشيطان.

(4/120)


أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)

يريد المقلد، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى وأن تعفوا أقرب للتقوى، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على: فبشر عبادي، ويبتدئ: الذين يستمعون، يرفعه على الابتداء، وخبره أولئك.

[سورة الزمر (39) : آية 19]
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19)
أصل الكلام: أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره:
أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى، كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة. ووجه آخر: وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه، لأن أفأنت تنقذ يدل عليه: نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكده نفسه في دعائهم إلى الإيمان: منزلة إنقاذهم من النار. وقوله أفأنت تنقذ يفيد أن الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.

[سورة الزمر (39) : آية 20]
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20)
غرف من فوقها غرف علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله مبنية؟
قلت: معناه- والله أعلم-: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسويت تسويتها تجري من تحتها الأنهار كما تجرى من تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلو والسفل وعد الله مصدر مؤكد، لأن قوله لهم غرف في معنى، وعدهم الله ذلك.

[سورة الزمر (39) : آية 21]
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)

(4/121)


أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22) الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)

أنزل من السماء ماء هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه الله فسلكه فأدخله ونظمه ينابيع في الأرض عيونا ومسالك ومجارى كالعروق في الأجساد مختلفا ألوانه هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، وأصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها يهيج يتم جفافه، عن الأصمعى، لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب حطاما فتاتا ودرينا «1» إن في ذلك لذكرى لتذكيرا وتنبيها، على أنه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال.
ويجوز أن يكون مثلا للدنيا، كقوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا، واضرب لهم مثل الحياة الدنيا. وقرئ: مصفارا.

[سورة الزمر (39) : آية 22]
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (22)
أفمن عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسى القلب، ونور الله: هو لطفه، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقيل يا رسول الله: كيف انشراح الصدر؟ قال «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح «2» فقيل: يا رسول الله، فما علامة ذلك؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وهو نظير قوله: أمن هو قانت في حذف الخبر من ذكر الله من أجل ذكره، أى: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقرئ: عن ذكر الله.
فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ «قلت» : إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى ما ذكرت، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أى من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة:
إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.

[سورة الزمر (39) : آية 23]
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)
__________
(1) . قوله «فتاتا ودرينا» في الصحاح «الدرين» : خطام المرعى إذا قدم، وهو ما يلي من الحشيش. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود. وفيه أبو فروة الرهاوي فيه كلام.
ورواه الترمذي الحكيم في النوادر في الأصل السادس والثمانين. وفي إسناده إبراهيم بن [بياض بالأصل.] وهو ضعيف. [.....]

(4/122)


عن ابن مسعود رضى الله عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء نزل عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث. وكتابا بدل من أحسن الحديث. ويحتمل أن يكون حالا منه ومتشابها مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون مثاني بيانا لكونه متشابها، لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان «1» ولا يخلق على كثرة الرد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير. والإعادة كما كان قوله تعالى ثم ارجع البصر كرتين بمعنى كرة بعد كرة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير. ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من متشابها، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت، النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا، «2» ليركزه في قلوبهم
__________
(1) . قوله «لا يتفه ولا يتشان» في الصحاح «التافه» : الحقير اليسير: وفيه تشانت القربة: أخلقت، وتشان الجلد: يبس وتشنج. (ع)
(2) . لم أجده. وفي البخاري عن أنس رضى الله عنه «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا- الحديث» وزاد أحمد «وكان يستأذن ثلاثا» .

(4/123)


أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26)

ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، «1» وهو مثل في شدة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.
فإن قلت: ما وجه تعدية «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعد بإلى، كأنه قيل: سكنت. أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأن أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غصبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رءوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أول وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم ذلك إشارة إلى الكتاب، وهو هدى الله يهدي به يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: هدى للمتقين ومن يضلل الله ومن يخذله من الفساق «2» والفجرة فما له من هاد أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أى: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى يهدي به بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعنى: من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم ومن يضلل الله: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، فما له من هاد من مؤثر فيه بشيء قط.

[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 26]
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26)
__________
(1) . قوله «وقف شعره» أى: قام من الفزع، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ومن يخذله من الفساق» تأويل الضلال بذلك مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: أنه يخلقه كالخير، فالاضلال: خلق الضلال في القلب. (ع)

(4/124)


ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29)

يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن أمن العذاب «1» ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: وسوء العذاب:
شدته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقى مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبى جهل. وقال لهم خزنة النار ذوقوا وبال ما كنتم تكسبون......
من حيث لا يشعرون من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال الله.

[سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28]
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28)
قرآنا عربيا حال مؤكدة كقولك: جاءني زيد رجلا صالحا وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح غير ذي عوج مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف. فإن قلت: فهلا قيل: مستقيما: أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: ولم يجعل له عوجا والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل:
المراد بالعوج: الشك واللبس. وأنشد:
وقد أتاك يقين غير ذى عوج ... من الإله وقول غير مكذوب «2»

[سورة الزمر (39) : آية 29]
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29)
واضرب لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم
__________
(1) . قال محمود: «معناه كمن هو آمن، فحذف الخبر أسوة أمثله ... الخ» قال أحمد: الملقى في النار والعياذ بالله، لم يقصد الاتقاء بوجهه، ولكنه لم يجد ما يتقى به النار غير وجهه، ولو وجد لفعل، فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقى بوجهه، فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلى، والله أعلم.
(2) . الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد باليقين والقول: القرآن. أو اليقين: الأسرار، والقول: القرآن. أو اليقين: القرآن، والقول: ما عداه من الأوامر والنواهي، و «من الاله» متعلق بأتاك. والمعنى:
أن ذاك من الشك واللبس، ومن الكذب، فالعوج: استعارة تصريحية.

(4/125)


إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31) فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)

اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، «1» قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته. وفي آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن حالا وأجمل شأنا؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى ولعلا بعضهم على بعض ويبقى هو متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد؟
وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفقه؟ فهمه شعاع، «2» وقلبه أوزاع، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله. وفيه صلة شركاء، كما تقول: اشتركوا فيه. والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه سلما لرجل خالصا. وقرئ: سلما، بفتح الفاء والعين، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين، وهي مصادر سلم. والمعنى: ذا سلامة لرجل، أى: ذا خلوص له من الشركة، من قولهم: سلمت له الضيعة.
وقرئ بالرفع على الابتداء، أى: وهناك رجل سالم لرجل، وإنما جعله رجلا ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبى قد يغفلان عن ذلك هل يستويان مثلا هل يستويان:
صفة على التمييز. والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. وقرئ: مثلين، كقوله تعالى وأكثر أموالا وأولادا مع قوله أشد منهم قوة ويجوز فيمن قرأ: مثلين، أن يكون الضمير في يستويان للمثلين، لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل. والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، كما تقول: كفى بهما رجلين الحمد لله الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أى: يجب أن يكون الحمد متوجها إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلا هو بل أكثرهم لا يعلمون فيشركون به غيره.

[سورة الزمر (39) : الآيات 30 الى 33]
إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31) فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32) والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)
__________
(1) . قوله «في أمره سادر» في الصحاح «السادر» : المتحير. (ع)
(2) . قوله «فهمه شعاع ... الخ» بالفتح أى متفرق. وقولهم: بها أوزاع من الناس، أى: جماعات كذا في الصحاح. (ع)

(4/126)


كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم: «1» وقرئ: مائت ومائتون «2» . والفرق بين الميت والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد.
وأما المائت، فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدا، كما تقول: سائد غدا، أى سيموت وسيسود.
وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حى في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله إنك ميت وإنهم ميتون إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان ثم إنكم ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب تختصمون فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، وتقول السادات:
أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون، وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضا، حتى يقال لهم: لا تختصموا لدى، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟
حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا «3» وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا «4» . وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضى الله عنه قالوا: هذه خصومتنا «5» .
وعن أبى العالية: نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت أولا.
ألا ترى إلى قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وقوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة كذب على الله افترى عليه بإضافة
__________
(1) . قوله «ونعى إليكم أنفسكم» لعله: إليهم أنفسهم. (ع)
(2) . قال محمود: «قرئ: إنك ميت ومائت ... الخ» قال أحمد: فاستعمال ميت مجاز، إذ الخطاب مع الأحياء واستعمال مائت حقيقة إذ لا يعطى اسم الفاعل وجود الفعل حال الخطاب. ونظيره قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها يعنى: توفى الموت والتي لم تمت في منامها أى يتوفاها حين المنام، تشبيها للنوم بالموت، كقوله وهو الذي يتوفاكم بالليل فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي، أى: لا يردها في وقتها حية ويرسل الأخرى أى النائمة إلى الأجل الذي سماه، أى قدره لموتها الحقيقي. هذا أوضح ما قيل في تفسير الآية، والله أعلم.
(3) . أخرجه الحاكم من رواية القاسم بن عوف عن ابن عمر رضى الله عنهما.
(4) . ذكره الثعلبي. قال: وروى خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن الخدري.
(5) . أخرجه عبد الرزاق والطبري والثعلبي من رواية عبد الله بن عوف عن إبراهيم بهذا.

(4/127)


والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37)

الولد والشريك إليه وكذب بالصدق بالأمر الذي هو الصدق بعينه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاءه فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة، لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون مثوى للكافرين أى لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في للكافرين إشارة إليهم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 35]
والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)
والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون فلذلك قال أولئك هم المتقون إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. وفي قراءة ابن مسعود: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. وقرئ:
وصدق به. بالتخفيف، أى: صدق به الناس ولم بكذبهم به، يعنى: أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار صادقا به، أى: بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة، وقرئ: وصدق به. فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوإ والأحسن إلى الذي عملوا، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بنى مروان. وأما التفضيل فإيذان بأن السيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ وحسنهم بالأحسن. وقرئ: أسواء الذي عملوا جمع سوء.

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37]
أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37)

(4/128)


ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38)

أليس الله بكاف عبده أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها. وقرئ: بكاف عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاف عباده وهم الأنبياء، وذلك أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرتها «1» لعيبك إياها. ويروى: أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها، فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها لشدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف. وفي هذا تهكم بهم، لأنهم خوفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضر. أو أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم الله وذلك قول قوم هود إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ويجوز أن يريد: العبد والعباد على الإطلاق، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم. وقرئ: بكافى عباده، على الإضافة. ويكافي عباده، ويكافي: يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازى في يجزى، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظ المبالغة. والمباراة: أن يكون مهموزا، من المكافأة وهي المجازاة، لما تقدم من قوله ويجزيهم أجرهم، بالذين من دونه أراد: الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه بعزيز بغالب منيع ذي انتقام ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم.

[سورة الزمر (39) : آية 38]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38)
قرئ: كاشفات ضره، وممسكات رحمته بالتنوين على الأصل، وبالإضافة للتخفيف.
فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقررهم أولا بأن خالق العالم هو الله وحده. ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضر من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل. أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللاتي خوفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفة قال حسبي الله كافيا لمعرة أوثانكم عليه يتوكل المتوكلون وفيه تهكم. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا، فنزل قل حسبي الله
__________
(1) . قوله «معرتها» أى: إثمها. أفاده الصحاح. (ع) [.....]

(4/129)


قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40) إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)

فإن قلت. لم قيل: كاشفات، وممسكات، على التأنيث بعد قوله تعالى ويخوفونك بالذين من دونه؟ قلت: أنثهن وكن إناثا وهن اللات والعزى ومناة. قال الله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأن الأنوثة من باب للين والرخاوة، كما أن الذكورة من باب الشدة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هن اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعون لهن وأعجز. وفيه تهكم أيضا.

[سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40)
على مكانتكم على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها. والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا. وحيث للزمان، وهما للمكان. فإن قلت: حق الكلام: فإنى عامل على مكانتى. فلم حذف؟ قلت: للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد، والإيذان بأن حاله لا تقف، وتزداد كل يوم قوة وشدة، لأن الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله. ألا ترى إلى قوله فسوف تعلمون من يأتيه كيف توعدهم بكونه منصورا عليهم غالبا عليهم في الدنيا والآخرة، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه، وبذل ذليل من أعدائه يخزيه مثل مقيم في وقوعه صفة للعذاب، أى: عذاب مخز له، وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. وقرئ: مكاناتكم.

[سورة الزمر (39) : آية 41]
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41)
للناس لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغنى، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها. وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإن التكليف مبنى على الاختيار دون الإجبار.

[سورة الزمر (39) : آية 42]
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)

(4/130)


أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44)

الأنفس الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها، وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة:
من صحة أجزائها وسلامتها، لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت والتي لم تمت في منامها يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أى: يتوفاها حين تنام، تشبيها للنائمين بالموتى.
ومنه قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي، أى: لا يردها في وقتها حية ويرسل الأخرى النائمة إلى أجل مسمى إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضى الله عنهما في ابن آدم «نفس وروح» بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه» «1» والصحيح ما ذكرت أولا، لأن الله عز وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعا بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام إن في ذلك إن في توفى الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: قضى عليها الموت، على البناء للمفعول.

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 44]
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44)
أم اتخذوا بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار من دون الله من دون إذنه شفعاء حين قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله تعالى قل لله الشفاعة جميعا أى هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونا له. وهاهنا الشرطان مفقودان جميعا أولو كانوا معناه: أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أى: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيأ قط، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم له ملك السماوات والأرض
__________
(1) . لم أجده.

(4/131)


وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46)

تقرير لقوله تعالى لله الشفاعة جميعا لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك، كان مالكا لها. فإن قلت: بم يتصل قوله ثم إليه ترجعون؟ قلت: بما يليه، معناه: له ملك السماوات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له. فله ملك الدنيا والآخرة.

[سورة الزمر (39) : آية 45]
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45)
مدار المعنى على قوله وحده، أى: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أى:
نفروا وانقبضوا وإذا ذكر الذين من دونه وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هو أهم فيها. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا، لأن فيه نفيا لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ «والنجم» عند باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. فإن قلت: ما العامل في إذا ذكر؟ قلت: العامل في إذا المفاجأة، تقديره وقت ذكر الذين من دونه، فاجئوا وقت الاستبشار.

[سورة الزمر (39) : آية 46]
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46)
بعل «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له:
ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ووعيد لهم. وعن الربيع بن خثيم «2» وكان قليل الكلام. أنه أخبر بقتل الحسين- رضى الله عنه، وسخط على قاتله- وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية. وروى أنه قال على أثره: قتل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
__________
(1) . قوله «بعل رسول الله» في الصحاح: «بعل الرجل» بالكسر، أى: دهش. (ع)
(2) . قوله «وعن الربيع بن خثيم» في النسفي: خيثم. (ع)

(4/132)


ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (48) فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49)

[سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (48)
وبدا لهم من الله وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله تعالى في الوعد فلا تعلم نفس ما أخفي لهم والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدءوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه وبدا لهم سيئات ما كسبوا أى سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله تعالى أحصاه الله ونسوه أو أراد بالسيآت:
أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال وجزاء سيئة سيئة مثلها.
وحاق بهم ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم.

[سورة الزمر (39) : آية 49]
فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49)
التخويل: مختص بالتفضل. يقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء على علم أى على علم منى أنى سأعطاه، لما فى من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بى وباستحقاقى «1» أو على علم منى بوجوه الكسب، كما قال قارون على علم عندي. فإن قلت: لم ذكر الضمير في أوتيته وهو للنعمة؟ قلت: ذهابا به إلى المعنى، لأن قوله نعمة منا شيئا من النعم وقسما منها. ويحتمل أن تكون «ما» في إنما موصولة لا كافة، فيرجع إليها الضمير. على معنى: أن الذي أوتيته على علم بل هي فتنة إنكار لقوله كأنه قال: ما خولناك ما خولناك من النعمة لما تقول،
__________
(1) . قال محمود: «معناه على علم من الله بى وباستحقاقى ... الخ» قال أحمد: كذلك يقول على قدرى تمنى على الله أن يثيبه في الآخرة: أن الفرق بين حمد الدنيا وحمد الآخرة أن حمد الدنيا واجب على العبد، لأنه على نعمة متفضل بها، وحمد الآخرة ليس بواجب عليه، لأنه على نعمة واجبة على الله عز وجل، ولقد صدق الله إذ يقول: وهي فتنة إنما سلم منها أهل السنة، إذ يعتقدون أن الثواب بفضل الله وبرحمته لا باستحقاق، ويتبعون في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحد الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فما أحمق من منى نفسه وركب رأسه، وطمع أنه يستحق على الله الجنة.

(4/133)


بل هي فتنة، أى: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر؟ فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملا على المعنى أولا، وعلى اللفظ آخرا، ولأن الخبر لما كان مؤنثا أعنى فتنة ساغ تأنيث المبتدإ لأجله لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: بل هو فتنة على وفق إنما أوتيته. فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ قلت:
السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله وإذا ذكر الله «1» وحده اشمأزت على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الاى اعتراض. فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه «2» . قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله أنت تحكم بين عبادك ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترءون عليك مثل هذه الجرأة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله ولو أن للذين ظلموا متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقا. أو إياهم خاصة إن عنيتهم به، كأنه قيل: ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به. حين أحكم عليهم بسوء العذاب، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو. فإن قلت: من أى وجه وقعت مسببة؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم «3» عنه. قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه أنك تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سببا في الالتجاء، فأنت تحكى ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله؟
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم عطفت هذه الآية على التي قبلها بالفاء، والآية التي قبلها في أول السورة بالواو؟ وأجاب بأن هذه الآية مسببة عن قوله وإذا ذكر الله ... الخ» قال أحمد: كلام جليل فافهمه، فضلا عن مشبه قليل.
(2) . قوله «المعترض بينه وبينه» لعل قوله «وبينه» مزيد من بعض الناسخين. (ع)
(3) . قوله «لصدوفهم عنه» أى: إعراضهم. أفاده الصحاح. (ع)

(4/134)


قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52) قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)

[سورة الزمر (39) : الآيات 50 الى 52]
قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52)
الضمير في قالها راجع إلى قوله إنما أوتيته على علم لأنها كلمة أو جملة من القول.
وقرئ: قد قاله على معنى القول والكلام، وذلك والذين من قبلهم: هم قارون وقومه، حيث قال: إنما أوتيته على علم عندي وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون منه من هؤلاء من مشركي قومك سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم أولم يعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل.

[سورة الزمر (39) : آية 53]
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)
أسرفوا على أنفسهم جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها لا تقنطوا قرئ بفتح النون وكسرها وضمها إن الله يغفر الذنوب جميعا يعنى بشرط التوبة، «1» وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، والمراد بمن يشاء: من تاب، لأن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل في قراءة النبى صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضى الله عنها: يغفر الذنوب جميعا ولا يبالى. ونظير نفى المبالاة نفى الخوف في قوله تعالى ولا يخاف عقباها وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله فنزلت. وروى أنه أسلم عياش بن أبى ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أبدا، فنزلت. فكتب بها عمر رضى الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا. وقيل نزلت في وحشى قاتل حمزة رضى الله عنه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحب أن لي
__________
(1) . قوله «يعنى بشرط التوبة» عند التوبة فالعموم شامل للشرك، وعند عدمها فلا غفران للكبائر عند المعتزلة. ويجوز بالشفاعة وبمجرد الفضل عند أهل السنة إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما تقرر في علم التوحيد: فارجع إليه. (ع)

(4/135)


وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59)

الدنيا وما فيها بهذه الآية» فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: «ألا ومن أشرك» «1» ثلاث مرات.

[سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 59]
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58)
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59)
وأنيبوا إلى ربكم وتوبوا إليه وأسلموا له وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم مثل قوله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأنتم لا تشعرون أى يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم أن تقول نفس كراهة أن تقول. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكسير، كما قال الأعشى:
ورب بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا «2»
__________
(1) . أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين من حديث ثوبان. وفيه ابن لهيعة عن أبى قبيل وهما ضعيفان.
(2) .
دعا قومه حولي فجاءوا لنصره ... وناديت قوما بالمسناة غيبا
ورب بقيع لو هتفت بحوه ... أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا
للأعشى وقيل: لأبى عمرو بن العلاء، يصف قومه بالجبن حتى كأنهم أموات مقبورون، صارت الأحجار مسناة فوقهم. وسنيت الشيء سهلته، أى: منعمة مملسة. أو بالية مفتتة. ويجوز أن أصله مسننة، فقلبت النون الثانية ألفا. وسننت الحجر حددته وملسته. وفي وصف القبور بذلك مبالغة في وصف قومه بالجبن، بل هم دون تلك الأموات، فرب بقيع: أى موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمراد مقبرة، لا بقيع الغرقد بالغين وهو مقبرة المدينة بعينها، لو هتفت بحوه، أى: ناديت شجاعهم لجاءنى كريم ينفض رأسه من تراب القبر. أو من الغضب لما نالني من المكروه، وليس المراد كريما واحدا، بل كرماء كثيرة بمعونة المقام. والحو- بالمهملة-: الشجاع، وبالمعجمة: العسل، وبالجيم: ما غلظ وارتفع من الأرض.

(4/136)


وهو بريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: يا حسرتى، على الأصل.
ويا حسرتاى، على الجمع بين العوض والمعوض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري:
أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع «1»
وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج «2»
ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفى أن يصلى الرجل لمكان الرجل» «3» وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل فرطت في جنب الله على معنى:
فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرطت في الله. فما معنى فرطت في الله؟ قلت: لا بد من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرطت في طاعة الله
__________
(1) .
أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع
غريب مشوق مولع بادكاركم ... وكل غريب الدار بالشوق مولع
لجميل بن معمر يستعطف صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها، أى: أما تخافين الله في جنب وامق، أى: في حقه الواجب عليك، فالجنب: كناية عن ذلك. والوامق: الشديد المحبة، يعنى نفسه. وحرى: أى ذات حر واحتراق.
وتقطع: أصله تتقطع، والادكار: أصله الاذتكار، قلبت تاؤه دالا مهملة، وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما. وفي البيت رد العجز على الصدر، وهو من بديع الكلام.
(2) . لزيادة الأعجم يمدح عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، وهو من باب الكناية التي قصد بها النسبة، يعنى أنه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره، ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.
(3) . أخرجه أحمد وإسحاق والبزار والحاكم والبيهقي. من رواية ربيح بن عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه عن جده قال» خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما. ونحن نتذاكر الدجال. فقال غير الدجال أخوف عليكم:
الشرك الخفي: أن يعمل الرجل لمكان الرجل» لفظ الحاكم.

(4/137)


ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)

وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. وما في ما فرطت مصدرية مثلها في بما رحبت، وإن كنت لمن الساخرين قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل وإن كنت النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أى:
فرطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن لو أن الله هداني لا يخلو: إما أن يريد الهداية «1» بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه لو هدانا الله لهديناكم وقوله بلى قد جاءتك آياتي رد من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.
وقرئ بكسر التاء «2» على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله لو أن الله هداني ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: لو أن الله هداني فيه معنى: ما هديت.

[سورة الزمر (39) : آية 60]
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)
كذبوا على الله وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال «3» عنه، فأضافوا إليه
__________
(1) . قوله «لا يخلو إما أن يريد به الهداية» تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة، ولكن خلق الهداية لا يصل إلى حد الإلجاء، لأنه لا يسلب الاختيار عند أهل السنة، كخلق التقوى والطاعة وغيرها من الأفعال الاختيارية، لما أثبتوه للعبد من الكسب فيها وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قوله «وقرئ بكسر التاء» لعل من كسرها كسر الكاف أيضا. (ع)
(3) . قال محمود: «يعنى الذين وصفوه تعالى بما لا يجوز عليه وهو متعال عنه ... الخ» قال أحمد: قد عدا طور التفسير لمرض في قلبه لا دواء له إلا التوفيق الذي حرمه، ولا يعافيه منه إلا الذي قدر عليه هذا الضلال وحتمه، وسنقيم عليه حد الرد، لأنه قد أبدى صفحته، ولولا شرط الكتاب لأضربنا عنه صفحا ولوينا عن الالتفات إليه كشحا، وبالله التوفيق فنقول: أما تعريضه بأن أهل السنة يعتقدون أن القبائح من فعل الله تعالى، فيرجمه باعتقادهم المشار إليه قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل أما الزمخشري وإخوانه القدرية، فيغيرون وجه هذه الآية ويقولون: ليس خالق كل شيء، لأن القبائح أشياء وليست مخلوقة له.
فاعتقدوا أنهم نزهوا، وإنما أشركوا. وأما تعريضه لهم في أنهم يجوزون أن يخلق خلقا لا لغرض، فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل، لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة، فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنها فيجب عليه أن لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما لله تعالى، فاعتقاد باطل، لأن ذلك إنما ثبت لازما لاعتقادهم أن الله تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بها تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق، ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك الله تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض، فيقال له: ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال، ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية إذ يقولون: لا بد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية الله تعالى يستلزم اعتقاد الجسمية، فانه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك، مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية قول نبى الهدى عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فهذا النص الذي ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شيء من التهويل. وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة، فيعنى به قولهم «بلا كيف» أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء، ولا تبعد عن الهدى عين الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون لله أندادا باثباتهم معه قدماء، فنفى لاثباتهم صفات الكمال، كلا والله، إنما جعل لله أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم. حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء الله لا يكون. وأما أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن لله تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة، حسبما دل عليه العقل وورد به الشرع وأى مخلص للقدرى إذا سمع قوله تعالى وسع ربنا كل شيء علما إلا اعتقاد أن لله تعالى علما أو جحد آيات الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما قوله: إنهم يثبتون لله تعالى يدا وقدما ووجها، فذلك فرية ما فيها مرية، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة. وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية وردت في القرآن: اليدان والعينان والوجه، ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب الله العزيز، على أن غيره من أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة، والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه، وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ مخاطبته الغضب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأهل سنته، فانه قد أسناء عليهم الأدب، ونسيهم بكذبه إلى الكذب، والله الموفق.

(4/138)


الولد والشريك، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا، وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، وقالوا والله أمرنا بها ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح «1» ، وتجويز أن يخلق خلقا لا لغرض، ويؤلم
__________
(1) . قوله «قوم يسفهونه بفعل القبائح» يريد بهم أهل السنة، حيث ذهبوا إلى أنه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ولو معاصى، وأن فعله لا لغرض بل لحكمة، وإيلام الأطفال لا يستوجب عليه عوضا، وتظليمه نسبته إلى الظلم بتجويز تكليف المحال كما في علم الأصول، وجوزوا عليه الرؤية وهي غير مختصة بالأجسام عندهم، وجوز السلف أن يكون له يد ونحوها، لكن لا كالأيدى. وأراد بالقدماء صفات المعاني: كالقدرة والارادة، حيث قال أهل السنة: إنها موجودة بوجودات زائدة على وجود الذات، وتحقيق ذلك في التوحيد والأصول، فانظره. والبلكفة:
قولهم «بلا كيف» . (ع)

(4/139)


وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63)

لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا معاينا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدماء وجوههم مسودة جملة في موضع الحال إن كان ترى من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.

[سورة الزمر (39) : آية 61]
وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61)
قرئ: ينجى وينجى بمفازتهم بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة قوله لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل:
لا يمسهم السوء، أى ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب أى بمنجاة منه، لأن النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضى الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة، ويجوز: بسبب فلاحهم، لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة، لأنه سببها. وقرئ: بمفازاتهم، على أن لكل متق مفازة. فإن قلت: لا يمسهم ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول فلا محل له، لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني فمحله النصب على الحال.

[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 63]
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63)
له مقاليد السماوات والأرض أى هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح، ولا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد. ويقال: إقليد، وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت. ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا. فإن قلت: بما اتصل قوله والذين كفروا قلت: بقوله وينجي الله الذين اتقوا أى ينجى الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون.
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، فلا بخفي عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل: سأل عثمان رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى له مقاليد السماوات والأرض، فقال: «يا عثمان» ما سألنى عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله والله

(4/140)


قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)

أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير» «1» وتأويله على هذا، أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض: من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون.

[سورة الزمر (39) : آية 64]
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64)
أفغير الله منصوب بأعبد. وتأمروني اعتراض. ومعناه، أفغير الله أعبد بأمركم، وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله تأمروني أعبد لأنه في معنى تعبدوننى وتقولون لي: اعبد، والأصل: تأمروننى أن أعبد، فحذف «أن» ورفع الفعل، كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى «2»
ألا تراك تقول: أفغير الله تقولون لي اعبده، وأ فغير الله تقولون لي أعبد، فكذلك أفغير الله تأمروننى أن أعبده. وأ فغير الله تأمروننى أن أعبد، والدليل على صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ أعبد بالنصب. وقرئ: تأمروننى، على الأصل. وتأمرونى، على إدغام النون أو حذفها.

[سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 66]
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)
قرئ: ليحبطن عملك، وليحبطن: على البناء للمفعول. ولنحبطن، بالنون والياء، أى:
ليحبطن الله. أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال لئن أشركت على التوحيد؟ قلت: معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت كما تقول كسانا حلة، أى: كل واحد منا:
فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية لام الجواب، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين، أعنى: جوابي القسم والشرط. فإن قلت: كيف صح هذا
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والعقيلي والبيهقي في الأسماء والطبراني في الدعاء كلهم من رواية أغلب بنى تميم حدثنا مخلد أبو الهذيل عن عبد الرحيم. وعبد الرحمن بن عدى عن عبد الله بن عمر به، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. وله وجه آخر عند ابن مردويه. من طريق كلب بن وائل عن عمر ورواه ابن مردويه عن الطبراني بإسناد آخر إلى ابن عباس «أن عثمان- فذكره» وفيه سلام بن وهب الجندي عن أبيه ولا أعرفهما.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 159 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/141)


وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)

الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا يعنى على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله ولتكونن من الخاسرين؟ قلت: يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشد، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله تعالى إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، بل الله فاعبد رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه «1» وكن من الشاكرين على ما أنعم به عليك، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد.

[سورة الزمر (39) : آية 67]
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل وما قدروا الله حق قدره وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين «2»
__________
(1) . قال محمود: «أصل الكلام: إن كنت عابدا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه.
اه كلامه» قال أحمد: مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية: أن الأصل فيه فاعبد الله، ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا، فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها، ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه، فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها، ولتعطف عليه ما بعدها وينضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر، كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
(2) . قال محمود: «الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن حبرا جاء إليه فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له، فإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من غير تصوير إمساك ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من التخييل، ثم قال: وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما. اه كلامه» قال أحمد: إنما عنى بما أجراه هاهنا من لفظ التخييل التمثيل، وإنما العبارة موهمة منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من الوجوه، والله أعلم.

(4/142)


إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل «1» جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك «2» فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له وما قدروا الله حق قدره ... الآية وإنما ضحك أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإن أكثره وعليته «3» تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون «4» إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره، لما خفى عليهم أن العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة «5» والوجوه الرثة، لأن من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير «6» . والمراد بالأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان: قوله جميعا وقوله
__________
(1) . قوله «أن جبريل جاء إلى رسول الله» قيل: الصواب أنه حبر من أحبار اليهود لا جبريل. ويدل عليه ما في البخاري ومسلم والترمذي، كذا بهامش. ويؤيده أن «يا أبا القاسم» عادة اليهود في ندائه صلى الله عليه وسلم. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن مسعود. «تنبيه» وقع عنده أن جبريل وهو تصحيف. والذي في الصحيح «جاء حبر من اليهود» وفي رواية «أن يهوديا» وفي رواية «أن رجلا من أهل الكتاب» .
(3) . قوله «وعليته» أى معظمه. (ع)
(4) . قوله «وما أتى الزالون» أى أجيبوا (ع)
(5) . قوله «بالتأويلات الغثة» في الصحاح «الغث» نبت يختبز حبه ويؤكل في الجوع، وتكون خبزته غليظة شبيهة يخبز الملة. (ع)
(6) . قوله «قبيلا منه من دبير» في الصحاح «القبيل» : ما تقبل به المرأة من غزلها حين تفتله. وفيه «الدبير» :
ما تدبره به المرأة من غزلها حين تفتله. ومنه قيل: فلان ما يعرف قبيلا من دبير. (ع)

(4/143)


ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68)

والسماوات ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضى كلهن. والقبضة: المرة من القبض فقبضت قبضة من أثر الرسول والقبضة- بالضم-: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا: أعطنى قبضة من كذا: تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روى: «1» أنه نهى عن خطفة السبع، «2» وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعا قبضته، أى: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أى: ذات أكلته وذات جرعته، تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
فإن قلت. ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم:
مطويات من الطى الذي هو ضد النشر، كما قال تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: قبضته: ملكه بلا مدافع ولا منازع، وبيمينه:
بقدرته. وقيل: مطويات بيمينه مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكى حمية لكلام الله المعجز بفصاحته، وما منى «3» به من أمثاله، وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ:
مطويات على نظم السماوات في حكم الأرض، ودخولها تحت القبضة، ونصب مطويات على الحال سبحانه وتعالى ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.

[سورة الزمر (39) : آية 68]
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68)
__________
(1) . لم أجده هكذا. وروى أحمد وإسحاق وأبو يعلى من رواية سهل عن عبد الله بن يزيد عن شيخ لقيه سعيد ابن المسيب أنه سمع أبا الدرداء يقول «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل خطفة ونهبة والمجثمة وكل ذى ناب من السباع» ورواه أبو يعلى من رواية الإفريقي ورواه الدارمي والطبراني والنسائي في الكنى من رواية أبى أوس عن الزهري عن أبى إدريس عن أبى ثعلبة، بلفظ «نهي عن الخطفة والمجثمة والنهبة، وكل ذى ناب من السباع» . [.....]
(2) . قوله «نهى عن خطفة السبع» أى: والمراد مخطوفه. (ع)
(3) . قوله «وما منى به» أى ابتلى. (ع)

(4/144)


وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70)

فإن قلت: أخرى ما محلها من الإعراب؟ قلت: يحتمل الرفع والنصب: أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ «1» في الصور نفخة واحدة وأما النصب فعلى قراءة من قرأ نفخة واحدة والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ: قياما ينظرون: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 69 الى 70]
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70)
قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك. والمعنى وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادى عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما تقول: أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة» «2» وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. وقرئ: وأشرقت على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا.
والكتاب صحائف الأعمال، ولكنه اكتفى باسم الجنس، وقيل: اللوح المحفوظ الشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار. وقيل: المستشهدون في سبيل الله
__________
(1) . قوله «أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ» أى في الحافة. وقوله «من قرأ» أى: هناك. وقوله «حذفت» أى هنا. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم عن جابر والنسائي وأبى داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

(4/145)


وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74)

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72)
الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقد تزمروا «1» : قال:
حتي احزألت زمر بعد زمر «2»
وقيل في زمر الذين اتقوا: هي الطبقات المختلفة: الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقراء وغيرهم وقرئ: نذر منكم. فإن قلت: لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت: أرادوا لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدة قالوا بلى أتونا وتلوا علينا، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأن جهنم، لسوء أعمالنا، كما قالوا: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال. واللام في المتكبرين للجنس، لأن مثوى المتكبرين فاعل بئس، وبئس فاعلها: اسم معرف بلام الجنس. أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره:
فبئس مثوى المتكبرين جهنم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 74]
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74)
__________
(1) . قوله «وقد تزمروا» وفي نسخة أخرى: تزامروا. وفي الصحاح: احزألت الإبل في السير: ارتفعت. (ع)
(2) .
إن العفاة بالسيوب قد غمر ... حتى احزألت زمر بعد زمر
«السيوب» في الأصل: السيول، استعيرت للعطايا الكثيرة على طريق التصريحية. والغمر: ترشيح، أى: أن طلاب الرزق قد عمهم الممدوح بالعطايا. واحزألت: ارتفعت سائرة من عنده «زمر» : أى أفواج بعد أفواج.
ويروى: زمرا، على الحال، أى: احزألت العفاة حال كونها أفواجا متتابعة. وعلى الأول ففيه إظهار في موضع الإضمار، دلالة على التكثير.

(4/146)


وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)

حتى هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. وقيل: حتى إذا جاؤها، جاؤها وفتحت أبوابها، أى مع فتح أبوابها.
وقيل: أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها. وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها، بدليل قوله جنات عدن مفتحة لهم الأبواب فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وحثها إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين طبتم من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا فادخلوها جعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة، فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين، لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحا، تنقى أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب خالدين مقدرين الخلود الأرض عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرا ومتبوأ، وقد أورثوها: أى ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤن، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولا وعرضا. فإن قلت: ما معنى قوله حيث نشاء وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت:
يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره.

[سورة الزمر (39) : آية 75]
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)
حافين محدقين من حوله يسبحون بحمد ربهم يقولون: سبحان الله والحمد لله، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله بينهم؟ قلت: يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل، وأن يرجع إلى الملائكة، على أن ثوابهم- وإن كانوا معصومين جميعا- لا يكون على سنن واحد، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت:

(4/147)


حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3)

قوله وقيل الحمد لله من القائل ذلك؟ قلت: المقضى بينهم إما جميع العباد وإما الملائكة، كأنه قيل: وقضى بينهم بالحق، وقالوا الحمد لله على قضائه بيننا بالحق، وإنزال كل منا منزلته التي هي حقه.
عن عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر «1»

سورة المؤمن
مكية. قال الحسن: إلا قوله وسبح بحمد ربك، لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقد قيل في الحواميم كلها: أنها مكيات: عن ابن عباس وابن الحنفية وهي خمس وثمانون آية، وقيل ثنتان وثمانون [نزلت بعد الزمر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3)
قرئ بإمالة ألف «حا» وتفخيمها، وبتسكين الميم وفتحها. ووجه الفتح: التحريك لالتقاء الساكنين، وإيثار أخف الحركات، نحو أين وكيف أو النصب بإضمار اقرأ ومنع الصرف للتأنيث والتعريف أو للتعريف وأنها على زنة أعجمى نحو قابيل وهابيل. التوب والثوب والأوب:
أخوات في معنى الرجوع والطول والفضل والزياد. يقال: لفلان على فلان طول، والإفضال. يقال:
طال عليه وتطول، إذا تفضل. فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا، والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ قلت: أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان، لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن. أو غدا حتى يكونا في
__________
(1) . أخرجه النسائي من رواية حماد بن زيد عن أبى أمامة عن عائشة في أثناء حديث، وأخرجه أحمد وإسحاق وأبو يعلى والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من هذا الوجه.

(4/148)


تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما شديد العقاب فأمره مشكل، لأنه في تقدير: شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلا. وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبو ظاهر. والوجه أن يقال: لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل «1» ولقائل أن يقول: هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، على أن الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف.
ويجوز أن يقال: قد تعمد تنكيره، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال: هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت: ما بال الواو في قوله وقابل التوب؟ قلت:
فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
وروى أن عمر رضى الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب، من عمر إلى فلان: سلام عليك، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: بسم الله الرحمن الرحيم: حم إلى قوله إليه المصير. وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت لما اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان، لأنهما صفتان لازمتان، وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا، بل إضافتهما حقيقة. وأما شديد العقاب فلا شك في أن إضافته غير حقيقية، يريد:
لأنه من الصفات المشبهة، ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه قال: وجعله الزجاج بدلا وحده، وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر. والوجه أن يقال: إن جميعها أبدال غير أوصاف، لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعل، قضى عليها بأنها من بحر الرجز، فان وقع فيها جزء واحد على متفاعلن: كانت من الكامل» قال أحمد: وهذا لأن دخول مستفعلن في الكامل يمكن، لأن متفاعلن يصير بالاضمار إلى مستفعلن، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا، إذ لا يصبر إليه مستفعلن البتة، فما يفضى إلى الجمع بينهما فانه يتعين، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه الطريق في الجمع بين الدليلين.

(4/149)


ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5)

جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه، وادعوا له الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه «1» .

[سورة غافر (40) : آية 4]
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4)
سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر: والمراد: الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله، وقد دل على ذلك وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن جدالا في القرآن كفر» «2» وإيراده منكرا، وإن لم يقل: إن الجدال، تمييز منه بين جدال وجدال. فإن قلت: من أين تسبب لقوله فلا يغررك ما قبله؟ قلت: من حيث إنهم لما كانوا مشهودا عليهم من قبل الله بالكفر، والكافر لا أحد أشقى منه عند الله: وجب على من تحقق ذلك أن لا نرجح أحوالهم في عينه، ولا يغره إقبالهم في دنياهم وتقلبهم في البلاد بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن، ولهم الأموال يتجرون فيها ويتربحون، فان مصير ذلك وعاقبته إلى الزوال، ووراءه شقاوة الأبد. ثم ضرب لتكذيبهم وعداوتهم للرسل وجدالهم بالباطل وما ادخر لهم من سوء العاقبة مثلا: ما كان من نحو ذلك من الأمم، وما أخذهم به من عقابه وأحله بساحتهم من انتقامه. وقرئ: فلا يغرك.

[سورة غافر (40) : آية 5]
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5)
الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم وهمت كل أمة
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في ترجمة يزيد الأصم من روآية كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن يزيد الأصم «أن رجلا كان ذا بأس- فذكره بتمامه» ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن كثير بن هشام باختصار. وكذا ابن أبى حاتم والثعلبي.
(2) . أخرجه الطيالسي. ومن طريقه البيهقي في الشعب في التاسع عشر من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما بلفظ «لا تجادلوا في القرآن فان جدالا فيه كفر» وفي الباب عن أبى هريرة بلفظ «مراه في القرآن كفر» في الصحيح والسنن

(4/150)


وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (6) الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9)

من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب برسولهم وقرئ برسولها ليأخذوه ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير: أخيذ فأخذتهم يعنى أنهم قصدوا أخذه، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم فكيف كان عقاب فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب

[سورة غافر (40) : آية 6]
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (6)
أنهم أصحاب النار في محل الرفع بدل من كلمة ربك أى مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. والذين كفروا: قريش، ومعناه. كما وجب إهلاك أولئك الأمم، كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار. قرئ: كلمات.

[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9)
روى أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة» «1» فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل: زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع «2» . وفي الحديث: إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا
__________
(1) . أخرجه الثعلبي. وروى شهر بن حوشب: أن ابن عباس رفعه بهذا تعليقا، وهو في كتاب العظمة لأبى الفتح.
(2) . قوله «كأنه الوصع» طائر أصغر من العصفور. (ع)

(4/151)


ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة «1» . وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائه ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: العرش بضم العين. فإن قلت: ما فائدة قوله ويؤمنون به ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ «2» قلت:
فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى: وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة «3» ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان، لأنه إنما يوصف بالإيمان: الغائب، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء: في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، إلا هذا، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا، وأنه منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا
كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قال محمود: «إن قلت. ما قائدة قوله ويؤمنون به ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى ... الخ» قال أحمد: كلام حسن إلا استدلاله بقوله ويؤمنون به على أنهم ليسوا مشاهدين، فهذا لا يدل، لأن الايمان هو التصديق غير مشروط فيه غيبة المصدق به، بدليل صحة إطلاق الايمان بالآيات مع أنها مشاهدة، كانشقاق القمر وقلب العصاحية. وإنما نقب الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض، لكنه طاح بعيدا عن الغرض، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين، بدليل قوله تعالى ويؤمنون لأن معنى الايمان عنده التصديق بالغائب. ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين: أن الباري عز وجل لو صحت رؤيته لرأوه، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل، وقد أبطلنا ما ادعاه من أن الايمان مستلزم عدم الرؤية، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن تكون رؤيته غير صحيحة، وقوله: ولو كانت صحيحة لرأوه:
شرطية عقيمة الانتاج، لأن الرؤية عبارة عن إدراك: يخلق الله تعالى هذا الإدراك لحملة العرش، إلا أن يذهب بالزمخشرى الوهم إلى أن مصححى الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار على العرش، فيلزمهم رؤية حملة العرش له تعالى الله عن ذلك، وحاشى أهل السنة ومصححى الرؤية من ذلك. [.....]
(3) . قوله «كما تقول المجسمة» يريد أهل السنة، لأنهم لما جوزوا رؤيته تعالى معاينة: لزمهم القول بأنه تعالى جسم، ولكن الرؤية لا تستلزم الجسمية، خلافا للمعتزلة، كما بين في علم التوحيد. (ع)

(4/152)


لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضى قط، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى ويستغفرون لمن في الأرض. أى يقولون ربنا وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ليستغفرون مرفوع المحل مثله، وأن يكون حالا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صح أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى. والأصل:
وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء. فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملا على حديثهما جميعا، وما ذكر إلا الغفران وحده؟ قلت: معناه فاغفر للذين علمت منهم التسوية واتباع سبيلك «1» . وسبيل الله: سبيل الحق التي نهجها «2» لعباده ودعا إليها إنك أنت العزيز الحكيم أى الملك الذي لا يغلب: وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا إلا بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك وقهم السيئات أى العقوبات. أو جزاء السيئات. فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها: التكفير أو قبول التوبة: فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدته زيادة الكرامة والثواب. وقرئ: جنة عدن. وصلح، بضم اللام، والفتح أفصح. يقال: صلح فهو صالح، وصلح فهو صليح، وذريتهم.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت قد ذكر أولا الرحمة والعلم، ثم ذكر ما توجبه الرحمة وهو الغفران، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك ... الخ» قال أحمد: كلامه هاهنا محشو بأنواع الاعتزال: منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى. ومنها اعتقاد أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها. ومنها اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى. ومنها جحد الشفاعة، واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة المصلحة، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم يتب منها، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته، لا بالوجوب عليه، وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين، فهذه جواهر خمسة نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم، غير أنه جدد هاهنا قوله: إن فائدة الاستغفار كفائدة الشفاعة، وذلك مزيد الكرامة لا غير، يريد: أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل، وهذا الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة، زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة، كيف يجعل المسئول مزيدة الكرامة لا غير. ونص الآية: فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، فهي ناطقة بأنهم يسألون من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.
(2) . قوله «التي نهجها» أى: أبانها وأوضحها. أفاده الصحاح. (ع)

(4/153)


إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (10) قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير (12)

[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12]
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (10) قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير (12)
أى ينادون يوم القيامة، فيقال لهم: لمقت الله أكبر والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول. والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر، حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهن. وعن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا لمقت الله. وقيل: معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا وإذ تدعون: تعليل. والمقت: أشد البغض، فوضع في موضع أبلغ الإنكار وأشده اثنتين
إماتتين وإحياءتين. أو موتتين وحياتين.
وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أولا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم وكذا عن ابن عباس رضى الله عنهما. فإن قلت: كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا: إماتة؟ قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد، من غير ترجح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما «1» على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله
__________
(1) . قال محمود: «إحدى الإماتتين خلقهم أمواتا أولا، والأخرى إماتتهم عند انقضاء آجالهم، ثم قال: فان قلت كيف سمى خلقه لهم أمواتا إماته، وأجاب بأنه كما يقال: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وكما يقال للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من صغر إلى كبر ولا عكسه، ولا من ضيق إلى سعة ولا عكسه. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد، وكذلك الضيق والسعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن من الآخر، جعل صرفا عن الآخر وهو متمكن منه» قال أحمد: ما أسد كلامه هاهنا حيث صادق التمسك بأذيال نظر مالك رحمه الله في مسألة ما إذا باعه إحدى وزنتين معينتين على اللزوم لإحداهما والخيرة في عينها، فانه منع من ذلك، لأن المشترى لما كان متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء، فإذا عين واحدة منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى، وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا، ثم الانتقال عنها إلى هذه، فإذا آل إلى بيع إحداهما بالأخرى غير معلومتى التماثل، وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم: إن من خير بين شيئين فاختار أحدهما: عد متنقلا، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.

(4/154)


منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياآت، وهو خلاف ما في القرآن، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتد بها. أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمر بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى إلا من شاء الله. فإن قلت: كيف تسبب هذا لقوله تعالى فاعترفنا بذنوبنا؟ قلت: قد أنكروا البعث فكفروا، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى، لأن من لم يخش العاقبة تخرق «1» في المعاصي، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم فهل إلى خروج أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلكم أى ذلكم الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك «2» به فالحكم لله حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد: وقوله العلي الكبير دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل:
كأن الحرورية «3» أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله، من هذا.
__________
(1) . قوله «تخرق في المعاصي» في الصحاح: يقال: هو يتخرق في السخاء، إذا توسع فيه. (ع)
(2) . قال محمود: «أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط، أم اليأس واقع دون ذلك، فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، وهو قوله ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم معناه: أن اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى، وإيمانكم بالاشراك» قال أحمد: وعلى هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم:
هل إلى نجد وصول ... وعلى الخيف نزول
وإنما قصدهم أن هذا أمر غالب فيه اليأس على الطمع.
(3) . قوله «الحرورية» في الصحاح: أنها طائفة من الخوارج تنسب إلى «حرور» اسم قرية، وكأنه يريد أهل السنة، فإنهم الذين اشتهر عنهم هذا القول، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الفعل قد يدرك الحكم قبل ورود الشرع، كما بين في الأصول. (ع)

(4/155)


هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15) يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16)

[سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 16]
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق (15) يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16)
يريكم آياته من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها. والرزق: المطر، لأنه سببه وما يتذكر إلا من ينيب وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه، ثم قال للمنيبين فادعوا الله أى اعبدوه مخلصين له الدين من الشرك. وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم. رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح ثلاثة أخبار، لقوله «هو» مترتبة على قوله الذي يريكم أو أخبار مبتدإ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. وقرئ: رفيع الدرجات بالنصب على المدح. ورفيع الدرجات، كقوله تعالى ذي المعارج وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته. وعن ابن جبير: سماء فوق سماء. والعرش فوقهن. ويجوز أن يكون عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه، كما أن ذا العرش عبارة عن ملكه. وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة الروح من أمره الذي هو سبب الحياة من أمره، يريد: الوحى الذي هو أمر بالخير وبعث عليه، فاستعار له الروح، كما قال تعالى أومن كان ميتا فأحييناه لينذر الله. أو الملقى عليه: وهو الرسول أو الروح. وقرئ: لتنذر، أى: لتنذر الروح لأنها تؤنث، أو على خطاب الرسول. وقرئ: لينذر يوم التلاق، على البناء للمفعول ويوم التلاق يوم القيامة، لأن الخلائق تلتقي فيه. وقيل: يلتقى فيه أهل السماء وأهل الأرض. وقيل:
المعبود والعابد يوم هم بارزون ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض بارزة قاع صفصف، ولا عليهم ثياب، إنما هم عراة مكشوفون، كما جاء في الحديث «يحشرون عراة حفاة غرلا» «1» لا يخفى على الله منهم شيء أى من أعمالهم وأحوالهم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: لا يخفى عليه منهم شيء. فإن قلت: قوله لا يخفى على الله منهم شيء:
بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت:
معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب: أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وقال تعالى:
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.

(4/156)


اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17) وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18)

يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله
وذلك لعلمهم أن الناس يبصرونهم، وظنهم أن الله لا يبصرهم، وهو معنى قوله وبرزوا لله الواحد القهار، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به. ومعناه: أنه ينادى مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر: لله الواحد القهار. وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط «فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس ... الآية فهذا يقتضى أن يكون المنادى هو المجيب.

[سورة غافر (40) : آية 17]
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17)
لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك، وهي أن كل نفس تجزى ما كسبت وأن الظلم مأمون، لأن الله ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ، لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا أخذ في حسابهم لم يقل «1» أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.

[سورة غافر (40) : آية 18]
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18)
الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أى: لقربها. ويجوز أن يريد بيوم الآزفة: وقت الخطة الآزفة، وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا. فإن قلت: كاظمين بم انتصب؟
قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى رأيتهم لي ساجدين وقال فظلت أعناقهم لها خاضعين وتعضده قراءة من قرأ: كاظمون. ويجوز أن يكون حالا عن قوله: وأنذرهم، أى: وأنذرهم مقدرين أو مشارفين الكظم، كقوله تعالى فادخلوها خالدين الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع، لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى:
__________
(1) . قوله «لم يقل أهل الجنة إلا فيها» من قال يقيل قيلولة. (ع)

(4/157)


ولا شفيع يطاع؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، «1» كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعا. ونحوه:
ولا ترى الضب بها ينجحر «2»
يريد: نفى الضب وانجحاره. فإن قلت: فعلى أى الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفى الأمرين جميعا، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم.
قال الله تعالى وما للظالمين من أنصار وقال: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، «3» وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى ويزيدهم من فضله وعن الحسن رضى الله عنه: والله ما يكون لهم شفيع البتة، فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة، وهي أنها ضمت إليه، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معى سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى منى الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معى، فكذلك قوله ولا شفيع يطاع معناه:
كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع:
وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف «4» غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن يكون المنفي الشفيع الذي هو الموصوف وصفته وهي الطاعة، ويحتمل أن يكون المنفي الصفة وهي الطاعة والشفيع ثابت» قال أحمد: إنما جاء الاحتمال من حيث دخول النفي على مجموع الموصوف والصفة. ونفى المجموع، كما يكون بنفي كل واحد من جزئيه، وكذلك يكون بنفي أحدهما، على أن المراد هنا- كما قال-: نفى الأمرين جميعا. قال: وفائدة ذكر الموصوف أنه كالدليل على نفى الصفة، لأنه إذا انتفى الموصوف انتفت الصفة قطعا، قلت: فكأنه نفى الصفة مرتين من وجهين مختلفين.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 426 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «لا تكون إلا في زيادة التفضل» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتكون في الخروج من النار أيضا، كما تقرر في التوحيد. وحديث الشفاعة مشهور، نعم الكفار لا خروج لهم من النار. (ع)
(4) . قوله «موضع الأمر المعروف» أى الذي يعرفه السامع ويسلمه، كما هو شأن الشاهد على الدعوى، وإذا كان انتفاء الشفيع معروفا فلا ينتفي أن يتوهم وجوده، وبهذا يتبين قوله فيما سبق، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. (ع)

(4/158)


يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (19) والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير (20) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب (22)

[سورة غافر (40) : آية 19]
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (19)
الخائنة: صفة للنظرة. أو مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، كما يفعل أهل الريب، ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله وما تخفي الصدور لا يساعد عليه «1» . فإن قلت: بم اتصل قوله يعلم خائنة الأعين؟
قلت: هو خبر من أخبار هو في قوله هو الذي يريكم مثل يلقي الروح ولكن يلقي الروح قد علل بقوله لينذر يوم التلاق ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله ولا شفيع يطاع فبعد لذلك عن أخواته.

[سورة غافر (40) : آية 20]
والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير (20)
والله يقضي بالحق يعنى: والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضى إلا بالحق والعدل.
لاستغنائه عن الظلم. وآلهتكم لا يقضون بشيء، وهذا تهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه: يقضى، أو لا يقضى إن الله هو السميع البصير تقرير لقوله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه وتعريض بما يدعون من دون الله، وأنها لا تسمع ولا تبصر. وقرئ: يدعون، بالتاء والياء.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب (22)
هم في كانوا هم أشد منهم فصل. فإن قلت: من حق الفصل أن لا يقع إلا بين معرفتين، فما باله واقعا بين معرفة وغير معرفة؟ وهو أشد منهم. قلت: قد ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام، فأجرى مجراها. وقرئ: منكم، وهي في مصاحف أهل الشأم وآثارا
__________
(1) . قال محمود: «الخائنة إما صفة للنظرة وإما مصدر كالعافية» قال: «ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين» لأنه لا يساعد عليه قوله تعالى وما تخفي الصدور قال أحمد: إنما لم يساعد عليه لأن خائنة الأعين على هذا التقدير معناه الأعين الخائنة، وإنما يقابل الأعين الصدور، لا ما تخفيه الصدور، بخلاف التأويل الأول، فان المراد به نظرات الأعين فيطابق خفيات الصدور. [.....]

(4/159)


ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24) فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال (25) وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (26)

يريد حصونهم وقصورهم وعددهم، وما يوصف بالشدة من آثارهم. أو أرادوا: أكثر آثارا، كقوله:
متقلدا سيفا ورمحا «1»

[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 25]
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24) فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال (25)
وسلطان مبين وحجة ظاهرة وهي المعجزات، فقالوا: هو ساحر كذاب، فسموا السلطان المبين سحرا وكذابا فلما جاءهم بالحق: بالنبوة: فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أن يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله قالوا اقتلوا أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا، يريد أن هذا قتل غير القتل الأول في ضلال في ضياع وذهاب، باطلا لم يجد عليهم، يعنى. أنهم باشروا قتلهم أولا فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغنى عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحس بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظا وحنقا، وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعا.

[سورة غافر (40) : آية 26]
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (26)
ذروني أقتل موسى كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلا ساحرا مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبى، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالا سفاكا الدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله
__________
(1) .
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
الوغى: الحرب. ورمحا: نصب بمحذوف يناسبه، أى: متقلدا سيفا وحاملا رمحا. وروى بدل الشطر الأول:
يا ليت زوجك قد غدا
أى ذهب إلى الحرب غدوة لابسا سلاحه.

(4/160)


وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27) وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (28)

وليدع ربه شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله ذروني أقتل موسى تمويها «1» على قومه، وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع أن يبدل دينكم أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، بدليل قوله ويذرك وآلهتك والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال: إنى أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو، ومعناه. إنى أخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وقرئ: يظهر، من أظهر «2» ، والفساد منصوب، أى: يظهر موسى الفساد. وقرئ يظهر، بتشديد الظاء والهاء، من تظهر بمعنى تظاهر، أى: تتابع وتعاون.

[سورة غافر (40) : آية 27]
وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27)
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله: قال لقومه إني عذت بالله الذي هو ربى وربكم، وقوله وربكم فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال من كل متكبر لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر: الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، وقال لا يؤمن بيوم الحساب لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها: وعذت ولذت: أخوان. وقرئ: عت، بالإدغام.

[سورة غافر (40) : آية 28]
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (28)
__________
(1) . قال محمود: «كانوا إذا هم بقتله كفوه عنه بقولهم: ليس هذا ممن يخاف، وإنما هو ساحر لا يقاومه إلا مثله، وقتله يوقع الشبهة عند الناس أنك إنما قتلته خوفا، وكان فرعون لعنه الله في ظاهر أمره- والله أعلم- عالما أنه نبى خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لولا الجزع، وأراد أن يكتم خوفه من قتله بأن يقول لهم: ذروني أقتله، ليكفوه عنه فينسب الانكفاف عن قتله إليهم، لا إلى جزعه وخوفه. ويدل على خوفه منه لكونه نبيا قوله وليدع ربه وهذا من تمويهاته المعروفة» قال أحمد: هو من جنس قوله إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فقد تقدم أن مراده بذلك أن يظهر لقومه قلة احتفاله بهم، ويوهمهم أن قتله لهم ليس خوفا منهم، ولكن غيظا عليهم، وكان من عادته الحذر والتحصن وحماية الذريعة في المحافظة على حوزة المملكة، لا أن ذلك خوف وهلع، ولقد كذب، إنما كان فؤاده مملوءا رعبا.
(2) . قوله «وقرئ يظهر من أظهر» يفيد أن القراءة المشهورة: يظهر من ظهر، والفساد مرفوع. (ع)

(4/161)


رجل مؤمن وقرئ: رجل، بسكون الجيم كما يقال: عضد، في عضد وكان قبطيا ابن عم لفرعون:
آمن بموسى سرا وقيل كان إسرائيليا ومن آل فرعون صفة لرجل. أو صلة ليكتم، أى:
يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه: سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل، أو حزبيل. والظاهر:
أنه كان من آل فرعون، فإن المؤمنين من بنى إسرائيل لم يقلوا ولم يعزوا. والدليل عليه قول فرعون: أبناء الذين آمنوا معه. وقول المؤمن فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه أن يقول لأن يقول. وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله ربي الله مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم «1» ، ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أى: وقت أن تقول. والمعنى. أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره. وقوله بالبينات يريد بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا، وإن يك كاذبا فعليه كذبه أى يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم إن تعرضتم له. فإن قلت: لم قال: بعض الذي يعدكم وهو نبى صادق، لا بد لما يعدهم أن يصيبهم
__________
(1) . قال محمود: «الظاهر أن الرجل من آل فرعون، وقيل: إنه من بنى إسرائيل. ومن آل فرعون: متعلق بيكتم، تقديره: يكتم إيمانه من آل فرعون، وهو بعيد، لأن بنى إسرائيل كان إيمانهم ظاهرا فاشيا، ولقد استدرجهم هذا المؤمن في الايمان باستشهاده على صدق موسى بإحضاره عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية ببينات عدة لا بينة واحدة، وأتى بها معرفة، معناه: البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ... الخ» قال أحمد: لقد أحسن الفهم والتفطن لأسرار هذا القول، ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا قوله تعالى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالا بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة.
وقريب من هذا التصرف لابعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، حتى قيل:
إنه لما انتهى إليه قال: اللهم ما سرق هذا ولا هو بوجه سارق، فاطمأنت أنفسهم وانزاحت التهمة عن يوسف أن يكون قصد ذلك، فقالوا: والله لنفتشنه، فاستخرجها من وعائه.

(4/162)


ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (29)

كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم «1» ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يصبكم بعض الذي يعدكم ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. فإن قلت: فعن أبى عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
تراك امكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «2»
قلت: إن صحت الرواية عنه. فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له إن الله لا يهدي من هو مسرف يحتمل أنه كان مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من ذلك طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا، فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصديق رضى الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه «3» . وعن جعفر الصادق: أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا.

[سورة غافر (40) : آية 29]
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (29)
ظاهرين في الأرض في أرض مصر عالين فيها على بنى إسرائيل، يعنى: أن لكم ملك
__________
(1) . قوله «إلى أن يلاوصهم ويداريهم» في الصحاح: فلان يلاوص الشجر، أى: ينظر كيف يأتيها لقلعها. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 641 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . أخرجه النسائي من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص. وابن حبان من طريق يحيى ابن عروة عن عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أتم منه. قلت: علقه البخاري نحوهما.

(4/163)


وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31)

مصر وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد. وقال ينصرنا وجاءنا، لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه ما أريكم إلا ما أرى أى: ما أشير عليكم برأى إلا بما أرى من قتله، يعنى: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد يريد: سبيل الصواب والصلاح.
أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، ولا أدخر منه شيئا، ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعنى أن لسانه وقلبه متواطنان على ما يقول، وقد كذب، فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحدا ولم يقف الأمر على الإشارة. وقرئ: الرشاد، فعال من رشد بالكسر، كعلام. أو من رشد بالفتح، كعباد. وقيل:
هو من أرشد كجبار من أجبر، وليس بذلك، لأن فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف، نحو: دراك وسار وقصار وحبار، ولا يصح القياس على القليل. ويجوز أن يكون نسبة إلى الرشد، كعواج وبتات «1» ، غير منظور فيه إلى فعل.

[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 31]
وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31)
مثل يوم الأحزاب مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر على الواحد من الجمع، لأن المضاف إليه أغنى عن ذلك كقوله:
كلوا في بعض بطنكمو تعفوا «2»
وقال الزجاج: مثل يوم حزب حزب، ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولا بد من حذف مضاف، يريد:
مثل جزاء دأبهم. فإن قلت: بم انتصب مثل الثاني؟ قلت: بأنه عطف بيان لمثل الأول لأن
__________
(1) . قوله «كعواج وبتات» أى: صاحب العاج، والعاج: عظم الفيل. والبتات: الذي يبيع البتوت، او يعملها. والبت: الطيلسان من الخز، كذا في الصحاح. (ع)
(2) .
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى: لا تملؤوها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع، من باب ضرب يضرب، ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن، فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.

(4/164)


وياقوم إني أخاف عليكم يوم التناد (32) يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد (33) ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35)

آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت أهلك الله الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود، لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة وما الله يريد ظلما للعباد يعنى أن تدميرهم كان عدلا وقسطا، لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد حيث جعل المنفي إرادة الظلم، لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدا، كان عن الظلم أبعد. وحيث نكر الظلم، كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده «1» . ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر أى لا يريد لهم أن يظلموا، يعنى أنه دمرهم لأنهم كانوا ظالمين «2» .

[سورة غافر (40) : الآيات 32 الى 33]
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد (32) يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد (33)
التنادى. ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف من قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ويجوز أن يكون تصايحهم بالويل والثبور. وقرئ بالتشديد:
وهو أن يند بعضهم من بعض، كقوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فبيناهم يموج بعضهم في بعض: إذ سمعوا مناديا: أقبلوا إلى الحساب تولون مدبرين عن قتادة منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وعن مجاهد: فارين عن النار غير معجزين.

[سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35]
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35)
__________
(1) . قوله «كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده» هذا على مذهب المعتزلة من أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وأن الارادة بمعنى الرضا. وعند أهل السنة أنه تعالى يخلق الشر ويريده كالخير ولا يرضى الشر، فالرضا غير الارادة عندهم، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «يجوز أن يكون معناه معنى: وما ربك بظلام للعبيد. وهذا أبلغ، لأنه إذا لم يرد الظلم كان عن فعله الظلم أبعد، وحيث نكر الظلم أيضا، كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده. قال: ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله ولا يرضى لعباده الكفر فيكون المعنى: أن الله لا يريد لعباده أن يظلموا، لأنه ذمهم على كونهم ظالمين» قال أحمد: هذا من الطراز الأول، وقد تقدم مذهب أهل السنة فيما يتعلق بارادة الله تعالى خلافا لهذا وأشياعه.

(4/165)


هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام. وقيل: هو يوسف بن إبراهيم «1» بن يوسف بن يعقوب:
أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وقيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه.
وقيل: هو فرعون آخر. وبخهم بأن يوسف أتاكم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين حتى إذا قبض قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا حكما من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه، وليس قولهم لن يبعث الله من بعده رسولا بتصديق لرسالة يوسف، وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها، وإنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته. وقرئ: ألن يبعث الله، على إدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضا بنفي البعث. ثم قال كذلك يضل الله أى مثل هذا الخذلان المبين «2» يخذل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه الذين يجادلون بدل من من هو مسرف فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت: لأنه لا يريد مسرفا واحدا، فكأنه قال: كل مسرف. فإن قلت: فما فاعل كبر؟ قلت: ضمير من هو مسرف. فإن قلت:
أما قلت هو جمع، ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت: بلى هو جمع في المعنى. وأما اللفظ فموحد، فحمل البدل على معناه، والضمير الراجع إليه على لفظه، وليس ببدع «3» أن يحمل على
__________
(1) . قوله «وقيل هو يوسف بن إبراهيم» عبارة النسفي: أفراثيم. (ع)
(2) . قوله «أى مثل هذا الخذلان المبين» المعتزلة يؤولون الإضلال بالخذلان والترك، بناء على مذهبهم: أن الله لا يخلق الشر. وأهل السنة يفسرونه بخلق الضلال في القلب، بناء على أنه تعالى بخلق الشر كالخير كما بين في التوحيد. (ع)
(3) . قال محمود: «الذين يجادلون بدل من من هو مسرف، لأن المراد كل مسرف. وجاز إبداله على معنى من، لا على لفظها. قال: فان قلت ما فاعل كبر؟ وأجاب بأنه ضمير من هو مسرف، فحمل البدل على المعنى، والضمير على اللفظ، وليس ببدع» اه كلامه. قال أحمد: فيما ذكره معاملة لفظ من بعد معاملة معناها، وهذا مما قدمت أن أهل العربية يستغربونه، والأولى أن يجتنب في إعراب القرآن، فان فيه إبهاما بعد إيضاح، والمعهود في قراءة البلاغة عكسه، والصواب أن يجعل الضمير في قوله كبر راجعا إلى مصدر الفعل المتقدم، وهو قوله يجادلون تقديره: كبر جدالهم مقتا، ويجعل الذين مبتدأ، على تأويل حذف المضاف، تقديره: جدال الذين يجادلون في آيات الله، والضمير في قوله كبر مقتا عائد إلى الجدال المحذوف، والجملة مبتدأ وخبر. ومثله في حذف المصدر المضاف وبناء الكلام عليه: قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله على أحد تآويله، ومثله كثير. وفيه سوى ذلك من الوجوه السالمة عما ينطرق إلى الوجه المتقدم. فالوجه العدول عنه [.....]

(4/166)


وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37)

اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، وله نظائر، ويجوز أن يرفع الذين يجادلون على الابتداء، ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في كبر، تقديره: جدال الذين يجادلون كبر مقتا، ويحتمل أن يكون الذين يجادلون مبتدأ، وبغير سلطان أتاهم خبرا، وفاعل كبر قوله كذلك أى كبر مقتا مثل ذلك الجدال، ويطبع الله كلام مستأنف، ومن قال:
كبر مقتا عند الله جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. وفي كبر مقتا ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم، والشهادة على خروجه من حد إشكاله من الكبائر.
وقرئ: سلطان بضم اللام. وقرئ: قلب، بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، كما تقول: رأت العين، وسمعت الأذن. ونحوه قوله عز وجل فإنه آثم قلبه وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف. أى: على كل ذى قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب.

[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37)
قيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر، وأسباب السماوات طرقها وأبوابها وما يؤدى إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، كالرشاء ونحوه، فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلى أبلغ أسباب السماوات لأجزأ؟ قلت: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها، ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيبا أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه. وقرئ: فأطلع بالنصب «1» على جواب الترجي، تشبيها للترجى بالتمني. ومثل ذلك التزيين وذلك الصد زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل والمزين: إما الشيطان بوسوسته، كقوله تعالى وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل أو الله تعالى على وجه التسبيب، لأنه مكن»
الشيطان وأمهله. ومثله زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون وقرئ: وزين له سوء عمله «3» ،
__________
(1) . «وقرئ فأطلع بالنصب» يفيد أن القراءة المشهورة بالرفع على العطف. (ع)
(2) . قوله «على وجه التسبيب لأنه مكن» أول بهذا، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلقه كالخير فلا حاجة إلى هذا التأويل، والآية على ظاهرها. (ع)
(3) . قوله «وقرئ وزين له سوء عمله» أى بدل قوله تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله. (ع)

(4/167)


وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40) وياقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42)

على البناء للفاعل والفعل لله عز وجل، دل عليه قوله إلى إله موسى وصد، بفتح الصاد وضمها وكسرها، على نقل حركة العين إلى الفاء، كما قيل: قيل. والتباب الخسران والهلاك.
وصد: مصدر معطوف على سوء عمله. وصدوا هو وقومه.

[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 39]
وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39)
قال أهدكم سبيل الرشاد فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم لدنيا وتصغير شأنها، لأن الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدى إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة. وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد، لا جرم أن الله استثناه من آل فرعون، وجعله حجة عليهم وعبرة للمعتبرين، وهو قوله تعالى فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب وفي هذا أيضا دليل بين على أن الرجل كان من آل فرعون. والرشاد نقيض الغى. وفيه تعريض شبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغى.

[سورة غافر (40) : آية 40]
من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40)
فلا يجزى إلا مثلها لأن الزيادة على مقدار جزاء السيئة قبيحة، لأنها ظلم. وأما الزيادة على مقدار جزاء الحسنة فحسنة، لأنها فضل. قرئ: يدخلون ويدخلون بغير حساب واقع في مقابلة إلا مثلها، يعنى: أن جزاء السيئة لها حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة

[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 42]
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42)
فإن قلت: لم كرر نداء قومه؟ ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت: أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ عن سنة الغفلة. وفيه: أنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم،

(4/168)


لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (43) فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (44)

وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه، فإن سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه: يا أبت. وأما المجيء بالواو العاطفة، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. يقال: دعاه إلى كذا ودعاه له، كما تقول: هداه إلى الطريق وهداه له ما ليس لي به علم أى بربوبيته، والمراد بنفي العلم: نفى المعلوم، كأنه قال:
وأشرك به ما ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها «1»

[سورة غافر (40) : الآيات 43 الى 44]
لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (43) فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (44)
لا جرم سياقه على مذهب البصريين: أن يجعل لا ردا لما دعاه إليه قومه. وجرم:
فعل بمعنى حق، وأن مع ما في حيزه فاعله، أى: حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى: كسب، من قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا أى: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال: أن لا جرم، نظير: لا بد، فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بدا فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى: لا بد أنك تفعل كذا، بمعنى: لا بعد لك من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار، أى: لا قطع لذلك، بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع، لبطلان دعوة الأصنام، أى لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، بزنة بد، وفعل وفعل: أخوان. كرشد ورشد، وعدم وعدم ليس له دعوة معناه: أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أى:
من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية، ولو كان حيوانا ناطقا لضج من دعائكم. وقوله في الدنيا ولا في الآخرة يعنى أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا
__________
(1) . قال محمود: المراد بنفي العلم نفى المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس باله، وما ليس باله كيف يصح أن يعلم إلها» قال أحمد: وهذا من قبيل
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار له فيهتدى به، وكلام الزمخشري هاهنا أشد من كلامه على قوله تعالى حكاية عن فرعون ما علمت لكم من إله غيري.

(4/169)


فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)

من دعاء وغيره، وفي الآخرة: إذا أنشأه الله حيوانا، تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته. وقيل معناه ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة. أو دعوة مستجابة، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة فيها كلا دعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان. قال الله تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء. المسرفين عن قتادة: المشركين. وعن مجاهد: السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقرئ: فستذكرون، أى:
فسيذكر بعضكم بعضا وأفوض أمري إلى الله لأنهم توعدوه.

[سورة غافر (40) : الآيات 45 الى 46]
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)
فوقاه الله سيئات ما مكروا شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم. وقيل: نجا مع موسى وحاق بآل فرعون ما هموا به من تعذيب المسلمين. ورجع عليهم كيدهم النار بدل من سوء العذاب. أو خبر مبتدإ محذوف، كأن قائلا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار. أو مبتدأ خبره يعرضون عليها وفي هذا الوجه تعظيم للنار وتهويل من عذابها، وعرضهم عليها: إحراقهم بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به، وقرئ: النار، بالنصب، وهي تعضد الوجه الأخير. وتقديره: يدخلون النار يعرضون عليها. ويجوز أن ينتصب على الاختصاص غدوا وعشيا في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم.
ويجوز أن يكون غدوا وعشيا: عبارة عن الدوام. هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم أدخلوا يا آل فرعون أشد عذاب جهنم. وقرئ: أدخلوا آل فرعون، أى:
يقال لخزنه جهنم: أدخلوهم. فإن قلت: قوله وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه: أنه رجع عليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، فإذا فسر سوء العذاب بنار جهنم: لم يكن مكرهم راجعا عليهم، لأنهم لا يعذبون بجهنم. قلت:
يجوز أن بهم الإنسان بأن يغرق قوما فيحرق بالنار، ويسمى ذلك حيقا لأنه هم بسوء فأصابه ما يقع عليه اسم السوء. ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه، ويجوز أن بهم فرعون- لما سمع إنذار المسلمين بالنار، وقول المؤمن وأن المسرفين هم أصحاب النار- فيفعل نحو ما فعل نمروذ ويعذبهم بالنار، فحاق به مثل ما أضمره وهم بفعله. ويستدل بهذه الآية على إثبات عذاب القبر.

(4/170)


وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48) وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (50)

[سورة غافر (40) : آية 47]
وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47)
واذكر وقت يتحاجون تبعا تباعا، كخدم في جمع خادم. أو ذوى تبع، أى: أتباع، أو وصفا بالمصدر.

[سورة غافر (40) : آية 48]
قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48)
وقرئ. كلا، على التأكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا. أو كلنا فيها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون «كلا» حالا قد عمل فيها فيها؟
قلت: لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمه كما يعمل في الظرف متقدما تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائما في الدار زيد قد حكم بين العباد قضى بينهم وفصل بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

[سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50]
وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (50)
لخزنة جهنم للقوام بتعذيب أهلها. فإن قلت: هلا قيل: الذين في النار لخزنتها؟ قلت:
لأن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر «1» ، وقولهم في النابغة: جهنام، تسمية بها، لزعمهم أنه يلقى الشعر على لسان المنتسب إليه، فهو بعيد الغور في علمه بالشعر «2» ، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:
قليذم من العياليم الخسف «3»
__________
(1) . قوله «بئر جهنام بعيدة القعر ... الخ» في الصحاح: بكسر الجيم والهاء. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل لخزنتها، وأجاب أن في ذكر جهنم تهويلا وتفظيعا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا من قولهم: بئر جهنام، أى: بعيدة القعر، وكان النابغة يسمى الجهنام لبعد غوره في الشعر» قال أحمد: الأول أظهر، والتفخيم فيه من وجهين، أحدهما: وضع الظاهر موضع المضمر، وهو الذي أشار إليه والثاني: ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه، لأن جهنم أفظع من النار، إذ النار مطلقة، وجهنم أشدها.
(3) .
أو دى جميع العلم مذ أودى خلف ... من لا يعد العلم إلا ما عرف
راوية لا يجتنى من الصحف ... قليذم من العياليم الخسف
لأبى نواس يرثى خلف الأحمر بن أحمد. وأودى ملك ومن لا يعد العلم صفة خلف، أى: لا يعتبر من العلم إلا بما عرفه حق اليقين وتلقاه بالتلقين. أو عرفه بالاستنباط من قواعد السابقين، فهو راوية، أى: كثير الرواية لا يأخذ من الكتب، شبهها بالروضة المثمرة على طريق المكنية، والاجتناء تخييل. وقليذم: البئر الغزيرة الماء.
والعيلم: الحفرة الكثيرة الماء. والخف: البعيدة الغور العميقة، شبهه بذلك تشبيها بليغا، لكثرة علمه ومعرفته للمعاني البعيدة الخفية.

(4/171)


إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52)

وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الوكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم أولم تك تأتيكم إلزام للحجة وتوبيخ، وأنهم خلفوا وراءهم أوقات الدعاء والتضرع، وعطلوا الأسباب التي يستجيب الله لها الدعوات قالوا فادعوا أنتم، فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين: كون المشفوع له غير ظالم، والإذن في الشفاعة مع مراعاة وقتها، وذلك قبل الحكم الفاصل بين الفريقين، وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه، فكيف يسمع دعاء الكافر.

[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 52]
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52)
في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أى في الدنيا والآخرة، يعنى أنه يغلبهم في الدارين جميعا بالحجة والظفر على مخالفيهم، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحانا من الله، فالعاقبة لهم، ويتيح الله من يقتص «1» من أعدائهم ولو بعد حين: والأشهاد. جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الحفظة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكونوا شهداء على الناس. واليوم الثاني بدل من الأول، يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة «2» لقوله تعالى ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ولهم اللعنة البعد من رحمة الله ولهم سوء الدار أى سوء دار الآخرة وهو عذابها. وقرئ: تقوم. ولا تنفع، بالتاء والياء.
__________
(1) . قوله «من يقتص» أى: يقدر. (ع)
(2) . قال محمود: «يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة لكنها لا تنفعهم، لأنها باطلة. ويحتمل أنهم لا يعتذرون، ولو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة قال أحمد: «هما الاحتمالان في قوله تعالى ولا شفيع يطاع ولكن بين الموضعين فرقا يصير أحدهما معه عكس الآخر، وذلك أنه هنا على تقدير أن يكون المراد أنهم لا معذرة لهم البتة، يكون قد نفى صفة المعذرة وهي المنفعة التي لها تراد المعذرة، قطعا لرجائهم كى لا يعتذروا البتة، كأنه قيل إذا لم يحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع ما لا ثمرة له وفي الآية المتقدمة جعل نفى الموصوف بتا لنفى الصفة ولهذا أولى النفي في هذه الآية الفعل، وفي المتقدمة أولى النفي الذات المنسوب إليها الفعل.

(4/172)


ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53) هدى وذكرى لأولي الألباب (54) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار (55) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56)

[سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 54]
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53) هدى وذكرى لأولي الألباب (54)
يريد بالهدى جميع ما آتاه في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع وأورثنا وتركنا على بنى إسرائيل من بعده الكتاب أى التوراة هدى وذكرى إرشادا وتذكرة، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال. وأولو الألباب: المؤمنون به العاملون بما فيه.

[سورة غافر (40) : آية 55]
فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار (55)
فاصبر إن وعد الله حق يعنى أن نصرة الرسل في ضمان الله، وضمان الله لا يخلف، واستشهد بموسى وما آتاه من أسباب الهدى والنصرة على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بنى إسرائيل، والله ناصرك كما نصرهم، ومظهرك على الدين كله، ومبلغ ملك أمتك مشارق الأرض ومغاربها، فاصبر على ما يجرعك قومك من الغصص، فإن العاقبة لك وما سبق به وعدى من نصرتك وإعلاء كلمتك حق، وأقبل على التقوى واستدرك الفرطات بالاستغفار، ودم على عبادة ربك والثناء عليه بالعشي والإبكار وقيل: هما صلاتا العصر والفجر.

[سورة غافر (40) : آية 56]
إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56)
إن في صدورهم إلا كبر إلا تكبر وتعظم، وهو إرادة التقدم والرياسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة. أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسدا وبغيا. ويدل عليه قوله تعالى لو كان خيرا ما سبقونا إليه أو إرادة دفع الآيات بالجدال ما هم ببالغيه أى ببالغي موجب الكبر ومقتضية، وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوة أو دفع الآيات.
وقيل: المجادلون هم اليهود، وكانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود، يريدون الدجال، ويبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، فسمى الله تمنيهم ذلك كبرا، ونفى أن يبلغوا متمناهم فاستعذ بالله فالتجئ إليه من كيد من

(4/173)


لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57) وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون (58) إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (59)

يحسدك ويبغى عليك إنه هو السميع لما تقول ويقولون البصير بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.

[سورة غافر (40) : آية 57]
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)
فإن قلت. كيف اتصل قوله لخلق السماوات والأرض بما قبله؟ قلت: إن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم لا يقادر قدره، وخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله «1» لا يعلمون لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم.

[سورة غافر (40) : آية 58]
وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون (58)
ضرب الأعمى والبصير مثلا للمحسن والمسيء. وقرئ: يتذكرون بالياء والتاء، والتاء أعم.

[سورة غافر (40) : آية 59]
إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (59)
لا ريب فيها لا بد من مجيئها ولا محالة، وليس بمرتاب فيها، لأنه لا بد من جزاء لا يؤمنون لا يصدقون بها.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: كيف اتصل قوله لخلق السماوات والأرض بما قبله؟ وأجاب بأن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث، وهو أصل المجادلة ومدارها، فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، وبأنها خلق عظيم، فخلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على الإنسان الضعيف أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد بخلق مثله» قال أحمد: الأولوية في هذا الاستشهاد ثابتة بدرجتين، أحدهما ما ذكره من أن القادر على العظيم هو على الحقير أقدر. الثانية: أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الاعادة ولا شك أن الابتداء أعظم وأبهر من الاعادة، فإذا كان ابتداء خلق العظيم يعنى السماوات والأرض داخلا تحت القدرة فابتداء خلق الحقير: يعنى الناس أدخل تحتها، وإعادته أدخل من ابتدائه، فهو أولى بأن يكون مقدورا عليه مما اعترفوا به من خلق السماوات والأرض بدرجتين، وإلى هذا الترتيب وقعت الاشارة بقوله تعالى في الم غلبت الروم:
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون فقرر أن قيام السماء والأرض هو بأمره، أى: خلقها من آياته، فكيف بما هو أحط من قيامها بدرجتين وهو إعادة البشر أهون عليه من الابتداء ليتحقق الدرجتان المذكورتان، فقال تعالى وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإذا تأملت الذي ذكرته منسوبا لما ذكره الزمخشري: علمت أن ما ذكره هو لباب المراد فجدد عهدا به إن لم تعلم ذلك.

(4/174)


وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60) الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61)

[سورة غافر (40) : آية 60]
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)
ادعوني اعبدوني، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن. ويدل عليه قوله تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي والاستجابة: الإثابة وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن- وقد سئل عنها-: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله، فقال. إن ترك الذنوب هو الدعاء. وفي الحديث «إذا شغل عبدى طاعتي عن الدعاء. أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» «1» وروى النعمان بن بشير رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الدعاء هو العبادة» «2» وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يريد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويريد بعبادتي: دعائي، لأن الدعاء باب من العبادة ومن أفضل أبوابها، يصدقه قول ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء «3» . وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلا نبيا مرسلا: كان يقول لكل نبى أنت شاهدي على خلقي، وقال لهذه الأمة لتكونوا شهداء على الناس وكان يقول: ما عليك من حرج، وقال لنا ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وكان يقول: ادعني أستجب لك، وقال لنا ادعوني أستجب لكم. وعن ابن عباس: وحدوني أغفر لكم، وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد داخرين صاغرين.

[سورة غافر (40) : آية 61]
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61)
مبصرا من الإسناد المجازى، لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار. فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، والنهار بالحال؟ وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما فيراعى حق المقابلة؟ قلت:
هما متقابلان من حيث المعنى، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، ولأنه لو قيل:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن سفيان عن منصور عن مالك بن الحرث قال «يقول الله: إذا اشتغل عبدى بثنائه عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وهذا مرسل، وفي الترمذي عن أبى سعيد «من شغله قراءة القرآن عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» .
(2) . أخرجه أصحاب السنن، وتقدم في مريم.
(3) . أخرجه الحاكم في الدعاء من وجهين عنه.

(4/175)


ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63) الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)

لتبصروا فيه، فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى، ولو قيل: ساكنا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه- لم تتميز الحقيقة من المجاز. فإن قلت: فهلا قيل: لمفضل، أو لمتفضل؟ قلت: لأن الغرض تنكير الفضل، وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل، وذلك إنما يستوي بالإضافة. فإن قلت: فلو قيل:
ولكن أكثرهم، فلا يتكرر ذكر الناس؟ قلت: في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه، كقوله: إن الإنسان لكفور، إن الإنسان لربه لكنود، إن الإنسان لظلوم كفار.

[سورة غافر (40) : الآيات 62 الى 63]
ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63)
ذلكم المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة، أى: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وإنشائه لا يمتنع عليه شيء، والوحدانية: لا ثانى له فأنى تؤفكون فكيف ومن أى وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة: أفك كما أفكوا. وقرئ: خالق كل شيء، نصبا على الاختصاص. وتؤفكون: بالتاء والياء.

[سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 65]
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)
هذه أيضا دلالة أخرى على تمييزه بأفعال خاصة، وهي أنه جعل الأرض مستقرا والسماء بناء أى قبة. ومنه: أبنية العرب لمضاربهم، لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض فأحسن صوركم وقرئ بكسر الصاد والمعنى واحد. قيل: لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان: وقيل لم يخلقهم منكوسين كالبهائم، كقوله تعالى في أحسن تقويم فادعوه فاعبدوه مخلصين له الدين أى الطاعة من الشرك والرياء، قائلين الحمد لله رب العالمين وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من قال لا إله إلا الله. فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين «1» .
__________
(1) . أخرجه الطبري، والحاكم أيضا، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن مردويه من رواية الأعمش عن مجاهد عنه. [.....]

(4/176)


قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66) هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67)

[سورة غافر (40) : آية 66]
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66)
فإن قلت: أما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه؟ قلت: بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل- كان ذكر البينات ذكر الأدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا، لأن ذكر تناصر الأدلة أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية «1» .

[سورة غافر (40) : آية 67]
هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67)
لتبلغوا أشدكم متعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا. وكذلك لتكونوا. وأما ولتبلغوا أجلا مسمى فمعناه: ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى، وهو وقت الموت. وقيل:
يوم القيامة. وقرئ: شيوخا، بكسر الشين. وشيخا، على التوحيد، كقوله طفلا والمعنى:
كل واحد منكم. أو اقتصر على الواحد، لأن الغرض بيان الجنس من قبل من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا ولعلكم تعقلون ما في ذلك من العبر والحجج.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: النبي عليه الصلاة والسلام قد اتضحت له أدلة العقل على التوحيد قبل مجيء الوحى، فعلام تحمل الآية؟ وأجاب بأن الأمر كذلك ولكن البينات مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومتضمنة ذكرها، نحو قوله أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا لأن ذكر الأمرين أقوى في إبطال مذهبهم، وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية» قال أحمد: اللائق بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته واستحالة كون الأصنام آلهة، فمستفاد من أدلة العقول، وقد ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات. وأما وجوب عبادة الله تعالى وتحريم عبادة الأصنام، فحكم شرعي لا يستفاد إلا من السمع، فعلى هذا يترك الجواب عن هذا السؤال. وقوله تعالى إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله إنما أريد به- والله أعلم-: تحريم عبادة غير الله، فهذا لا يستفاد إلا من نهى الله تعالى عن ذلك، لا من العقل، لكن قاعدة الزمخشري تقتضي أن تحريم عبادة غير الله تعالى تتلقى من العقل قبل ورود الشرع، إذ العقل عنده حاكم بمقتضى التحسين والتقبيح، ولهذا أورد الاشكال عليه، واحتاج إلى الجواب عنه، ثم قوله في الجواب أن أدلة الشرع مقوية لأدلة العقل ضعيف، مع اعتقاده أن العقل يدل على الحكم قطعا، وما دل قطعا كيف يحتمل الزيادة والتأكيد، والقطعيات لا تفاوت في ثبوتها.

(4/177)


هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74) ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)

[سورة غافر (40) : آية 68]
هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68)
فإذا قضى أمرا فإنما يكونه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أن مقدورا لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمرا كان أهون شيء وأسرعه.

[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73)
من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74) ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)
بالكتاب بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب. فإن قلت: وهل قوله فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم إلى مثل قولك: سوف أصوم أمس؟ قلت:
المعنى على إذا: إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال. وعن ابن عباس: والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء، على عطف الجملة الفعلية على الاسمية. وعنه: والسلاسل يسحبون بحر السلاسل.
ووجهه أنه لو قيل: إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله إذ الأغلال في أعناقهم لكان صحيحا مستقيما، فلما كانتا عبارتين معتقبتين: حمل قوله والسلاسل على العبارة الأخرى. ونظيره:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها «1»
كأنه قيل: بمصلحين. وقرئ: وبالسلاسل يسحبون في النار يسجرون من سجر التنور إذا
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 381 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/178)


فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)

ملأه بالوقود. ومنه: السجير «1» ، كأنه سجر بالحب، أى: مليء. ومعناه: أنهم في النار فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم. ومنه قوله تعالى نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة اللهم أجرنا من نارك فإنا عائذون بجوارك ضلوا عنا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم ولا ننتفع بهم. فإن قلت: أما ذكرت في تفسير قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم: أنهم مقرونون بآلهتهم، فكيف يكونون معهم وقد ضلوا عنهم؟ قلت:
يجوز أن يضلوا عنهم إذا وبخوا وقيل لهم: أينما كنتم تشركون من دون الله فيغيثوكم ويشفعوا لكم، وأن يكونوا معهم في سائر الأوقات «2» ، وأن يكونوا معهم في جميع أوقاتهم، إلا أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم ضالون عنهم بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا أى تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيرا كذلك يضل الله الكافرين مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم. قال الله تعالى لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم. خالدين مقدرين الخلود فبئس مثوى المتكبرين عن الحق المستخفين به مثواكم أو جهنم. فإن قلت:
أليس قياس النظم أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين، كما تقول: زر بيت الله فنعم المزار، وصل في المسجد الحرام فنعم المصلى؟ قلت: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء.

[سورة غافر (40) : آية 77]
فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)
فإما نرينك أصله: فإن ترك. و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل «3» . ألا تراك لا تقول. إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك. فإن قلت:
لا يخلو إما أن تعطف أو نتوفينك على نرينك وتشركهما في جزاء واحد وهو قوله تعالى فإلينا يرجعون فقولك: فإما نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون: غير صحيح، وإن
__________
(1) . قوله «ومنه السجير» في الصحاح: «سجير الرجل» : صفيه وخليله، والجمع السجراء. (ع)
(2) . قوله «في سائر الأوقات» أى باقى الأوقات بعد وقت التوبيخ. (ع)
(3) . قال محمود: «المصحح للحاق النون المؤكدة دخول ما المؤكدة للشرط، ولولا «ما» لم يجز دخولها» قال أحمد: وإنما كان كذلك لأن النون المؤكدة حقها أن تدخل في غير الواجب، والشرط من قبيل الواجب، إلا أنه إذا أكد قوى إبهامه فقربته قوة الإبهام من غير الواجب، فيساغ دخول النون فيه.

(4/179)


ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون (78) الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (81)

جعلت فإلينا يرجعون مختصا بالمعطوف الذي هو نتوفينك، في المعطوف عليه بغير جزاء.
قلت: فإلينا يرجعون متعلق بنتوفينك، وجزاء نرينك محذوف، تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك. أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم «1» منهم أشد الانتقام ونحره قوله تعالى فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون.

[سورة غافر (40) : آية 78]
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون (78)
ومنهم من لم نقصص عليك قيل: بعث الله ثمانية آلاف نبى: أربعة آلاف من بنى إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن على رضى الله عنه: أن الله تعالى بعث نبيا أسود «2» ، فهو ممن لم يقصص عليه. وهذا في اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنادا، يعنى: إنا قد أرسلنا كثيرا من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله فمن لي بأن آتى بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها فإذا جاء أمر الله وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات. وأمر الله: القيامة المبطلون هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرا.

[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (81)
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يشرك مع الأول في الشرط ويكون قوله فإلينا يرجعون جزاء مشركا بينهما فلا يستقيم المعنى، على: فاما نرينك بعض الذي نعدهم.. فالينا يرجعون وإن جعل الجزاء مختصا بالثاني بقي الأول بغير جزاء. وأجاب بأنه مختص بالثاني، وجزاء الأول محذوف، تقديره: فاما نرينك بعض الذي نعدهم وهو ما حل بهم يوم بدر، فذاك. أو نتوفينك، فالينا يرجعون فننتقم منهم» قال أحمد: وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه معلوم، وهو حصول المراد على التمام.
وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم، فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس، على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه. قال: ومثله قوله تعالى فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون: كأنه يستشهد على أن جزاء الأول محذوف بذكر هذه الآية
(2) . أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط وابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى عن على رضى الله عنه في قوله ومنهم من لم نقصص عليك قال أرسل الله عبدا حبشيا، فهو الذي لم نقصص عليك» وروى الثعلبي من وجه آخر عن جابر عن أبى الطفيل عن على «كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي. بعث نبى من الحبشة إلى قومه. ثم قرأ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك الآية.

(4/180)


أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83)

الأنعام: الإبل خاصة. فإن قلت: لم قال لتركبوا منها ولتبلغوا عليها، ولم يقل، لتأكلوا منها ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال: منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون «1» عليها حاجة في صدوركم؟ قلت: في الركوب: الركوب في الحج والغزو، وفي بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية إما واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع: فمن جنس المباح الذي لا يتعلق «2» به إرادته: ومعنى قوله وعليها وعلى الفلك تحملون وعلى الأنعام وحدها لا تحملون، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت: هلا قيل: وفي الفلك، كما قال قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين؟
قلت: معنى الإيعاء «3» ومعنى الاستعلاء: كلاهما مستقيم، لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضا فليطابق قوله وعليها ويزاوجه أي آيات الله
جاءت على اللغة المستفيضة. وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أى أغرب لإبهامه.

[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 83]
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (83)
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: هلا قيل لتركبوا منها ولتأكلوا منها ولتبلغوا، ومنها تركبون ومنها تأكلون، وعليها تبلغون؟ وأجاب بأن في الركوب الركوب في الغزو والحج، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد لاقامة دين أو علم، وهذه أغراض دينية: إما واجبة أو مندوبة مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به الارادة» قال أحمد: جواب متداع للسقوط مؤسس على قاعدة واهية، وهي أن الأمر راجع إلى الارادة، فالواجب والمندوب مرادان، لأنهما مندرجان في الأمر، والمباح غير مراد، لأنه غير مأمور به، وهذا من هنيات المعتزلة في إنكار كلام النفس، فلا نطيل فيه النفس. وقاعدة أهل الحق أنه لا ربط بين الأمر والارادة، فقد يأمر بخلاف ما يريد، ويريد خلاف ما يأمر به، فالجواب الصحيح إذا أن المقصود المهم من الأنعام والمنفعة المشهورة فيها إنما هي الركوب وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار والانتقال في ابتغاء الأوطار، فلذلك ذكرهما هنا مقرونين باللام الدالة على التعليل والغرض. وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والأوبار والألبان وما يجرى مجراها فهي وإن كانت حاصلة منها فغير خاصة بها خصوص الركوب والحمل وتوابع ذلك، بل الأكل بالغنم خصوصا الضأن أشهر، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم، فلذلك جردت هذه المنافع بالأخبار عن وجودها فيها غير مقرونة بما يدل على أنها المقصود.
(2) . قوله «المباح الذي لا يتعلق به» مبنى على مذهب المعتزلة: أن الارادة بمعنى الأمر فلا تتعلق إلا بالمطلوب.
وعند أهل السنة: هي صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، فتتعلق بجميع الممكنات، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(3) . قوله «معنى الايعاء» في الصحاح: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. (ع)

(4/181)


وآثارا قصورهم ومصانعهم. وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم فما أغنى عنهم ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام، ومحلها النصب، والثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع، يعنى أى شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم فرحوا بما عندهم من العلم فيه وجوه: منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى بل ادارك علمهم في الآخرة: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء، كما قال عز وجل كل حزب بما لديهم فرحون ومنها: أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بنى يونان، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله: دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط: أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه، وقيل له.
لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها: أن يوضع قوله فرحوا بما عندهم من العلم ولا علم عندهم البتة، موضع قوله: يفرحوا بما جاءهم من العلم، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد: فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال: استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحى فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن ومنها: أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه: أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادى واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم:
فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ذلك مبلغهم من العلم فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات- وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف «1» عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.
__________
(1) . قوله «والظلف» في الصحاح: ظلفت نفسي عن كذا- بالكسر- تظلف ظلفا، أى: كفت. (ع)

(4/182)


فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)

[سورة غافر (40) : الآيات 84 الى 85]
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85)
البأس: شدة العذاب. ومنه قوله تعالى بعذاب بئيس. فإن قلت: أى فرق بين قوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم وبينه لو قيل: فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت: هو من كان في نحو قوله ما كان لله أن يتخذ من ولد والمعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم «1» . فإن قلت:
كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت: أما قوله تعالى فما أغنى عنهم فهو نتيجة قوله كانوا أكثر منهم وأما قوله فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فجار مجرى البيان والتفسير، لقوله تعالى فما أغنى عنهم كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فلما رأوا بأسنا تابع لقوله فلما جاءتهم كأنه قال: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، وكذلك:
فلم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله سنت الله بمنزلة وعد الله وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وهنالك مكان مستعار للزمان، أى: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله وخسر هنالك المبطلون بعد قوله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق أى: وخسروا وقت مجيء أمر الله، أو وقت القضاء بالحق.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبى ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» «2»
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: أى فرق بين قوله: فلم يك بنفعهم إيمانهم. وبينه لو قيل: فلم بنفعهم، وأجاب بأن معنى كان هنا معناها في قوله ما كان لله أن يتخذ من ولد بمعنى: فلم يستقم ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم، قال أحمد: كان الذي ثبت التصرف فيها بإجراء نونها مجرى حروف العلة حتى حذفت للجازم هي كان الكثير استعمالها، المكرر دورانها في الكلام. وأما كان هذه فليست كثيرة التصرف حتى يتسع فيها بالحذف، بل هي مثل: صان، وحان» في القلة، فالأولى بقاؤها على بابها المعروف، وفائدة دخولها في هذه الآية وأمثالها: المبالغة في نفى الفعل الداخلة عليه بتعديد جهتى نفيه عموما باعتبار الكون، وخصوصا باعتباره في هذه الآية مثلا، فكأنه نفى مرتين، والله أعلم.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/183)


حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)

سورة [فصلت، وتسمى] السجدة
مكية، وآياتها 54 وقيل 53 آية [نزلت بعد غافر] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)
إن جعلت حم اسما للسورة كانت في موضع المبتدأ. وتنزيل خبره. وإن جعلتها تعديد للحروف كان تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف وكتاب بدل من تنزيل. أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون تنزيل مبتدأ، وكتاب خبره.
ووجهه أن تنزيلا تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ فصلت آياته ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة: من أحكام وأمثال ومواعظ، ووعد ووعيد، وغير ذلك. وقرئ: فصلت، أى: فرقت بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد قرآنا عربيا نصب على الاختصاص والمدح، أى: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أى: فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا لقوم يعلمون أى لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت: بم يتعلق قوله لقوم يعلمون؟
قلت: يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت، أى: تنزيل من الله لأجلهم. أو فصلت آياته لهم.
والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أى قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ: بشير ونذير، صفة للكتاب. أو خبر مبتدأ محذوف فهم لا يسمعون لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك. تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه.

(4/184)


وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)

[سورة فصلت (41) : آية 5]
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)
والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء. والوقر- بالفتح- الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله تعالى وقالوا قلوبنا غلف ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه: حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه، فلا تلاقى ولا ترائى فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا. أو فاعمل في إبطال أمرنا، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ إنا عاملون. فإن قلت:
هل لزيادة من في قوله ومن بيننا وبينك حجاب فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجابا حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة من فالمعنى: أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ «1»
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: ما فائدة من في قوله ومن بيننا وبينك حجاب وأجاب بأن فائدتها الدلالة على أن من جهتهم ابتدأ الحجاب، ومن جهته أيضا ابتدأ حجاب، فيلزم أن المسافة المتوسطة بينهما مملوءة بالحجاب لا فراغ فيها، ولولا ذكر من فيها لكان المعنى: على أن في المسافة بينهما حجابا فقط» قال أحمد: ولا ينفك المعنى بدخول من عما كان عليه قبل، ولو كان لأمر كما ذكر لكانت من مقدرة مع بين الثانية، لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما هي مفيدة للابتداء في الأولى، فيكون التقدير إذا: ومن بيننا وبينك حجاب، وهذا يخل بمعنى «بين» إخلالا بينا، فإنها تأبى تكرار العامل معها، حتى لو قال القائل: جلست بين زيد، وجلست بين عمرو: لم يكن مستقيما، لأن تكرار العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط، ويقطعه عن قرينه المتقدم. ومن شأنها الدخول على متعدد، لأن في ضمن معناها التوسط، وزاد الزمخشري على هذا فجعل «بين» الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته، وليس الأمر كما ظنه، بل «بين» الأولى هي الثانية بعينها، وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ، فوجب تكرار حافظه وهو بين، والدليل على هذا: أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين أن تقول: جلست بين زيد وبين عمرو. وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فالظاهر- والله أعلم- أن موقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا وذلك للاشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام مبدأ الحجاب لا غير، ووجود من قريب من عدمها، ألا ترى إلى آخر هذه الآية كيف لم يستعمل فيها من، وهي قوله تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وكلام الزمخشري هذا إذا امتحنته بالتحقيق الذي ذكرناه: تبين ضعفه، والله الموفق. وفي هذه الآية وأختها من المبالغة والبلاغة ما لا يليق أن ينتظم إلا في درر الكتاب العزيز، فإنها اشتملت على ذكر حجب ثلاثة متوالية: كل واحد منها كاف في فنه، فأولها الحجاب الحائل الخارج، ويليه حجاب الصمم. وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله، فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا أسبلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا الا استلبته، فنسأل الله كفايته. [.....]

(4/185)


قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7)

فيها. فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: وفي آذاننا وقر، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: قلوبنا في أكنة. وعلى قلوبنا أكنة. والدليل عليه قوله تعالى إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة: لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة «1» إلا في المعاني.

[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 7]
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7)
فإن قلت: من أين كان قوله إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي جوابا لقولهم قلوبنا في أكنة «2» ؟ قلت: من حيث أنه قال لهم: إنى لست بملك، وإنما أنا بشر مثلكم، وقد أوحى إلى دونكم فصحت- بالوحي إلى وأنا بشر- نبوتى، وإذا صحت نبوتى: وجب عليكم اتباعى، وفيما يوحى إلى: أن إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينا ولا شمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك واستغفروه. وقرئ: قال إنما أنا بشر.
فإن قلت: لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ قلت:
لأن أحب شيء إلى الإنسان ما له وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم أى: يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة «3» من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم الحرب،
__________
(1) . قوله «والملاحظة» لعله: والملاحة. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: كيف كان هذا جوابا لما تقدمه» قال أحمد: وأجاب بما نلخصه فتقول: لما أبوا القبول منه عليه الصلاة والسلام كل الاباء، بدأهم باقامة الحجة على وجوب القبول منه، فانه بشر مثلهم لا قدرة له على إظهار المعجزات التي ظهرت. وإنما القادر على إظهارها هو الله تعالى تصديقا له عليه الصلاة والسلام، ثم بين لهم بعد قيام الحجة عليهم أهم ما بعث به وهو التوحيد، واندرج تحت الاستقامة جميع تفاصيل الشرع وتمم ذلك بإنذارهم على ترك القبول بالويل الطويل.
(3) . قوله «إلا بلمظة من الدنيا» في الصحاح «لمظ» إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه اه فلمظة: بمعنى ملموظ كمضغة بمعنى ممضوغ. (ع)

(4/186)


إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8) قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12)

وجوهدوا «1» . وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يفعلون ما يكونون به أزكياء، وهو الإيمان.

[سورة فصلت (41) : آية 8]
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8)
الممنون: المقطوع. وقيل: لا يمن عليهم لأنه إنما يمن التفضل. فأما الأجر فحق أداؤه.
وقيل: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى: إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر، كأصح ما كانوا يعملون.

[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12)
أإنكم بهمزتين «2» : الثانية بين بين. وءائنكم، بألف بين همزتين ذلك الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو رب العالمين...... رواسي جبالا ثوابت. فإن قلت: ما معنى قوله من فوقها وهل اختصر على قوله وجعل فيها رواسي كقوله تعالى وجعلنا فيها رواسي شامخات، وجعلنا في الأرض رواسي، وجعل لها رواسي؟ قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مر كوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضا، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض،
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم خص الزكاة وأجاب بأن أحب الأشياء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فبذله مصداق لاستقامته ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، وأهل الردة ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحرب وجوهدوا» قال أحمد: كلام حسن بعد تبديل قوله: وما خدع المؤلفة، فان استعماله الخداع غير لائق، لأنهم إنما تألفهم عليه الصلاة والسلام على الايمان من قبيل الملاطفة ودفع السيئة بالحسنة ومانحا هذا النحو.
(2) . قوله «أإنكم بهمزتين» لعله: قرئ بهمزتين ... الخ. (ع)

(4/187)


لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته وبارك فيها وأكثر خيرها وأنماه وقدر فيها أقواتها أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود: وقسم فيها أقواتها في أربعة أيام سواء فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل: خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج. في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. وقرئ: سواء، بالحركات الثلاث: الجر على الوصف والنصب على: استوت سواء، أى: استواء: والرفع على: هي سواء. فإن قلت: بم تعلق قوله للسائلين؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر: أى: قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين.
وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج «1» . فإن قلت: هلا قيل في يومين؟ وأى فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت: إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين، علم أن ما فيها خلق في يومين، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين، وهي الدلالة على أنها كانت أياما كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال: في يومين- وقد يطلق اليومان على أكثرهما- لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما ثم استوى إلى السماء من قولك:
__________
(1) . قال محمود: «إن قوله في أربعة أيام فذلكة بمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين، فذلك أربعة أيام سواء. وقال: ومعنى سواء: كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
ونقل عن الزجاج أن معنى الآية في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة: اليومين، ثم قال: فان قلت بم تعلق قوله للسائلين؟ وأجاب بأنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل: في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر، أى: قدر فيها الأقوات لأجل السائلين المحتاجين إليها من المقتاتين، ثم قال: وهذا الوجه الأخير. لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج» قال أحمد: لم يبين استناعه على التفسير الأول ونحن نبينه فنقول: مقتضى التفسير الأول أن قوله في أربعة أيام فذلكة، ومن شأنها الوقوع في طرف الكلام بعد تمامه، فلو جعل قوله للسائلين متعلقا بمقدر: لزم وقوع الفذلكة في حشو الكلام، ولا كذلك على تفسير الزجاج، فان الأربعة على قوله من تتمة الأول، وهي متعلقة بمقدر على تأويل حذف التتمة تعلق الظرف بالمظروف، ليلائم ذلك إتمام الكلام ببيان المقصود من خلق الأقوات بعد بيان من خلقها. وتفسير الزجاج- والله أعلم- أرجح، فإنه يشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل القريب الذي قدره، ومتضمن لما يقوم مقام الفذلكة، إذ ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها، وعلى تفسير الزمخشري تكون الفذلكة مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها، فانه لم يذكر منها سوى يومين خاصة، ومن شأن الفذلكة أن يتقدم النص على جميع أعدادها مفصلة، ثم تأتى هي على الجملة كقوله فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة.

(4/188)


استوى إلى مكان كذا، إذا توجه إليه توجها لا يلوى على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى فاستقيموا إليه والمعنى: ثم دعاه داعى الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء وعلا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، «1» وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا. أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير «2» أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني، فلم يتركني، ورائي الحجر الذي ورائي «3» . فإن قلت، لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال تعالى والأرض بعد ذلك دحاها فالمعنى. ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف: ائتى يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما تقول:
أتى عمله مرضيا، وجاء مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده ونقتضيه الحكمة والتدبير: من كون الأرض قرارا للسماء، وكون السماء سقفا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ: آتيا، وآتينا: من المؤاتاة وهي الموافقة: أى: لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا، وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمرى ومشيئتى ولا تمتنعا.
فإن قلت: ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما
__________
(1) . قوله «فعل الآمر المطاع» لعله: أمر الآمر. (ع)
(2) . قوله «تصوير أثر قدرته» لعله: تأثير. (ع)
(3) . قال محمود: «إما أن يكون هذا من مجاز التمثيل كأن عدم امتناعهما على قدرته امتثال المأمور المطيع إذا ورد عليه الأمر المطاع، فهذا وجه. واما أن يكون تخييلا فيبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماوات والأرض فأجابتاه، والغرض منه تصوير أثر القدرة في المقدور من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب، ومثله قول القائل: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ فقال الوتد: اسأل من يدفنى لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي» قال أحمد:
قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل على كلام الله تعالى، فان معنى هذا الإطلاق لو كان صحيحا والمراد منه التصوير لوجب اجتناب التعبير عنه بهذه العبارة، لما فيها من إيهام وسوء أدب، والله أعلم.

(4/189)


من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال، بمعنى: طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل:
طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سماوات وأرضون. قلت: لما جعلن مخاطبات ومجيبات، ووصفن بالطوع والكره قيل: طائعين، في موضع: طائعات، نحو قوله الساجدين «1» .
فقضاهن يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال طائعين ونحوه أعجاز نخل خاوية ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال، والثاني على التمييز، قيل خلق الله السماوات وما فيها في يومين: في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت، من أنه لو قيل: في يومين في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان «2» . فإن قلت: فلو قيل: خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها
__________
(1) . قال محمود: فان قلت لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان معها والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ وأجاب بأنه قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال والأرض بعد ذلك دحاها فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي من الشكل: ائتي يا أرض مدحوة وفرارا ومهادا، واثنى يا سماء سقفا مقبية. ثم قال: فان قلت ما معنى طوعا أو كرها، وأجاب بأنه تمثيل للزوم تأثير القدرة فيهما، كما يقول الجبار لمن تحت يده: افعل هذا شئت أو أبيت. ثم قال: فان قلت: هلا قيل طائعتين، على اللفظ. وطائعات، على المعنى، لأنها سماوات وأرضون. وأجاب بأنه لما جعلن مخاطبات ومجيبات وموصوفات بالطوع والكره. قيل: طائعين في موضع طائعات، نحو قوله ساجدين» قال أحمد: لم يحقق الجواب عن السؤال الآخر، وذلك أن في ضمن الآية سؤالين: أحدهما لم ذكرها وهي مؤنثة، وهذا هو السؤال الذي أورده. الثاني أنى بها على جمع العقلاء وهي لا تعقل، وهذا لم يذكره، فالجواب الذي ذكره مختص بالسؤال الذي لم يذكره، ولهذا نظره بقوله الساجدين فان تلك الآية ليس فيها سوى السؤال عن كونها جمعت جمع العقلاء، فأما السؤال الآخر فلا، لأن الكلام راجع إلى الكواكب وهي مذكرة، والشمس وإن كانت مؤنثة إلا أنه غلب في الكلام المذكر على المؤنث على المنهاج المعروف، فأما هذه الآية فتزيد على تلك بهذا السؤال الآخر: وهو أن جميع ما تقدم ذكره من السماوات والأرض مؤنثة، فيقال أولا:
لم ذكرها، وثانيا: لم أتى جمعها المذكر على جمع نعت جمع العقلاء، ليتحقق نسبة السؤال والجواب، والطوع اللاتي تختص بالعقلاء لا بها، ولم يوجد في جمع المؤنث عدول إلى جمع المذكر لوجود الصيغة المرشدة إلى العقل فيه، فتمت الفائدة بذلك على تأويل السماوات والأرض بالأفلاك مثلا وما في معناه من المذكر، ثم يغلب المذكر على المؤنث ولا يعدم مثل هذا التأويل في الأرضين أيضا.
(2) . قال محمود: «قيل: إن الله تعالى خلق السماوات وما فيها في يوم الخميس ويوم الجمعة، وفرغ آخر ساعة من يوم الجمعة، وخلق آدم في تتمة اليوم، وفيه تقوم القيامة ثم استدل بذلك على ما ذكره من أنه لو قال: في يومين، في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان» قال أحمد: كأنه يستدل بإهمال اليومين عن التأكيد، حيث لم يكن خلق السماوات بما فيها في جملة اليومين، على أنه إنما فذلك أيام خلق الأرض بما فيها:
لأنه لو فصلها لم يكن فيها دليل على استيعاب الخلق لكل يومين منها، بل كان يجوز أن يكون الخلق في أحد اليومين وبعض الآخر، كما كان في هذه الآية على النقل الذي ذكر، وهذا لا يتم له منه غرض، فان للقائل أن يقول: إنما كان خلق السماوات بما فيها في يومين كاملين، لأن آدم لم يكن في السماوات حينئذ ويخلقه كمل اليومان على مقتضى ما نقله، فتأمله.

(4/190)


فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون (14)

في يومين كاملين. أو قيل بعد ذكر اليومين: تلك أربعة سواء؟ قلت: الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك المركب، «1» ليتميز الفاضل من الناقص، والمتقدم من الناكص، وترتفع الدرجات، ويتضاعف الثواب أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها وحفظا وحفظناها حفظا، يعنى من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 14]
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون (14)
فإن أعرضوا بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة: أى عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ: صعقة مثل صعقة عاد وثمود:
وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا، وهو من باب:
فعلته ففعل من بين أيديهم ومن خلفهم أى أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم يعنى لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة، وتقول: استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة. وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما حرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجرى عليهم. وقيل: معناه إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم. فإن قلت: الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم، وكيف يخاطبونهم بقولهم فإنا بما أرسلتم به كافرون؟ قلت: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم، أى من قبلهم وممن يجيء من خلفهم، أى من بعدهم، فكان الرسل جميعا قد جاءوهم. وقولهم فإنا بما أرسلتم به كافرون خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. أن في ألا تعبدوا بمعنى أى، أو مخففة من الثقيلة، أصله: بأنه لا تعبدوا، أى: بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا، ومفعول شاء محذوف أى لو شاء ربنا
__________
(1) . قوله «من مغاصاة القرائح ومصاك الركب» أى أمكنة الغوص على اللؤلؤ، وأمكنة اصطكاك الركب. (ع)

(4/191)


فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)

إرسال الرسل لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون معناه: فإذ أنتم بشر ولستم بملائكة، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به، وقولهم أرسلتم به ليس بإقرار بالإرسال، وإنما هو على كلام الرسل، وفيه تهكم، كما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. روى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره «1» ، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما، وما يخفى على، فأتاه فقال: أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تك بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أى بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساكت، فلما فرغ قال: بسم الله الرحمن الرحيم حم ... إلى قوله ...
صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود: أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.

[سورة فصلت (41) : الآيات 15 الى 16]
فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)
فاستكبروا في الأرض أى تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظم وهو القوة وعظم الأجرام. أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية من أشد منا قوة كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم، وبلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في السيرة: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب بهذا نحوه مرسلا، ووصله ابن أبى شيبة. وعنه أبو يعلى وعبد بن حميد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، كلهم من رواية الأجلح الكندي عن الزبال ابن حرملة عن جابر مطولا.

(4/192)


من الجبل فيقتلعها بيده. فإن قلت: القوة هي الشدة والصلابة في البنية، وهي نقيضة الضعف.
وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنية «1» وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوة إلا على معنى القدرة، فكيف صح قوله هو أشد منهم قوة وإنما يصح إذا أريد بالقوة في الموضعين شيء واحد؟ قلت: القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوة والشدة والصلابة في البنية، وحقيقتها: زيادة القدرة «2» ، فكما صح أن يقال: الله أقدر منهم، جاز أن يقال: أقوى منهم، على معنى: أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم يجحدون كانوا يعرفون أنها حق، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف «3» على فاستكبروا، أى كانوا كفرة فسقة. الصرصر: العاصفة التي تصرصر، أى: تصوت في هبوبها. وقيل: الباردة التي تحرق بشدة بردها، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أى يجمع ويقبض نحسات قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحسا:
نقيض سعد سعدا، وهو نحس. وأما نحس، فإما مخفف نحس، أو صفة على فعل، كالضخم وشبهه. أو وصف بمصدر. وقرئ: لنذيقهم، على أن الإذاقة للريح أو للأيام النحسات.
وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزى، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيئ، والدليل عليه قوله تعالى ولعذاب الآخرة أخزى وهو من الإسناد المجازى، ووصف العذاب بالخزي: أبلغ من وصفهم به.
__________
(1) . قوله «من تمييز بذات أو لصحة بنية» هذا كقوله الآتي: إنه يقدر لداته، تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة على أنه تعالى قادر بذاته، لكن مذهب أهل السنة أنه تعالى قادر بقدرة قائمة بذاته، وكذا بقية الصفات كما في التوحيد. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «القوة: الشدة في البنية ونقيضها الضعف، والقدرة ما لأجله يصح الفعل من الفاعل، وهي نقيضة العجز، فان وصف الله تعالى بالقوة فذاك بمعنى القدرة وليست القوة على حقيقتها، فكيف صح قوله هو أشد منهم قوة ولا بد أن يراد بالقوة في الموضعين شيء واحد، وأجاب عنه بأن القدرة في الإنسان صحة البنية والاعتدال والشدة، والقوة زيادة في القدرة، فكما صح أن يقال: أقدر منهم، صح أن يقال: أقوى منهم، على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرتهم» قال أحمد، فسر القدرة على خلاف ما هي في اعتقاد المتكلمين، فان سلم له من حيث اللغة فقد نكص عنه إلى حمل القدرة في الآية على مقتضاها في فن الكلام، وجعل التفضيل من حيث أن الله تعالى قادر لذاته. أى: بلا قدرة، والمخلوق قادر بقدرة على القاعدة الفاسدة للقدرية، ونظير هذا التفسير في الفساد تفسير قول القائل: زيد أعلم من عمرو، بإثبات صفة العلم للمفضول، وسلبها بالكلية عن الأفضل، وهل هذا إلا عنه وعمى في اتباع الهوى وعمه؟ فالحق أن التفضيل إنما جاء من جهة أن القدرة الثابتة للعبد قدرة مقارنة لفعله، معلومة قبله وبعده، مفقودة غير مؤثرة في العقل الراجح في محلها» فضلا عن تجاوزها إلى غيره، وقدرة الله جلت قدرته مؤثرة في المقدورات، موجودة أزلا وأبدا، عامة التعلق بجميع الكائنات من الممكنات، فهذا هو النور الذي لا يلوح إلا من إثبات عقائد السنة لمن سبقت له من الله المنة.
(3) . قوله «وهو معطوف على فاستكبروا» أى: قوله تعالى وكانوا ... الخ (ع)

(4/193)


وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18)

ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر.

[سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18]
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18)
وقرئ: ثمود، بالرفع والنصب منونا وغير منون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.
وقرئ بضم الثاء فهديناهم فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، كقوله تعالى وهديناه النجدين. فاستحبوا العمى على الهدى فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق له عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها صاعقة العذاب داهية العذاب وقارعة العذاب.
والهون الهوان، وصف به العذاب مبالغة. أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة «1» بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم- وكفى به شاهدا- إلا هذه الآية، لكفى بها حجة «2» .
__________
(1) . قوله «حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة» يريد أهل السنة، سماهم المعتزلة بذلك لقولهم: جميع الحوادث- خيرا كانت أو شرا من أفعال العباد الاختيارية أو غيرها- فهي بقضاء الله تعالى وقدره، خلافا للمعتزلة:
حيث ذهبوا إلى أن جميع الأفعال الاختيارية ليست بقضائه تعالى وقدره، ولا تأثير له فيها أصلا. وهذا أحق بالتنقيص الذي يفيده الحديث. وفسروا الإضلال والهدى في قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء بخلق الضلال وخلق الاهتداء، خلافا للمعتزلة: حيث فسروا الإضلال بالخذلان وترك العبد وشأنه، والهدى بالبيان ونقل النسفي عن أبى منصور الماتريدى: أن الهدى المضاف للخالق يكون تارة بمعنى البيان كما في هذه الآية وتارة بمعنى خلق الاهتداء كما في قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء والمضاف للمخلوق بمعنى البيان فقط، ويحتمل أن يكون هدى ثمود بمعنى خلق الاهتداء فيهم. وأنهم آمنوا قبل عقر الناقة، ثم كفروا وعقروها اه (ع)
(2) . قال محمود: «فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، ثم قال: فان قلت أليس معنى هديته حصلت له الهدى والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ وأجاب بأنه مكنهم وأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بحصول موجبها، ثم قال: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام- وكفى به شهيدا- إلا هذه الآية، لكفى بها حجة» قال أحمد: قد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، فان القدرية مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد صحبه الأكرمون أن الطائفة الذين قفا الزمخشري أثرهم القدرية المتمجسة، الذين أديانهم بأدناس الفساد متنجسة فهم أول منخرط في هذا السلك، ومنهبط في مهواة هذا الهلك، ولترجع إلى أصل الكلام فنقول: الهدى من الله تعالى عند أهل السنة حقيقة: هو خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال: خلق الضلال في قلوب الكافرين، ثم ورد الهدى على غير ذلك من الوجوه مجازا واتساعا، نحو هذه الآية، فان المراد فيها بالهدى الدلالة على طريقه كما فسره الزمخشري. وقد اتفق الفريقان: أهل السنة وأهل البدعة على أن استعمال الهدى هاهنا مجاز، ثم إن أهل السنة يحملونه على المجاز في جميع موارده في الشرع، فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، وأى دليل في هذه الآية على أهل السنة لأهل البدعة، حتى يرميهم بما ينعكس إلى نحره، ويذيقه وبال أمره.

(4/194)


ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23)

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 21]
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21)
قرئ يحشر على البناء للمفعول. ونحشر بالنون وضم الشين وكسرها، ويحشر: على البناء للفاعل، أى: يحشر الله عز وجل أعداء الله الكفار من الأولين والآخرين يوزعون أى يحبس أولهم على آخرهم، أى: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار، نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته: فإن قلت: ما في قوله حتى إذا ما جاؤها ما هي؟ قلت: مزيدة للتأكيد، ومعنى التأكيد فيها: أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها. ومثله قوله تعالى أثم إذا ما وقع آمنتم به أى لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرمات. فإن قلت: كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت:
الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة «1» بأن يخلق فيها كلاما. وقيل، المراد بالجلود: الجوارح.
وقيل: هي كناية عن الفروج، أراد بكل شيء: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله تعالى والله على كل شيء قدير كل شيء من المقدورات، والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أول مرة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه- وإنما قالوا لهم: لم شهدتم علينا لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 22 الى 23]
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23)
__________
(1) . قوله «كما أنطق الشجرة» على زعم المعتزلة أن تكليمه مع موسى عليه السلام هو خلقه الكلام في الشجرة التي كانت عند الطور. وعند أهل السنة: هو بأن كشف له عن كلامه القديم وأسمعه إياه كما بين في محله. (ع)

(4/195)


فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25)

والمعنى: أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم، لأنكم كنتم غير عاملين بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا، ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك «1» الظن هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله علينا كالئة ورقيبا مهيمنا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا وتصونا منه مع الملأ، ولا يتبسط في سره مراقبة «2» من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ: ولكن زعمتم وذلكم رفع بالابتداء، وظنكم وأرداكم خبران، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم وأرداكم الخبر.

[سورة فصلت (41) : الآيات 24 الى 25]
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24) وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (25)
فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار، وإن يستعتبوا وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه: لم يعتبوا: لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها، ونحوه قوله عز وعلا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقرئ: وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين، أى: إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، أى: لا سبيل لهم إلى ذلك وقيضنا لهم وقدرنا لهم، يعنى لمشركي مكة: يقال: هذان ثوبان قيضان: إذا كانا متكافئين.
والمقايضة: المعاوضة قرناء أخدانا «3» من الشياطين جمع قرين، كقوله تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم «4» ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين «5» . والدليل عليه ومن يعش نقيض
__________
(1) . قوله «وذلك الظن هو الذي أهلككم» لعله. وذلكم. (ع)
(2) . قوله «في سره مراقبة من التشبه» أى مخافة، كما أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «قرناأ أخدانا» أى أصدقاء. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «قلت معناه أنه خذلهم» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يقدر الشر. أما على مذهب أهل السنة أنه تعالى يقدره كالخير، فلا داعى إلى هذا التكلف. قال تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الخ. (ع)
(5) . قال محمود: «كيف جاز أن يقيض لهم قرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ وأجاب بأن معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. والدليل عليه قوله تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن ... الآية قال أحمد: جواب هذا السؤال على مذهب أهل السنة: أن الأمر على ظاهره، فان قاعدة عقيدتهم أن الله تعالى قد ينهى عما يريد وقوعه، ويأمر بما لا يريد حصوله، وبذلك نطقت هذه الآية وأخواتها، وإنما تأولها الزمخشري ليتبعها هواه الفاسد في اعتقاده أن الله تعالى لا ينهى عما يريد، وإن وقع النهى عنه فعلى خلاف الارادة- تعالى الله عن ذلك وبه نستعيذ من جعل القرآن تبعا للهوى، وحينئذ فنقول: لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام سوى هذه الآية، لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه الله بها الذي أنطق كل شيء في الآية التي قبل هذه.

(4/196)


وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28)

ما بين أيديهم وما خلفهم ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها. أو بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات، وما خلفهم: من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا حساب وحق عليهم القول يعنى كلمة العذاب في أمم في جملة أمم. ومثل في هذه ما في قوله:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا «1»
يريد: فأنت في جملة آخرين، وأنت في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد. فإن قلت: في أمم ما محله؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في عليهم القول كائنين في جملة أمم إنهم كانوا خاسرين تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 28]
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28)
قرئ: والغوا فيه، بفتح الغين وضمها. يقال: لغى يلغى، ولغا يلغو. واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. قال: من اللغا ورفث التكلم. والمعنى: لا تسمعوا له إذا قرئ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والهذيان والزمل «2» وما أشبه ذلك، حتى تخلطوا على القارئ وتشوشوا عليه وتغلبوه على قراءته. كانت قريش يوصى بذلك بعضهم
__________
(1) . لعروة بن أذينة، يقول: إن تك مأقوكا- أى: مصروفا ومنقلبا عن أحسن العطاء- فلا عجب، فأنت في جملة ناس آخرين قد أفكوا وصرفوا عن الإحسان. ومنه: المؤتفكات، وهي المدن المنقلبة على قوم لوط وتقول العرب: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، يعنون: الرياح المختلفة المهاب.
(2) . قوله «والزمل» الذي في الصحاح «الأزمل» الصوت: والأزمولة- بالضم-: المصوت من الوعول وغيرها. (ع)

(4/197)


وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32)

بعضا فلنذيقن الذين كفروا يجوز أن يريد بالذين كفروا: هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم. قد ذكرنا إضافة أسوأ بما أغنى عن إعادته. وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر. وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة ذلك إشارة إلى الأسوإ، ويجب أن يكون التقدير: أسوأ جزاء الذين كانوا يعملون، حتى تستقيم هذه الإشارة. والنار عطف بيان للجزاء. أو خبر مبتدإ محذوف.
فإن قلت: ما معنى قوله تعالى لهم فيها دار الخلد؟ قلت: معناه أن النار في نفسها دار الخلد، كقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وتقول: لك في هذه الدار دار السرور. وأنت تعنى الدار بعينها جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون أى جزاء بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

[سورة فصلت (41) : آية 29]
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29)
الذين أضلانا أى الشيطانين اللذين أضلانا من الجن والإنس لأن الشيطان على ضربين: جنى وإنسى. قال الله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن وقال تعالى الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس وقيل: هما إبليس وقابيل، لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق. وقرئ: أرنا، بسكون الراء لثقل الكسرة، كما قالوا في فخذ: فخذ.
وقيل: معناه أعطنا للذين أضلانا. وحكوا عن الخليل: أنك إذا قلت: أرنى ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه. وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء، معناه: أعطنى ثوبك: ونظيره: اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله: الإحضار

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32]
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32)
ثم لتراخى الاستقامة عن الإقرار في المرتبة. وفضلها عليه، لأن الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.

(4/198)


ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)

وعنه: أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال حملتم الأمر على أشده. قالوا:
فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضى الله عنه: استقاموا على الطريقة لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان رضى الله عنه: أخلصوا العمل. وعن على رضى الله عنه:
أدوا الفرائض. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضى الله عنه: قلت يا رسول الله، أخبرنى بأمر أعتصم به. قال: «قل ربى الله، ثم استقم» قال فقلت: ما أخوف ما تخاف على؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال «هذا» «1» تتنزل عليهم الملائكة عند الموت بالبشرى.
وقيل البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وإذا قاموا من قبورهم ألا تخافوا أن بمعنى أى. أو مخففة من الثقيلة. وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: لا تخافوا، أى: يقولون لا تخافوا، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار. والمعنى: أن الله كتب لكم الأمن من كل غم، فلن تذوقوه أبدا. وقيل لا تخافوا ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم. كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين تدعون
تتمنون: والنزل: رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال.

[سورة فصلت (41) : آية 33]
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)
ممن دعا إلى الله عن ابن عباس رضى الله عنهما: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإسلام وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة له. وعنه: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضى الله عنها: ما كنا نشك أن هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحدا معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير داعيا إليه، وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد، الدعاة إلى دين الله «2» وقوله وقال إنني من المسلمين ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده، كما تقول: هذا قول أبى حنيفة، تريد مذهبه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 34 الى 35]
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن حبان بتمامه، وأصله في مسلم.
(2) . قوله «العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة» إن أراد بهم المعتزلة سموا أنفسهم بذلك، فلا وجه التخصيص. (ع) [.....]

(4/199)


وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون (38)

يعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها- إذا اعترضتك حسنتان- فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه ويقتل ولدك فتفتدى ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال: وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت:
فهلا قيل: فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت: هو على تقدير قائل قال: فكيف أصنع؟ فقيل:
ادفع بالتي هي أحسن. وقيل لا مزيدة. والمعنى: ولا تستوي الحسنة والسيئة، فإن قلت:
فكان القياس على هذا التفسير أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة: قلت: أجل، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بالتي هي أحسن الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، وفسر الحظ بالثواب. وعن الحسن رحمه الله: والله ما عظم حظ دون الجنة، وقيل: نزلت في أبى سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار وليا مصافيا.

[سورة فصلت (41) : آية 36]
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36)
النزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل: جد جده. أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره، وامض على شأنك ولا تطعه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 38]
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون (38)
الضمير في خلقهن لليل والنهار والشمس والقمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها وبريتهن: أو لما قال ومن آياته كن في معنى الآيات، فقيل:
خلقهن. فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت: عند الشافعي رحمه الله تعالى تعبدون وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبى حنيفة رحمه الله: يسأمون،

(4/200)


ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير (39) إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)

لأنها تمام المعنى، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب: لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة، فدعهم وشأنهم فإن الله عز سلطانه لا يعدم عابدا ولا ساجدا بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد، وقوله عند ربك عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ: لا يسأمون، بكسر الياء.

[سورة فصلت (41) : آية 39]
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير (39)
الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى وترى الأرض هامدة وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربق وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة «1» . وقرئ: وربأت، أى ارتفعت لأن النبت إذا هم أن يظهر: ارتفعت له الأرض.

[سورة فصلت (41) : آية 40]
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40)
يقال: ألحد الحافر ولحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ: يلحدون ويلحدون، على اللغتين. وقوله لا يخفون علينا وعيد لهم على التحريف.

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 42]
إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)
فإن قلت: بم اتصل قوله إن الذين كفروا بالذكر؟ قلت: هو بدل من قوله إن الذين يلحدون في آياتنا والذكر: القرآن، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله وإنه لكتاب عزيز أى منيع محمى بحماية الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
__________
(1) . قوله «في الأطمار الرثة» في الصحاح «الطمر» الثوب الخرق، والجمع: الأطمار. (ع)

(4/201)


ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43) ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44)

مثل كأن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت: أما طعن فيه الطاعنون، وتأوله المبطلون؟ قلت: بلى، ولكن الله قد تقدم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا، ولا قول مبطل إلا مضمحلا. ونحوه قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

[سورة فصلت (41) : آية 43]
ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43)
ما يقال لك أى: ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة إن ربك لذو مغفرة ورحمة لأنبيائه وذو عقاب لأعدائهم. ويجوز أن يكون: ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: هو قوله تعالى إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، والغرض: تخويف العصاة.

[سورة فصلت (41) : آية 44]
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياتهء أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44)
كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم «فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا لولا فصلت آياته أى بينت ولخصت بلسان نفقههء أعجمي وعربي الهمزة همزة الإنكار، يعنى: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمى ورسول عربى، أو مرسل إليه عربى، وقرئ: أعجمى، والأعجمى: الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أى جنس كان، والعجمي: منسوب إلى أمة العجم. وفي قراءة الحسن: أعجمى بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمى، والمرسل أو المرسل إليه عربى. والمعنى: أن آيات الله على أى طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتا، لأن القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن: هلا فصلت آياته تفصيلا، فجعل بعضها بيانا للعجم، وبعضها بيانا للعرب. فإن قلت:
كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا أعجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمى ومكتوب

(4/202)


ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)

إليه عربى، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر. ألا تراك تقول- وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: - اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما هو أى القرآن هدى وشفاء إرشاد إلى الحق وشفاء لما في الصدور من الظن والشك. فإن قلت:
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر منقطع عن ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟ قلت:
لا يخلو إما أن يكون الذين لا يؤمنون في موضع الجر معطوفا على قوله تعالى للذين آمنوا على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، إلا أن فيه عطفا على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وإما أن يكون مرفوعا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر «1» على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر. وقرئ: وهو عليهم عم. وعمى، كقوله تعالى فعميت عليكم. ينادون من مكان بعيد يعنى: أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء.

[سورة فصلت (41) : آية 45]
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45)
فاختلف فيه فقال بعضهم: هو حق، وقال بعضهم: هو باطل. والكلمة السابقة:
هي العدة بالقيامة، وأن الخصومات تفصل في ذلك اليوم، ولولا ذلك لقضى بينهم في الدنيا.
قال الله تعالى بل الساعة موعدهم ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

[سورة فصلت (41) : آية 46]
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)
فلنفسه فنفسه نفع فعليها فنفسه ضر وما ربك بظلام فيعذب غير المسيء.
__________
(1) . أجاز الزمخشري في الواو في هذه الآية وجهين، أحدهما: أن تكون الواو لعطف الذين على الذين، ووقر على هدى وشفاء، ويكون من العطف على عاملين. قال: وإما أن يكون الذين مرفوعا على تقدير:
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر اه قال أحمد: أى وبتقدير الرابط يستغنى عن تقدير المبتدإ.
.

(4/203)


إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42) ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43) ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44) ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد (47) وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48) لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط (49) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ (50)

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 الى 48]
إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42) ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43) ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياتهء أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44) ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (45)
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد (47) وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48)
إليه يرد علم الساعة أى إذا سئل عنها قيل: الله يعلم. أو لا يعلمها إلا الله. وقرئ: من ثمرات من أكمامهن «1» . والكم- بكسر الكاف وعاء الثمرة، كجف الطلعة، أى: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله: من الخداج «2» والتمام، والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك أين شركائي أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله تعالى أين شركائي الذين كنتم تزعمون وفيه تهكم وتقريع آذناك أعلمناك ما منا من شهيد أى ما منا أحد اليوم- وقد أبصرنا وسمعنا- يشهد بأنهم شركاؤك، أى: ما منا إلا من هو موحد لك: أو ما منا من أحد يشاهدهم، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل: هو كلام الشركاء، أى: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير:
أنهم لا ينفعونهم، فكأنهم ضلوا عنهم وظنوا وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت:
آذناك إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم أين شركائي؟ إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية: دليل على إعادة المحكي.
ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخبارا بإيذان قد كان، كما تقول: أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت.

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 50]
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط (49) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ (50)
__________
(1) . قوله «وقرئ من ثمرات من أكمامهن» يفيد أن القراءة المشهورة: من ثمرة من أكمامها. والذي في النسفي: من ثمرات من أكمامها. ومن ثمرة من أكمامها. وأما: من ثمرات من أكمامهن. فهي المزيدة هنا، فحرر. (ع)
(2) . قوله «من الخداج» أى النقصان، كما في الصحاح. (ع)

(4/204)


وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51)

من دعاء الخير من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود: من دعاء بالخير وإن مسه الشر أى الضيقة والفقر فيؤس قنوط بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فعول، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أى: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لي أى هذا حقي وصل إلى، لأنى استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر. أو هذا لي لا يزول عنى، ونحوه قوله تعالى فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه ونحوه قوله تعالى وما أظن الساعة قائمة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين يريد: وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم إن لي عند الله الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة، قائسا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا: ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى. ويقول في الآخرة: يا ليتني كنت ترابا. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب. ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبا للافتخار والاستكبار لا غير، وكانوا يحسبون أن ما هم عليه سبب الغنى والصحة، وأنهم محقوقون بذلك.

[سورة فصلت (41) : آية 51]
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51)
هذا أيضا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة، وكأنه لم يلق بؤسا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره ونأى بجانبه أى ذهب بنفسه وتكبر وتعظم.
وإن مسه الضر والفقر: أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، ويستعار له الطول أيضا كما استعير الغلظ بشدة العذاب. وقرئ: ونأى بجانبه، بإمالة الألف وكسر النون للإتباع. وناء على القلب، كما قالوا: راء في رأى. فإن قلت: حقق لي معنى قوله تعالى ونأى بجانبه قلت: فيه وجهان: أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى على ما فرطت في جنب الله أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله:
......... ونفيت عنه ... مقام الذئب...... «1» ..
__________
(1) .
وماء قد وردت لأجل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذيب كالرجل اللعين
للشماخ: وأروى، اسم محبوبته. واللجين- بفتح اللام وكسر الجيم-: ما يتساقط من الورق من اللجن وهو الدق، لأنه يضربه الهوى أو الراعي، فيسقط من الشجر. وذعرت- بفتحتين» أى: أخفت فيه القطا، وخصها لأنها أسبق الطير إلى الماء. ومقام الذيب: إقامته أو محلها، وعبر به كناية عن ذاته، وخصه لأن غالب وروده الماء ليلا.
والرجل اللعين: هو الصورة التي تنصب وسط الزرع على شكل الرجل تطرد عنه الهوام، يقول: ورب ماء قد وردته لأجل محبوبتى، عسى أن تجيء عنده فأراها. ويروى: لوصل أروى، فلعله كان موعدا بينهما. وشبه الطير حول الماء بورق الشجر المتساقط في الكدرة والكثرة والانتشار، وهذا يدل على أنه لا يكثر وروده، فيصلح موعدا للوصل. وذعرت- إلى آخره: كناية عن وروده ليلا، وكالرجل اللعين: حال من ضمير الشاعر، فيفيد أنه سبق القطا والذيب وقعد هناك، أو حال من الذيب، أى: على هيئة مفزعة. وفيه دليل على شجاعة الشاعر وجرأته

(4/205)


قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط (54)

يريد: ونفيت عنه الذئب. ومنه: ولمن خاف مقام ربه. ومنه قول الكتاب: حضرت فلان ومجلسه، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز، يريدون نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء، وأن يراد بجانبه: عطفه، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار، كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه.

[سورة فصلت (41) : آية 52]
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52)
أرأيتم أخبرونى إن كان القرآن من عند الله يعنى أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقا وقد كفرتم به، فأخبرونى من أضل منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى ممن هو في شقاق بعيد موضوع موضع منكم، بيانا لحالهم وصفتهم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 53 الى 54]
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط (54)
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم يعنى ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما وفي باحة العرب «1»
__________
(1) . قوله «وفي باحة العرب» أى ساحتهم. أفاده الصحاح. (ع)

(4/206)


خصوصا: من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة، وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعافهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة من المعهود خارقة للعادات، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، وبسط دولته في أقاصيها، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدونة في مشاهد أهله وأيامهم: على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته، يقوى معها اليقين، ويزداد بها الإيمان، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه مغالط نفسه، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور، وأن للباطل ريحا تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل بربك في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. وأنه على كل شيء شهيد بدل منه، تقديره. أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد. ومعناه: أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد، أى: مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عنده، ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة. وقرئ: في مرية، بالضم وهي الشك محيط عالم يجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها، فلا تخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.

(4/207)


حم (1) عسق (2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5)

سورة الشورى
مكية [إلا الآيات 23 و 24 و 25 و 27 فمدنية] وآياتها 53 [نزلت بعد سورة فصلت] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) عسق (2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3) له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم (4)
تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5)
قرأ ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: حم سق كذلك يوحي إليك أى مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل من قبلك الله يعنى أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأولين والآخرين، ولم يقل: أوحى إليك، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. وقرئ: يوحى إليك، على البناء للمفعول.
فإن قلت: فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت: ما دل عليه يوحى، كأن قائلا قال: من الموحى؟ فقيل: الله، كقراءة السلمى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على البناء للمفعول ورفع شركائهم، على معنى: زينه لهم شركاؤهم. فإن قلت: فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون؟ قلت: يرتفع بالابتداء. والعزيز وما بعده: أخبار، أو العزيز الحكيم: صفتان، والظرف خبر. قرئ: تكاد، بالتاء والياء. وينفطرن، ويتفطرن. وروى يونس عن أبى عمرو قراءة غريبة: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روى في نوادر ابن الأعرابى: الإبل تشممن. ومعناه: يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد العلى العظيم. وقيل: من دعائهم له ولدا، كقوله تعالى تكاد السماوات يتفطرن منه.

(4/208)


فإن قلت: لم قال من فوقهن؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهي: العرش، والكرسي، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال يتفطرن من فوقهن أى يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية. أو: لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله عز وعلا يصب من فوق رؤسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة. وقيل: من فوقهن: من فوق الأرضين.
فإن قلت: كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى أولئك عليهم لعنة الله والملائكة فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت: قوله لمن في الأرض يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم، فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون، فما أراد الله إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن ويستغفرون للذين آمنوا وحكايته عنهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعا في استغفارهم، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله تعالى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا إلى أن قال إنه كان حليما غفورا وقوله تعالى إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم والمراد: الحلم عنهم وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. فإن قلت: قد فسرت قوله تعالى تكاد السماوات يتفطرن بتفسيرين، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت: أما على أحدهما فكأنه قيل: تكاد السماوات ينفط في هيبة من جلاله واحتشاما من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصا على نجاة الخلق، وطمعا في توبة الكفار والفساق منهم.

(4/209)


والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6) وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7) ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8)

[سورة الشورى (42) : آية 6]
والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6)
والذين اتخذوا من دونه أولياء جعلوا له شركاء وأندادا الله حفيظ عليهم رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.

[سورة الشورى (42) : آية 7]
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7)
ومثل ذلك أوحينا إليك وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها: من أن الله تعالى هو الرقيب عليهم، وما أنت برقيب عليهم، ولكن نذير لهم، لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لأوحينا. وقرآنا عربيا حال من المفعول به، أى أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حد الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، أى: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك لتنذر يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدى الأول، أعنى:
لتنذر أم القرى إلى المفعول الأول والثاني، وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني أم القرى أهل أم القرى، كقوله تعالى وسئل القرية. ومن حولها من العرب.
وقرئ: لينذر بالياء والفعل للقرآن يوم الجمع يوم القيامة، لأن الخلائق تجمع فيه. قال الله تعالى يوم يجمعكم ليوم الجمع وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. ولا ريب فيه اعتراض لا محل له «1» . قرئ: فريق وفريق، بالرفع والنصب، فالرفع على: منهم فريق، ومنهم فريق. والضمير للمجموعين، لأن المعنى: يوم جمع الخلائق.
والنصب على الحال منهم، أى: متفرقين، كقوله تعالى ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون.
فإن قلت: كيف يكونون مجموعين متفرقين في حالة واحدة؟ قلت: هم مجموعون في ذلك اليوم، مع افتراقهم في دارى البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع: جمعهم في الموقف، فالتفرق على معنى مشارفتهم للتفرق.

[سورة الشورى (42) : آية 8]
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8)
__________
(1) . قوله «لا محل له» لعله. لا محل له من الاعراب. (ع)

(4/210)


أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير (9) وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10)

لجعلهم أمة واحدة أى مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا والدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وقوله تعالى أفأنت تكره بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أن الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان «1» ، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه.

[سورة الشورى (42) : آية 9]
أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير (9)
معنى الهمزة في أم الإنكار فالله هو الولي هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد، فالفاء في قوله فالله هو الولي جواب شرط مقدر، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولى سواه وهو يحي أى: ومن شأن هذا الولي أنه يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.

[سورة الشورى (42) : آية 10]
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10)
وما اختلفتم فيه من شيء حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين. أى:
ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله تعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ذلكم الحاكم بينكم هو الله ربي عليه توكلت في رد كيد أعداء الدين وإليه
__________
(1) . قوله «لقسرهم جميعا على الإيمان» هذا عند المعتزلة: أما عند أهل السنة، فالارادة تستلزم وجود المراد، لكن لا تستلزم القسر والجبر للعباد، لأنها لا تنافى الاختيار، لما لهم في أعمالهم من الكسب. وإن كانت مخلوقة له تعالى. وأما التي لا تستلزم المراد وهي التي سماها مشيئة الحكمة، فهي التي بمعنى الأمر عند المعتزلة، ولا يثبتها أهل السنة، كما تقرر في التوحيد، فمعنى الآية: ولو شاء ربك إيمان الكل لآمن الكل، ولكن شاء إيمان البعض، فآمن من شاء إيمانه. (ع)

(4/211)


فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)

أرجع في كفاية شرهم. وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره، كقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح. قال الله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي: فإن قلت: هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت: لا، لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)
فاطر السماوات قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدإ محذوف، والجر على: فحكمه إلى الله فاطر السماوات، وذلكم إلى أنيب اعتراض بين الصفة والموصوف جعل لكم خلق لكم من أنفسكم من جنسكم من الناس أزواجا ومن الأنعام أزواجا أى: خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا يذرؤكم يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء:
أخوات فيه في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين «1» . فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم: كان أبلغ «2» من قولك:
__________
(1) . قال محمود: «إن الضمير المتصل بيذرؤ عائد على الأنفس وعلى الأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين» قال أحمد: الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين، أحدهما: مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني: مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب، فالأول لتغليب العقل. والثاني لتغليب الخطاب.
(2) . قوله «لا تخفر الذمم كان أبلغ» في الصحاح: أخفرته، إذا نقضت عهده وغدرت به. وفيه: «أيقع الغلام» أى: ارتفع: وهو يافع، ولا تقول: موقع. وقوله «كان أبلغ» لعل تقديره: فان قلت له ذلك كان أبلغ. (ع)

(4/212)


أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: «ألا وفيهم الطيب الطاهر «1» لداته» والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله ليس كمثله شيء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل بل يداه مبسوطتان فإن معناه:
بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها: لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى أنهم استعملوا فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل «2» له، ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد، كما كررها من قال:
وصاليات ككما يؤثفين «3»
__________
(1) . قال محمود: «تقول العرب: مثلك لا يبخل، فينفون البخل عن مثله، والمراد نفسه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته، تريد طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية: لم يكن فرق بين قولك ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. ونحوه قوله تعالى بل يداه مبسوطتان فان معناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون بها شيئا آخر، حتى أنهم يستعملونها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل، وفيمن لا مثل له، ثم قال:
ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررت في قوله من قال:
وصاليات ككما يؤثفين
ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
انتهى كلامه. قال أحمد: هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى، وذلك أن الذي يليق هنا تأكيد نفى المماثلة، والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرق بين تأكيد المماثلة المنفية، وبين تأكيد نفى المماثلة، فان نفى المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفى المماثلة المقترنة بالتأكيد، إذ يلزم من نفى المماثلة الغير المؤكدة نفى كل مماثلة. ولا يلزم من نفى مماثلة محققة متأكدة بالغة نفى مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد. وحيث وردت الكاف مؤكدة للمماثلة وردت في الإثبات فأكدته، فليس النظر في الآية بهذين النظرين مستقيما والله أعلم. ومما يرشد إلى صحة ما ذكرته أن للقائل أن يقول: ليس زيد شبيها بعمرو، لكن مشبها له، ولو عكس هذا لم يكن صحيحا، وما ذاك إلا أنه يلزم من نفى أدنى المشابهة نفى أعلاها، ولا يلزم من نفى أعلاها نفى أدناها، فمتى أكد التشبيه قصر عن المبالغة. والوجه الأول الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده، وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله: ولك أن تزعم، فافهم.
(2) . رواه ابن عبد الرحمن بن موهب حليف بنى زهرة عن أبيه: حدثني مخرمة بن نوفل بحديث سقيا عبد المطلب لكن ليس فيه الطيب الطاهر لداته ورواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث عروة بن مصرف عن مخرمة ابن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفي بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب. قالت «تتابعت على قريش سنون- الحديث بطوله» ورويناه في جزء أبى السكين. «تنبيه» وقع رقيقة بنت صيفي والصواب بنت أبى صيفي.
(3) .
لم يبق من آي بها يحلين ... غير رماد وعظام كثفين
وغير ود جازل أو ودين ... وصاليات ككما يؤثفين
لخطام المجاشعي. والآي: واحده آية، أى: علامة. ويحلين: مضارع مبنى للمجهول، من حليته تحلية: إذا وصفت حليته وصفته. يقول: لم يبق من آثار هذه الديار علامات فيها تذكر صفتها غير رماد وعظام متكاثفين متراكمين. والكشف- بالتحريك-: كسبب: المجتمع، فلعله سكنه للوزن. وروى: غير رماد وخطام كثفين.
والخطام: الزمام. ويروى بالمهملة، وهو ما تحطم وتكسر من الحطب اليابس. والكثف- كحمل-: وعاء الرعي فكثفين على حذف العاطف. وقيل بدل مما قبله. والأوجه روايته وخطام كثفين بالاضافة، لأجل موافقة القوافي أى: ورباط وعاءين، وكرر أداة الاستثناء للتوكيد. والود: أصله وتد، فقلبت التاء دالا وأدغمت في الأخرى عند تميم شذوذا. والجادل: المنتصب والغليظ، أى: لم يق غير وتد منتصب بها أو وتدين لا غير، حيث لم يشك إلا في ذلك. والصاليات صفة للاثافى. وقيل: صفة للنساء الموقدات للنار: وقيل: صفة للخيل الصاليات للحرب كالأثافى الصاليات للنار، لكنهما لا يناسبان وصف الدار بالخلو. والأثفية: حجر الكانون، وزنها: أفعولة في الأصل، وجمعها أثافى. وأثفيت للقدر: وضعت الأثافى لها. وثفيتها تثفية: وضعتها على الأثافى. وقوله:
يؤثفين مضارع مبنى للمجهول، جاء على الأصل مهموزا، كيؤكر من بالهمزة، وهذا يدل على أن الصاليات صفة للأحجار الملازمات للنار المحترقات بها، فلعله شبه النساء بالأثافى لدمامتهن وسوادهن، بكثرة الدخان وملازمتهن النار.
وعليه فالمعنى: ونساء صاليات كالأحجار تثفى وتوضع للقدر، فما موصولة واقعة على الأحجار لا مصدرية ولا كافة، وكرر كاف التشبيه للتوكيد، لكن الثانية اسم بمعنى مثل، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله. ويمكن أنه كرر الحرف من غير إعادة المجرور شذوذا. ويروى بعد قوله وصاليات ... الخ
لا يشتكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين
وهو يناسب القول بأنها صفة للنساء أو الخيل على التشبيه السابق. والانقاء: كثرة النقي بالكسر وهو المخ. يقال:
أنقت الإبل إذا سمنت وكثر مخها، أى: لا يشتكين عملا مدة إنقائهن وسمنهن، وفسر ذلك بقوله: ما دام مخ ... الخ والسلاميات: عظام الأصابع وهي والعين آخر ما يبقى فيه المخ. ويروى أيضا هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين ... وصاليات ككما يؤثفين
والغريان: بناء ان طويلان، يقال: هما قبرا مالك وعقيل: نديمى جذيمة الأبرش، سميا بذلك لأن النعمان كان يغريهما يمن يريد قتله إذا خرج يوم بؤسه. والأشبه أن ذلك من تخليط الراوي، وأن الصاليات: الأحجار. وقوله «لا يشتكين ... الخ» ليس من هذا الرجز، فلا ينبغي روايته معه، وهو الذي من صفة الخيل، أو أصل النساء لا الصاليات. ويجوز أن الرجز هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين ... لم يبق من آي بها يحلين
وأن قوله «لا يشتكين ... الخ» من موضع آخر من ذلك الرجز في صفة الخيل، كما رواه صاحب الكافي شاهدا على الأكفاء في القافية هكذا:
بنات وطاء على خد الليل ... لا يشتكين عملا ما أنقين
لاختلاف حرفى الروى. والوطاء- بالضم والتشديد-: من الوطء على الأرض. وخد الليل: طريقه الذي لا يسلك إلا فيه. وقال بعضهم: إن هذا في صفة الخيل، وأنه من مشطور المنسرح الموقوف. وعلى أنه في صفة أجل، أى: فلك المطايا بنات نوق أو فحول، وطاء: جمع واطئ أو واطئة، على خد الليل: كناية عن قوتهن في السير، حتى كأنهن يغلبن الليل، فيصر عنه ويطأن على خده، فهن لا يبالين به. [.....]

(4/213)


ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول «1»
__________
(1) .
بالأمس كانت في رخاء مأمول ... فأصبحت مثل كعصف مأكول
يروى لرؤية بدله:
ولعبت طير بهم أبابيل ... فصيروا مثل كعصف مأكول
يقول: بالأمس، أى: في الزمن الماضي القريب، كانت تلك الديار مثلا في رخاء، أى: خصب وسعة من الثروة والغنى، مأمول ذلك، أى: متمنى للناس، وكرر كلمة التشبيه للتوكيد، والعصف: ما على الحب وعلى ساق الزرع من التين والورق اليابس، مأكول: أى أصابه الأكال، وهو الدود. وأكلته الدواب ثم راثته. وأبابيل، بمعنى جماعات متفرقة، صفة طير، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده أبول كعجول. وقيل: إبال كمفتاح. وقيل إبيل كمسكين. وقول رؤية «صيروا» بالتشديد والبناء للمجهول، ولعل هذا رجز غيره ذاك.

(4/214)


له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم (12) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14)

[سورة الشورى (42) : آية 12]
له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم (12)
وقرئ: ويقدره. إنه بكل شيء عليم فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه، وإلا أفقره.

[سورة الشورى (42) : آية 13]
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)
شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ومحل أن أقيموا إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى إن هذه أمتكم أمة واحدة. كبر على المشركين عظم عليهم وشق عليهم ما تدعوهم إليه من إقامة دين الله والتوحيد يجتبي إليه يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد من يشاء من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفا.

[سورة الشورى (42) : آية 14]
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14)

(4/215)


فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)

وما تفرقوا يعنى أهل الكتاب بعد أنبيائهم إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء ولولا كلمة سبقت من ربك وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة لقضي بينهم حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفي شك من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الاباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل: وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وإن الذين أورثوا الكتاب من من بعدهم هم المشركون: أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
وقرئ: ورثوا، وورثوا.

[سورة الشورى (42) : آية 15]
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)
فلذلك فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أى كتاب صح أن الله أنزله، يعنى الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله تعالى ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض إلى قوله أولئك هم الكافرون حقا لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلى لا حجة بيننا وبينكم أى لا خصومة لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأن المتحاجين: يورد هذا حجته وهذا حجته الله يجمع بيننا يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة.

(4/216)


والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18) الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19)

[سورة الشورى (42) : آية 16]
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16)
يحاجون في الله يخاصمون في دينه من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم «1» وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام داحضة باطلة زالة.

[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 18]
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18)
أنزل الكتاب أى جنس الكتاب والميزان والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل، أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل: الذي يوزن به. بالحق: ملتبسا بالحق، مقترنا به، بعيدا من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك الساعة في تأويل البعث، فلذلك قيل قريب أو لعل مجيء الساعة قريب.
فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأن الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم، ويوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف.
المماراة: الملاجة «2» لأن كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه لفي ضلال بعيد من الحق:
لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لا بد من دار الجزاء.

[سورة الشورى (42) : آية 19]
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز (19)
لطيف بعباده بر بليغ البر بهم، قد توصل بره إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته. فإن قلت: فما معنى قوله يرزق من يشاء
__________
(1) . قوله «ونحن خير منكم» لعله: «فنحن» كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «الملاجة» بالجيم: التمادي في الخصومة، ويمرى: أى يستخرج، كذا في الصحاح. (ع)

(4/217)


من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20) أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21)

بعد توصل بره إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون لا يخلو أحد من بره، إلا أن البر أصناف، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله تعالى يرزق من يشاء كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد وهو القوي الباهر القدرة، الغالب على كل شيء العزيز المنيع الذي لا يغلب.

[سورة الشورى (42) : آية 20]
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب (20)
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز. وفرق بين عملى العاملين:
بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئا منها لا ما بريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.

[سورة الشورى (42) : آية 21]
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21)
معنى الهمزة في أم التقرير والتقريع. وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم: أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى الله، ولما كانت سببا لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه إنهن أضللن كثيرا من الناس. ولولا كلمة الفصل أى القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أى: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة لقضي بينهم أى بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب: وأن الظالمين، بالفتح عطفا له على كلمة الفصل، يعنى: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة، لقضى بينهم في الدنيا.

(4/218)


ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23)

[سورة الشورى (42) : الآيات 22 الى 23]
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23)
ترى الظالمين في الآخرة مشفقين خائفين خوفا شديدا أرق قلوبهم مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم يريد: ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بد لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها عند ربهم منصوب بالظرف لا بيشاءون قرئ: يبشر، من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر، من بشره. والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى واختار موسى قومه ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى أهذا الذي بعث الله رسولا أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟
فنزلت الآية إلا المودة في القربى يجوز أن يكون استثناء متصلا، أى: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا، أى: لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودة القربى: أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله إلا المودة في القربى؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودة. ولى فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبى ومحله، وليست في بصلة للمودة، كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة «1» فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل: إلا مودة القربى. أو: إلا المودة للقربى. وأجاب بأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان هوى وحب شديد، وليس في صلة للمودة، كاللام إذا قلت:
إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها» قال أحمد: وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت: إن قوله يذرؤكم فيه، إنما جاء عوضا من قوله: يذرؤكم به، فافهمه.

(4/219)


مودتهم؟ قال: «على وفاطمة وابناهما «1» » ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا» «2» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» «3» وروى. أن الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس أو ابن عباس رضى الله عنهما: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بى» ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بى» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبونني» «4» ؟
قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا «5» ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله
__________
(1) . أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم والحاكم في مناقب الشافعي من رواية حسين الأشقر عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وحسين ضعيف ساقط. وقد عارضه ما هو أولى منه. ففي البخاري من رواية طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية. فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة- الحديث» قلت وأخرج سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال «أكثروا علينا في هذه الآية. فكتبنا إلى ابن عباس فكتب- فذكر نحوه، وابن طاوس أتم منه.
(2) . أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن على رضى الله عنه ورواه الطبراني من حديث أبى رافع «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى «إن أول أربعة يدخلون الجنة- فذكره» وسنده واه.
(3) . أخرجه الثعلبي من حديث على رضى الله عنه. وفيه عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه. وهو كذاب
(4) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني في الأوسط، كلهم من حديث ابن عباس. وفيه يزيد بن زياد وهو ضعيف
(5) . أخرجه الثعلبي: أخبرنا عبد الله بن محمد بن على البلخي حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق حدثنا محمد بن أسلم حدثنا يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن قيس عن جرير- بطوله. وآثار الوضع عليه لائحة. ومحمد ومن فوقه أثبات. والآفة فيه ما بين الثعلبي ومحمد.

(4/220)


أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)

قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب «1» بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» وقيل:
لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، أى: في حق القربى ومن أجلها، كما تقول: الحب في الله والبغض في الله، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعنى: أنكم قومي وأحق من أجابنى وأطاعنى، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا على. وقيل:
أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك «2» ، فنزلت ورده. وقيل القربى: التقرب إلى الله تعالى، أى: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: إلا مودة في القربى من يقترف حسنة عن السدى أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومودته فيهم. والظاهر: العموم في أى حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى:
دل ذلك على أنها تناولت المودة تناولا أوليا، كأن سائر الحسنات لها توابع. وقرئ: يزد، أى: يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها، كقوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة وقرئ: حسنى، وهي مصدر كالبشرى، الشكور في صفة الله: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفية ثوابها، والتفضل على المثاب.

[سورة الشورى (42) : آية 24]
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)
أم منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ «3» ، كأنه قيل: أيتما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها فإن يشإ الله يختم على قلبك فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله،
__________
(1) . قوله «مكتوب بين عينيه» لعله: مكتوبا. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي والواحدي في الأسباب عن ابن عباس بغير سند. ويشبه أن يكون عن الكلبي عن أبى صالح عنه. وروى الطبراني من طريق عثمان بن القطان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عنه.
(3) . قوله «ومعنى الهمزة فيه التوبيخ» لعله: فيها. (ع)

(4/221)


وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25)

وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخون بغض الأمناء فيقول لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه يعنى: لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت «1» والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم، إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة يختم على قلبك: ينسك القرآن ويقطع عنك الوحى، يعنى: لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك، وقيل يختم على قلبك: يربط عليه بالصبر، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت: إن كان قوله ويمح الله الباطل كلاما مبتدأ غير معطوف على يختم، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى ويدع الإنسان بالشر وقوله تعالى سندع الزبانية على أنها مثبتة في بعض المصاحف.

[سورة الشورى (42) : آية 25]
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25)
يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولى ومنشأه.
ومعنى: قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود، لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب. وإن كان فيه لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له على رضى الله عنه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة. فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذا به النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته ويعفوا عن السيئات عن الكبائر إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ويعلم ما تفعلون. قرئ بالتاء والياء: أى: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته.
__________
(1) . قوله «من البهت» أى: اتهام الإنسان بما ليس فيه، (ع)

(4/222)


ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27)

[سورة الشورى (42) : آية 26]
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26)
ويستجيب الذين آمنوا أى يستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى وإذا كالوهم أى يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم. وقيل: الاستجابة: فعلهم، أى يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها ويزيدهم هو من فضله على ثوابهم. وعن سعيد بن جبير: هذا من فعلهم: يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ والله يدعوا إلى دار السلام، ويستجيب الذين آمنوا.

[سورة الشورى (42) : آية 27]
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27)
لبغوا من البغي وهو الظلم، أى: لبغى هذا على ذاك، وذاك على هذا، لأن الغنى مبطرة مأشرة «1» ، وكفى بحال قارون عبرة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
«أخوف ما أخاف على أمتى زهرة الدنيا وكثرتها» «2» ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمى ينبت بيننا ... وبين بنى رومان نبعا وشوحطا «3»
يعنى: أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتفانن. أو من البغي وهو البذخ والكبر، أى: لتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يتبع الكبر من الغلو فيها والفساد. وقيل: نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. قال خباب ابن الأرت: فينا نزلت، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها بقدر بتقدير. يقال قدره قدرا
__________
(1) . قوله «مبطرة مأشرة» في الصحاح: الأشر: البطر. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بهذا- وزاد «وكان يقال خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك» وفي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري. بلفظ «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا»
(3) . يروى: وقد جعل الوسمي أول مطر السنة، لأنه يسم الأرض بالنبات. والنبع: شجر تتخذ منه القسي.
والشوحط مثله، أى: قد يشرع المطر في إنبات الأشجار بيننا وبينهم. والمعنى: أنهم يطلبون الاقامة حتى تعظم الأشجار بينهم لأنهم أغنياء لا يكثرون الارتحال كغيرهم. أو المعنى: أنهم كانوا إذا جاء الربيع وبلغت تلك الأشجار يتخذون منها الرماح والقسي، ويتحاربون. فالكلام كناية عن انتشاب الحرب بين القبيلتين، وهذا هو الذي يعطيه السياق، وذكر البينية، وتخصيص ذلك الشجر.

(4/223)


وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28) ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29)

وقدرا. خبير بصير يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغنى، ويمنع ويعطى، ويقبض ويبسط كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا. فإن قلت: قد نرى الناس يبغى بعضهم على بعض، ومنهم مبسوط لهم، ومنهم مقبوض عنهم، فإن كان المبسوط لهم يبغون، فلم بسط لهم: وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط، فلم شرطه؟ قلت: لا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه «1» الآن.

[سورة الشورى (42) : آية 28]
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28)
قرئ: قنطوا بفتح النون وكسرها وينشر رحمته أى: بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب. وعن عمر رضى الله عنه أنه قيل له: اشتد القحط وقنط الناس «2» فقال: مطروا إذا: أراد هذه الآية. ويجوز أن يريد رحمته في كل شيء، كأنه قال: ينزل الرحمة التي هي الغيث، وينشر غيرها من رحمته الواسعة الولي الذي يتولى عباده بإحسانه الحميد المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته.

[سورة الشورى (42) : آية 29]
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير (29)
وما بث يجوز أن يكون مرفوعا ومجرورا يحمل على المضاف إليه أو المضاف. فإن قلت:
لم جاز فيهما من دابة والدواب في الأرض وحدها؟ قلت: يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه، كما يقال: بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل، وإنما هو في فخذ «3» من أفخاذهم أو فصيلة من فصائلهم، وبنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله نويس
__________
(1) . قوله «عكس ما عليه الآن» لعله: ما هو عليه. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق قتادة قال «ذكر لنا» فذكره بتمامه. ورواه باختصار عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال «ذكر لنا أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين. قحط المطر وقنط الناس. فقال:
مطروا إذن» .
(3) . قوله «فخذ» العشائر أقلها الفخذ، وفوقه البطن، ثم العمارة، ثم الفصيلة، ثم القبيلة، ثم الشعب. فهو أكثرها. أفاده الصحاح. (ع)

(4/224)


وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30) وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31)

منهم. ومنه قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح «1» . ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشى مع الطيران. فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسى. ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانا يمشى فيها مشى الأناسى على الأرض، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. إذا يدخل على المضارع كما يدخل على الماضي. قال الله تعالى والليل إذا يغشى ومنه إذا يشاء وقال الشاعر:
وإذا ما أشاء أبعث منها ... آخر الليل ناشطا مذعورا»

[سورة الشورى (42) : الآيات 30 الى 31]
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30) وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31)
في مصاحف أهل العراق فبما كسبت بإثبات الفاء على تضمين «ما» معنى الشرط. وفي مصاحف أهل المدينة «بما كسبت» بغير فاء، على أن «ما» مبتدأة، وبما كسبت: خبرها من غير تضمين معنى الشرط. والآية مخصوصة بالمجرمين، «3» ولا يمتنع أن يستوفى الله بعض عقاب المجرم ويعفو
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم جاز فيهما من دابة والدواب في الأرض وحدها؟ وأجاب بأنه يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان لبعضه، كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح ...
الخ» قال أحمد: إطلاق الدواب على الأناسى بعيد من عرف اللغة، فكيف في إطلاقه على الملائكة. والصواب- والله أعلم-: هو الوجه الأول، وقد جاء مفسرا في غير ما آية، كقوله إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ثم قال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة فخص هذا الأمر بالأرض، والله أعلم.
(2) . إذا: ظرف للمستقبل، فإذا دخل عليه الماضي كان مستقبلا، أو المضارع كان نصا في الاستقبال، وجرد من الناقة أمرا آخر لشدة سيرها، فلذلك قال: منها. وأصل المعنى: أبعثها في آخر الليل كالناشط، وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أخرى، والمذعور: الخائف وهو كناية عن سريع السير جدا.
(3) . قال محمود: «الآية مخصوصة بالمجرمين ... الخ» قال أحمد: هذه الآية تنكسر عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها، فإنهم حملوا قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على التائب، وهو غير ممكن لهم هاهنا، فانه قد أثبت التبعيض في العفو، ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقرونا بالتوبة، فانه يلزم تبعيض التوبة أيضا. وهي عندهم لا تتبعض. وكذلك نقل الامام عن أبى هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم. فلا محمل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه، وهو مرد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة.
وقول الزمخشري إن الآلام التي تصيب الأطفال والمجانين لها أعواض، إنما يريد به وجوب العوض على الله تعالى على سياق معتقده، وقد أخطأ على الأصل والفرع، لأن المعتزلة وإن أخطأت في إيجاب العوض، فلم تقل بإيجابه في الأطفال والمجانين. ألا ترى أن القاضي أبا بكر ألزمهم قبح إيلام البهائم والأطفال والمجانين فقال: لا أعواض لها، وليس مترتبا على استحقاق سابق فيحسن، فإنما يتم إلزامه بموافقتهم له على أن لا أعواض لها.

(4/225)


ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34)

عن بعض. فأما من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفى والمصلحة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر» «1» وعن بعضهم: من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر: كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وعن آخر: العبد ملازم للجنايات في كل أوان، وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة: وعن على رضى الله عنه وقد رفعه: من «عفى عنه في الدنيا عفى عنه في الآخرة «2» ومن عوقب في الدنيا لم تثن عليه العقوبة في الآخرة» وعنه رضى الله عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن بمعجزين بفائتين ما قضى عليكم من المصائب من ولي من متول بالرحمة.

[سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 34]
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34)
الجوار: السفن. وقرئ: الجوار كالأعلام كالجبال. قالت الخنساء:
كأنه علم في رأسه نار «3»
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق وابن أبى حاتم من طريق إسماعيل بن سليم عن الحسن والطبري والبيهقي في أواخر الشعب. عن قتادة كلاهما مرسل. ووصله عبد الرزاق من رواية الصلت بن بهرام عن أبى وائل عن البراء رضى الله عنه
(2) . أخرجه ابن ماجة من رواية أبى جحيفة عن على رفعه. بلفظ: من أصاب ذنبا في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثنى على عبد عقوبته. ومن أذنب ذنبا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء عفا عنه» ورواه أحمد والبزار والحاكم والدارقطني والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين. وقال إسحاق في مسنده:
أخبرنا عيسى بن يونس عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفراء عن يونس بن حبان عن على نحوه وفيه انقطاع
(3) .
وإن صخرا لمولانا وسيدنا ... وإن صخرا إذا يشتو لنحار
أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
للخنساء ترثى أخاها. ويشتو: أى يدخل في الشتاء، وهو حكاية حال ماضية. ونحار: كثير نحر الإبل للضيفان كناية عن كثرة كرمه. والأغر: الأبيض. والأبلج: الطلق الوجه المعروف. والهداة: جمع هاد: من يتقدم غيره ليدله. والعلم: الجبل: وفي رأسه نار: صفة علم جاءت لترشيح التشبيه وتقريره، والمبالغة في توضيح المشبه وتشهيره، وعادة دليل الركب: الاهتداء إلى الطريق بالجبال الشامخة، فإذا كان فوقها نار: علم أن أهلها كرام.
ويروى:
وإن صخرا لتأتم الهداة به

(4/226)


ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص (35)

وقرئ: الرياح فيظللن بفتح اللام وكسرها، من ظل يظل ويظل، نحو: ضل يضل ويضل رواكد ثوابت لا تجرى على ظهره على ظهر البحر «1» لكل صبار على بلاء الله شكور لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله، فهو يستملى منها العبر يوبقهن يهلكهن. والمعنى: أنه إن يشأ يبتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين: إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهن من الجري، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقا بسبب ما كسبوا من الذنوب ويعف عن كثير منها، فإن قلت: علام عطف يوبقهن؟ قلت: على يسكن، لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن. أو يعصفها فيغرقن بعصفها. فإن قلت: فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه؟ قلت: معناه: أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. فإن قلت: فمن قرأ ويعف؟ قلت: قد استأنف الكلام.

[سورة الشورى (42) : آية 35]
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص (35)
فإن قلت: فما وجوه القراءات الثلاث في ويعلم؟ قلت: أما الجزم فعلى ظاهر العطف وأما الرفع فعلى الاستئناف. وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن، منه قوله تعالى ولنجعله آية للناس وقوله تعالى وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وأما قول الزجاج: النصب على إضمار أن، لأن قبلها جزاء، تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك.
وإن شئت وأكرمك، على: وأنا أكرمك. وإن شئت وأكرمك جزما، ففيه نظر لما أورده سيبويه في كتابه. قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتنى آتك وأعطيك:
ضعيف، وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فاستريحا «2»
فهذا يجوز، وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا، لأنه ليس بواجب
__________
(1) . قال محمود: «معناه ثوابت لا تجرى على ظهر البحر» قال أحمد: وهم يقولون: إن الريح لم ترد في القرآن إلا عذابا، بخلاف الرياح. وهذه الآية تخرم الإطلاق، فان الريح المذكورة هنا نعمة ورحمة. إذ بواسطتها يسير الله السفن في البحر حتى لو سكنت لركدت السفن، ولا ينكر أن الغالب من ورودها مفردة ما ذكروه. وأما اطراده فلا. وما ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فلأجل الغالب في الإطلاق، والله أعلم.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 557 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/227)


فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)

أنه يفعل. إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه: أجازوا فيه هذا على ضعفه اه. ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. فإن قلت: فكيف يصح المعنى على جزم ويعلم؟ قلت: كأنه قال: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين من محيص من محيد عن عقابه.

[سورة الشورى (42) : آية 36]
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (36)
ما الأولى ضمنت معنى الشرط، فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية. عن على رضى الله عنه: اجتمع لأبى بكر رضى الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله والخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فنزلت.

[سورة الشورى (42) : آية 37]
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37)
والذين يجتنبون عطف على الذين آمنوا، وكذلك ما بعده. ومعنى كبائر الإثم الكبائر من هذا الجنس. وقرئ: كبير الإثم. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه: كبير الإثم هو الشرك هم يغفرون أى هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس، والمجيء بهم وإيقاعه مبتدأ، وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة، ومثله:
هم ينتصرون.

[سورة الشورى (42) : آية 38]
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)
والذين استجابوا لربهم نزلت في الأنصار: دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه وأقاموا الصلاة وأتموا الصلوات الخمس. وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا، فأثنى الله عليهم، أى: لا ينفردون برأى حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن:
ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» «1» والشورى: مصدر كالفتيا، بمعنى التشاور. ومعنى
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والبخاري في الأدب وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد. وقد ذكره المصنف مرفوعا في آل عمران. [.....]

(4/228)


والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)

قوله وأمرهم شورى بينهم أى ذو شورى، وكذلك قولهم: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضى الله عنه الخلافة شورى.

[سورة الشورى (42) : آية 39]
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39)
هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا. وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. فإن قلت: أهم محمودون على الانتصار؟ قلت: نعم، لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل إن كان ولى دم أورد على سفيه، محاماة على عرضه وردعا له، فهو مطيع.
وكل مطيع محمود.

[سورة الشورى (42) : آية 40]
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)
كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة، لأنها تسوء من تنزل به. قال الله تعالى: وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك: يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا. والمعنى: أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال أخزاك الله قال: أخزاك الله فمن عفا وأصلح بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء، كما قال تعالى فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، فأجره على الله عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم. وقوله إنه لا يحب الظالمين دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة «1» والاعتداء خصوصا في حال الحرد «2» والتهاب الحمية فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم:
ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله «3» .
__________
(1) . قال محمود: «فيه دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه ... الخ» قال أحمد: معنى حسن يجاب به عن قول القائل: لم ذكر هذا عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم، فيشفى غليل السائل ويحصل منه على كل طائل.
ومن هذا النمط والله الموفق: قوله تعالى: وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور.
(2) . قوله «الحرد» في الصحاح: «الحرد» بالتحريك: الغضب. (ع)
(3) . أخرجه العقيلي والطبراني في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب في السابع والخمسين كلهم من طريق الفضل بن يسار عن غالب العطار عن الحسن بن أنس رفعه. قال «إذا وقف العبد للحساب ينادى مناد: من كان أجر» على الله فليدخل الجنة- الحديث» وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية زهير بن عباد عن ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس. وأخرى عن البيهقي من رواية الثوري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أتم منه- قال البيهقي: المتن غريب- والاسناد ضعيف.

(4/229)


ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43) ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44)

[سورة الشورى (42) : الآيات 41 الى 42]
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42)
بعد ظلمه من إضافة المصدر إلى المفعول، وتفسره قراءة من قرأ: بعد ما ظلم فأولئك إشارة إلى معنى من دون لفظه ما عليهم من سبيل للمعاقب ولا للعاتب والعائب إنما السبيل على الذين يظلمون الناس يبتدئونهم بالظلم ويبغون في الأرض يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون.

[سورة الشورى (42) : آية 43]
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (43)
ولمن صبر على الظلم والأذى وغفر ولم ينتصر وفوض أمره إلى الله إن ذلك منه لمن عزم الأمور وحذف الراجع لأنه مفهوم، كما حذف من قولهم: السمن منوان بدرهم. ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله، فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون.
وقالوا: العفو مندوب إليه، ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه: وهو أن زينب أسمعت عائشة بحضرته، وكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: «دونك فانتصرى» «1» .

[سورة الشورى (42) : آية 44]
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44)
__________
(1) . أخرجه النسائي من رواية خالد بن مسلمة عن عروة عن عائشة قالت: ما علمت حتى دخلت على زينب بغير إذن وهي بمعنى [بياض بالأصل.] فذكر نحوه. ولم يذكر فيه النهى. ولفظه ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش- إلى أن قال: فأقبلت زينب هجم لعائشة فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت أن تنتهي. قال: لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها» .

(4/230)


وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل (46) استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير (47) فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور (48)

ومن يضلل الله ومن يخذل الله «1» فما له من ولي من بعده فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه.

[سورة الشورى (42) : الآيات 45 الى 46]
وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل (46)
خاشعين متضائلين متقاصرين مما يلحقهم من الذل وقد يعلق من الذل بينظرون، ويوقف على خاشعين ينظرون من طرف خفي أى يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفى بمسارقة، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف «2» . وهكذا نظر الناظر إلى المكاره:
لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحاب. وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم. وذلك نظر من طرف خفى. وفيه تعسف يوم القيامة
إما أن يتعلق بخسروا، ويكون قوله المؤمنين واقعا في الدنيا، وإما أن يتعلق بقال، أى: يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.

[سورة الشورى (42) : آية 47]
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير (47)
من الله من صلة لا مرد، أى: لا يرده الله بعد ما حكم به. أو من صلة يأتى، أى:
من قبل أن يأتى من الله يوم لا يقدر أحد على رده. والنكير: الإنكار، أى: ما لكم من مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيأ مما اقترفتموه ودون في صحائف أعمالكم.

[سورة الشورى (42) : آية 48]
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور (48)
__________
(1) . قوله «ومن يخذل الله. فما له من ولى» تأويل على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: يخلقه كالخير، فالاضلال خلق الضلال. ومن بعده: أى من بعد إضلاله. (ع)
(2) . قوله «كما ترى المصبور ينظر إلى السيف» أى: المحبوس للقتل. أفاده الصحاح. (ع)

(4/231)


لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)

أراد بالإنسان الجمع لا الواحد، لقوله وإن تصبهم سيئة ولم يرد إلا المجرمين، لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما تستقيم فيهم. والرحمة: النعمة من الصحة والغنى والأمن. والسيئة:
البلاء من المرض والفقر والمخاوف. والكفور: البليغ الكفران، ولم يقل: فإنه كفور، ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم «1» ، كما قال إن الإنسان لظلوم كفار، إن الإنسان لربه لكنود والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها «2» .

[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)
لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها: أنبع ذلك أن له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور، وبعضا بالصنفين جميعا، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولدا قط. فإن قلت: لم قدم الإناث أولا على الذكور مع تقدمهم عليهن، ثم رجع فقدمهم، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟
قلت. لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاء، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم، لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتض آخر فقال ذكرانا وإناثا كما قال إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى وقيل: نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، حيث وهب لشعيب ولوط إناثا، ولإبراهيم ذكورا، ولمحمد ذكورا وإناثا، وجعل يحيى وعيسى عقيمين إنه عليم بمصالح العباد قدير على تكوين ما يصلحهم.
__________
(1) . قال محمود: «لم يقل: فانه كفور، ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم ... الخ» قال أحمد:
وقد أغفل هذه النكتة بعينها في الآية التي قبل هذه، وهي قوله تعالى وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا إن الظالمين في عذاب مقيم فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن، فيقال: ألا إنهم في عذاب مقيم، فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم
(2) . قوله «وينسى النعم ويغمطها» يبطرها ويحقرها. أفاده الصحاح. (ع)

(4/232)


وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)

[سورة الشورى (42) : آية 51]
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)
وما كان لبشر وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحى وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره.
قال عبيد بن الأبرص:
وأوحى إلى الله أن قد تأمروا ... بإبل أبى أوفى فقمت على رجل «1»
أى: ألهمنى وقذف في قلبي. وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام، من غير أن يبصر السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئى «2» . وقوله من وراء حجاب
مثل أى، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل: وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة أو يرسل رسولا أى نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم. ووحيا، وأن يرسل: مصدران واقعان موقع الحال، لأن: أن يرسل، في معنى إرسالا. ومن وراء حجاب: ظرف واقع موقع الحال أيضا، كقوله تعالى وعلى جنوبهم والتقدير: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا، أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا. ويجوز أن يكون: وحيا، موضوعا موضع: كلاما، لأن الوحى كلام خفى في سرعة، كما تقول: لا أكلمه إلا جهرا وإلا خفانا، لأن الجهر والخفات ضربان من الكلام، وكذلك إرسالا: جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة. تقول: قلت لفلان كذا، وإنما قاله وكيلك أو رسولك. وقوله أو من وراء حجاب معناه: أو إسماعا من وراء حجاب، ومن جعل وحيا في معنى: أن يوحى، وعطف يرسل عليه، على معنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أى: إلا بأن يوحى. أو بأن يرسل،
__________
(1) . أى ألهمنى الله وألقى في قلبي: أنهم تأمروا. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير القوم أو الحال والشأن. واختار أبو حيان أنها لا اسم لها إذا خففت، لأنها مهملة. وإن ضمن «أوحى» معنى: قال، فان تفسيرية، أى، قد تآمروا بوزن تفاعلوا، أى: تشاوروا في الأمر، أو أجمعوا أمرهم. ومنه يأتمرون بك ليقتلوك بابل أبى أو في ليغتصبوها، فقمت في طلبهم لأردها على رجل، أى: لم أصبر حتى أركب. أو على رجل واحدة، أى: بسرعة، فلا أضع رجلي معا في الأرض.
(2) . قوله «لأنه في ذاته غير مرئى» أى: لا تجوز رؤيته، وهذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتجوز كما تقرر في محله. (ع)

(4/233)


وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)

فعليه أن يقدر قوله أو من وراء حجاب تقديرا يطابقهما عليه، نحو: أو أن يسمع «1» من وراء حجاب. وقرئ: أو يرسل رسولا فيوحى بالرفع، على: أو هو يرسل. أو بمعنى مرسلا عطفا على وحيا في معنى موحيا. وروى أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال:
لم ينظر موسى إلى الله «2» ، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية «3» ، ثم قالت: أو لم تسمعوا ربكم يقول: فتلت هذه الآية. إنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجرى أفعاله على موجب الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بغير واسطة: إما إلهاما، وإما خطابا.

[سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53]
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)
روحا من أمرنا يريد: ما أوحى إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيى الجسد بالروح. فإن قلت: قد علم أن رسول الله «4» صلى الله عليه وسلم: ما كان يدرى ما القرآن قبل
__________
(1) . قوله «أو أن يسمع من وراء حجاب» لعله: أو بأن. (ع)
(2) . لم أجده.
(3) . متفق عليه، وقد تقدم طرف منه في الأنعام.
(4) . قال محمود: «فان قلت: قد علم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدرى الكتاب قبل الوحى ... الخ» قال أحمد: لما كان معتقد الزمخشري أن الايمان اسم التصديق مضافا إليه كثير من الطاعات فعلا وتركا حتى لا يتناول الموحد العاصي ولو بكبيرة واحدة اسم الايمان ولا ياله وعد المؤمنين، وتفطن لإمكان الاستدلال على صحة معتقده بهذه الآية: عدها فرصة لينتهزها وغنيمة، ليحرزها، وأبعد الظن بايراده مذهب أهل السنة على صورة السؤال ليجيب عنه بمقتضى معتقده، فكأنه يقول: لو كان الايمان وهو مجرد التوحيد والتصديق كما نقول أهل السنة، للزم أن ينفى عن النبي عليه الصلاة والسلام قبل المبعث بهذه الآية كونه مصدقا، ولما كان التصديق ثابتا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعث باتفاق الفريقين: لزم أن لا يكون الايمان المنفي في الآية عبارة عما اتفق على ثبوته، وحينئذ يتعين صرفه إلى مجموع أشياء: من جملتها التصديق، ومن جملتها كثير من الطاعات التي لم تعلم إلا بالوحي، وحينئذ يستقيم نفيه قبل البعث، وهذا الذي طمع فيه: يخرط القتاد، ولا يبلغ منه ما أراد. وذلك أن أهل السنة وإن قالوا: إن الايمان هو التصديق خاصة حتى يتصف به كل موحد وإن كان فاسقا- يخصون التصديق بالله وبرسوله، فالنبي عليه الصلاة والسلام مخاطب في الايمان بالتصديق برسالة نفسه، كما أن أمته مخاطبون بتصديقه، ولا شك أنه قبل الوحى لم يكن يعلم أنه رسول الله، وما علم ذلك إلا بالوحي، وإذا كان الايمان عند أهل السنة هو التصديق بالله ورسوله، ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحى، بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة: استقام نفى الايمان قبل الوحى على هذه الطريقة الواضحة، والله أعلم. [.....]

(4/234)


حم (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (3) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم (4)

نزوله عليه، فما معنى قوله ولا الإيمان والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت:
الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم بالصلاة، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان من نشاء من عبادنا من له لطف ومن لا لطف له، فلا هداية تجدى عليه صراط الله بدل. وقرئ: لتهدي، أى: يهديك الله. وقرئ: لتدعو.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» «1» .

سورة الزخرف
مكية. وقال مقاتل: إلا قوله وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وهي تسع وثمانون آية [نزلت بعد الشورى] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (3) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم (4)
أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا جوابا للقسم «2»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسنادهما إلى أبى بن كعب.
(2) . قال محمود: «أقسم بالكتاب المبين وجعل قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا جوابا للقسم ... الخ» قال أحمد: تنبيه حسن جدا. ووجه التناسب فيه أنه أقسم بالقرآن، وإنما يقسم بعظيم، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربى مرجو به أن يعقل به العالمون، أى: يتعقلوا آيات الله تعالى فكان جواب القسم مصححا للقسم، وكذلك أقسم أبو تمام بالثنايا، وإنما يقسم الشعراء بمثل هذا الاشعار بأنه في غاية الحسن، ثم جعل المقسم عليه كونها في نهاية الحسن، لا أنها هي أغريض، وهو من أحسن تشبيهات الثايا، فجعل المقسم عليه مصححا للقسم والله أعلم.

(4/235)


أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5)

وهو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد. ونظيره قول أبى تمام:
وثناياك إنها إغريض «1»
المبين البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم وأساليبهم. وقيل: الواضح للمتدبرين.
وقيل المبين الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة جعلناه بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين. أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، كقوله تعالى وجعل الظلمات والنور. وقرآنا عربيا حال. ولعل: مستعار لمعنى الإرادة «2» ، لتلاحظ «3» معناها ومعنى الترجي «4» ، أى: خلقناه عربيا غير عجمى: إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته، وقرئ: أم الكتاب بالكسر وهو اللوح، كقوله تعالى بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ سمى بأم الكتاب، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ. على رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها حكيم ذو حكمة بالغة، أى: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.

[سورة الزخرف (43) : آية 5]
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5)
__________
(1) .
وثناياك إنها إغريض ... ولآل نوار أرض وميض
وأقاح منور في بطاح ... هزه في الصباح روض أريض
لأبى تمام. والاغريض: البرد. والطلع والنوار: كرمان نور الشجر، واحده نوارة. والوميض: شديد البريق واللمعان. والأقاح: نور أبيض طيب الرائحة. والأريض: طيب الأرض، فيكون نضرا بهيجا: أقسم بثناياها أى: مقدم أسنانها، إنها: أى ثناياها إغريض. فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، وشبههما بالبرد وبنوار الأرض الشبيه باللآلئ، فاضافتها إليه للتشبيه. ووميض: نعت مقطوع للنوار. أو تابع للاغريض، لكن الأول أجزل، وشبهه بالأقاح الذي نور في البطاح، لأنه أنضر وأزهى. وهزه في الصباح من صفة الأقاح «وخص الصباح ليكون على الزهر بقية من الندى، فيكون في غاية النضرة والزهو. وفيه إيماء لتشبيه قوام محبوبته بأغصان الروض في التمايل وظهور الزهور في أعلى كل منهما، ولك أن تجعل «وميض» صفة للآلئ، وإن كانت جمعا، لأن فعيل بمعنى فاعل قد يعامل معاملته فعيل بمعنى مفعول، فيطلق على الواحد والمتعدد مذكرا ومؤنثا. ويروى بدل الشطر الثاني: ولآل توم ورق وميض. والتوم: واحده تومة «وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، ولا إشكال في إعرابه.
(2) . قال محمود: «ولعل مستعار لمعنى الارادة» «فسره بالارادة» قال أحمد: قد بينا فساد ذلك غير ما مرة.
(3) . قوله «لتلاحظ معناها» لعله: ليلاحظ. (ع)
(4) . قوله «ومعنى الترجي» لعله: أو معنى. (ع)

(4/236)


وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8)

أفنضرب عنكم الذكر صفحا بمعنى: أفننحى عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. ومنه قول الحجاج: ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وقال طرفة:
أضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس «1»
والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب. وخلقه قرآنا عربيا، ليعقلوه ويعملوا بمواجبه. وصفحا على وجهين. إما مصدر من صفح عنه: إذا أعرض، منتصب على أنه مفعول له، على معنى:
أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. وإما بمعنى الجانب من قولهم:
نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبا، فينتصب على الظرف كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ: صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر: وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أى: صافحين معرضين أن كنتم أى: لأن كنتم. وقرئ: إن كنتم، وإذ كنتم. فإن قلت: كيف استقام معنى إن الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البت؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل «2» بصحة الأمر، المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق: فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه استجهالا له.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 8]
وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8)
وما يأتيهم حكاية حال ماضية مستمرة، أى: كانوا على ذلك. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه. الضمير في أشد منهم للقوم المسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عنهم ومضى مثل الأولين أى سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لهم.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 87 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «عن المدل» أى: المواثق. أفاده الصحاح. (ع)
.

(4/237)


ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11) والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنا إلى ربنا لمنقلبون (14)

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 11]
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)
فإن قلت: قوله ليقولن خلقهن العزيز العليم وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم «1» ، فما تصنع بقوله فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون وإن كان من قول الله، فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله لا من قولهم. ومعنى قوله ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي من صفته كيت وكيت، لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. بقدر بمقدار يسلم معه البلاد والعباد، ولم يكن طوفانا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 12 الى 14]
والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنا إلى ربنا لمنقلبون (14)
والأزواج الأصناف ما تركبون أى تركبونه. فإن قلت: يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك «2» . وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت: غلب المتعدى بغير
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: قوله ليقولن خلقهن العزيز العليم وما سرد من الأوصاف عقبه إن كان من قولهم ... الخ» قال أحمد: الذي يظهر أن الكلام مجزأ، فبعضه من قولهم، وبعضه من قول الله تعالى، فالذي هو من قولهم خلقهن، وما بعده من قول الله عز وجل، وأصل الكلام أنهم قالوا: خلقهن الله ويدل عليه قوله في الآية الأخرى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن ثم لما قالوا: خلقهن الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات، ولما سبق الكلام كله سياقه وأخذه، حذف الموصوف من كلامهم، وأقيمت الصفات المذكورة في كلام الله تعالى مقامه كأنه كلام واحد. ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمنى زيد، فتقول أنت واصفا للمذكور: الكريم الجواد الذي من صفته كذا وكذا، ثم لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عز وجل، جرى كلامه عز وجل على ما عرف من الافتنان في البلاغة، فجاء أوله على لفظ الغيبة وآخره على الانتقال منها، إلى التكلم في قوله فأنشرنا كل ذلك افتنان في أفنان البلاغة. ومن هذا النمط قوله تعالى حكاية عن موسى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فجاء أول الكلام حكاية عن موسى، إلى قوله ولا ينسى ثم وقع الانتقال من كلام موسى إلى كلام الله تعالى، فوصف ذاته أوصافا متصلة بكلام موسى، حتى كأنه كلام واحد. وابتدأ في ذكر صفاته على لفظ الغيبة إلى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فانظر إلى تحقيق التطبيق بين الآيتين تر العجب، والله الموفق.
(2) . قال محمود: «يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك ... الخ» قال أحمد: لم يحرر العبارة في هذا الموضع فان قوله «غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بنفسه» يوهم أن بين الفعلين تباينا وليس كذلك، فان المتعدي إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدي إلى السفن غاية ما، ثم إن العرب خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة، وباعتبار بعضها بالتعدي بنفسه، والاختلاف بالتعدي والقصور. أو باختلاف آلات التعدي.
وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى، فمن ثم يعدون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل: سكرت وأخواته، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة، مثل دعوت وصليت، فإنك تقول: صلى النبي على آل أبى أوفى، ولو قلت: دعا على آل أبى أوفى: لأفهم عكس المقصود، ولكن دعا لآل أبى أوفى، ويعدون بعضها إلى مفعولين، ومرادفه إلى مفعول واحد، كعلم وعرف، فلا يترتب على الاختلاف بالتعدي.
والقصور: الاختلاف في المعنى، فالذي يحرر من هذا: أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد، وإن خص أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها، فالصواب أحد الأمرين: إما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا، فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه، ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر، وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى فأجمعوا أمركم وشركاءكم على أحد التأويلين فيه: فان التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى، أعنى: أجمع على الأمر وجمع الشركاء، ولكن لما تقاربا: غلب أحدهما على الآخر، ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه، والله أعلم.

(4/238)


واسطة، لقوته على المتعدى بواسطة، فقيل: تركبونه على ظهوره على ظهور ما تركبون وهو الفلك والأنعام. ومعنى ذكر نعمة الله عليهم: أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم، وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا ... إلى قوله ... لمنقلبون» وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا «1» . وقالوا: إذا ركب «2» في السفينة قال: بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وعن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه رأى رجلا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا. فقال: أبهذا أمرتم؟ فقال: وبم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة «3» ربكم: كان قد أغفل التحميد فنبهه عليه. وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله ومحافظتهم على دقيقها وجليلها. جعلنا الله من المقتدين بهم، والسائرين بسيرتهم، فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟ مقرنين مطيقين. يقال: أقرن الشيء، إذا أطاقه. قال ابن هرمة:
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث على. وأسنده الثعلبي باللفظ المذكور هنا. ولمسلم من طريق على الأرزى عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا الآية.
(2) . لم أجده من فعله صلى الله عليه وسلم. وفي الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس رفعه «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا في الفلك أن يقولوا: بسم الله، وما قدروا الله حق قدره- الآية بسم الله مجريها ومرساها» ورواه في الدعاء من حديث الحسن بن على رضى الله عنهما.
(3) . أخرجه الطبري والطبراني في الدعاء من طريق مجلس عن حسين بن على فذكره.

(4/239)


وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18)

وأقرنت ما حملتنى ولقلما ... يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر «1»
وحقيقة «أقرنه» : وجده قرينته وما يقرن به، لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف. ألا ترى إلى قولهم في الضعيف: لا يقرن به الصعبة. وقرئ: مقرنين، والمعنى واحد. فإن قلت: كيف اتصل بذلك قوله وإنا إلى ربنا لمنقلبون؟ قلت: كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت «2» أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا، فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر، واتصالا بسبب من أسباب التلف: كان من حق الراكب وقد اتصل بسبب من أسباب التلف أن لا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعد اللقاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أوانى الخمر والمعازف، فلا يزالون يسقون حتى تميل طلاهم «3» وهم على ظهور الدواب، أو في بطون السفن وهي تجرى بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. وقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمره الله به في هذه الآية. وقيل: يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 18]
وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18)
__________
(1) . لابن هرمة «وأقرنت الشيء: إذا وجدته قرينا لك لا يزيد عنك، ثم استعمل في الاطاقة توسعا. ولقلما اللام للقسم. وقل: فعل. وما: كافة، ركبت معه فصار المراد منه النفي ولا فاعل له، وشبه المعقول من الصد والهجر بالمحسوس على طريق الكناية والحمل تخييل. يقول: أطقت ما حملتني إياه من صدك عنى وهجرك لي، والحال أنه لا يطاق احتمالهما. وفي الاعتراض بندائها: نوع استعطاف. [.....]
(2) . قوله «أو شمست أو تقحمت» في الصحاح: شمس الفرس شموسا وشماسا: منع ظهره. وفيه «القحمة» بالضم: المهلكة. وقحم الطريق: مصاعبه اه، فتقحم الدابة براكبها: خوضها به في قحمته. (ع)
(3) . قوله «حتى تميل طلاهم» في الصحاح «الطلى» الأعناق. قال الأصمعي: واحدتها طلية. وقال أبو عمرو والفراء: واحدتها طلاة. (ع)

(4/240)


وجعلوا له من عباده جزءا متصل بقوله ولئن سألتهم أى: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزاء فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى من عباده جزءا أن قالوا الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. ومن بدع التفاسير: تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب: اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا وبيتا:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب «1»
زوجتها من بنات الأوس مجزئة «2»
وقرئ: جزؤا، بضمتين لكفور مبين لجحود للنعمة ظاهر جحوده، لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله أم اتخذ بل اتخذ، والهمزة للإنكار، تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين: وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهن، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، كأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم «3» أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين
__________
(1) .
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
قيل: «الجزؤ» اسم للأنثى، واشتقوا منه: أجزأت المرأة، إذا ولدت جزءا: أى أنثى. وأنكره الزمخشري وقال إنه اصطناع لا لغة. والمعنى: إن ولدت امرأة حرة أنثى في بعض الأحيان فلا عجب، فان الحرة التي تلد الذكور كثيرا قد تلد أنثى في بعض الأوقات. وقيل: حرة الأولى اسم امرأة، والثانية صفة.
(2) .
زوجتها من بنات الأوس مجزئة ... للعوسج اللدن في أبيانها زجل
قيل: «المجزئة» التي تلد البنات. والجزؤ: البنت. وأنكره الزمخشري وقال: إنه مصنوع لا لغة. والعوسج:
ضرب من الشوك. والمراد به: عود المغزل المتخذ منه. واللدن: اللين. والزجل: صوت دوران المغزل.
ونحوه: وزوجتها، مبنى للمجهول. وروى: «نكحتها من بنات الأوس» هو أبو قبيلة سميت باسمه، تلد تلك المرأة البنات. وجعل العوسج لدنا، لأنه أكثر دويا ورنينا في دورانه.
(3) . قال محمود: «كأنه قيل: هبوا أن إضافة الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعاء أنه آثركم على نفسه ... الخ» قال أحمد: نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئة الله تعالى، حتى الضلالة والهدى: اتباعا لدليل العقل، وتصديقا لنص النقل في أمثال قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا، فنقول: إذا قال الكافر: لو شاء الله ما كفرت، فهذه كلمة حق أراد بها باطلا. أما كونها كلمة حق فلما مهدناه. وأما كونه أراد بها باطلا، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل: أن لا يعاقبه على ذلك، لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته كما توهم القدرية إخوان الوثنية ذلك، فأشركوا بربهم، واعتقدوا أن الضلالة وقعت بمشيئة الخلق على خلاف مشيئة الخالق، فالذين أشركوا بالملائكة أرفع منهم درجة، لأن هؤلاء أشركوا أنفسهم الدنية في ملك ربهم المتوحد بالربانية جل وعلا، فإذا وضح ما قلناه فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه، لأنهم توهموا أنها حجة على الله، فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون، وإن هم إلا يظنون وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل والاشراك بالله:
اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لو شاء الله ما أشركنا فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال بحال أوائلهم، ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلب وخيال مكذب، فقال إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله: أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله فلله الحجة البالغة ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك، لا لأن المقالة في نفسها كذب فقال فلو شاء لهداكم أجمعين وهو معنى قولهم لو شاء الله ما أشركنا من حيث أن لو مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة، فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا، فهذا هو الدين القويم والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم: هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف، لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينهما وبين العوارض القسرية، فهذه الآية أقامت الحجة، ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة الحجة، ولما كانت تفرقة دقيقة. لم تنتظم في ملك الأفهام الكثيفة، فلا جرم أن أفهامهم تبددت، وأفكارهم تبدلت، فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه، وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار، وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطرار. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا، وأرشدهم إلى الطريق الوسطى، فانتهجوا سبل السلام، وساروا ورائد التوفيق لهم إمام، مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة، لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة، لكنها قدرة تقارن بلا تأثير، وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير، فهذا هو التحقيق، والله ولى التوفيق.

(4/241)


وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير بنات وتعريف بالبنين وتقديمهن في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله تعالى يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. بما ضرب للرحمن مثلا بالجنس الذي جعله له مثلا، أى: شبها لأنه إذا جعل الملائكة جزءا لله وبعضا منه، فقد جعله من جنسه ومماثلا له، لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، يعنى: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت اغتم واربد وجهه «1» غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب: أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:
__________
(1) . قوله «وأريد وجهه غيظا» تغير إلى الغبرة من الغضب. أفاده الصحاح. (ع)

(4/242)


وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (19)

ما لأبى حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذى يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا «1»
والظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها. وقرئ: مسود ومسواد، على أن في ظل ضمير المبشر، ووجهه مسودا جملة واقعة موقع الخبر، ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته. وهو أنه ينشؤا في الحلية أى يتربى في الزبنة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم «2» ومجاراة الرجال: كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتى ببرهان يحتج به من يخاصمه، «3» وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال، يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
وفيه. أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفة ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضى لله عنه:
اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا «4» . وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقرئ: ينشأ، وينشأ، ويناشأ. ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء: المغالاة بمعنى الإغلاء.

[سورة الزخرف (43) : آية 19]
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون (19)
قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات. وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد، ونسبوا إليه أخس
__________
(1) .
ما لأبى حمزة لا يأتينا ... يظن في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا تلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة ربى ذى الجلال فينا
لامرأة ولدت أنثى، فهجر زوجها بيتها والاستفهام إنكارى. ويظل: استئناف، أى يصير دائما في البيت الذي يقرب منا، ولا يأوى إلى بيتنا. وغضبان: أى هو غضبان، فهو على تقدير الاستفهام. ويحتمل أنه إخبار، أى: هو غضبان من عدم ولادتنا البنين، ثم ترضته واستعطفته بقولها: ليس لنا من أمرنا ما نشاء، فخفف همزة شئنا القافية، ولا نأخذ إلا ما أعطانا الله إياه، لأن الأمر كله لله، تلك حكمته فينا معاشر الخلق.
(2) . قوله «إلى مجاثاة الخصوم» مفاعلة من «جثا يجثو» إذا برك على ركبتيه. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «يحتج به من يخاصمه» لعله: على من يخاصمه. أو لعله: يحج به من يخاصمه، أى: يغلبه في الحجاج (ع)
(4) . أخرجه أبو عبيد في الغريب: حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبى العدس الأسدى عن عمر رضى الله عنه أنه قال. ذكر هذا وزاد: واجعلوا الرأس رأسين- الحديث» موقوفا. ورواه ابن حبان من طريق أبى عثمان.
قال: أتانا كتاب عمر فذكر قصة فيها هذا.

(4/243)


وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20)

النوعين وجعلوه من الملائكة الذين هم أكرم عباد الله على الله، «1» فاستخفوا بهم واحتقروهم.
وقرئ: عباد الرحمن، وعبيد الرحمن، وعبد الرحمن، وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم. وإناثا، وأنثا: جمع الجمع. ومعنى جعلوا: سموا وقالوا إنهم إناث. وقرئ: أشهدوا وأشهدوا، بهمزتين مفتوحة ومضمومة. وآ أشهدوا بألف بينهما، وهذا تهكم بهم، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك، ولا تطرقوا إليه باستدلال، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم، فأخبروا عن هذه المشاهدة ستكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم ويسئلون وهذا وعيد.
وقرئ: سيكتب، وسنكتب: بالياء والنون. وشهادتهم، وشهاداتهم. ويساءلون، على: يفاعلون.

[سورة الزخرف (43) : آية 20]
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20)
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم هما كفرتان أيضا مضمومتان إلى الكفرات الثلاث، وهما: عبادتهم الملائكة من دون الله، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله، كما يقول إخوانهم المجبرة «2» . فإن قلت: ما أنكرت على من يقول: قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين؟ قلت: لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر: أنهم جعلوا له من عباده جزءا، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وأنهم عبدوهم وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء: لكان النطق بالمحكيات «3» - قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا في النطق به- مدحا لهم، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء، فبقى أن يكونوا جادين، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن قالوا: نجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله، فما بهم إلا تعويج
__________
(1) . قوله «هم أكرم عباد الله على الله» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فبعض البشر أكرم عندهم من الملك. (ع)
(2) . قوله «المجبرة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إنه تعالى يريد الشر كالخير، لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، لكن هذا لا يستلزم الجبر ولا ينافي اختيار العبد، لما له في أفعاله من الكسب وإن كانت مخلوقة له تعالى في الحقيقة، بل الجبر إنما يكون لو كان العبد لا دخل له في أفعاله أصلا، كالريشة في الهواء، كما قالت المجبرة الحقيقية.
وإنما ذم الله تلك المقالة من الكفار لأنهم قالوها استهزاء وعنادا، لا إقرارا واعتقادا. والدليل على ذلك إجماع سلف الأمة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. (ع)
(3) . قوله: «لكان النطق بالمحكيات ... الخ» ممنوع، وكذا ما بعده، والمعتزلة قالوا: لا يريد الشر بناء على أن الارادة هي الأمر، وهو ممنوع، وعفا الله عن صاحب الكتاب في بذأة لسانه على أهل السنة، وجعلهم إخوان الكفار. (ع)

(4/244)


أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22) وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23) قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24) فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25)

كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لتسوية مذهبهم الباطل. ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزءا لم يكن لقوله تعالى ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون معنى، لأن من قال لا إله إلا الله على طريق الهزء: كان الواجب أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، لأنه لا يجوز تكذيب الناطق بالحق جادا كان أو هازئا. فإن قلت: ما قولك فيمن يفسر ما لهم- بقولهم: «1» إن الملائكة بنات الله- من علم إن هم إلا يخرصون في ذلك القول لا في تعليق عبادتهم بمشيئة الله؟ قلت: تمحل مبطل وتحريف مكابر. ونحوه قوله تعالى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 الى 22]
أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)
الضمير في من قبله للقرآن أو الرسول. والمعنى: أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله:
قولا قالوه غير مستند إلى علم، ثم قال: أم آتيناهم كتابا قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحى، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به.
بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم إنا وجدنا آباءنا على أمة على دين. وقرئ: على إمة، بالكسر، وكلتاهما من الأم وهو القصد، فالأمة: الطريقة التي تؤم، أى: تقصد، كالرحلة للمرحول إليه. والأمة: الخالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد. وقيل: على نعمة وحالة حسنة على آثارهم مهتدون خبر إن. أو الظرف صلة لمهتدون.

[سورة الزخرف (43) : آية 23]
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)
مترفوها الذين أترفتهم النعمة، أى أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 24 الى 25]
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24) فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25)
قرئ: قل، وقال، وجئتكم، وجئناكم، يعني، أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من
__________
(1) . قوله «ما قولك فيمن يفسر ما لهم بقولهم» لعله: «يفسر ما لهم بذلك بقوله ما لهم بقولهم ... الخ» (ع) [.....]

(4/245)


وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29)

دين آبائكم؟ قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 28]
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28)
قرئ: براء، بفتح الباء وضمها. وبريء، فبرىء وبراء، نحو كريم وكرام، «1» وبراء: مصدر كظماء، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث. يقال: نحن البراء منك، والخلاء منك الذي فطرني فيه غير وجه: أن يكون منصوبا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور بمن، كأنه قال:
إننى براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. فإن قلت: كيف تجعله بدلا وليس من جنس ما يعبدون من وجهين، أحدهما: أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون.
والثاني، أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟ قلت: قالوا: كانوا يعبدون الله مع أوثانهم، وأن تكون إلا صفة بمعنى غير، على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة، تقديره:
إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فإن قلت: ما معنى قوله سيهدين على التسويف؟ قلت: قال مرة فهو يهدين ومرة فإنه سيهدين فاجمع بينهما وقدر، كأنه قال. فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وجعلها وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني كلمة باقية في عقبه في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. ونحوه ووصى بها إبراهيم بنيه وقيل: وجعلها الله. وقرئ: كلمة على التخفيف وفي عقبه كذلك، وفي عاقبه، أى: فيمن عقبه، أى: خلفه.

[سورة الزخرف (43) : آية 29]
بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29)
بل متعت هؤلاء يعنى: أهل مكة، وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حتى جاءهم الحق وهو القرآن ورسول مبين الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة، فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم. وقرئ: بل متعنا. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
__________
(1) . قوله «نحو كريم وكرام» في الصحاح. الكرام- بالضم-: مثل الكريم. (ع)

(4/246)


ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30) وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)

فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول. أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 30 الى 31]
ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30) وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)
فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه «1» قوله ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته، فقال: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: ولما جاءهم الحق جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها: وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول، ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. قرئ على رجل، بسكون الجيم من القريتين: من إحدى القريتين، كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان أى من أحدهما. والقريتان: مكة والطائف. وقيل: من رجلي القريتين، وهما: الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، عن ابن عباس.
وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه ... الخ» قال أحمد:
كلام نفيس لا مزيد عليه، إلا أن قوله: «خيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها» إطلاق ينبغي اجتنابه، والله أعلم وما أحسن مجيء الغاية على هذا النحو مجيء الاضراب في بعض التارات، فكما جاءت الغاية هنا- وليس المراد بها أن الفعل المذكور قبلها منقطع عندها على ما هو المفهوم منها، بل المراد استمراره وزيادته، فكأن تلك الحالة النافعة انتهت بوجود ما هو أكمل منها- كذلك الاضراب في مثل قوله تعالى بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون وهذه الاضرابات ليست على معنى أن الثاني منها رد للأول، بل ثانيها آكد من أولها، وجاء الاضراب مع التوافق والزيادة للاشعار بأن الثاني لما زاد على الأول صار باعتبار زيادته ونقصان الأول كأنهما شيئان متنافيان يضرب عن أولهما ويثبت آخرهما، ومثله كثير وبالله التوفيق.

(4/247)


أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)

الثقفي، وكان الوليد يقول: لو كان حقا ما يقول محمد لنزل هذا القرآن على أو على أبى مسعود الثقفي، وأبو مسعود: كنية عروة بن مسعود ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشرا رسولا، فلما علموا بتكرير الله الحجج أن الرسل لم يكونوا إلا رجالا من أهل القرى، جاءوا بالإنكار من وجه آخر، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين، وقولهم: هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة به، وأرادوا بعظم الرجل: رياسته وتقدمه في الدنيا، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيما.

[سورة الزخرف (43) : آية 32]
أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)
أهم يقسمون رحمت ربك هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأن الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسو بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدما، ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا. وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال ورحمت ربك يريد: وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب: خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. فان قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع «1» ، ومنهم من يعيش بالحلال، ومنهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال. قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع ... الخ» قال أحمد: قد تقدم أن الرزق عند أهل السنة يطلق على ما يقوم الله به حال العبد حلالا كان أو حراما، وهذه الآية معضدة، والزمخشري بنى على أصله وقد تقدم.

(4/248)


ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)

وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا، وسماها رزق الله، وإذا لم يسلكها تناولها حراما، وليس له أن يسميها رزق الله «1» ، فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعه.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (35)
لبيوتهم بدل اشتمال من قوله لمن يكفر ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك:
وهبت له ثوبا لقميصه. وقرئ: سقفا، بفتح السين وسكون القاف. وبضمها وسكون القاف وبضمها: جمع سقف، كرهن ورهن ورهن. وعن الفراء: جمع سقيفة وسقفا بفتحتين، كأنه لغة في سقف وسقوفا، ومعارج ومعاريج. والمعارج: جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج: وهي المصاعد إلى العلالي عليها يظهرون أى على المعارج، يظهرون السطوح يعلونها، فما اسطاعوا أن يظهروه. وسررا، بفتح الراء لاستثقال الضمتين مع حرفى التضعيف لما متاع الحياة اللام هي الفارقة بين إن المخففة والنافية. وقرئ بكسر اللام، أى: الذي هو متاع الحياة، كقوله تعالى مثلا ما بعوضة ولما بالتشديد بمعنى إلا، وإن نافية. وقرئ: إلا. وقرئ: وما كل ذلك إلا. لما قال خير مما يجمعون فقلل أمر الدنيا وصغرها: أردفه ما يقرر قلة الدنيا عنده من قوله ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أى: ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا «2» عندنا للكفار سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها
__________
(1) . قوله «وليس له أن يسميها رزق الله» هذا على مذهب المعتزلة. وأما عند أهل السنة فالرزق ما ينتفع به ولو حراما. والمصنف يريد أن الله لا ييسر الحرام، لأنه لا يفعل القبيح عند المعتزلة. ومذهب أهل السنة أن فاعل الكائنات كلها هو الله تعالى. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه لولا كراهية أن يجتمعوا على الكفر لجعلنا للكفرة سقوفا من فضة أى لوسعنا عليهم الدنيا لحقارتها عندنا» قال أحمد: «لولا» هنا أخت «لولا» في قوله ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم ... الآية تلك أن تصحح الكلام بتقدير كراهة ذلك بأن لا تقدر محذوفا كما قدمته، فيكون وجه الكلام هاهنا أن إجماعهم على الكفر مانع من بسط الدنيا. وهذا هو معنى لولا المطرد أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها، ولكن قد يكون المانع موجودا تحقيقا فيمتنع الجواب بلا إشكال، كقوله تعالى فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين وهو الأكثر. وقد يكون وجوده تقديرا معه وعلى ذلك الآية، أى: لو وجد بسط الدنيا للكافر مقدرا، لوجد مانعه عندنا وهو الاجتماع على الكفر مقدرا معه، وكل ما أدى وجوده إلى وجود مانعه لا يوجد.

(4/249)


ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)

من فضة وزخرف، وجعلنا لهم زخرفا، أى: زينة من كل شيء. والزخرف: الزينة والذهب.
ويجوز أن يكون الأصل: سقفا من فضة وزخرف، يعنى: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب عطفا على محل من فضة وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء» «1» فإن قلت: فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدى إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ قلت: التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما تؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين «2» ، فكانت الحكمة فيما دبر: حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 39]
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)
قرئ: ومن يعش، بضم الشين وفتحها. والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشى. وإذا نظر نظر العشى ولا آفة به قيل عشا. ونظيره: عرج، لمن به الآفة «3» .
__________
(1) . فيه عبد الحميد بن سليمان وتابعه زكريا بن منظور. وقال الترمذي: وفي الباب عن أبى هريرة، وحديثه عند البزار من حديث صالح مولى التوأمة عنه. ولفظه «ما أعطي كافرا منها شيئا» ورواه البيهقي في الشعب في الحادي والسبعين من رواية أبى معشر عن المقبري عنه وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه أبو نعيم في الحلية. وفيه الحسن ابن عمارة وهو ضعيف جدا. وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر، بلفظ المصنف قال ابن طاهر: فيه على بن محمد بن أحمد بن أبى عوف عن أبى مصعب عنه، لا أصل له من حديث ملك
(2) . قال محمود: «فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدى إليها التوسعة من الاطباق على الكفر» فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الايمان؟ وأجاب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما يؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، وذلك من دين المنافقين» قال أحمد: سؤال وجواب مبنيان على قاعدتين فاسدتين. إحداهما:
تعليل أفعال الله تعالى، والأخرى: أن الله تعالى أراد الإسلام من الخلق أجمعين. أما الأولى فقد أخرس الله السائل عنه بقوله لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وأما الثانية فقد كفى الله المؤمنين الجواب عنه فيه بقوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا.
(3) . قال محمود: «يقال عشى بصره بكسر الشين إذا أصابته الآفة ... » قال أحمد: في هذه الآية نكتتان بديعتان، إحداهما: الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم، وهي مسألة اضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بافادتها العموم، حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال: إن الشرط يعم، والنكرة في سياقه تعم. وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأنبارى شارح كتابه ردا عنيفا. وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط، ونحن نعلم أنه إنما أراد عموم الشياطين لا واحدا لوجهين، أحدهما: أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا، فكيف بالعاشى عن ذكر الله، والآخر: يؤخذ من الآية: وهو أنه أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله وإنهم فانه عائد إلى الشيطان قولا واحدا «ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد عند إسماعها لمخالفي هذا الرأى سكتة. والنكتة الثانية: أن في هذه الآية ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك. واحتج المانع لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة.
وقد نقض الكندي هذا بقوله تعالى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ونقض غيره بقوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه ... الآية وكان جدي رحمه الله قد استخرج من هذه الآية بعض ذلك، لأنه أعاد على اللفظ في قوله: يعش وله مرتين، ثم على المعنى في قوله ليصدونهم ثم على اللفظ بقوله حتى إذا جاءنا وقد قدمت أن الذي منع ذلك قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستفلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك حتى رددت على الزمخشري في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا فان الجملة واحدة، فانظره في موضعه.

(4/250)


وعرج، لمن مشى مشية العرجان من غير عرج. قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره «1»
أى: تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء. وهو بين في قوله حاتم:
أعشو إذا ما جارتى برزت ... حتى يوارى جارتى الخدر «2»
__________
(1) .
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
وذاك امرؤ إن يعطك اليوم نائلا ... بكفيه لم يمنعك من نائل الغد
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
للحطيئة، يقول: هو كثير الكسب وكثير الإتلاف، وبينهما طباق التضاد: إذا سألته أجابك بسرعة وطلاقة وجه وهو المراد بقوله: تهلل واهتز كاهتزاز السيف المطلق من حديد الهند، إذا أعطاك اليوم عطاء بكفيه معا كناية عن كثرة العطاء، وسألته في غد أعطاك أيضا. وعشى يعشى كرضى يرضى: إذا كان ببصره آفة. وعشى يعشو: إذا تعاشى بغير آفة. والمعنى: منى تأته على هيئة الأعشى- مجاز عن إظهار الفاقة- تجده أكرم الناس، عبر عنه بذلك على طريق الكناية.
(2) .
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرني جار أجاوره ... ألا يكون لبابه ستر
أعشو إذا ما جارتى برزت ... حتى يوارى جارتى الخدر
لحاتم الطائي: وعشى يعشى كرضى يرضى: صار لا يبصر ليلا، وعشا يعشو كدعا يدعو: إذا نظر كنظر الأعشى.
يقول: إن ناري هي نار جارى، وتنزل قدرى إليه ليأكل منها قبلي أو ناري ونار جارى واحدة في الزمن والقوة ومع ذلك تنزل قدره إليه قبلي ليأكلها سريعا خوف اطلاع أحد عليه. لكن يبعد هذا أن المقام ليس لذم الجار بل للمدح. ثم هذا كناية عن شدة كرمه على غيره، ثم وصف نفسه بالعفة بقوله: ما ضرني جار من جيراني بمسبة ولا غيرها من أن لا يكون لبابه حجاب يستر أهله، فانى أتغافل وأغض بصرى إذا خرجت جارتى، حتى يسترها بينها. وأتى بالظاهر موضع المضمر ليفيد أنه ينبغي مراعاة حق الجوار. والاحتمال الأول أقعد، لأن معناه أنه يبره ويعف عن محارمه. وأما الثاني ففيه ذم جاره، وهو لا يلائم بعده.

(4/251)


وقرئ: يعشو، على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط. وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض. ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن، كقوله تعالى صم بكم عمي وأما القراءة بالضم فمعناها: ومن يتعام عن ذكره، أى: يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى، كقوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم. نقيض له شيطانا نخذله «1» ونخل بينه وبين الشياطين، كقوله تعالى وقيضنا لهم قرناء، ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين وقرئ: يقيض، أى: يقيض له الرحمن ويقيض له الشيطان. فإن قلت: لم جمع ضمير من وضمير الشيطان في قوله وإنهم ليصدونهم؟ قلت: لأن من مبهم في جنس العاشى، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين: جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا حتى إذا جاءنا العاشى. وقرئ: جاءانا، على أن الفعل له ولشيطانه. قال لشيطانه يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين يريد المشرق والمغرب، فغلب. كما قيل: العمران والقمران. فإن قلت: فما بعد المشرقين؟ قلت: تباعدهما، والأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق. فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية: أضاف البعد إليهما أنكم في محل الرفع على الفاعلية، يعنى: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه، لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه، وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله يا ليت بيني وبينك على معنى: ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين. وقوله أنكم في العذاب مشتركون تعليل، أى: لن ينفعكم تمنيكم، لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر. وتقويه قراءة من قرأ: إنكم بالكسر. وقيل: إذا رأى الممنو بشدة «2» من منى بمثلها: روحه ذلك ونفس بعض كربه، وهو التأسى الذي ذكرته الخنساء:
__________
(1) . قوله «نقيض له شيطانا: نخذله» تأويله بذلك مبنى على أنه تعالى لا يفعل القبيح، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة أنه فاعل الكائنات كلها، فالآيات على ظاهرها (ع)
(2) . قوله «إذا رأى الممنو بشدة» أى المبتلى. ومنى: أى ابتلى. أفاده الصحاح (ع)

(4/252)


أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين (40) فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)

أعزى النفس عنه بالتأسى «1»
فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم، لعظم ما هم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى إذ ظلمتم؟ قلت: معناه: إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين، وذلك يوم القيامة. وإذ: بدل من اليوم. ونظيره:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «2»
أى: تبين أنى ولد كريمة.

[سورة الزخرف (43) : آية 40]
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين (40)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد ويجتهد ويكد روحه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميما على الكفر وتماديا في الغى، فأنكر عليه بقوله أفأنت تسمع الصم إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر، كقوله تعالى إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 الى 43]
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)
__________
(1) .
يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخى ولكن ... أعزى النفس عنه بالتأسى
للخنساء ترثى أخاها. وإسناد التذكير الطلوع: مجاز عقلى، لأنه سبب في تذكيرها إياه، وكذلك الغروب حيث كان ذهابه عند الأول وإيابه عند الثاني عادة. أو لأنه يذهب في الأول للغارات، ويجلس في الثاني مع الضيفان. أو لأن طلوعها يشبه طلعته، وغروبها: يشبه موته. وفيه نوع من البديع يسمى التنكيت: وهو الإتيان بلفظ يسد غيره مسده، لولا نكتة فيه ترجح اختصاصه بالذكر: لكان اختصاصه خطأ، كما في اختصاص الوقتين هنا. أفاده السيوطي في شرح عقود الجمان. وفيه أيضا نوع آخر يسمى الادماج: وهو أن يضمن كلام سيق لمعنى معنى آخر، كما ضمن الكلام المسوق هنا لمعنى الرثاء معنى المدح بالشجاعة والكرم. أو بحسن الطلعة. والباء في «بكل» سببيه.
ويحتمل أن الاسناد للأول من باب الاسناد للزمان، فتكون الباء في الثاني بمعنى «في» أو «مع» وذكر الشمس ثانيا في آخر المصراع الثاني من باب رد العجز على الصدر. وأعزى النفس: أسليها وأصبرها عنه بالتأسى، أى:
الاقتداء بغيري من أهل المصائب وفي اقتدائها بالباكين من الرجال: إشعار بتجلدها وعظم شأنها مثلهم. وروى «على أمواتهم» بدل: «على إخوانهم» ، و «أسلى» بدل «أعزى» .
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 40 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]

(4/253)


وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (44) واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)

«ما» في قوله فإما نذهبن بك بمنزلة لام القسم: في أنها إذا دخلت دخلت معها النون المؤكدة، والمعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم ونشفى صدور المؤمنين منهم فإنا منهم منتقمون أشد الانتقام في الآخرة، كقوله تعالى: أو نتوفينك فإلينا يرجعون وإن أردنا أن ننجز في حياتك ما وعدناهم من العذاب النازل بهم وهو يوم بدر، فهم تحت ملكتنا وقدرتنا لا يفوتوننا: وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال ثم أتبعه شدة الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقرئ: نرينك، بالنون الخفيفة. وقرئ: بالذي أوحى إليك، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل والمعنى: وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر. فكن مستمسكا بما أوحينا إليك وبالعمل به فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضال شقى، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك، ولكن كما يفعل الثابت «1» الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 44 الى 45]
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44) وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)
وإنه وإن الذي أوحى إليك لذكر لشرف لك ولقومك، ولسوف تسئلون عنه يوم القيامة، وعن قيامكم بحقه، وعن تعظيمكم له، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين، ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظرا وفحصا «2» : نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا. وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، والسؤال الواقع مجازا عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة: كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال. وقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوارا «3» أجابتك اعتبارا. وقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمهم. وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وعن
__________
(1) . قوله «ولكن كما يفعل الثابت» لعله: وكن. أو لعله: ولكن كن. (ع)
(2) . قال محمود: «سؤال الرسل مجاز عن الفحص في شرائعهم والنظر في مللهم ... الخ» قال أحمد: ويشهد لارادة سؤال الأمم فسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك والله أعلم.
(3) . قوله «تجبك حوارا» أى مخاطبة بالنطق. في الصحاح: استحاره، أى: استنطقه. (ع)

(4/254)


ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين (46) فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون (47) وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48)

الفراء: هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 47]
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العالمين (46) فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون (47)
ما أجابوه به عند قوله: إني رسول رب العالمين محذوف، دل عليه قوله: فلما جاءهم بآياتنا وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية إذا هم منها يضحكون أى يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحرا، وإذا للمفاجأة. فإن قلت: كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر. وهو عامل النصب «1» في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.

[سورة الزخرف (43) : آية 48]
وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48)
فإن قلت: إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت: أختها التي هي آية مثلها. وهذه صفة كل واحدة منها فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة، كما تقول: هو أفضل رجل رأيته، تريد: تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قروتهم رجلا رجلا «2» ، فإن قلت:
هو كلام متناقض، لأن معناه: ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة. قلت: الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل
__________
(1) . قال محمود: «جازت فيه إجابة لما بإذا التي المفاجأة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو العامل فيها النصب ... الخ» قال أحمد: الظاهر في تسويغ هذا الإطلاق- والله أعلم: أن كل واحدة من هذه الآي إذا أفردتها بالفكر استغرقت عظمتها الفكر وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأن كل آية دونها. فإذا نقل الفكرة إلى أختها استوعيت أيضا فكره بعظمها، وذهل عن الأولى فجزم بأن هذه النهاية، وأن كل آية دونها. والحاصل أنه لا يقدر الفكر على أن يجمع بين آيتين منهما، ليتحقق عنده الفاضلة من المفضولة، بل مهما أفرده بالكفر جزم بأنه النهاية. وعلى هذا التقدير يجرى جميع ما يرد من أمثاله، والله أعلم.
(2) . قوله «إذا قروتهم رجلا رجلا» أى تتبعتهم. (ع)

(4/255)


الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك. ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التى يسرى بها السارى «1»
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها، ثم قالت: لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت.
ثكلتهم «2» إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها لعلهم يرجعون إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان «3» . فإن قلت لو أراد رجوعهم لكان. قلت: إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به «4» ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد،
__________
(1) .
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسئلوا الخير يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يخرج منهم طيب أخبار
وإن توددتهم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار شر غير أشرار
لا ينطقون عن الفحشا وإن نطقوا ... ولا يمارون من مارى بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسرى بها الساري
لعبيد بن الأبرص. وقيل للعرندس. وهينون لينون: جمع هين ولين: تخفيف هين ولين بالتشديد، على فيعل.
وأيسار: جمع يسر، كقطب وأقطاب، وهو في الأصل ضد العسر، سمى به الرجل مبالغة، أو جمع يسرة كقصبة، وهي في الأصل: الخط في باطن الكف، أطلقت على الرجل إشعارا بالكرم. وسواس: جمع سائس، بمعنى مالك متصرف بالمصلحة، وبمعنى الولي المصلح، وجهده الطعام: إذا اشتاق إليه واشتهاه. وجهد الرجل فهو مجهود:
أصابه القحوط والمشقة. وقوله «فالجهد يخرج منهم» جواب الشرط. ويحتمل أنه استئناف مفرغ على ما قبله.
وإن جهدوا: جوابه دل عليه ما قبله. والشهامة: الخشونة، وشهمت الفرس حركته ليسرع. وأذمار شر: أى شجعان حرب: جمع ذمر ككبد، من ذمر الرجل: عبس وغضب. وذمر الأسد زأر بصوته، أى: إن حملتهم على الحرب أظهرت منهم شجعان حرب غير أشرار. وضمن النطق معنى الاخبار، فعداه بعن. ويجوز أنها بمعنى الباء.
والمماراة: الجدال. وبإكثار: متعلق بمارى، أو بيمارون. من تلقه منهم تقل فيه: لاقيت أشرفهم لتساويهم في الشرف، فهم مثل النجوم في التساوي في الشرف والاهتداء والاستضاءة بكل، فكما أن النجم يهتدى به المسافر، كذلك هم يهتدى بهم المختبط الطالب للمعروف أو المتحير في أمر معضل. ويروى بدل «وإن جهدوا ... الخ» :
... وإن خبروا ... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
أى: إن اختبروا علم كرمهم وحسن سيرتهم.
(2) . قوله «ثكلتهم» الثكل: فقدان المرأة ولدها. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الايمان ... الخ» قال أحمد: تقدم في غير موضع أن «لعل» حيثما وردت في سياق كلام الله تعالى فالمراد صرف الرجاء إلى المخلوقين، أى: ليكونوا بحيث يرجى منهم ذلك، هذا هو الحق. وعليه تأول سيبويه ما ورد. وأما الزمخشري فيحمل «لعل» على الارادة، لأنه.
لا يتحاشى مع اعتقاد أن الله يريد شيئا ويريد العبد خلافه، فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الرب- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- فما أشنعها زلة وأبشعها خلة. ولقد أساء الأدب في هذا الموضع، حتى إنه لولا تعين الرد عليه لما جرى القلم ينقل ما هذى به وما اهتدى. وقد جرى على سنن أوائله في جعل حقيقة الأمر هو الارادة وأضاف إلى ذلك اعتقاد أن العبد يوجد فعله ويخلقه، وأن مراد العبد يقع، ومراد الرب لا يقع، فهذه ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من هذه الغواية: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
(4) . قوله «ليس إلا أن يأمره به» هذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة: فإرادته غير الأمر، سواء كانت لفعل نفسه أو لفعل غيره، ولا يلزم تأويل الآية بالارادة، لجواز أن يكون معناها: ليكون حالهم عند الأخذ بالعذاب حال من يرجي رجوعهم. (ع)

(4/256)


وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50) ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53)

وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على حسب اختيار المكلف، وإنما لم يكن الرجوع لأن الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه. والمراد بالعذاب: السنون، والطوفان، والجراد، وغير ذلك.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 49 الى 50]
وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50)
وقرئ: يا أيه الساحر، بضم الهاء، وقد سبق وجهه. فإن قلت: كيف سموه بالساحر مع قولهم إننا لمهتدون؟ قلت: قولهم إننا لمهتدون: وعد منوي إخلافه، وعهد معزوم على نكثه، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: إننا لمهتدون وقيل: كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر: بما عهد عندك بعهده عندك: من أن دعوتك مستجابة. أو بعهده عندك وهو النبوة. أو بما عهد عندك فوفيت به وهو الإيمان والطاعة. أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 53]
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53)
ونادى فرعون في قومه جعلهم محلا لندائه وموقعا له. والمعنى: أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأما كنهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص، إذا أمر بقطعه. ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثم ينشر عنه في جموع القبط، فكأنه نودي به بينهم فقال أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار يعنى أنهار النيل ومعظمهما أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس: قيل: كانت تجرى تحت قصره. وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناني وبساتينى. ويجوز أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر. وتجرى: نصب على الحال منها، وأن تكون الواو

(4/257)


فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)

للحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة لاسم الإشارة، وتجرى خبر للمبتدإ وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوة الربوبية همة من تعظم بملك مصر، وعجب الناس من مدى عظمته، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها، لئلا تخفى تلك الأبهة «1» والجلالة على صغير ولا كبير وحتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته. وعن الرشيد: أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها، فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: أهى القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: أليس لي ملك مصر، والله لهى أقل عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه أم أنا خير أم هذه متصلة، لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون، إلا أنه وضع قوله أنا خير موضع: تبصرون، لأنهم إذا قالوا له: أنت خير، فهم عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. ويجوز أن تكون منقطعة على: بل أأنا خير، والهمزة للتقرير، وذلك أنه قسم تعديد أسباب الفضل والتقدم عليهم من ملك مصر وجرى الأنهار تحته، ونادى بذلك وملأ به مسامعهم، ثم قال: أنا خير كأنه يقول: أثبت عندكم واستقر أنى أنا خير وهذه حالى من هذا الذي هو مهين أى ضعيف حقير. وقرئ: أما أنا خير ولا يكاد يبين الكلام لما به من الرتة «2» ، يريد: أنه ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به، وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن والفصاحة، وكانت الأنبياء كلهم أبيناء «3» بلغاء. وأراد بإلقاء الأسورة عليه:
إلقاء مقاليد الملك إليه، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب مقترنين إما مقترنين به من قولك: قرنته فاقترن «4» به، وإما من: اقترنوا، بمعنى تقارنوا، لما وصف نفسه بالملك والعزة ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد اعترض فقال: هلا إن كان صادقا ملكه ربه وسوده وسوره، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره. وقرئ: أساور جمع أسورة، وأساوير جمع أسوار وهو السوار، وأساورة على تعويض التاء من ياء أساوير. وقرئ: ألقى عليه أسورة وأساور، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.

[سورة الزخرف (43) : آية 54]
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)
__________
(1) . قوله «تلك الأبهة» كسكرة، كذا بهامش الصحاح. وفي الصحاح: «دهماء الناس» : جماعتهم. (ع)
(2) . قوله «لما به من الرتة» بالضم: العجمة في الكلام، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وكانت الأنبياء كلهم أبيناء» في الصحاح: بان الشيء بيانا: اتضح، فهو بين، والجمع أبيناه، مثل هين وأهيناء. (ع)
(4) . قوله «قرنته فاقترن به» لعله قرنته به فاقترن (ع)

(4/258)


فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56) ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)

فاستخف قومه فاستفزهم. وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم، وكذلك:
استفز، من قولهم للخفيف: فز.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 55 الى 56]
فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56)
آسفونا منقول من أسف أسفا إذا اشتد غضبه. ومنه الحديث في موت الفجأة: رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر «1» . ومعناه: أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا، وأن لا نحلم عنهم. وقرئ: سلفا جمع سالف، كخادم وخدم.
وسلفا- بضمتين- جمع سليف، أى: فريق قد سلف. وسلفا: جمع سلفة، أى: ثلة قد سلفت.
ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم، لإتيانهم بمثل أفعالهم، وحديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل، يحدثون به ويقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 59]
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)
لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم امتعضوا «2» من ذلك امتعاضا شديدا، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبى وتثني عليه خيرا وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما. وعزير يعبد. والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ونزلت هذه الآية «3» . والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه إذا قومك
__________
(1) . تقدم في طه. [.....]
(2) . قوله «امتعضوا من ذلك» غضبوا منه وشق عليهم، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . تقدم في أواخر الأنبياء.

(4/259)


قريش من هذا المثل يصدون ترتفع لهم جلبة وضجيج «1» فرحا وجزلا وضحكا بما سمعوا منه من إسكات رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأما من قرأ: يصدون- بالضم- فمن الصدود، أى: من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجلبة، وأنهما لغتان نحو: يعكف ويعكف ونظائر لهما وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا ما ضربوه أى ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلا إلا لأجل الجدل والغلبة في القول، لا لطلب الميز بين الحق والباطل بل هم قوم خصمون لد شداد الخصومة دأبهم اللجاج، كقوله تعالى قوما لدا وذلك أن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله ما أريد به إلا الأصنام، وكذلك قوله عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة، إلا أن ابن الزبعرى بخبه وخداعه وخبث دخلته «2» ، لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال «3» وحب المغالبة والمكابرة، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى فدل به على أن الآية خاصة في الأصنام، على أن الظاهر قوله وما تعبدون لغير العقلاء. وقيل: لما سمعوا قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم قالوا.
نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله أآلهتنا خير أم هو على هذا القول: تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأن المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلا. معناه: وما قالوا هذا القول، يعنى: ء آلهتنا خير أم هو. إلا للجدال، وقرئ:
أآلهتنا خير، بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها، لدلالة أم العديلة عليها. وفي حرف ابن مسعود: خير أم هذا. ويجوز أن يكون جدلا حالا، أى: جدلين. وقيل: لما نزلت إن مثل عيسى عند الله قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى يصدون يضجون ويضجرون. والضمير في أم هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم: السخرية به والاستهزاء.
ويجوز أن يقولوا- لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله وعبدوهم- ما قلنا بدعا من القول،
__________
(1) . قوله «ترتفع لهم جلبة وضجيج» أى صياح وكذا اللجب. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وخبث دخلته» بالضم: باطن أمره. أفاده الصحاح، (ع)
(3) . قوله «على طريقة المحك» أى: اللجاج، كما في الصحاح. (ع)

(4/260)


ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)

ولا فعلنا نكرا من الفعل، فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه، ونحن أشف «1» منهم قولا وفعلا، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسى، فقيل لهم: مذهب النصارى شرك بالله، ومذهبكم شرك مثله، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل، وما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية: بأن خلقناه من غير سبب، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنى إسرائيل.

[سورة الزخرف (43) : آية 60]
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون (60)
ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا منكم لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك.

[سورة الزخرف (43) : آية 61]
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61)
وإنه وإن عيسى عليه السلام لعلم للساعة أى شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط علما لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس: لعلم، وهو العلامة. وقرئ: للعلم. وقرأ:
أبى: لذكر، على تسمية ما يذكر به ذكرا، كما سمى ما يعلم به علما. وفي الحديث: أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة: يقال لها أفيق وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلى خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن «2» به.
وعن الحسن: أن الضمير للقرآن، وأن القرآن به تعلم الساعة، لأن فيه الإعلان بها فلا تمترن بها من المرية وهي الشك واتبعون واتبعوا هداي وشرعي. أو رسولي. وقيل: هذا أمر لرسول الله أن يقوله هذا صراط مستقيم أى هذا الذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في وإنه للقرآن.
__________
(1) . قوله «ونحن أشف منهم» أى: أرق. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي بغير سند. وهو موجود في أحاديث متفرقة. فقوله «ثنية أفيق» عند الحاكم من حديث عثمان بن أبى العاص. وقوله «وعليه ممصرتان» عند أحمد والحاكم من حديث أبى هريرة. وقوله والناس في صلاة الصبح، عند ابن ماجة من حديث أبى أسامة. وقوله «فيقتل الخنزير ويكسر الصليب» في الصحيح من حديث أبى هريرة.

(4/261)


ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65) هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73)

[سورة الزخرف (43) : آية 62]
ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62)
عدو مبين قد بانت عداوته لكم «1» : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 65]
ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)
بالبينات المعجزات. أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات بالحكمة يعنى الإنجيل والشرائع. فإن قلت: هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت: كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم الأحزاب الفرق المتحزبة بعد عيسى وقيل: اليهود والنصارى فويل للذين ظلموا وعيد للأحزاب. فإن قلت: من بينهم إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت: إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله قد جئتكم بالحكمة وهم قومه المبعوث إليهم.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73]
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70)
يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73)
__________
(1) . قوله «قد بانت عداوته لكم» في الصحاح «بان الشيء بيانا» : اتضح فهو بين، كذلك أيان فهو مبين. (ع)

(4/262)


إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76) ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78)

أن تأتيهم بدل من الساعة. والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قلت: أما أدى قوله بغتة مؤدى قوله وهم لا يشعرون فيستغنى عنه؟ قلت: لا، لأن معنى قوله تعالى وهم لا يشعرون: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم، كقوله تعالى تأخذهم وهم يخصمون ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون يومئذ منصوب بعدو، أى: تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا، إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله. وقيل إلا المتقين إلا المجتنبين أخلاء السوء. وقيل: نزلت في أبى بن خلف وعقبة ابن أبى معيط يا عباد حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ، والذين آمنوا منصوب المحل صفة لعبادي، لأنه منادى مضاف، أى: الذين صدقوا بآياتنا وكانوا مسلمين مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل: إذا بعث الله الناس فزع كل أحد، فينادى مناد: يا عبادي فيرجوها الناس كلهم، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين.
وقرئ: يا عباد تحبرون تسرون سرورا يظهر حباره- أى: أثره- على وجوهكم، كقوله تعالى تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقال الزجاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة:
المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب: الكوز لا عروة له وفيها الضمير للجنة. وقرئ تشتهي وتشتهيه. وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون.
وتلك إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ، والجنة خبر. والتي أورثتموها صفة الجنة. أو الجنة صفة للمبتدإ الذي هو اسم الإشارة. والتي أورثتموها: خبر المبتدإ. أو التي أورثتموها: صفة، وبما كنتم تعملون الخبر، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار. وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها. وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ: ورثتموها منها تأكلون من للتبعيض، أى: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها «1» إلا نبت مكانها مثلاها «2» .»

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 78]
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76) ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78)
__________
(1) . قوله «من ثمرها إلا نبت مكانها» في الخازن: ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» . (ع)
(2) . أخرجه البزار عن ثوبان. وقد تقدم في البقرة.

(4/263)


لا يفتر عنهم لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلا ونقص حرها. والمبلس: اليائس الساكت سكوت يأس من فرج. وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالدا: لا يرى ولا يرى هم فصل عند البصريين، عماد عند الكوفيين. وقرئ: وهم فيها، أى: في النار «1» وقرأ على وابن مسعود رضى الله عنهما: يا مال، بحذف الكاف للترخيم، كقول القائل:
والحق يا مال غير ما تصف «2»
وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: ونادوا يا مال، فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم «3» .
وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه. وقرأ أبو السرار الغنوي: يا مال، بالرفع كما يقال: يا حار «4» ليقض علينا ربك من قضى عليه إذا أمانه فوكزه موسى فقضى عليه والمعنى: سل ربك أن يقضى علينا. فإن قلت: كيف قال ونادوا يا مالك بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت: تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج لهم، ويغوثون «5» أوقاتا لشدة ما بهم ماكثون لابثون. وفيه استهزاء. والمراد: خالدون. عن ابن عباس رضى الله عنهما: إنما يجيبهم بعد ألف سنة «6» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يلقى على أهل
__________
(1) . قوله «وقرئ وهم فيه أى في النار» لعل تأخير الكلام على هذه القراءة عن الكلام على الضمير السابق من تصرف الناسخ. لأنه مخالف لترتيب التلاوة. (ع)
(2) .
يحيى رفات العظام بالية ... والحق يا مال غير ما تصف
أى: يحيى الله المتفتت من العظام حال كونها بالية، يقال: رفته رفتا، إذا فتته. والرفات: اسم منه كالفتات، قال: والحق غير ما تذكره يا مالك، فرخمه بحذف الكاف، كأنه كان أخبره بموت أحد ثم ظهرت حياته.
(3) . لم أجده بإسناد. وفي البخاري عن يعلى بن أمية «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كذلك» .
(4) . قوله «كما يقال يا حار» في نداء حارث. (ع) [.....]
(5) . قوله «ويغوثون» في الصحاح «غوث الرجل» : قال وا غوثاه. (ع)
(6) . أخرجه الحاكم من رواية سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ونادوا يا مالك قال: مكث عنهم ألف سنة ثم يقول: إنكم ماكثون، وروى الترمذي من رواية قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن سمرة بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون. فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع- الحديث: وفيه قال الأعمش بين أن ينزل عليهم وإجابة مالك ألف عام» وقال الترمذي: قطبة ثقة.
وبعض أهل الحديث كان يرفع هذا. وهذا أخرجه الطيراني والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من رواية شريك عن الأعمش موقوف ولم يفصل الكلام الأخير. ثم رواه من طريق قطبة مرفوعا، ولم يفعل أيضا.

(4/264)


أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80) قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81) سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82)

النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك «1» » . لقد جئناكم بالحق كلام الله عز وجل: بدليل قراءة من قرأ:
لقد جئتكم. ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكا أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم: أجابهم الله بذلك كارهون لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه، لأن مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 79 الى 80]
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80)
أم أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم، كقوله تعالى أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون؟
وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت: السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم بلى نسمعهما ونطلع عليهما ورسلنا يريد الحفظة عندهم يكتبون ذلك.
وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 82]
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين (81) سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (82)
قل إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له: «2» كما يعظم الرجل
__________
(1) . هو في الحديث الذي قبله.
(2) . قال محمود: «معناه إن صح وثبت برهان قاطع، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ... الخ» قال أحمد: لقد اجترأ عظيما وافتحم مهلكة في تمثيله ذلك بقول من سماه عدليا: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس باله، فلينقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الايمان، وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله، وتصديقا بمضمون قوله تعالى هل من خالق غير الله وقوله الله خالق كل شيء وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا: لزمه فرك أذنه وغل عنقه، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسقه إليه أحد من عباده الكفرة، ولا تجرأ عليه مارد من مردة الفجرة. ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة، فانه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع أنحائها: والله المسئول أن يعصمنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(4/265)


ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدلى للمجبر «1» . إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله، فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له-: أما والله «2» لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى-: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أول العابدين الموحدين لله، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه. وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم:
العبدين. وقيل: هي إن النافية، أى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد، وروى أن النضر بن عبد الدار بن قصى قال: إن الملائكة بنات الله فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقنى. فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة: أن لا ولد له. وقرئ: ولد، بضم الواو. ثم نزه ذاته موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد، ليدل على أنه من صفة الأجسام.
__________
(1) . قوله «ونظيره أن يقول العدلى للمجبر» يريد: أحد المعتزلة لأحد أهل السنة، وفي هذا التنظير من سوء الأدب في حقه تعالى ما لا يخفى. (ع)
(2) . قوله «قال له: أما والله» في الصحاح: «أما» مخفف تحقيق للكلام الذي يتلوه اه. ولعل حذف الألف لغة، فليحرر. (ع)

(4/266)


فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83) وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87)

ولو كان جسما لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.

[سورة الزخرف (43) : آية 83]
فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83)
فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا يومهم وهذا دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، وإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان، كقوله تبارك تعالى اعملوا ما شئتم وإيعاد بالشقاء في العاقبة.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 85]
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85)
ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله في السماء وفي الأرض «1» كما تقول، هو حاتم في طى حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت:
هو جواد في طى جواد في تغلب. وقرئ: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله. ومثله قوله تعالى وهو الله في السماوات وفي الأرض كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك.
والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده طولا أن المعطوف داخل في حيز الصلة. ويحتمل أن يكون في السماء صلة الذي وإله خبر مبتدإ محذوف، على أن الجملة بيان للصلة. وأن كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفى الآلهة التي كانت تعبد في الأرض ترجعون قرئ بضم التاء وفتحها. ويرجعون، بياء مضمومة. وقرئ: تحشرون، بالتاء.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 87]
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87)
__________
(1) . قال محمود: «ضمن اسمه عز وجل معنى وصف، فعلق به الظرف، وهو قوله في السماء ... الخ» قال أحمد: ومما سهل حذف الراجع مضافا إلى الطول الذي ذكره: وقوع الموصول خبرا عن مضمر لو ظهر الراجع لكان كالتكرار المستكره، إذ كان أصل الكلام: وهو الذي هو في السماء إله. ولا ينكر أن الكلام مع المحذوف الراجع أخف وأسهل، وأن الراجع إنما حذف على فلة حذف مثله لأمر متأكد، فانه لم يرد في الكتاب العزيز إلا في قوله تماما على الذي أحسن ومع أى في موضعين على رأى.

(4/267)


وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)

ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، ولكن من شهد بالحق وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص:
هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا، لأن في جملة الذين يدعون من دون الله: الملائكة، وقرئ: تدعون بالتاء. وتدعون، بالتاء وتشديد الدال.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 88 الى 89]
وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)
وقيله قرئ بالحركات الثلاث، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله: وعنه: وقال قيله. وعطفه الزجاج على محل الساعة، كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا، وحمل الجر على لفظ الساعة، والرفع على الابتداء، والخبر ما بعده: وجوز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف. معناه: عنده علم الساعة وعلم قيله. والذي قالوه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه: أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك: ويكون قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون جواب القسم، كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب. أو وقيله يا رب قسمي إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم فأعرض عن دعوتهم يائسا عن إيمانهم، وودعهم وتاركهم، وقل لهم سلام أى تسلم منكم ومتاركة فسوف يعلمون وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. والضمير في وقيله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. ادخلوا الجنة بغير حساب» «1»
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/268)


حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8)

سورة الدخان
مكية، إلا قوله إنا كاشفوا العذاب قليلا ... الآية وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع وخمسون [نزلت بعد سورة الزخرف] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 8]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4)
أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8)
الواو في والكتاب واو القسم، إن جعلت حم تعديدا للحروف أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف وواو العطف إن كانت حم مقسما بها. وقوله إنا أنزلناه جواب القسم، والكتاب المبين القرآن. والليلة المباركة: ليلة القدر. وقيل: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. وقيل في تسميتها: ليلة البراءة. والصك: أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.
وقيل: هي مختصة بخمس خصال: تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنون من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا. وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان «1» » . ونزول الرحمة: قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يرحم أمتى «2» في هذه
__________
(1) . ذكره صاحب الفردوس من حديث ابن عمر هكذا وأخرجه أبو الفتح سليم بن أيوب في الترغيب له من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن على موقوفا. وأخرجه ابن الأخضر من رواية جعفر المدائني عن أبى يحيى العتابى حدثني بضعة وثلاثون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال- فذكره
(2) . قوله «يرحم أمتى في هذه الليلة» لعله: من أمتى. (ع)

(4/269)


الليلة بعدد شعر أغنام بنى كلب «1» » وحصول المغفرة: قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين، أو مصر على الزنا» «2» وما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته، فأعطى الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع، إلا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة: أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة، والقول الأكثر: أن المراد بالليلة المباركة:
ليلة القدر، لقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر ولمطابقة قوله: فيها يفرق كل أمر حكيم لقوله: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. فإن قلت: ما معى إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت: قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما نجوما. فإن قلت: إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان «3» . فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة مباركة كأنه قيل: أنزلناه، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. والمباركة: الكثيرة الخير لما يتيح «4» الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. ومعنى يفرق يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم منها إلى
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث عائشة مرفوعا «إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا.
فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحجاج؟ وسمعت محمدا يضعفه. وقال:
ابن يحيى لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى، وفي الباب عن أنس عن عائشة في الدعوات البيهقي. وفي روايته مجاهيل. ومن وجه آخر عن عائشة في الافراد للدارقطني. وفيه عطاء بن عجلان. وهو متروك.
(2) . لم أجد، هكذا. وفي ابن حبان من حديث معاذ بن جبل وقال يطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» وفي ابن ماجة من حديث أبى موسى كذلك. والبزار من حديث أبى بكر وفي إسناده ضعف والبزار أيضا من حديث عوف بن مالك. وفيه ابن لهيعة. ومن حديث أبى هريرة وفيه من لا يعرف. ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبى سعيد عن عائشة. وفيها لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى عاق ولا إلى مدمن خمر وفي رواية أنس عن عائشة التي ذكرناها في التي قبلها «المدمن والعاق والمصر على الزنا وزادوا: ولا مصور ولا قتار.
(3) . قوله «ملفوفتان» لعله من اللف والنشر المقرر في البيان، وبيانه ما بعده. (ع)
(4) . قوله «لما يتيح الله فيها» أى يقدر. (ع) [.....]

(4/270)


الأخرى القابلة. وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخه الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ: يفرق بالتشديد. ويفرق كل على بنائه للفاعل ونصب كل، والفارق: الله عز وجل، وقرأ زيد بن على رضى الله عنه: نفرق، بالنون، كل أمر حكيم:
كل شأن ذى حكمة، أى: مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازى، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز أمرا من عندنا نصب على الاختصاص. جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاء علمنا وتدبيرنا.
ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق، لأن معنى الأمر والفرقان واحد، من حيث أنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه: إما من ضمير الفاعل، أى: أنزلناه آمرين أمرا. أو من ضمير المفعول أى أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت: إنا كنا مرسلين رحمة من ربك بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يكون بدلا من قوله إنا كنا منذرين ورحمة من ربك مفعولا له، على معنى: إنا أنزلنا القرآن، لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، وأن يكون تعليلا ليفرق. أو لقوله أمرا من عندنا ورحمة: مفعولا به، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى وما يمسك فلا مرسل له من بعده أى يفصل في هذه الليلة كل أمر. أو تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا، لأن الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع. والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، وفي قراءة زيد بن على: أمر من عندنا، على: هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن: رحمة من ربك. على: تلك رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له إنه هو السميع العليم وما بعده تحقيق لربوبيته، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه. وقرئ: رب السماوات ... ربكم ورب آبائكم، بالجر بدلا من ربك. فإن قلت:
ما معنى الشرط الذي هو قوله إن كنتم موقنين؟ قلت: كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا، فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا

(4/271)


بل هم في شك يلعبون (9) فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12)

الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان، كما تقول: إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته.

[سورة الدخان (44) : الآيات 9 الى 12]
بل هم في شك يلعبون (9) فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12)
ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله بل هم في شك يلعبون وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن، ولا عن جد وحقيقة: بل قول مخلوط بهزء ولعب يوم تأتي السماء مفعول به مرتقب. يقال: رقبته وارتقبته. نحو: نظرته وانتظرته. واختلف في الدخان، فعن على بن أبى طالب رضى الله عنه وبه أخذ الحسن: أنه دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ «1» ، ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أو قد فيه ليس فيه خصاص «2» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول الآيات: الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين «3» تسوق الناس إلى المحشر «4» «قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال: «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة.
أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» وعن ابن مسعود رضى الله عنه: خمس قد مضت: الروم، والدخان، والقمر، والبطشة.
واللزام. ويروى أنه قيل لابن مسعود: إن قاصا عند أبواب كندة يقول: إنه دخان يأتى يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق، فقال: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه: الله أعلم، ثم قال: ألا وسأحدثكم أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، «5»
__________
(1) . قوله «كالرأس الحنيذ» أى المشوى، كما في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ليس فيه خصاص» أى: فرج. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «أبين» في الصحاح: «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن. (ع)
(4) . هذا أولى. وفي إسناده رواه ابن الجراح وهو متروك. وقد اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث.
(5) . متفق عليه دون قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» وقد رواه النسائي والحاكم والطبراني من حديث ابن عباس قال «جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم لقد أكلنا العلهز يعنى الوبر والدم فأنزل الله ولقد أخذناهم بالعذاب- الآية.

(4/272)


أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)

واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف «1» والعلهز، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل «2» فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم بدخان مبين ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان يغشى الناس يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة لدخان.
وهذا عذاب إلى قوله مؤمنون منصوب المحل بفعل مضمر، وهو: يقولون. ويقولون:
منصوب على الحال، أى: قائلين ذلك. إنا مؤمنون موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.

[سورة الدخان (44) : الآيات 13 الى 16]
أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)
أنى لهم الذكرى كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا وتولوا عنه، وبهتوه «3» بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون، ثم قال إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون أى ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال. فإن قلت: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله إنا كاشفوا العذاب قليلا؟ قلت: إذا أتت السماء بالدخان تضور «4» المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوثوا وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون منيبون، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون، ثم قال: يوم نبطش البطشة الكبرى يريد
__________
(1) . قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» في الصحاح «العلهز» - بالكسر-: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في زمن المجاعة. (ع)
(2) . قوله «وكان يحدث الرجل فيسمع» لعله: يحدث الرجل الرجل، ويمكن أن يجعل الفاعل ضميرا يعود على الرجل السابق. (ع)
(3) . قوله وتولوا عنه وبهتوه» رموه بما ليس فيه والتغويث قولها: وا غوثاه، كما في الصحاح أيضا. (ع)
(4) . قوله «تضور المعذبون به» التضور: الصياح والتلوي عند الألم. أفاده الصحاح. (ع)

(4/273)


ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21)

يوم القيامة، كقوله تعالى فإذا جاءت الطامة الكبرى. إنا منتقمون أى ننتقم منهم في ذلك اليوم. فإن قلت: بم انتصب يوم نبطش؟ قلت: بما دل عليه إنا منتقمون وهو ننتقم.
ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون، لأن «إن» تحجب عن ذلك. وقرئ: نبطش، بضم الطاء.
وقرأ الحسن: نبطش بضم النون، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى.
أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم. وقيل البطشة الكبرى: يوم بدر.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 21]
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21)
وقرئ: ولقد فتنا، بالتشديد للتأكيد. أو لوقوعه على القوم. ومعنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق، فكان ذلك سببا في ارتكابهم المعاصي واقترافهم الاثام. أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. أو سلبهم ملكهم وأغرقهم كريم على الله وعلى عباده المؤمنين. أو كريم في نفسه، لأن الله لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم أن أدوا إلي هي أن المفسرة، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله. أو المخففة من الثقيلة ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إلى وعباد الرحمن مفعول به وهم بنو إسرائيل، يقول: أدوهم إلى وأرسلوهم معى، كقوله تعالى فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ويجوز أن يكون نداء لهم على: أدوا إلى يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه رسول أمين غير ظنين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأولى في وجهيها، أى: لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه. أو لا تستكبروا على نبى الله بسلطان مبين بحجة واضحة أن ترجمون أن تقتلون. وقرئ: عت، بالإدغام. ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل فاعتزلون يريد: إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا، فتنحوا عنى واقطعوا أسباب الوصلة عنى، أى: فخلوني كفافا لا لي ولا على، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك.

(4/274)


فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24)

[سورة الدخان (44) : الآيات 22 الى 24]
فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24)
أن هؤلاء بأن هؤلاء، أى: دعا ربه بذلك. قيل: كان دعاؤه: اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم: وقيل هو قوله ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك، وهو كونهم مجرمين. وقرئ: إن هؤلاء، بالكسر على إضمار القول، أى: فدعا ربه فقال: إن هؤلاء فأسر قرئ بقطع الهمزة من أسرى، ووصلها من سرى.
وفيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي. وأن يكون جواب شرط محذوف، كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول فأسر بعبادي يعنى: فأسر ببني إسرائيل، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده، فينجى المتقدمين ويغرق التابعين. الرهو فيه وجهان، أحدهما: أنه الساكن. قال الأعشى:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل «1»
أى مشيا ساكنا على هينة. أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق، كما ضربه فانفلق، فأمر بأن يتركه ساكنا على هيئته، قارا على حاله: من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. والثاني:
__________
(1) .
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
فهن معترضات والحصى رمض ... والريح ساكنة والظل معتدل
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل
تهدى لنا كلما كانت علاوتنا ... ريح الخزامى جرى فيها الندى الخضل
للقطافى، يصف إبلا يمشين مشيا رهوا على هينة وسكينة، فلا أعجازها خادلة أى تاركة لصدورها متكلة عليها بحيث تضعف من ورائها، ولا صدورها تتكل على أعجازها بأن تضعف من قدامها، فأطلق الخذلان والاتكال وأراد لازمهما، وهو الضعف: مجازا مرسلا. وأصل تتكل توتكل، فقلبت الواو تاء وأدغمت فيما بعدها، فهن سائرات في عرض الفلوات. والحال أن الحصى حار من شدة وقع الشمس عليه. ورمض الحصى والرمل رمضا كتعب تعبا: اشتد حره من الشمس، فأطلق المصدر على اسم الفاعل مبالغة. ويجوز أنه رمض كحذر والريح ساكنة، فلا نسيم يأتى بالبرودة. أو فلا غبار يضر بالسفر والظل معتدل: كناية عن اشتداد الحر، لأنه لا يعتدل إلا بتوسط الشمس في كبد السماء يتبعن تلك المطايا ناقة حديدة البصر رافعة طرفها لتبصر أمامها، تظنها يا من تراها مجنونة. أو رائية شيئا لا تراه بقية الإبل. أو شيئا لا تراه الإبل عادة، فلذلك استغربته، تهدى لنا تلك الناقة أو الإبل بمشيها كلما وجد ارتفاعنا في الطريق ريح الخزامى. والعلاوة- بالضم-: ضد السفالة. وأما بالكسر فهي ما يعلق على البعير بعد حمله. والخزامى: نبت طيب الرائحة. والخضل: الرطب والمبتل والناعم. وضمير فيها عائد على الخزامى.
أو على الريح، لكن هذا يفيد أن السفر كان صباحا.

(4/275)


كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)

أن الرهو الفجوة الواسعة. وعن بعض العرب: أنه رأى جملا فالجا «1» فقال: سبحان الله، رهو بين سنامين، أى: اتركه مفتوحا على حاله منفرجا إنهم جند مغرقون وقرئ بالفتح، بمعنى: لأنهم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 25 الى 27]
كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27)
والمقام الكريم: ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة. وقيل: المنابر. والنعمة- بالفتح- من التنعم، وبالكسر- من الإنعام. وقرئ: فاكهين وفكهين.

[سورة الدخان (44) : الآيات 28 الى 29]
كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (29)
كذلك الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على الأمر كذلك قوما آخرين ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل: كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله على أيديهم، وأورثهم ملكهم وديارهم. إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» «2» وقال جرير:
تبكى عليك نجوم الليل والقمرا «3»
__________
(1) . قوله «أنه رأى جملا فالجا» في الصحاح «الفالج» الضخم ذو السنامين. (ع)
(2) . أخرجه البيهقي في الشعب في السبعين منه والطبري والثعلبي من حديث شريح بن عبيد الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا إلا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غائب عنه فيها بواكيه- الحديث»
(3) .
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكى عليك نجوم الليل والقمرا
لجرير، يرثى عمر بن عبد العزيز. والنعي: النداء بالموت. وقوله «يا خير» حكاية قول النعاة، أى: قائلين يا خير، ويحتمل أنه من كلام الشاعر، ففيه التفات. والأمر العظيم: الخلافة ومشاقها: شبهها بالمحسوس على طريق المكنية.
والتحصيل: تخييل. وأمر الله: شرعه، أو اكتفى به عن ذكر النهى لدلالته عليه. وعمرا: منادى مندوب، وألف الندبة منعت ضمة وجلبت فتحة. واستعمال «يا» في الندبة مع أن الأصل فيها «وا» لعدم اللبس في النداء بعد ذكر النعي. ويقال: كسفت الشمس كسوفا، وكسفها الله كسفا، وبكى على زيد وبكاء، وباكاء فبكاه، أى غلبه في البكاء، كفاخره ففخره إذا غلبه في الفخر، فكسف، وبكى: متعديان ولازمان، وطالعة: خبر الشمس.
وليست بكاسفة: خبر ثان. وتبكى عليك: حال أو خبر ثالث. ونجوم الليل: مفعول كاسفة، أى: لم تكسف الشمس نجوم الليل لانطماسها وقلة ضوئها من كثرة بكائها، فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور. ويحتمل أن نجوم الليل مفعول تبكى. أى: تغلب نجوم الليل في البكاء عليك. وقيل: روايته هكذا وهم، والرواية: الشمس كاسفة ليست بطالعة: أى لا تطلع أبدا من حينئذ، فالأوجه أن نجوم الليل مفعول تبكى. وقيل: ظرف له، أى:
مدة نجوم ... الخ. وقيل «نجوم» مرفوع على الفاعلية، والقمر: مفعول معه، ثم إن المراد بهذا حزن جميع المخلوقات عليه، لا سيما الناس العقلاء.

(4/276)


وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف «1»
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما: من بكاء مصلى المؤمن، وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى فما بكت عليهم السماء والأرض فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده: فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، يعنى: فما بكى عليهم
__________
(1) .
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فان مات لم يرض الندى بحليف
فقد ناء فقدان الربيع وليتنا ... فديناه من ساداتنا بألوف
لليلى بنت طريف ترثى أخاها الوليد. وأيا: حرف نداء. والخابور: موضع كثير الشجر، نزلت شجرة منزلة العاقل، فنادته واستفهمته عن سبب إخراجه الورق، من باب تجاهل العارف ساقت المعلوم مساق المجهول، واستفهمت عنه لفرط ما بها من الجزع تيقنت أن كل الأشياء جزعت عليه حتى الشجر، فخاطبته بقولها: كأنك لم تجزع على أخى، وذكرته بكنيته تعظيما لقدره وتنويها بذكره. ومورقا: حال من كاف الخطاب، ثم قالت: هو فتى لا يحب أن يتزود إلا من التقى، ولا يحب المال إلا من الغنائم بالحرب، فقولها «إلا من قنا وسيوف» : كناية عن ذلك. والقناة:
الرماح، واحده: قناة. حليف الندى: أى ملازم له تلازم المتحالفين على الاجتماع، فهو استعارة مصرحة، ثم قالت: يرضى به أى بصحبته الندى: مدة حياته وإن طالت. وهذا ترشيح للاستعارة. وقولها: فان مات «إن» فيه بمعنى إذ، فهي لمجرد الربط لا للشك، كما ذهب إليه الكوفيون في نحو قوله تعالى واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وهذا على أنه كان قد مات كما هو ظاهر قولها فقدناه. ويحتمل أنه كان في مرض الموت، أى: شارفنا فقده مجازا، كأنه قد حصل. وشبهته بالربيع في ضمن تشبيه فقدانه فقدان الربيع يجامع عموم نفع كل: مدحته بالتقوى والشجاعة والكرم وعموم النفع والسيادة، وتنكير ألوف للتكثير، ويروى: دهمائنا، بدل سادتا. والدهماء: السواد العظيم. وظاهر التمني يدل أيضا على أنه كان قد مات، إلا أن يكون المعنى: ليتنا فديناه مما أصابه فأمرضه.
وتكرير «حليف» من باب رد العجز على الصدر [.....]

(4/277)


ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين (33) إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)

أهل السماء وأهل الأرض وما كانوا منظرين لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة، بل عجل لهم في الدنيا.

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 31]
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31)
من فرعون بدل من العذاب المهين، كأنه في نفسه كان عذابا مهينا، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. ويجوز أن يكون المعنى: من العذاب المهين واقعا من جهة فرعون. وقرئ من عذاب المهين. ووجهه أن يكون تقدير قوله من فرعون: من عذاب فرعون، حتى يكون المهين هو فرعون. وفي قراءة ابن عباس: من فرعون، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال: من فرعون، على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته، ثم عرف حاله في ذلك بقوله إنه كان عاليا من المسرفين أى كبيرا رفيع الطبقة، ومن بينهم فائقا لهم، بليغا في إسرافه.
أو عاليا متكبرا، كقوله تعالى إن فرعون علا في الأرض. ومن المسرفين خبر ثان، كأنه قيل: إنه كان متكبرا مسرفا.

[سورة الدخان (44) : الآيات 32 الى 34]
ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) وآتيناهم من الآيات ما فيه بلؤا مبين (33) إن هؤلاء ليقولون (34)
الضمير في اخترناهم لبنى إسرائيل. وعلى علم في موضع الحال، أى: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. ويجوز أن يكون المعنى: مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال على العالمين على عالمى زمانهم. وقيل: على الناس جميعا لكثرة الأنبياء منهم من الآيات من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها بلؤا مبين نعمة ظاهرة، لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة. أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون، كقوله تعالى وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 36]
إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36)

(4/278)


أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37)

هؤلاء إشارة إلى كفار قريش فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية «1» لا في الموت «2» ، فهلا قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين؟ وما معنى قوله إن هي إلا موتتنا الأولى؟ وما معنى ذكر الأولى؟
كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟ قلت: معناه- والله الموفق للصواب-: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة، كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله إن هي إلا حياتنا الدنيا في المعنى. يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم: إذا بعثهم فأتوا بآبائنا خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور: من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أى: إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلا على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق، وقيل كانوا يطلبون اليهم أن يدعوا الله وينشر لهم قصى بن كلاب ليشاوروه، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشئون.

[سورة الدخان (44) : آية 37]
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37)
هو تبع الحميري: كان مؤمنا وقومه كافرين، ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه، وهو الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل: هدمها وكان إذا كتب قال: بسم الله الذي ملك برا وبحرا. وعنى النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» «3» وعنه عليه الصلاة
__________
(1) . قوله «واقعا في الحياة الثانية» أى التي ينكرونها. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت: كان الكلام معهم واقعا في الحياة الثانية لا في الموت ... الخ» قال أحمد:
وأظهر من ذلك أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين: الأولى منهما الموت، والأخرى حياة البعث:
أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت، ونفوا ما بعدها، وسموها أولى مع أنهم اعتقدوا أن لا شيء بعدها، لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت لهم، وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين، أحدهما: أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه، لأنهم يثبتون الموت الذي يعقب حياة الدنيا، وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر لا على نفس الموت المشاهد لهم: فيه عدول عن الظاهر بلا حاجة. الثاني:
أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه بالموتة، فان الموتة فعلة فيها إشعار بالتجدد والطريان. والموت السابق على الحياة الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها هذا، مع أن في بقية السورة قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وإنما عنى ب الموتة الأولى هنا: الموت المتعقب للحياة الدنيا فقط، ففيه إرشاد لما ذكرته، والله أعلم.
(3) . أخرجه أحمد والطبراني والطبري وابن أبى حاتم من حديث سهل بن سعد وفيه ابن لهيعة عن عمرو بن جابر. وهما ضعيفان. وروى حبيب عن مالك عن أبى حازم عن سهل مثله قال الدارقطني: تفرد به حبيب وهو متروك. وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في معجمه وابن مردويه قال محمد بن زكريا. عن أبى حذيفة عن سفيان.

(4/279)


وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42) إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47)

والسلام «ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير «1» نبى» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كان نبيا.
وقيل: نظر إلى قبرين بناحية حمير قال: هذا قبر رضوى وقبر حبى بنت تبع لا تشركان بالله شيئا. وقيل: هو الذي كسا البيت. وقيل لملوك اليمن: التبابعة، لأنهم يتبعون، كما قيل: الأقيال، لأنهم يتقيلون «2» . وسمى الظل «تبعا» لأنه يتبع الشمس. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى أهم خير ولا خير في الفريقين؟ قلت: معناه أهم خير في القوة والمنعة، كقوله تعالى أكفاركم خير من أولئكم بعد ذكر آل فرعون. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنهما: أهم أشد أم قوم تبع.

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 42]
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42)
وما بينهما وما بين الجنسين. وقرأ عبيد بن عمير: وما بينهن. وقرأ: ميقاتهم بالنصب على أنه اسم إن، ويوم الفصل: خبرها، أى: إن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل لا يغني مولى أى مولى كان من قرابة أو غيرها عن مولى عن أى مولى كان شيئا من إغناء، أى: قليلا منه ولا هم ينصرون الضمير للموالي، لأنهم في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى إلا من رحم الله في محل الرفع على البدل من الواو في ينصرون أى: لا لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله. ويجوز أن ينتصب على الاستثناء إنه هو العزيز لا ينصر منه من عصاه الرحيم لمن أطاعه.

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 47]
إن شجرة الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى هريرة بهذا.
والمعروف بهذا الاسناد «ما أدرى العيني هو أم لا، وما أدرى أعزير نبى أم لا» أخرجه أبو داود. وكذا الحاكم لكن قال: ذو القرنين بدل «عزير» قال الدارقطني تفرد به عبد الرزاق وغيره أرسله.
(2) . قوله «لأنهم يتقيلون» في الصحاح: تقيل شرب نصف النهار، وتقيل فلان أباه: تبعه. (ع)

(4/280)


قرئ: إن شجرت الزقوم، بكسر الشين، وفيها ثلاث لغات: شجرة، بفتح الشين وكسرها وشيرة، بالياء. وروى أنه لما نزل أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم قال ابن الزبعرى: إن أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر: التزقم، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال: تزقموا فإن هذا هو الذي يخوفكم به محمد، فنزل إن شجرة الزقوم طعام الأثيم وهو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبى الدرداء أنه كان يقرئ رجلا فكان يقول طعام اليثيم، فقال: قل طعام الفاجر «1» يا هذا.
وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي: أن يؤدى القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا: وهذه الشربطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة، لأن في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بإذائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر وروى على بن الجعد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية كالمهل قرئ بضم الميم وفتحها، وهو دردى «2» الزيت. ويدل عليه قوله تعالى يوم تكون السماء كالمهل مع قوله فكانت وردة كالدهان وقيل: هو ذائب الفضة والنحاس، والكاف رفع خبر بعد خبر، وكذلك يغلي وقرئ بالتاء للشجرة، وبالياء للطعام. والحميم الماء الحار الذي انتهى غليانه: يقال للزبانية خذوه فاعتلوه فقودوه بعنف وغلظة، وهو أن يؤخذ بتلبيب «3» الرجل فيجر إلى حبس أو قتل. ومنه: العتل وهو الغليظ الجافي. وقرئ بكسر التاء وضمها إلى سواء الجحيم إلى وسطها ومعظمها. فإن قلت: هلا قيل: صبوا فوق رأسه من الحميم، كقوله تعالى يصب من فوق رؤسهم الحميم لأن الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت: إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته، إلا أن صب العذاب طريقة الاستعارة، كقوله:
__________
(1) . قال محمود: «نقل أن أبا الدرداء أقرأها رجلا فلم يقم النطق بالأثيم وجعل يقول طعام اليثيم ... الخ» قال أحمد: لا دليل فيه لذلك. وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتى بالقراءة كما أنزلت. على هذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار، وهو الوجه، والله أعلم.
(2) . قوله «وهو دردى الزيت» لعله: ردى الزيت كعبارة النسفي. (ع)
(3) . قوله «وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل» الذي في الصحاح: لبهت الرجل تلبيبا، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة، ثم جررته اه ويجوز أنه أراد بتلبيب الرجل: ثيابه من عند صدره ونحره. (ع)

(4/281)


إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57)

صبت عليه صروف الدهر من صبب «1»
وكقوله تعالى أفرغ علينا صبرا فذكر العذاب معلقا به الصب، مستعارا له، ليكون أهول وأهيب يقال ذق إنك أنت العزيز الكريم على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وروى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا. وقرئ: إنك، بمعنى: لأنك. وعن الحسن ابن على رضى الله عنهما أنه قرأ به على المنبر إن هذا العذاب. أو إن هذا الأمر هو ما كنتم به تمترون أى تشكون. أو تتمارون وتتلاجون.

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 57]
إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55)
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57)
قرئ: في مقام، بالفتح: وهو موضع القيام، والمراد المكان، وهو من الخاص الذي وقع مستعملا في معنى العموم. وبالضم: وهو موضع الإقامة. وأمين من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة، لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. قيل: السندس: ما رق من الديباج. والإستبرق:
ما غلظ منه وهو تعريب استبر. فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمى؟ قلت: إذا عرب خرج من أن يكون عجميا، لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب كذلك الكاف مرفوعة على:
الأمر كذلك. أو منصوب على: مثل ذلك أثبناهم وزوجناهم وقرأ عكرمة: بحور عين، على الإضافة: والمعنى: بالحور من العين، لأن العين إما أن تكون حورا أو غير حور، فهؤلاء
__________
(1) .
كم امرئ كان في خفض وفي دعة ... صبت عليه صروف الدهر من صبب
الصبب: مكان الصباب الماء وانحداره. يقول: كثير من الناس كان في لين عيش وفي راحة، توالت عليه حوادث الدهر كأنها سيل منحدر من صبب، فاستعار الصب لنزول الحوادث بالشخص على طريق التصريح، والصب ترشيح أو شبه الحوادث بالسيل على سبيل المكنية. والصبب: تخييل. والصب: ترشيح. والصروف: جمع صرف، كحروف جمع حرف: مكاره الزمن ومصائبه.

(4/282)


فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)

من الحور العين «1» لا من شهلهن مثلا. وفي قراءة عبد الله: بعيس عين: والعيساء: البيضاء تعلوها حمرة وقرأ عبيد بن عمير: لا يذاقون فيها الموت. وقرأ عبد الله: لا يذوقون فيها طعم الموت. فإن قلت: كيف استثنيت الموتة الأولى- المذوقة قبل دخول الجنة- من الموت المنفي ذوقه فيها؟ قلت: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع قوله إلا الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها «2» . وقرئ ووقاهم بالتشديد فضلا من ربك عطاء من ربك وثوابا، يعنى: كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار. وقرئ: فضل، أى. ذلك فضل.

[سورة الدخان (44) : الآيات 58 الى 59]
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)
فإنما يسرناه بلسانك فذلكة للسورة. ومعناها: ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه أى: سهلناه، حيث أنزلناه عربيا بلسانك بلغتك إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا فارتقب فانتظر ما يحل بهم إنهم مرتقبون ما يحل بك متربصون الدوائر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» «3» وعنه عليه السلام:» من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له» «4» .
__________
(1) . قوله «من الحور العين» لعله: من حور العين. (ع)
(2) . قال محمود: «إنما استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها ... الخ» قال أحمد: هذا الذي ذكره مبنى على أن الموتة بدل، على طريقة بنى تميم المجوز فيها البدل من غير الجنس. وأما على طريقة الحجازيين، فانتصبت الموتة استثناء منقطعا. وسر اللغة التميمية: بناء النفي المراد على وجه لا يبقى للسامع مطمعا في الإثبات، فيقولون: ما فيها أحد إلا حمار، على معنى: إن كان الحمار من الأحدين ففيها أحد، فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي. وعليه حمل الزمخشري قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله أى إن كان الله ممن في السماوات والأرض، ففي السماوات والأرض من يعلم الغيب، فإذا نفر السامع من ثبوت الأول تعدت النفرة إلى ثبوت الثاني، فجزمت بالنفي، والله أعلم.
(3) . أخرجه الترمذي أيضا وابن عدى والشعبي والبيهقي في الشعب من رواية عمر بن خثعم عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وقال: غريب، وعمر بضعف. قال محمد: إنه منكر الحديث. قلت: وهو بمعنى الذي قبله.
(4) . أخرجه الترمذي وأبو يعلى وابن السنى في اليوم والليلة» والبيهقي في الشعب وقال تفرد به أبو المقدام.
وهو ضعيف. وعن الحسن عن أبى هريرة وقال الترمذي: أبو المقدام ضعيف والحسن لم يسمع من أبى هريرة.

(4/283)


حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6)

سورة الجاثية
مكية [إلا آية 14 فمدنية] وآياتها 37 وقيل 36 آية [نزلت بعد الدخان] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4)
واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6)
حم إن جعلتها اسما مبتدأ مخبرا عنه ب تنزيل الكتاب لم يكن بد من حذف مضاف، تقديره: تنزيل حم تنزيل الكتاب. ومن الله صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديدا للحروف كان تنزيل الكتاب مبتدأ، والظرف خبرا إن في السماوات والأرض يجوز أن يكون على ظاهره، وأن يكون المعنى، إن في خلق السماوات لقوله وفي خلقكم فإن قلت: علام عطف وما يبث أعلى الخلق المضاف؟ أم على الضمير المضاف إليه؟ قلت: بل على المضاف، لأن المضاف إليه ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه: استقبحوا أن يقال: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو، وكذلك إن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد. قرئ: آيات لقوم يوقنون، بالنصب والرفع، على قولك: إن زيدا في الدار وعمرا في السوق. أو عمرو في السوق. وأما قوله آيات لقوم «1» يعقلون فمن العطف على عاملين، سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت هما: إن، وفى: أقيمت الواو مقامهما، فعملت «2» الجر في اختلاف الليل والنهار،
__________
(1) . قوله «وأما قوله: آيات لقوم» أى مع قوله واختلاف. (ع) [.....]
(2) . قوله «فعملت» أى: الواو. (ع)

(4/284)


ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10)

والنصب في آيات. وإذا رفعت فالعاملان: الابتداء وفي: عملت الرفع في آيات، والجر في واختلاف وقرأ ابن مسعود: وفي اختلاف الليل والنهار. فإن قلت: العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقام فيه. وقد أباه سيبويه، فما وجه تخريج الآية عنده؟
قلت: فيه وجهان عنده. أحدهما: أن يكون على إضمار في. والذي حسنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها. ويعضده قراءة ابن مسعود. والثاني: أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما قبله أو على التكرير، ورفعها بإضمار هي: وقرئ: واختلاف الليل والنهار بالرفع. وقرئ: آية. وكذلك وما يبث من دابة آية. وقرئ وتصريف الريح. والمعنى: إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح، علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بد لها من صانع، فآمنوا بالله وأقروا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان: ازدادوا إيمانا، وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا: عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم، وسمى المطر رزقا، لأنه سبب الرزق تلك إشارة إلى الآيات المتقدمة، أى: تلك الآيات آيات الله. ونتلوها في محل الحال، أى: متلوة عليك بالحق والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة. ونحوه: هذا بعلي شيخا وقرئ: يتلوها، بالياء بعد الله وآياته أى بعد آيات الله كقولهم: أعجبنى زيد وكرمه، يريدون: أعجبنى كرم زيد. ويجوز أن يراد: بعد حديث الله، وهو كتابه وقرآنه، كقوله تعالى، الله نزل أحسن الحديث. وقرئ يؤمنون بالتاء والياء.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 10]
ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10)
الأفاك: الكذاب، والأثيم: المتبالغ في اقتراف الآثام يصر يقبل على كفره ويقيم

(4/285)


عليه. وأصله من إصرار الحمار على العانة «1» وهو أن ينحى عليها صارا أذنيه مستكبرا عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق، مزدريا لها معجبا بما عنده. قيل: نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشترى من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن.
والآية عامة في كل ما كان مضارا لدين الله. فإن قلت: ما معنى ثم في قوله ثم يصر مستكبرا؟
قلت: كمعناه في قول القائل:
يرى غمرات الموت ثم يزورها «2»
وذلك أن غمرات الموت حقيقة، بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها. وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها. فأمر مستبعد، فمعنى ثم: الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها وعاينها، شيء يستبعد في العادات والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها: كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها كأن مخففة، والأصل كأنه لم يسمعها: والضمير ضمير الشأن، كما في قوله:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم «3»
ومحل الجملة النصب على الحال. أى: يصير مثل غير السامع وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها اتخذها أى اتخذ الآيات هزوا ولم يقل: اتخذه، للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم: خاض في الاستهزاء بجميع الآيات. ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، ويحتمل: وإذا علم من آياتنا شيئا
__________
(1) . قوله «من إصرار الحمار على العانة» جماعة حمر الوحش كما في الصحاح. وفيه أيضا: ضر الفرس أذنيه:
ضمها إلى رأسه، فإذا لم يوقعوا قالوا: أصر الفرس، بالألف. (ع)
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 515 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) .
فيوما توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
ويوما تريد مالنا مع مالها ... فان لم ننلها لم تنمنا ولم تتم
الباعث بن صريم اليشكري يذكر حال امرأته. ويوما: ظرف مقدم. ويروى: ويوم، أى: ورب يوم تقابلنا فيه ولا حاجة لتقدير الرابط على نصب اليوم. وقسم قساما وقسامة، كجمل جمالا. وظرف ظرافة. والمقسم:
المحسن. وكأن: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير المرأة، أو ضمير الشأن. وظبية: بالرفع على الأول خبر. وعلى الثاني: مبتدأ، وهو مع خبره خبر كان. وتعطو: صفة على الأول، وهو الخبر على الثاني. ويروى: ظبية، بالنصب، فهو الاسم وإن كان عملها مخففة قليلا. ويروى: مجرورا بالكاف، وإن: زائدة بين الجار والمجرور:
وتعطو: تأخذ وتتناول، ماثلة إلى وارق السلم. ومن النوادر: أورق فهو وارق. وأينع فهو يانع. والقياس:
مورق، أى: كثير الورق. ويروى: ناضر، بدل: وارق. والسلم: شجر العضاء، هذا شأنها في يوم. وفي يوم آخر تؤذينا فتريد مالنا منضما إلى مالها، فان نعطها لم تتركنا ننام من كثرة كلامها وإيذائها، ولم تنم هي أيضا.
واليوم هنا: مطلق الزمن.

(4/286)


هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11)

يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة: افترصه واتخذ آيات الله هزوا، وذلك نحو افتراص ابن الزبعرى قوله عز وجل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: خصمتك. ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء، لأنه في معنى الآية كقول أبى العتاهية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها «1»
حيث أراد عتبة. وقرئ: علم أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم، لشموله الأفاكين. والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام. قال:
أليس ورائي أن تراخت منيتى ... أدب مع الولدان أزحف كالنسر «2»
ومنه قوله عز وجل من ورائهم أى من قدامهم ما كسبوا من الأموال في رحلهم ومتاجرهم ولا ما اتخذوا من دون الله من الأوثان.

[سورة الجاثية (45) : آية 11]
هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11)
هذا إشارة إلى القرآن، يدل عليه قوله تعالى والذين كفروا بآيات ربهم لأن آيات ربهم هي القرآن، أى هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد كامل في الرجولية.
وأيما رجل. والرجز: أشد العذاب. وقرئ بجر أليم ورفعه.
__________
(1) .
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدى يكفيها
إنى لأيأس منها ثم يطمعنى ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها
لأبى العتاهية. وكنى بالشيء عن جارية من حظايا المهدى اسمها عتبة، ولذلك أعاد عليه الضمير مؤنثا. وقوله «من الدنيا» معناه: أنه لا يريد من الدنيا غيره. والقائم: أى بأمر الشرع. ويكفيها، أى: يكفيني تلك الحاجة.
أو يكفى نفسي ما تريد، والله: بقطع الهمزة، لأن أول المصراع محل ابتداء في الجملة، إنى لأيأس أى أقطع طمعي منها، ثم أطمع فيها ثانيا بسبب احتقارك للدنيا وما فيها. وهو مدح بنهاية الكرم. وروى أنه كتب ذلك في ثوب، وأدرجه في برنية وأهداها المهدى، فهم بدفعها إليه فقالت: أتدفعني إلى رجل متكسب بالتعشق، فأمر بملء البرنية مالا ودفعها إليه، فقال للخزان: إنما أمر لي بدنانير، فقال له: نعطيك دراهم ونراجعه. واختلفوا في ذلك سنة، فقالت: لو كان عاشقا لما فرق بينهما.
(2) . لعبيد، والهمزة للتقرير. وورائي هنا بمعنى: أمامى، وهو في الأصل: الجهة التي يواريها الشخص، لكن يكثر في الجهة التي خلفه، وتوسع فيه حتى استعمل في كل غيب. ومنه: المستقبل. وتراخت: تباعدت وتأخرت. وأدب: أمشى بهينة وتؤدة. وأن المصدرية مقدرة قبله، لأنه اسم ليس، وإن كان لفظه مرفوعا.
وأزحف: يحتمل أنه بدل، وأنه حال. وكالنسر: حال. أو معناه: كزحف النسر في الأرض، مع كونه أبيض وفيه نوع احتراس، لأنه يتوهم من قوله «مع الولدان» نقص عقله، فدل على أن المراد الضعف كالولدان.
والشيب كالنسر، لأنه أبيض، مع كونه رئيس الطيور وكلها تخشاه.

(4/287)


الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15)

[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 13]
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)
ولتبتغوا من فضله بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر. فإن قلت: ما معنى منه في قوله جميعا منه وما موقعها من الإعراب، قلت: هي واقعة موقع الحال، والمعنى: أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده، يعنى: أنه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف، تقديره: هي جميعا منه، وأن يكون وسخر لكم تأكيدا لقوله تعالى سخر لكم ثم ابتدئ قوله: ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه وأن يكون ما في الأرض مبتدأ، ومنه خبره. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: منة، وقرأ سلمة بن محارب: منه، على أن يكون منه فاعل سخر على الإسناد المجازى. أو على أنه خبر مبتدإ محذوف، أى: ذلك.
أو هو منه.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 15]
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15)
حذف المقول لأن الجواب دال عليه. والمعنى: قل لهم اغفروا يغفروا لا يرجون أيام الله لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه، من قولهم لوقائع العرب: أيام العرب. وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها. قيل: نزلت قبل آية القتال، ثم نسخ حكمها. وقيل: نزولها في عمر رضى الله عنه- وقد شتمه رجل من غفار فهم أن يبطش به.
وعن سعيد بن المسيب: كنا بين يدي عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقرأ قارئ هذه الآية، فقال عمر: ليجزي عمر بما صنع ليجزي تعليل الأمر بالمغفرة، أى: إنما أمروا بأن يغفروا لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. فإن قلت: قوله قوما ما وجه تنكيره وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟ قلت: هو مدح لهم وثناء عليهم، كأنه قيل. ليجزي أيما قوم وقوما «1» مخصوصين، لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم من الكفار، وعلى ما كانوا
__________
(1) . قوله «أيما قوم وقوما مخصوصين» لعله: أو قوما. (ع)

(4/288)


ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)

يجرعونهم من الغصص بما كانوا يكسبون من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ومعنى قوله عمر: ليجزي عمر بما صنع: ليجزي بصبره واحتماله. وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية: والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهى. وقرئ: ليجزي قوما، أى: الله عز وجل. وليجزي قوم. وليجزي قوما، على معنى: وليجزي الجزاء قوما.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 17]
ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17)
الكتاب التوراة والحكم الحكمة والفقه. أو فصل الخصومات بين الناس، لأن الملك كان فيهم والنبوة من الطيبات مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق وفضلناهم على العالمين حيث لم نؤت غيرهم مثل ما آتيناهم بينات آيات ومعجزات من الأمر من أمر الدين، فما وقع بينهم الخلاف في الدين إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم. وإنما اختلفوا لبغى حدث بينهم، أو لعداوة وحسد.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 19]
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19)
على شريعة على طريقة ومنهاج من الأمر من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والحجج، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال. ودينهم المبنى على هوى وبدعة، وهم رؤساء قريش حين قالوا. ارجع إلى دين آبائك. ولا توالهم، إنما يوالى الظالمين من هو ظالم مثلهم، وأما المتقون: فوليهم الله وهم موالوه. وما أبين الفصل بين الولايتين.

[سورة الجاثية (45) : آية 20]
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20)
هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب. كما جعل روحا وحياة وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن.
وقرئ: هذه بصائر، أى: هذه الآيات.

(4/289)


أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22)

[سورة الجاثية (45) : آية 21]
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)
أم
منقطعة. ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. والاجتراح: الاكتساب. ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله، أى: كاسبهم أن نجعلهم
أن نصيرهم. وهو من جعل المتعدي إلى مفعولين فأولهما الضمير، والثاني: الكاف، والجملة التي هي سواء محياهم ومماتهم
بدل من الكاف، لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم: كان سديدا، كما تقول: ظننت زبدا أبوه منطلق. ومن قرأ سواء
بالنصب: أجرى سواء مجرى مستويا، وارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية، وكان مفردا غير جملة. ومن قرأ:
ومماتهم بالنصب، جعل محياهم ومماتهم: ظرفين، كمقدم الحاج وخفوق النجم. أى: سواء في محياهم وفي مماتهم. والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء. حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتا، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعد لهم. وقيل: معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة، وإنما يفترقون في الممات، وقيل: سواء محياهم ومماتهم: كلام مستأنف على معنى: أن محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم: كل يموت على حسب ما عاش عليه. وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه كان يصلى ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكى ويردد إلى الصباح: ساء ما يحكمون.
وعن الفضيل: أنه بلغها فجعل يرددها ويبكى ويقول: يا فضيل، ليت شعري من أى الفريقين أنت.

[سورة الجاثية (45) : آية 22]
وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22)
ولتجزى معطوف على بالحق، لأن فيه معنى التعليل. أو على معلل محذوف تقديره:
خلق الله السماوات والأرض، ليدل به على قدرته ولتجزى كل نفس.

(4/290)


أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)

[سورة الجاثية (45) : آية 23]
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)
أى: هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.
وقرئ: آلهة هواه، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى: يعبد كل وقت واحدا منها وأضله الله على علم وتركه عن الهداية «1» واللطف وخذله على علم، عالما بأن ذلك لا يجدى عليه، وأنه ممن لا لطف له.
أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة «2» فمن يهديه من بعد إضلال الله وقرئ: غشاوة، بالحركات الثلاث. وغشوة، بالكسر والفتح.
وقرئ: تتذكرون

[سورة الجاثية (45) : آية 24]
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)
نموت ونحيا نموت نحن ويحيا أولادنا. أو يموت بعض ويحيا بعض. أو نكون مواتا نطفا في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك. أو يصيبنا الأمران: الموت والحياة، يريدون: الحياة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة. وقرئ: نحيا، بضم النون. وقرئ: إلا دهر يمر، وما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظن وتخمين: كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان.
ومنه قوله عليه السلام: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» «3» أى: فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 26]
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)
وقرئ: حجتهم بالنصب والرفع، على تقديم خبر كان وتأخيره. فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته وساقوه مساقها، فسميت حجة
__________
(1) . قوله «وتركه عن الهداية» تأويل الآية بذلك لتوافق مذهب المعتزلة: أنه لا يريد الشر ولا يفعله.
وعند أهل السنة: لا يقع في ملكه إلا ما يريد، والله خالق كل شيء، فالاضلال: خلقه الضلال في القلب. (ع)
(2) . قوله «المحصلة والمقربة» يعنى. للهداية. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة، واللفظ لمسلم.

(4/291)


ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)

على سبيل التهكم. أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لأنه في أسلوب قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع «1»
كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد: نفى أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت:
كيف وقع قوله قل الله يحييكم جوابا لقولهم ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين؟ قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت. ألزموا ما هو مقرون به:
من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعى الحق، وهو جمعهم إلى يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 31]
ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31)
عامل النصب في يوم تقوم يخسر، ويومئذ بدل من يوم تقوم جاثية باركة مستوفزة على الركب. وقرئ: جاذية. والجذو: أشد استيفازا من الجثو، لأن الجاذى هو الذي يجلس على أطراف أصابعه: وعن ابن عباس رضى الله عنهما: جاثية مجتمعة. وعن قتادة:
جماعات من الجثوة، وهي الجماعة، وجمعها: جثى. وفي الحديث «2» «من جثى جهنم» «3» وقرئ
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 60 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . هذا طرف من حديث الحرث بن الحرث الأشعرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا بدعوى الجاملية فانه من جثى جهنم ... الحديث» أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم، وأحمد وأبو يعلى «تنبيه» احتج به المصنف على أن جثى جمع جثوة: وهي الجماعة. وفي البخاري من حديث ابن عمر رضى الله عنهما رفعه «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها.
(3) . قوله «من جثى جهنم» في الصحاح «الجثوة» مثلثه: الحجارة المجموعة. وجثى الحرم، بالضم وبالكسر:
ما اجتمع فيه من حجارة الجمار. (ع)

(4/292)


وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35)

كل أمة على الابتداء: وكل أمة: على الإبدال من كل أمة إلى كتابها إلى صحائف أعمالها، فاكتفى باسم الجنس، كقوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه.
اليوم تجزون محمول على القول. فإن قلت: كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عز وجل؟ قلت: الإضافة تكون للملابسة، وقد لا بسهم ولا بسه، أما ملابسته إياهم، فلأن أعمالهم مثبتة فيه. وأما ملابسته إياه، فلأنه مالكه، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده ينطق عليكم يشهد عليكم بما عملتم بالحق من غير زيادة ولا نقصان إنا كنا نستنسخ الملائكة ما كنتم تعملون أى نستكتبهم أعمالكم في رحمته في جنته. وجواب أما محذوف تقديره: وأما الذين كفروا فيقال لهم أفلم تكن آياتي تتلى عليكم والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 33]
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (33)
وقرئ: والساعة، بالنصب عطفا على الوعد، وبالرفع عطفا على محل إن واسمها ما الساعة أى شيء الساعة؟ فإن قلت: ما معنى إن نظن إلا ظنا؟ قلت: أصله نظن ظنا.
ومعناه: إثبات الظن فحسب، فأدخل حرفا النفي والاستثناء، ليفاد إثبات الظن مع نفى ما سواء وزيد نفى ما سوى الظن توكيدا بقوله وما نحن بمستيقنين...... سيئات ما عملوا أى قبائح أعمالهم. أو عقوبات أعمالهم السيئات، كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 34 الى 35]
وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35)
ننساكم نترككم في العذاب كما تركتم عدة لقاء يومكم هذا وهي الطاعة، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسى غير المبالى به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال، كالشىء الذي يطرح نسيا منسيا. فإن قلت: فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم؟ قلت: كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى بل مكر الليل والنهار أى نسيتم لقاء الله في يومكم هذا ولقاء جزائه. وقرئ: لا يخرجون، يفتح الياء ولا هم يستعتبون ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أى يرضوه.

(4/293)


حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)

[سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)
فلله الحمد فاحمدوا الله لذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين، فان مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب، وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السماوات والأرض وحق مثله أن يكبر ويعظم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» «1» .

سورة الأحقاف
مكية [إلا الآيات 10 و 15 و 35 فمدنية] وآياتها 34 وقيل 35 آية [نزلت بعد الجاثية] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3)
إلا بالحق إلا خلقا ملتبسا بالحكمة والغرض الصحيح وبتقدير أجل مسمى ينتهى إليه وهو يوم القيامة والذين كفروا عما أنذروا من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية، أى: عن إنذارهم ذلك اليوم.

[سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب. [.....]

(4/294)


ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5)

بكتاب من قبل هذا أى من قبل هذا الكتاب وهو القرآن، يعنى: أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله أو أثارة من علم أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أى: على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ: أثرة، أى: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ: أثرة بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة. وأما الأثرة فالمرة من مصدر: أثر الحديث إذا رواه. وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر، كالخطبة: اسم ما يخطب به

[سورة الأحقاف (46) : آية 5]
ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5)
ومن أضل معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام، «1» حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس: كانوا لهم أعداء، وكانوا عليهم ضدا، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل من وهم لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد: كل معبود من دون الله من الجن
__________
(1) . قال محمود: «استفهام معناه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام ... الخ» قال أحمد: وفي قوله إلى يوم القيامة: نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم، فالوجه والله أعلم: أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشىء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم، فهو من وادى ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون.

(4/295)


وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8)

والإنس والأوثان، فغلب غير الأوثان عليها. وقرئ: ما لا يستجيب. وقرئ: يدعو غير الله من لا يستجيب، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 6 الى 7]
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7)
بينات جمع بينة: وهي الحجة والشاهد. أو واضحات مبينات. واللام في للحق مثلها في قوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا «1» . والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليهم بالكفر، وللمتلو بالحق لما جاءهم أى: بادوه بالجحود ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر. ومن عنادهم وظلمهم: أنهم سموه سحرا مبينا ظاهرا أمره في البطلان لا شبهة فيه.

[سورة الأحقاف (46) : آية 8]
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8)
أم يقولون افتراه إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم: إن محمدا افتراه. ومعنى الهمزة في أم: الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضى منه العجب، وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا. والضمير للحق، والمراد به الآيات قل إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه. فلا تقدرون
__________
(1) . قال محمود: «اللام في قوله تعالى للحق نحو اللام في قوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا ... الخ» قال أحمد: هذا الاضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها فانه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل بزيادته عليه مع ما تقدمه مما ينقص عنه منزلة المتنافيين، كالنفى والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات أشد وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر، فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه.

(4/296)


قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)

على كفه عن معاجلتى ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عنى، فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه.
يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صمم، ومثله فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من الله شيئا» «1» ثم قال هو أعلم بما تفيضون فيه أى تندفعون فيه من القدح في وحى الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى كفى به شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم وهو الغفور الرحيم موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم «2» في قوله تعالى فلا تملكون لي؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله، فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى الله بعقوبة الافتراء عليه.

[سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)
البدع، بمعنى: البديع، كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ: بدعا، بفتح الدال، أى: ذا بدع
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، ولما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال: يا بنى كعب بن لؤي يا بنى مرة بن كعب: يا بنى عبد شمس يا بنى عبد مناف، يا بنى هاشم، يا بنى عبد المطلب، إنى لا أملك لكم من الله شيئا- الحديث»
(2) . قال محمود: فان قلت: ما معنى إسناد الفعل إليهم ... الخ» قال أحمد: فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا. ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح، فان النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من الله تعالى، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك إلا من الوحي الحق لا غير، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء، وإنما يتم هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى، لأنه إذا أمر بطاعة من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال: إن الله حتم عليكم وجوب التوحيد، وأنا رسول الله إليكم. ولم يكن متعوقا: فانه محق في الأمر بالتوحيد، لأن العقل دل على وجوبه عندهم، وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من الله عز وجل. وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة: أن يكون إسناد الفعل لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم، فالمعنى إذا إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بى لا تدفعونها عنى، فمفهومه، وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وأمثاله كثيرة والله أعلم.

(4/297)


قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)

ويجوز أن يكون صفة على فعل، كقولهم: دين قيم، ولحم زيم «1» : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب، فقيل له: قل ما كنت بدعا من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات، فإن الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات الله عليه عن قول فرعون: فما بال القرون الأولى؟ بقوله: علمها عند ربى وما أدري لأنه لا علم لي بالغيب- ما يفعل الله بى وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقذر لي ولكم من قضاياه إن أتبع إلا ما يوحى إلي وعن الحسن: وما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي: قال له أصحابه- وقد ضجروا من أذى المشركين-: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم، أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها- يعنى في منامه- ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس: ما يفعل بى ولا بكم في الآخرة، وقال: هي منسوخة بقوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصلة «2» . وقرئ: ما يفعل، بفتح الياء، أى: يفعل الله عز وجل. فإن قلت: إن يفعل مثبت غير منفي، فكان وجه الكلام: ما يفعل بى وبكم. قلت: أجل، ولكن النفي في ما أدرى لما كان مشتملا عليه لتناوله ما وما في حيزه: صح ذلك وحسن.
ألا ترى إلى قوله أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر كيف دخلت الياء في حيز أن وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. وما في ما يفعل يجوز أن تكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. وقرئ: يوحى، أى الله عز وجل.

[سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)
__________
(1) . قوله «ولحم زيم» في الصحاح «اللحم الزيم» المتفرق ليس بمجتمع في مكان فيبدن. وفيه أيضا: بدن الرجل يبدن، إذا ضخم وسمن. (ع)
(2) . قال محمود: «أجود ما ذكر فيه حمله على الدراية المفصلة، يريد بذلك أن تفصيل ما يصير إليه من خير ويصيرون إليه من شر ... الخ» قال أحمد: «بنى على أن المجرور معطوف على مثله، وأنهما جميعا في صلة موصول واحد، ولو قيل: إن المجرور الثاني من صلة موصول محذوف معطوف على مثله، حتى يكون التقدير: وما أدرى ما يفعل بى ولا ما يفعل بكم: لكانت لا واقعة بمكانة غير مفتقرة إلى تأويل، وحذف الموصول المعطوف وتفاصيله كثيرة. ومنه
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
يريد حسان رضى الله عنه: فمن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يمدحه سواء.

(4/298)


جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين.
ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى إن الله لا يهدي القوم الظالمين والشاهد من بنى إسرائيل:
عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب. وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام «1» . أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني «2» عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أى رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبى وقاص ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام «3» ، وفيه نزل وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله «4» الضمير للقرآن، أى: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى وإنه لفي زبر الأولين، إن هذا لفي الصحف الأولى، كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك، يعنى كونه من عند الله. فإن قلت:
أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة «5» النظم. قلت: الواو الأولى عاطفة
__________
(1) . أخرجه البخاري من رواية حميد عن أنس، وأتم منه» .
(2) . قوله «بهتوني» أى: رموني بما ليس فى. (ع)
(3) . متفق عليه.
(4) . عند البخاري وشك في إدراجها. وروى الطبري من رواية محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال قال عبد الله بن سلام «فى نزلت هذه الآية. ثم روى عن الشعبي أنه أنكر ذلك لكون السورة مكية. كذا أخرجه ابن أبى شيبة عن الشعبي.
(5) . قال محمود: «إن قلت: أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف عليه من جهة النظم ... الخ» قال أحمد:
إنما لم يوجه المعطوف إلى جهة واحدة، لأن التفصيل قد يكون عطف مجموع مفردات على مجموع مفردات كل منهما والآية من هذا النمط، ومثلها قوله تعالى وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور وقوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الآية، وقد تقدم تقرير ذلك في الآيتين فجدد به عهدا.

(4/299)


وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14)

لكفرتم على فعل الشرط، كما عطفته ثم في قوله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد، وأما الواو في وشهد شاهد
فقد عطفت جملة قوله. شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم: على جملة قوله كان من عند الله وكفرتم به ونظيره قولك: إن أحسنت إليك وأسأت، وأقبلت عليك وأعرضت عنى، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما، والمعنى: قل أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بنى إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله فآمن مسببا عن الشهادة على مثله، لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه، وأنه من جنس الوحى وليس من كلام البشر، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 الى 14]
وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14)
للذين آمنوا لأجلهم وهو كلام كفار مكة، قالوا: عامة من يتبع محمدا السقاط، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود، فلو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل:
لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار: قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل: إن أمة لعمر أسلمت، فكان عمر يضر بها حتى يفتر ثم يقول لولا أنى فترت لزدتك ضربا، وكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. فإن قلت: لا بد من عامل في الظرف «1» في قوله وإذ لم يهتدوا به ومن متعلق لقوله فسيقولون وغير
__________
(1) . قال محمود: «لا بد من عامل الظرف وغير مستقيم أن يعمل فيه ... الخ» قال أحمد: إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف ألا تنافى دلالتى المضي والاستقبال، فهذا غير مانع، فان الاستقبال هاهنا إنما خرج مخرج الاشعار بدوام ما وقع ومضى، لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين وغير ذلك، فمعنى الآية إذا: وقالوا إذ لم يهتدوا به هذا إفك قديم وداموا على ذلك وأصروا عليه، فعبر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال، كما قال إبراهيم إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقد كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر عن وقوعها، ثم دوامها فعبر بصيغة الاستقبال، وهذا طريق الجمع بين قوله سيهدين وقوله في الأخرى فهو يهدين ولولا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرته هو الوجه، ولكن الفاء المسببة دلت بدخولها على محذوف هو السبب، وقطعت الفعل عن الظرف المتقدم، فوجب تقدير المحذوف عاملا فيه لينتظم بتقديره عاملا أمران: مصادفة الظرف للعامل والفعل المعلل لعلته، فتعين ما ذكره الزمخشري لأجل الفاء لا لتنافى الدلالتين.
والله أعلم.

(4/300)


مستقيم أن يكون فسيقولون هو العامل في الظرف، لتدافع دلالتى المضي والاستقبال، فما وجه هذا الكلام؟ قلت: العامل في إذ محذوف، لدلالة الكلام عليه، كما حذف من قوله فلما ذهبوا به وقولهم: حينئذ الآن، وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، فسيقولون هذا إفك قديم، فهذا المضمر صح به الكلام، حيث انتصب به الظرف وكان قوله فسيقولون مسببا عنه كما صح بإضمار أن قوله حتى يقول الرسول لمصادفة حتى مجرورها، والمضارع ناصبه. وقولهم إفك قديم كقولهم: أساطير الأولين كتاب موسى مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبرا مقدما عليه، وهو ناصب إماما على الحال، كقولك: في الدار زيد قائما.
وقرئ: ومن قبله كتاب موسى، على: وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى إماما: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه وهذا القرآن كتاب مصدق لكتاب موسى. أو لما بين يديه وتقدمه من جميع الكتب. وقرئ:
مصدق لما بين يديه. ولسانا عربيا حال من ضمير الكتاب في مصدق، والعامل فيه مصدق ويجوز أن ينتصب حالا عن كتاب «1» لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة. وجوز أن يكون مفعولا لمصدق، أى: يصدق ذا لسان عربى وهو الرسول. وقرئ: لينذر بالياء والتاء، ولينذر: من نذر ينذر إذا حذر وبشرى في محل النصب معطوف على محل لينذر، لأنه مفعول له.
__________
(1) . أجاز محمود في نصبه أن يكون حالا عن كتاب لتخصصه بالصفة ... الخ. قال أحمد: وجهان حسنان أعززهما بثالث: وهو النصب على الاختصاص، وهذه الوجوه في قوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا، والله أعلم.

(4/301)


ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16]
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)
قرئ: حسنا، بضم الحاء وسكون السين. وبضمهما. وبفتحهما. وإحسانا. وكرها، بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة، كالفقر والفقر. وانتصابه على الحال: أى: ذات كره.
أو على أنه صفة للمصدر، أى: حملا ذا كره وحمله وفصاله ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ: وفصله.
والفصل والفصال: كالفطم والفطام، بناء ومعنى. فإن قلت: المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهى به ويتم:
سمى فصالا، كما سمى المدة بالأمد من قال:
كل حى مستكمل مدة العمر ... ومود إذا انتهى أمده «1»
وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وقرئ: حتى إذا استوى وبلغ أشده. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة: ثلاث وثلاثون سنة، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد، وغايته الأربعين. وقيل: لم يبعث نبى قط إلا بعد أربعين سنة.
والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكرى النعمة عليه وعلى والديه، لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضى: هو الصلوات الخمس.
فإن قلت: ما معنى في في قوله وأصلح لي في ذريتي؟ قلت: معناه: أن يجعل ذريته موقعا للصلاح «2» ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتى وأوقعه فيهم ونحوه:
يجرح في عراقيبها نصلى «3»
من المسلمين من المخلصين. وقرئ: يتقبل، ويتجاوز، بفتح الياء، والضمير فيهما لله عز
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 277 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
(2) . قال محمود: «فان قلت: ما معنى في هاهنا، وأجاب بأن المراد جعل ذريته ... الخ» قال أحمد: ومثله قوله تعالى إلا المودة في القربى عدولا عن قوله: إلا مودة القربى. أو المودة للقربى، والله أعلم.
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 578 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/302)


والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (18)

وجل. وقرئا بالنون. فإن قلت: ما معنى قوله في أصحاب الجنة؟ قلت: هو نحو قولك:
أكرمنى الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمنى في جملة من أكرم منهم، ونظمنى في عدادهم، ومحله النصب على الحال، على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم وعد الصدق مصدر مؤكد، لأن قوله: يتقبل، ويتجاوز: وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. وقيل:
نزلت في أبى بكر رضى الله عنه وفي أبيه أبى قحافة وأمه أم الخير وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم. وقيل: لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبى بكر.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 18]
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين (18)
والذي قال لوالديه مبتدأ خبره: أولئك الذين حق عليهم القول. والمراد بالذي قال:
الجنس القائل ذلك القول، ولذلك وقع الخبر مجموعا. وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وعن قتادة: هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه. وقيل:
نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر «1» قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام، فأفف بهما وقال: ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو، وهما من أجداده حتى أسألهما
__________
(1) . قال محمود: «زعم بعضهم أن المعنى بالآية عبد الرحمن بن أبى بكر ... الخ» قال أحمد: ونحن نختار أن المراد الجنس لا عبد الرحمن بن أبى بكر، ولكنا لا نختار الرد على قائل ذلك بهذا الوجه، فان له أن يقول: أراد عبد الرحمن وأمته، ومثل ذلك قول الله تعالى حكاية عن العزيز يخاطب زليخا إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم فخاطبها وخاطب أمتها، والمقصودة هي، وقد عاد إلى خطابها خصوصا بقوله واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ولكن وجه الرد على من زعم أن المراد عبد الرحمن: ما ذكره الزمخشري ثانيا فقال قال الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. ونقل أن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد فقال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم فقال مروان أيها الناس: إن هذا هو الذي قال الله فيه والذي قال لوالديه ... الآية فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله» قال أحمد: وفي هذه الآية رد على من زعم أن المفرد الجنسي لا يعمم، لأنه لا يعامل معاملة الجمع لا في الصفة ولا في الخبر، فلا يجوز أن تقول: الدينار الصفر خير من الدرهم البيض، وهذا مردود بأن خبر الذي الواقع جنسا جاء على نعت خبر المجموع كما رأيت، والله أعلم.

(4/303)


ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19)

عما يقول محمد، ويشهدوا لبطلانه أن المراد بالذي قال: جنس القائلين ذلك، وأن قوله الذين حق عليهم القول: هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رضى الله عنها إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن:
لقد جئتم بها هرقلية: تبايعون لأبنائكم، فقال مروان: يا أيها الناس، هو الذي قال الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته «1» ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله «2» . وقرئ: أف، بالكسر والفتح بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال: حس، علم منه أنه متوجع، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غير كما. وقرئ: أتعدانني: بنونين. وأ تعداني: بأحدهما. وأ تعداني:
بالإدغام. وقد قرأ بعضهم: أتعدانني بفتح النون، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء، ففتح الأولى تحريا للتخفيف، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما أن أخرج أن ابعث وأخرج من الأرض. وقرئ: أخرج وقد خلت القرون من قبلي يعنى: ولم يبعث منهم أحد يستغيثان الله يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله ويلك دعاء عليه بالثبور: والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك في أمم نحو قوله في أصحاب الجنة وقرئ: أن، بالفتح، على معنى: آمن بأن وعد الله حق.

[سورة الأحقاف (46) : آية 19]
ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19)
ولكل من الجنسين المذكورين درجات مما عملوا أى منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما «3» . فإن قلت: كيف قيل: درجات، وقد جاء:
الجنة درجات والنار دركات؟ قلت: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب، لاشتمال كل على الفريقين وليوفيهم وقرئ: بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قيل:
__________
(1) . أخرجه النسائي، واللفظ له وابن أبى خيثمة والحاكم وابن مردويه من رواية محمد بن زياد- وقال «لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبى بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبى بكر: سنة هر قل وقيصر قال مروان:
هذا الذي أنزل- فذكر الآية فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب والله. ما هو به. فذكره. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه إلى آخره. ولفظ ابن أبى خيثمة «إن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم أن يبايع الناس ليزيد بن معاوية. فقال عبد الرحمن لقد جئتم بها هر قلبة- إلى آخر لفظ المصنف.
قلت: أصله في البخاري من رواية يوسف بن ماهك عن عائشة دون ما في آخره.
(2) . قوله «فأنت فضض من لعنة الله» في الصحاح كل شيء تفرق فهو فضض. وفي الحديث: أنت فضض من لعنة الله، يعنى: ما انفض من نطفة الرجل وتردد في صلبه. (ع)
(3) . قوله «ومن أجل ما عملوا منهما» لعله: أو من أجل. (ع)

(4/304)


ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)

وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم: قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.

[سورة الأحقاف (46) : آية 20]
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20)
ناصب الظرف هو القول المضمر قبل أذهبتم وعرضهم على النار: تعذيبهم بها، من قولهم: عرض بنو فلان على السيف «1» إذا قتلوا به. ومنه قوله تعالى النار يعرضون عليها ويجوز أن يراد: عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس رضى الله عنه: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها أذهبتم طيباتكم أى: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم، وقد ذهبتم به وأخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر رضى الله عنه:
لو شئت لدعوت بصلائق وصناب «2» وكراكر وأسنمة، ولكنى رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا «3» . وعنه: لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا، ولكنى أستبقى طيباتى: «4» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا، فقال: أأنتم اليوم خير أم يوم
__________
(1) . قال محمود: «عرضهم على النار إما من قولهم عرض بنو فلان على السيف ... الخ» قال أحمد: وإن كان قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبا، فليس قوله: يعرض الذين كفروا على النار مقلوبا، لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له، والناقة هي المدركة، فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة. وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدكرة إدراك الحيوانات بل إدراك أولى العلم، فالأمر في الآية على ظاهره، كقولك: عرضت الأسرى على الأمير، والله أعلم.
(2) . قوله «بصلائق وصناب» في الصحاح: الصلائق: الخبز الرقاق. والصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب. والكركرة: رحى زور البعير: والزور: أعلى الصدر اه أخذا من مواضع. (ع)
(3) . أخرجه ابن المبارك في الزهد أخبرنا جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول «قدم على أمير المؤمنين عمر وقد أهل البصرة مع أبى موسى الأشعرى قال لو كنا ندخل وأنه كل يوم خبز بيت. فذكر الحديث. وفيه «أما والله ما أجهل من كراكر وأسنمة وصلا وصناب وقال جرير: الصلا هو الشواء والصناب الخردل، والصلائق الخبز الرقاق. ولكن سمعت الله عير أقواما بأمر فعلوه. فقال: أذهبتم طيباتكم الآية. وأخرجه أبو عبيدة في الغريب. وابن سعد وأحمد في الزهد. وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق جرير به.
(4) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال ذكر لنا عمر قال: فذكره.

(4/305)


واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23)

يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ خير. قال. بل أنتم اليوم خير «1» وقرئ: أذهبتم بهمزة الاستفهام. وآ أذهبتم بألف بين همزتين، الهون. والهوان: وقرئ عذاب الهوان، وقرئ يفسقون بضم السين وكسرها.

[سورة الأحقاف (46) : آية 21]
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21)
الأحقاف: جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، من احقوقف الشيء إذا اعوج، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار من بين يديه من قبله ومن خلفه ومن بعده. وقرئ: من بين يديه ومن بعده. والمعنى: أن هودا عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم العذاب، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضى الله عنه: يعنى الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه. ومعنى ومن خلفه على هذا التفسير ومن بعد إنذاره، هذا إذا علقت، وقد خلت النذر بقوله: أنذر قومه، ولك أن تجعل قوله تعالى وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه اعتراضا بين أنذر قومه وبين ألا تعبدوا ويكون المعنى: واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم.

[سورة الأحقاف (46) : آية 22]
قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22)
الإفك: الصرف. يقال أفكه عن رأيه عن آلهتنا عن عبادتها بما تعدنا من معاجلة العذاب على الشرك إن كنت صادقا في وعدك.

[سورة الأحقاف (46) : آية 23]
قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23)
فإن قلت: من أين طابق قوله تعالى إنما العلم عند الله جوابا لقولهم فأتنا بما تعدنا؟
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سعد عن قتادة قال: ذكر لنا. فذكره. ومن طريقه الشعبي. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أهل الصفة من طريق الحسن قال «حسب أضعاف المسلمين» فذكر نحوه مطولا وفي الترمذي من طريق محمد بن كعب القرظي: حدثني من سمع على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: بينا نحن جلوس في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة. ثم قال: كيف بكم ... الحديث نحوه» .

(4/306)


فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25)

قلت: من حيث إن قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى بل هو ما استعجلتم به فقال لهم: لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصوابا، إنما علم ذلك عند الله، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى:
وأبلغكم ما أرسلت به وقرئ بالتخفيف: أن الذي هو شأنى وشرطي: أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرضكم لسخط الله بجهدي، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 24 الى 25]
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25)
فلما رأوه في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهما قد وضح أمره بقوله عارضا إما تمييزا وإما حالا. وهذا الوجه أعرب وأفصح. والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. ومثله: الحبى والعنان، من حبا وعن: إذا عرض. وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفا للنكرة بل هو القول قبله مضمر، والقائل: هود عليه السلام، والدليل عليه قراءة من قرأ: قال هود، بل هو. وقرئ: قل بل ما استعجلتم به هي ريح، أى قال الله تعالى: قل تدمر كل شيء تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبر عن الكثرة بالكلية. وقرئ يدمر كل شيء من دمر دمارا إذا هلك لا ترى الخطاب للرائى من كان. وقرئ: لا يرى، على البناء للمفعول بالياء والتاء، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضى الله عنه: لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنهم. ومنه بيت ذى الرمة:
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع»
وليست بالقوية. وقرئ: لا ترى إلا مسكنهم، ولا يرى إلا مسكنهم. وروى أن الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجو حتى ترى كأنها جرادة. وقيل:
أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار. وروى:
أول ما عرفوا به أنه عذاب: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 12 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/307)


ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (26)

الأبواب وصرعتهم، وأما الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفت الريح عنهم، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر. وروى أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا مايلين على الجلود وتلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال: اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت «1» به، وإذا رأى مخيلة: قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فيقال له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إنى أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: «هذا عارض ممطرنا» . فإن قلت: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت: الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل: يعضد ذلك ويقويه،

[سورة الأحقاف (46) : آية 26]
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن (26)
إن نافية، أى: فيما ما مكنا كم فيه، إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما فيه مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع. ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في «مهما» :
«ماماز» لبشاعة التكرير: قلبوا الألف هاء. ولقد أغث «2» أبو الطيب في قوله:
لعمرك ماما بان منك لضارب «3»
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب «4»
__________
(1) . أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى والبخاري في الأدب المفرد، كلهم من رواية عطاء عن عائشة، ولفظ مسلم قريب من لفظ الكتاب.
(2) . قوله «ولقد أغث أبو الطيب» في الصحاح «أغث» : أى ردؤ وفسد، تقول: أغث الرجل في منطقه. (ع) [.....]
(3) .
لعمرك ماما بان منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب
لأبى الطيب. يقول: وحياتك ليس الذي ظهر منك للضارب يعنى السنان، أفتل: أى أسرع قتلا من الذي ظهر منك للعائب، يعنى: اللسان، بل هما سواء في الحدة. ويجوز أنه استعار القتل للضرب تصريحا.
(4) . قال أحمد: بيت المتنبي ليس كما أنشده، وإنما هو كما يروى:
لعمرك إن ما بان منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب
ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله:
هو ابن رسول الله وابن صفيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي، ولو أنى أبو الطيب عوض «ما» ب «إن» لجاء البيت:
يرى أن إن ما بان منك لضارب
وهذا التكرار أثقل من تكرار «ما» بلا مراء. وإنما فنده الزمخشري وألزمه استعمال «إن» عوض «ما» لاعتقاده أن البيت كما أنشده:
لعمرك ما مابان منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب
ولو عوض «إن» عوض «ما» كما أصلحه الزمخشري: لزم دخول الباء في خبر «ما» وإنما تدخل الباء في خبر «ما» الحجازية العاملة، و «إن» لا تعمل عمل «ما» على الصحيح، فلا يستقيم دخول الباء في خبرها، فما عدل المتنبي عن ذلك إلا لتعذره عليه من كل وجه. على أنى لا أبرئ المتنبي من التعجرف، فانه كان مغرى به، مغرما بالغريب من النظم. ونقل الزمخشري في الآية وجها آخر: وهو جعلها صلة مثلها في قوله:
يرجى المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
قال: ويكون معناه على هذا مكناهم في مثل ما مكناكم ... الخ» قلت: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وقوله مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم.

(4/308)


وقد جعلت إن صلة، مثلها فيما أنشده الأخفش:
يرجى المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب «1»
وتؤول بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه: والوجه هو الأول، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن هم أحسن أثاثا ورءيا، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار من شيء أى من شيء من الإغناء، وهو القليل منه. فإن قلت بم انتصب إذ كانوا يجحدون؟ قلت: بقوله تعالى فما أغنى. فإن قلت: لم جرى مجرى التعليل؟ قلت: لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذا أساء، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته، فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، إلا أن «إذ، وحيث، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك.
__________
(1) .
فان أمسك فان العيش حلو ... إلى كأنه عسل مشوب
يرجي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وما يدرى الحريص علام يلقى ... شراشره أيخطئ أم يصيب
لجابر بن رالان الطائي. وقيل: لا ياس بن الأرت. والشراشر: جمع شرشر، وهي أطراف الشيء المشرشرة، أى: المفرقة المنشورة، وتطلق على الجسد وعلى الثقل ويكنى بها عن النفس كما هنا. وقيل: هي حبال الصيد.
يقول: إن أبخل فالعيش حلو عنده كحلاوة العسل الممزوج بالماء لتزول حرارته وضمن «حلو» معنى محبوب، فعداء بإلى. ثم قال: ولكن لا خير في الإمساك، فان المرء يرتجى الأمر الغائب عنه. وتحول أهوال الموت أو شدائد الدهر بينه وبين أدنى شيء منه. وإن: زائدة بعد ما الموصولة حملا على ما النافية، وما يدرى الذي وجه نفسه بكليتها للدنيا عواقب أمره، أريح أم خسر، وعلى أنها حبال الصيد ففي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه حال من أخذ في أسباب الأمر جاهلا عاقبته: بحال من نصب الحبال للصيد، فقد وقد.

(4/309)


ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32)

[سورة الأحقاف (46) : آية 27]
ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27)
ما حولكم يا أهل مكة من القرى من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما. والمراد:
أهل القرى. ولذلك قال لعلهم يرجعون

[سورة الأحقاف (46) : آية 28]
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28)
القربان: ما تقرب به إلى الله تعالى، أى: اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله، حيث قالوا:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين «1» المحذوف «2» ، والثاني:
آلهة. وقربانا: حال ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدلا منه لفساد المعنى. وقرئ قربانا بضم الراء. والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم بل ضلوا عنهم أى غابوا عن نصرتهم وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أى: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. وقرئ:
إفكهم: والأفك والإفك: كالحذر والحذر. وقرئ: وذلك إفكهم، أى: وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق. وقرئ: أفكهم على التشديد للمبالغة. وآفكهم:
جعلهم آفكين. وآفكهم، أى: قولهم الآفك ذو الإفك، كما تقول قول كاذب، وذلك إفك مما كانوا يفترون، أى: بعض ما كانوا يفترون من الإفك.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32)
__________
(1) . قال محمود: «أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الموصول محذوف ... الخ» قال أحمد: لم يتبين وجه فساد المعنى على هذا الاعراب. ونحن نبينه فنقول: لو كان قربانا مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم: لصار المعنى إلى أنهم وبخوا على ترك اتخاذ الله متقربا به، لأن السيد إذا ونخ عبده وقال: اتخذت فلانا سيدا دوني، فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره، وليس هذا المقصد، فان الله تعالى يتقرب إليه ولا يتقرب به لغيره، فإنما وقع التوبيخ على نسبة الالهية إلى غير الله تعالى، فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير.
(2) . قوله «اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف» هو الذي أبرزه في قوله: أى اتخذوهم. (ع)

(4/310)


صرفنا إليك نفرا أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك. وقرئ: صرفنا بالتشديد، لأنهم جماعة. والنفر: دون العشرة. ويجمع أنفارا. وفي حديث أبى ذر رضى الله عنه: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا «1» فلما حضروه الضمير للقرآن. أى: فلما كان بمسمع منهم. أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعضده قراءة من قرأ فلما قضي أى أتم قراءته وفرع منها قالوا قال بعضهم لبعض أنصتوا اسكتوا مستمعين. يقال: أنصت لكذا واستنصت له. روى أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلا لنبإ حدث، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى: منهم زوبعة، فضربوا حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادى نخلة، فوافقوا «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلى أو في صلاة الفجر، فاستمعوا لقراءته، وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف «3» . وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر، فأنبأه الله باستماعهم «4» . وقيل: بل أمر الله رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال: إنى أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني: قالها ثلاثا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: لم يحضره ليلة الجن أحد غيرى، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت
__________
(1) . هذا طرف من قصة إسلام أبى ذر رضى الله عنه من رواية عبد الله بن الصامت عن أبى ذر ذكره مطولا.
وفيه: فبينا أنا في ليلة قمراء ختموانية وقد ضرب الله على أهل مكة فما يطوف غير امرأتين، فأتيا على فذكر القصة.
وفيه ثم انطلقتا يولولان. ويقولان لو كان هاهنا أحد من أنصارنا» أخرجه مسلم مطولا.
(2) . قوله «فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعله: فوافوا. (ع)
(3) . متفق عليه بمعناه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس دون أوله. ودون قوله «وكانوا تسعة نفر أحدهم زوبعة» ودون قوله «في جوف الليل يصلى» ودون قوله «من نينوى» ودون قوله «عند منصرفه إلى آخره» وأما زوبعة فأخرجه الحاكم من رواية ذر عن ابن مسعود قال «هبطوا- يعنى الجن- على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة. فلما سمعوه قالوا أنصتوا. وكانوا تسعة أحدهم زوبعة. فأنزل الله وإذ صرفنا إليك- الآية وقوله «نينوى» أخرجه الطبري من رواية قتادة في هذه الآية قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى الحديث» .
(4) . متفق عليه من رواية سعيد بن جبير، وهو في الذي قبله.

(4/311)


على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئا؟ قلت: نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض «1» ، فقال: أولئك جن نصيبين» «2» وكانوا اثنى عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم اقرأ باسم ربك. فإن قلت: كيف قالوا من بعد موسى؟ قلت: عن عطاء رضى الله عنه: أنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام، فلذلك قالت: من بعد موسى. فإن قلت: لم بعض في قوله من ذنوبكم؟ قلت: لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم «3» ونحوها.
ونحوه قوله عز وجل أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم. فإن قلت:
هل للجن ثواب كما للإنس؟ قلت: اختلف فيه فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، لقوله تعالى ويجركم من عذاب أليم وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله. والصحيح أنهم في حكم بنى آدم، لأنهم مكلفون مثلهم فليس بمعجز في الأرض أى: لا ينجى منه مهرب، ولا يسبق قضاءه سابق. ونحوه قوله تعالى وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا.
__________
(1) . قوله «مستثفري ثياب بيض» في القاموس «الاستئفار» : أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا وإدخال الكلب ذنبه بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه اه (ع)
(2) . لم أجده بتمامه في سياق واحد. بل وجدته مفرقا. فروى الطبري من رواية قتادة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال «إنى أمرت أن أقرأ على الجن. فأيكم يتبعني فأطرقوا ثلاثا إلا ابن مسعود قاتبعه حتى دخل شعبا يقال له شعب الحجون قال: وخط على ابن مسعود خطا. فذكر أى قوله حتى خفت عليه- وزاد فيه: فقلت ما هذا اللغط؟ فقال: اختصموا إلى في جبل قضيت بينهم بالحق» وروى الحاكم والطبراني والدارقطني من طريق أبى عثمان ابن شيبة الخزاعي وكان رجلا من أهل الشام أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيرى. قال:
فانطلقت حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرنى أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام. فافتتح القرآن- الحديث» ولم يذكر قوله «رجالا سودا إلى آخره» وروى الطبري من رواية عمرو بن غيلان الثقفي أنه سأل ابن مسعود فذكر القصة. وفيها فقال «رأيت شيئا؟ قلت: نعم. قد رأيت رجالا سودا مستشعرين بثياب بيض. فقال: أولئك جن نصيبين سألونى المتاع- فذكر الحديث» وليس فيه عددهم ولا اسم السورة. وروى ابن أبى حاتم من رواية عكرمة في هذه الآية قال «كانوا من جن نصيبين جاءوا من جزيرة الموصل. وكانوا اثنى عشر ألفا» فهذه الأحاديث من مجموعها ما ذكر إلا اسم السورة.
(3) . قال محمود: «إنما بعض المغفرة لأن من الذنوب مالا يغفره الايمان كذنوب المظالم» قال أحمد: ليس ما أطلقه من أن الايمان لا يغفر المظالم بصحيح، لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة وسفك الدماء المحقونة ثم حسن إسلامه: جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إشكال. ويقال: إنه ما وعد المغفرة الكافر على تقدير الايمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة، وهذا منه، فان لم يكن لاطراده بذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاءه في مغفرة جملة الذنوب. وقد ورد في حق المؤمنين مثله كثيرا، والله أعلم.

(4/312)


أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35)

[سورة الأحقاف (46) : آية 33]
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33)
بقادر محله الرفع، لأنه خبر أن، يدل عليه قراءة عبد الله: قادر، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على أن وما في حيزها. وقال الزجاج: لو قلت: ما ظننت أن زيدا بقائم: جاز، كأنه قيل: أليس الله بقادر. ألا ترى إلى وقوع بلى مقررة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره، لا لرؤيتهم. وقرئ: يقدر. ويقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه.
ومنه أفعيينا بالخلق الأول.

[سورة الأحقاف (46) : آية 34]
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34)
أليس هذا بالحق محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو ناصب الظرف. وهذا إشارة إلى العذاب، بدليل قوله تعالى فذوقوا العذاب والمعنى: التهكم بهم، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم وما نحن بمعذبين.

[سورة الأحقاف (46) : آية 35]
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35)
أولوا العزم أولوا الجد والثبات والصبر. ومن يجوز أن تكون للتبعيض، ويراد بأولى العزم: بعض الأنبياء. قيل: هم نوح، صبر على أذى قومه: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه: إنا لمدركون، قال: كلا إن معى ربى سيهدين، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله تعالى في آدم ولم نجد له عزما وفي يونس ولا تكن كصاحب الحوت ويجوز أن تكون للبيان، فيكون أولو العزم صفة الرسل كلهم ولا تستعجل لكفار قريش بالعذاب، أى: لا تدع لهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر، وأنهم مستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها ساعة من نهار بلاغ

(4/313)


الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2)

أى هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة. أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه. ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ: بلغ فهل يهلك: وقرئ: بلاغا، أى بلغوا بلاغا: وقرئ: يهلك، بفتح الياء وكسر اللام وفتحها، من هلك وهلك. ونهلك بالنون إلا القوم الفاسقون.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا» «1» .

سورة محمد صلى الله عليه وسلم
مدنية عند مجاهد. وقال الضحاك وسعيد بن جبير: مكية. وهي سورة القتال وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان وثلاثون [نزلت بعد الحديد] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2)
وصدوا. وأعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام: أو صدوا غيرهم عنه. قال ابن عباس رضى الله عنه: هم المطعمون يوم بدر. وعن مقاتل: كانوا اثنى عشر رجلا من أهل الشرك يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر. وقيل: هم أهل الكتاب الذين كفروا وصدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإسلام. وقيل: هو عام في كل من كفر وصد أضل أعمالهم أبطلها وأحبطها. وحقيقته: جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/314)


ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3)

ويثيب عليها، كالضالة من الإبل «1» التي هي بمضيعة لا رب لها يحفظها ويعتنى بأمرها. أو جعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم ومغلوبة بها، كما يضل الماء في اللبن. وأعمالهم: ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم: من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار.
وقيل: أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله: بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله والذين آمنوا قال مقاتل: هم ناس من قريش. وقيل: من الأنصار. وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هو عام. وقوله وآمنوا بما نزل على محمد اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما يجب به الإيمان تعظيما لشأنه وتعليما، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به. وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله وهو الحق من ربهم وقيل: معناها إن دين محمد هو الحق، إذ لا يرد عليه النسخ، وهو ناسخ لغيره. وقرئ:
نزل وأنزل، على البناء للمفعول. ونزل على البناء للفاعل، ونزل بالتخفيف كفر عنهم سيئاتهم ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم وأصلح بالهم أى حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد.

[سورة محمد (47) : آية 3]
ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3)
ذلك مبتدأ وما بعده خبره، أى: ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني: كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق. ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدإ محذوف، أى. الأمر كما ذكر بهذا السبب، فيكون محل الجار والمجرور منصوبا على هذا، ومرفوعا على الأول والباطل ما لا ينتفع به. وعن مجاهد: الباطل الشيطان: وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير كذلك مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم والضمير راجع إلى الناس، أو إلى المذكورين من الفريقين، على معنى: أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس
__________
(1) . قال محمود: «معناه جعلها كالضالة من الإبل ... الخ» قال أحمد: هذا المعنى الثاني حسن متمكن مليء بمقابلة قوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم قال كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم وتحرير المقابلة بينهما أن الكفار ضلت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي، حتى صار صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم، ومقابله في المؤمنين ستر الله لأعمالهم السيئة في كنف أعمالهم الصالحة من الايمان والطاعة، حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح أعمالهم، وإلى هذا التمثيل الحسن في عدم تقبل صالح الكفار والتجاوز عن سيئ أعمال المؤمنين وقعت الاشارة بقوله تعالى كذلك يضرب الله للناس أمثالهم والله أعلم. [.....]

(4/315)


فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6)

ليعتبروا بهم. فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6]
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6)
لقيتم من اللقاء وهو الحرب فضرب الرقاب أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل، لأن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، وذلك أنهم كانوا يقولون:
ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته، وضرب ما فيه عيناه «1» إذا قتله، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله فبما كسبت أيديكم على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه «2» من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. أثخنتموهم أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من الشيء الثخين: وهو الغليظ. أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض فشدوا الوثاق فأسروهم.
والوثاق بالفتح والكسر: - اسم ما يوثق به منا وفداء منصوبان بفعليهما مضمرين، أى: فإما تمنون منا، وإما تفدون فداء. والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يفادوهم. فإن قلت: كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت: أما عند أبى حنيفة وأصحابه فأحد أمرين: إما قتلهم وإما استرقاقهم: أيهما رأى الإمام، ويقولون في المن والفداء المذكورين في الآية: نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ. وعن مجاهد: ليس اليوم من ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يراد بالمن: أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا.
__________
(1) . قوله «وضرب ما فيه عيناه» لعله كناية عن رأسه أو عن وجهه. (ع)
(2) . قوله «لما فيه من تصوير القتل» لعله لما فيها. (ع)

(4/316)


أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمة. وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المشركين، فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبى حنيفة، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين، وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين، وهو: القتل، والاسترقاق «1» ، والفداء بأسارى المسلمين، والمن. ويحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من على أبى عروة الحجبي «2» ، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي، «3» وفادى رجل برجلين من المشركين «4» : وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأى. وقرئ: فدى، بالقصر مع فتح الفاء. أوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع. قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا «5»
وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرها فكأنها تحملها وتستقل بها، فإذا انقضت فكأنها وضعتها. وقيل. أوزارها آثامها، يعنى: حتى يترك أهل الحرب. هم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. فإن قلت: حتى بم تعلقت؟ قلت: لا تخلو إما أن تتعلق بالضرب والشد: أو بالمن والفداء، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضى الله عنه: أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين. وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل:
إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام. وعند أبى حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد، فالمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء، فالمعنى: أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها
__________
(1) . قوله «وهو القتل والاسترقاق» لعله: وهي ... (ع)
(2) . هو مذكور في المغازي لابن إسحاق وغيره «أنه أسر يوم بدر. فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء ثم أسره يوم أحد فقتله صبرا» ورواه الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عمه عن سعيد بن المسيب.
(3) . قوله «على ثمامة بن أثال الحنفي» هو في حديث أبى هريرة عند الشيخين مطولا
(4) . قوله «وفادى رجلا برجلين من المشركين» : هذا طرف من حديث أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من حديث عمران، ولكن فيه «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسروا رجلا من بنى عقيل، وكانت ثقيف أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففداه النبي صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف» وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي من هذا الوجه مثل لفظ الكتاب. ثم قال: أظنه من الكاتب، والصحيح الأول.
(5) . للأعشى، واستعار الأوزار لآلات الحرب على طريق التصريحية، ويحتمل أنه شبيه الحرب بمطايا ذات أوزار، أى: أحمال ثقال على طريق المكنية، وإثبات الأوزار تخييل، ورماحا: بدل.

(4/317)


ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)

إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل ذلك أى الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك لانتصر منهم لانتقم منهم ببعض أسباب الهلك: من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق. أو موت جارف، ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين: أن يجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب العظيم، والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقرئ: قتلوا، بالتخفيف والتشديد: وقتلوا. وقاتلوا. وقرئ:
فلن يضل أعمالهم، وتضل أعمالهم: على البناء للمفعول. ويضل أعمالهم من ضل. وعن قتادة:
أنها نزلت في يوم أحد عرفها لهم أعلمها لهم وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة. قال مجاهد: يهتدى أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها. وعن مقاتل: إن الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشى بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله. أو طيبها لهم، من العرف: وهو طيب الرائحة. وفي كلام بعضهم:
عزف كنوح القمارى «1» ، وعرف كفوح القمارى. أو حددها لهم، فجنة كل أحد محدودة مفرزة عن غيرها، من: عرف الدار وارفها. والعرف والارف، الحدود.

[سورة محمد (47) : آية 7]
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)
إن تنصروا دين الله ورسوله ينصركم على عدوكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام.

[سورة محمد (47) : الآيات 8 الى 9]
والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)
والذين كفروا يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بما يفسره فتعسا لهم كأنه قال:
أتعس الذين كفروا. فإن قلت: علام عطف قوله وأضل أعمالهم؟ قلت: على الفعل الذي نصب تعسا، لأن المعنى فقال: تعسا لهم، أو فقضى تعسا لهم. وتعسا له: نقيض «لعاله» قال الأعشى:
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا «2»
__________
(1) . قوله «عزف كنوح القمارى» العزف: الغناء. والقمارى: جمع قمرى، اسم طير. والعود القمارى:
منسوب إلى موضع ببلاد الهند. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتى تراه عليها يبتغى الشيما
كلفت مجهولها نفسي وشايعنى ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن يقال لعا
للأعشى، أى: ورب مفازة يخاف الجواب: أى كثير السير، من جبت الأرض: قطعتها بالسير. والدلجة من دلج وأدلج، وزن افتعل. وأدلج وزن أكرم: إذا سار ليلا. والدلجة: ساعة من الليل، أى: يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا، حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها، كلفت نفسي سير المجهول منها، وعاونني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر، كأنه ماء، مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل، ثم قال: مع ناقة صاحبة قوة. ويطلق اللوث على الضعف أيضا، فهو من الأضداد. عفرناة: غليظة.
ويقال للعاثر: لعا لك: دعاء له بالانتعاش. وتعسا له: دعاء عليه بالسقوط، يريد أنها لا تعثر، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.

(4/318)


أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11)

يريد: فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردي في النار كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم.

[سورة محمد (47) : آية 10]
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10)
دمره: أهلكه، ودمر عليه: أهلك عليه ما يختص به. والمعنى: دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها الضمير للعاقبة المذكورة أو للهلكة، لأن التدمير يدل عليها. أو للسنة، لقوله عز وعلا سنة الله في الذين خلوا.

[سورة محمد (47) : آية 11]
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11)
مولى الذين آمنوا وليهم وناصرهم. وفي قراءة ابن مسعود: ولى الذين آمنوا. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الشعب يوم أحد وقد فشت فيهم الجراحات، وفيه نزلت، فنادى المشركون: اعل هبل: فنادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فنادى المشركون:
يوم بيوم والحرب سجال، إن لنا عزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون «1» . فإن قلت: قوله تعالى وردوا إلى الله مولاهم الحق مناقض لهذه الآية. قلت:
لا تناقض بينهما، لأن الله مولى عباده جميعا على معنى أنه ربهم ومالك أمرهم وأما على معنى الناصر فهو مول المؤمنين خاصة.
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية. يعنى بأن الله مولى الذين آمنوا نزلت يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات. الخ» سواء. وله شاهد في البخاري من حديث البراء بن عازب.

(4/319)


إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12) وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15)

[سورة محمد (47) : آية 12]
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12)
يتمتعون ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياما قلائل ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح مثوى لهم منزل ومقام.

[سورة محمد (47) : آية 13]
وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13)
وقرئ: وكائن، بوزن كاعن «1» . وأراد بالقرية أهلها، ولذلك قال أهلكناهم كأنه قال: وكم من قوم هم أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم. ومعنى أخرجوك: كانوا سبب خروجك. فإن قلت: كيف قال فلا ناصر لهم؟ وإنما هو أمر قد مضى. قلت:
مجراه مجرى الحال المحكية، كأنه قال أهلكناهم فهم لا ينصرون.

[سورة محمد (47) : آية 14]
أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14)
من زين له: هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله، ومن كان على بينة من ربه أى على حجة من عنده وبرهان: وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: أمن كان على بينة من ربه. وقال تعالى سوء عمله واتبعوا للحمل على لفظ من ومعناه.

[سورة محمد (47) : آية 15]
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15)
__________
(1) . قوله «وكائن بوزن كاعن» في الصحاح «كائن» : معناها معنى كم في الخبر والاستفهام، وفيها لغتان:
كأين. مثال كعين وكائن: مثال كاعن اه. (ع)

(4/320)


فإن قلت: ما معنى قوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار كمن هو خالد في النار؟
قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار «1» ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار، أى كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت: فلم عرى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت:
تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجرى فيها تلك الأنهار، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم. ونظيره قول القائل:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا «2»
هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أزن به «3» فكأنه قال له: نعم مثلي يفرح بمرزاة الكرام وبأن يستبدل منهم ذودا يقل طائله «4» ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار، ومثل الجنة: صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبره: كمن هو خالد. وقوله: فيها أنهار، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها. ألا ترى إلى صحة قولك: التي فيها أنهار. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها «5»
__________
(1) . قال محمود: «هو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي ... الخ» قال أحمد: كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية، فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها، لا يعوزها إلا للتنبيه على أن في الكلام محذوفا لا بد من تقديره لأنه لا معادلة بين الجنة وبين الخالدين في النار إلا على تقدير مثل ساكن فيه يقوم وزن الكلام ويتعادل كفتاه. ومن هذا النمط قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله فانه لا بد من تقدير محذوف مع الأول أو الثاني، ليتعادل القسمان، وبهذا الذي قدرته في الآية ينطبق آخر الكلام على أوله، فيكون المقصود تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالسيئة والراكب للهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار على الصفات المتقابلة المذكورة في الجهتين. وهو من وادى تنظير الشيء بنفسه، باعتبار حالتين إحداهما أوضح في البيان من الأخرى، فان المتمسك بالسنة هو المنعم في الجنة الموصوفة. والمتبع للهوى: هو المعذب في النار المنعوتة، ولكن أنكر التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا، وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا، وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الجزاء ثانيا.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة 264 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قوله «ما أزن» أى اتهم. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(4) . قوله «يقل طائله» لأن الشصائص قليلات اللبن. والنبل: الكبار من الإبل، والصغار منها أيضا، فهو من الأضداد. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . قوله «هي فيها» لعله: أى هي فيها. (ع)

(4/321)


ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)

أنهار، وكأن قائلا قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار، وأن يكون في موضع الحال، أى: مستقرة فيها أنهار، وفي قراءة على رضى الله عنه: أمثال الجنة، أى: ما صفاتها كصفات النار. وقرئ: أسن. يقال: أسن الماء وأجن: إذا تغير طعمه وريحه. وأنشد ليزيد بن معاوية:
لقد سقتني رضابا غير ذى أسن ... كالمسك فت على ماء العناقيد «1»
من لبن لم يتغير طعمه كما تتغير ألبان الدنيا، فلا يعود قارصا ولا حاذرا «2» ، ولا ما يكره من الطعوم لذة تأنيث لذ، وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر. وقرئ بالحركات الثلاث، فالجر على صفه الخمر، والرفع على صفة الأنهار، والنصب على العلة، أى: لأجل لذة الشاربين.
والمعنى: ما هو إلا التلذذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع، ولا آفة من آفات الخمر مصفى لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره ماء حميما قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم، وانمازت فروة رءوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم.

[سورة محمد (47) : آية 16]
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16)
هم المنافقون: كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له إلا تهاونا منهم، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة، ماذا قال الساعة؟
على جهة الاستهزاء. وقيل: كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء. وقيل:
قالوه لعبد الله بن مسعود. وعن ابن عباس: أنا منهم، وقد سميت فيمن سئل آنفا وقرئ:
أنفا على فعل، نصب على الظرف «3» قال الزجاج: هو من استأنفت الشيء: إذا ابتدأته.
والمعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا.

[سورة محمد (47) : آية 17]
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)
زادهم الله هدى بالتوفيق وآتاهم تقواهم أعانهم عليها. أو أتاهم جزاء تقواهم.
__________
(1) . ليزيد بن معاوية. وترضب الرجل ريق المرأة: إذا ترشفه. وأسن أسنا كتعب تعبا: تغير طعمه أو ريحه أو لونه. لطول مدته. يقول: سقتني ريقها الذي لم يتغير. وماء العناقيد: كناية عن الخمر، واستعاره لريقها على التصريحية، وناولتني المسك حال كونه تفتت على ريقها الشبيه بالخمر، أى: كأنه كذلك لطيبه. ويروى: كالمسك وهي الظاهرة، والتشبيه من قبيل تشبيه المفرد بالمركب، لأنه لا يريد تشبيه الرضاب بالمسك فقط.
(2) . قوله «ولا حاذرا ولا ما يكره» لعله محذوف، وأصله: حازر بالزاي، وفي الصحاح: الحاذر: اللبن الحامض
(3) . قوله «وقرئ أنفا على فعل نصب على الظرف» لعله: بالضم. (ع)

(4/322)


فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19)

وعن السدى: بين لهم ما يتقون. وقرئ: وأعطاهم. وقيل: الضمير في زادهم، لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين.

[سورة محمد (47) : آية 18]
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18)
أن تأتيهم بدل اشتمال من الساعة، نحو: أن تطؤهم من قوله رجال مؤمنون ونساء مؤمنات وقرئ: أن تأتهم، بالوقف على الساعة واستئناف الشرط، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك: فإن قلت: فما جزاء الشرط؟ قلت: قوله فأنى لهم. ومعناه: إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم، أى تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة، يعنى لا تنفعهم الذكرى حينئذ، كقوله تعالى يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. فإن قلت: بم يتصل قوله فقد جاء أشراطها على القراءتين؟ قلت: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول، كقولك: إن أكرمنى زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه. والأشراط: العلامات. قال أبو الأسود:
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو «1»
وقيل: مبعث محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم منها، وانشقاق القمر، والدخان.
وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلة الكرام، وكثرة اللثام. وقرئ: بغتة بوزن جربة «2» ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها، وهي مروية عن أبى عمرو، وما أخوفنى أن تكون غلطة من الراوي على أبى عمرو، وأن يكون الصواب:
بغتة، بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن فيما تقدم.

[سورة محمد (47) : آية 19]
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19)
لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، وعلى التواضع وهضم النفس:
__________
(1) . لأبى الأسود. يقول: إن كنت جزمت بقطع المودة بيننا فلا تكتميه، لأن علامات ابتدائه شرعت في الظهور.
(2) . قوله «بغتة بوزن جربة وهي غريبة» في القاموس «الجربة» محركة مشددة: جماعة الحمراء. وفي الصحاح «الجربة» بالفتح: بغتة، وتشديد الباء: العانة من الحمير. رفيه أيضا «العانة» القطيع من حمر الوحش. (ع)

(4/323)


ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21)

باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك. والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور. أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار. ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى، وأن يستغفر ويسترحم. وعن سفيان بن عيينة: أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به فقال فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك فأمر بالعمل بعد العلم وقال: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله سابقوا إلى مغفرة من ربكم وقال: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة
ثم قال بعد فاحذروهم وقال: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ثم أمر بالعمل بعد.

[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 21]
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21)
كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون لولا نزلت سورة في معنى الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا «1» وشق عليهم، وسقطوا في أيديهم، كقوله تعالى فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس. محكمة مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال. وعن قتادة: كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وقيل لها «محكمة» لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وقيل: هي المحدثة، لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة.
وفي قراءة عبد الله: سورة محدثة. وقرئ: فإذا نزلت سورة وذكر فيها القتال. على البناء للفاعل ونصب القتال الذين في قلوبهم مرض هم الذين كانوا على حرف غير ثابتى الأقدام نظر المغشي عليه من الموت أى تشخص أبصارهم جبنا وهلعا وغيظا، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت فأولى لهم وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل: من الولي وهو القرب. ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه طاعة وقول معروف كلام مستأنف، أى: طاعة وقول معروف خير لهم. وقيل: هي حكاية قولهم، أى قالوا طاعة وقول معروف،
__________
(1) . قوله «كاعوا» في الصحاح: كاع الكلب يكوع، أى: مشى على كوعه في الرمل من شدة الحر. (ع)

(4/324)


فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)

بمعنى: أمرنا طاعة وقول معروف. وتشهد له قراءة أبى: يقولون طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر أى جد. والعزم والجد لأصحاب الأمر. وإنما يسندان إلى الأمر إسنادا مجازيا. ومنه قوله تعالى إن ذلك لمن عزم الأمور. فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد. أو: فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم.

[سورة محمد (47) : الآيات 22 الى 23]
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23)
عسيت وعسيتم: لغة أهل الحجاز. وأما بنو تميم فيقولون: عسى أن تفعل، وعسى أن تفعلوا، ولا يلحقون الضمائر: وقرأ نافع بكسر السين وهو غريب، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في التوكيد. فإن قلت: ما معنى: فهل عسيتم ... أن تفسدوا في الأرض؟ قلت: معناه: هل يتوقع منكم الإفساد؟ فإن قلت: فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وما يكون؟ قلت: معناه إنكم- لما عهد منكم- أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان: يا هؤلاء، ما ترون؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا؟ وقيل: إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض: بالتغاور والتناهب، وقطع الأرحام:
بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات؟ وقرئ: وليتم «1» . وفي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه: توليتم، أى: إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم؟ وقرئ: وتقطعوا، وتقطعوا، من التقطيع والتقطع أولئك إشارة إلى المذكورين لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه وخذلهم، حتى صموا عن استماع الموعظة، وعموا عن إبصار طريق الهدى. ويجوز أن يريد بالذين آمنوا: المؤمنين الخلص الثابتين، وأنهم يتشوفون إلى الوحى إذا أبطأ عليهم، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد:
رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها.

[سورة محمد (47) : آية 24]
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)
__________
(1) . قوله «وقرئ وليتم» لعله بالبناء للمجهول، وكذا توليتم في قراءة على. (ع)

(4/325)


إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28)

أفلا يتدبرون القرآن ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة، حتى لا يجسروا على المعاصي، ثم قال أم على قلوب أقفالها وأم بمعنى بل وهمزة التقرير، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر. وعن قتادة: إذا والله يجدوا في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبروه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا. فإن قلت: لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟ قلت: أما التنكير ففيه وجهان: أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك.
أو يراد على بعض القلوب: وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال، فلأنه يريد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح. وقرئ: إقفالها، على المصدر.

[سورة محمد (47) : الآيات 25 الى 28]
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28)
الشيطان سول لهم جملة من مبتدإ وخبر وقعت خبرا لإن، كقولك: إن زيدا عمرو مر به. سول لهم: سهل لهم ركوب العظائم، من السول وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا «1» وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأمانى. وقرئ وأملى لهم، يعنى: إن الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم، كقوله تعالى أنما نملي لهم وقرئ: وأملى لهم على البناء للمفعول، أى: أمهلوا ومد في عمرهم. وقرئ: سول لهم «2» ، ومعناه: كيد الشيطان زين لهم على تقدير حذف المضاف. فإن قلت: من هؤلاء؟ قلت: اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين لهم الهدى، وهو نعته في التوراة. وقيل: هم المنافقون.
الذين قالوا القائلون: اليهود. والذين كرهوا ما نزل الله: المنافقون. وقيل عكسه، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير: لئن أخرجتم لنخرجن معكم. وقيل بعض الأمر: التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بلا إله إلا الله، أو ترك القتال معه. وقيل: هو قول أحد الفريقين
__________
(1) . قال محمود: «هو مشتق من السول وهو الاسترخاء، أى: سهل لهم ركوب العظائم. قال: وقد أشقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا، قلت: لأن السؤل مهموز، وسول معتل.
(2) . قوله «وقرئ سول لهم» لعله بالبناء للمجهول. (ع)

(4/326)


أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30)

للمشركين: سنطيعكم في التظافر على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد معه. ومعنى في بعض الأمر في بعض ما تأمرون به. أو في بعض الأمر الذي يهمكم والله يعلم إسرارهم وقرئ: إسرارهم على المصدر، قالوا ذلك سرا فيما بينهم، فأفشاه الله عليهم. فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ؟ وقرئ: توفاهم، ويحتمل أن يكون ماضيا، ومضارعا قد حذفت إحدى تاءيه، كقوله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية الله إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره ذلك إشارة إلى التوفي الموصوف ما أسخط الله من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورضوانه الإيمان برسول الله.

[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 30]
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30)
أضغانهم أحقادهم وإخراجها: إبرازها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم، وكانت صدورهم تغلى حنقا عليهم لأريناكهم لعرفناكهم ودللناك عليهم. حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك بسيماهم بعلامتهم: وهو أن يسمعهم الله تعالى بعلامة تعلمون بها. وعن أنس رضى الله عنه: ما خفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين: كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب: هذا منافق «1» . فإن قلت: أى فرق بين اللامين في فلعرفتهم ولتعرفنهم؟ قلت: الأولى هي الداخلة في جواب «لو» كالتي في لأريناكهم كررت في المعطوف، وأما اللام في ولتعرفنهم فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف في لحن القول في نحوه وأسلوبه. وعن ابن عباس: هو قولهم: مالنا إن أطعنا من الثواب؟ ولا يقولون: ما علينا إن عصينا من العقاب. وقيل: اللحن: أن تلحن بكلامك، أى: تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية. قال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب «2»
__________
(1) . ذكره الشعبي بغير سند، ولم أجده.
(2) . اللحن: العدول بالكلام عن الظاهر، كالتعريض والتورية، والمخطئ لاحن، لعدوله عن الصواب أى: لكي تفهموا دون غيركم، فان اللحن يعرفه أرباب الألباب دون غيرهم. والألباب: العقول اه.

(4/327)


ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (31) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32) ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33)

وقيل للمخطئ: لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب.

[سورة محمد (47) : آية 31]
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31)
أخباركم ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم، ليعلم حسنها من قبيحها، لأن الخبر على حسب المخبر عنه: إن حسنا فحسن، وإن قبيحا فقبيح، وقرأ يعقوب: ونبلو، بسكون الواو على معنى: ونحن نبلو أخباركم. وقرئ: وليبلونكم ويعلم، ويبلو بالياء. وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبلنا، فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا.

[سورة محمد (47) : آية 32]
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32)
وسيحبط أعمالهم التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب، لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة، وهم قريظة والنضير. أو سيحبط أعمالهم التي عملوها، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول، أى: سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم، بل يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم. وقيل هم رؤساء قريش، والمطعمون يوم بدر.

[سورة محمد (47) : آية 33]
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33)
ولا تبطلوا أعمالكم أى لا تحبطوا الطاعات بالكبائر «1» ، كقوله تعالى لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي إلى أن قال أن تحبط أعمالكم وعن أبى العالية: كان أصحاب
__________
(1) . قال محمود: «معناه: لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ... الخ» قال أحمد: قاعدة أهل السنة مؤسسة على أن الكبائر ما دون الشرك لا تحبط حسنة مكتوبة، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما نعم يقولون: إن الحسنات يذهبن السيئات كما وعد به الكريم جل وعلا. وقاعدة المعتزلة موضوعة على أن كبيرة واحدة تحبط ما تقدمها من الحسنات ولو كانت مثل زيد البحر، لأنهم يقطعون بخلود الفاسق في النار، وسلب سمة الايمان عنه، ومتى خلد في النار لم تنفع طاعاته ولا إيمانه، فعلى هذا بنى الزمخشري كلامه وجلب الآثار التي في بعضها موافقة في الظاهر لمعتقده، ولا كلام عليها جملة من غير تفصيل، لأن القاعدة المتقدمة ثابتة قطعا بأدلة اقتضت ذلك يحاشى كل معتبر في الحل والعقد عن مخالفتها، فمهما ورد من ظاهر يخالفها وجب رده إليها بوجه من التأويل، فان كان نصا لا يقبل التأويل فالطريق في ذلك تحسين الظن بالمنقول عنه، والتوريك بالغلط على النقلة، على أن الأثر المذكور عن ابن عمر هو أولى بأن يدل ظاهره لأهل السنة فتأمله، وأما محمل الآية عند أهل الحق فعلى أن النهى عن الإخلال بشرط من شروط العمل وبركن يقتضى بطلانه من أصله، لا أنه يبطل بعد استجماعه شرائط الصحة والقبول. [.....]

(4/328)


إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35)

رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك «1» عمل، حتى نزلت ولا تبطلوا أعمالكم فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن حذيفة:
فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر: كنا ترى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا، حتى نزل ولا تبطلوا أعمالكم فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات «2» والفواحش، حتى نزل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها «3» . وعن قتادة رحمه الله: رحم الله عبدا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيئ. وقيل: لا تبطلوها بمعصيتهما. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا تبطلوها بالرياء والسمعة، وعنه: بالشك والنفاق: وقيل:
بالعجب، فإن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وقيل: ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى.

[سورة محمد (47) : آية 34]
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34)
ثم ماتوا وهم كفار قيل، هم أصحاب القليب، والظاهر العموم.

[سورة محمد (47) : آية 35]
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35)
فلا تهنوا ولا تضعفوا ولا تذلوا للعدو ولا تدعوا إلى السلم وقرئ: السلم وهما المسالمة وأنتم الأعلون أى الأغلبون الأقهرون والله معكم أى ناصركم، وعن قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة. وقرئ: ولا تدعوا، من ادعى القوم وتداعوا: إذا دعوا. نحو قولك: ارتموا الصيد وتراموه. وتدعوا: مجزوم لدخوله
__________
(1) . أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب قدر الصلاة له. قال حدثنا أبو قدامة حدثنا وكيع حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس بهذا وزاد: فنزلت ولا تبطلوا أعمالكم وفي الكتاب حديث مرفوع. أخرجه إسحاق وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود. قال أبو نعيم: تفرد به يحيى بن يمان عن سفيان اه.
ويحيى ضعيف. وفيه عن عمر أيضا أخرجه العقيلي. وابن عدى من رواية حجاج بن نصير عن منذر بن زياد وهما ضعيفان.
(2) . قوله «فقلنا الكبائر الموجبات» عبارة الخازن: الكبائر والفواحش. (ع)
(3) . أخرجه ابن مردويه. من طريق عبد الله بن المبارك عن بكير بن معروف. عن مقاتل بن حيان. عن نافع. عن ابن عمر بهذا. وأخرجه محمد بن نصر أيضا. من هذا الوجه.

(4/329)


إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم (36) إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)

في حكم النهى. أو منصوب لإضمار إن. ونحو قوله تعالى وأنتم الأعلون: قوله تعالى إنك أنت الأعلى. ولن يتركم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم، أو حربته، وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله، من الوتر وهو الفرد فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله» «1» أى أفرد عنهما قتلا ونهبا.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38]
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36) إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)
يؤتكم أجوركم ثواب إيمانكم وتقواكم ولا يسئلكم أى ولا يسألكم جميعها، إنما يقتصر منكم على ربع العشر، ثم قال إن يسئلكموها فيحفكم أى يجهدكم ويطلبه كله، والإحفاء:
المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح.
وأحفى شاربه: إذا استأصله تبخلوا ويخرج أضغانكم أى تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» ، وتضيق صدوركم لذلك، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم، والضمير في يخرج لله عز وجل، أى يضغنكم بطلب أموالكم. أو للبخل، لأنه سبب الاضطغان.
وقرئ: نخرج. بالنون. ويخرج، بالياء والتاء مع فتحهما ورفع أضغانكم هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون أى أنتم الذين تدعون. أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل: تدعون لتنفقوا في سبيل الله قيل:
هي النفقة في الغزو. وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به، ثم قال ومن يبخل بالصدقة وأداء الفريضة. فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما يبخل عن نفسه يقال بخلت عليه وعنه، وكذلك
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر.
(2) . قوله «أى تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم» في الصحاح: «الضغن» الحقد. وتضاغن القوم واضطغنوا: انطووا على الأحقاد. (ع)

(4/330)


إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3)

ضننت عليه وعنه. ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو اليه لحاجته إليه، فهو الغنى الذي تستحيل عليه الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب وإن تتولوا معطوف على:
وإن تؤمنوا وتتقوا يستبدل قوما غيركم يخفق قوما سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما، كقوله تعالى ويأت بخلق جديد وقيل: هم الملائكة.
وقيل: الأنصار. وعن ابن عباس: كندة والنخع. وعن الحسن: العجم وعن عكرمة: فارس والروم. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه وقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» «1» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم كان حقا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة» «2»

سورة الفتح
مدنية [نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية] وآياتها 29 [نزلت بعد الجمعة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3)
هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم. والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة وله طرق عنه وعن غيره.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي، بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

(4/331)


بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخير «1» ما لا يخفى «2» .
فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة- من حيث إنه جهاد للعدو- سببا للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. وقيل: هو فتح الحديبية، ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم.
وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح. فإن قلت: كيف يكون فتحا وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبينا. وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه:
ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت وصد هدينا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، «3» ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» «4» وعن الشعبي:
نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب:
أن بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدى محله، وأطعموا نخل خيبر، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة. وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى
__________
(1) . قوله «علو شأن المخبر» لعله: المخبر به. وعبارة النسفي: المخبر عنه. (ع)
(2) . قال محمود: «جاء الاخبار بالفتح على لفظ الماضي وإن لم يقع بعد، لأن المراد فتح مكة، والآية نزلت حين رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل عام الفتح، وذلك على عادة رب العزة في أخباره، لأنها كانت محققة نزلت منزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى» قال أحمد: ومن الفخامة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.
(3) . قوله «عن بلادهم بالراح» في الصحاح «الراح» : الخمر، والراح: جمع راحة وهي الكف. والراح:
الارتياح اه والظاهر هنا الثالث. (ع)
(4) . هكذا هو في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه ومن طريق أبى الأسود عن عروة أيضا نحوه مطولا

(4/332)


هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما (7)

شرب جميع من كان معه، وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها «1» بعد- وقيل: هو فتح خيبر، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الله له بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل: معناه قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت: من الفتاحة وهي الحكومة، وكذا عن قتادة ما تقدم من ذنبك وما تأخر يريد: جميع ما فرط منك. وعن مقاتل: ما تقدم في الجاهلية وما بعدها. وقيل:
ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد نصرا عزيزا فيه عز ومنعة- أو وصف بصفة المنصور إسنادا مجازيا أو عزيزا صاحبه.

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما (7)
السكينة السكون كالبهيتة للبهتان، أى: أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب
__________
(1) . متفق عليه. من حديث البراء مطولا باللفظ الأول. ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع. قال «قدمنا المدينة ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها. فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنب الركية فاما دعا وإما بصق، قال فجاشت. فسقينا واستقينا. وعند البخاري في الحديث الطويل عن المسور بن مخرمة ومروان: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء. فلم يلبث الناس أن سرحوه. وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري ولا مخالفة في هذا لحديث البراء. لما رواه الواقدي من طريق عطاء بن أبى مروان. عن أبيه. حدثني أربعة عشر رجلا من أسلم صحابة. أن ناجية بن الأعجم. قال «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين شكا إليه من قلة الماء فدفع إلى سهما من كنانته وأمر بدلو من مائها. فمضمض فاه منه ثم مجه في الدلو. وقال لي: انزل الماء فصبه في البئر وفتحت الماء بالسهم. ففعلت. فو الذي بعثه بالحق. ما كدت أخرج حتى كاد يغمرنى» . وروى أيضا من حديث قتادة. قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. فنزل بالسهم وتوضأ. ومج فاه منه، ثم رده في البئر: جاشت بالرواء.

(4/333)


إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)

الصلح والأمن، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة غب القتال، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع ليزدادوا إيمانا بالشرائع مقرونا إلى إيمانهم وهو التوحيد. عن ابن عباس رضى الله عنهما:
أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة، ثم الحج، ثم الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم. أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عز وجل ولرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم. وقيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه. وقع السوء: عبارة عن رداءة الشيء وفساده، والصدق عن جودته وصلاحه، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال: فعل صدق، وفي المسخوط الفاسد منها: فعل سوء. ومعنى ظن السوء ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا عليهم دائرة السوء أى: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم- والسوء: الهلاك والدمار. وقرئ: دائرة السوء «1» بالفتح، أى.
الدائرة التي يذمونها ويسخطونها، فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق. فإن قلت: هل من فرق بين السوء والسوء؟ قلت: هما كالكرة والكره والضعف والضعف، من ساء، إلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء. وأما السوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير. يقال: أراد به السوء وأراد به الخير، ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموما، وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم، فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة، فصح أن يقع عليه اسم السوء، كقوله عز وعلا إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة.

[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 9]
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)
شاهدا تشهد على أمتك، كقوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا. لتؤمنوا الضمير للناس وتعزروه ويقووه بالنصرة وتوقروه ويعظموه وتسبحوه من التسبيح. أو من
__________
(1) . قوله «وقرئ دائرة السوء بالفتح، يفيد أن القراءة المشهورة. دائرة السوء. بالضم. (ع)

(4/334)


إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10) سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11)

السبحة، والضمائر لله عز وجل والمراد بتعزير الله: تعزير دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن فرق الضمائر فقد أبعد. وقرئ: لتؤمنوا وتعزروه «1» وتوقروه وتسبحوه، بالتاء، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته. وقرئ: وتعزروه بضم الزاى وكسرها.
وتعزروه بضم التاء والتخفيف، وتعززوه بالزاءين. وتوقروه من أوقره بمعنى وقره. وتسبحوا الله بكرة وأصيلا عن ابن عباس رضى الله عنهما: صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.

[سورة الفتح (48) : آية 10]
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10)
لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريق التخييل «2» فقال يد الله فوق أيديهم يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدى المبايعين: هي يد الله، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله والمراد: بيعة الرضوان فإنما ينكث على نفسه فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه:
بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت، وعلى أن لا نفر، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا، اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم «3» . وقرئ: إنما يبايعون لله، أى:
لأجل الله ولوجهه، وقرئ: ينكث بضم الكاف وكسرها، وبما عاهد وعهد فسيؤتيه بالنون والياء، يقال: وفيت بالعهد وأوفيت به، وهي لغة تهامة. ومنها قوله تعالى أوفوا بالعقود، والموفون بعهدهم.

[سورة الفتح (48) : آية 11]
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11)
__________
(1) . قوله «قرئ لتؤمنوا وتعزروه» يفيد أن قراءة الياء هي المشهورة، وقد تشير إلى تفريق الضمائر قراءة:
وتسبحوا الله ... الآية. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريق التخييل ... الخ» قال أحمد: كلام حسن بعد إسقاط لفظ التخييل وإبداله بالتمثيل، وقد تقدمت أمثاله.
(3) . لم أجده هكذا بل في حديث جابر «أنه سئل كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربعة عشر مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة. وهي سمرة. فبايعناه. وجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره» أخرجه مسلم. ولأبى يعلى من هذا الوجه «لم نبايعه على الموت وإنما بايعناه على أن لا نفر، بايعناه كلنا. إلا الجد بن قيس، فانه اختبأ تحت بطن بعيره» فهذا ليس فيه أنه بايع ونكث، بل فيه أنه لم يبايع أصلا.

(4/335)


بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12)

هم الذين خلفوا عن الحديبية، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش «1» أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى، ليعلم أنه لا يريد حربا، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر «2» داره بالمدينة وقتلوا أصحابه، فيقاتلهم، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. وقرئ: شغلتنا، بالتشديد يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تكذيب لهم في اعتذارهم. وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله والنفاق، وطلبهم للاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة فمن يملك لكم فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه إن أراد بكم ما يضركم من قتل أو هزيمة أو أراد بكم نفعا من ظفر وغنيمة «3» وقرئ: ضرا، بالفتح والضم. الأهلون: جمع أهل. ويقال: أهلات، على تقدير تاء التأنيث. كأرض وأرضات، وقد جاء أهلة. وأما أهال، فاسم جمع، كليال.

[سورة الفتح (48) : آية 12]
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12)
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية آدم عن ورقاء. عن ابن نجيج عن مجاهد نحوه
(2) . قوله «قد غزوه في عقر داره» في المصباح: عقر الدار أصلها، وهو محلة القوم. وأهل المدينة يقولون:
عقر الدار، بالضم. (ع)
(3) . قال محمود: «أى قتلا وهزيمة أو أراد بكم نفعا أى ظفرا وغنيمة» قال أحمد: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف، وكان الأصل- والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا، لأن مثل هذا النظم يستعمل في الضر، وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا، كقوله فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث «إنى لا أملك لكم شيئا» يخاطب عشيرته وأمثاله كثيرة، وسر اختصاصه بدفع المضرة: أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان المنفعة، فانه ضرر عائد عليه لا له، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدر من خير وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر، لأنه هو المتوقع لهؤلاء، إذ الآية في سياق التهديد أو الوعيد الشديد، وهي نظير قوله قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة فان العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته، والله أعلم.

(4/336)


ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14) سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15)

وقرئ: إلى أهلهم. وزين، على البناء للفاعل وهو الشيطان، أو الله عز وجل، وكلاهما جاء في القرآن وزين لهم الشيطان أعمالهم، زينا لهم أعمالهم والبور: من بار، كالهلك: من هلك، بناء ومعنى ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ. والمعنى: وكنتم قوما فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم. أو هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه.

[سورة الفتح (48) : آية 13]
ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا (13)
للكافرين مقام مقام لهم، للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر، ونكر سعيرا لأنها نار مخصوصة، كما نكر نارا تلظى.

[سورة الفتح (48) : آية 14]
ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14)
ولله ملك السماوات والأرض يدبره تدبير قادر حكيم، فيغفر ويعذب بمشيئته «1» ، ومشيئته تابعة لحكمته، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر وكان الله غفورا رحيما رحمته سابقة لغضبه، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة.

[سورة الفتح (48) : آية 15]
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15)
سيقول المخلفون الذين تخلفوا عن الحديبية إذا انطلقتم إلى مغانم إلى غنائم خيبر أن يبدلوا كلام الله وقرئ كلم الله، أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر «2» إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئا. وقيل:
__________
(1) . قال محمود: «يغفر ويعذب بمشيئته ... الخ» قال أحمد: قد تقدمت أمثالها، والقول بأن موجب الحكمة ما ذكر تحكم. هذا وأدلة الشرع القاطعة تأتى على ما يعتقده فلا تبقى ولا تذر، فكم من دليل على أن المغفرة لا تقف على التوبة، وكم يروم إتباع القرآن للرأى الفاسد فيقيد مطلقا ويحجر واسعا، والله الموفق.
(2) . قال محمود: «المراد بكلام الله وعده أهل الحديبية بغنائم خيبر عوضا عما يفوتهم من غنائم مكة ... الخ» قال أحمد: فالاضراب الأول إذا هو المعروف، والثاني هو المستغرب المستعذب الذي ليس فيه مباينة بين الأول والثاني، بل زيادة بينة ومبالغة متمكنة، وإنما كان المنسوب إليهم ثانيا أشد من المنسوب إليهم أولا، لأن الأول نسبة إلى جهل في شيء مخصوص، وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين، والثاني يعتبر بجهل على الإطلاق. وقلة فهم على الاسترسال.

(4/337)


قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16)

هو قوله تعالى لن تخرجوا معي أبدا. تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم. قرئ بضم السين وكسرها لا يفقهون لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين، كقوله تعالى يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فإن قلت: ما الفرق بين حرفى الإضراب؟ قلت. الأول إضراب معناه: رد أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين، إلى وصفهم مما هو أطم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.

[سورة الفتح (48) : آية 16]
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16)
قل للمخلفين هم الذين تخلفوا عن الحديبية إلى قوم أولي بأس شديد يعنى بنى حنيفة قوم مسيلمة، وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبى حنيفة ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب. والمجوس تقبل منهم الجزية، وعند الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب. وهذا دليل على إمامة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته. وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا وقيل: هم فارس والروم. ومعنى يسلمون ينقادون، لأن الروم نصارى، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية. فإن قلت: عن قتادة أنهم ثقيف وهوازن، وكان ذلك في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: إن صح ذلك فالمعنى:
لن تخرجوا معى أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد: كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم كما توليتم من قبل يريد في غزوة الحديبية. أو يسلمون. معطوف على تقاتلونهم، أى: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما. وفي قراءة أبى: أو يسلموا، بمعنى: إلى أن يسلموا.

(4/338)


ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17) لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19)

[سورة الفتح (48) : آية 17]
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17)
نفى الحرج عن هؤلاء من ذوى العاهات في التخلف عن الغزو. وقرئ: ندخله ونعذبه، بالنون.

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19]
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19)
هي بيعة الرضوان، سميت بهذه الآية، وقصتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث جواس «1» بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش، فلما رجع دعا بعمر رضى الله عنه ليبعثه فقال: إنى أخافهم على نفسي، لما عرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدوى يمنعني، ولكنى أدلك على رجل هو أعز بها منى وأحب إليهم: عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت بحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فوقروه وقالوا:
إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم، فأرجف بأنهم قتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا نبرح حتى نناجز القوم. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة. قال جابر ابن عبد الله: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها «2» . وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها. قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائما
__________
(1) . «جواس» الذي في أبى السعود وفي الشهاب: خراش، بالخاء والراء والشين اه ملخصا من هامش، وكذا في النسفي والخازن. (ع)
(2) . أخرجه أحمد من رواية عروة عن المسور ومروان. قالا: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت» فذكر الحديث مطولا. وفيه هذه القصة دون قصة جابر وروى الطبري من رواية عكرمة مولى ابن عباس قال «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جواس بن أمية الخزاعي فذكره ومن طريق أبى إسحاق حدثني عبد الله بن أبى بكر «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم.
ودعا الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وجابر يقول: لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر، إلى أن قال: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل» وقوله وكانت سمرة. رواه مسلم من حديث جابر قال «فبايعناه وأخذ عمر بيده تحت الشجرة وكانت سمرة» وقول جابر: لو كنت أبصر الخ: متفق عليه من حديثه.

(4/339)


وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما (20)

على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره فبايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «1» وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين «2» وقيل: ألفا وأربعمائة:
وقيل: ألفا وثلاثمائة فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه فأنزل السكينة أى: الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم وأثابهم فتحا قريبا وقرئ:
وآتاهم، وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة. وعن الحسن: فتح هجر، وهو أجل فتح:
اتسعوا بثمرها زمانا مغانم كثيرة تأخذونها هي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار «3» وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم، ثم أتاه عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق.

[سورة الفتح (48) : آية 20]
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما (20)
وعدكم الله مغانم كثيرة وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة فعجل لكم هذه المغانم يعنى مغانم خيبر وكف أيدي الناس عنكم يعنى أيدى أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا. وقيل: أيدى أهل مكة بالصلح ولتكون هذه الكفة آية للمؤمنين وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان،
__________
(1) . قوله «وقيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها. قال عبد الله بن مغفل: كنت قائما على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم: أنتم اليوم خير أهل الأرض «أخرجه النسائي من رواية ثابت عن عبد الله بن مغفل. قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة وعلى رأسه غصن إلى قوله عن ظهره» . وفي حديث معقل بن يسار «لقد رأيتنى يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها- الحديث» . وأما قوله «بايعوه ... الخ» فهو في حديث جابر.
(2) . أما الأولى فمتفق عليها من حديث سالم بن أبى الجعد عن جابر. دون قوله «وخمسا وعشرين» وأما الثانية ففي رواية عمرو بن مرة عن جابر في الصحيحين. وفي رواية أبى الزبير عنه ومسلم وعندهما عن قتادة. قلت: لسعيد ابن المسيب «لم كان عدد الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة قال: قلت: فان جابرا قال: كانوا أربع عشرة مائه قال: رحمه الله لقد وهم، هو والله حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة» قال البيهقي في الدلائل:
كأن جابرا رجع عن رواية خمس عشرة. إلى ألف وأربعمائة. وكذلك قال البراء ومعقل بن يسار. وسلمة بن الأكوع. انتهى. والرواية الثالثة في الصحيحين من رواية عمرو بن مرة عن عبد الله بن أبى أوفى. قال «كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكان من أسلم من المهاجرين. قلت والرواية التي فيها ألفا وخمسمائة وخمسا وعشرين.
أخرجها ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عباس موقوفا. وفي عددهم أقوال غير هذه بسطنها في شرح البخاري
(3) . قوله «ذات عقار» في الصحاح «العقار» بالفتح: الأرض والضياع والنخل. (ع)

(4/340)


وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا (21) ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24)

وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحى، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكة ويهديكم صراطا مستقيما ويزيدكم بصيرة ويقينا، وثقة بفضل الله.

[سورة الفتح (48) : آية 21]
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا (21)
وأخرى معطوفة على هذه، أى: فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، وقال: لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجولة قد أحاط الله بها أى قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وغنمكموها. ويجوز في أخرى النصب بفعل مضمر، يفسره قد أحاط الله بها تقديره: وقضى الله أخرى قد أحاط بها. وأما لم تقدروا عليها فصفة لأخرى، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا، وقد أحاط الله بها: خبر المبتدإ، والجر بإضمار رب. فإن قلت: قوله تعالى ولتكون آية للمؤمنين كيف موقعه؟ قلت: هو كلام معترض. ومعناه: ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك. ويجوز أن يكون المعنى:
وعدكم المغانم، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقا، لأن صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية، ويزيدكم بذلك هداية وإيقانا.

[سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 23]
ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23)
ولو قاتلكم الذين كفروا من أهل مكة ولم يصالحوا. وقيل: من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا سنة الله في موضع المصدر المؤكد، أى: سن الله غلبة أنبيائه سنه، وهو قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي.

[سورة الفتح (48) : آية 24]
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24)
أيديهم أيدى أهل مكة، أى: قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الفتح. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى أن عكرمة بن أبى جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان «1» مكة. وعن ابن
__________
(1) . أخرجه الطبري عن شيخه محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن جعفر هو ابن أبى المغيرة عن ابن أبزى.
قال «لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى وانتهي إلى ذى الحليفة: قال له نمر: يا نبى الله تدخل على حرب قوم حرب لك بغير سلاح ولا كراع. قال: فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله. فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى فنزل بها. فأتاه عتبة بن عكرمة بن أبى جهل، قد خرج عليه في خمسمائة.
فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل. فقال خالد: أنا سيف الله ورسوله فيومئذ سمى سيف الله، يا رسول الله ارم بن أين شئت، فبعثه على خيل، فلقى عكرمة في الشعب، فهزمه، حتى أدخله حيطان مكة- الحديث» وأخرجه ابن أبى حاتم من هذا الوجه وفي صحته نظر، لأن خالدا لم يكن أسلم في الحديبية وظاهر السياق أن هذه القصة كانت في الحديبية. فلو كانت في عمرة القضية لأمكن، مع أن المشهور أنهم فيها لم يمانعوه ولم يقاتلوه.

(4/341)


هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25)

عباس رضى الله عنه: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. وقرئ:
تعملون، بالتاء والياء.

[سورة الفتح (48) : آية 25]
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25)
وقرئ: والهدى، والهدى: بتخفيف الياء وتشديدها، وهو ما يهدى إلى الكعبة:
بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في صدوكم. أى: صدوكم وصدوا الهدى وبالجر عطفا على المسجد الحرام. بمعنى: وصدوكم عن نحر الهدى معكوفا أن يبلغ محله محبوسا عن أن يباع، وبالرفع على: وصد الهدى. ومحله: مكانه الذي يحل فيه نحره، أى يجب. وهذا دليل لأبى حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم. فإن قلت: فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت: بعض الحديبية من الحرم «1» . وروى أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاه في الحرم «2» . فإن قلت:
فإذن قد نحر في الحرم، فلم قيل: معكوفا أن يبلغ محله؟ قلت: المراد المحل المعهود وهو منى لم تعلموهم صفة الرجال والنساء جميعا. وأن تطؤهم بدل اشتمال منهم أو من الضمير
__________
(1) . أخرجه البخاري من حديث ابن عمر قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية» وفيه من رواية المسور ومروان «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال البخاري: والحديبية خارج الحرم. [.....]
(2) . أخرجه أحمد من رواية المسور ومروان. في أثناء الحديث الطويل. قال «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى في الحرم. وهو مضطرب في الحل»

(4/342)


المنصوب في تعلموهم. والمعرة: مفعلة، من عره بمعنى عراه إذا دهاه «1» ما يكره ويشق عليه.
وبغير علم متعلق بأن تطؤهم، يعنى: أن تطئوهم غير عالمين بهم. والوطء والدوس: عبارة عن الإيقاع والإبادة. قال:
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطأ المقيد نابت الهرم «2»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأن آخر وطأة وطئها الله بوج» «3» والمعنى: أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفى الأماكن فقيل:
ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة: لما كف أيديكم عنهم، وحذف جواب «لولا» لدلالة الكلام عليه «4» . ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون لعذبنا هو الجواب. فإن قلت: أى معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون. قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. فإن قلت: قوله تعالى ليدخل الله في رحمته من يشاء تعليل لماذا؟ قلت: لما دلت عليه الآية وسيقت له:
__________
(1) . قوله «بمعنى عراه إذا دهاه» عبارة الصحاح بلفظها: هو يعر قومه: أى يدخل عليهم مكروها يلطخهم به.
والمعرة: الإثم. (ع)
(2) .
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطأ المقيد نابت الهرم
وتركتنا لحما على وضم ... لو كنت تستبقى من اللحم
للحرث بن وعلة الذهلي. والوطء: وضع القدم فوق الشيء بشدة. وهو كناية عن الإهلال. والحنق- كسبب، الحقد والغيظ. والهرم- بالسكون-: ضرب من الحمض ترعاه الإبل، وبعير هارم: يرعى الهرم. يقول: أتيتنا مرتفعا علينا بقوتك وشدة بطشك كوطء الجمل المقيد للهرم النابت: أى الحديث النبات. ويروى: يابس الهرم فيهلكه لعظمه وقوته، مع رطوبة ذلك النبات وضعفه، أو مع يبسه فيتفتت، فجعله مقيدا لتكون بطشته قوية، حيث يرفع رجليه معا ويضربها عند الوثوب. أو جعله مقيدا، لأن الذليل إذا قدر لا يعفو. والوضم: خوان الجزار الذي يقطع عليه اللحم. و «لو» شرطية، جوابها دل عليه قوله «تركتنا» أى: على فرض أنك تركت هنا بقية تركتنا كهذا اللحم الذي يهيأ للأكل. وفي التعبير بلو: دلالة على أنه لم يستبق منهم.
(3) . تقدم في آخر براءة.
(4) . قال محمود: «يجوز أن يكون جواب لولا محذوفا ... الخ» قال أحمد: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود، و «لو» تدل على امتناع لامتناع، وبين هذين تناف ظاهر، لأن لولا هاهنا دخلت على وجود، ولو دخلت على قوله تزيلوا وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود وجود، فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني ويسميه تطرية، وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطرى بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدى مؤداه. وقد تقدمت لها أمثال، والله أعلم. وهو الموفق.

(4/343)


إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (26)

من كف الأيدى عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صونا لمن بين أظهرهم من المؤمنين، كأنه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته، أى: في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم. أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم لو تزيلوا لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض: من زاله يزيله. وقرئ: لو تزايلوا.

[سورة الفتح (48) : آية 26]
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما (26)
إذ يجوز أن يعمل فيه ما قبله. أى: لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت، وأن ينتصب بإضمار اذكر. والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين- والحمية الأنفة والسكينة الوقار- ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، «1» وكتبوا بينهم كتابا، فقال عليه الصلاة والسلام لعلى رضى الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: اكتب «هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنى رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه، فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا. وكلمة التقوى بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم. وقيل: هي كلمة الشهادة. وعن الحسن رضى الله عنه: كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى: أنها سبب التقوى وأساسها. وقيل: كلمة أهل التقوى. وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله: وكانوا أهلها وأحق بها، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج.
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية عروة في قصة الحديبية. وفيه ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو الخ مطولا. والقصة في الصحيح من رواية البراء بن عازب ومن رواية مروان والمسور. وفي النسائي مختصرة من رواية ثابت اليماني عن عبد الله بن مغفل.

(4/344)


لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27)

[سورة الفتح (48) : آية 27]
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27)
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبى وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام «1» فنزلت. ومعنى صدق الله رسوله الرؤيا صدقه في رؤياه ولم يكذبه- تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوا كبيرا- فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله تعالى: صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فإن قلت: بم تعلق بالحق؟ قلت: إما بصدق، أى: صدقه فيما رأى، وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق: أى بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص، وبين من في قلبه مرض. ويجوز أن يتعلق بالرؤيا حالا منها أى: صدقه الرؤيا ملتبسا «2» بالحق، على معنى أنها لم تكن من أضغاث الأحلام. ويجوز أن يكون بالحق قسما: إما بالحق الذي هو نقيض الباطل. أو بالحق الذي هو من أسمائه.
ولتدخلن جوابه. وعلى الأول هو جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما وجه دخول إن شاء الله في أخبار الله عز وجل؟ قلت: فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدبين بأدب الله، ومقتدين بسنته، وأن يريد: لتدخلن جميعا إن شاء الله ولم يمت منكم أحدا، أو كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك إن شاء الله.
أو هي حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقص عليهم. وقيل: هو متعلق بآمنين فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل
__________
(1) . لم أجده هكذا مفسرا وروى الطبري من روآية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق- الآية فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «إنى قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤسكم ومقصرين. فلما ترك الحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك. فقالوا: أين رؤياه، فقال الله لقد صدق الله رسوله الرؤيا- الآية وروى الطبري من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد قال «أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل في أهل مكة هو وأصحابه محلقين فلما نحر الهدى وهو بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت» وبه قال وقوله فجعل من دون ذلك فتحا قريبا قال: النحر بالحديبية، فرجعوا ففتحوا خيبرا. وقال: ثم اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة» .
(2) . قوله «أى صدقه الرؤيا ملتبسا» لعله: ملتبسة. (ع)

(4/345)


هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)

فجعل من دون ذلك أى من دون فتح مكة فتحا قريبا وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.

[سورة الفتح (48) : آية 28]
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28)
بالهدى ودين الحق بدين الإسلام ليظهره ليعليه على الدين كله على جنس الدين كله، يريد: الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب: ولقد حقق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى دينا قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة. وقيل: هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات. وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أن الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة وكفى بالله شهيدا على أن ما وعده كائن. وعن الحسن رضى الله عنه: شهد على نفسه أنه سيظهر دينك «1»

[سورة الفتح (48) : آية 29]
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29)
محمد إما خبر مبتدإ، أى: هو محمد لتقدم قوله تعالى هو الذي أرسل رسوله وإما مبتدأ، ورسول الله: عطف بيان. وعن ابن عامر أنه قرأ: رسول الله، بالنصب على المدح والذين معه أصحابه أشداء على الكفار رحماء بينهم جمع شديد ورحيم. ونحوه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، واغلظ عليهم. بالمؤمنين رؤف رحيم وعن الحسن رضى الله عنه: بلغ من تشددهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء. وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله، وكذلك
__________
(1) . قوله «إنه سيظهر دينك» لعله: دينه، كعبارة النسفي. (ع)

(4/346)


التقبيل. قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده. وقد رخص أبو يوسف في المعانقة. ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدد وهذا التعطف:
فيتشددوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة. وكف الأذى، والمعونة، والاحتمال، والأخلاق السجيحة «1» . ووجه من قرأ: أشداء، ورحماء- بالنصب-: أن ينصبهما على المدح، أو على الحال بالمقدر في معه، ويجعل تراهم الخبر سيماهم علامتهم. وقرئ سيماؤهم، وفيها ثلاث لغات: هاتان. والسيمياء، والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود، وقوله تعالى من أثر السجود يفسرها، أى:
من التأثير الذي يؤثره السجود، وكان كل من العليين: على بن الحسين زين العابدين، وعلى بن عبد الله بن عباس أبى الأملاك، يقال له: ذو الثفنات، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات «2» البعير. وقرئ: من أثر السجود، ومن آثار السجود، وكذا عن سعيد ابن جبير: هي السمة في الوجه. فإن قلت: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تعلبوا «3» صوركم «4» » وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه رأى رجلا قد أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك، فلا تعلب وجهك، ولا تشن صورتك «5» . قلت: ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة. وذلك رياء ونفاق يستعاذ بالله منه، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله تعالى. وعن بعض المتقدمين: كنا نصلى فلا يرى بين أعيننا شيء، ونرى أحدنا الآن يصلى فيرى بين عينيه ركبة البعير، فما ندرى أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق. وقيل: هو صفرة الوجه من خشية الله. وعن الضحاك: ليس بالندب «6» في الوجوه، ولكنه صفرة. وعن سعيد بن المسيب: ندى الطهور وتراب الأرض. وعن عطاء رحمه الله: استنارت وجوههم من طول
__________
(1) . قوله «والأخلاق السجبحة» أى السهلة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ثفنات البعير» في الصحاح: هي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ. (ع)
(3) . قوله «لا تعلبوا صوركم» في الصحاح: علبته أعلبه- بالضم-: إذا وسمته أو خدشته، أو أثرت فيه. (ع)
(4) . لم أجده مرفوعا وهو في الذي بعده موقوف.
(5) . أخرجه عبد الرزاق عن الثوري. عن الأعمش عن حبيب عن أبى الثعثاء. عن ابن عمر «أنه رأى رجلا ينتحز إذا سجد فقال: لا تقلب صورتك» يقول لا تؤثرها. قلت: ما تقلب صورتك؟ قال: لا تغير لا تشن» ورواه إبراهيم الحربي من رواية أبى معاوية عن الأعمش عن حبيب عن عطاء عن عمر «أنه رأى رجلا قد أثر السجود بوجهه فقال: لا تقلب صورتك. ثم قال: قلبت الشيء إذا أثرت فيه. [.....]
(6) . قوله «ليس بالندب في الوجوه» في الصحاح «الندب» : أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد. (ع)

(4/347)


ما صلوا بالليل، كقوله «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «1» ذلك الوصف مثلهم أى وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعا، ثم ابتدأ فقال كزرع يريد: هم كزرع. وقيل: تم الكلام عند قوله ذلك مثلهم في التوراة ثم ابتدئ ومثلهم في الإنجيل كزرع ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله كزرع أخرج شطأه كقوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين. وقرئ: الإنجيل، بفتح الهمزة شطأه فراخه. يقال: أشطا الزرع إذا فرخ. وقرئ: شطأه، بفتح الطاء. وشطأه، بتخفيف الهمزة: وشطاءه، بالمد. وشطه، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها. وشطوه، بقلبها واوا فآزره من المؤازرة وهي المعاونة. وعن الأخفش: أنه أفعل. وقرئ: فأزره بالتخفيف والتشديد، أى: فشد أزره وقواه. ومن جعل آزر أفعل، فهو في معنى القراءتين فاستغلظ فصار من الدقة إلى الغلظ فاستوى على سوقه فاستقام على قصبه جمع ساق.
وقيل: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبى بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلى. وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قام وحده. ثم قواه الله بمن آمن معه كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع. فإن قلت: قوله ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا؟ قلت: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة، ويجوز أن يعلل به وعد الله الذين آمنوا لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى منهم البيان، كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة» «2» .
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر مرفوعا بهذا واتفق أئمة الحديث وابن عدى والدارقطني والعقيلي وابن حبان والحاكم على أنه من قول شريك قاله لثابت لما دخل. وقال ابن عدى سرقه جماعة من ثابت كعبد الله بن شبرمة الشريكى وعبد الحميد بن بحر وغيرهما وأورده صاحب مسند الشهاب من رواية عبد الرزاق عن الثوري وابن جريج عن أبى الزبير عن جابر وهو موضوع على هذا الاسناد. وكذا من رواية الحسين بن حفص عن الثوري عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر والأمر فيه كذلك. ومن طرق أخرى واهية. قال ابن طاهر: ظن القضاعي أن الحديث صحيح، لكثرة طرقه. وهو معذور لأنه لم يكن حافظا. وله طرق أخرى من غير رواية جابر أخرجه ابن جميع في معجمه من حديث أنس وابن الجوزي من وجه آخر عنه وهو باطل أيضا من الوجهين.
(2) . أخرجه ابن مردويه والواحدي بالإسناد إلى أبى بن كعب.

(4/348)


ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1)

سورة الحجرات
مدنية، وآياتها 18 [نزلت بعد المجادلة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1)
قدمه وأقدمه: منقولان بتثقيل الحشو والهمزة، من قدمه إذا تقدمه «1» في قوله تعالى يقدم قومه ونظيرهما معنى ونقلا: سلفه وأسلفه. وفي قوله تعالى لا تقدموا من غير ذكر مفعول: وجهان، أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم. والثاني:
أن لا يقصد قصد «2» مفعول ولا حذفه، ويتوجه بالنهى إلى نفس التقدمة، كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل، ولا تجعلوه منكم بسبيل «3» ، كقوله تعالى هو الذي يحيي ويميت ويجوز أن يكون من قدم بمعنى تقدم، كوجه وبين. ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته، وهي الجماعة المتقدمة منه. وتعضده قراءة من قرأ: لا تقدموا، بحذف إحدى تاءى تتقدموا، إلا أن الأول أملأ بالحسن وأوجه، وأشد ملاءمة لبلاغة القرآن، والعلماء له أقبل. وقرئ: لا تقدموا من القدوم، أى لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليهما. وحقيقة قولهم: جلست بين يدي فلان، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه،
__________
(1) . قوله «إذا تقدمه في قوله تعالى» لعله كما في قوله تعالى. (ع)
(2) . قوله «أن لا يقصد قصد ... الخ» عبارة النسفي: أن لا يقصد مفعول. والتهجي متوجه إلى نفس التقدمة. (ع)
(3) . ذكر الزمخشري من النكت: «أنه تعالى ابتدأ السورة بإيجاب أن يكون الأمر الذي ينتهى إلى الله ورسوله متقدما على الأمور كلها من غير تقييد ولا تخصيص» قال أحمد: يريد أنه لم يذكر المفعول الذي يتقاضاه تقدموا، باطراح ذلك المفعول كقوله يحيي ويميت وحلى الكلام بمجاز التمثيل في قوله بين يدي الله ورسوله بفائدة ليست في الكلام العريان، وهو تصور الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الاقدام على أمر دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة، وجعل صورة ذلك المنهي عنه مثل أن يجلس العبد في الجهتين المسامتتين ليمين سيده ويساره ويوليه دبره، ومعناه: أن لا تقدموا على أمر حتى يأذن الله ورسوله فيه فتكونوا مقتدين فيما تأتون وتذرون بكتاب الله وسنة نبيه.

(4/349)


فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع للقرب منهما توسعا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا. ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان: وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة: والمعنى: أن لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه يدور تفسير ابن عباس رضى الله عنه. وعن مجاهد: لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يقصه «1» على لسان رسوله. ويجوز أن يجرى مجرى قولك: سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه. وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى: سلك به ذلك المسلك. وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتلوه من رفع أصواتهم فوق صوته: لأن من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص القوى: كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت، ويخافت لديه بالكلام. وقيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل، إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بنى سليم قرب المدينة، فاعتزيا لهم إلى بنى عامر، لأنهم أعز من بنى سليم، فقتلوهما وسلبوهما، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئسما صنعتم كانا من سليم، والسلب ما كسوتهما» فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» ونزلت، أى: لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مسروق: دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه، فقالت للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إنى صائم، فقالت: قد نهى الله عن صوم هذا اليوم «3» . وفيه نزلت. وعن الحسن أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا «4» آخر. وهذا مذهب أبى حنيفة رحمه
__________
(1) . قوله «حتى يقصه على لسان رسوله» لعله: يقضيه. (ع)
(2) . أخرجه البيهقي في الشعب في الخامس عشر من طريق مقاتل بن حيان قال «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية واستعمل عليهم المنذر بن عمرو- فذكر قصة بئر معونة مطولا. وفيه هذا اللفظ. ورو:
الدلائل من طريق ابن إسحاق، ومن طريق موسى بن عقبة: هذه القصة على غير هذا السياق وأن المقتولين بنى كلاب، وأن الثلاثة قتل منهم واحد. وهو المحفوظ والمشهور في المغازي
(3) . هكذا ذكره الثعلبي بغير سند. وذكره الدارقطني من رواية مالك بن حمزة بضم المهملة والراء. عن مسروق قال «دخلت على عائشة رضى الله عنها في اليوم الذي يشك فيه أنه يوم عرفة» ... الحديث
(4) . أخرجه عبد الرزاق. حدثنا معمر عن الحسن في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال: هم قوم ذبحوا قبل أن يصلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال «ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل كذا، لو صنع كذا، لو قبل كذا» قال: وقال الحسن هم أناس، فذكره.

(4/350)


ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2)

الله، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي: يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة.
وعن الحسن أيضا: لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا أن يبتدؤه بالمسئلة حتى يكون هو المبتدئ «1» . وعن قتادة:
ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل فيه كذا لكان كذا، فكره الله ذلك منهم وأنزلها.
وقيل: هي عامة في كل قول وفعل: ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب، وأن لا يمشى بين يديه إلا لحاجة، وأن يستأنى «2» في الافتتاح بالطعام واتقوا الله فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه، فإن التقى حذر لا يشافه أمرا «3» إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار، فتنهاه أولا عن عين ما قارفه، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها إن الله سميع لما تقولون عليم بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب.

[سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2)
إعادة النداء عليهم: استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم، وذلك لأن في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه «4» عليه، وارتداعا عما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير، والمراد بقوله لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «وأن يستأنى في الافتتاح» أى: ينتظر. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «لا يشافه أمرا» أى: لا يتشاغل بأمر، وفي الصحاح: «الشفه» : الشغل، يقال: شفهنى عن كذا، أى: شغلني. (ع)
(4) . قوله «بما يحدوه عليه» أى: يحضه. (ع) [.....]

(4/351)


لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق «1» غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم.
وبقوله: ولا تجهروا له بالقول: إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز اسمه وتعزروه وتوقروه وقيل معنى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوة. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله، «2» وعن عمر رضى الله عنه: انه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه «3» ، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد: أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، «4» وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر: ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير، ولم يتناول النهى أيضا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث: أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين:
__________
(1) . قوله «كشية الأبلق» في الصحاح «الشية» : لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. وفيه أيضا: اللغط الصوت والجلبة. وفيه الصخب: الصياح والجلبة. (ع)
(2) . ذكره الواحدي عن عطاء عن ابن عباس. ولم يسق سنده إليه. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر. قال لما نزل يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي قلت:
يا رسول الله آليت ألا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله» وأخرجه الحاكم والبيهقي في المدخل من حديث أبى هريرة. قال «لما نزلت إن الذين يغضون- الآية قال أبو بكر. والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله عز وجل «وقال صحيح على شرط مسلم
(3) . أخرجه البخاري من حديث أبى الزبير. قال «لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي- الآية كان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم حدثه كأخى السرار. لم يسمعه حتى يستفهمه.
(4) . لم أجده

(4/352)


«اصرخ بالناس «1» » وكان العباس أجهر الناس صوتا «2» . يروى: أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدة صوته «3» . وفيه يقول نابغة بنى جعدة:
زجر أبى عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم «4»
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه «5» . وفي قراءة ابن مسعود: لا ترفعوا بأصواتكم والباء مزيدة محذو بها حذو التشديد في قول الأعلم الهذلي:
رفعت عينى بالحجا ... ز إلى أناس بالمناقب «6»
وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد، تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون. وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته «7» . وعن أنس أن هذه الآية لما نزلت: فقد ثابت، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بشأنه، فدعاه، فسأله فقال: يا رسول الله، لقد أنزلت إليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت. فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة «8» .. وأما ما يروى عن الحسن: أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحمله والخطاب للمؤمنين: على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهى، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم، فيقتدى بهم ضعفة المسلمين. وكاف التشبيه في محل النصب،
__________
(1) . لم أجده، وقد تقدم أن ذلك كان يوم حنين، والعباس لم يشهد أحدا.
(2) . لم أجده
(3) . لم أجده
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 38 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(5) . لم أجده
(6) . للأعلم الهذلي، يقول: نظرت وأنا في الحجاز إلى من في المناقب. وهذان الموضعان بينهما مسافة بعيدة، وهذا من شدة الشوق إلى من في المناقب.
(7) . لم أجده
(8) . متفق عليه من حديث أنس دون قوله «لست هناك، وزاد أحمد والطبراني فيه: فقال أنس: فكنا نراه يمشى بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة» .

(4/353)


أى: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا: أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعنى: الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها أن تحبط أعمالكم منصوب الموضع، على أنه مفعول له، وفي متعلقه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمعنى النهى، فيكون المعنى: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم، أى: لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف، كقوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا والثاني: أن يتعلق بنفس الفعل، ويكون المعنى: أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط: جعل كأنه فعل لأجله، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى ليكون لهم عدوا.
فإن قلت: لخص الفرق بين الوجهين. قلت: تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له، كأنهما شيء واحد «1» ، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا. وفي الأول يقدر النهى
__________
(1) . قال محمود: «إنه مفعول له ومتعلقه إما معنى النهى، كأنه قال: انتهوا كراهية حبوط أعمالكم على حذف مضاف، كقوله يبين الله لكم أن تضلوا وأما نفس الفعل فهو المنهي عنه، على معنى تنزيل صيرورة الجهر المنهي عنه إلى الحبوط. منزلة جعل الحبوط علة في الجهر على التمثيل، من وادى ليكون لهم عدوا وحزنا قال: وتلخيص الفرق بينهما أنه على الثاني يقدر انضمام المفعول من أجله إلى الفعل الأول ... الخ» قال أحمد: هو يحوم على شرعة وبيئة إياك. ورودها: وذلك أنه يعتقد أن ما دون الكفر ولو كبيرة واحدة تحبط العمل وتوجب الخلود في العذاب المقيم، وتخرج المؤمن من اسم الايمان ورسمه، ومعاذ الله من هذا المعتقد، فعليك بعقيدة أهل السنة الممهدة في مواضع من هذا المجموع، فجدد العهد بها: وهي اعتقاد أن المؤمن لا يخلد في النار، وأن الجنة له بوعد الله حتم ولو كانت خطاياه ما دون الشرك أو ما يؤدى إليه كزبد البحر، وأنه لا تحبط حسنة سيئة طارئة كائنة ما كانت سوى الشرك. والزمخشري اغتنم الفرصة في ظاهر هذه الآية فنزلها على معتقده ووجه ظهورها فيما يدعيه: أن رفع الصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية لا تبلغ الشرك، وقد أخاف الله عباده من إحباطه الأعمال بها، ولو كان الإحباط مقطوعا بنفيه: لم تستقم الاخافة به، وأنى له أن يبلغ من ذلك آماله، ونظم الكلام يأباه عنده البصر بمعناه، فنقول: المراد في الآية النهى عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكم النهي: الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه السلام، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهى عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام سواء وجد هذا المعنى أولا، حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا المنهي عنه وهو رفع الصوت منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر: لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا، وخوف أن يقع فيهما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الاشارة بقوله أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري: لم يكن لقوله وأنتم لا تشعرون موقع، إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا، وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة، على رأيه قطعا، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق، إذا فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور، مع أن الإحباط ثابت مطلقا، والله أعلم وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين كلتا هما صحيحة إحداهما: أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه، فكيف برتبة النبوة وما يستحقه من الإجلال والإعظام. المقدمة الأخرى: أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق.

(4/354)


إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3)

موجها على الفعل على حياله، ثم يعلل له منهيا عنه. فإن قلت: بأى النهيين تعلق المفعول له؟
قلت: بالثاني عند البصريين، مقدرا إضماره عند الأول، كقوله تعالى آتوني أفرغ عليه قطرا وبالعكس عند الكوفيين، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل: وقراءة ابن مسعود: فتحبط أعمالكم، أظهر نصا بذلك، لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى فيحل عليكم غضبي والحبوط من حبطت الإبل: إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها، وربما هلكت. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم» «1» ومن أخواته: حبجت الإبل، إذا أكلت العرفج «2» فأصابها ذلك. وأحبض عمله: مثل أحبطه. وحبط الجرح وحبر: إذا غفر، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد: جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض «3» لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين، أحدهما: أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله.
والثاني: أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشى في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ.

[سورة الحجرات (49) : آية 3]
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3)
امتحن الله قلوبهم للتقوى من قولك: امتحن فلان لأمر كذا وجرب له، ودرب للنهوض به. فهو مضطلع به غير وان عنه. والمعنى أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها.
أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأن تحقق الشيء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها، فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك: أنت لهذا الأمر، أى كائن له ومختص به قال:
أنت لها أحمد من بين البشر «4»
__________
(1) . أخرجه مسلم وغيره. [.....]
(2) . قوله «إذا أكلت العرفج» في الصحاح: شجر ينبت في السهل، الواحدة: عرفجة. (ع)
(3) . قوله «كالداء والحرض» أى الفساد. أفاده الصحاح.
(4) . رائعة: خالية من الحشو والتعقيد، وصوغتها- بالتشديد-: للمبالغة، وأنت لها: أى أهل لها وكفؤ، وأحمد:
منادى، ومن بين البشر: متعلق بمحذوف حال، أى: منتخبا من بينهم. ويجوز أن «أحمد» أفعل تفضيل، كذا قيل.

(4/355)


إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5)

أعداء من لليعملات على الوجى «1»
وهي مع معمولها منصوبة على الحال. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى، أى لتثبت وتظهر تقواها، ويعلم أنهم متقون، لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها. وقيل أخلصها للتقوى. من قولهم: امتحن الذهب وفتنه، إذا أذا به فخلص إبريزه من خبشه ونقاه. وعن عمر رضى الله عنه: أذهب الشهوات عنها.
والامتحان: افتعال، من محنه، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد. قال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها ... قد محنت واضطربت آطالها «2»
قيل: أنزلت في الشيخين رضى الله عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما لإن المؤكدة.
وتصيير خبرها جملة من مبتدإ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ: اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة: مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5)
__________
(1) .
أعداء من لليعملات على الوجا ... وأضياف بيت بيتوا لنزول
أعداء ما للعيش بعدك لذة ... ولا لخليل بهجة بخليل
أعداء ما وجدي عليك بهين ... ولا الصبر إن أعطيته بجميل
لعتبة بن مالك العقيلي، يرثى عداء صاحبه. والهمزة للنداء. وعداء- كفعال-: على صيغة المبالغة، أى: يا من كان معدا لاغاثة المطايا الكثيرات العمل، والسفر مع الوجاء وهو الحفاء في أخفافها من كثرة السير، واليعملات:
جمع يعملة، والبعير يعمل، ومن كان معدا لأضياف بيته الذين يبيتون للنزول والاستراحة عنده. والعيش: الحياة، أو ما يعاش به. والبهجة: السرور. والوجد: الحزن. وإن أعطيته: اعتراض، دل على أنه لم يصبر. ونفى جمال الصبر مبالغة في عظم عداء عنده وحبه إياه، وكرر النداء لإظهار التفجع.
(2) . الرذايا جمع رذية وهي الناقة المهزولة الضعيفة. ومحنته: بلوته. ويقال: محنت ناقتي أجهدتها في السير.
ومحنت الجلد: مددته ووسعته. والآطال: جمع أطل وهو الخاصرة، كأسباب وسبب. يقول: أتت المطايا مهازيل ظاهرا ملالها وتعبها من السير، قد أجهدت تلك النوق بالسير. أو قد تدلت واضطربت خواصرها من شدة الجوع ويروى: أوصالها، أى: أعضاؤها.

(4/356)


والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام «1» . ومن لابتداء الغاية، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان. فإن قلت: فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت: الفرق بينهما أن المنادى والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني: لا يجوز لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد، والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار. لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ولكن أى قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقا بغير تعيين واختصاص، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أن النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البر «2» والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض، من غير قصد إلى جهة دون جهة. والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة، وجمعها: الحجرات- بضمتين، والحجرات- بفتح الجيم، والحجرات بتسكينها. وقرئ بهن جميعا، والمراد: حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته. والفعل وإن كان مسندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا، فقد ذكر الأصم أن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون: يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدا إلى نفى أن يكون فيهم من يعقل، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. وروى أن وفد بنى تميم أتوا رسول الله صلى الله
__________
(1) . قال محمود: «الوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام ... الخ» قال أحمد:
ولقد اغتر بعضهم في تبكيت بنى تميم بما لا تساعده عليه الآية، فإنها نزلت في المتولين لمناداة النبي عليه الصلاة والسلام، أو في الحاضرين حينئذ الراضين بفعل المنادين له، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عنهم فقال: هم جفاة بنى تميم، وعلى الجملة ولا تزر وازرة وزر أخرى فكيف يسوغ إطلاق اللسان بالسوء في حق أمة عظيمة لأن واحدا منهم أو اثنين ارتكب جهالة وجفاء، فقد ورد أن المنادى له عليه السلام: هو الأقرع، هذا مع توارد الأحاديث في فضائل تميم وتخليدها وجوه الكتب الصحاح.
(2) . قوله «أنهم نادوه من البر والخارج» الظاهر أن تفسيره ما بعده. وفي الصحاح «في مادة برر» أن البرية هي الصحراء. وفي مادة ضمن: في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام في بعض كتبه: «إن لنا الضاحية من البعل ولكم الضامنة من النخل» ما نصه: فالضاحية: هي الظاهرة التي في البر من النخل، والضامنة: ما تضمنها أمصارهم وقراهم. (ع)

(4/357)


عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه: محمد اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج «1» ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: «هم جفاة بنى تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» «2» فورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه مالا يخفى على الناظر: من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله: منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه. ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته. ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. ومنها: أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم، وهلم جرا: من أول السورة إلى آخر هذه الآية، فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمى إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأول بساط للثاني ووطاء لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم: من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين «3» والأنصار بأخى السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب
__________
(1) . أخرجه ابن اسحق في السيرة قال: «قدمت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة قال: ولما قدم وفد بنى تميم دخلوا المسجد. فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات يا محمد اخرج إلينا- فذكره إلى آخره» وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن إسحاق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال «لما قدم وفد بنى تميم وهم سبعون رجلا- فذكره مطولا. وأخرجه ابن مندة في المعرفة. وأورده الثعلبي من طريق يعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن شمر بن الحكم عن جابر قال «جاءت بنو تميم فدخلوا المسجد فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم. فذكره مطولا.
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية هاشم بن القاسم الحراني عن يعلى بن الأشدق حدثنا سعد بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره: ولمسلم من حديث أبى هريرة «لا أزال أحب بنى تميم لثلاث- فذكر فيه «وهم أشد أمتى على الدجال» .
(3) . قوله «حتى خاطبه جلة المهاجرين» معظم المهاجرين. (ع)

(4/358)


ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8)

وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبى عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه أنهم صبروا في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم. والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم وقولهم: صبر عن كذا، محذوف منه المفعول، وهو النفس، وهو حبس فيه شدة ومشقة على المحبوس، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل: صبر. وفي كلام بعضهم: الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. فإن قلت:
هل من فرق بين حتى تخرج وإلى أن تخرج؟ قلت: إن «حتى» مختصة بالغاية المضروبة.
تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها، أو صدرها: لم يجز، و «إلى» عامة في كل غاية، فقد أفادت «حتى» بوضعها: أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه. فإن قلت: فأى فائدة في قوله إليهم؟ قلت: فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم لكان خيرا لهم في «كان» إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو، وإما ضمير مصدر صبروا، كقولهم: من كذب كان شرا له والله غفور رحيم بليغ الغفران والرحمة واسعهما، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8)
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه- وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا، ثم قال: هل أزيدكم، فعزله عثمان «1» عنهم- مصدقا إلى بنى المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحقة، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له، فحسبهم مقاتليه، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) . أخرجه مسلم من طريق أبى ساسان حصين بن منذر قال شهدت عثمان أخى الوليد بن عقبة وقد صلى الغداة بالكوفة أربعا- الحديث بطوله» وأخرجه ابن إسحاق والنسائي من هذا الوجه وقالوا فيه «وقد صلى للغداة أربعا»

(4/359)


قد ارتدوا ومنعوا الزكاة «1» ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم فوردوا وقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم فقال: «لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبى ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف على رضى الله عنه. وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين، فسلموا إليه الصدقات «2» ، فرجع. وفي تنكير الفاسق والنبأ: شياع في الفساق والأنباء، كأنه قال: أى فاسق جاءكم بأى نبإ «3» . فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه.
والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه:
قفست البيضة، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا: قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق.
قال رؤبة:
فواسقا عن قصدها جوائرا «4»
وقرأ ابن مسعود: فتثبتوا. والتثبت والتبين: متقاربان، وهما طلب الثبات والبيان والتعرف، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة. قيل: إن جاءكم بحرف الشك وفيه أن على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور أن تصيبوا مفعول له، أى: كراهة إصابتكم قوما بجهالة حال، كقوله تعالى ورد الله الذين كفروا بغيظهم يعنى جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح: بمعنى الصيرورة.
والندم: ضرب من الغم، وهو: أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب
__________
(1) . أخرجه إسحاق والطبراني من حديث أم سلمة. دون قوله «فاتهمهم فقال لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم الخ» وعندهما بدل ذلك «فما زالوا يعتذرون إليه حتى نزلت فيهم الآية» وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف ونحوه رواه أحمد والطبراني أيضا من حديث الحارث بن دثار الخزاعي أخرجه ابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن موسى بن المسيب عن سالم بن أبى الجعد. عن جابر قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة- فذكر الحديث بنحوه وزاد فقال عليه الصلاة والسلام: لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا- فذكره.
(2) . لم أره.
(3) . قال محمود: «نكر فاسقا ونبأ لقصد الشياع، فكأنه قيل أى فاسق جاء بأى نبأ» قال أحمد: تسامح بلفظ الشياع والمراد الشمول، لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط تعم، كما إذا وقعت في سياق النفي، والله أعلم. [.....]
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 119 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/360)


الإنسان صحبة لها دوام ولزام، لأنه كلما تذكر المتندم عليه راجعه من الندام: وهو لزام الشريب ودوام صحبته. ومن مقلوباته: أدمن الأمر أدامه. ومدن بالمكان: أقام به. ومنه:
المدينة وقد تراهم يجعلون الهم صاحبا ونجيا وسميرا وضجيعا، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه. الجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم «1»
، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. وكلاهما مذهب سديد. والمعنى:
أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها: وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأى، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه، المحتذى على أمثلته، ولو فعل ذلك لعنتم أى لوقعتم في العنت والهلاك. يقال: فلان يتعنت فلانا، أى: يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. وقد أعنت العظم:
إذا هيض «2» بعد الجبر. وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد. وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصونون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان أى إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض:
صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة، التي لا يفطن لها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وقوله أولئك هم الراشدون والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أى: أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته. فإن قلت: ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها؟ قلت: القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. فإن قلت: فلم قيل يطيعكم دون: أطاعكم؟ قلت:
للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه. وأنه كلما عن لهم رأى في أمر كان
__________
(1) . قال محمود: «الجملة المصدرة بلو لا تكون مستأنفة، لأدائه إلى تنافر النظم ... الخ» قال أحمد: من جملة هنات المعتزلة: ثلبهم على عثمان رضى الله عنه ووقوفهم عن الحكم بتعنيف قتلته، فضم إلى هذا المعتقد غير معرج عليه: ما أورده الزمخشري في هذا الموضع من حكايات تولية عثمان لأخيه الوليد الفاعل تلك الفعلة الشنعاء عوضا عن سعد بن أبى وقاص أحد الصحابة، وما عرض به من أن بعض الصحابة كان يصدر منهم هنات، فمنها مطالبتهم النبي صلى الله عليه وسلم باتباع آرائهم التي من جملتها تصديق الوليد في الإيقاع ببني المصطلق، فإذا ضممت هذه النبذة التي ذكرها إرسالا إلى ما علمت من معتقده: تبين لك من حال- أعنى الزمخشري- ما لا أطيق التصريح به، لأنه لم يصرح وإنما سلكنا معه سبيل الانصاف ومحجة الانتصاف: نص بنص، وتلويح بتلويح، فنسأل الله العظيم- بعد الصلاة على نبيه محمد خاتم النبيين- أن يرضى عن أصحابه أجمعين، وعنا بهم آمين.
(2) . قوله «إذا هيض بعد الجبر» في الصحاح: هاض العظم يهيضه هيضا: كسره بعد الجبر. وفيه أيضا:
جبرت العظم جبرا، وجبر العظم بنفسه جبورا، أى: انجبر. (ع)

(4/361)


معمولا عليه، بدليل قوله في كثير من الأمر كقولك: فلان يقرى الضيف ويحمى الحريم، تريد: أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرا. فإن قلت: كيف موقع لكن وشريطتها مفقودة:
من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا وإثباتا؟ قلت: هي مفقودة من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم، فوقعت، لكن في حاق موقعها من الاستدراك. ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفاق «1» ، وسبيله الكناية كما سبق، وكل ذى لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبى عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدى إلى أن يثنى عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فإن قلت: فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه، وذلك فعل الله، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود. قلت: الذي سوغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء «2» وو سامة المنظر في الغالب، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا: أحسن ما في الدميم وجهه «3» ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، ولكن لدلالته على غيره. على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به، وقصر المدح على النعت بأمهات الخير: وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة، وما يتشعب منها ويرجع إليها، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والامداد بالتوفيق ... الخ» قال أحمد: تلجلج والحق أبلج، وزاغ والسبيل منهج، وقاس الخلق بالواحد الحق، وجعل أفعالهم لهم من إيمان وكفر وخير وشر، اغترارا بحال اعتقد اطراده في الشاهد، وهو أن الإنسان لا يمدح بفعل غيره، وقاس الغائب على الشاهد تحكما، وتغلغل باتباع هوى معجما، فجره ذلك بل جرأه على تأويل الآية وإبطال ما ذكرته من نسبة تحبيب الايمان إلى الله تعالى على حقيقته، وجعله مجازا لأنه يعتقد أنها لو بقيت على ظاهرها لكان خلق الايمان مضافا إلى الله تعالى، والعبد إذا ممدوح بما ليس من فعله. وهذا عنده محال، فأتبع الآية رأيه الفاسد، فإذا عرضت عليه الأدلة العقلية على الوحدانية، والنقلية على أنه لا خالق إلا الله خالق كل شيء، وطولب بابقاء الآية على ظاهرها المؤيد بالعقل والنقل، فانه يتمسك في تأويلها بالحبال المذكورة في التحكم بقياس الغائب على الشاهد، مما له إدلاء إلى تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالذي نعتقده- ثبتنا الله على الحق- أن الله تعالى منح ومدح وأعطى وامتن، فلا موجود إلا الله وصفاته وأفعاله، غير أنه تعالى جعل أفعاله بعضها محلا لبعض، فسمى المحل فاعلا والحال فعلا، فهذا هو التوحيد الذي لا محيص عنه للمؤمن ولا محيد، ولا بد أن أطارحه القول فأقول:
أخبرنى عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم: هل بمكتسب أم بغير مكتسب، فلا يسعه أن يقول إلا أنه أثنى عليهم بما لم يكتسبوه، بل بما وهبه إياهم فاتهبوه. وإن عرج على القسم الآخر وهو دعوى أنهم أثنى عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوة، فقد خرج عن أهل الملة، وانحرف عن أهل القبلة، وهذه البذة كفاية إن شاء الله تعالى.
(2) . قوله «حسن الرواء» في الصحاح: الرواء- بالضم-: المنظر. (ع)
(3) . قوله «ما في الدميم وجهه» في الصحاح «الدميم» : القبيح. (ع)

(4/362)


للإنسان فيه عمل غلطا ومخالفة عن المعقول والكفر تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود.
والفسوق الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر والعصيان ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع. والعرق العاصي: العانذ «1» . واعتصت النواة: اشتدت. والرشد:
الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة: قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:
وغير مقلد وموشمات ... صلين الضوء من صم الرشاد «2»
وفضلا مفعول له، أو مصدر من غير فعله «3» . فإن قلت: من أين جاز وقوعه مفعولا له، والرشد فعل القوم، والفضل فعل الله تعالى، والشرط أن يتحد الفاعل. قلت: لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه، مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه: صار الرشد كأنه فعله، فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى، والجملة التي هي أولئك هم الراشدون اعتراض. أو عن فعل مقدر، كأنه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلا من الله. وأما كونه مصدرا من غير فعله، فأن يوضع موضع رشدا، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام والله عليم
__________
(1) . قوله «والعرق العاصي: العانذ» في الصحاح: عنذ العرق: سال ولم يرقأ، فهو عرق عانذ. (ع)
(2) . الظاهر أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الخباء المقلد بالحبل، وغير الأثافى المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم: تغيير اللون، أى: التي احترقت بضوءها أى حرها. ومن صم الرشاد: بيان لها.
والصم: جمع صماء، أى: صلبة. والرشاد الصخر. واحدة رشادة. وقيل: يصف مطايا بأنها مطبوعة على العمل غير محتاجة الزمام، وأنها غيرها أثر السير قوية، بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب.
(3) . أعرب الزمخشري فضلا في الآية مفعولا لأجله، منصبا عن قوله: الراشدون ... الخ. قال أحمد: أورد الاشكال بعد تقرير أن الرشد ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو فعلهم حقيقة على ما هو معتقده، ونحن بنينا على ما بينا: أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته، فقد وجد شرط انتصاب المفعول له، وهو اتحاد فاعل الفعلين، على أن الاشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحد الذي أورده عليه الزمخشري، بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم. ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل، وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازا حتى يكون زبد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك. وقد نسب الرشد إليهم على طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد، وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان: إما جواب الزمخشري، وإما أمكن منه وأبين: وهو أن الرشد هنا يستلزم كونه راشدا، إذ هو مطاوعه، لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا.
وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله يريكم البرق خوفا وطمعا فان الاشكال بعينه وارد فيها، إذ الخوف والطمع فعلهم، أى: منسوب إليهم على طريقة أنهم الخانفون الطامعون، والفعل الأول لله تعالى، لأنه مريهم ذلك، والجواب عنه: أنهم مفعولون في معنى الفاعلين، بواسطة استلزام المطاوعة، لأنه إذا أراهم فقد رأوا. وقد سلف هذا الجواب مكانه، فصححت الكلام هاهنا بتقدير المفعول فاعلا وعكسه آية الحجرات، إذ تصحيح الكلام فيها بتقدير الفاعل مفعولا، وهذا من دقائق العربية فتأمله، والله الموفق.

(4/363)


وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9)

بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل حكيم حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم.

[سورة الحجرات (49) : آية 9]
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9)
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار، فأمسك عبد الله ابن أبى بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيب من مسكك «1» وروى: حماره أفضل منك، وبول حماره أطيب من مسكك «2» ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا، وجاء قوماهما وهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالعصى، وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، ونزلت.
وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. والبغي: الاستطالة والظلم وإباء الصلح. والفيء: الرجوع، وقد سمى به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة: ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وعن أبى عمرو: حتى تفي، بغير همز، ووجهه أن أبا عمرو خفف الأولى من الهمزتين الملتقيتين فلطفت على الراوي تلك الخلسة «3» ، فظنه قد طرحها. فإن قلت: ما وجه قوله اقتتلوا والقياس اقتتلتا «4» ، كما قرأ ابن أبى عبلة. أو اقتتلا، كما قرأ عبيد بن عمير على تأويل الرهطين أو النفرين؟ قلت: هو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله: حتى يفيئوا إلى أمر الله، فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط. وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها ما قاتلت. وعن ابن عمر: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدته
__________
(1) . لم أره عن ابن عباس. وهو في الصحيحين من حديث أنس. وفيه «فبلغنا أنها أنزلت وإن طائفتان من المؤمنين ... الآية. دون بول الحمار. وقوله «والله إن بول حماره لأطيب من مسك» وليس فيه أيضا «وإنه صلى الله عليه وسلم مضى. ثم نزلت الآية.
(2) . لم أره هكذا وحديث أنس في الصحيحين «والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك» .
(3) . قوله «تلك الخلسة» في الصحاح: خلست الشيء واختلسته، إذا استلبته «والاسم الخلسة- بالضم. (ع)
(4) . قال محمود: «لم قال اقتتلوا عدولا ... الخ» قال أحمد: قد تقدم في مواضع إنكار النحاة الحمل على لفظ «من» ، بعد الحمل على معناها، وفي هذه الآية حمل على المعنى بقوله اقتتلوا ثم على اللفظ بقوله بينهما فلا يعتقد أن المقول في «مق» مطرد في هذا، لأن المانع لزوم الإجمال والإبهام بعد التفسير، وهاهنا لا يلزم ذلك، إذ لا إبهام في الطائفة، بل لفظها مفرد أبدا، ومعناها جمع أبدا، وكانت كذلك لاختلاف أحوالها من حيث المعنى مرة جمعا ومرة مقردا، فتأمله، والله الموفق.

(4/364)


من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله عز وجل. قاله بعد أن اعتزل، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت، وإذا تولت عمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يا ابن أم عبد، هل تدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال:
الله ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» «1» ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي: صير إلى مقاتلتهما، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، واطلاعهما على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل، وفي ذلك تفاصيل: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها: ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى فأصلحوا بينهما بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره: وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات: ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. فإن قلت: فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول؟ قلت: لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معا أو راكبتى شبهة، وأيتهما كانت، فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما: إصلاح ذات البين، وتسكين الدهماء «2» بإراءة الحق والمواعظ الشافية، ونفى الشبهة، إلا إذا أصرتا، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه، وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين وأقسطوا أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، والقول فيه مثله في
__________
(1) . أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار والحارث. وابن عدى من رواية كوثر بن حكيم النافع عن نافع عن ابن عمر. وكوثر متروك، قال فيه أحمد: أحاديثه أباطيل. [.....]
(2) . قوله «الدهماء» اى الجماعة. (ع)

(4/365)


إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)

الأمر باتقاء الله على عقب النهى عن التقديم بين يديه، والقسط- بالفتح-: الجور من القسط:
وهو اعوجاج في الرجلين «1» . وعود قاسط: يابس. وأقسطته الرياح. وأما القسط بمعنى العدل، فالفعل منه: أقسط، وهمزته للسلب، أى: أزال القسط وهو الجور.

[سورة الحجرات (49) : آية 10]
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق: ما إن لم يفضل الأخوة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثا للسفراء «2» بينهما، إلى أن يصادف ما وهي من الوفاق من يرقعه، وما استشن «3» من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحق بذلك وبأشد منه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يعيبه، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره» «4» ثم قال «احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل» «5» . فإن قلت: فلم خص الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلت: لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان، فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرئ: بين إخوتكم وإخوانكم. والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه واتقوا الله فإنكم إن فعلتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والائتلاف، والمسارعة إلى إماطة ما يفرط منه، وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم، واشتمال رأفته عليكم حقيقا بأن تعقدوا به رجاءكم.
__________
(1) . قوله «وهو اعوجاج في الرجلين» في الصحاح: القسط- بالتحريك-: انتصاب في رجلي الدابة، وذلك عيب، لأنه يستحب فيهما الانحناء والتوقير اه. (ع)
(2) . قوله «وبنا السفراء بينهما ... الخ» جمع سفير: وهو الرسول والمصلح بين القوم. (ع)
(3) . قوله «استشن» في الصحاح: تشنن الجلد يبس، واستشن الرجل: هزل. (ع)
(4) . قوله «بقتار قدره» في الصحاح: «القتار» : ريح الشواء. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي من رواية إسماعيل بن رافع عن سعيد عن أبى هريرة به سواء وزاد فيه «ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منها. ولا يشترى لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره ثم لا يطعمونهم منها» قلت:
وإسناده ضعيف وأول الحديث في الصحيحين» من وجه آخر عن أبى هريرة: وسيأتى في آخر تفسير سورة الواقعة.

(4/366)


ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11)

[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11)
القوم: الرجال خاصة، لأنهم القوام بأمور النساء. قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء وقال عليه الصلاة والسلام: «النساء لحم على وضم «1» إلا ما ذب»
عنه» والذابون هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم، كصوم وزور: في جمع صائم وزائر. أو تسمية بالمصدر. عن بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما. أى قياما، واختصاص القوم بالرجال:
صريح في الآية وفي قول زهير:
أقوم آل حصن أم نساء «3»
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن، وتنكير القوم والنساء
__________
(1) . قوله «على وضم» الوضم: ما يوضع تحت اللحم من خشب وغيره يوقى به من الأرض. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . لم أره عن على، وأخرجه ابن المبارك في البر والصلة من قول عمر بن الخطاب، وكذلك رواه أبو عبيد وابراهيم الحربي في الغريب.
(3) .
وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء
فان تكن النساء مخبآت ... فحق لكل محصنة اهتداء
لزهير يهجو حصن بن حذيفة الفزاري. والقوم: الرجال فقط، حتى قيل: إنه جمع قائم، كصوم وزور، في صائم وزائر. وقيل إنه في الأصل مصدر، والهمزة لطلب التعيين، ولكن الكلام من مجاهل العارف. ونساء: عطف على قوم الوقع خبرا من آل حصن، أو خبرا لمبتدأ محذوف، والعطف من عطف الجمل. ويجوز أن الهمزة التسوية كالواقعة بعد سواء، كأنه. قال: ما أبالى منهم، سواء أكانوا رجالا أو نساء، فيتعين أنه من عطف الجمل لأجل التسوية، ولكن المقام يؤيد الأول، وفي البيت الاعتراض بين سوف ومدخلها بالفعل الملقى عند المفعول، والاعتراض أيضا بين ما أدرى وبين الاستفهام بجملة التسويف، لأن «أدرى» طالب لمفعولين وجملة «أقوم» سادة مسدهما، وانظر كيف خطر بباله أن ينفى الدراية بحال الآل. ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف يدرى، ثم قبل أن يكمل ذلك قال: إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن، فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه، فلله در العرب ما ألطفهم في حكاية الحال بأبلغ مقال. وروى لست بدل سوف. وفيه نظر، واسم تكن ضمير القوم، والنساء خبرها ومخبآت حال، أى: فان كن محصنات فحق لهن أن يهدين إلى أزواجهن، وهدى المرأة إلى زوجها وأهداها إليه إهداء، بمعنى.

(4/367)


يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات «1» من بعض وأن تقصد إفادة الشياع، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة على التوحيد، «2» إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه، ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتى ما عليه من النهى «3» والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به، فيؤدى ذلك- وإن أوجده واحد- إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى عسى أن يكونوا خيرا منهم كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر «4» عن العلة الموجبة لما جاء النهى «5» عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر، لأن الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن «6» عند الله: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه: خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه «7» . وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا «8» . وفي قراءة عبد الله: عسوا أن يكونوا، وعسين
__________
(1) . قال محمود: «لم يقل لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات ... الخ» قال أحمد: ولو عرف فقال: لا يسخر المؤمنون بعضهم من بعض: لكانت كل جماعة منهم منهية ضرورة شمول النهى، ولكن أورد الزمخشري هذا، وإنما أراد أن في التنكير فائدة: أن كل جماعة منهية على التفصيل في الجماعات والتعرض بالنهى لكل جماعة على الخصوص، ومع التعريف تحصيل النهي، لكن لا على التفصيل بل على الشمول، والنهى على التفصيل أبلغ وأوقع.
(2) . عاد كلامه. قال: «وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة للاشعار ... الخ» قال أحمد:
وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه.
(3) . قوله «ولا يأتى ما عليه من النهى» أى يتلهى ولا يفعل ما عليه من نهى الساخر والإنكار عليه. (ع)
(4) . قال محمود: «وقوله عسى أن يكونوا خيرا منهم جواب للمستخبر عن علة النهى ... الخ» قال أحمد: وهو من الطراز الأول.
(5) . قوله «لما جاء النهى عنه» لعل ما مصدرية، ولفظ عنه مزيد من ناسخ الأصل، أى: لمجيء النهى، وإلا: أى وإلا يكن مستأنفا. (ع) [.....]
(6) . قوله «وإنما الذي يزن عند الله» لعله يزين. (ع)
(7) . لم أره عنه، وفي ابن أبى شيبة عن أبى موسى من قوله نحوه.
(8) . أخرجه ابن أبى شيبة في الأدب المفرد من رواية إبراهيم عن ابن مسعود بهذا.

(4/368)


أن يكن، فعسى على هذه القراءة هي ذات الخبر كالتي في قوله تعالى فهل عسيتم وعلى الأولى التي لا خبر لها كقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا. واللمز: الطعن والضرب باللسان.
وقرئ: ولا تلمزوا- بالضم. والمعنى: وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه كى يحذره الناس» «1» وعن الحسن رضى الله عنه في ذكر الحجاج: أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش «2» يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقى ولا من الناس يستحى: فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل:
الصلاة أيها الرجل الصلاة أيها الرجل، هيهات دون ذلك السيف والسوط. وقيل: معناه لا يعب بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة. والتنابز بالألقاب:
التداعي بها: تفاعل من نبزه، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ويقال: النبز «3» والنزب: لقب السوء والتلقيب المنهي عنه، وهو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا، فأما ما يحبه مما يزينه وينوه به فلا بأس به. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه» «4» ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن.
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى والترمذي الحكيم في النوادر في الثامن والستين والعقيلي وابن عدى وابن حبان كلهم من رواية الجارود بن يزيد عن بهز بن حكيم. عن أبيه عن جده مرفوعا أترعوون عن ذكر الفاجر؟ اذكره بما فيه، كى يحذره الناس» واتفقوا على أن الجارود غير ثقة، وقال الدارقطني: هو من وضع الجارود ثم سرقه منه جماعة منهم عمرو بن الأزهر، وسليمان بن عيسى عن الثوري عن بهز وسليمان وعمرو كذا بان وقد رواه العلاء بن بشر عن ابن عيينة عن بهز: قال الدارقطني: وابن عيينة لم يسمع من بهز وغير لفظه فقال: «ليس للفاسق غيبة» انتهى وهذا أورده البيهقي في الشعب عن الحاكم بسنده إلى العلاء وقال: قال الحاكم: هذا غير صحيح ولا معتمد. وقال ابن طاهر: روى عن معمر عن بهز أيضا أخرجه عبد الوهاب أخو عبد الرزاق. وعبد الوهاب كذاب وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال لم يروه عن معمر غيره، قال: وله طريق أخرى عن عمر بن الخطاب رواه يوسف بن أبان حدثنا الأبرد بن حاتم أخبرنى منهال السراج عن عمر.
(2) . قوله «فانه أتانا أخيفش أعيمش» في الصحاح «الخفش» : صغر في العين، وضعف في البصر خلقة والرجل أخفش. وفيه: العمش في العين: ضعف الرؤية مع سيلان الدمع. والرجل أعمش اه. وأخيفش وأعيمش تصغير: أخفش وأعمش. (ع)
(3) . قوله «ويقال النبز» في الصحاح «النبز» بالتحريك: اللقب، وبالتسكين: المصدر. (ع)
(4) . لم أجده هكذا، وروى البيهقي في الشعب في الحادي والستين عن عثمان بن طلحة الحجى رفعه قال «ثلاث مصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» وفيه موسى بن عبد الملك بن عمير وهو ضعيف. وروى أبو يعلى والطبراني من حديث ذيال بن عبيد بن حنظلة حدثني جدي حنظلة بن جذيم قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدعى الرجل بأحب الأسماء إليه» .

(4/369)


قال عمر رضى الله عنه: أشيعوا الكي فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجرى في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. روى عن الضحاك أن قوما من بنى تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبى ذر وسالم مولى حذيفة، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة. وعن ابن عباس أن أم سلمة ربطت حقويها بسبيبة، «1» وسدلت طرفها خلفها وكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب. وعن أنس: عيرت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر.
وعن عكرمة عن ابن عباس أن صفية بنت حيى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
إن النساء يعيرننى ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا قلت إن أبى هرون وإن عمى موسى وإن زوجي محمد» «2» وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع، فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا لي، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، فقال لرجل: تنح، فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرجل. أنا فلان، فقال: بل أنت ابن فلانة، يريد: أما كان يعير بها في الجاهلية، فخجل الرجل فنزلت، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا «3» الاسم هاهنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس.
ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين «4» بسبب ارتكاب
__________
(1) . قوله «حقويها بسبيبة» في الصحاح «السب» : شقة كتان: والسبيبة: مثله. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن عكرمة، عن ابن عباس بغير إسناد وفي الترمذي من رواية هاشم بن سعيد الكوفي: حدثنا كنانة حدثتنا صفية بنت حيي قالت «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام. فذكرت ذلك له فقال: ألا قلت: وكيف تكونا خيرا منى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم وأبى هارون وعمى موسى عليهما الصلاة والسلام. وكان الذي بلغها أنهن قلن نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخير منها نحن أزواجه وبنات عمه» وقال: غريب. وليس إسناده بذاك. وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني من رواية معمر عن ثابت عن أنس قال. «بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودى فبكت ... فذكر معناه.
(3) . ذكره الثعلبي، ومن تبعه عن ابن عباس بغير سند.
(4) . قال محمود: «الاسم هاهنا الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم. كأنه قال: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين ... الخ» قال أحمد: أقرب الوجوه الثلاثة ملائمة لقاعدة أهل السنة وأولاها: هو أولها، ولكن بعد صرف الذم إلى نفس الفسق، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى. ولكن الزمخشري لم يستطع ذلك: انحرافا إلى قاعدة: يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن، تحوما على أن الاسم التسمية، ولا شك أن صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني، فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث فليتم له أن الفاسق غير مؤمن، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما، وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن مقاصده، حتى ما تنقلب له كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها، ولله الحمد.

(4/370)


ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)

هذه الجرائر «1» أن يذكروا بالفسق. وفي قوله بعد الإيمان ثلاثة أوجه: أحدها استقباح الجمع بين الايمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة «2» . والثاني: أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودى يا فاسق، فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهى عن التنابز. والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.

[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)
يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ثم يقال في مطاوعه: اجتنب الشر فتقص المطاوعة مفعولا، والمأمور باجتنابه هو بعض الظن، وذلك البعض موصوف بالكثرة: ألا ترى إلى قوله إن بعض الظن إثم؟ فإن قلت: بين الفصل بين كثيرا، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين، لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظن منوطا بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظن متصف بالكثرة مجتنبا، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر: كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون
__________
(1) . قوله «هذه الجرائر» جمع جريرة، وهي الجناية. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «بعد الكبرة الصبوة» الكبرة- بالفتح-: اسم للكبر في السن. والصبوة: الميل إلى الجهل والفتوة. أفاده الصحاح. (ع)

(4/371)


به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد والخيانة به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث. عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» «1» وعن الحسن: كنا في زمان الظن بالناس حرام، وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت، وظن بالناس ما شئت.
وعنه: لا حرمة لفاجر. وعنه: إن الفاسق إذا أظهر فسقه وهتك ستره هتكه الله، وإذا استتر لم يظهر الله عليه لعله أن يتوب. وقد روى: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له «2» .
والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. ومنه قيل لعقوبته: الأثام، فعال منه: كالنكال والعذاب والوبال. قال:
لقد فعلت هذى النوى بى فعلة ... أصاب النوى قبل الممات أثامها «3»
والهمزة فيه عن الواو، كأنه يثم الأعمال: أى يكسرها بإحباطه. وقرئ: ولا تحسسوا بالحاء والمعنيان متقاربان. يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه: تفعل من الجس، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس، لما في اللمس من الطلب. وقد جاء بمعنى الطلب في قوله تعالى وأنا لمسنا السماء والتحسس: التعرف من الحس، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس بالحاء والجيم، والمراد النهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وعن مجاهد. خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن. قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين: فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة. من حديث ابن عمر بإسناد فيه لين، ولفظه «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وهو يقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا» وروى ابن أبى شيبة من طريق مجالد عن الشعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال «ما أعظمك وأعظم حرمتك والمسلم أعظم حرمة منك. حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء. وروى البيهقي في الشعب من طريق مجاهد عن ابن عباس نحوه. وفيه حفص بن عبد الرحمن. [.....]
(2) . أخرجه البيهقي في الشعب في التاسع والستين والقضاعي في مسند الشهاب من طريق رواه بن الجراح عن أبى سعد الساعدي عن أنس وإسناده ضعيف. وأخرجه ابن عدى من رواية الربيع بن بدر عن أبان عن أنس وإسناده أضعف من الأول.
(3) . النوى: نية المسافر من قرب أو بعد، فهي مؤنثة، وتستعمل اسم جمع نية، فيذكر: أى لقد فعلت في هذه النية فعلة مسيئة، فهي بمعنى في، ثم دعا عليها بقوله: أصاب النوى التي أذتنى أثامها، أى: جزاء تلك الفعلة.
أو جزاء النوى التي تستحقه. وقد يسمى الذنب إثما وأثاما، من إطلاق المسبب على السبب، وقال قبل الممات، أى: قبل موته ليتشفى فيها، فكأنه شبهها بعدو، ثم دعا عليها.

(4/372)


ولو في جوف بيته «1» . وعن زيد بن وهب: قلنا لا بن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة ابن أبى معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به «2» . غابه واغتابه: كغاله واغتاله. والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من «3» الاغتيال:
وهي ذكر السوء في الغيبة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» «4» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس أيحب أحدكم تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير.
ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا. ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتا. وعن قتادة:
كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حى. وانتصب ميتا على الحال من اللحم. ويجوز أن ينتصب عن الأخ. وقرئ: ميتا. ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله تعالى فكرهتموه معناه: فقد كرهتموه واستقر ذلك. وفيه معنى الشرط، أى: إن صح هذا فكرهتموه، وهي الفاء الفصيحة،
__________
(1) . أخرجه الطبراني والعقيلي. وابن عدى من رواية قدامة بن محمد الأشجعى عن إسماعيل بن شبيب الطائفي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بهذا وفي الباب عن ابن عمر رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه ولفظه «صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع: قال يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فانه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله» وعن أبى بردة عند أبى داود وأحمد والطبراني وأبى يعلى وعن البراء بن عازب عند أبى يعلى والبيهقي في الشعب في التاسع والستين من رواية مصعب بن سلام عن أبى إسحاق عن البراء. وعن ثوبان عند أحمد بلفظ «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فانه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» وعن بريدة عند الطبراني وابن مردويه ولفظه «صلينا الظهر خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما انفتل أقبل علينا غضبان فنادى بصوت أسمع العواتق في جوف الخدور فذكر نحوه.
(2) . أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة وعبد الرزاق والطبراني والبيهقي في الشعب في الثاني والخمسين من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال «أتى ابن مسعود قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا» لفظ أبى داود والباقين نحوه. ورواه الحاكم والبزار من رواية أسباط عن الأعمش فقال فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التجسس» قال البزار تفرد به أسباط وقال ابن أبى حاتم عن أبى زرعة والترمذي عن البخاري: أخطأ فيه أسباط.
والصحيح من رواية أبى معاوية وغيره عن الأعمش «إن الله نهانا»
(3) . قوله «كالغيلة من الاغتيال» كذا في الصحاح. وفيه يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه. (ع)
(4) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.

(4/373)


ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)

أى: فتحققت- بوجوب الإقرار عليكم وبأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره، لإباء البشرية عليكم أن تجحدوه- كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضا أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين. وقرئ: فكرهتموه. أى: جبلتم على كراهته. فإن قلت: هلا عدى بإلى كما عدى في قوله وكره إليكم الكفر وأيهما القياس؟ قلت: القياس تعديه بنفسه، لأنه ذو مفعول واحد قبل تثقيل حشوه، تقول: كرهت الشيء، فإذا ثقل استدعى زيادة مفعول. وأما تعديه بإلى، فتأول وإجراء لكره مجرى بغض، لأن بغض منقول من بغض إليه الشيء فهو بغيض إليه، كقولك: حب إليه الشيء فهو حبيب إليه. والمبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة. أو لأنه بليغ في قبول التوبة، منزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط، لسعة كرمه.
والمعنى: واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. وعن ابن عباس: أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوى لهما طعامهما، فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغى لهما إداما، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء، فأخبرهما سلمان بذلك، فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: مالى أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحما فقال: إنكما قد اغتبتما «1» فنزلت.

[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)
من ذكر وأنثى من آدم وحواء. وقيل: خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلى بمثل ما يدلى به الآخر سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب. والشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع، العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصى بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب،
__________
(1) . هكذا ذكره الثعلبي وربيعة بغير سند ولا راو. وفي الترغيب لأبى القاسم الأصبهانى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلة نحوه.

(4/374)


لأن القبائل تشعبت منها. وقرئ: لتتعارفوا، ولتعارفوا بالإدغام. ولتعرفوا، أى لتعلموا كيف تتناسبون. ولتتعرفوا. والمعنى: أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقرئ: أن، بالفتح، كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه طاف يوم فتح مكة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «الحمد الله الذي أذهب عنكم عبية «1» الجاهلية وتكبرها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: مؤمن تقى كريم على الله، وفاجر شقى هين على الله» «2» ثم قرأ الآية. وعنه عليه السلام: من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله «3» . وعن ابن عباس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى.
وعن يزيد بن شجرة: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول:
من اشترانى فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يراه عند كل صلاة، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه، فقال: محموم، فعاده ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال: هو لما به، فجاءه وهو في ذمائه»
، فتولى غسله ودفنه، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر «5» عظيم، فنزلت.
__________
(1) . قوله «عبية الجاهلية» في الصحاح: رجل فيه عبية، أى: كبر وتجبر. وعبية الجاهلية: نخوتها. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي وابن حبان وأبو يعلى وابن أبى حاتم من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والبزار وابن المبارك في البر والصلة من رواية سعيد بن أبى سعيد عن أبيه عنه نحوه. ومنهم من قال عن سعيد عن أبى هريرة: وعن عبد الملك بن قدامة الحاطبى. حدثني أبى أن النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أيها الناس» فذكر نحوه وأخرجه.
(3) . أخرجه الحاكم والبيهقي وأبو يعلى وإسحاق وعبد والطبراني وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق هشام ابن زياد أبى المقدام عن محمد بن كعب عن ابن عباس وأتم منه، قال البيهقي في الزهد: تكلموا في هشام بسبب هذا الحديث، وأنه كان يقول: حدثني عن محمد بن كعب ثم ادعى أنه سمعه من محمد، ثم أخرجه البيهقي من طريق عبد الجبار بن محمد العطاردي والد أحمد عن عبد الرحمن الطيبي بن القاسم بن عروة عن محمد بن كعب عن ابن عباس يرفع الحديث نحوه.
(4) . قوله «وهو في ذمائه» في الصحاح «الدماء» : ممدود بقية الروح في المذبوح. (ع)
(5) . هكذا ذكره الثعلبي والواحدي بغير سند.

(4/375)


قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14)

[سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14)
الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام: الدخول في السلم. والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا. أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا، ودفع ما انتحلوه «1» ، فقيل: قل لم تؤمنوا. وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه، فلم يقل:
كذبتم، ووضع لم تؤمنوا الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين أولئك هم الصادقون تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون، ورب تعريض لا يقاومه التصريح، واستغنى بالجملة التي هي لم تؤمنوا عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإيمان، ثم وصلت بها الجملة المصدرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى، ولم يقل: ولكن أسلمتم، ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم آمنا كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به. فإن قلت: قوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم بعد قوله تعالى قل لم تؤمنوا يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة.
قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله لم تؤمنوا هو تكذيب دعواهم، وقوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم ولكن قولوا أسلمنا حين
__________
(1) . قال محمود: «وجه هذا النظم تكذيب دعواهم أولا الخ» قال أحمد: ونظير هذا النظم ومراعاة هذه اللطيفة قوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ثم قال: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ولما كان مؤدى هذا تكذيب الله تعالى لهم في شهادتهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قدم على ذلك مقدمة تلخص المقصود وتخلصه من حوادث الوهم ونوائبه، فقال بين الكلامين، والله يعلم إنك لرسوله، ثم قال بعد ذلك:
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فتلخص من ذلك أنهم كذبوا فيما ادعوه من شهادة قلوبهم الحق، لأن ذلك حقيقة الشهادة، لا أنهم كذبوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من الله وكان المخلص من ذلك قوله جل وعلا والله يعلم إنك لرسوله.

(4/376)


إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)

لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قولوا وما في لما من معنى التوقع: دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد لا يلتكم لا ينقصكم ولا يظلمكم.
يقال: ألته السلطان حقه أشد الألت، وهي لغة غطفان. ولغة أسد وأهل الحجاز: لاته ليتا.
وحكى الأصمعى عن أم هشام السلولية أنها قالت: الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات، ولا تصمه الأصوات «1» . وقرئ باللغتين: لا يلتكم، ولا يألتكم. ونحوه في المعنى فلا تظلم نفس شيئا.
ومعنى طاعة الله ورسوله: أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته، فان فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم، ووهب لهم مغفرته، وأنعم عليهم بجزيل ثوابه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن نفرا من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدبة، فأظهروا الشهادة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري، يريدون الصدقة ويمنون عليه، فنزلت.

[سورة الحجرات (49) : آية 15]
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)
ارتاب: مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة. والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدقوه واعترفوا بأن الحق منه. فإن قلت: ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين، أحدهما أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه، أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمر على ذلك راكبا رأسه لا يطلب له مخرجا، فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات.
ونظيره قوله ثم استقاموا والثاني: أن الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الايمان، تنبيها على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضا جديدا وجاهدوا يجوز أن يكون المجاهد منويا وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس: الغزو، وأن يتناول العبادات بأجمعها، وبالمجاهدة بالمال: نحو
__________
(1) . قوله «ولا تصمه الأصوات» إن كان من الوصم فالمعنى: لا تصدعه الأصوات ولا تعيبه، وإن كان من الصمم فالمعنى: لا تجد أصم. وفي الصحاح «الوصم» : الصدع والعيب. وفيه «أصممته» : وجدته أصم. (ع) [.....]

(4/377)


قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون (18)

ما صنع عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى أولئك هم الصادقون الذين صدقوا في قولهم آمنا، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بنى أسد. أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجد وثبات.

[سورة الحجرات (49) : آية 16]
قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم (16)
يقال: ما علمت بقدومك، أى: ما شعرت به ولا أحطت به. ومنه قوله تعالى أتعلمون الله بدينكم وفيه تجهيل لهم.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 17 الى 18]
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون (18)
يقال: من عليه بيد أسداها إليه، كقولك: أنعم عليه وأفضل عليه. والمنة: النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه «1» ، واشتقاقها من المن الذي هو القطع، لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال: من عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعاما. وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما، ونفى أن يكون كما زعموا إيمانا، فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه السلام: إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام، فقل لهم: لا تعتدوا على إسلامكم، أى حدثكم المسمى إسلاما عندي لا إيمانا. ثم قال: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صح زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الايمان غير مضاف: ما لا يخفى على المتأمل، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان، فلله المنة عليكم. وقرئ: إن هداكم، بكسر الهمزة.
__________
(1) . قوله «من يزلها إليه» في الصحاح: أزللت إليه نعمته، أى: استديتها إليه. وفي الحديث «من أزلت إليه نعمة فليشكرها» وأزللت شيئا من حقه، أى: أعطيت اه. (ع)

(4/378)


ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2) أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3)

وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه: إذ هداكم. وقرئ: تعلمون، بالتاء والياء، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعنى أنه عز وجل يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم ولا يظهر على صدقكم وكذبكم، وذلك أن خاله مع كل معلوم واحدة لا تختلف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطى من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» «1» .

سورة ق
مكية [إلا آية 38 فمدنية] وآياتها 45 [نزلت بعد المرسلات] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2) أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3)
الكلام في ق والقرآن المجيد بل عجبوا نحوه في ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا سواء بسواء، لالتقائهما في أسلوب واحد. والمجيد: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب، ومن أحاط علما بمعانيه وعمل بما فيه: مجد عند الله وعند الناس، وهو بسبب من الله المجيد، فجاز اتصافه بصفته. قوله بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته، ومن كان على صفته لم يكن إلا ناصحا لقومه مترفرفا «2» عليهم، خائفا أن ينالهم سوء ويحل بهم مكروه، وإذا علم أن مخوفا أظلهم، لزمه أن
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرق عن أبى بن كعب به.
(2) . قوله «مترفرفا عليهم» في الصحاح: فلان يرفنا، أى: يحوطنا، ورفرف الطائر: إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. ورف لونه بالفاء رفا ورفيفا: برق وتلألأ. وثوب رفيف وشجر رفيف: إذا تدانت أوراقه. وفيه أيضا: ترقرق الشيء بالقاف: تلألأ. (ع)

(4/379)


قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)

ينذرهم ويحذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف ونهاية المحاذير، وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث، مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلى اختراع كل شيء وإبداعه، وإقرارهم بالنشأة الأولى، ومع شهادة العقل بأنه لا بد من الجزاء. ثم عول على أحد الإنكارين بقوله تعالى فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أإذا متنا
دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار، ووضع الكافرون موضع الضمير للشهادة على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، وهذا إشارة إلى الرجع، وإذا منصوب بمضمر، معناه: أحين نموت ونبلى نرجع؟ ذلك رجع بعيد مستبعد مستنكر، كقولك:
هذا قول بعيد. وقد أبعد فلان في قوله. ومعناه: بعيد من الوهم والعادة. ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع. وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. وقرئ: إذا متنا، على لفظ الخبر، ومعناه:
إذا متنا بعد أن نرجع، والدال عليه ذلك رجع بعيد. فإن قلت: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث

[سورة ق (50) : آية 4]
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)
قد علمنا رد لاستبعادهم الرجع، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا. عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» «1» وعن السدى ما تنقص الأرض منهم ما يموت فيدفن في الأرض منهم كتاب حفيظ محفوظ من الشياطين ومن التغير، وهو اللوح المحفوظ. أو حافظ لما أودعه وكتب فيه.

[سورة ق (50) : آية 5]
بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)
بل كذبوا إضراب أتبع الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فهم في أمر مريج مضطرب. يقال: مرج الخاتم في أصبعه وجرج، فيقولون تارة:
شاعر، وتارة: ساحر، وتارة: كاهن، لا يثبتون على شيء واحد: وقرئ: لما جاءهم، بكسر اللام وما المصدرية، واللام هي التي في قولهم لخمس خلون، أى: عند مجيئه إياهم، وقيل بالحق:
القرآن. وقيل: الإخبار بالبعث.
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى صالح عن أبى هريرة وأخرجه الحاكم من حديث أبى سعيد، وزاد «قالوا:
ما هو يا رسول الله؟ قال: هو مثل حبة الخردل، منه ينبتون» .

(4/380)


أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11) كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14)

[سورة ق (50) : آية 6]
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)
أفلم ينظروا حين كفروا بالبعث إلى آثار قدرة الله في خلق العالم بنيناها رفعناها بغير عمد من فروج من فتوق: يعنى أنها ملساء سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل، كقوله تعالى: هل ترى من فطور.

[سورة ق (50) : الآيات 7 الى 8]
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8)
مددناها دحوناها رواسي جبالا ثوابت لولا هي لتكفأت من كل زوج من كل صنف بهيج يبتهج به لحسنه تبصرة وذكرى لتبصر به ونذكر كل عبد منيب راجع إلى ربه، مفكر في بدائع خلقه. وقرئ: تبصرة وذكرى بالرفع، أى: خلقها تبصرة.

[سورة ق (50) : الآيات 9 الى 11]
ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)
ماء مباركا كثير المنافع وحب الحصيد وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما باسقات طوالا في السماء: وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: باصقات، بإبدال السين صادا لأجل القاف نضيد منضود بعضه فوق بعض: إما أن يراد كثرة الطلع وتراكمه، أو كثرة ما فيه من الثمر رزقا على أنبتناها رزقا، لأن الإنبات في معنى الرزق. أو على أنه مفعول له، أى: أنبتناها لنرزقهم كذلك الخروج كما حييت هذه البلدة الميتة، كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم، والكاف في محل الرفع على الابتداء:

[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14]
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14)
أراد بفرعون قومه كقوله تعالى من فرعون وملائهم لأن المعطوف عليه قوم نوح، والمعطوفات جماعات كل يجوز أن يراد به كل واحد منهم، وأن يراد جميعهم، إلا أنه وحد

(4/381)


أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد (15) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16)

الضمير الراجع إليه على اللفظ دون المعنى فحق وعيد فوجب وحل وعيدى، وهو كلمة العذاب. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهديد لهم.

[سورة ق (50) : آية 15]
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد (15)
عيى بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله، والهمزة للإنكار. والمعنى: أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول، حتى نعجز عن الثاني، ثم قال: هم لا ينكرون «1» قدرتنا على الخلق الأول، واعترافهم بذلك في طيه الاعتراف بالقدرة على الإعادة بل هم في لبس أى في خلط وشبهة.
قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم. ومنه قول على رضى الله عنه: يا حار «2» إنه لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله. ولبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك القياس الصحيح: أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. فإن قلت: لم نكر الخلق الجديد، «3» وهلا عرف كما عرف الخلق الأول؟ قلت: قصد في تنكيره إلى خلق جديد له شأن عظيم وحال شديد، حق من سمع به أن يهتم به ويخاف، ويبحث عنه ولا يقعد على لبس في مثله.

[سورة ق (50) : آية 16]
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16)
__________
(1) . قوله «ثم قال هم لا ينكرون» يعنى كأنه قال ذلك بمعونة الاضراب. وقوله «في طيه ... الخ» أى يلزمه ذلك وإن لم يقع منهم اللبس. (ع)
(2) . قوله «يا حار إنه لملبوس» لعله ترخيم حارث. (ع)
(3) . وقع في النسخة ما أحكيه وصورته: «فان قلت لم نكر الخلق الجديد ... الخ» قال أحمد: هذا كلام كما تراه غير منتظم، والظاهر أنه لفساد في النسخة، والذي يتحرر في الآية- وهو مقتضى تفسير الزمخشري: أن فيها أسئلة ثلاثة: لم عرف الخلق الأول ونكر اللبس والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله ويهب لمن يشاء الذكور ولهذا المقصد عرف الخلق الأول، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى أى إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى أن لا يعبأ به، فهذا سر تعريف الخلق الأول. وأما التنكير فأمره منقسم: فمرة يقصد به تفخيم المنكر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع منه، وعلى الأول سلام قولا من رب رحيم وقوله لهم مغفرة وأجر عظيم وإن المتقين في جنات ونعيم وقوله بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أى لبس: وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون التفخيم، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته، ولعل إشارة الزمخشري إلى هذا والله أعلم، فهذا كما تراه كلام مناسب لاستطراف أسئلة وأجوبة، فان يكن هو ما أراده الزمخشري فذاك، وإلا فالعق العسل ولا تسل.

(4/382)


الوسوسة: الصوت الخفي. ومنها: وسواس الحلي. ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس. والباء مثلها في قولك: صوت بكذا وهمس به. ويجوز أن تكون للتعدية والضمير للإنسان، أى: ما تجعله موسوسا، وما مصدرية، لأنهم يقولون:
حدث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه. قال:
وأكذب النفس إذا حدثتها «1»
ونحن أقرب إليه مجاز، والمراد: قرب علمه منه، وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقا لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، وقد جل عن الأمكنة. وحبل الوريد: مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار. وقال ذو الرمة:
والموت أدنى لي من الوريد «2»
والحبل: العرق، شبه بواحد الحبال. ألا ترى إلى قوله:
__________
(1) .
وأكذب النفس إذا حدثها ... إن صدق النفس يزرى بالأمل
غير أن لا تكذبنها في التقى ... واخزها بالبر لله الأجل
للبيد بن ربيعة، وسئل بشار: أى بيت قالته العرب أشعر؟ فقال تفضيل بيت واحد على الشعر كله غير سديد، ولكنه أحسن لبيد في قوله: وأكذب النفس، يقال: كذبه وصدقه مخففا ومشددا، بمعنى. وما هنا من الأول للوزن، أى: لا تصدقها إذا حدثتك بأمر وحدثتها فيه، لأنها مثبطة عن نيل الفضائل. طامحة إلى الرذائل، وهذا معنى «إن صدق النفس» أى: تصديقها، يزرى بالأمل. يقال: زراه، إذا عابه. وأزرى به: إذا أوقع به العيب، غير أنه الحال والشأن لا تكذبها في تحديثها إياك بالتقى، والخوف من الله، فان مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ويجوز أنه ضمير المخاطب، ولا ناهية، وإجراء الكلام على الاستثناء يحتاج إلى تكلف في بيان المستثنى والمستثنى منه، ويمكن إجراؤه على الاستدراك، لكن نصب «غير» يحتاج إلى الحمل على الاستثناء» ويحتمل أن تكون «أن» مصدرية «ولا» نافية أو زائدة، لكن تأكيد الفعل بالنون بعد النهى كثير، وبعد النفي قليل، ومع الإثبات في هذا شاذ أو ضرورة، ولا بد من إجراء الكلام بهذا الوجه على الاستثناء معنى ولفظا.
وقد قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري باحتمال النهي والزيادة. وبعضهم باحتمال النفي في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت في الحج: «فأقضي ما يقضى الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وخزاه يخزوه: قهره وغلبه، أى: واقهرها بالخير لله الأجل الأعظم، وكأن في البر قهرا لها لمشقته عليها عادة.
(2) .
هل أغدون في عيشة رغيد ... والموت أدنى لي من الوريد
لذي الرمة. والاستفهام إنكارى، أى: لا أكون في عيشة واسعة والحال أن الموت أقرب إلى من الوريد.
وروى: أوفى. والمعنى واحد. والوريدان: عرقان في مقدم صفحتي العتق، سميا بذلك لأنهما يردان من الرأس.
ولأن الروح تردهما. وقال: عيشة رغيد، كقوله الله تعالى إن رحمت الله قريب وإن كان قليلا في فعيل بمعنى فاعل.

(4/383)


إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)

كأن وريديه رشاءا خلب «1»
والوريدان: عرقان مكتنفان لصفحتى العنق في مقدمهما متصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه. وقيل: سمى وريدا لأن الروح ترده. فإن قلت: ما وجه إضافة الحبل إلى الوريد، والشيء لا يضاف إلى نفسه؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن تكون الاضافة للبيان، كقولهم: بعير سانية. والثاني: أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد» كما لو قيل: حبل العلياء «2» مثلا.

[سورة ق (50) : الآيات 17 الى 18]
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)
إذ منصوب بأقرب، وساغ ذلك لأن المعاني تعمل في الظرف متقدمة ومتأخرة:
والمعنى: أنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس وما لا شيء أخفى منه، وهو أقرب من الإنسان «3» من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به، إيذانا بأن استحفاظ الملكين أمر هو غنى عنه، وكيف لا يستغنى عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة اقتضت ذلك: وهي ما في كتبة الملكين وحفظهما، وعرض صحائف العمل يوم يقوم الأشهاد.
وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله بعمله: من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحي من الله تعالى ولا منهما» «4» ويجوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب، يعنى: ونحن قريبون منه مطلعون على أحواله مهيمنون عليه، إذ حفظتنا وكتبتنا موكلون به، والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة. والقعيد: القاعد،
__________
(1) .
غضنفر تلقاء عند الغضب ... كأن وريديه رشاءا خلب
لرؤبة. والغضنفر: الأسد. والوريدان: عرقان يردان من الرأس يكتنفان الحلقوم. وقيل: تردهما الروح.
والرشاءان: حبلان للاستقاء. والخلب- بضمتين، وقد يسكن-: اللب والماء المخلوط بالطين. ويجوز أن يراد به هنا البئر الكدرة: شبه الشجاع بالأسد، وشبه وريديه عند الغضب بالرشاءين، وكأن هنا عاملة، وهي مخففة، وهو قليل، والكثير إهمالها.
(2) . قوله «لو قيل حبل العلباء» هي عصب العنق، كما في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وهو أقرب من الإنسان» يقال: قرب من الشيء كما يقال: قرب إليه. (ع)
(4) . أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطاه بن الأشعث العدوى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مقعد ملكيك» فذكره.

(4/384)


وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)

كالجليس بمعنى الجالس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقوله:
... كنت منه ووالدي ... بريا....... «1» ..
رقيب ملك يرقب عمله عتيد حاضر، واختلف فيما يكتب الملكان، فقيل: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر به. ويدل عليه قوله عليه السلام «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر» «2» وقيل: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وقرئ: ما يلفظ، على البناء للمفعول.

[سورة ق (50) : الآيات 19 الى 22]
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بوصف قدرته وعلمه، أعلمهم أن ما أنكروه وجحدوه هم لا قوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وهو قوله وجاءت سكرة الموت بالحق ونفخ في الصور، وسكرة الموت:
شدته الذاهبة بالعقل. والباء في بالحق للتعدية، يعنى: وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله. أو حقيقة الأمر وجلية الحال: من سعادة الميت وشقاوته. وقيل: الحق الذي خلق له الإنسان، من أن كل نفس ذائقة الموت. ويجوز أن تكون الباء مثلها في قوله تنبت بالدهن أى وجاءت ملتبسة بالحق، أى: بحقيقة الأمر. أو
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 52 فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي والبغوي من طريق جعفر عن القاسم عن أبى أمامة. ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه. ومن رواية بشر بن نمير عن القاسم نحوه. وأخرجه الطبراني من رواية ثور بن يزيد عن القاسم نحوه. وروى أبو نعيم في الحلية وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عروة بن رديم، عن القاسم عن أبى أمامة وعند الطبري من طريق على بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة، قال «دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، كم مع العبد ملك؟ - الحديث»

(4/385)


وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26)

بالحكمة والغرض الصحيح، كقوله تعالى خلق السماوات والأرض بالحق وقرأ أبو بكر وابن مسعود رضى الله عنهما: سكرة الحق بالموت، على إضافة السكرة إلى الحق والدلالة على أنها السكرة التي كتبت على الإنسان وأوجبت له، وأنها حكمة، والباء للتعدية، لأنها سبب زهوق الروح لشدتها، أو لأن الموت يعقبها، فكأنها جاءت به. ويجوز أن يكون المعنى: جاءت ومعها الموت. وقيل سكرة الحق سكرة الله، أضيفت إليه تفظيعا لشأنها وتهويلا. وقرئ: سكرات الموت ذلك إشارة إلى الموت، والخطاب للإنسان في قوله ولقد خلقنا الإنسان على طريق الالتفات. أو إلى الحق والخطاب للفاجر تحيد تنفر وتهرب. وعن بعضهم: أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما سن عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب، هو للكافر. ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا: هو للبر والفاجر ذلك يوم الوعيد على تقدير حذف المضاف، أى: وقت ذلك يوم الوعيد، والإشارة إلى مصدر نفخ سائق وشهيد ملكان: أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله. أو ملك واحد جامع بين الأمرين، كأنه قيل: معها ملك يسوقها ويشهد عليها، ومحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة. قرئ: لقد كنت. عنك غطاءك فبصرك، بالكسر على خطاب النفس، أى: يقال لها لقد كنت. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق. ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته:
حديدا لتيقظه.

[سورة ق (50) : آية 23]
وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23)
وقال قرينه هو الشيطان الذي قيض له في قوله نقيض له شيطانا فهو له قرين يشهد له قوله تعالى قال قرينه ربنا ما أطغيته. هذا ما لدي عتيد هذا شيء لدى وفي ملكتي عتيد لجهنم. والمعنى: أن ملكا يسوقه وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به، يقول: قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغوائى وإضلالى. فإن قلت: كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت:
إن جعلت ما موصوفة، فعتيد: صفة لها: وإن جعلتها موصولة، فهو بدل، أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف.

[سورة ق (50) : الآيات 24 الى 26]
ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26)

(4/386)


قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29)

ألقيا خطاب من الله تعالى للملكين السابقين: السائق والشهيد: ويجوز أن يكون خطابا للواحد على وجهين: أحدهما قول المبرد: أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لا تحادهما، كأنه قيل: ألق ألق: للتأكيد. والثاني: أن العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان، فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: خليلى وصاحبي، وقفا وأسعدا، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسى، اضربا عنقه. وقرأ الحسن: ألقين، بالنون الخفيفة.
ويجوز أن تكون الألف في ألقيا بدلا من النون: إجراء للوصل مجرى الوقف عنيد معاند مجانب للحق معاد لأهله مناع للخير كثير المنع للمال عن حقوقه، جعل ذلك عادة له لا يبذل منه شيئا قط. أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يمنع بنى أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت معتد ظالم متخط للحق مريب شاك في الله وفي دينه الذي جعل مبتدأ مضمن معنى الشرط، ولذلك أجيب بالفاء. ويجوز أن يكون الذي جعل منصوبا بدلا من كل كفار ويكون فألقياه تكريرا للتوكيد.

[سورة ق (50) : آية 27]
قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27)
فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى؟ قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون. فإن قلت، فأين التقاول هاهنا؟ قلت: لما قال قرينه هذا ما لدي عتيد وتبعه قوله قال قرينه ربنا ما أطغيته وتلاه لا تختصموا لدي: علم أن ثم مقاولة من الكافر، لكنها طرحت لما يدل عليها، كأنه قال: رب هو أطغانى، فقال قرينه: ربنا ما أطغيته. وأما الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعنى مجيء كل نفس مع الملكين: وقول قرينه ما قال له ما أطغيته ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى: وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي.

[سورة ق (50) : الآيات 28 الى 29]
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29)
قال لا تختصموا استئناف مثل قوله قال قرينه كأن قائلا قال: فماذا قال الله؟ فقيل:
قال لا تختصموا. والمعنى: لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته، وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم

(4/387)


يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30)

حجة على، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدى فأعفيكم عما أوعدتكم به وما أنا بظلام للعبيد فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب. والباء في بالوعيد مزيدة مثلها في ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو معدية، على أن «قدم» مطاوع بمعنى «تقدم» ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ويكون بالوعيد حالا، أى: قدمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد مقترنا به. أو قدمته إليكم موعدا لكم به. فإن قلت: إن قوله وقد قدمت إليكم واقع موقع الحال من لا تختصموا والتقديم بالوعيد في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب. قلت: معناه ولا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد، وصحة ذلك عندهم في الاخرة. فإن قلت: كيف قال بظلام على لفظ المبالغة «1» ؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون من قولك: هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. والثاني:
أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.

[سورة ق (50) : آية 30]
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30)
قرئ: نقول، بالنون والياء. وعن سعيد بن جبير: يوم يقول الله لجهنم. وعن ابن مسعود والحسن: يقال. وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر، نحو: أذكر وأنذر. ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل. ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم. وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم نقول، ولا يقدر حذف المضاف. وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل «2» الذي يقصد به تصوير
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف جاء على لفظ المبالغة ... الخ» قال أحمد: وذكر فيه وجهان آخران، أحدهما أن فعالا قد ورد بمعنى فاعل، فهذا منه. الثاني: أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم: إن عظيما فعظيم، وإن قليلا فقليل، فلما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه قدس ذاته عما يتوهم مخذول والعياذ بالله أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود، ولقد بدل القدرية فتوهموا أن الله تعالى لم يأمر إلا بما أراده وبما هو من خلق العبد، بناء على أنه لو كلف على خلاف ما أراد وبما ليس من خلق العبد لكان تكليفا بما لا يطاق، واعتقدوا أن ذلك ظلم في الشاهد، فلو ثبت في الغائب لكان كما هو في الشاهد ظلما، والله تعالى مبرأ من الظلم. ألا ترى هذا المعتقد كيف لزمهم عليه أن يكون الله تعالى ظلاما لعبيده، تعالى الله عن ذلك، لأن الحق الذي قامت بصحته البراهين: هو عين ما اعتقدوه ظلما فنفوه، فلمثلهم وردت هذه الآية وأشباهها، لتبين الناس ما نزل إليهم، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، والله الموفق للصواب.
(2) . قال محمود: «سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى ... الخ» قال أحمد: قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل في غير ما موضع، والنكير هاهنا أشد عليه، فان إطلاق التخييل قد مضى له في مثل قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وفي مثل قوله بل يداه مبسوطتان وإنما أراد به حمل الأيدى على نوع من المجاز، فمعنى كلامه صحيح، لأنا نعتقد فيهما المجاز، وندين الله بتقديسه عن المفهوم الحقيقي، فلا بأس عليه في معنى إطلاقه، غير أنا مخاطبون باجتناب الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى وإن كانت معانيها صحيحة، وأى إيهام أشد من إيهام لفظ التخييل. ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر وباطل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فلا يشك في وجوب اجتنابه، ثم يعود بنا الكلام إلى إطلاقه هاهنا فنقول: هو منكر لفظا ومعنى.
أما اللفظ فقد تقدم، وأما المعنى فلأنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه، وكيف نفرض وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك: منها هذا: ومنها: لجاج الجنة والنار.
ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا فظواهر يجب حملها على حقائقها، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا «فان القدرة صالحة. والعقل يجوز، والظواهر قاضية بوقوع ما صوره العقل، وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا، كتسليم الشجر وتسبيح الحصا في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظواهر في تفاصيل المقالة لا تسع الخرق وضل كثير من الخلق عن الحق، وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها، فان العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق، فاشدد يدك بما فصل في هذا الفصل، مما أرشدتك به إلى منهج القرب والوصل، والله الموفق.

(4/388)


وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35)

المعنى في القلب وتثبيته، وفيه معنيان، أحدهما: أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء «1» ولا يزاد على امتلائها، لقوله تعالى لأملأن جهنم والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد. ويجوز أن يكون هل من مزيد استكثارا للداخلين فيها واستبداعا للزيادة «2» عليهم لفرط كثرتهم. أو طلبا للزيادة غيظا على العصاة. والمزيد:
إما مصدر كالمحيد والمميد، وإما اسم مفعول كالمبيع.

[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35]
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد (35)
غير بعيد نصب على الظرف، أى: مكانا غير بعيد. أو على الحال، وتذكيره لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. أو على حذف الموصوف، أى: شيئا غير بعيد، ومعناه التوكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل. وقرئ: توعدون بالتاء والياء، وهي جملة اعتراضية. ولكل أواب بدل من قوله للمتقين، بتكرير الجار كقوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن منهم، وهذا إشارة إلى الثواب. أو إلى مصدر أزلفت. والأواب: الرجاع إلى ذكر الله تعالى، والحفيظ:
الحافظ لحدوده تعالى. ومن خشي بدل بعد بدل تابع لكل. ويجوز أن يكون بدلا عن موصوف أواب وحفيظ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ، لأن من لا يوصف به
__________
(1) . قوله «حتى لا يسعها شيء» كأن فيه قلبا. (ع)
(2) . قوله «واستيداعا للزيادة» لعله واستبعادا. (ع)

(4/389)


وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36)

ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي وحده. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره: يقال لهم ادخلوها بسلام، لأن من في معنى الجمع. ويجوز أن يكون منادى كقولهم: من لا يزال محسنا أحسن إلى، وحذف حرف النداء للتقريب بالغيب حال من المفعول، أى: خشيه وهو غائب لم يعرفه، وكونه معاقبا إلا بطريق الاستدلال. أو صفة لمصدر خشي، أى خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه. وقيل: في الخلوة حيث لا يراه أحد. فإن قلت: كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ «1» قلت: للثناء البليغ على الخاشى وهو خشيته، مع علمه أنه الواسع الرحمة، كما أثنى عليه بأنه خاش، مع أن المخشى منه غائب، ونحوه والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات. وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى، لأن الاعتبار بما ثبت منها في القلب. يقال لهم ادخلوها بسلام أى سالمين من العذاب وزوال النعم.
أو مسلما عليكم يسلم عليكم الله وملائكته ذلك يوم الخلود أى يوم تقدير الخلود، كقوله تعالى فادخلوها خالدين أى مقدرين الخلود ولدينا مزيد هو ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم، حتى يشاؤه. وقيل: إن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال الله عز وجل: ولدينا مزيد.

[سورة ق (50) : آية 36]
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36)
فنقبوا وقرئ بالتخفيف: فخرقوا في البلاد ودوخوا «2» . والتنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب. قال الحرث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال «3»
ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله هم أشد منهم بطشا أى: شدة بطشهم أبطرتهم وأقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه. ويجوز أن يراد: فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: كيف قرن الخشية باسمه الدال على سعة الرحمة ... الخ» قال أحمد: ومن هذا الوادي بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء على صهيب بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» .
(2) . قوله «ودوخوا» الذي في الصحاح: أن دوخ البلاد بمعنى قهرها واستولى على أهلها. (ع)
(3) . للحرث بن كلدة. والنقب: الطريق. ونقبوا، أى: ساروا في طرق البلاد ونقروا وفتشوا على مهرب وملجأ، لأجل حذرهم من الموت. وجالوا، أى: ذهبوا في الأرض. والجول: الناحية والجانب، أى: ساروا في نواحي الأرض وجوانبها، كل مجال، أى: كل طريق، أو كل جولان، لأن مفعل صالح للمكان والحدث.

(4/390)


إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)

فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم، والدليل على صحته قراءة من قرأ فنقبوا على الأمر، كقوله تعالى فسيحوا في الأرض وقرئ بكسر القاف مخففة من النقب وهو أن يتنقب خف البعير. قال:
ما مسها من نقب ولا دبر «1»
والمعنى: فنقبت أخفاف إبلهم. أو: حفيت أقدامهم ونقبت، كما تنقب أخفاف الإبل لكثرة طوفهم في البلاد هل من محيص من الله، أو من الموت.

[سورة ق (50) : آية 37]
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)
لمن كان له قلب أى قلب واع، لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له. وإلقاء السمع:
الإصغاء وهو شهيد أى حاضر بفطنته، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، وقد ملح الإمام عبد القاهر في قوله لبعض من يأخذ عنه:
ما شئت من زهزهة والفتى ... بمصقلاباذ لسقى الزروع «2»
__________
(1) .
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
اغفر له اللهم إن كان فجر
لأعرابى: شكا إلى عمر رضى الله عنه ضعف ناقته، فأعطاه شيئا من الدقيق ولم يعطه مطية، فولى يقول ذلك، فأعطاه مراده. ومن زائدة في الفاعل، مفيدة للمبالغة في الاستغراق. والنقب- كالتعب-: ضرر خف البعير من الحفا، ويطلق على الجرب والحكة ورقة الجلد. والدبر كالتعب أيضا: انجراح مؤخر الظهر من الحمل ونحوه، ووقوع ألف الوصل أول المصراع سائغ، لأنها محل ابتداء، كما نص عليه الخليل، والمراد بالفجور: الحنث.
(2) .
يجيء في فضلة وقت له ... مجيء من شاب الهوى بالنزوع
ثم يرى جبلة مشبوبة ... قد شددت أحماله بالنسوع
ما شئت من زهزهة والفتى ... بمصقلاباذ لسقى الزروع
ملح ولمح به الامام عبد القاهر في بعض من يأخذ عنه ولا يحضر ذهنه، وهو أبو عامر الجرجاني، أى: يجيء في بقية وقت له مع تعلق فكره بغير ما جاء له، كمجيء من خلط الهوى بالنزوع، أى الرجوع ويطلق النزوع على الشوق أيضا، ثم يرى خلقة وطبيعة غليظة مشعلة بشهوات الشباب. والجبلة- بكسرتين فتشديد، وبتثليث أوله وسكون ثانيه-: الخلقة والطبيعة، ولعلها مضافة لما بعدها إضافة الموصوف لصفته. ويقال: شب يشب ويشب شبابا وشبيا: قمص ولعب. وشببت النار شبا وشبوبا: أوقدتها. وشببته: أظهرته. وأشببته: هيجته. ويروى:
ثم ترى جلسة مستوفز، أى: مستعجل متهيأ للقيام. وهذه الرواية أوفق بالوزن والمعنى. والنسع: حزام عريض يوضع تحت صدر المطية، وستر الهودج، واسترخاء لحم الأسنان، وريح الشمال، والذهاب، وسرعة الانبات.
وجمعه: أنساع ونسوع ونسع. أى: والحال أنه قد شددت أحماله بالنسوع، كناية عن الرحيل. ويقول الفارسي عند استحسان الأمر: زهازه، فأخذ منه الزهزهة، أى: ما شئت من الاستحسان عند التعلم موجود منه كثير، والخطاب لغير معين، والحال أن الفتى في مصقلاباد، وهي محلة بجرجان، ويروى بالذال المعجمة، أى: كائن هناك لسقى زروعه. لما كان قلبه غير متعلق إلا بذلك المكان، كان جسمه كأنه هناك، ولقد ترقى في التشبيه حيث شبهه بمن خلط الهوى بغيره تشبيها بليغا. ثم بمن تهيأ للرحيل على سبيل التمثيل، ثم بمن سافر بالفعل ووصل مقصده واشتغل بما فيه تشبيها بليغا، فلله دره بليغا.

(4/391)


ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43)

أو: وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحى من الله، أو وهو بعض الشهداء في قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس وعن قتادة وهو شاهد على صدقه من أهل الكتاب لوجود نعته عنده وقرأ السدى وجماعة: ألقى السمع، على البناء للمفعول. ومعناه: لمن ألقى غيره السمع وفتح له أذنه فحسب ولم يحضر ذهنه وهو حاضر الذهن متفطن. وقيل: ألقى سمعه أو السمع منه.

[سورة ق (50) : آية 38]
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)
اللغوب: الإعياء. وقرئ بالفتح بزنة القبول والولوع. قيل: نزلت في اليهود لعنت تكذيبا لقولهم: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت واستلقى على العرش. وقالوا: إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ.

[سورة ق (50) : الآيات 39 الى 43]
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43)
فاصبر على ما يقولون أى اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه. وقيل: فاصبر على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: الصبر مأمور به في كل حال بحمد ربك حامدا ربك، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة، فالصلاة قبل طلوع الشمس الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشا آن. وقيل التهجد وأدبار السجود التسبيح في آثار الصلوات، والسجود والركوع يعبر بهما عن الصلاة. وقيل النوافل بعد المكتوبات. وعن على رضى الله عنه: الركعتان بعد المغرب. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين» «1» وعن ابن عباس رضى الله
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية عبد العزيز بن عمر: سمعت مكحولا يقول: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبتا- أو قال رفعتا- في عليين» هذا مرسل. وقد روى موصولا عن أنس عن عائشة رضى الله عنهما. أما حديث أنس فرواه الدارقطني في غرائب مالك، من رواية أحمد بن سليمان الأسدى عنه عن الزهري عن أنس به وأتم منه. وقال. هذا موضوع على مالك. وأما حديث عائشة فرواه ابن شاهين في الترغيب. وفي إسناده جعفر بن جميع

(4/392)


يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (45)

عنهما: الوتر بعد العشاء. والأدبار: جمع دبر. وقرئ: وأدبار، من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت. ومعناه: ووقت انقضاء السجود، كقولهم: آتيك خفوق النجم واستمع يعنى واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به والمحدث عنه، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: «يا معاذ اسمع ما أقول لك» ، ثم حدثه بعد ذلك «1» . فإن قلت: بم انتصب اليوم؟ قلت: بما دل عليه ذلك يوم الخروج أى:
يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور. ويوم يسمعون: بدل من يوم يناد والمناد إسرافيل ينفخ في الصور وينادى: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبريل ينادى بالحشر من مكان قريب من صخرة بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء باثنى عشر ميلا، وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة: أيتها العظام البالية- والصيحة النفخة الثانية بالحق متعلق بالصيحة، والمراد به البعث والحشر للجزاء.

[سورة ق (50) : آية 44]
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44)
وقرئ: تشقق، وتشقق بإدغام التاء في الشين، وتشقق على البناء للمفعول، وتنشق سراعا حال من المجرور علينا يسير تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعنى: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة.

[سورة ق (50) : آية 45]
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (45)
نحن أعلم بما يقولون تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجبار كقوله تعالى بمصيطر حتى تقسرهم على الإيمان، إنما أنت داع وباعث «2» . وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم. ويجوز أن يكون من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، أى: ما أنت
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «إنما أنت داع وباعث» أى: تبعث الناس على الايمان. (ع)

(4/393)


والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6)

بوال عليهم تجبرهم على الإيمان. وعلى بمنزلته في قولك: هو عليهم، إذا كان واليهم ومالك أمرهم من يخاف وعيد كقوله تعالى إنما أنت منذر من يخشاها لأنه لا ينفع إلا فيه دون المصر على الكفر.
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ سورة ق هون الله عليه تارات «1» الموت وسكراته» «2» .

سورة الذاريات
مكية وآياتها 60 [نزلت بعد الأحقاف] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4)
إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6)
والذاريات الرياح لأنها تذرو التراب وغيره. قال الله تعالى: تذروه الرياح وقرئ بإدغام التاء في الذال فالحاملات وقرا السحاب، لأنها تحمل المطر. وقرئ: وقرأ، بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر. أو على إيقاعه موقع حملا فالجاريات يسرا الفلك.
ومعنى يسرا: جريا ذا يسر، أى ذا سهولة فالمقسمات أمرا الملائكة، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك. وعن مجاهد: تتولى تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة. وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ.
وعن على رضى الله عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني قبل أن لا تسألونى، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكواء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال: فالحاملات وقرا؟
__________
(1) . قوله «هون الله عليه تارات الموت» في الصحاح: فعل ذلك الأمر تارة بعد تارة، أى: مرة بعد مرة. (ع) [.....]
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/394)


والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9)

قال السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال فالمقسمات أمرا؟ قال: الملائكة «1» وكذا عن ابن عباس. وعن الحسن فالمقسمات السحاب، يقسم الله بها أرزاق العباد، وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد: الرياح لا غير، لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه، وتجرى في الجو جريا سهلا، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب. فإن قلت: ما معنى الفاء على التفسيرين؟
قلت: أما على الأول فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب الذي تسوقه، فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه. وأما على الثاني، فلأنها تبتدئ بالهبوب «2» ، فتذرو التراب والحصباء، فتنقل السحاب، فتجرى في الجو باسطة له فتقسم المطر إن ما توعدون جواب القسم، وما موصولة أو مصدرية، والموعود: البعث. ووعد صادق: كعيشة راضية. والدين: الجزاء، والواقع: الحاصل.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 9]
والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9)
الحبك الطرائق، مثل حبك الرمل والماء: إذا ضربته الريح، وكذلك حبك الشعر:
آثار تثنيه وتكسره. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحى مائه حبك «3»
__________
(1) . أخرجه الحاكم والطبري. وغيرهما من رواية أبى الطفيل قال: رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه على المنبر فذكره وزاد فيه: قال «فمن الذين بدلوا نعمة الله كفرا؟ قال: هم منافقو قريش» وفي الباب عن عمر مرفوعا أخرجه البزار، وفيه قصة منبع، وقال ابن أبى سيرة: لين الحديث، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث اه ولم ينفرد به سعيد فقد رواه ابن مردويه من طريق عبيد بن موسى عن أبى سبرة أيضا.
(2) . قوله «فلأنها تبتدئ بالهبوب» لعله: فإنها. (ع)
(3) .
حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحى مائه حبك
كما استغاث بسيء فز غيطلة ... خاف العيون ولم ينظر به الحشك
لزهير: يصف قطاة فرت من صفر حتى استغاثت منه بماء قريب لا رشاء له، أى: لا حبل يستقى به منه لعدم احتياجه إليه من الأباطح، أى: في الأمكنة المتسعة المستوية، فان أراد من الماء مكانه، فمن بيانية، في حاماته أى جوانبه البرك جمع بركة، كرطب ورطبة نوع من طير الماء يكلل ذلك الماء بأصول النجم، أى: النبات الذي لا ساق له. وروى بعميم النجم، أى: طويله، تنسجه: أى تثنيه تثنيا منتظما كالنسج، فهو استعارة مصرحة.
والخريق- بالقاف-: الباردة والشديدة السير. والضاحي: الظاهر. والحبك: الطريق في وجه الماء إذا ضربته الريح، جمع حباك أو حبيكة. والسيئ بالفتح وبالكسر: اللبن في طرف الثدي. والفز: ولد البقرة الوحشية.
والغيطلة: الشجر الملتف، فاضافة الفز إليها لأنه فيها. وقيل: هي البقرة الوحشية. والعيون هنا: رقباء الصيد وجواسيسه. وحشكت الدرة باللبن حشكا وحشوكا: امتلأت به. وحرك الحشك هنا للضرورة، أى: لم ينتظر به امتلاء الدرة، ولعمري نعمت هذه الاستغاثة. وفيه دلالة على أنها كانت ظمآنة.

(4/395)


والدرع محبوكة: لأن حلقها مطرق طرائق. ويقال: إن خلقة السماء كذلك. وعن الحسن:
حبكها نجومها. والمعنى: أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها وإحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم، «1» أى محكمها. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا:
ما أحسن حبكه، وهو جمع حباك، كمثال ومثل. أو حبيكة، كطريقة وطرق. وقرئ: الحبك، بوزن القفل. والحبك، بوزن السلك. والحبك، بوزن الجبل. والحبك بوزن البرق. والحبك بوزن النعم. والحبك بوزن الإبل إنكم لفي قول مختلف قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير الأولين. وعن الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا، إنما هو متناقض مختلف. وعن قتادة: منكم مصدق ومكذب، ومقر ومنكر يؤفك عنه الضمير للقرآن أو للرسول، أى: يصرف عنه، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه «2» وأعظم، كقوله: لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أى: علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى. ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين: أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد. ثم قال: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك. ووجه آخر: وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن مثله في قوله:
ينهون عن أكل وعن شرب «3»
أى: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. وحقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما،
__________
(1) . قوله «فرس محبوك المعاقم» في الصحاح: المعاقم من الخيل: المفاصل، فالراسغ عند الحافر معقم، والركبة معقم، والعرقوب معقم. اه (ع)
(2) . قال محمود: «يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه ... الخ» قال أحمد: إنما أفاد هذا النظم المعنى الذي ذكر من قبل أنك إذا قلت: يصرف عنه من صرف، علم السامع أن قولك يصرف عنه يغنى عن قولك من صرف، لأنه بمجرده كالتكرار للأول، لولا ما يستشعر فيه من فائدة تأبى جعله تكرارا، وتلك الفائدة أنك لما خصصت هذا بأنه هو الذي صرف، أفهم أن غيره لم يصرف، فكأنك قلت: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا، وكل صرف دونه فكلا صرف بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم.
(3) .
ينهون عن أكل وعن شرب ... مثل المها يرتعن في خصب
يقال: نهي الجمل فهو ناه، إذا فرط في السمن. والمها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية. ويقال: أخصب المكان فهو مخصب، وأخصبه الله. وخصب خصبا، كتعب تعبا، وعلم علما: إذا كثر كلأه ونباته. يصف أضيافا بأنهم يصدر تناهيهم وسمنهم عن الأكل والشرب. وشبههم بالمها اللاتي يرتعن في الكلأ، فالخصب في الأصل: مصدر سمى به الكلأ.

(4/396)


قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسألون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14) إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19)

وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. وقرأ سعيد بن جبير: يؤفك عنه من أفك، على البناء للفاعل. أى: من أفك الناس عنه وهم قريش، وذلك أن الحي كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأى ليسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: احذره، فيرجع فيخبرهم.
وعن زيد بن على: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرئ: يؤفن عنه من أفن، أى: يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا نهكه حلبا.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 14]
قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14)
قتل الخراصون دعاء عليهم، كقوله تعالى قتل الإنسان ما أكفره وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخراصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون. وقرئ:
قتل الخراصين، أى: قتل الله في غمرة في جهل يغمرهم ساهون غافلون عما أمروا به يسئلون فيقولون أيان يوم الدين أى متى يوم الجزاء. وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة.
فإن قلت: كيف وقع أيان ظرفا لليوم، وإنما تقع الأحيان ظروفا للحدثان؟ قلت: معناه:
أيان وقوع يوم الدين. فإن قلت: فبم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت: بفعل مضمر دل عليه السؤال، أى: يقع يوم هم على النار يفتنون. ويجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة. فإن قلت: فما محله مفتوحا؟ قلت: يجوز أن يكون محله نصبا بالمضمر الذي هو يقع، ورفعا على هو يوم هم على النار يفتنون. وقرأ ابن أبى عيلة بالرفع يفتنون يحرقون ويعذبون. ومنه الفتين: وهي الحرة، لأن حجارتها كأنها محرقة ذوقوا فتنتكم في محل الحال، أى: مقولا لهم هذا القول هذا مبتدأ، والذي خبره، أى: هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم، أى: ذوقوا هذا العذاب.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19)

(4/397)


آخذين ما آتاهم ربهم قابلين لكل ما أعطاهم راضين به، يعنى أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو متلقى بالقبول مرضى غير مسخوط، لأن جميعه حسن طيب. ومنه قوله تعالى ويأخذ الصدقات أى يقبلها ويرضاها محسنين قد أحسنوا أعمالهم، وتفسير إحسانهم ما بعده ما مزيدة. والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلا ظرفا، ولك أن تجعله صفة للمصدر، أى: كانوا يهجعون هجوعا قليلا. ويجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة، على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه. وارتفاعه بقليلا على الفاعلية «1» . وفيه مبالغات لفظ الهجوع، وهو الفرار من النوم «2» . قال:
قد حصت البيضة رأسى فما ... أطعم نوما غير تهجاع «3»
وقوله قليلا ومن الليل لأن الليل وقت السبات والراحة، وزيادة ما المؤكدة لذلك:
__________
(1) . ذكر الزمخشري فيه وجهين أن تكون ما زائدة وقليلا ظرف منتصب بيهجعون، أى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل. أو تكون ما مصدرية أو موصولة على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. أو ما يهجعون فيه، وارتفاعه بقليلا على الفاعلية» قال أحمد: وجوه مستقيمة خلا جعل ما مصدرية، فان قليلا حينئذ واقع على الهجوع، لأنه فاعله. وقوله من الليل لا يستقيم أن يكون صفة للقليل ولا بيانا له، ولا يستقيم أن يكون «من» صلة المصدر لأنه تقدم عليه، ولا كذلك على أنها موصولة، فان قليلا حينئذ واقع على الليل، كأنه قال: قليلا المقدار الذي كانوا يهجعون فيه من الليل، فلا مانع أن يكون من الليل بيانا للقليل على هذا الوجه، وهذا الذي ذكره إنما تبع فيه الزجاج. وقد رد الزمخشري أن تكون ما نفيا وقليلا منصوب بيهجعون على تقدير: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل، وأسند رده إلى امتناع تقدم ما في حيز النفي عليه. قلت: وفيه خلل من حيث المعنى، فان طلب قيام جميع الليل غير مستثنى منه الهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود. ثم قال: وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا اسحروا شرعوا في الاستغفار. كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. قال: وقوله هم معناه: هم الأحقاء بالاستغفار دون المصرين. قال: وفي الآية مبالغات منها لفظ الهجوع وهو الخفيف الفرار من النوم.
قال: وقوله: قليلا وقوله من الليل لأنه وقت السبات. قال: ومنها زيادة ما في بعض الوجوه. قلت: وفي عدها من المبالغة نظر، فإنها تؤكد الهجوع وتحققه، إلا أن يجعلها بمعنى القلة فيحتمل.
(2) . قوله «وهو الفرار من النوم» في الصحاح: الفرار بالكسر: النوم القليل اه. (ع)
(3) .
قد حصت البيضة رأسى فما ... أطعم نوما غير تهجاع
أسعى على جل بنى مالك ... كل امرئ في شأنه ساع
لقيس بن الأسلت. وحصت: أهلكت أو حلقت، البيضة التي تلبس على الرأس في الحرب، أى حلقت شعر رأسى من دوام لبسها للحرب. وشبه النوم بالمطعوم لاستلذاذ مباديه على طريق المكنية، وأطعم: أى أتناول تخييل لذلك والتهجاع: التغافل قليلا لطرد النوم، فالاستثناء منقطع. وجلهم: مهم أمورهم ومعظمها كالغارات يدفعها عنهم.
وروى: على حبل بنى مالك، وعليه فشبه العهد بالحبل للتوثق والتوصل بكل على طريق التصريحية، أى: أسعى في شأنى متمسكا بعهدهم، وعلى الأول فقوله «كل امرى في شأنه ساع» فيه دلالة على إلزام نفسه بشأنهم، وأنه شأنه

(4/398)


وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)

وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقوله هم يستغفرون فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم، وأن يكون المعنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلا، ويحيونه كله؟ قلت: لا، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول. زيدا ما ضربت:
السائل: الذي يستجدى والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» قالوا: فما هو؟ قال «الذي لا يجد ولا يتصدق عليه» «1» وقيل: الذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف «2» الذي لا يكاد يكسب.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 21]
وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)
وفي الأرض آيات تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها كما قال الذي جعل لكم الأرض مهدا وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة: فمن سهل وجبل وبر وبحر: وقطع متجاورات: من صلبة ورخوة، وعذاة «3» وسبخة، وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسى والهوام، وغير ذلك للموقنين الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم وفي أنفسكم في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة.
(2) . قوله «وقيل المحارف» في الصحاح: رجل محارف، بفتح الراء: أى محدود محروم، خلاف قولك:
مبارك اه. (ع)
(3) . قوله «وعذاة» في الصحاح «العذاة» : الأرض الطيبة التربة، والجمع عذوات. (ع)

(4/399)


وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23) هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30)

من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا «1» شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 22 الى 23]
وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23)
وفي السماء رزقكم هو المطر، لأنه سبب الأقوات. وعن سعيد بن جبير: هو الثلج وكل عين دائمة منه. وعن الحسن: أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم وما توعدون الجنة: هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش.
أو أراد: أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مقدر مكتوب في السماء. قرئ:
مثل ما بالرفع صفة للحق، أى حق مثل نطقكم، وبالنصب على: إنه لحق حقا مثل نطقكم.
ويجوز أن يكون فتحا لإضافته إلى غير متمكن. وما مزيدة بنص الخليل، وهذا كقول الناس:
إن هذا لحق، كما أنك ترى وتسمع، ومثل ما إنك هاهنا. وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما توعدون. وعن الأصمعى: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابى على قعود له فقال: من الرجل؟ قلت: من بنى أصمع. قال:
من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل على، فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله تعالى: وفي السماء رزقكم قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بى بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابى قد نحل واصفر، فسلم على واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فورب السماء والأرض إنه لحق، فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين، قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28)
فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30)
__________
(1) . قوله «إذا جسا شيء منها» في الصحاح: جست اليد وغيرها جسوا وجساء: يبست اه. (ع) [.....]

(4/400)


هل أتاك تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم، لأنه في الأصل مصدر ضافه، وكانوا اثنى عشر ملكا. وقيل: تسعة عاشرهم جبريل. وقيل ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وملك معهما. وجعلهم ضيفا، لأنهم كانوا في صورة الضيف: حيث أضافهم إبراهيم. أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وإكرامهم: أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون. قال الله تعالى بل عباد مكرمون. إذ دخلوا نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم، وإلا فبما في ضيف من معنى الفعل. أو بإضمار اذكر سلاما مصدر ساد مسد الفعل مستغنى به عنه. وأصله: نسلم عليكم سلام، وأما سلام فمعدول به إلى الرفع على الابتداء. وخبره محذوف، معناه: عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذا بأدب الله تعالى. وهذا أيضا من إكرامه لهم.
وقرئا مرفوعين. وقرئ: سلاما قال سلما. والسلم: السلام. وقرئ: سلاما قال سلم قوم منكرون أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام. أو أراد: أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم، كما لو أبصر العرب قوما من الخزر «1» أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم، أو كان هذا سؤالا لهم، كأنه قال: أنتم قوم منكرون، فعرفوني من أنتم فراغ إلى أهله فذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره «2» ، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. قال قتادة:
كان عامة مال نبى الله إبراهيم: البقر فجاء بعجل سمين. والهمزة في ألا تأكلون للإنكار:
أنكر عليهم ترك الأكل. أو حثهم عليه فأوجس فأضمر. وإنما خافهم لأنهم لم يتحرموا بطعامه «3»
__________
(1) . قوله «قوما من الخزر» في الصحاح: الخزر: جيل من الناس. والأخزر: ضيق العين صغيرها، كما أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «فيه إشارة لاختفائه من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره ... الخ» قال أحمد:
معنى حسن، وقد نقل أبو عبيد أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية. ونقل أبو عبيد في قوله عليه السلام:
«إذا كفى أحدكم خادمه حر طعامه فليقعده معه، وإلا فليروغ له لقمة» قال أبو عبيد: يقال روغ اللقمة وسغبلها وسغسغها ومرغها: إذا غمسها فرويت سمنا قلت: وهو من هذا المعنى، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ومن مقلوبه: غور الأرض والجرح وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، والله أعلم.
(3) . قوله «لأنهم لم يتحرموا بطعامه» في الصحاح «الحرمة» : ما لا يحل انتهاكه، وقد تحرم بصحبته اه.
وهو يفيد أن التحرم مراعاة الحرمة، من حيث لا يحل انتهاكها. (ع)

(4/401)


قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (37)

فظن أنهم يريدون به سوءا. وعن ابن عباس: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعن عون بن شداد: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه بغلام عليم أى يبلغ ويعلم. وعن الحسن: عليم: نبى، والمبشر به إسحاق، وهو أكثر الأقاويل وأصحها، لأن الصفة صفة سارة لا هاجر، وهي امرأة إبراهيم وهو بعلها. وعن مجاهد: هو إسماعيل في صرة في صيحة، من: صر الجندب، وصر القلم والباب، ومحله النصب على الحال، أى: فجاءت صارة. قال الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل: فأخذت في صرة، كما تقول: أقبل يشتمني.
وقيل: صرتها قولها: أوه. وقيل: يا ويلتا. وعن عكرمة: رنتها «1» فصكت فلطمت ببسط يديها. وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب عجوز أنا عجوز، فكيف ألد كذلك مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك أى إنما نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين. وروى أن جبريل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]
قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35)
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (37)
لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلا في بعض الأمور قال فما خطبكم أى: فما شأنكم وما طلبكم إلى قوم مجرمين إلى قوم لوط حجارة من طين يريد: السجيل، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة مسومة معلمة، من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب.
وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا. سماهم مسرفين، كما سماهم عادين، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم: حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم. الضمير في فيها للقرية، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد، وأنهما صفتا مدح. قيل:
هم لوط وابنتاه. وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. وعن قتادة: لو كان فيها
__________
(1) . قوله «رنتها» في الصحاح «الرنة» الصوت:، يقال: رفت المرأة رنينا وأرنت أيضا: صاحت. (ع)

(4/402)


وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45)

أكثر من ذلك لأنجاهم، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله آية علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم. قال ابن جريج: هي صخر منضود فيها. وقيل: ماء أسود منتن.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 40]
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40)
وفي موسى عطف على وفي الأرض آيات أو على قوله وتركنا فيها آية على معنى:
وجعلنا في موسى آية كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا
فتولى بركنه فازور وأعرض، كقوله تعالى ونأى بجانبه وقيل: فتولى بما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقرئ: بركنه، بضم الكاف وقال ساحر أى هو ساحرليم
آت بما يلام عليه من كفره وعناده، والجملة مع الواو حال من الضمير في فأخذناه.
فإن قلت: كيف وصف نبى الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في قوله تعالى فالتقمه الحوت وهو مليم؟ قلت: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله تعالى وعصوا رسله، وعصى آدم ربه لأن الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 41 الى 42]
وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42)
العقيم التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، وهي ريح الهلاك. واختلف فيها: فعن على رضى الله عنه: النكباء. وعن ابن عباس: الدبور. وعن ابن المسيب: الجنوب.
الرميم: كل ما رم أى بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 43 الى 45]
وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45)

(4/403)


وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشناها فنعم الماهدون (48) ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51)

حتى حين تفسيره قوله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. فعتوا عن أمر ربهم فاستكبروا عن امتثاله. وقرئ: الصعقة وهي المرة، من مصدر صعقتهم الصاعقة: والصاعقة النازلة نفسها وهم ينظرون كانت نهارا يعاينونها. وروى أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرتهم فما استطاعوا من قيام كقوله تعالى فأصبحوا في دارهم جاثمين وقيل: هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه منتصرين ممتنعين من العذاب.

[سورة الذاريات (51) : آية 46]
وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46)
وقوم قرئ بالجر على معنى: وفي قوم نوح وتقويه قراءة عبد الله: وفي قوم نوح. وبالنصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح، لأن ما قبله يدل عليه. أو واذكر قوم نوح.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 48]
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشناها فنعم الماهدون (48)
بأيد بقوة. والأيد والآد: القوة. وقد آد يئيد وهو أيد وإنا لموسعون لقادرون، من الوسع وهو الطاقة. والموسع: القوى على الإنفاق. وعن الحسن: لموسعون الرزق بالمطر.
وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة فنعم الماهدون فنعم الماهدون نحن.

[سورة الذاريات (51) : آية 49]
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)
ومن كل شيء أى من كل شيء من الحيوان خلقنا زوجين ذكرا وأنثى. وعن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، فعدد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له لعلكم تذكرون أى فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 50 الى 51]
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51)
ففروا إلى الله أى إلى طاعته وثوابه «1» من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به
__________
(1) . قال محمود: «معنى ففروا إلى الله، أى: إلى طاعته من معصيته وإلى ثوابه ... الخ» قال أحمد:
حمل الآية ما لم تحمله، لأنه لا يكاد يخلى سورة حتى يدس في تفسيرها بيده إلى معتقده، فدس هاهنا القطع بوعيد الفساق وبخلودهم كالكفار، ولا تحتمل الآية لما ذكر، فان العناية في قوله ففروا إلى الله الفرار إلى عبادة الله فتوعد من لم يعبد الله، ثم نهي عابده أن يشرك بعبادة ربه غيره، وتوعده على ذلك. وفائدة تكرار النذارة الدلالة على أنه لا تنفع العبادة مع الاشراك، بل حكم المشرك حكم الجاحد المعطل، لا كما قال الزمخشري: المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الايمان، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف له وهو الخلود. وعلى هذا لا يكون تكرارا على اختلاف الوعيدين، فهو أولى، فكيف يحمل الآية على خلاف ما هو أولى بها، ليتم الاستدلال بها على معتقده الفاسد، نعوذ بالله من ذلك.

(4/404)


كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) فتول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)

شيئا، وكرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة والنهى عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا والمعنى: قل يا محمد: ففروا إلى الله.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 53]
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53)
كذلك الأمر، أى مثل ذلك، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرا ومجنونا، ثم فسر ما أجمل بقوله ما أتى ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل: لم يأت، لكان صحيحا، على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا أتواصوا به الضمير للقول، يعنى: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه بل هم قوم طاغون أى لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 54 الى 55]
فتول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)
فتول عنهم فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت عنهم العناد واللجاج، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله فإن الذكرى تنفع المؤمنين أى تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا. وروى أنه لما نزلت فتول عنهم حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحى قد انقطع وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله. وذكر.

[سورة الذاريات (51) : آية 56]
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)

(4/405)


ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)

أى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها «1» . فإن قلت: لو كان مريدا «2» للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادا؟ قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 57 الى 58]
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)
يريد: أن شأنى مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإما مجهز في تجارة ليفي ربحا. أو مرتب في فلاحة ليعتل أرضا. أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته. أو محتطب. أو محتش. أو طابخ. أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأما مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنى عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي المتين الشديد القوة. قرئ بالرفع صفة لذو، وبالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة: أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. وقرئ:
الرازق. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: إنى أنا الرازق.
__________
(1) . قال محمود: «إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها ... الخ» قال أحمد: من عاداته أنه إذا استشعر أن ظاهرا موافق لمعتقده نزله على مذهبه بصورة إيراد معتقد أهل السنة سؤالا، وإيراد معتقده جوابا، فكذلك صنع هاهنا، فنقول: السؤال الذي أورده مما لا يجاب عنه بما ذكره، فانه سؤال مقدماته قطعية عقلية، فيجب تنزيل الآية عليه، وهي أن ظاهر سياق الآية دليل لأهل السنة، فإنها إنما سيقت لبيان عظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فان عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة، وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم. والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما، وإنما يطلب منهم عبادته لا غير، وزائد على كونه لا يطلب منهم رزقا أنه هو الذي يرزقهم، فهذا المعنى الشريف هو الذي تحلى تحت راية هذه الآية، وله سيقت، وبه نطقت، ولكن الهوى يعمى ويصم، فحاصله: وما خلقت الجن والانس إلا لأدعوهم إلى عبادتي، وهذا ما لا يعدل عنه أهل السنة، فانه وافق معتقدهم وبالله التوفيق.
(2) . قوله «لو كان مريدا العبادة» قد يقال: لا يلزم من خلقهم العبادة أن يريدها من جميعهم. وقوله «مع كونه مريدا لها» هذا على مذهب المعتزلة من أن إرادة الله الفعل من العبد بمعنى الأمر. وأما مذهب أهل السنة فكل ما أراده الله كان، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)

(4/406)


فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60)

[سورة الذاريات (51) : الآيات 59 الى 60]
فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60)
الذنوب: الدلو العظيمة، وهذا تمثيل، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال:
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب «1»
ولما قال عمرو بن شاس:
وفي كل حى قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب «2»
قال الملك: نعم وأذنبه. والمعنى: فإن الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون. وعن قتادة:
سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم من يومهم من يوم القيامة. وقيل: من يوم بدر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا «3» .
__________
(1) .
إنا إذا شاربنا شريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
فان أبى كان له القليب
الشريب من يشرب معك. والذنوب: الدلو الممتلئة ماء، والنصيب من الماء. والذنابة: مسيل الماء. والقلب البئر لقلب ترابه. يقول: إنا كرام نشاطر شريبنا، فان لم يرض بالمناوبة أعطيناه الجميع. وروى بدل المصراعين
الأخيرين: لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فان أبيتم فلنا القليب
ولعل الصواب: فان أبى أو فان أبيتم فلنا، لئلا ينكر البيت. والمعنى: نقول لمن يشرب معنا ذلك، ففيه دلالة على الشجاعة والغلبة. والشريب كالعشير: يطلق على الواحد والمتعدد.
(2) .
وأفت الذي آثاره في عدوه ... من البؤس والنعمى لهن ندوب
وفي كل حى قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
لشاس أخى علقمة بن عبيدة، يخاطب الحرث بن أبى شمر الغساني وكان أسيرا عنده. والندوب- في الأصل-:
آثار الجراح بعد برئها. ومن بيانية، أى: آثاره التي هي البؤس والنعمى. أو ابتدائية، أى: الناشئة منهما، لهن بقايا في عدوه. والبؤس: الشدة، والنعمى: الرخاء. والخابط: الذي يخبط مواضع الفقراء يتفقد أحوالهم من غير تخصيص، ثم قيل لكل طالب: خابط ومختبط. ويجوز أن يكون من قولهم: خبط الشجرة، ليسقط ورقها للإبل والغنم فاستعار في نفسه الورق للأموال، والخبط تخييل والمعنى أنه شجاع كريم، بأسه أوهن الأعداء ونعمته ظهرت عليهم بل على جميع الناس وشاس من وضع الظاهر موضع المضمر لإظهار المسكنة والاستعطاف:
قيل: إن القائل عمرو بن شاس، فوضع الظاهر في موضعه. ولما سمع الحرث ذلك قال: نعم وأذنبته، وكسا شاسا ومن معه، وأركبهم وأطلقهم، ولما استعار الندى للعطاء رشح ذلك بالذنوب: وهو الدلو الممتلئة.
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/407)


والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10)

سورة الطور
مكية، وهي تسع وأربعون، وقيل: ثمان وأربعون آية [نزلت بعد السجدة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 10]
بسم الله الرحمن الرحيم
والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4)
والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم تمور السماء مورا (9)
وتسير الجبال سيرا (10)
الطور: الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين. والكتاب المسطور في الرق المنشور، والرق: الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال. قال الله تعالى ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وقيل: هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل القرآن، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى ونفس وما سواها. والبيت المعمور الضراح «1» في السماء الرابعة. وعمرانه: كثرة غاشيته من الملائكة. وقيل: الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين والسقف المرفوع السماء والبحر المسجور المملوء. وقيل: الموقد، من قوله تعالى وإذا البحار سجرت وروى أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا تسجر بها نار جهنم. وعن على رضى الله عنه أنه سأل يهوديا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر.
قال على: ما أراه إلا صادقا، «2» لقوله تعالى والبحر المسجور. لواقع لنازل. قال
__________
(1) . قوله «والبيت المعمور الضراح في السماء» في الصحاح «الضراح» بالضم: بيت في السماء، وهو البيت المعمور. عن ابن عباس. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من رواية داود بن أبى هند عن سعيد بن المسيب قال: قال على لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال. ما أراه إلا صادقا: والبحر المسجور، وإذا البحار سجرت.

(4/408)


فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16) إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20)

جبير بن مطعم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ: إن عذاب ربك لواقع: أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب «1» تمور السماء تضطرب وتجيء وتذهب. وقيل: المور تحرك في تموج، وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة «2» .

[سورة الطور (52) : الآيات 11 الى 16]
فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15)
اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16)
غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله تعالى وكنا نخوض مع الخائضين، وخضتم كالذي خاضوا الدع: الدفع العنيف، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزخا في أقفيتهم «3» . وقرأ زيد بن على: يدعون، من الدعاء أى يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوا النار دعا مدعوعين، يقال لهم: هذه النار أفسحر هذا يعنى كنتم تقولون للوحى هذا سحر، أفسحر هذا؟ يريد: أهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى أم أنتم لا تبصرون كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعنى: أم أنتم عمى عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر، وهذا تقريع وتهكم سواء خبر محذوف، أى: سواء عليكم الأمران: الصبر وعدمه، فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله إنما تجزون ما كنتم تعملون؟
قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.

[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20)
__________
(1) . لم أجده هكذا. والذي جاء في الصحيح «أن ذلك في صلاة المغرب» وأنه قال لما سمع أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون- إلى آخره: كاد قلبي يطير» .
(2) . قوله «كالداغصة في الركبة» هي العظم المدور الذي يتحرك على رأس الركبة، كما في الصحاح. (ع) [.....]
(3) . قوله «وزخا في أقفيتهم» في الصحاح «زخه» أى: دفعه في وهدة اه. (ع)

(4/409)


والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24)

في جنات ونعيم في أية جنات وأى نعيم، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة. وقرئ: فاكهين وفكهين وفاكهون: من نصبه حالا جعل الظرف مستقرا، ومن رفعه خبرا جعل الظرف لغوا، أى: متلذذين بما آتاهم ربهم. فإن قلت: علام عطف قوله ووقاهم ربهم؟ قلت: على قوله في جنات أو على آتاهم ربهم على أن تجعل ما مصدرية، والمعنى: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الواو للحال وقد بعدها مضمرة. يقال لهم كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرابا هنيئا، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت «1»
أعنى: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعا به ما استحلت كما يرتفع بالفعل» كأنه قيل: هناء عزة المستحل من أعراضنا، وكذلك معنى هنيئا هاهنا: هناءكم الأكل والشرب.
أو هناءكم ما كنتم تعملون، أى: جزاء ما كنتم تعملون. والباء مزيدة كما في كفى بالله والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وقرئ: بعيس «2» عين.

[سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 24]
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24)
__________
(1) .
يكلفها الخنزير شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
لكثير بن صخر صاحب عزة، كان ينشد أشعاره في حلقة البصرة، فمرت به مع زوجها فقال لها: لتغضبنه أو لأضربنك، فقالت: كذا وكذا بفم الشاعر، فقال ذلك. وقيل: خرجت تطلب سمنا فصادفها كثير فتحادثا، وسكب من أداوة معه في إنائها حتى بل ثوبها، وأنكر ذلك زوجها، فقصت عليه القصص، فأمرها بشتمه فقال ذلك. والمليك: مالك أمرها. وما بها هواني: أى ليست مريدة له. وهنيئا مريئا: صفتان مستعملتان استعمال المصدر النائب عن فعله، وما استحلت: مرفوع محلا بأحدهما على التنازع، وغير نصب على الحال. ومن أعراضنا بيان لما بعده. والهنيء والمريء: الذي لا تنغيص فيه، المحمود العاقبة، والمخامر: المخالط، وشبه عرضه بالشراب السائغ على طريق المكنية. وهنيئا مريئا: تخييل. ويجوز أن التجوز فيهما على طريق التصريحية.
(2) . قوله «وقرئ بعيس» في الصحاح: العيس- بالكسر-: الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، واحدها: أعيس، والأنثى: عيساء، ويقال: هي كرائم الإبل اه ولعله هنا استعارة للنساء. (ع)

(4/410)


والذين آمنوا معطوف على بحور عين أى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أى:
بالرفقاء والجلساء منهم، كقوله تعالى إخوانا على سرر متقابلين فيتمتعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين واتبعتهم ذريتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقربهم «1» عينه» ثم تلا هذه الآية. فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. ثم قال بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم أى بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلا عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم. فإن قلت: ما معنى تنكير الايمان؟
قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل:
كأنه قال: بشيء من الإيمان، لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. وقرئ: وأتبعتهم ذريتهم واتبعتهم ذريتهم. وذرياتهم: وقرئ: ذرياتهم، بكسر الذال. ووجه آخر: وهو أن يكون والذين آمنوا مبتدأ خبره بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما بينهما اعتراض وما ألتناهم وما نقصناهم.
يعنى: وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء.
وقيل معناه: وما نقصناهم من ثوابهم شيئا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم، إنما ألحقناهم بهم على سبيل التفضل. قرئ: ألتناهم، وهو من بابين: من ألت يألت، ومن ألات يليت، كأمات يميت.
وآلتناهم، من آلت يؤلت، كآمن يؤمن. ولتناهم، من لات يليت. وولتناهم، من ولت يلت.
ومعناهن واحد كل امرئ بما كسب رهين أى مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكها وخلصها، وإلا أوبقها وأمددناهم وزدناهم في وقت بعد وقت يتنازعون يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم كأسا خمرا لا لغو فيها في شربها ولا تأثيم أى لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أى: ينسب إلى الإثم
__________
(1) . أخرجه البزار وابن عدى. وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه. والثعلبي من طريق قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. قال البزار تفرد قيس برفعه. ورواه الثوري موقوفا ورواه الحاكم والبيهقي في الاعتقاد والطبري وابن أبى حاتم من طريق الثوري عن عمرو بن مرة به موقوفا

(4/411)


وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28) فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34) أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43)

لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك، لأن عقولهم ثابتة غير زائلة، وهم حكماء علماء. وقرئ: لا لغو فيها ولا تأثيم غلمان لهم أى مملوكون لهم مخصوصون بهم مكنون في الصدف، لأنه رطبا أحسن وأصفى. أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. وقيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «1» وعنه عليه السلام: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك» «2» .

[سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28]
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28)
يتساءلون يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله مشفقين أرقاء القلوب من خشية الله. وقرئ، ووقانا، بالتشديد عذاب السموم عذاب النار ووهجها ولفحها. والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة من قبل من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا ندعوه نعبده ونسأله الوقاية إنه هو البر المحسن الرحيم العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: أنه بالفتح، بمعنى: لأنه.

[سورة الطور (52) : آية 29]
فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون (29)
فذكر فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: كاهن أو مجنون، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوة ورجاحة العقل أحد هذين.

[سورة الطور (52) : الآيات 30 الى 43]
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39)
أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43)
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة به قال فذكره، وأخرجه الثعلبي من رواية الحسن مرسلا
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية عمر بن عبد العزيز البصري عن يوسف بن أبى طيبة عن وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة نحوه.

(4/412)


وقرئ: يتربص به ريب المنون، على البناء للمفعول. وريب المنون. ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر. قال:
أمن المنون وريبه أتوجع «1»
وقيل: المنون الموت، وهو في الأصل فعول، من منه إذا قطعه، لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب. قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة من المتربصين أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكى أحلامهم عقولهم وألبابهم.
ومنه قولهم: أحلام عاد. والمعنى: أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول، وهو قولهم:
كاهن وشاعر، مع قولهم مجنون. وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى أم هم قوم طاغون مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم. فإن قلت: ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت:
__________
(1) .
أمن المنون وريبه أتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
لأبى ذويب مطلع مرثية بنيه، والاستفهام للإنكار. وريب المنون: ما يقلق النفوس ويدهشها من حوادث الدهر.
والمنون: الموت، كالمنية، لأنه مقدر، فهو من منى إذا قدر. وقوله «والدهر ... الخ» جملة حالية. ويقال:
أعتبه، إذا قبل عتابه وأزال شكواه، فشبه الدهر بإنسان مسيء على طريق المكنية، وإسناد الاعتاب تخييل.
والجزع: شدة الحزن.

(4/413)


وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47)

هو مجاز لأدائها إلى ذلك، كقوله تعالى أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وقرئ: بل هم قوم طاغون. تقوله اختلقه من تلقاء نفسه بل لا يؤمنون فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن، مع علمهم ببطلان قولهم، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه، وما محمد إلا واحد من العرب. وقرئ بحديث مثله على الإضافة، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب، فإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادرا عليه، فليأتوا بحديث ذلك المثل: أم خلقوا أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم من غير شيء من غير مقدر أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق بل لا يوقنون أى: إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون، لا يوقنون. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل:
أخلقوا من غير أب وأم؟ أم عندهم خزائن الرزق حتى يرزقوا النبوة من شاءوا. أو:
أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ أم هم المصيطرون الأرباب الغالبون، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرئ: المصيطرون بالصاد أم لهم سلم منصوب إلى السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ بسلطان مبين بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم. المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، أى: لزمهم مغرم ثقيل فدحهم «1» فزهدهم ذلك في اتباعك؟ أم عندهم الغيب أى اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى يقولوا لا نبعث. وإن بعثنا لم نعذب «2» أم يريدون كيدا وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين فالذين كفروا إشارة اليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله هم المكيدون هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من كايدته فكدته.

[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 47]
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47)
__________
(1) . قوله «فدحهم فزهدهم» أى: أثقلهم وبهظهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وإن بعثنا لم نعذب» لعله: لا نعذب. (ع)

(4/414)


واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)

الكسف: القطعة، وهو جواب قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا يريد:
أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. وقرئ: حتى يلقوا ويلقوا يصعقون يموتون. وقرئ: يصعقون. يقال. صعقه فصعق، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق وإن للذين ظلموا وإن. لهؤلاء الظلمة عذابا دون ذلك دون يوم القيامة: وهو القتل ببدر، والقحط سبع سنين، وعذاب القبر. وفي مصحف عبد الله: دون ذلك قريبا.

[سورة الطور (52) : الآيات 48 الى 49]
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)
لحكم ربك بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة فإنك بأعيننا مثل، أى:
بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين لأن الضمير بلفظ ضمير الجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى ولتصنع على عيني. وقرئ: وبأعينا، بالإدغام حين تقوم من أى مكان قمت. وقيل:
من منامك وإدبار النجوم وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل. وقرئ: وأدبار، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل التسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل: صلاة العشاءين، وأدبار النجوم: صلاة الفجر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» «1» .
__________
(1) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

(4/415)


والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)

سورة النجم
مكية [إلا آية 32 فمدنية] وآياتها 62 وقيل 61 آية [نزلت بعد الإخلاص] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بسم الله الرحمن الرحيم
والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)
علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9)
فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14)
عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)
النجم: الثريا، وهو اسم غالب لها. قال:
إذا طلع النجم عشاء ... ابتغى الراعى كساء «1»
__________
(1) . هذا تقوله العرب عند الشتاء، وتقول عند الصيف:
طلع النجم غدية ... وابتغى الراعي شكية
والنجم:
اسم غالب على الثريا، قيل: إنها تخفى في السنة أربعين يوما يسترها ضوء الشمس، وتظهر عند دخول الشتاء عشاء، وعند دخول الصيف صباحا، والكساء: ثوب سابغ. والغدية: تصغير غدوة: وهي أول النهار. والشكية:
تصغير شكوة، وهي قرية صغيرة جرداء، لأنه في الشتاء يطلب كساء بدنية لكثرة البرد، وفي الصيف يطلب قربة يشرب منها لكثرة الحر، والأول كناية عن دخول البرد، والثاني كناية عن دخول الحر.

(4/416)


أو جنس النجوم. قال:
فباتت تعد النجم ... في مستحيرة «1»
يريد النجوم إذا هوى إذا غرب أو انتثر يوم القيامة. أو النجم الذي يرجم به إذا هوى:
إذا انقض. أو النجم من نجوم القرآن، وقد نزل منجما في عشرين سنة، إذا هوى: إذا نزل.
أو النبات إذا هوى: إذا سقط على الأرض. وعن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبى لهب وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، وكان أبو طالب حاضرا، فوجم «2» لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخى عن هذه الدعوة! فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر
__________
(1) .
فقد علموا أنى وفيت لربها ... فراح على عنس بأخرى يقودها
قريت الكلابي الذي يبتغى القرى ... وأمك إذ يحدى إلينا قعودها
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدى الآكلين جمودها
فلما سقيناها العكيس تملأت ... مذاخرها وارفض منها وريدها
ولما قضت من ذى الإناء لبانة ... أرادت إلينا حاجة لا نريدها
للراعي النميري من بنى قطن بن ربيعة: نزل به أضياف من بنى كلاب وقد غابت إبله، فنحر لهم ناقة من ركابهم، فلما أصبح أقبلت عليه إبله، فأعطى صاحب الناقة مثلها، وأعطاه ثنية زيادة عليها، نذمه خنزر بن أرقم من بنى بدر ابن ربيعة على ذبحها، فأجابه الراعي بقصيدة منها ذلك. والعنس: الناقة الصلبة. وأمك: عطف على الكلابي.
ويحدى: مبنى للمجهول، أى: يساق بالغناء له. والقعود- كصبور-: البكر من الإبل، لأنه لا يمكن الراكب من القعود على ظهره. وروى: إذ يحدى إليك، بدل إلينا. ولعله بعد الضيافة الآتية أو تحريف، فباتت أمك تعد النجم، أى: تحسب صور النجوم، أو تحسب فقاقع المرق في الجفنة، فاستعار لها النجم على سبيل التصريحية.
أو تحسب الثريا، لأن النجم اسم غالب عليها، وهي سبعة نجوم: ترى صورتها في ليالي الشتاء. وقيل: المراد بالعد هنا: الظن، أى باتت تظنا فيها. والمستحيرة: المتحيرة بامتلائها من المرق. ويروى: مستجرة لأنها تجر الناس للأكل منها والعكس: المرق الممزوج باللبن الحليب. وتملأت: امتلأت. ويروى: تمدحت، بالدال المهملة، أى: اتسعت من الشبع. ويروى بالمعجمة، أى: اصطكت واضطربت. والمذاخر: مواضع الذخائر: والمراد بها المعدة والأمعاء. ويروى: خواصرها، أى: جوانبها. وارفض: رشح وترشرش وارتعد ونفر، ويروى:
وازداد رشحا وريدها. أى: باتت تنظر النجوم في جفنة كثيرة المرق والدسم، سريع جمود دسمها على أيدى الآكلين من برد الشتاء، حتى إذا امتلأت بطنها ونفرت عروق عنقها وقضت لبانة، أى: حاجة من صاحب الإناء وهو المرق واللبن: طلبت منا حاجة لا نريدها ولا نرضاها، لأنها فاحشة وكأنه صمن أرادت معنى التضرع أو الميل أو النسبة فعداء بإلى. ويجوز أنها بمعنى من، كما أوضحناه في آخر حرف الباء.
(2) . قوله «فوجم لها» أى اشتد حزنه. أفاده الصحاح. (ع)

(4/417)


قريش هذه الليلة، فإنى أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم، حتى ضرب عتبة فقتله «1» . وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع «2»
ما ضل صاحبكم يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم: والخطاب لقريش، وهو جواب القسم، والضلال: نقيض الهدى، والغى نقيض الرشد، أى: هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغى، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، وإنما هو وحى من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى شديد القوى ملك شديد قواه، والإضافة غير حقيقية، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهو جبريل عليه السلام، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف «3» ، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عروة عن أبيه فذكر مثله. إلا أنه قال «فضربه الأسد بذنبه ضربة واحدة فمات مكانه» ورواه البيهقي في الدلائل والطبراني من طريق سعيد عن قتادة مطولا نحوه. لكن قال عنبسة: ورواه الحاكم والبيهقي في الدلائل أيضا. من رواية أبى نوفل بن أبى عقرب عن أبيه. قال «كان لهب بن أبى لهب» فذكره مختصرا. وقال البيهقي: هكذا قال عباس بن الفضل الأزرق. وليس بالقوى. وأهل المغازي يقولونه عتبة أو عتيبة. [.....]
(2) .
لا يرفع الرحمن مصروعكم ... ولا يوهن قوة الصارع
وكان فيه لكم عبرة ... السيد المتبوع والتابع
من يرجع العلم إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
من عاد فالليث له عائد ... أعظم به من خبر شائع
لحسان بن ثابت. روى عن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبى لهب كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وقال: إنه كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل في وجهه وطلق ابنته وخرج إلى الشام فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، فبينما هم يحرسونه ذات ليلة في سفر، إذ جاء أسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله، فقال حسان ذلك، والفعلان مجزومان بلا الدعائية. ويوهن بالتشديد، والمعنى الدعاء على القتيل والدعاء للقاتل. والمصروع: المطروح. والعبرة: الاعتبار أو ما يعتبر به. والتابع عطف على السيد.
من يرجع في هذا العام إلى أهله فلن يوجب رجوع غيره، لأن من أكله السبع لا يرجع فلا يتمن أهله رجوعه، لاستحالته وسكون السبع لغة، ثم قال: من عاد لمثل فعل عتبة فالأسد عائد له، وأعظم به: صيغة تعجب، من خبر: تمييز مقترن بمن، شائع: ذائع منتشر.
(3) . قوله «في أوحى من رجعة الطرف» أى: أسرع من الوحى وهو السرعة، يمد ويقصر، كذا في الصحاح. وفيه أيضا: نفحت الناقة: ضربت برجلها، ونفحه بالسيف: تناوله. (ع)

(4/418)


بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند ذو مرة ذو حصافة في عقله «1» ورأيه ومتانة في دينه فاستوى فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق «2» . وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء «3» ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتدلى فتعلق عليه في الهواء. ومنه: تدلت الثمرة، ودلى رجليه من السرير.
والدوالي: الثمر المعلق. قال:
تدلى عليها بين سب وخيطة «4»
ويقال: هو مثل القرلى: إن رأى خيرا تدلى، وإن لم يره تولى قاب قوسين مقدار قوسين عربيتين: والقاب والقيب، والقاد والقيد، والقيس: المقدار. وقرأ زيد بن على: قاد. وقرئ:
قيد، وقدر. وقد جاء التقدير بالقوس والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة، والشبر، والفتر، والأصبع. ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» «5» . وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها «6» » والقد: السوط.
ويقال: بينهما خطوات يسيرة. وقال:
__________
(1) . قوله «ذو حصافة في عقله» أى: استحكام» أفاده الصحاح. (ع)
(2) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين من رواية مسروق عن عائشة «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي رأيته عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وللترمذي وابن حبان «ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين:
مرة عند سدرة المنتهى. ومرة في أجياد، له ستمائة جناح، وقد سد الأفق» .
(3) . لم أجده. هكذا. وذكر المرتين، تقدم في الذي قبله.
(4) .
تدلى عليها بين سب وخيطة ... تدلى دلو المائج المنشمر
يروى لأبى ذؤيب بدل الشطر الثاني: بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها. والسب- بالكسر-: الحبل، والخمار، والعمامة، والخيطة كذلك الوتد ونحوه: في لغة هذيل. والمائح: مالئ الدلو من أسفل البئر. والمائح- بالتاء-:
المستقى، يصف جانى العسل بأنه تدلى على النحل أو العسل، لأنه يؤنث أيضا، أى: نزل متمسكا بحبل مشدود في وتد، كتدلى دلو المالئ النشيط. والجرداء: فرس قليلة الشعر. والوكف: النطع. وكبا الجواد يكبو: سقط على وجهه. وغراب الدابة: أعلى ظهرها، أى: كأن غرابها ينحدر لسرعة سيرها.
(5) . أخرجه الحاكم من حديث عمرو بن عبسة في حديث طويل ورواه إسحاق والدارقطني من حديث كعب بن مرة نحوه في حديث، ورواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف مختصرا.
(6) . أخرجه البخاري من طريق حميد عن أنس أتم من هذا.

(4/419)


وقد جعلتني من حزيمة أصبعا «1»
فإن قلت: كيف تقدير قوله فكان قاب قوسين؟ قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين «2» ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة أصبعا
أى: ذا مقدار مسافة أصبع أو أدنى أى على تقديركم، كقوله تعالى أو يزيدون. إلى عبده
إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله على ظهرها. ما أوحى
تفخيم للوحى الذي أوحى «3» إليه: قيل أوحى إليه «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أى: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا، لأنه عرفه، يعنى: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وقرئ: ما كذب، أى صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته أفتمارونه من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة، «4» كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. وقرئ: أفتمرونه: أفتغلبونه في المراء، من ماريته فمريته، ولما فيه من معنى الغلبة عدى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا: وقيل: أفتمرونه: أفتجحدونه. وأنشدوا:
لئن هجوت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا «5»
__________
(1) .
فأدرك إبقاء العراوة ظلعها ... وقد جعلتني من حزيمة أصبعا
للكلحية، وهو لقب لعبد الله بن هبيرة. وقيل: جرير بن هبيرة. وقيل: هبيرة بن عبد مناف. وقيل: هو للأسود بن يعفر. وقيل: لرؤبة وليس بشيء. والإبقاء: ما تبقيه الفرس من الهمة لتبذله قرب بلوغ المقصد.
والعراوة كجرادة. وقيل: بالكسر اسم فرسه. والظلع- بالفتح-: غمز في المشية من وجع الرجل، أى: أدرك الظلع ما أبقته الفرس فلم تقدر على بذله، والحال أنها جعلتني قريبا من عدوى حزيمة بمهملة مفتوحة فمعجمة مكسورة:
رجل كان قد أغار على إبل الشاعر فتبعه. وقيل: قبيلته وليس بذاك. ويروى: فأدرك إرقال العراوة. والإرقال:
الاسراع في السير، أى: أبطل إسراعها العرج، ولا بد من تأويل قوله: جعلتني أصبعا أى: جعلتني ذا مسافة أصبع. أو جعلت مسافتي مقدار أصبع.
(2) . قال محمود: «تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين إلى آخره» قال أحمد: وقد قال بعضهم:
إنه كناية عن المعاهدة على لزوم الطاعة، لأن الحليفين في عرف العرب إذا تحالفا على الوفاء والصفاء ألصقا وترى قوسيهما» قال أحمد: وفيه ميل لقوله أو أدنى.
(3) . قال محمود: «هذا تفخيم للوحى الذي أوحى الله إليه» قال أحمد: التفخيم لما فيه من الإبهام، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان، وهو كقوله: إذ يغشى السدرة ما يغشى وقوله فغشيهم من اليم ما غشيهم.
(4) . قوله «من مرى الناقة» في الصحاح: مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر. (ع)
(5) . يقول لصاحبه: لئن ذممت أخا صدق ومكرمة، يعنى: نفسه. ويقال: مرى الناقة، أى: حلبها. ومنه المماراة. كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. ومنه: فقد مريت أخا صدق، أى: غلبته في الجدال وأنفذت ما عنده، لأن من حلب الناقة يتركها يابسة الضرع، أو جحدت حقه كأنك أخذته منه، أو تسببت في إخراج ما عنده، فيذمك كما ذممته. ما كان يمريك، أى: ما كان يفعل بك كذلك.

(4/420)


وقالوا: يقال مريته حقه إذا جحدته، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين نزلة أخرى مرة أخرى من النزول، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، أى: نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج. قيل في سدرة المنتهى: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش: ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيول، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها.
والمنتهى: بمعنى موضع الانتهاء، أو الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهى علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء جنة المأوى الجنة التي يصير إليها المتقون: عن الحسن. وقيل: تأوى إليها أرواح الشهداء.
وقرأ على وابن الزبير وجماعة: جنة المأوى، أى ستره بظلاله ودخل فيه. وعن عائشة: أنها أنكرته وقالت: من قرأ به فأجنه الله ما يغشى تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله: أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف. وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله» «1» . وعنه عليه السلام: يغشاها رفرف من طير خضر «2» . وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش من ذهب «3» ما زاغ بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طغى أى أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، وما طغى: وما جاوز ما أمر برؤيته لقد رأى والله لقد رأى من آيات ربه الآيات التي هي كبراها وعظماها «4» ، يعنى: حين رقى ربه إلى السماء فأرى عجائب الملكوت.
__________
(1) . أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قيل له: يا رسول الله، أى شيء رأيت يغشى تلك الشجرة؟ فذكره وأتم منه» وعبد الرحمن ضعيف وهذا معضل. [.....]
(2) . لم أجده.
(3) . أما حديث ابن مسعود فرواه إسحاق بن راهويه من طريق مرة عنه بهذا وأتم منه وأما غيره فرواه [بياض بالأصل] .
(4) . قال محمود: «معناه قد رأى من آيات ربه الآيات التي ... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الكبرى صفة آيات ربه، لا مفعولا به، ويكون المرئي محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول، وهذا- والله أعلم- أولى من الأول، لأن فيه تفخيما لآيات الله الكبرى، وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره، وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم، وفيه بعد، فان آيات الله تعالى لا يحيط أحد علما بجملتها.
فان قال: عام أريد به خاص، فقد رجع إلى الوجه الذي ذكرناه والله أعلم.

(4/421)


أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)

[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 23]
أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)
اللات والعزى ومناة أصنام كانت لهم، وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف.
وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فعلة من لوى، لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة. أو يلتوون عليها «1» : أى يطوفون. وقرئ: اللات، بالتشديد. وزعموا أنه سمى برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنا، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة، وأصلها تأنيث الأعز، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إنى رأيت الله قد أهانك «2»
__________
(1) . قال محمود: «اشتقاق اللات من لوى على كذا إذا قام عليه لأنهم كانوا ... الخ» قال أحمد: الأخرى تأنيث آخر، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير، حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلى، بخلاف آخر وآخرة، على وزن فاعل وفاعلة، فان إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغير. ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا: ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى: إلى ربيع الآخر، على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي، لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة، والتزموا ذلك فيهما. وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الاشعار بتقدم مغاير في الذكر، مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية، والله أعلم.
(2) . لخالد بن الوليد رضى الله عنه. وعز: مرخم عزى. وترخيمه شاذ، لأنه ليس رباعيا ولا مؤنثا بالهاء، وهي شجرة كانت نعبدها الجاهلية، فضربها بسيقه فخرجت منها جنية صارخة، فقال لها ذلك البهت. وقيل: ضربها بالفأس حتى قطعها وقتل الجنية. وكفرانك: نصب بمحذوف وجوبا، كسبحان، أى: أكفر كفرانا بك، لا أنزه تنزيها لك، فهما مصدران مغنيان عن اللفظ بفعليهما. والاهانة: الا ذلال.

(4/422)


ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام تلك العزى ولن تعبد أبدا «1» . ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لثقيف. وقرئ:
ومناءة، وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أى: تراق، ومناءة مفعلة من النوء، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. والأخرى ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى قالت أخراهم لأولاهم أى وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم.
ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى. كانوا يقولون إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم ألكم الذكر وله الأنثى ويجوز أن يراد: أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهن آلهة قسمة ضيزى جائرة، من ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: ضوزى «2» . ففعل بها ما فعل ببيض، لتسلم الياء. وقرئ: ضئزى، من ضأزه بالهمز. وضيز: بفتح الضاد هي ضمير الأصنام، أى ما هي إلا أسماء ليس تحتها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشده منافاة لها. ونحوه قوله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أو ضمير الأسماء وهي قولهم، اللات والعزى ومناة، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة، يعنى: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به. ومعنى سميتموها سميتم بها، يقال: سميته زيدا، وسميته بزيد إن يتبعون وقرئ بالتاء إلا الظن إلا توهم أن ما هم عليه حق، وأن آلهتهم شفعاؤهم، وما تشتهيه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أن دينهم باطل.
__________
(1) . أخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب الكلبي عن أبى صالح وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها. وكانت بنخلة عليها سادن فجاءها خالد فهدمها فذكر نحوه إلى آخره ورواه الواقدي في المغازي والأزرقى في التاريخ من طريقه عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن سعيد بن عمرو الهذلي قال «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فذكر القصة وفيها: فبعث خالد ابن الوليد إلى العزى يهدمها فذكر القصة. وكذا ذكره ابن سعد في الطبقات في السرايا وأصل هذه القصة رواها النسائي وأبو يعلى والطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث أبى الطفيل قال «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة- بعث خالد بن الوليد إلى نخلة- وكانت بها العزى فأتاها خالد، وكانت على ثلاث شجرات فقطع الشجرات» .
(2) . قوله «والأصل قوله ضوزى» لعل صوابه «ضيزى» بكسر الضاد. ويؤيده ما قبله وما بعده اه ملخصا من هامش. (ع)

(4/423)


أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)

[سورة النجم (53) : الآيات 24 الى 25]
أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الآخرة والأولى (25)
أم للإنسان ما تمنى هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها لإنكار، أى: ليس للإنسان ما تمنى، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة، وهو تمن على الله في غاية البعد، وقيل: هو قولهم:
ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالا وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم فلله الآخرة والأولى أى هو مالكهما.
فهو يعطى منهما من يشاء ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.

[سورة النجم (53) : آية 26]
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)
يعنى: أن أمر الشفاعة ضيق وذلك أن الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السماوات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قط ولم تنفع، إلا إذا شفعوا من بعد أن بأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلا لأن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم «1» .

[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30]
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)
ليسمون الملائكة أى كل واحد متهم تسمية الأنثى لأنهم إذا قالوا: الملائكة بنات الله، فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى به من علم أى بذلك وبما يقولون «2» .
وفي قراءة أبى: بها، أى: بالملائكة. أو التسمية لا يغني من الحق شيئا يعنى إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم فأعرض عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله عن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا، ولا تتهالك على إسلامه، ثم قال إن ربك هو أعلم
__________
(1) . قوله «بعبدتهم» لعله لعبدتهم، كعبارة النسفي. (ع)
(2) . قوله «ربما يقولون» لعله أو بما يقولون. (ع)

(4/424)


ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)

أى إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، وأنت لا تعلم، فخفض على نفسك ولا تتعنها، فإنك لا تهدى من أحببت، وما عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى ذلك مبلغهم من العلم اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله، إن ربك هو أعلم بالضال والمهتدى، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء.

[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)
قرئ: ليجزي. ويجزى، بالياء والنون فيهما. ومعناه: أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذه الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازى المحسن من المكلفين والمسيء منهم.
ويجوز أن يتعلق بقوله هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدى جزاؤهما بما عملوا بعقاب ما عملوا من السوء. وبالحسنى بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى كبائر الإثم أى الكبائر من الإثم، لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر، والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. وقيل: التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها والفواحش ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة: وقرئ: كبير الإثم، أى: النوع الكبير منه وقيل: هو الشرك بالله. واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم المس من الجنون، واللوثة منه.
وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله: ومنه:
لقاء أخلاء الصفاء لمام «1»
__________
(1) .
لقاء أخلاء الصفاء لمام ... وكل وصال الغانيات ذمام
أى: لقاء الأحباب الذين صفت مودتهم لمام، أى: قليل فهو مفاعلة من الإلمام وهو الزيادة بلا تلبث ولا تمكث وكل وصال النساء المستغنيات بجمالهن عن التحلي بالحلى أو المخدرات المقيمات في بيوتهن، من غنى بالمكان كرضى:
أقام به ذمام أى شيء قليل من حقوق الحرمة والذمة، وإطلاقه على ذلك مجاز، وحقيقته: الحرمة والذمة والمعاهدة والعهد الذي يتعاهد به المتعاهدان وما يذم الشخص على إضاعته من العهد، فهو إما مفاعلة من الذمة، وإما اسم آلة: كالحزام والوثاق، وقد يستعمل صفة لبئر قليلة الماء، ويستعمل جمع ذمة. والمعنى أن رؤية الأحباب قليلة إما حقيقة في العادة، وإما ادعاء واستقلالا لها. ورؤية غيرهم كثيرة. وفيه معنى التحزن. ويجوز أن يقرأ: الدمام بالمهملة، وهو ما يطلى به الوجه ليحسن، والمعنى: أن وصالهن مجرد تمويه لا حقيقة له، والمعنى على التشبيه.

(4/425)


أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41) وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الأخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمود فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53) فغشاها ما غشى (54)

والمراد الصغائر من الذنوب، ولا يخلو قوله تعالى إلا اللمم من أن يكون استثناء منقطعا أو صفة، كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله: وعن أبى سعيد الخدري: اللمم هي النظرة، والغمزة، والقبلة: وعن السدى:
الخطرة من الذنب: وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا: وعن عطاء:
عادة النفس الحين بعد الحين إن ربك واسع المغفرة حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، «1» والكبائر بالتوبة فلا تزكوا أنفسكم فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات: أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله الزكي منكم والتقى أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فنزلت: وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء: فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح: لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.

[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 54]
أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37)
ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41) وأن إلى ربك المنتهى (42)
وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الأخرى (47)
وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمود فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52)
والمؤتفكة أهوى (53) فغشاها ما غشى (54)
__________
(1) . قوله «يكفر الصغائر باجتناب الكبائر» هذا عند المعتزلة، وعند أهل السنة بذلك. أو بمجرد الفضل، وكذا ما بعده. (ع)

(4/426)


أكدى قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كدية: وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر، ونحوه: أجبل الحافر، ثم استعير فقيل: أجبل الشاعر إذا أفحم. روى أن عثمان رضى الله عنه كان يعطى ما له في الخير، فقال له عبد الله بن سعد بن أبى سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإنى أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطنى ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت. ومعنى تولى ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل فهو يرى فهو يعلم أن ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حق وفى قرئ مخففا ومشددا، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى:
وفر وأتم، كقوله تعالى فأتمهن وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية، من ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوة، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشى فرسخا يرتاد ضيفا، فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفي به. وعن الهزيل بن شرحبيل «1» : كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده، فأول من خالفهم إبراهيم. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال. أما إليكما فلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر «2» النهار، وهي: صلاة الضحى.
وروى: ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى: فسبحان الله حين تمسون ... إلى ... حين تظهرون «3» وقيل: وفي سهام الإسلام: وهي ثلاثون: عشرة في التوبة التائبون ... وعشرة في الأحزاب: إن المسلمين ... وعشرة في المؤمنين قد أفلح المؤمنون ... وقرئ: في صحف، بالتخفيف ألا تزر أن مخففة من الثقيلة. والمعنى: أنه
__________
(1) . قوله «وعن الهزيل بن شرحبيل» لعله: الهذيل. (ع)
(2) . أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعا به وأتم منه.
(3) . أخرجه أحمد والطبراني وابن السنى والطبري وابن أبى حاتم من رواية ابن لهيعة عن زياد عن زيان عن ابن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه به. [.....]

(4/427)


لا تزر، والضمير ضمير الشأن، ومحل أن وما بعدها: الجر بدلا من ما في صحف موسى. أو الرفع على: هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم، فقيل: أن لا تزر إلا ما سعى إلا سعيه. فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وبه الإضعاف؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه.
وهو أن يكون مؤمنا صالحا وكذلك الإضعاف- كأن سعى غيره كأنه سعى نفسه، لكونه تابعا له وقائما بقيامه. والثاني، أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه ثم يجزاه ثم يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه الله عمله وجزاه على عمله، بحذف الجار وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله الجزاء الأوفى أو أبدله عنه، كقوله تعالى: وأسروا النجوى الذين ظلموا، وأن إلى ربك المنتهى قرئ بالفتح على معنى: أن هذا كله في الصحف، وبالكسر على الابتداء، وكذلك ما بعده. والمنتهى: مصدر بمعنى الانتهاء، أى: ينتهى إليه الخلق ويرجعون إليه، كقوله تعالى إلى الله المصير. أضحك وأبكى خلق قوتي الضحك والبكاء «1» إذا تمنى إذا تدفق في الرحم، يقال: منى وأمنى. وعن الأخفش: تخلق من منى المانى، أى قدر المقدر: قرئ: النشأة والنشاءة بالمد. وقال عليه لأنها واجبة «2» عليه في الحكمة «3» ، ليجازى على الإحسان والإساءة وأقنى وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك الشعرى مرزم الجوزاء «4» : وهي التي تطلع وراءها، وتسمى كلب الجبار، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور. وكانت خزاعة تعبدها، سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم،
__________
(1) . قال محمود: «أى خلق قوتي الضحك والبكاء» قال أحمد: وخلق أيضا فعلى الضحك والبكاء على قواعد السنة، وعليه دلت الآية غير مثابرة لتحريفه، والله الموفق.
(2) . قال محمود: «إنما قال عليه لأنها واجبة عليه ... الخ» قال أحمد: هذا من فساد اعتقاد المعتزلة الذي يسمونه مراعاة الصلاح والحكمة، وأى فساد أعظم مما يؤدى إلى اعتقاد المعتزلة الإيجاب على رب الأرباب، تعالى الله عن ذلك. ومثل هذه القاعدة التي عفت البراهين القاطعة رسمها وأبطلت حكمها لا يكفى فيها كلمة محتملة: هي لو كانت ظاهرة لوجب تنزيلها على ما يوفق بينها وبين القواطع، والذي حملت عليه لفظة عليه غير هذا المعنى: وهو أن المراد أن أمر النشأة الأخرى يدور على قدرته عز وجل وإرادته، كما يقال: دارت قضية فلان على يدي.
وقول المحدثين. على يدي دار الحديث، أى هو الأصل فيه والسند، والله أعلم.
(3) . قوله «لأنها واجبة عليه في الحكمة» هذا عند المعتزلة لا عند أهل السنة. (ع)
(4) . قوله «مرزم الجوزاء» في الصحاح «المرزمان» مرزما الشعريين، وهما نجمان: أحدهما في الشعرى، والآخر في الذراع اه. (ع)

(4/428)


فبأي آلاء ربك تتمارى (55) هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62)

وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو كبشة، تشبيها له به لمخالفته إياهم في دينهم «1» ، يريد: أنه رب معبودهم هذا. عاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. وقيل:
الأولى القدماء، لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف. وقرئ:
عادا لولى. وعاد لولى، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف وثمود وقرئ: وثمود أظلم وأطغى «2» لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، وما أثر فيهم دعاؤه «3» قريبا من ألف سنة والمؤتفكة والقرى التي ائتفكت بأهلها، أى: انقلبت، وهم قوم لوط، يقال: أفكه فأتفك:
وقرئ: والمؤتفكات أهوى رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض أى:
أسقطها ما غشى تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود.

[سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 58]
فبأي آلاء ربك تتمارى (55) هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58)
فبأي آلاء ربك تتمارى تتشكك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للإنسان على الإطلاق، وقد عدد نعما ونقما وسماها كلها آلاء من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين هذا القرآن نذير من النذر الأولى أى إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين، وقال: الأولى على تأويل الجماعة أزفت الآزفة قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى اقتربت الساعة، ليس لها نفس كاشفة أى مبينة متى تقوم، كقوله تعالى لا يجليها لوقتها إلا هو أو ليس لها نفس كاشفة، أى: قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، غير أنه لا يكشفها. أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف: كالعافية. وقرأ طلحة: ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة، وهي على الظالمين ساءت الغاشية.

[سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62)
__________
(1) . هذا وهم، والمعروف أنهم كانوا يقولون له: ابن أبى كبشة، كما في حديث أبى سفيان الطويل في الصحيحين حيث قال: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة أن يخافه ملك بنى الأصفر. يعنى هرقل.
(2) . قوله «وقرئ وثمود أظلم وأطغى» يفيد أن قراءة التنوين أشهر. (ع)
(3) . قوله «وما أثر فيهم دعاؤه» أى دعاؤه إياهم إلى الإسلام. (ع)

(4/429)


اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3)

أفمن هذا الحديث وهو القرآن تعجبون إنكارا وتضحكون استهزاء ولا تبكون والبكاء والخشوع حق عليكم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها «1» . وقرئ: تعجبون تضحكون، بغير واو وأنتم سامدون شامخون مبرطمون «2» .
وقيل: لاهون لاعبون. وقال بعضهم لجاريته: اسمدى لنا، أى غنى لنا فاسجدوا لله واعبدوا ولا تعبدوا الآلهة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة» «3»

سورة القمر
مكية [إلا الآيات 44 و 45 و 46 فمدنية] وآياتها 55 [نزلت بعد الطارق] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3)
انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة. عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين «4» .
__________
(1) . أخرجه أحمد في الزهد والثعلبي من حديث صالح بن أبى الخليل. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس بإسناد ضعيف.
(2) . قوله «شامخون مبرطمون» في الصحاح «البرطمة» الانتفاخ من الغضب اه. وفيه «السامد» : رافع رأسه تكبرا، واللاهي، والمعنى، والقائم، والساكت، والحزين الخاشع، واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا: أى ورم غضبا. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
(4) . متفق عليه من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.

(4/430)


ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5) فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7)

وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما، قال ابن عباس: انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت «1» . وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتى القمر «2» . وعن بعض الناس: أن معناه ينشق يوم القيامة، وقوله وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر يرده، وكفى به رادا، وفي قراءة حذيفة: وقد انشق القمر، أى: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، كما تقول: أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم «3» .
مستمر: دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله، قيل فيه: قد استمر. لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات: قالوا: هذا سحر مستمر. وقيل: مستمر قوى محكم، من قولهم: استمر مريره «4» . وقيل: هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته، أى: مستبشع عندنا، مر على لهواتنا، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر «5» . وقيل: مستمر مار، ذاهب يزول ولا يبقى، تمنية لأنفسهم وتعليلا. وقرئ: وإن يروا واتبعوا أهواءهم وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره وكل أمر مستقر أى كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته. أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر، أى: سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة. وقرئ بفتح القاف، يعنى: كل أمر ذو مستقر، أى:
ذو استقرار. أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار. وعن أبى جعفر: مستقر، بكسر القاف والجر عطفا على الساعة، أى: اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله.

[سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 7]
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5) فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7)
__________
(1) . أخرجه أبو نعيم في الدلائل، من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه، وفي الصحيحين عنه: «انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(2) . أخرجه ابن مردويه من رواية منصور عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: «ولقد رأيت والله حراء بين الشقتين» وفي الصحيحين عن أبى معمر عنه «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذا انفلق القمر فلقتين وكان فلقة وراء الجبل وفلقة دونه. فقال: اشهدوا» وفي الباب عن ابن عمر في مسلم. وعن جبير بن مطعم عن الحاكم في المستدرك، وعن أحمد أيضا.
(3) . أخرجه الحاكم والطيراني وأبو نعيم منى رواية ابن علية عن عطاء بن السائب عن ابن عبد الرحمن بهذا وأتم. ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن عطاء، وكذا أخرجه أحمد من رواية شعبة عن عطاء. [.....]
(4) . قوله «استمر مريره» في الصحاح «المرير» : الغريمة وما لطف وطال واشتد فتله من الحبال. (ع)
(5) . قوله «كما يساغ المر الممقر» في الصحاح. مقر الشيء وأمقر، أى: صار مرا. (ع)

(4/431)


من الأنباء من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة، وما وصف من عذاب الكفار مزدجر ازدجار أو موضع ازدجار. والمعنى: هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له، كقوله تعالى لكم في رسول الله أسوة حسنة أى هو أسوة. وقرئ مزدجر بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاى فيها حكمة بالغة بدل من ما. أو على: هو حكمة.
وقرئ بالنصب حالا من ما. فإن قلت: إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا، فكيف تعمل إن كانت موصوفة؟ وهو الظاهر. قلت: تخصصها الصفة: فيحسن نصب الحال عنها فما تغن النذر نفى أو إنكار. وما منصوبة، أى: فأى غناء تغنى النذر فتول عنهم لعلمك أن الإنذار لا يغنى فيهم. نصب يوم يدع الداع بيخرجون، أو بإضمار اذكر.
وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها، والداعي إسرافيل أو جبريل، كقوله تعالى يوم يناد المناد. إلى شيء نكر منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وقرئ: نكر بالتخفيف، ونكر بمعنى أنكر خشعا أبصارهم حال من الخارجين فعل للأبصار وذكر، كما تقول: يخشع أبصارهم. وقرئ: خاشعة، على: تخشع أبصارهم.
وخشعا، على: يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلونى البراغيث، وهم طيئ. ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم، وتقع أبصارهم بدلا عنه. وقرئ. خشع أبصارهم، على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال. كقوله:
وجدته حاضراه الجود والكرم «1»
وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والانخزال، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما. وقرئ: يخرجون من الأجداث: من القبور كأنهم جراد منتشر الجراد مثل في الكثرة والتموج. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاءوا كالجراد، وكالدبا «2» منتشر في كل مكان لكثرته مهطعين إلى الداع مسرعين مادى أعناقهم إليه. وقيل:
ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال:
__________
(1) .
إن الذي كنت أرجو فضل نائله ... وجدته حاضراه الجود والكرم
يقول: إن الذي كنت أرجو بقية عطائه أو زيادة عطائه: وجدته مصاحبا الجود والكرم. وهما مبتدأ خبره حاضراه، والجملة محلها نصب مفعول ثان، وحضورهما: كناية عن قيامهما به.
(2) . قوله «كالجراد وكالدبا» في الصحاح «الدبا» الجراد قبل أن يطير، والواحدة دباة. (ع)

(4/432)


كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17)

تعبدتى نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع «1»

[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13)
تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17)
قبلهم قبل أهل مكة فكذبوا عبدنا يعنى نوحا. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى فكذبوا بعد قوله كذبت «2» ؟ قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أى: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أى: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا: كذبوا نوحا، لأنه من جملة الرسل مجنون هو مجنون وازدجر وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم لتكونن من المرجومين وقيل: هو من جملة قيلهم، أى: قالوا هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرئ: أنى، بمعنى: فدعا بأنى مغلوب. وإنى: على إرادة
__________
(1) . الكلام على حذف حرف الاستفهام الإنكاري، أى: أيتخذني عبدا هذا الرجل، وحذف مفعول أرى لدلالة الحال عليه، وهو قوله: ونمر بن سعد مطيع لي ومهطع، أى: منتظر أمرى ليمتثله. أو مسرع إلى امتثاله، وأظهر في مقام الإضمار تعجبا منه واستخفافا بشأنه، ونمر: بسكون الميم.
(2) . قال محمود: «إن قلت: ما فائدة كذبوا بعد قوله كذبت قبلهم قوم نوح ... الخ؟ قال أحمد: قد تقدم كلامه على قوله تعالى وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي وأجاب عنه بجوابين، أحدهما متعذر هاهنا، والآخر: ممكن وهو أن ذلك كقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وقد مضى لي جوابان، أحدهما: يمكن إجراؤه هنا، وحاصله منع ورود السؤال، لأن الأول مطلق والثاني مقيد، فليس تكرارا. وهو كقوله في هذه السورة فتعاطى فعقر فان تعاطيه هو نفس عقره، ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهابا، وهو بمثابة ذكره مرتين، وجواب آخر هنا: وهو أن المكذب أولا محذوف دل عليه ذكر نوح، فكأنه قال: كذبت قوم نوح نوحا، ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله عبدنا فوصف نوحا بخصوص العبودية، وأضافه إليه إضافة تشريف، فالتكذيب المخبر عنه ثانيا أبشع عليهم من المذكور أولا لتلك اللمحة، والله أعلم.

(4/433)


القول، فدعا فقال: إنى مغلوب «1» غلبني قومي، فلم يسمعوا منى واستحكم اليأس من إجابتهم لي فانتصر فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الربا «2» ، فقد روى: أن الواحد من أمته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه. فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقرئ: ففتحنا مخففا ومشددا، وكذلك وفجرنا منهمر منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما وفجرنا الأرض عيونا وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم واشتعل الرأس شيبا. فالتقى الماء يعنى مياه السماء والأرض. وقرئ: الماءان، أى: النوعان من الماء السماوي والأرضى. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال:
لنا إبلان فيهما ما علمتم «3»
وقرأ الحسن: الماوان، بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان على أمر قد قدر على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان على ذات ألواح ودسر أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودى مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه:
......... ولكن ... قميصي مسرودة من حديد «4»
__________
(1) . قوله «فدعا فقال إنى مغلوب» لعله: أى فدعا فقال. (ع)
(2) . قوله «وبلغ السيل الربا» لعله جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض كالرابية. أفاده الصحاح، لكن فيه في حرف الزاى: والزبية الرابية لا يعلوها الماء. وفي المثل: قد بلغ السيل الزبى. والزبية: حفرة تحفر للأسد في موضع عال لأجل صيده. اه ملخصا. (ع)
(3) .
لنا إبلان فيهما ما علمتم ... فعن أيهما ما شئتم فتنكبوا
يقول: لنا قطيعان من الإبل فيهما قرى الأضياف وصلة الفقراء، فاحملوا ما شئتم منهما على مناكبكم، أى: خذوه وافصلوه عن الباقي. أو المعنى: اعدلوا عنهما وانصرفوا عما أردتموه منهما في مناكب الأرض، فاننا حماته.
وأيهما: بالسكون لغة في أى المشددة. وما شئتم: بدل منه. ويجوز أن «ما» زائدة، أى: ففي أيهما شئتم فانصرفوا في مناكب الأرض وطرقها مبعدين عنهما. ويجوز أن «ما شئتم» مفعول به، أو مفعول مطلق مقدم على عامله، والفاء الثانية تكرير للأولى. ويجوز أنها إشارة إلى ما في المعمول من معنى الشرط، أى: فاما عن أيهما. أو فاما ما شئتم فتنكبوا، أى: تجنبوا.
(4) .
مفرشى صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودة من حديد
الصهوة: مقعد الفارس من ظهر الفرس. يقول: مفرشى ظهر حصانى. وقميصي: درع من حديد متتابعة النسج، يعنى أنه ليس من أهل التنعم، بل من أهل البدو والغزو. والاستدراك من باب استتباع المدح بما يشبه الذم، مبالغة في المدح.

(4/434)


أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك:
ولو في عيون النازيات بأكرع «1»
أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين: لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر:
جمع دسار: وهو المسمار، فعال من دسره إذا دفعه، لأنه يدسر به منفذه جزاء مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أى فعلنا ذلك جزاء لمن كان كفر وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفورا لأن النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أن رجلا قال للرشيد:
الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة: كفر، أى جزاء للكافرين. وقرأ الحسن: جزاء، بالكسر: أى مجازاة. الضمير في تركناها للسفينة. أو للفعلة، أى: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة. وقيل: على الجودي دهرا طويلا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمدكر: المعتبر. وقرئ: مذتكر، على الأصل. ومذكر، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها. وهذا نحو: مذجر. والنذر: جمع نذير وهو الإنذار ولقد يسرنا القرآن للذكر أى سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد فهل من متعظ. وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه. ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو، إذا أسرجه وألجمه. قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذى كنت أصنع «2»
__________
(1) .
وإنى لأستوفى حقوقي جاهدا ... ولو في عيون النازيات بأكرع
يقول: ولا بد من الاجتهاد في تخليص حقوقي وأخذها، ولو كانت في أخفى مكان وأبعده كعيون الجراد النازيات الواثبات بأكرع، أى أرجل دقيقة جمع كراع: فحذف الموصوف وكنى عنه بالنازيات صفته لجريانها مجرى الاسم. وقيل:
المعنى لا بد من أخذ إبلى ولو كانت هزالا جدا بحيث ترى في عيون الجراد لصغرها، أى: ولو كانت كأنها كذلك
(2) .
أرى أم سهل لا تزال نفجع ... تلوم وما أدرى علام توجع
تلوم على أن أمنح الورد لقحة ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
إذا هي قامت حاسرا مشمعلة ... نخيب الفؤاد رأسها ما يقنع
وقمت إليه باللجام مبسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
للأعرج المعنى الخارجي. وتفجع وتوجع: أصلها بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا. وعلام: استفهام عن علة التوجع.
وأسنح: أعطى والورد: اسم فرسه. واللقحة: اللبن الحليب. والحاسر: العريانة الوجه. والمشمعلة: السريعة الجري. والنخيب: الخالية المجوفة. والمراد: التي ذهب عقلها ورأسها، ما يقنع: أى ما يستر بالقناع لدهشتها وخجلتها. وقوله «الورد الأول» مفعول به، والثاني مفعول معه: هذا حال أم سهل. وأما حال مهره، فبينها في قوله: وقمت إليه مهيئا ومعدا له باللجام. أو مسهلا له به، دلالة على أنه كان صعبا لولا اللجام. وهنالك إشارة إلى مكان الحرب، أو إلى زمانها، يجزيني: أى يعطيني جزاء صنعي معه، وشبهه بمن تصح منه المجازاة على طريق المكنية، وصنعه: هو سقيه اللبن.

(4/435)


كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22)

ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن.

[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22)
ونذر وإنذارى لهم بالعذاب قبل نزوله. أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم في يوم نحس في يوم شؤم. وقرئ: في يوم نحس، كقوله في أيام نحسات. مستمر قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. أو استمر عليهم جميعا كبيرهم وصغيرهم، حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور. ويجوز أن يريد بالمستمر: الشديد المرارة والبشاعة تنزع الناس تقلعهم عن أماكنهم، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدى بعض «1» .
ويتدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم كأنهم أعجاز نخل منقعر يعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع، منقعر: منقلع: عن مغارسه. وقيل: شبهوا بأعجاز النخل، لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس. وذكر صفة نخل على اللفظ، ولو حملها على المعنى لأنث، كما قال أعجاز نخل خاوية.
__________
(1) . قوله «آخذين أيديهم بأيدى بعض» عبارة النسفي: آخذين بعضهم بأيدى بعض. (ع)
.

(4/436)


كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (32)

[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27)
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (32)
أبشرا منا واحدا نصب بفعل مضمر يفسره نتبعه وقرئ: أبشر منا واحد، على الابتداء. ونتبعه: خبره، والأول أوجه للاستفهام. كان يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق، وسعر: ونيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب. والسعر: الجنون. يقال: ناقة مسعورة. قال:
كأن بها سعرا إذا العيس هزها ... ذميل وإرخا من السير متعب «1»
فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا؟ قلت: قالوا أبشرا: إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة «2» ، وقالوا منا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، وقالوا واحدا إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا. أو أرادوا واحدا من أفنائهم «3» ليس بأشرفهم وأفضلهم، ويدل عليه قولهم أألقي الذكر عليه من بيننا أى أأنزل عليه الوحى من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة أشر بطر متكبر، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك سيعلمون غدا عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة من الكذاب الأشر أصالح أم من كذبه. وقرئ: ستعلمون بالتاء على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم. أو هو كلام
__________
(1) . السعر: الجنون، والمسعور: المجنون والذي ضربته السموم. يقول: كأن بناقتي جنون لقوة سيرها، فالعيس: جمع عيساء وهي النوق البيض، حركها ذميل وإرخاء: وهما نوعان من السير متعب كل منهما. وإسناد الهز إليهما مجاز عقلى من باب الاسناد للسبب، وإن أريد بالهز التسيير فيكون من الاسناد للمصدر، كجد جده، لكن المسند هنا من المتعدي، والمسند إليه من اللازم. [.....]
(2) . قوله «أعلى من جنس البشر وهم الملائكة» تفضيل الملك على البشر مذهب المعتزلة. وأهل السنة يفضلون البشر على الملك. (ع)
(3) . قوله «واحدا من أفنائهم» وفي الصحاح: يقال هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. اه، ولم يذكر له واحدا. (ع)

(4/437)


كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (40)

الله تعالى على سبيل الالتفات. وقرئ: الأشر، بضم الشين، كقولهم حدث وحدث. وحذر وحذر، وأخوات لها. وقرئ: الأشر، وهو الأبلغ في الشرارة. والأخير والأشر: أصل قولهم: هو خير منه وشر منه، وهو أصل مرفوض، وقد حكى ابن الأنبارى قول العرب:
هو أخير وأشر، وما أخيره وما أشره مرسلوا الناقة باعثوها ومخرجوها من الهضبة «1» كما سألوا فتنة لهم امتحانا لهم وابتلاء فارتقبهم فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون واصطبر على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمرى قسمة بينهم مقسوم بينهم: لها شرب يوم ولهم شرب يوم. وإنما قال: بينهم، تغليبا للعقلاء محتضر محضور لهم أو للناقة. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها صاحبهم قدار بن سالف أحيمر ثمود فتعاطى فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقيل فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف صيحة واحدة صيحة جبريل. والهشيم، الشجر اليابس المتهشم المتكسر. والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم. وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار، أى: الحظيرة.

[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37)
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (40)
حاصبا ريحا تحصبهم بالحجارة، أى: ترميهم بسحر بقطع من الليل، وهو السدس الأخير منه. وقيل: هما سحران، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه. وأنشد:
مرت بأعلى السحرين تذأل «2»
__________
(1) . قوله «ومخرجوها من الهضبة» في الصحاح «الهضبة» الجبل المنبسط على وجه الأرض. (ع)
(2) .
يا سائلي إن كنت عنها تسأل ... مرت بأعلى السحرين تذأل
يقول: يا من تسألنى إن كنت تسألنى عن الحمر الوحشية لا غير، فقد مرت بأعلى السحرين وهو السحر الذي قبل انصداع الفجر. والأدنى: هو الذي عند انصداعه، أى مرت في السحر الأول تذأل بالهمز، أى: تسرع في المشي من ذأل كمنع: إذا مشى في خفة. ومنه: ذؤالة الذئب، وبين تسأل وتذأل الجناس المضارع.

(4/438)


ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46)

وصرف لأنه نكرة. ويقال: لقيته سحر: إذا لقيته في سحر يومه نعمة إنعاما، مفعول له من شكر نعمة الله بإيمانه وطاعته ولقد أنذرهم لوط عليه السلام بطشتنا أخذتنا بالعذاب فتماروا فكذبوا بالنذر متشاكين فطمسنا أعينهم فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة خلهم يدخلوا، إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقه فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط فذوقوا فقلت لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة بكرة أول النهار وباكره، كقوله: مشرقين، ومصبحين.
وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: بكرة، غير منصرفة، تقول: أتيته بكرة وغدوة بالتنوين.
إذا أردت التنكير، وبغيره إذا عرفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته عذاب مستقر ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضى بهم إلى عذاب الآخرة. فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبا من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن «1» تارات، لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله فبأي آلاء ربكما تكذبان عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن، وقوله فويل يومئذ للمكذبين عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة القلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.

[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42)
النذر موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون.
أو جمع نذير وهو الإنذار بآياتنا كلها بالآيات التسع أخذ عزيز لا يغالب مقتدر لا يعجزه شيء.

[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 46]
أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46)
__________
(1) . قوله «ويقعقع لهم الشن» القربة الخلق، كذا في الصحاح. (ع)

(4/439)


إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50)

أكفاركم يا أهل مكة خير من أولئكم الكفار المعدودين: قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، أى أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا، أو أقل كفرا وعنادا يعنى: أن كفاركم مثل أولئك بل شر منهم أم أنزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة.
أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله، فأمنتم بتلك البراءة نحن جميع جماعة أمرنا مجتمع منتصر ممتنع لا نرام ولا نضام. وعن أبى جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت سيهزم الجمع عن عكرمة:
لما نزلت هذه الآية قال عمر: أى جمع يهزم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: «سيهزم الجمع» عرف تأويلها «1» ويولون الدبر أى الأدبار كما قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا «2»
وقرئ: الأدبار أدهى أشد وأفظع. والداهية: الأمر المنكر لذي لا يهتدى لدوائه وأمر من الهزيمة والقتل والأسر. وقرئ: سنهزم الجمع.

[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 50]
إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50)
في ضلال وسعر في هلاك ونيران. أو في ضلال عن الحق في الدنيا، ونيران في الآخرة مس سقر كقولك: وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب، لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولقحتهم بإيلامها، فكأنها تمسهم مسا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذى ويؤلم. وذوقوا:
على إرادة القول. وسقر: علم لجهنم. من سقرته النار وصقرته إذا لوحته. قال ذو الرمة:
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وعن أيوب عن عكرمة «أن عمر- فذكره» وأتم منه، ورواه من هذا الوجه إسحاق والطبري وابن أبى حاتم، ورواه الطبري في الأوسط من رواية عبد المجيد بن أبى رواد عن معمر عن قتادة عن أنس عن عمر موصولا.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 479 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/440)


ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53)

إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها ... بأفنان مربوع الصريمة معبل «1»
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر «2» .
وقرئ: كل شيء بالرفع. والقدر والقدر: التقدير. وقرئ بهما، أى: خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة. أو مقدرا مكتوبا في اللوح.
معلوما قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه وما أمرنا إلا واحدة إلا كلمة واحدة سريعة التكوين كلمح بالبصر أراد قوله كن، يعنى أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه.

[سورة القمر (54) : الآيات 51 الى 53]
ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53)
أشياعكم أشباهكم في الكفر من الأمم في الزبر في دواوين الحفظة وكل صغير وكبير من الأعمال ومن كل ما هو كائن مستطر مسطور في اللوح.
__________
(1) . لذي الرمة يصف بقر الوحش، يقال: ذابت الشمس إذا اشتد حرها حتى يتساقط من شعاعها مثل اللعاب، وصقر الصخرة بالمصقر: ضربها بالمعول ليكسرها. وصقرته الشمس: إذا ضربته فغيرت لونه. وصقرة الشمس: اشتداد وقعها على الأرض. والأفنان، جمع فنن وهو مجتمع الورق الملتف المتكاثف في الغصن.
والمربوع: الذي أصابه مطر الربيع. والصريمة: الرملة المتصرمة من الرمال. والمعبل: كثير الورق مفتوله.
يقول: إذا اشتد حر الشمس توقى شدائده بأغصان شجر سقاه الربيع في هذا الموضع من الرمال. والمعبل: كثير الورق. ومعبل: بدل من مربوع، كأنه جامد. ويجوز أنه نعت له، على أن إضافته من إضافة الوصف إلى الظرف، فلا تفيده التعريف، فيصح وصفه بالنكرة.
(2) . قال محمود: «منصوب بمضمر يفسره الظاهر» قال أحمد: كان قياس ما مهده النحاة: اختيار رفع كل لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة، وإنما كان كذلك، لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة، ومع النصب جملتان، فالرفع أخصر، مع أنه لا مقتضى النصب هاهنا من أحد الأصناف الستة، أعنى: الأمر، والنهى ... إلى آخرها، ولا أجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدونه من محال اختيارهم للنصب، فإذا تبين ذلك فاعلم أنه إنما عدل عن الرفع إجماعا لسر لطيف يعين اختيار النصب: وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي خلقناه صفة لشيء، ورفع قوله بقدر خيرا عن كل شيء المقيد بالصفة، ويحصل الكلام على تقدير: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما واضحا كفلق الصبح، لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب، لكن الزمخشري لما كان من قاعدة أصحابه تقسيم المخلوقات إلى مخلوق الله ومخلوق لغير الله، فيقولون: هذا لله بزعمهم، هذا لنا: فغرت هذه الآية فاه، وقام إجماع القراء حجة عليه، فأخذ يستروح إلى الشقاء، وينقل قراءتها بالرفع، فليراجع له ويعرض عليه إعراض القراء السبعة عن هذه الرواية، مع أنها هي الأولى في العربية، لولا ما ذكرناه، أيجوز في حكمه حينئذ الإجماع على خلاف الأولى لفظا ومعنى من غير معنى اقتضى ذلك أم لا؟ وهو المخير فيما يحكم به، فالى الله ترجع الأمور.

(4/441)


الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والأرض وضعها للأنام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12) فبأي آلاء ربكما تكذبان (13)

[سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55)
ونهر وأنهار، اكتفى باسم الجنس. وقيل: هو السعة والضياء من النهار. وقرئ بسكون الهاء. ونهر: جمع نهر، كأسد وأسد في مقعد صدق في مكان مرضى. وقرئ:
في مقاعد صدق عند مليك مقتدر مقربين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأى منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القمر في كل غب «1» بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» «2»

سورة الرحمن
مدنية وآياتها 78 [نزلت بعد الرعد] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4)
الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9)
والأرض وضعها للأنام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12) فبأي آلاء ربكما تكذبان (13)
__________
(1) . قوله «في كل غب بعثه الله» في الصحاح «الغب» : أن ترد الإبل الماء يوما وتدعه يوما. والغب في الزيارة: قال الحسن: في كل أسبوع. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

(4/442)


عدد الله عز وعلا آلاءه، فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد ما من ضروب آلائه «1» وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها:
وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحى الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه: ليعلم أنه إنما خلقه الدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح «2» المعرب عما في الضمير والرحمن مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ بحسبان بحساب معلوم وتقدير سوى تجريان في بروجهما ومنازلهما. وفي ذلك منافع للناس عظيمة: منها علم السنين والحساب والنجم والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول والشجر الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما لله فيما خلقا له، وأنهما لا يمتنعان، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده. فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ قلت: استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له. فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؟ قلت:
بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التهديد، ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكر أيادى المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب
__________
(1) . قال محمود: «عدد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قد ما في ضروب آلائه ... الخ» قال أحمد: نغير من هذا الكلام قوله: أن خلق الإنسان كان الغرض فيه. أى المراد منه: أن يحيط علما بالكتب والوحى، ويعوض بأن المراد بخلقه: أن يدعى إلى ذلك، لا أن يقع ذلك منه، فهذا هو المراد العام، ثم منهم من أراد الله منه أن يحيط علما بالدين فيسر له ذلك، ومنهم من أراد ضلالته وجهالته فبعد عنه ولم يوفق، والله الموفق الصواب.
(2) . قال محمود: «ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب ... الخ» قال أحمد: وإنما خص الجمل الأول بذكرها تبكيتا للإنسان لأجل التصاق معانيها به، ألا ترى أنه مذكور فيها نطقا وإضمارا وحذفا مدلولا عليه في الكلام، فهو منطوق به مظهرا في قوله خلق الإنسان ومضمرا في قوله علمه البيان ومدلولا على حذفه في قوله علم القرآن فانه المفعول الثاني، أما قوله الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان فليس للإنسان فيهما ذكر البتة، وجل المقصود من سياقهما التنبيه على عظمة الله تعالى.

(4/443)


بالعاطف. فإن قلت: أى تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ قلت: إن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر وقيل: علم القرآن جعله علامة وآية.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: الإنسان آدم. وعنه أيضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد النجم: نجوم السماء والسماء رفعها خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومصدر قضاياه، ومتنزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه ووضع الميزان وفي قراءة عبد الله: وخفض الميزان، وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض: حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم ألا تطغوا لئلا تطغوا. أو هي أن المفسرة. وقرأ عبد الله: لا تطغوا بغير أن، على إرادة القول وأقيموا الوزن بالقسط وقوموا وزنكم بالعدل ولا تخسروا الميزان ولا تنقصوه: أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان.
وكرر لفظ الميزان: تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. وقرئ.
والسماء. بالرفع. ولا تخسروا بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها. يقال: خسر الميزان يخسره ويخسره، وأما الفتح فعلى أن الأصل: ولا تخسروا في الميزان، فحذف الجار وأوصل الفعل. ووضعها خفضها مدحوة على الماء للأنام للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة. وعن الحسن: الإنس والجن، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فاكهة ضروب مما يتفكه به، والأكمام كل ما يكم أى يغطى من ليفة وسعفة وكفراة «1» وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه. وقيل الأكمام أوعية التمر: الواحد كم. بكسر الكاف. والعصف ورق الزرع، وقيل التبن والريحان الرزق وهو اللب: أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغرى وهو ثمر النخل، وما يتغذى به وهو الحب.
وقرئ: والريحان، بالكسر. ومعناه: والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام، والريحان الذي هو مطعم الناس. وبالضم على: وذو الريحان. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
__________
(1) . قوله «وسعقة وكفراة» الذي في الصحاح «الكفرى بلا تاء، وأنها وعاء الطلع اه، فلعل عبارة المفسر من ليفه وسعفه وكفراه باضافة كل إلى ضمير النخل، كما سيأتى في ثمره وجماره وجذوعه، والناسخ توهم أنها هاء التأنيث فتقطها فوق. (ع) [.....]

(4/444)


خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأي آلاء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأي آلاء ربكما تكذبان (18) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأي آلاء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأي آلاء ربكما تكذبان (23)

وقيل: معناه وفيها الريحان الذي يشم، وفي مصاحف أهل الشأم: والحب ذو العصف والريحان، أى: وخلق الحب والريحان: أو وأخص الحب والريحان. ويجوز أن يراد: وذا الريحان، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه، والخطاب في ربكما تكذبان للثقلين بدلالة الأنام عليهما. وقوله سنفرغ لكم أيه الثقلان.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16]
خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأي آلاء ربكما تكذبان (16)
الصلصال: الطين اليابس له صلصلة. والفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. فإن قلت: قد اختلف التنزيل في هذا، وذلك قوله عز وجل من حمإ مسنون، من طين لازب، «من تراب» . قلت: هو متفق في المعنى، ومفيد أنه خلقه من تراب: جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. والجان أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط.
فإن قلت: فما معنى قوله من نار؟ قلت: هو بيان لمارج، كأنه قيل: من صاف من نار.
أو مختلط من نار أو أراد من نار مخصوصة، كقوله تعالى فأنذرتكم نارا تلظى.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأي آلاء ربكما تكذبان (18)
قرئ: رب المشرقين ورب المغربين، بالجر بدلا من ربكما وأراد: مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 23]
مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأي آلاء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأي آلاء ربكما تكذبان (23)
مرج البحرين أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين بينهما برزخ حاجز من قدرة الله تعالى لا يبغيان لا يتجاوزان حديهما ولا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة. قرئ يخرج ويخرج من أخرج. وخرج. ويخرج:
أى الله عز وجل اللؤلؤ والمرجان بالنصب. ونخرج، بالنون. واللؤلؤ: الدر. والمرجان: هذا الخرز الأحمر وهو البسذ. وقيل: اللؤلؤ كبار الدر. والمرجان: صغاره. فإن قلت: لم قال

(4/445)


وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام (24) فبأي آلاء ربكما تكذبان (25) كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) فبأي آلاء ربكما تكذبان (28)

منهما وإنما يخرجان من الملح «1» ؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشىء الواحد: جاز أن يقال:
يخرجان منهما، كما يقال يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه.
وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره.
وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25]
وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام (24) فبأي آلاء ربكما تكذبان (25)
الجوار السفن. وقرئ: الجوار بحذف الياء ورفع الراء، ونحوه:
لها ثنايا أربع حسان ... وأربع فكلها ثمان «2»
والمنشآت المرفوعات الشرع «3» . وقرئ بكسر الشين: وهي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن. والأعلام: جمع علم، وهو الجبل الطويل.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28]
كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) فبأي آلاء ربكما تكذبان (28)
عليها على الأرض وجه ربك ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات «4» ، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربى كريم ينقذني من الهوان. وذو الجلال والإكرام صفة الوجه.
وقرأ عبد الله: ذى، على: صفة ربك. ومعناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم «5» .
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قال منهما وإنما يخرجان من الملح ... الخ» قال أحمد: هذا القول الثاني مردود بالمشاهدة، والصواب هو الأول، ومثله لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وإنما أريد إحدى القريتين، هذا هو الصحيح الظاهر، وكما تقول: فلان من أهل ديار مصر، وإنما بلده محلة واحدة منها.
(2) . الثنايا: مقدم الأسنان، وظاهر البيت أنها أربع من فوق وأربع من تحت، فكل ثناياها ثمان.
وروى: فثغرها ثمان، وهذه الرواية تناسب ما اشتهر من أن الثنايا اثنان من فوق واثنان من تحت فهي أربع، ويليها مثلها رباعيات، ويليها مثلها أنياب، ويليها مثلها ضواحك، وما بقي أضراس. ثم نواجذ. وعامل المنقوص معاملة الصحيح، فرفع ثمان خبرا للمبتدإ، وصارت الياء المحذوفة نسيا منسيا.
(3) . قوله «والمنشآت المرفوعات الشرع» في الصحاح «الشراع» : شراع السفينة اه، فالشرع جمعه، ككتاب وكتب. (ع)
(4) . قال محمود: «الوجه يعبر به عن الذات ومساكين مكة يقولون ... الخ» قال أحمد: المعتزلة ينكرون الصفات الالهية التي دل عليها العقل، فكيف بالصفات السمعية، على أن من الأشعرية من حمل الوجه واليدين والعينين على نحو ما ذكر، ولم ير بيانها صفات سمعية.
(5) . قوله «عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم» إجلاله عن أفعال الخلق مبنى على مذهب المعتزلة: أنه لا يخلق أفعال العباد. ومذهب أهل السنة: أنه هو الخالق لها. (ع)

(4/446)


يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) فبأي آلاء ربكما تكذبان (30)

أو الذي يقال له: ما أجلك وأكرمك. أو من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده، وهذه الصفة من عظيم صفات الله، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألظوا «1» بياذا الجلال والإكرام» «2» وعنه عليه الصلاة والسلام: أنه مر برجل وهو يصلى ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: «قد استجيب «3» لك» . فإن قلت: ما النعمة في ذلك؟ قلت: أعظم النعمة وهو مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30]
يسئله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) فبأي آلاء ربكما تكذبان (30)
كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم كل يوم هو في شأن أى كل وقت وحين يحدث أمورا ويجدد أحوالا، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين» «4» وعن ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة عمر الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهى والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع. والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضى يوم السبت شيئا. وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبا يفكر فيها، فقال غلام له أسود:
يا مولاي، أخبرنى ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي، فأخبره فقال له: أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال: أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي
__________
(1) . قوله «ألظوا بياذا الجلال» أى: الزموا ذلك. اه صحاح. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي من رواية يزيد الرقاشي. عن أنس ويزيد ضعيف، ومن رواية مؤمل عن حماد بن حميد عن أنس مرفوعا، وقال غيره مخفوضا وإنما هو عن حماد عن حميد عن الحسن مرسلا وهو أصح، وأخرجه من رواية مؤمل إسحاق وابن أبى شيبة، وبالثاني أبو يعلى والبزار قال ابن أبى حاتم عن أبيه: أخطأ فيه مؤمل، والصحيح ما رواه أبو سلمة عن حماد عن ثابت. وحميد عن الحسن مرسلا ورواه ابن مردويه من رواية روح بن عبادة عن حماد عن حميد عن أنس موصولا أيضا، وهذه متابعة قوية لمؤمل، وفي الباب عن ربيعة بن عامر بن نجاد أخرجه الحاكم، وفيه رشيد بن سعد، وهو ضعيف وعن ابن عمر أخرجه ابن مردويه وإسناده ضعيف
(3) . أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وأحمد والبزار والطبراني من طريق أبى الدرداء عن اللجلاج عن معاذ بن جبل فذكره.
(4) . أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني والبزار وأبو يعلى من حديث أبى الدرداء، وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار بإسناد ضعيف. وعن عبد الله بن حبيب الأزدى. أخرجه البزار والطبراني وابن أبى حاتم قال البزار: لا أعلم أسند عبد الله بن حبيب إلا هذا الحديث.

(4/447)


سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32) يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33) فبأي آلاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي آلاء ربكما تكذبان (36)

من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفى سقيما ويسقم سليما، ويبتلى معافا ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ويفقر غنيا ويغنى فقيرا، فقال الأمير: أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين ابن الفضل وقال له: أشكلت على ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى فأصبح من النادمين وقد صح أن الندم توبة وقوله تعالى كل يوم هو في شأن وقد صح أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فما بال الأضعاف؟
فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة. ويكون توبة في هذه الأمة، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وأما قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا، ولى أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا، وأما قوله كل يوم هو في شأن فإنها شئون يبديها لا شئون يبتدئها: فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه،

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32]
سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32)
سنفرغ لكم مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد: سأتحرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد: ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله كل يوم هو في شأن فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل، وقرئ: سيفرغ لكم، أى: الله تعالى، وسأفرغ لكم، وسنغفر بالنون مفتوحا ومكسورا وفتح الراء، وسيفرغ بالياء مفتوحا ومضموما مع فتح الراء، وفي قراءة أبى، سنفرغ إليكم، بمعنى: سنقصد إليكم، والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض،

[سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 36]
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33) فبأي آلاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي آلاء ربكما تكذبان (36)
يا معشر الجن والإنس كالترجمة لقوله: أيها الثقلان إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضى، فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على

(4/448)


فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان (39) فبأي آلاء ربكما تكذبان (40)

النفوذ إلا بسلطان يعنى بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك، ونحوه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وروى: أن الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به. قرئ: شواظ ونحاس، كلاهما بالضم والكسر، والشواظ: اللهب الخالص.
والنحاس: الدخان، وأنشد:
تضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا «1»
وقيل: الصفر المذاب يصب على رءوسهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر. وقرئ: ونحاس، مرفوعا عطفا على شواظ. ومجرورا عطفا على نار. وقرئ: ونحس: جمع نحاس، وهو الدخان، نحو لحاف ولحف. وقرئ: ونحس أى: ونقتل بالعذاب. وقرئ: نرسل عليكما شواظا من نار ونحاسا فلا تنتصران فلا تمتنعان.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 40]
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان (39) فبأي آلاء ربكما تكذبان (40)
وردة حمراء كالدهان كدهن الزيت، كما قال: كالمهل، وهو دردى الزيت، وهو جمع دهن. أو اسم ما يدهن به كالحزام والإدام. قال:
كأنهما مزادتا متعجل ... فريان لما تدهنا بدهان «2»
__________
(1) . النابغة الجعدي. والسليط: الشيرج، ولم يجعل: جملة حالية من السراج. والنحاس: الدخان. وشرط مجيء الحال من المضاف إليه موجود، لأن الضوء مثل جزئه، ولعله يصف وجه محبوبته التي قال فيها:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... البيت: شبهه بالسراج في الاضاءة، بقيد أن لا يكون فيه دخان، لأن ضوء وجهها كذلك.
فهو من التشهيه المقيد.
(2) . لامرئ القيس. والمزادة: قربة صغيرة يتزود فيها الماء للسفر. والفرى- وزن فعيل بمعنى مفعول، من فريت الجلد إذا شققته. ولما: حرف جزم ونفى كلم، إلا أنه يختص بتوقع منفية. ويروى: لما تلقا، أى: تدهنا، من سلقت الجلد إذا دهنته. والدهان: ما يدهن به، كالإدام ما يؤتدم به: شبه عينيه من كثرة البكاء بقربتى رجل متعجل، وهو من يأتى أهله بالاعجالة: وهي ما يعجله الراعي إلى أهله من اللبن قبل وقت الحلب.
ويمكن أن المعنى أنه مستعجل لم يصبر حتى يدبغهما ويدهنهما، فريان: مشقوقتان، أى على حالة سلخهما لم يدهنا بدهن قط. وقيل: معنى التعجل أنه لم يحكم ربطهما. فهما يذرفان ماء من فميهما لا من ثقويهما.

(4/449)


يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام (41) فبأي آلاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلاء ربكما تكذبان (45)

وقيل: الدهان الأديم الأحمر. وقرأ عمرو بن عبيد. وردة بالرفع، بمعنى: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد، كقوله:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوى الغنائم أو يموت كريم «1»
إنس بعض من الإنس ولا جان أريد به: ولا جن، أى: ولا بعض من الجن، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم، ويراد ولده. وإنما وحد ضمير الإنس في قوله عن ذنبه لكونه في معنى البعض. والمعنى: لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون. فإن قلت: هذا خلاف قوله تعالى فو ربك لنسئلنهم أجمعين وقوله وقفوهم إنهم مسؤلون. قلت: ذلك يوم طويل وفيه مواطن، فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر: قال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، ولكن يسأل سؤال توبيخ. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: ولا جأن، فرارا من التقاء الساكنين، وإن كان على حده.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 45]
يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام (41) فبأي آلاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلاء ربكما تكذبان (45)
__________
(1) .
ومعى أسود من حنيفة في الوغى ... للبيض فوق رؤسهم توسيم
قوم إذا لبسوا الحديد كأنهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم
فلئن بقيت لأرجعن بغزوة ... نحو الغنائم أو يموت كريم
لقتادة بن مسلم الحنفي. والدلاص: اللينة الملساء. واستعار الأسود الشجعان على طريق التصريح، ثم قال: إنهم موسومون في الحرب بالمغافر حال كونها فوق رؤسهم. والمراد بالحديد: الدروع والمغافر والحلق الدروع وكانت بيضاء. فشبههم فيها بالنجوم للمعانها. أو كانت سوداء، فشبه وجوههم فيها بالنجوم في السماء، فالجامع مركب حسى، والفاء في قوله «فلئن بقيت» تدل على أن ما بعدها مسبب عما قبلها من توفر رجاله وشجاعتهم ومنعتهم، أى: والله لئن طال عمرى لأرجعن إلى الأعداء بغزوة أخرى تجمع الغنائم ونحوها، فنحو بالنون: فعل مضارع مجزوم في جواب شرط مقدر، أى: إن رجعنا إليهم بغزوة نجمع الغنائم منهم. وأما جواب إن المذكورة فمحذوف، دل عليه جواب القسم. وروى: لأرحلن بغزوة، أى: لأسافرن بغزوة، تحوى بالتاء وزيادة الياء، أى تجمع الغنائم وتحوزها. وإسناد العمل للغزوة، لأنها سبب الجمع والحيازة. ويجوز أن معناها الكتيبة، مبالغة في غزوها.
وروى نحوى بالنون مع الياء، أى: نجمع نحن ونحوز في تلك الغزوة، فالجملة صفة لغزوة. ويجوز أنه استئناف:
جواب لسؤال مصدر. وروى: نحو الغنائم بالنصب على الظرفية، أى جهة الغنائم. وأو بمعنى إلا، أى إلا أن يموت كريم يعنى نفسه، فهو من باب التجريد، كأنه انتزع من نفسه شخصا مثله في الشجاعة فأخبر عنه، والكرم هنا الشجاعة، لأنه في كل باب بحسبه، فليس خاصا بمقابل البخل. ومعنى الاستثناء راجع إلى معنى الجمع والحيازة، ولا يلزم من اشتراط البقاء في الذهاب اشتراط فيما يوجد عقبه فلا تكرار.

(4/450)


ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأي آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي آلاء ربكما تكذبان (55)

فيؤخذ بالنواصي والأقدام عن الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة: تارة تأخذ بالنواصي، وتارة تأخذ بالأقدام حميم آن ماء حار قد انتهى حره ونضجه، أى: يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم. وقيل:
إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم. وقيل: إن واديا من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا. وقرئ: يطوفون من التطويف. ويطوفون، أى: يتطوفون ويطافون. وفي قراءة عبد الله: هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينها. ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه برحمته وفضله، وما في الإنذار به من اللطف.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 55]
ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأي آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي آلاء ربكما تكذبان (55)
مقام ربه موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ونحوه لمن خاف مقامي ويجوز أن يراد بمقام ربه: أن الله قائم عليه، أى حافظ مهيمن من قوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته. وقيل: هو مقحم كما تقول: أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك. وأنشد:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين «1»
__________
(1) . قوله «كالرجل اللعين» : هو شيء ينصب وسط الزرع لطرد الوحوش، كذا في الصحاح. اه عليان.
قلت: وتقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة 205 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/451)


فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56) فبأي آلاء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (60) فبأي آلاء ربكما تكذبان (61)

يريد: ونفيت عنه الذئب. فإن قلت: لم قال جنتان؟ قلت: الخطاب للثقلين، فكأنه قيل:
لكل خائفين منكما جنتان: جنة للخائف الإنسى، وجنة للخائف الجنى. ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأن التكليف دائر عليهما وأن يقال: جنة يثاب بها، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل، كقوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة خص الأفنان بالذكر: وهي الغصنة «1» التي تتشعب من فروع الشجرة، لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الثمار. وقيل: الأفنان ألوان النعم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. قال:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر «2»
عينان تجريان حيث شاءوا في الأعالى والأسافل. وقيل: تجريان من جبل من مسك.
وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال: إحداهما التسنيم، والأخرى: السلسبيل زوجان صنفان: قيل: صنف معروف وصنف غريب متكئين نصب على المدح الخائفين. أو حال منهم، لأن من خاف في معنى الجمع بطائنها من إستبرق من ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من الإستبرق، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس. وقيل: من نور دان قريب يناله القائم والقاعد والنائم. وقرئ: وجنى، بكسر الجيم.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 56 الى 61]
فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56) فبأي آلاء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (60)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (61)
__________
(1) . قوله «وهي الغصنة» جمع غصن، كقرطة جمع قرط. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(2) . الأفنان: جمع فنن، وهو الغصن كثير الورق، فيكون شبه اللذات والصبا: بروضة أو شجرة ذات أفنان على طريق المكنية. وإثبات الأفنان: تخييل. ويجوز أنه جمع فن، أى: نوع وصف على غير قياس، كصحب وأصحاب. واللذاذات: جمع لذاذة، وهي اللذة. ويروى: اللذاذة بالافراد. والصبا: الشباب أو هوى النفس.
ومن بمعنى بعض على طريقة الزمخشري، أى: وبعض الأفنان لهوت، أى: تمتعت به. والجمهور يجعلون نحو هذا مما حذف فيه الموصوف، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، لتقدم مجرور يدل عليه، فمن كل: خبر مقدم، ولهوت:
صفة لمحذوف مبتدأ مؤخر، أى: صنف لهوت به، لكن المعنى على الاخبار باللهو، فلا بد من المصير إلى رأى الزمخشري. أو جعل الجار والمجرور صفة للمبتدإ، ولهوت خبرا وإن لم يتقدم المجرور على الصفة. ويجوز أن «من كل» معمول لمحذوف يفسره المذكور، أى: تمنعت من كل الأفنان لهوت به، والواو للحال، أى: والحال أن العيش أخضر، أى رطب لين ناضر حسن، نشبه العش بروض يافع. والخضرة تخييل.

(4/452)


ومن دونهما جنتان (62) فبأي آلاء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأي آلاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان نضاختان (66) فبأي آلاء ربكما تكذبان (67) فيهما فاكهة ونخل ورمان (68) فبأي آلاء ربكما تكذبان (69) فيهن خيرات حسان (70) فبأي آلاء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلاء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأي آلاء ربكما تكذبان (75) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان (76) فبأي آلاء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام (78)

فيهن في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى. أو في الجنتين، لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس قاصرات الطرف نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن: لا ينظرن إلى غيرهم. لم يطمث الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الحن «1» وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس، وقرئ: لم يطمثهن، بضم الميم. قيل: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر: أنصع بياضا. قيل: إن الحوراء تلبس سبعين حلة، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء هل جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب. وعن محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر. أى: مرسلة، يعنى: أن كل من أحسن أحسن إليه، وكل من أساء أسيء إليه.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 69]
ومن دونهما جنتان (62) فبأي آلاء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأي آلاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان نضاختان (66)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (67) فيهما فاكهة ونخل ورمان (68) فبأي آلاء ربكما تكذبان (69)
ومن دونهما ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين جنتان لمن دونهم من أصحاب اليمين مدهامتان قد ادهامتا من شدة الخضرةضاختان
فوارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح، لأن النضح غير معجمة مثل الرش، فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت: اختصاصا لهما وبيانا لفضلهما، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران، كقوله تعالى وجبريل وميكال أو لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه. ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا: لم يحنث، وخالفه صاحباه.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 78]
فيهن خيرات حسان (70) فبأي آلاء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلاء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74)
فبأي آلاء ربكما تكذبان (75) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان (76) فبأي آلاء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام (78)
__________
(1) . قال محمود: «لم يطمث الانسية إنسى ولا الجنية جنى ... الخ» قال أحمد: بشير إلى الرد على من زعم أن الجن المؤمنين لا ثواب لهم وإنما جزاؤهم ترك العقوبة وجعلهم ترابا

(4/453)


خيرات خيرات فخففت، كقوله عليه السلام «هينون لينون» «1» وأما «خير» الذي هو بمعنى أخير، فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات. وقرئ: خيرات على الأصل. والمعنى:
فاضلات الأخلاق حسان الخلق مقصورات قصرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة. وقيل: إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة قبلهم قبل أصحاب الجنتين، دل عليهم ذكر الجنتين متكئين نصب على الاختصاص. والرفرف: ضرب من البسط. وقيل البسط وقيل الوسائد، وقيل كل ثوب عريض رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط:
رفارف. ورفرف السحاب: هيدبه «2» والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب. وقرئ: رفارف خضر بضمتين. وعباقرى، كمدائى: نسبة إلى عباقرى في اسم البلد: وروى ابو حاتم: عباقرى، بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته. فإن قلت: كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: ومن دونهما؟
قلت: مدهامتان، دون ذواتا أفنان. ونضاختان دون: تجريان. وفاكهة دون: كل فاكهة.
وكذلك صفة الحور والمتكأ. وقرئ: ذو الجلال صفة، للاسم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه «3» »
__________
(1) . قوله «هينون لينون» لعله ورد في صفة المؤمنين ومثله قال الشاعر:
هينون لينون أيسار ذوو كرم (ع)
(2) . قوله «ورفرف السحاب هيديه» في الصحاح: هيدب السحاب: ما تهدب منه، إذا أراد الورق أراد كأنه خيوط. (ع)
(3) . أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

(4/454)


إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الأرض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلاثة (7)

سورة الواقعة
مكية [إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان] وآياتها 96 وقيل 97 آية [نزلت بعد طه] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 7]
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الأرض رجا (4)
وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلاثة (7)
وقعت الواقعة كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بد من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله.
يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أى: نزل ما كنت أترقب نزوله. فإن قلت: بم انتصب إذا؟
قلت: بليس. كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل. أو بمحذوف، يعنى: إذا وقعت كان كيت وكيت: أو بإضمار اذكر كاذبة نفس كاذبة، أى: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، كقوله تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة واللام مثلها في قوله تعالى يا ليتني قدمت لحياتي أو: ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها، يقلن لها: لن تكوني. أو هي من قولهم: كذبت فلانا نفسه في الخطب، بعظيم، إذا شجعته على مباشرته وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه فتعرض له ولا تبال به، على معنى: أنها وقعة لا تطاق شدة وفظاعة. وأن لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى كالفراش المبثوث والفراش مثل في الضعف. وقيل كاذبة مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب، من قولك: حمل على قرنه فما كذب، أى: فما جبن وما ثبط. وحقيقته:

(4/455)


فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة (9)

فما كذب نفسه فيما حدثته به. من إطاقته له وإقدامه عليه. قال زهير:
............... .. إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا «1»
أى: إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد خافضة رافعة على: هي خافضة رافعة، ترفع أقواما وتضع آخرين: إما وصفا لها بالشدة، لأن الواقعات العظام كذلك:
يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس، وإما لأن الأشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يرفعون إلى الدرجات، وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها، فتخفض بعضا وترفع بعضا:
حيث تسقط السماء كسفا وتنتثر الكواكب وتنكدر وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب، وقرئ: خافضة رافعة بالنصب على الحال رجت حركت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء وبست الجبال وفتت «2» حتى تعود كالسويق، أو سيقت من بس العنم إذا ساقها، كقوله وسيرت الجبال، منبثا متفرقا. وقرئ بالتاء أى:
منقطعا. وقرئ: رجت وبست، أى: ارتجت وذهبت. وفي كلام بنت الخس «3» : عينها هاج، وصلاها راج. وهي تمشى وتفاج. فإن قلت: بم انتصب إذا رجت؟ قلت: هو بدل من إذا وقعت. ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة. أى: تخفض وترفع وقت رج الأرض، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض أزواجا أصنافا، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 9]
فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9)
فأصحاب الميمنة الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم وأصحاب المشئمة الذين يؤتونها بشمائلهم. أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من قولك: فلان منى باليمين، فلان منى بالشمال: إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل،
__________
(1) .
ليث يعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
لزهير يمدح شجاعا، فاستعار له اسم الأسد على طريق التصريحية، والاصطياد ترشيح. وعثر: اسم موضع، أى شجاع في عثر يقتل الرجال إذا كذب أى جبن وضعف الفارس الشديد عن أقرانه في الحرب، صدق هو ونفذ عزمه وقتل قرنه، وفي البيت الطباق بين الصدق والكذب، وهو من بديع الكلام.
(2) . قوله «وفتت حتى تعود كالسويق» عبارة النسفي: وفتتت. (ع)
(3) . قوله «وفي كلام بنت الخس» في الصحاح: الخس بالفتح: بقلة. والخس بالضم: اسم رجل. ومنه:
هند بنت الخس. وعين هاجة: أى غائرة. والصلا: ما عن يمين الذنب ويساره. وفججت ما بين رجلي أفجهما: إذا فتحت. يقال: هو يمشى مفاجا. (ع)

(4/456)


والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقابلين (16) يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلاما سلاما (26)

ولتفاؤلهم بالسانح «1» وتطيرهم من البارح، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن، وسموا الشمائل الشؤمى. وقيل: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة: أصحاب اليمن والشؤم، لأن السعداء هيامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 26]
والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين (14)
على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقابلين (16) يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19)
وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24)
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلاما سلاما (26)
والسابقون المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة، ثم تراجع بتوبة، فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم يزل عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب الشمال ما أصحاب الميمنة. ما أصحاب المشأمة؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة «2» .
__________
(1) . قوله «لتفائلهم بالسانح» هو ما مر من يسارك إلى يمينك من ظبى أو طائر. والبارح: عكسه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «ما» تعجيب من حال الفريقين ... الخ» قال أحمد: اختار ما هو المختار، لأنه أقعد بالفصاحة، لكن بقي التنبيه على المخالفة بين المذكورين في السابقين وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين، فنقول: التعظيم المؤدى بقوله السابقون أبلغ من قرينه، وذلك أن مؤدى هذا: أن أمر السابقين وعظمة شأنه ما لا يكاد يخفى، وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة فانه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله أولئك المقربون فجمع بين اسم الاشارة المشار به إلى معروف، وبين الاخبار عنه بقوله المقربون معرفا بالألف واللام العهدية، وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فانه مصدر بقوله في سدر مخضود.

(4/457)


والمعنى: أى شيء هم؟ والسابقون السابقون، يريد: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقوله وعبد الله عبد الله. وقول أبى النجم: وشعري شعري «1» ، كأنه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته، وقد جعل السابقون تأكيدا. وأولئك المقربون:
خبرا وليس بذاك. ووقف بعضهم على: والسابقون، وابتدأ السابقون أولئك المقربون، والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة: ما أصحاب الميمنة، وما أصحاب المشأمة المقربون في جنات النعيم الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم.
وقرئ: في جنة النعيم. والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. قال:
وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بجيش كتيار من السيل مزبد «2»
وقوله عز وجل وقليل من الآخرين كفى به دليلا على الكثرة، وهي من الثل وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم. والمعنى: أن السابقين من الأولين كثير، وهم الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل من الأولين من متقدمى هذه الأمة، ومن الآخرين من متأخريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلثان جميعا من أمتى» «3» . فإن قلت: كيف قال: وقليل من الآخرين، ثم قال: وثلة من الآخرين؟
__________
(1) .
أنا أبو النجم وشعري شعري ... لله درى ما أجن صدري
تنام عينى وفؤادي يسرى ... مع العفاريت بأرض قفر
لأبى النجم العجلى. يريد: أنا المعروف بالبلاغة بين الناس كالعلم المشهور. وشعري: هو البليغ المعروف بأنه شعر أبى النجم، لأنه إذا اتحد المبتدأ والخبر أو الشرط والحزاء: دل الكلام على المبالغة في التعظيم أو في التحقير. وما هنا من الأول بدليل السياق. وفيه ادعاء أن نهاية العظمة في الرجل المسمى بأبى النجم، ونهاية البلاغة في الشعر المنسوب إليه. والدر: اللبن، لكن المراد به العمل والصنع، أى: لله صنيعي، يعنى: أنه عظيم. وجن الليل: أظلم.
والنبت: طال والتف. والذباب: كثرت أصواته. وجنه الليل: ستره، وأجنه الصدر: أكنه. وما تعجبية.
وأجن: فعل تعجب، أى: شيء عظيم جعل صدري محيطا بالمعاني الغريبة، ويحتمل أن «ما» يدل من درى.
وأجن: فعل ماض صلة أو صفة له، ومؤادى: قلبي أو عقلى. يسرى: يسير ليلا. أى: يبيت فكرى كأنه ذاهب مع العفاريت بأرض فضاء لا نبات بها، لا بعاده في المعاني. والبيت الثاني بيان للأول.
(2) .
وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بحيش كتيار من السيل مزيد
يقول: وجاءت اليهم جماعة من الناس منسوبة إلى خندف امرأة إلياس بن مضر. وقوله «يجيش» من باب التجريد، كأنه انتزع من الثلة جيشا غيرها مبالغة في الكثرة. ويحتمل أن الباء بمعنى مع، أو في، لان الجيش أوسع من الثلة، وهو من جاش إذا تحرك واضطرب، كأنه يغلى، والتيار: الماء الشديد الجري، ومن بيانية أو تبعيضية. والمزيد: المرتفع زبده على وجهه لكثرته وفوراته.
(3) . أخرجه الطبري وابن عدى من رواية أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في هذه الآية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هما جميعا من أمتى» وأبان هو ابن أبى عياش متروك. ورواه إسحاق وسنده إلى الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية زيد بن صهبان عن أبى بكرة مرفوعا وموقوفا. والموقوف أولى بالصواب. وعلى ضعيف.

(4/458)


قلت: هذا في السابقين وذلك في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا.
فإن قلت: فقد روى أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين. قلت: هذا لا يصح لأمرين، أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا، وكذلك الثانية في أصحاب «1» اليمين.
ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم، على السابقين ووعدهم، والثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز. وعن الحسن رضى الله عنه: سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة. وثلة: خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلة موضونة مرمولة بالذهب، «2» مشبكة بالدر والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع.
قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة «3»
وقيل: متواصلة، أدنى بعضها من بعض. متكئين حال من الضمير في على، وهو العامل فيها، أى: استقروا عليها متكئين متقابلين لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب مخلدون مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة، «4» لا يتحولون عنه. وقيل: مقرطون، والخلدة: القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. روى عن على رضى الله عنه وعن الحسن.
وفي الحديث: «أولاد الكفار خدام أهل الجنة» «5» . الأكواب: أوان بلا عرى وخراطيم،
__________
(1) . قوله «وكذلك الثانية في أصحاب اليمين» أى ظاهرة الورود. (ع) [.....]
(2) . قوله «مرمولة بالذهب» في الصحاح: رملت الحصير، أى: سففته. وفيه أيضا: سففت الخوص: أى نسجته. (ع)
(3) .
ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحي عيرا فعيرا
للأعشى، يصف الدروع، وجعلها من نسج سيدنا داود مبالغة في حسن صنعتها، لأنه نسجها بأمر من الله وتعليمه له. موضونة: أى مدخل بعضها في بعض، فهي محكمة النسج لتساق، أى: أصحابها مع الحي. والعير بالفتح:
السيد، أى سيدا بعد سيد متربين، ويطلق العير على طائر يطير فوق القافلة السائرة، وتبعد إرادته هنا.
(4) . قوله «وحد الوصافة» هي بلوغ الغلام حد الخدمة. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه البزار والطبراني في الأوسط من رواية عباد بن منصور عن أبى رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب قال «سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة» ورواه البزار من براية على بن زيد بن جدعان والطيالسي والطبراني وأبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بهذا وأتم منه قلت: قد يعارضه حديث سمرة في صحيح البخاري. فقيه أنه رأى أولاد الناس تحت شجرة يكفلهم إبراهيم عليه السلام قال فقلنا: وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» أخرجه بهذا اللفظ. ويمكن الجمع بينهما بأن لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكونوا في البرزخ كذلك، ثم بعد الاستقرار يستقرون في الجنة خدما لأهلها.

(4/459)


وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31) وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنا أنشأناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لأصحاب اليمين (38) ثلة من الأولين (39) وثلة من الآخرين (40)

والأباريق، ذوات الخراطيم لا يصدعون عنها أى بسببها، وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها. أو لا يفرقون عنها. وقرأ مجاهد: لا يصدعون، بمعنى: لا يتصدعون لا يتفرقون، كقوله يومئذ يصدعون ويصدعون، أى: لا يصدع بعضهم بعضا، لا يفرقونهم يتخيرون يأخذون خيره وأفضله يشتهون يتمنون. وقرئ: ولحوم طير. قرئ: وحور عين، بالرفع على: وفيها حور عين، كبيت الكتاب:
إلا رواكد جمرهن هباء ... ومشجج.......... «1» ..
أو للعطف على ولدان، وبالجر: عطفا على جنات النعيم، كأنه قال: هم في جنات النعيم، وفاكهة ولحم وحور. أو على أكواب، لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب، وبالنصب على: ويؤتون حورا جزاء مفعول له، أى: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم سلاما سلاما إما بدل من قيلا بدليل قوله لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما وإما مفعول به لقيلا، بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما. والمعنى:
أنهم يفشون السلام بينهم، فيسلمون سلاما بعد سلام. وقرئ سلام سلام، على الحكاية.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31)
وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنا أنشأناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36)
عربا أترابا (37) لأصحاب اليمين (38) ثلة من الأولين (39) وثلة من الآخرين (40)
__________
(1) .
بادت وغير آيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج إما سواء قذاله ... فبدا وغير ساره المغراء
الشماخ، وقيل: لذي الرمة، وهي من أبيات الكتاب. وباد يبيد: هلك يهلك. والآي: اسم جمع آية وهي علامة والرواكد: الأثافى. وهي الأحجار التي توضع عليها للقدر. والهباء: الرماد المختلط بالتراب. والمشجج: صفة جرت مجرى الاسم لوتد الخباء الذي تشجح رأسه من الدق. فبرز حول رأسه أطراف تشبه القذال، وهو شعر جوانب الرأس. وسواء الشيء. وسطه. ويروى: غيب، بدل: غير. والسار بالهمز وتركه: البقية. والمغراء:
أرض يخالط ترابها حجارة وحصى، يقول هلكت لك الديار وبليت آثارها، ولم يبق إلا محل النار وبقية وتد الخباء. ويروى: رواكد بالنصب، فعطف المرفوع على المنصوب اعتمادا على المعنى.

(4/460)


السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك له، كأنما خضد شوكه «1» . وعن مجاهد:
الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن إذا ثناء وهو رطب. والطلح: شجر الموز. وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة. وعن السدى: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن على رضى الله عنه أنه قرأ: وطلع، وما شأن الطلح، «2» وقرأ «3» قوله لها طلع نضيد فقيل له: أو نحولها؟ فقال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول. وعن ابن عباس نحوه. والمنضود: الذي نضد «4» بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة وظل ممدود ممتد منبسط لا يتقلص، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس مسكوب يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا لا يتعنون فيه. وقيل: دائم الجرية لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجرى على الأرض في غير أخدود لا مقطوعة هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا ولا ممنوعة لا تمنع عن متناولها بوجه، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقرئ: وفاكهة كثيرة، بالرفع على: وهناك فاكهة، كقوله: وحور عين وفرش جمع فراش. وقرئ: وفرش، بالتخفيف مرفوعة نضدت حتى ارتفعت. أو مرفوعة على الأسرة. وقيل: هي النساء، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك. قال الله تعالى هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤن، ويدل عليه قوله تعالى إنا أنشأناهن إنشاء وعلى التفسير الأول أضمر لهن، لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن أنشأناهن إنشاء أى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد. اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» . أن أم سلمة رضى الله عنها سألته عن قوله الله تعالى. إنا أنشأناهن فقال: يا أم سلمة
__________
(1) . قوله «كأنما خضد شوكه» في الصحاح «خضدت الشجر» قطعت شوكه، وخضدت العود، أى: ثنيته من غير كسر. (ع)
(2) . قوله «وما شأن الطلح» لعله: وقال ما شأن الطلح. (ع)
(3) . قوله «وقرأ» أى: استشهادا على قراءته. (ع)
(4) . قوله «والمنضود الذي نضد» في الصحاح: أنه المرصوص بعضه فوق بعض. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي بتمامه من طريق الحسن بن علوية القطان عن إسماعيل بن عيسى عن المسيب بن شريك فذكره ولم يرفع إلا قصة عائشة. ومن طريق غنجار حدثنا إسماعيل بن أبى الباد عن يونس عن الحسن عن أم سلمة مرفوعا دون قصة عائشة. وروى الطبري والطبراني وابن مردويه من طريق عمر بن هاشم البيروتى عن سليمان بن أبى كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله، أخبرنى عن قوله تعالى عربا أترابا فذكره. وفيه «فجعلهن عذارى عربا متعشقات متحببات إلى أزواجهن، أترابا على ميلاد واحد» وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الزقاش طرفا منه واستضعفه.

(4/461)


وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (47) أوآباؤنا الأولون (48) قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50) ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56)

هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاء رمصاء «1» ، جعلهن الله بعد الكبر» أترابا على ميلاد واحد في الاستواء «2» ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا، فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وأوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك وجع. وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يدخلني الجنة، لقال: إن الجنة لا تدخلها العجائز، فولت وهي تبكى، فقال عليه الصلاة السلام: «أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز» «3» وقرأ الآية عربا وقرئ: عربا، بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل أترابا مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين، وأزواجهن أيضا كذلك. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» «4» واللام في لأصحاب اليمين من صلة أنشأنا وجعلنا.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45)
وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (47) أوآباؤنا الأولون (48) قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50)
ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالؤن منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55)
هذا نزلهم يوم الدين (56)
__________
(1) . قوله «عجائز شمطاء رمصا» في الصحاح «الشمط» : بياض شعر الرأس يخالط سواده، والرجل أشمط، والمرأة شمطاء. وفيه: الرمص: وسخ يجتمع في الموق، وقد رمصت عينه، والرجل أرمص اه، أى: والمرأة رمصاء، والجمع شمط ورمص. (ع)
(2) . قوله «ميلاد واحد في الاستواء» لعله متعلق بمعنى التشبيه، أى: كأنهن على ميلاد واحد في استواء الخلق. (ع)
(3) . أخرجه الترمذي في الشمائل من رواية مبارك بن فضالة عن الحسن بهذا مرسلا وسياقه أتم. وله طرق أخرى. منها في البعث البيهقي من رواية ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عائشة. ومنها في الأوسط من رواية مسعدة ابن اليسع عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. ورواه خارجة بن مصعب عن سعيد عن قتادة عن أنس. وكلها ضعيفة.
(4) . أخرجه أحمد وابن أبى شبية وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة بهذا. وزاد على خلق آدم ستون ذراعا عرض سبعة أذرع. وذكر ابن أبى حاتم في العلل أن أباه قال: رواه أبو سلمة عن حماد مرسلا ولم يذكر فيه أبا هريرة وكذا أخرجه ابن سعد عن يحيى بن السكن عن حماد. وعلى بن زيد ضعيف. وفي الباب عن معاذ بن جبل. أخرجه الترمذي وقال: غريب.
وبعض أصحاب قتادة أرسلوه. وأخرجه البيهقي موصولا، ثم أخرجه موقوفا على قتادة. [.....]

(4/462)


في سموم في حر نار ينفذ في المسام وحميم وماء حار متناه في الحرارة وظل من يحموم من دخان أسود بهيم لا بارد ولا كريم نفى لصفتى الظل عنه، يريد: أنه ظل، ولكن لا كسائر الظلال: سماه ظلا، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوى إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه. والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات. وفيه تهكم بأصحاب الشأمة، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. وقرئ: لا بارد ولا كريم بالرفع، أى: لا هو كذلك والحنث الذنب العظيم. ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث، أى: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم.
ومنه: حنث في يمينه، خلاف: بر فيها. ويقال: تحنث إذا تأثم وتحرج أوآباؤنا دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف. فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله تعالى ما أشركنا ولا آباؤنا لفصل لا المؤكدة النفي. وقرئ: أو آباؤنا. وقرئ: لمجمعون «1» إلى ميقات يوم معلوم إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى من، كخاتم فضة. والميقات:
ما وقت به الشيء، أى: حد. ومنه مواقيت الإحرام: وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما أيها الضالون عن الهدى المكذبون بالبعث، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم من شجر من زقوم من الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله منها وعليه ومن قرأ من شجر من زقوم فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم، لأنه تفسيرها وهي في معناه شرب الهيم قرئ بالحركات الثلاث، فالفتح والضم: مصدران.
وعن جعفر الصادق رضى الله عنه، أيام أكل وشرب، بفتح الشين. وأما المكسور فبمعنى المشروب، أى: ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى:
جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمة:
__________
(1) . قوله «وقرئ: لمجمعون إلى ميقات» في الصحاح: أجمعت الشيء: جعلته جميعا. (ع)

(4/463)


نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضى عليها هيامها «1»
وقيل الهيم: الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك، جمع على فعل كسحاب وسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملؤوا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم. فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكان عطفا للشيء على نفسه؟ قلت: ليسنا بمتفقتين، من حيث إن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه: من تناهى الحرارة وقطع الأمعاء: أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء:
أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين. النزل: الرزق الذي يعد للنازل تكرما له. وفيه تهكم، كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وكقول أبى الشعر الضبي.
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والموهفات له نزلا «2»
وقرئ: نزلهم بالتخفيف.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61)
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)
__________
(1) .
وقد زودت مى على النأى قبلة ... علاقات حاجات طويل سقامها
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضى عليها هيامها
لذي الرمة، يقول: وقد زودتنا، أى جعلت زادنا مى عند الرحيل قبلة، فكانت القبلة علاقات الحاجات وأسباب التطلع إلى الوصال، فعلاقات: خبر مرفوع، أو بدل منصوب. والسقام ككلام، وسقم كتعب، وسقم كبخل:
مصدر سقم كتعب تعبا، أى: عناؤها طويل المدة لا يبرأ. ويقال للجمل: أهيم. وللناقة هيماء، إذا أصابهما الهيام بالضم: وهو داء تغلى منه قلوب الإبل كالعطش الشديد، أى: فأصبحت كالناقة الهيماء. وقوله «لا الماء مبرد» استئناف مبين لوجه الشبه فيها. أو حال منها، أى: لا يبرد الماء ظمأها ولا يقضى عليها، أى: لا يمينها هيامها، فأنا كذلك لا وصال فيشفينى، ولا التلهف يميتني. ويروى: ولا يقضى على هيامها، ولعل معناه: لا الماء يبرد الحرقة التي حصلت لي منها، ولا يميتني الهيام الذي حصل لي منها، ولكن الأولى أقعد وأجود معنى.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 458 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/464)


أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67)

فلولا تصدقون تحضيض على التصديق: إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدقين به، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذبون به. وإما بالبعث، لأن من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا ما تمنون ما تمنونه، أى: تقذفونه في الأرحام من النطف. وقرأ أبو السمال بفتح التاء، يقال: أمنى النطفة ومناها. قال الله تعالى من نطفة إذا تمنى. تخلقونه تقدرونه وتصورونه قدرنا بينكم الموت تقديرا وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط.
وقرئ: قدرنا بالتخفيف. سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، فمعنى قوله وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه، وأمثالكم جمع مثل: أى على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن ننشئكم
في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعنى: أنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم، وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم. ويجوز أن يكون أمثالكم
جمع مثل، أى: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها.
قرئ النشأة والنشاءة. وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 67]
أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67)
أفرأيتم ما تحرثون من الطعام، أى: تبذرون حبه وتعملون في أرضه أأنتم تزرعونه تنبتونه وتردونه نباتا، يرف وينمى «1» إلى أن يبلغ الغاية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت» «2» قال أبو هريرة: أرأيتم إلى «3» قوله:
__________
(1) . قوله «نبانا يرف وينمى» في الصحاح: رف لونه يرف- بالكسر- برق وتلألأ. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه. (ع)
(2) . أخرجه ابن حبان والبزار والطبراني من طريق مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة بهذا قال: ثم قرأ أبو هريرة أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه.
(3) . قوله «قال أبو هريرة: أرأيتم» أى استشهد على الحديث بالآية، وهي قوله تعالى أفرأيتم ما تحرثون وقوله «أرأيتم» خطاب لمن يسمع منه، وأراد معنى النظر، فعداء بإلى كقوله أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء. (ع)

(4/465)


أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70)

أفرأيتم ... الآية. والحطام: من حطم، كالفتات والجذاذ من فت وجذ: وهو ما صار هشيما وتحطم فظلتم وقرئ بالكسر. وفظللتم على الأصل تفكهون تعجبون. وعن الحسن رضى الله عنه: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم يذلك من أجلها. وقرئ: تفكنون. ومنه الحديث «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء «1» ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون» «2» أى:
يتندمون إنا لمغرمون لملزمون غرامة ما أنفقنا. ومهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام:
وهو الهلاك بل نحن قوم محرومون محارفون محدودون، لاحظ لنا ولا بخت لنا، ولو كنا مجدودين، لما جرى علينا هذا. وقرئ: أئنا.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70]
أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70)
الماء الذي تشربون يريد: الماء العذب الصالح للشرب. والمزن السحاب: الواحدة مزنة. وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء أجاجا ملحا زعاقا «3» لا يقدر على شربه. فإن قلت: لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما ونزعت منه هاهنا؟ قلت: إن «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضمونى جملتيها أن الثاني امتنع لامتناع الأول: افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به: لم يبال بإسقاطه عن اللفظ، استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه. وتساوى حالى حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس:
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طلبا «4»
__________
(1) . قوله «كمثل الحمة يأتيها البعداء» في الصحاح «الحمة» : العين الحارة يستشفى بها الأعلاء والمرضى. وفي الحديث: «العالم كالحمة» اه. (ع)
(2) . لم أجده
(3) . قوله «ملحا زعاقا» في الصحاح «الماء الزعاق» : الملح. وطعام مزعوق: إذا كثر ملحه. (ع)
(4) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة 288 فراجعه إن شئت اه مصححه.

(4/466)


أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74)

وحذفه «لم أر» فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال: إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم. ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت تحت قول أبى العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا «1»
وسقى بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 الى 74]
أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74)
تورون تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة، شبهوهما بالفحل والطروقة «2» شجرتها التي منها الزناد تذكرة تذكيرا لنار جهنم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أو عدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حر جهنم» «3» ومتاعا ومنفعة للمقوين للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من
__________
(1) . لأبى العلاء يمدح سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقى الضيوف الماء قبل ذكر الطعام.
والمخض- بمعجمتين-: اللبن المنزوع زبده، فهو بمعنى الممخوض. ويروى: محضا، بالحاء المهملة، أى: خالصا حلوا أو حامضا. والشبم- كحذر-: البارد. والزلال: العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول: إن معنى البيت: إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الاسراع بالطعام:
عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان، فيحتاجون لشرب الماء، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.
(2) . قوله «بالفحل والطروقة» أنثى الفحل، كما في الصحاح. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى هريرة.

(4/467)


فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79) تنزيل من رب العالمين (80)

أيام، أى لم آكل شيئا فسبح باسم ربك فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، أو أراد بالاسم:
الذكر، أى: بذكر ربك. والعظيم صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح وهو أن يقول: سبحان الله، إما تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه «1» وأياديه الظاهرة، وإما شكرا لله على النعم التي عدها ونبه عليها.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79)
تنزيل من رب العالمين (80)
فلا أقسم معناه فأقسم. ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله لئلا يعلم أهل الكتاب وقرأ الحسن: فلأقسم. ومعناه: فلأنا أقسم: اللام لام الابتداء «2» دخلت على جملة من مبتدإ وخبر، وهي: أنا أقسم، كقولك «لزيد منطلق» ثم حذف المبتدأ، ولا يصح أن نكون اللام لام القسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني: أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال بمواقع النجوم بمساقطها ومغاربها، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين، ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها، واستعظم ذلك بقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أو أراد بمواقعها: منازلها ومسايرها، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف.
وقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم اعتراض في اعتراض، لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم «3» عليه، وهو قوله إنه لقرآن كريم واعترض ب لو تعلمون بين الموصوف وصفته.
__________
(1) . قوله «في غمط آلائه» أى تحقير نعمه. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله لئلا يعلم أهل الكتاب قال: وقرأ الحسن فلأقسم» واللام في هذه للابتداء ... الخ» قلت: تلخيص الرد بهذا الوجه الثاني: أن سياق الآية يرشد إلى أن القسم بمواقع النجوم واقع، ويدل عليه القراءة الأخرى على زيادة لا: ومقتضى جعلها جوابا لقسم محذوف أن لا يكون القسم بمواقع النجوم واقعا، بل مستقبلا، فتتنافس القراءتان إذا، والله الموفق للصواب.
(3) . قال محمود: «قوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم: اعتراض في اعتراض فالجملة الكبرى اعتراض بين القسم والجواب ... الخ» قال أحمد: وعلى هذا التفسير يكون جواب القسم مناسبا للمقسم، مثل قوله حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا ومن واديه:
وثناياك إنها إغريض
كما تقدم.

(4/468)


أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87) فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96)

وقيل: مواقع النجوم: أوقات وقوع نجوم القرآن، أى: أوقات نزولها كريم حسن مرضى في جنسه من الكتب. أو نفاع جم المنافع. أو كريم على الله في كتاب مكنون مصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها: إن جعلت الجملة صفه لكتاب مكنون وهو اللوح. وإن جعلتها صفة للقرآن، فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس، يعنى مس المكتوب منه. ومن الناس من حمله على القراءة أيضا، وعن ابن عمر أحب إلى أن لا يقرأ إلا وهو طاهر، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» «1» أى لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه.
وقرئ: المتطهرون، والمطهرون بالإدغام. والمطهرون، من اطهره بمعنى طهره. والمطهرون بمعنى: يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحى الذي ينزلونه تنزيل صفة رابعة للقرآن، اى: منزل من رب العالمين. أو وصف بالمصدر، لأنه نزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل على حذف المبتدإ. وقرئ: تنزيلا، على: نزل تنزيلا،

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82]
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82)
أفبهذا الحديث يعنى القرآن أنتم مدهنون اى: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أى يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون على حذف المضاف، يعنى: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أى: وضعتم التكذيب موضع الشكر.
وقرأ على رضى الله عنه: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون. وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق: المطر، يعنى: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم. وقرئ: تكذبون وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: وهو من الأنواء، ولأن كل مكذب بالحق كاذب.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96]
فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87)
فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنة نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92)
فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96)
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم من طريق أبى هريرة بعضه.

(4/469)


ترتيب الآية: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. وفلو لا الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في ترجعونها للنفس وهي الروح، وفي أقرب إليه للمحتضر غير مدينين غير مربوبين، من دان السلطان الرعية إذا ساسهم. ونحن أقرب إليه منكم «1» يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا، أو بملائكة الموت. والمعنى: إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر وافتراء. وإن أرسل إليكم رسولا قلم: ساحر كذاب، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدى إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيى المميت المبدئ المعيد فأما إن كان المتوفى من المقربين من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة فروح فله استراحة. وروت عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فروح، «2» بالضم. وقرأ به الحسن وقال:
الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء، أى: فهذان له معا، وهو الخلود مع الرزق «3» والنعيم. والريحان: الرزق فسلام لك من أصحاب اليمين أى: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أى: يسلمون عليك، كقوله تعالى إلا قيلا سلاما سلاما.
فنزل من حميم كقوله تعالى هذا نزلهم يوم الدين وقرئ بالتخفيف وتصلية جحيم قرئت بالرفع والجر عطفا على نزل وحميم إن هذا الذي أنزل في هذه السورة لهو حق اليقين أى الحق الثابت من اليقين.
__________
(1) . قوله «ونحن أقرب إليه منكم» لم يظهر وجه لتأخير هذا عما قبله إلا بالنظر للترتيب الذي ذكره فليحرر. (ع)
(2) . أخرجه الترمذي والنسائي وإسحاق والحاكم من رواية بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة، زاد إسحاق «برفع الراء» .
(3) . قوله «وهو الخلود مع الرزق» لعله: وهما. (ع)

(4/470)


سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (2) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (3) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6)

عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم نصبه فاقة أبدا» «1»

سورة الحديد
مدنية، وهي تسع وعشرون آية [نزلت بعد الزلزلة] بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (2) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (3) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)
له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6)
__________
(1) . أخرجه ابن وهب في جامعه حدثني السرى بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبى ظبية عن عبد الله بن مسعود تابعه يزيد بن أبى حكيم وعباس بن الفضل البصري كلاهما عن السرى. أخرجه البيهقي في الشعب من طريقهما.
وكذا رواه أبو يعلى من رواية محمد بن حبيب عن السرى. ورواه البيهقي في الشعب من رواية حجاج بن منهال عن السرى فقال: عن شجاع عن ابن فاطمة عن ابن مسعود. وكذا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من رواية السرى فقال: عن أبى ظبية، فاختلف أصحاب السرى. هل شيخه شجاع أو أبو شجاع. وكذا اختلفوا في شيخ شجاع هل هو أبو فاطمة أو أبو ظبية. ثم اختلفوا في ضبط أبى ظبية فعند الدارقطني بالطاء المهملة بعدها تحتانية، ثم موحدة وإنه عيسى بن سليمان الجرجاني. وأن روايته عن ابن مسعود منقطعة. ويؤيده أن الثعلبي أخرجه من طريق أبى بكر العطاردي عن السرى عن شجاع عن أبى ظبية الجرجاني. وعند البيهقي أنه بالمعجمة بعدها موحدة، ثم تحتانية، وأنه مجهول. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. وشجاع لا أعرفه.

(4/471)


جاء في بعض الفواتح سبح على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وكل واحد منهما معناه: أن من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه، وذلك هجيراه وديدنه، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى وتسبحوه وأصله: التعدي بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، منقول من سبح إذا ذهب وبعد، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في: نصحته، ونصحت له. وإما أن يراد بسبح لله: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصا، ما في السماوات والأرض ما يتأتى منه التسبيح ويصح. فإن قلت: ما محل يحيي؟
قلت: يجوز أن لا يكون له محل، ويكون جملة برأسها، كقوله له ملك السماوات وأن يكون مرفوعا على: هو يحيى ويميت، ومنصوبا حالا من المجرور في له والجار عاملا فيها. ومعناه:
يحيى النطف والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء هو الأول هو القديم الذي كان قبل كل شيء والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء والظاهر بالأدلة الدالة عليه والباطن لكونه غير مدرك بالحواس. فإن قلت: فما معنى الواو؟ «1» قلت الواو الأولى معناها الدلالة «2» على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن: جامع للظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوز إدراكه «3» في الآخرة بالحاسة. وقيل: الظاهر العالي على كل شيء الغالب له، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه. والباطن الذي بطن كل شيء، أى علم باطنه، وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما معنى الواو وأجاب بأن المتوسطة بين الأول والآخر للجمع بين معنى الأولية والبقاء الخ. قال: ومعنى الطاهر أى بالأدلة والباطن أى عن الحواس. وقيل: وفيه دليل الرد على من زعم أنه تعالى يرى في الآخرة بالحاسة» قال أحمد: «لا دليل فيه على ذلك، فان لنا أن نقول: إن المراد عدم الإدراك بالحاسة في الدنيا لا في الآخرة. ونحن نقول به، أو في الآخرة. والمراد: الكفار والجاحدون للرؤية كالقدرية ألا ترى إلى قوله كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون فانه قيل: تقييد وتخصيص على خلاف الظاهر. قلنا والمسألة قطعية، فيكفى الاحتمال. وأيضا فقسيمه لا بد فيه من تخصيص، فانه تعالى لم يظهر جميع خلقه على الأدلة الموصلة إلى معرفته، بل أخفاها عن كثير منهم وحرمهم الفوز بالايمان به عز وجل، فالظاهر إذا معناها في التخصيص كالثاني طبقا بينه وبين الأول.
(2) . قوله «قلت الواو الأولى معناها الدلالة» الأولى إنما دلت على اجتماع الصفتين الأوليين، والثالثة على اجتماع الأقربين. والثانية على اجتماع المجموعين. (ع)
(3) . قوله «حجة على من جوز إدراكه» يريد أهل السنة، وهم قد جوزوا رؤيته مطلقا، وقالوا: لا تدركه الأبصار، أى لا تحيط به، والمعتزلة أحالوا رؤيته تعالى، وتفصيله في التوحيد. (ع)

(4/472)


آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم (9)

[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 8]
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8)
مستخلفين فيه يعنى أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها، وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة. وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه. أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم: بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم لا تؤمنون حال من معنى الفعل في مالكم، كما تقول: مالك قائما، بمعنى: ما تصنع قائما، أى: وما لكم كافرين بالله. والواو في والرسول يدعوكم واو الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ:
وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم والمعنى: وأى عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان: حيث ركب فيكم العقول، «1» ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر، وأزاح عللكم، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين لموجب ما، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه. وقرئ: أخذ ميثاقكم، «2» على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.

[سورة الحديد (57) : آية 9]
هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم (9)
ليخرجكم الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. أو ليخرجكم الرسول بدعوته
__________
(1) . قال محمود: «أخذ الميثاق عبارة عن تركيب العقول فيهم ... الخ» قال أحمد: وما عليه أن يحمل أخذ الميثاق على ما بينه الله في آية غير هذه، إذ يقول تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ولقد يريبني منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلا ووقوعها بالسمع قطعا إلى ما يتوهمه من تمثيل يسميه تخييلا، فالقاعدة التي تعتمد عليها كى لا يضرك ما يومئ إليه أن ما كل ما جوزه العقل وورد بوقوعه السمع وجب حمله على ظاهره والله الموفق.
(2) . قوله «وقرئ: أخذ ميثاقكم» يفيد أن القراءة على البناء للمفعول أشهر. (ع)

(4/473)


وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11)

لرؤف وقرئ لرؤوف «1» .

[سورة الحديد (57) : الآيات 10 الى 11]
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11)
وما لكم ألا تنفقوا في أن لا تنفقوا ولله ميراث السماوات والأرض يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعنى: وأى غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة أولئك الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:
«لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» «2» أعظم درجة. وقرئ:
قبل الفتح وكلا وكل واحد من الفريقين وعد الله الحسنى أى المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرئ بالرفع على: وكل وعده الله. وقيل: نزلت في أبى بكر رضى الله عنه، لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله. القرض الحسن: الإنفاق في سبيله. شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز، لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه فيضاعفه له أى يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا «أضعافا» من فضله وله أجر كريم يعنى: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقرئ: فيضعفه. وقرئا منصوبين على جواب «3» الاستفهام «والرفع عطف على يقرض، أو على فيضاعفه.
__________
(1) . قوله وقرئ «لرؤوف» يفيد أن القراءة بالقصر أشهر، وفيه نظر فلينظر. وفي الصحاح: رؤف به- بالضم، ورأف به- بالفتح، ورئف به- بالكسر، فهو رؤف على فعول. قال كعب بن مالك الأنصارى:
نطيع نبينا ونطيع ربا ... هو الرحمن كان بنا رءوفا
ورؤف أيضا على فعل. قال جرير:
يرى للمسلمين عليه حقا ... كفعل الوالد الرؤوف الرحيم
والظاهر أن رسمه بواو واحدة حال المد والقصر، فيكون الأشهر قراءة المد، كما هو الأشهر في الاستعمال اللغوي. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه. [.....]
(3) . قوله «وقرئا منصوبين على جواب» أى قوله: فيضاعفه، وقوله فيضعفه. (ع)

(4/474)


يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير (15)

[سورة الحديد (57) : آية 12]
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12)
يوم ترى ظرف لقوله: وله أجر كريم. أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيما لذلك اليوم. وإنما قال بين أيديهم وبأيمانهم لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون: سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدما. ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة. بشراكم اليوم. وقرئ: ذلك الفوز.

[سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15]
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير (15)
يوم يقول بدل من يوم ترى انظرونا انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف «1» بهم. وهؤلاء مشاة. وانظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا اليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. وقرئ: أنظرونا من النظرة وهي الإمهال: جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم نقتبس من نوركم نصب منه، وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا طرد لهم وتهكم بهم، أى: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا،
__________
(1) . قوله «تزف بهم» أى: تسرع. أفاده الصحاح. (ع)

(4/475)


ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (16)

فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم فضرب بينهم بسور بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل: هو الأعراف لذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه باطنه باطن السور أو الباب، وهو الشق الذي بلى الجنة وظاهره ما ظهر لأهل النار من قبله من عنده ومن جهته العذاب وهو الظلمة والنار. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما: فضرب بينهم على البناء للفاعل ألم نكن معكم يريدون موافقتهم في الظاهر فتنتم أنفسكم محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وغرتكم الأماني طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار حتى جاء أمر الله وهو الموت وغركم بالله الغرور وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. وقرئ: الغرور، بالضم فدية ما يفتدى به هي مولاكم قيل: هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد:
فندت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها «1»
وحقيقة مولاكم: محراكم ومقمنكم «2» . أى: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة للكرم، أى مكان، لقول القائل: إنه لكريم. ويجوز أن يراد: هي ناصركم، أى لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفى الناصر على البتات. ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع «3» . ومنه قوله تعالى يغاثوا بماء كالمهل وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

[سورة الحديد (57) : آية 16]
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (16)
__________
(1) .
وتوجست رز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
البيد من معلقته. يصف بقرة وحشية، توجست: أى تسمعت البقرة. والتوجس: التسمع. ويقال: رزت السماء رزا، بتقديم الراء إذا صوتت عند المطر فالرز بالفتح: التصويت الخفي، وبالكسر: اسم للصوت الخفي.
ورز: أى صوت الأنيس، وهم الصياد، فأفزعها بظهر الغيب. وإقحام الظهر في مثل هذا التركيب: مبالغة في الخفاء، لأن ما وراء الظهر لا يعلم ولا يدرى ما هو. وسمى الصياد أنيسا بالنسبة إلينا لا إليها، لأنه عناؤها وسبب خوفها، فجعله نفس السقام مبالغة. وكلا الفرحين: مبتدأ. وتحسب أنه مولى المخافة: خبر، أى أنه الأولى بالخوف من جهته. وخلفها وأمامها: خبر لمبتدإ محذوف، أو بدل من كلا الفرجين للتوضيح والتبيين، أى: لهما ما بين رجليها وما بين يديها، وبعضهم فسرهما بنقرنين في الجبل، وعليه فلا معنى للام العهد فيهما.
(2) . قوله «محراكم ومقمنكم» يقال: هو حرى أن يفعل كذا، وهو قمن أن يفعله، أى: جدير بذلك وحقيق به. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فاستنصر الجزع» لعله: الجزع، أى: نقيض الصبر. (ع)

(4/476)


اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون (17)

ألم يأن من أنى الأمر يأنى، إذا جاء إناه، أى. وقته. وقرئ: ألم يئن، من آن يئين بمعنى: أنى يأنى، وألما يأن، قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين «1» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضى الله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤن من القرآن أقل مما تقرءون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وعن أبى بكر رضى الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ: نزل ونزل. وأنزل ولا يكونوا عطف على تخشع، وقرئ بالتاء على الالتفات. ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت:
ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق: القرآن، لأنه جامع للأمرين: للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا أراد بالأمد: الأجل، كقوله:
...... إذا انتهى أمده «2»
وقرئ: الأمد، أى: الوقت الأطول وكثير منهم فاسقون خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين.

[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون (17)
__________
(1) . أخرجه مسلم بلفظ «وبين أن عاتبنا الله» ووهم الحاكم فاستدركه.
(2) . قوله «كقوله إذا انتهي أمده» البيت من أوله:
كل حى مستكمل مدة العمر ... ومود إذا انتهى أمده.... اه عليان
قلت: قد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 277 فراجعه إن شئت. اه مصححه.

(4/477)


إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (18) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (19) اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (20)

اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيى الغيث الأرض.

[سورة الحديد (57) : آية 18]
إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (18)
المصدقين المتصدقين. وقرئ على الأصل. والمصدقين من صدق، وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعنى المؤمنين. فإن قلت: علام عطف قوله وأقرضوا؟ قلت: على معنى الفعل في المصدقين، لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا. والقرض الحسن: أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ: يضعف، ويضاعف، بكسر العين، أى: يضاعف الله.

[سورة الحديد (57) : آية 19]
والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (19)
يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء: وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله لهم أجرهم ونورهم أى: مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوى بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله يعطى المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع أضعافه أجر أولئك.
ويجوز أن يكون والشهداء مبتدأ، ولهم أجرهم خيره.

[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (20)
أراد أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر.
وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي: العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل «1»
وأعجب به
__________
(1) . قوله «فاستوى واكتهل» في الصحاح: اكتهل النيات، أى: تم طوله وظهر نوره. (ع)

(4/478)


سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (24)

الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما عقوبة لهم على جحودهم، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. وقيل الكفار:
الزراع. وقرئ: مصفارا

[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21)
سابقوا سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض قال السدى: كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين، وذكر العرض دون الطول، لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة:
عرف أن طوله أبسط وأمد. ويجوز أن يراد بالعرض: البسطة، كقوله تعالى فذو دعاء عريض لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة: بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك: وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة ذلك الموعود من المغفرة والجنة فضل الله عطاؤه يؤتيه من يشاء وهم المؤمنون.

[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (24)
المصيبة في الأرض: نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس: نحو الأدواء والموت في كتاب في اللوح من قبل أن نبرأها يعنى الأنفس أو المصائب إن ذلك إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب على الله يسير وإن كان عسيرا على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال لكيلا تأسوا ... ولا تفرحوا يعنى أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده معقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله والله لا يحب كل مختال

(4/479)


لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)

فخور
لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس.
قرئ: بما آتاكم. وأتاكم، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود: بما أوتيتم. فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه- عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها- أن لا يحزن ولا يفرح.
قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغى الملهى عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر: فلا بأس بهما الذين يبخلون بدل من قوله كل مختال فخور كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد: الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم: يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته ومن يتول عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتى: فإن الله غنى عنه. وقرئ: بالبخل. وقرأ نافع: فإن الله الغنى، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك.

[سورة الحديد (57) : آية 25]
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)
لقد أرسلنا رسلنا يعنى الملائكة إلى الأنبياء بالبينات بالحجج والمعجزات وأنزلنا معهم الكتاب أى الوحى والميزان روى أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به وأنزلنا الحديد قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة «1»
، والإبرة. وروى: ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:
أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح «2»
. وعن الحسن وأنزلنا الحديد: خلقناه، كقوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه فيه بأس شديد وهو القتال به ومنافع للناس في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، فما من صناعة
__________
(1) . قوله «والميقعة والمطرقة ... الخ» في الصحاح «الميقعة» : المطرقة. والميقعة- أيضا-: المسن الطويل.
والمر: الحبل، والمسحاة كالمجرفة، إلا أنها من حديد. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر، وفي إسناده من لا أعرفه.

(4/480)


ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26) ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون (27)

إلا والحديد آلة فيها، أو ما يعمل بالحديد وليعلم الله من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب غائبا عنهم، قال ابن عباس رضى الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه إن الله قوي عزيز غنى بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.

[سورة الحديد (57) : آية 26]
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26)
والكتاب والوحى. وعن ابن عباس: الخط بالقلم، يقال: كتب كتابا وكتابة منهم فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم، أى: فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.

[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون (27)
قرأ الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء، لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ: رآفة، على: فعالة، أى: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحماء بينهم. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية: ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، «1»
وهو الخائف: فعلان من رهب، كخشيان من خشي. وقرئ: ورهبانية بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان: وهو جمع راهب كراكب وركبان، وانتصابها بفعل مضمر «2»
يفسره
__________
(1) . قال محمود: «الرهبانية: الفعلة المنسوبة للرهبان ... الخ» قال أحمد: وفيه إشكال، فان النسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول عندهم حتى يرد إلى مفرده، إلا أن يقال: إنه لما صار الرهبان طائفة مخصوصة صار هذا الاسم- وإن كان جمعا- كالعلم لهم، فلحق بأنصارى ومدائنى وأعرابى.
(2) . قال محمود: «وهي منصوبة بفعل مضمر ... الخ» قال أحمد: في إعراب هذه الآية تورط أبو على الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة، فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر، وعلل امتناع العطف فقال: ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله ابتدعوها لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم، والزمخشري ورد أيضا مورده الذميم، وأسلمه شيطانه الرجيم، فلما أجاز ما منعه أبو على من جعلها معطوفة: أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى التوفيق، فرارا مما فر منه أبو على: من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى، وجنوحا إلى الاشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه، وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه، فانه ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها القلب، فجعل قوله في قلوب الذين اتبعوه تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما: لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع، ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على مالا موقع له، ألهمنا الله الحجة وتهج بنا واضح المحجة، إنه ولى التوفيق وواهب التحقيق.

(4/481)


ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29)

الظاهر: تقديره. وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعنى: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ما كتبناها عليهم لم نفرضها نحن عليهم إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع، أى:
ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه فآتينا الذين آمنوا يريد: أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى وكثير منهم فاسقون الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، وابتدعوها: صفة لها في محل النصب، أى: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وقفناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، فما رعوها جميعا حق رعايتها، ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون. وهم الذين لم يرعوها.

[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28)
يا أيها الذين آمنوا يجوز أن يكون خطابا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا «1»
من غيرهم، فإن كان خطابا لمؤمنى أهل الكتاب. فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد يؤتكم الله كفلين أى نصيبين من رحمته لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله ويجعل لكم يوم القيامة نورا تمشون به وهو النور المذكور في قوله يسعى نورهم. ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي.

[سورة الحديد (57) : آية 29]
لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29)
__________
(1) . قوله «والذين آمنوا» لعله والذين آمنوا. (ع) ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسماء الله الحسني بتحقيق أبي نعيم الاصبهاني

طرق حديث الأسماء الحسنى أبو نعيم الأصبهاني وصف الكتاب ومنهجه : لقد رأى الحافظ العَلَمُ أبو نعيم أن حديث " إن لله تسعة...الحديث ...